تفسير سفر أيوب - الأصحاح 11 | تفسير تادرس يعقوب


العدد 1- 4:
1. اتهام أيوب بالكبرياء والكذب

فَأَجَابَ صُوفَرُ النَّعْمَاتيُّ: [1]

أَكَثْرَةُ الْكَلاَمِ لاَ يُجَاوَبُ،

أَمْ رَجُلٌ مِهْذَارٌ يَتَبَرَّرُ؟ [2]

بدأ أليفاز بمقدمة في وقار شديد (أي 4: 2)، أما بلدد فكان في حديثه أكثر خشونة مع أيوب (أي 8: 2). وجاء صوفر ينقَّض عليه بغير رأفة، موجهًا إليه عبارات قاسية جدًا.

لم يكن ممكنًا لصوفر أن يقبل منطق أيوب أن الله هو الذي سمح له بالتجارب بالرغم من كونه بارًا (4:11،21:9، 7:10).، فإن هذا يناقض كل فلسفة دينية سواء في عصره أو سابقه لعصره. بدا أيوب كمن هو مناقض لكل الفلاسفة وأصحاب المعرفة الدينية.

بدأ بقوله: "أكثرة الكلام لا يجاوب، أم رجل مهذار يتبرر؟" ظن صوفر في أيوب إنسانًا ثرثارًا، ورجل كلام بلا عمل، لا يستحق أن يُرد عليه، ومهذارًا لا يحمل جدية، ليس في حديثه روية، أو اتزان ليجاوب عليه.

سبق بلدد فقال لأيوب: "وتكون أقوال فيك ريحًا شديدة" (8: 2)، وجاءت في الترجمة السبعينية: "نسمات فمك تفيض في كلمات". هنا يتهمه صوفر النعماتي بالثرثرة.

حقًا لقد قدم صوفر آراء سديدة وحكيمة، لكنه اتهم أيوب ظلمًا، لأنه لم يشاركه مشاعره كإنسانٍ متألم للغاية، ولم يدقق في كلمات أيوب وظروفه. اتهم أيوب بالثرثرة وكثرة الكلام الباطل بغية تبرير نفسه. مع أن ما نطق به لا يُحسب ثرثرة بالنسبة لما حلّ به. وفي حديثه لم يبرر نفسه بل اعترف أنه خاطي (9: 20).

هنا يدعو صوفر أيوب أن يكون حكيمًا، بأن يجلس عند أقدام الشيوخ، وينصت صامتا، لا أن يكون كثير الكلام. يقول القديس يعقوب : "ليكن كل إنسانٍ مسرعًا في الاستماع، مبطئا في التكلم" ( يع 1: 19). ولعله يقصد بالشيوخ أصحابه الثلاثة. بمعني آخر يرى صوفر أن من حقه ومن حق زميليه ان يقدما عظات ونصائح ومشورات لأيوب، وما على أيوب سوى أن يجلس عند أقدامهم يتعلم منهم في صمتٍ!

v لم يقدم صوفر رأيًا خاطئًا بقوله: "رجل كثير الكلام لن يقدر أن يتبرر. مادام الإنسان يترك نفسه يتكلم مسترسلاً، تهرب منه رزانة الصمت، ويفقد حفظ نفسه في أمان. لهذا كتب: "عمل العدل سكونًا" (إش 32: 17). هكذا يقول سليمان: "مدينة متهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه في الكلام" (أم 25: 28 Vulgate). كما يقول أيضًا: "كثرة الكلام لا تخلو من معصية" (أم 10: 19). ويحمل المرتل شهادة بذلك، قائلاً: "رجل كثير الكلام لا يثبت علي الأرض" (مز 140: 11)، بل وتُفقد قيمة العبارة الصادقة عندما تُقال دون تمييز...

العبارة الصادقة هي ضد الأشرار، إن كانت تهدف إلى نفع الصالحين... أما الأشرار فلا يقدرون أن يسمعوا الكلمات الصالحة بصبرٍ، متجاهلين إصلاح حياتهم، فيلصقون أنفسهم بكلمات للرد على الغير.

v من يتذكر كلمات الطوباوي أيوب يعرف مدى بطلان هذا الاتهام... إذ كيف يدعو نفسه زكيًا (طاهرًا) من قال: إن تبررت يحكم علي فمي" (9: 20).

