..........................................
ببساطة ليس هناك شيء اسمه "
العدم" يا صديقي. هذا مجرد "
مفهوم" عقلي آخر. مجرد "
فكرة" لا توجد إلا بعقولنا فقط. أما في الحياة وفي خبرتنا نفسها فلا يوجد أبدا أيّ عدم! بل حتى منطقيا: إذا قلنا إن "
العدم موجود" فليس أكثر تناقضا من هذه العبارة نفسها!
«
الله يخلق من العدم» تعبير نقوله تجاوزا، بالأساس كي ننفي وجود "
مادة أزلية أولى" للخلق كما ذهبت بعض الديانات والفلسفات القديمة.
من أين أتى هذا العالم، وكيف أتى؟ هذا السؤال حيّر الإنسان طويلا. الصعوبة هنا لا تكمن في اكتشاف أن إلها ما خلق العالم، هذا بالعكس هو الجزء السهل. الصعوبة بالأحرى هي كيف يخلق هذا الإله ـ
الكامل المطلق القدوس المتسامي ـ عالما هو على العكس من ذلك تماما:
مادي نسبي محدود زائل يعتريه الفساد وتملأه الشرور؟! من هنا ظهرت بالتالي كل البدائل، بما في ذلك وجود مادة أزلية أولى مع الله، هي التي منها جاء هذا الخلق المادي المنظور!
ولكن نعود على أي حال لسؤالك حتى نشير أيضا كيف جانبت الصواب مرة أخرى (بعد افتراضك أن العدم ـ وهو مجرد مفهوم عقلي ـ موجود فعليا). وهنا نسأل:
هل يمكن أن يوجد ـ من حيث المبدأ ـ أشخاص ما بعلم الله لم يخلقهم بعد، ولن يخلقهم أبدا؟
هذا السؤال ينطوي كذلك على افتراض خاطئ، وهو أن الله يخلق
في الزمن، بينما الله فوق الزمن، بل خارج الزمن كليا. نحن داخل الزمن ومن ثم "
نستقبل" ما خلق الله زمنيا. نقول بالتالي إنه خلق هتلر مثلا
قبل الأم تريزا، أو خلق غاندي
بعد مارتن لوثر. أما الله ـ لأنه خارج الزمن ـ فليس لديه "قبل" أو "بعد"! الله "
هنا والآن" فقط، ودائما! بالأحرى يخلق الله كل شيء ـ كما قال القديس
أوغسطين ـ في
لحظة واحدة! بل أكثر من ذلك: الله يخلق كل شيء ويُبيد أيضا كل شيء في لحظة واحدة،
نفس اللحظة الواحدة! نحن بالطبع لا نستطيع فهم ذلك أبدا بعقولنا، لأن العقل لا يعمل إلا عبر إطار الزمن.
(لكن المثال الذي قد يقرّب الأمر قليلا لفهمنا هو مثال المسافر في قطار: يرى عبر نافذته الأشجار مثلا تتوالى وراء بعضها. أما لو أنه خرج من القطار وارتفع عاليا بما يكفي فسوف يرى الأشجار كلها قائمة في نفس اللحظة الواحدة. فنافذة القطار هي العقل، والأشجار هي الحوادث التي تحدث كأنها وراء بعضها، بينما كلها في الحقيقة قائم حادث الآن بالفعل).
من ثم بالنسبة لله: كل ما فكر فيه أو تخيّله سبحانه، إذا جاز التعبير، أو كل ما
عرفه بتعبير أدق،
بمجرد أن عرفه: ظهر فوريا إلى الوجود! هذا هو معنى "الخلق" من العدم! خلق الله الشيء أي
عرفه، وحيث أن المعرفة تكون عبر العقل الإلهي فمن هنا يُنسب الخلق دائما إلى
اللوجوس، أو اللوغوس كما ينطقها أخوتنا العرب! خلق الله العالم
بكلمته، أي
عرفه بعقله الإلهي! (لذلك مثلا حين
عرف السيد المسيح أن "
لعازر نام": على الفور صار لعازر في هذه اللحظة
نائما، لا ميتا! فلما لم يفهم التلاميذ ما فعل العقل الإلهي للتوّ قال لهم حسب عقولهم البشرية: "لعازر مات")!
(بالمثل عندما "لعن التينة" المسكينة، التي يبكي المسلمون حتى اليوم عليها ويعايروننا بها!
هو لم "يلعنها" حقا أيها البلهاء كأنما انتقاما منها، حاشا! بل هي موجودة أصلا لأنه عرفها، من ثم أعاد فقط تعريفها، صحّح أو غيّر فقط معرفته هو نفسه لها ـ بحيث يتفق مظهرها مع جوهرها ـ هذا كل ما بالأمر)!
لنتذكر أيضا في هذا السياق أننا نوجد
بالله أصلا! يقول لسان العطر:
«يطلبون الله ... مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيدا، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد»!
وعليه ـ ختاما ـ ليس هناك حقا أي إنسان
في علم الله فقط ولم يُخلق بعد، بل
معرفة الله نفسها لأي إنسان هي خلقه، هي
وجوده نفسه، وإن "ظهر" هذا الإنسان بالنسبة لحواسنا وعقولنا فقط في نقطة معينة داخل الزمان والمكان!
عذرا للإطالة مع تحياتي ومحبتي.