البابا غريغوريوس (الكبير)

حقًا لقد حثّ الكتاب المقدس على الصمت ما أمكن إن كان مقدسًا، كما حثّ على الكلام البنّاء. طلب المرتل حراسة إلهية مشددة لفمه، قائلاً: "اجعل يا رب حارسًا لفمي، احفظ باب شفتي" (مز 141: 3).

v يعلم الروح القدس الإنسان أن يحفظ جسده كله - من الرأس إلى القدمين - في تناسق:

فيحفظ العينين لتنظرا بنقاوة...

ويحفظ اللسان لينطق بالصلاح فقط، معطيًا وزنًا لكل كلمة، فلا يسمح لشيء دنس أو شهواني أن يختلط بحديثه[1].

v اهربوا من أولئك الذين يحملون اسم "رهبان وبتوليين" دون أن يكون لهم الإدراك الحقيقي والتمييز الحسن. لأنكم إن اختلطتم بهم، لن يدعوكم تتقدمون، بل وربما يطفئون حرارة غيرتكم، إذ لا حرارة لهم، بل برودة، وهم يسيرون وراء أهوائهم. فإن أتوا إليكم وتحدثوا معكم في أمورٍ أرضيةٍ حسب أهوائهم الخاصة، لا تستكينوا لهذا، إذ كتب الرسول بولس: "لا تطفئوا الروح، لا تحتقروا النبوات" (1 تس 2.:5)، عالمين أنه لا شيء يطفئ الروح أكثر من الكلام الباطل[2].

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

v إن الصمت من أجل الله جيد، كما أن الكلام من أجل الله جيد.

الأب بيمين

v عندما يكون لسانك كلِسان المسيح، ويصير فمك فم الآب، وتكون هيكلاً للروح القدس، عندئذ أيّة كرامة تكون هذه؟! فإنه وإن كان فمك مصنوعًا من الذهب ومن الحجارة الكريمة فإنه لن يضيء هكذا كما بحُليّ الوداعة. أيّ شيء أكثر حبًا من الفم الذي لا يعرف أن يشتم، بل هو معتاد أن يبارِك وينطق بالكلمات الصالحة[3].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

v كثيرًا ما تكلمت وندمت، وأما عن الصمت فما ندمت قط[4].

القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك

v يصمت البار، إذ يُعلّم أن للسكوت وقت، وللكلام وقت (جا 3: 7)، لكنّه لا يصير أبكم. إنّما هذه سِمة خاصة بالصدّوقيّين، وكل من يُعلّم بالباطل، إذ هم يبكمون ولا يصمتون. فإنهم وإن كانوا بُكمًا عن الحق، لكنهم غير صامتين، هكذا قال الرب للبحر وليس للإنسان أن يبكم، منتهرًا إيّاه إذ كان عاصفًا[5].

العلاّمة أوريجينوس

أَصَلَفُكَ يُفْحِمُ النَّاسَ،

أَمْ تَلْغُو، وَلَيْسَ مَنْ يُخْزِيكَ؟ [3]

دعاه مستهزئًا، يهزأ بالله حيث يشتكي عليه، ويسخر بالناس، إذ لا يخجل من أن يخدع من هو حوله. كما دعاه متهكمًا، هكذا استخدم صوفر ألفاظًا قاسية، ووصفه بصفات غير لائقة.

يرى البعض في كلمات صوفر هنا اتهامًا غير مباشرٍ لأليفاز وبلدد، فكان يليق بهما أن يبكماه، ولا يتركاه يثرثر بكلامٍ عنيفٍ وخاطئٍ وبلا معنى.

في رأيه قد تصَّلف أيوب في تشامخ وبأكاذيب باطلة، ولم يستطع صديقاه أن يفحماه، بل صمتا عن الدفاع عن الحقٍ.

يتهمه بأنه "يلغو" أي "يسخر" أو "يتهكم"، بتقديمه اللوم لله خلال شكواه.

إِذْ تَقُولُ: تَعْلِيمِي زَكِيٌّ،

وَأَنَا بَارٌّ فِي عَيْنَيْكَ [4].

اتهم أيوب بكلمات لم يتفوه بها. اتهمه بالقول إن تعليمه زكي، وهو لم يقل هذا.

اتسم أيوب بسلامة الإيمان. حقًا أحيانًا اندفع مشتهيًا الموت بسبب ثقل التجربة، لكنه لم يفكر في الانتحار.

وعاتب الله، لكنه لم ينكر عدالة الله ومراحمه.

وأعلن أنه ليس شريرًا ولا مرائيًا لكنه لم ينكر أنه خاطئ وينتظر المغفرة.

تعليم أيوب عن الله أفضل بكثير من أصدقائه.

لقد أساء هؤلاء الأصدقاء، خاصة صوفر، كلمات أيوب، وأعطوها معانٍ غير ما في ذهنه، ولم يراعوا ظروفه، وأنهم لو وضعوا في مكانه ربما أخطأوا في حق الله.
العدد 5- 6:
2. عدل الله لن يخطئ

وَلَكِنْ يَا لَيْتَ اللهَ يَتَكَلَّمُ،

وَيَفْتَحُ شَفَتَيْهِ مَعَكَ [5].

يستشهد صوفر بالله نفسه، أنه وإن صمت ولم يجاوب أيوب، لكن إلى حين، فإن تكلم وفتح شفتيه لاكتشف أيوب أنه يستحق أكثر بكثير مما حلّ به.

ما أصعب أن نضع أنفسنا كما على العرش الإلهي وندَّعي أننا نعلم ما في فكره، ونحكم على الآخرين ناسبين الحكم لله.

لقد تحققت أمنية صوفر، وتكلم الله مع أيوب، فتح شفتيه مدافعًا عنه، مطالبًا أصدقائه بالاعتذار له، وأن يطلبوا صلواته عنهم فيسامحهم.

حقًا شتان ما بين أن يفتح الإنسان فمه ليحكم على إخوته ويدينهم تحت ستار الدفاع عن الحق والشهادة لله القدوس، وبين ان يفتح الله فمه ويتحدث مع الإنسان. يتكلم الله بالحق، لكنه الحق المملوء حبًا وحكمة عملية، في صراحة عاتب سمعان بطرس، بل ودعاه "شيطانًا" حين اعترض على صلب السيد المسيح وموته، لكنه كان يسنده ، كما مدحه عندما اعترف أان يسوع هو المسيح ابن الله.

يفتح الإنسان الخاطئ الضعيف فمه ليعكس ضعفه وأخطاءه على الغير، أما لله فيفتح فمه لكي يهب الخاطئ قوة للاعتراف وإمكانية للتوبة، وقدرة على التقديس الدائم والنمو الروحي المستمر بعمل روح الله القدوس.

v يقول الحق لبطرس الذي كان لا يزال مملوءً بالمفاهيم الأرضية: "لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مر 8: 33)، ومع هذا عندما اعترف حسنًا قيل له: "إن لحمًا ودمًا لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السماوات" (مت 16: 17). هكذا يفتح الله شفتيه عندما يعلن إرادته للبشر بافتقادٍ صريحٍ.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v لما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاء بسبب خطايانا، وجب علينا أن نتنحى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟!

إذن يجب علينا ألا يدين أحد أخاه، فإن حدثتك نفسك بمحاكمة الآخرين فاعلم أن الناموس لم يقمك قاضيًا ومحاكِمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حرمته...

إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنا في وظيفة المرشد والمعلم[6].

القديس كيرلس الكبير

v سيحكم الله في وقته المناسب. فإن القاضي يُهان متى ادعى خادم ونطق بحكم قبل معرفة قرار الحكم الذي للقاضي[7].

v ابسط رداءك على المذنب واستره، إن كنت لا تقدر أن تحتمل وتضع أوزاره على نفسك.

مار إسحق السرياني

وَيُعْلِنُ لَكَ خَفِيَّاتِ الْحِكْمَةِ!

إِنَّهَا مُضَاعَفَةُ الْفَهْمِ،

فَتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُغَرِّمُكَ بِأَقَلَّ مِنْ إِثْمِكَ [6].

يرى صوفر أنه كان يليق بأيوب أن يلتزم الصمت عوض اتهام الله بالظلم لأنه يجربه وهو بار. وقد أكد له صوفر ان ما حلٌ به هو عقوبة أقل مما يستحقه إثمه. فيليق به أن ينتظر المزيد من النكبات.

إذ كان صوفر يشعر بعجزه عن إقناع أيوب اشتهي أن يُظهر الله لأيوب خفيات حكمته الإلهية ويعطيه فهمًا مضاعفًا، فيعلم أن التأديب الذي حلّ به أقل مما يجب.

يميز البابا غريغوريوس (الكبير) بين معرفة أعمال الحكمة الإلهية العظيمة وبين أعمال الحكمة الإلهية الخفية العظيمة. فمن السهل أن يتمتع الإنسان بمعرفة حكمة الله العظمي خلال الطبيعة التي خلقها لأجل الإنسان، وعطاياه الفائقة اليومية. أما معرفة حكمته الخفية العظيمة فيصعب إدراكها حيث يبدو الله كأنه تخلى عن الإنسان، فيسمح له بالضيق أو التجربة. يحتاج الإنسان إلى نعمة إلهية ليدرك ما وراء الألم من حكمة إلهية خفية، فإذا ما نال الإنسان هذه المعرفة تحسب معرفة مضاعفة، حيث يدرك حكمة الله عندما يعطي وأيضا عندما يأخذ؛ عندما يقدم للإنسان ما يشتهيه وأيضًا عندما لا يقدم له طلبته.

v "ويعلن لك خفيات الحكمة، وأن ناموسها مضاعف" (أي 11: 6).

أعمال الحكمة العظمي هي أنه عندما يحكم الله القدير الذين خلقهم يأتي بهم إلى نهاية الصالحات التي بدأ بها، ويعين بإلهاماته هؤلاء الذين ينيرهم بنور افتقاده، فمن الواضح لأعين كل البشر أن الذين خلقهم بسخائه المطلق يسندهم برأفاته. وعندما يمنحهم هبات روحية هو بنفسه يدخل بهم إلى الكمال، هؤلاء الذين بدأ معهم في سخائه بالرأفات.

أما أعمال الحكمة العظمي السرية فهي عندما (يبدو كأنه) يتخلى عن من خلقهم، عندما لا يكمل الأعمال الصالحة التي بدأ بها معنا بسبب الخطية، عندما ينيرنا ببهاء نعمته المنيرة، ومع هذا يسمح بتجربة الجسد أن تضربنا بضباب العمى. عندما لا يهتم إن يحفظ لنا العطايا الصالحة التي وهبنا إياها، فيسمو بأشواق نفوسنا نحوه، ومع هذا يضغط علينا بطريقة خفية خلال عجز ضعف طبيعتنا.

كان بولس قلقًا كي يبلغ أسرار هذه الحكمة عندما قال: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء، لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرا؟" (رو 11: 33)... إذ كان بولس عاجزًا عن بلوغ أسرار الله عاد إلى معرفة ضعفه.

كان صوفر متعلمًا بالسعي وراء المعرفة، لكنه كان جاهلاً بسبب وقاحة حديثه المتعجرف، غير مدرك لحقيقة نفسه، ناظرًا إلى حاله الضعيف كشخصٍ فاضلٍ.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يقول صوفر أنه حيث يعلن الله للإنسان حكمته الخفية، يهبه فهمًا مضاعفًا. هذه حقيقة يتمتع بها المؤمن الصادق والأمين. إنه لا يكف عن أن يطلب من الله أن يهبه حكمة لإدراك خطة الله، فينال فهمًا مضاعفًا.

ماذا يعني بالفهم المضاعف؟

أولاً: يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن إدراك حكمة الله الخفية، ليس إدراكًا نظريًا عقلانيًا بحتًا، لكنه معرفة الخبرة والحياة، حيث ترتبط الحكمة بالحب، فالحكيم ينال فهمًا مضاعفًا، حيث يمارس حبًا مضاعفًا، ألا وهو حب الله وحب القريب. ينال حبًا مضاعفًا نحو الله وبلا حدود؛ وينال حبًا مضاعفًا نحو إخوته، فيود بكل كيانه أن يقدم إخوته عنه في كل شيءٍ، ويشتهي أن يتعامل معهم كما يريد أن يعاملونه به.

ناموس المحبة ناموس مضاعف، حيث نلتزم بالحب لله أو للقريب.

هذا ومن جهة محبتنا لله ينبغي أن يكون حبًا مضاعفًا، حيث نحبه بكل القلب وكل النفس وكل القدرة، فلا نترك لأنفسنا شيئًا لا نقدمه لله.

ومن جهة حبنا للقريب فهي مضاعفة، حيث نُطالب من جانب ألا نستخف بقريبنا خلال الطمع أو الإهانة باللسان أو الاستهانة بأجساد الغير خلال أنانية الشهوات الجسدية؛ ومن الجانب الآخر أن نسلك مع الغير حسبما نود الغير أن يفعل بنا.

v "وناموسها مضاعف" " (أي 11: 6). بماذا يُفهم "ناموس الله" سوى الحب؟ به نقرأ بطريقة باطنية كيف يجب مساندة وصايا الحياة بأعمال خارجية. يقول صوت الحق عن هذا الناموس: "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا" (يو 15: 12). يقول عنها بولس: "المحبة هي تكميل الناموس" (رو 13: 10). وأيضًا: "احملوا بعضكم أثقال بعض" (غل 6: 2). فإنه بماذا يمكن أن يفهم ناموس المسيح أكثر من المحبة، التي بالحق نتممها حينما نحمل أثقال إخوتنا على أساس المحبة؟

هذا الناموس عينه يدعي "مضاعفًا"، حيث أن المحبة، المملوءة بالعناية الفائقة بغيرة، تمتد إلى كل أعمال الفضيلة. لقد وُضعت بوصيتين فقط لكنها تبلغ إلى عددٍ لا يُحصي. فإن بدء الناموس هو محبة الله ومحبة قريبنا (مت 22: 39- 40)...

لكن "محبة الله" تنقسم إلى ثلاثة أقسام. فإننا نُوصى بحب خالقنا "بكل قلبنا وكل نفسنا وكل قدرتنا". وفي هذا يلزمنا أن نلاحظ أن الكلمة المقدسة توصي بالالتزام بمحبة الله. فهي لا تخبرنا فقط كيف، وإنما تعلمنا إلي أي مدى حيث تضيف "من كل". فمن يرغب أن يسر الله بالكمال يليق به ألا يترك في نفسه شيئًا لنفسه.

ومحبة قريبنا جاءت في وصيتين. فمن جانب قيل بواسطة رجلٍ بارٍ: "افعلوا هذا أن لا يكون لك إنسان تبغضه" (طوبيت 4: 15). ومن الجانب الآخر يقول الحق: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم" (مت 7: 12). بهاتين الوصيتين أُحجم التصرف الشرير ووُضع علينا التصرف الحسن.

v لذلك ناموس الله بحق يدعي "مضاعفا"، فبينما هو ذو مبدأ المحبة، ما أن يستولي على العقل حتى يلهبه بطرق مضاعفة بأعمالٍ لا حصر لها... يعلن بولس عن مضاعفة هذا الناموس عبنه بطريقة لائقة، معددًا الآتي: "المحبة تتأنى وتترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ، ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق" (1 كو 13: 4-6).

البابا غريغوريوس (الكبير)

ثانيًا: الفهم المضاعف يعني المزيد المستمر غير المنقطع. مادمنا في الجسد لن نتوقف عن طلب النمو في الحكمة والمعرفة والحب. بل ويرى بعض الآباء أن هذا النمو لا يتوقف حتى في الحياة الأبدية. فكلما تطلع المؤمن إلى الله، ونال اتحادًا أعمق، ينمو بلا توقف في الحكمة والمعرفة والحب. إنه لن يكف عن أن يتغنى على الدوام: "هوذا الكل قد صار جديدًا" ( (رؤ 21: )

v مع أن كل واحد يطلب المزيد من المعرفة على الدوام، فإنها تبقى المعرفة ناقصة في كل الأمور بالنسبة لكمالها الحقيقي حتى يحل الزمن ليأتي ما هو كامل ويزول ما هو جزئي[8].

القديس باسيليوس الكبير
v إنه يشجعها ويحثّها ألا تجلس خاملة هناك، بل تخرج إليه خارجًا، وتحاول أن تراه لا من الشبابيك، ولا من مرآة في لغز، بل تذهب إليه وتراه وجهًا لوجه (نش 2: 9). لأنه الآن إذ هي لا تستطيع أن تراه يقف هكذا خلفها وليس أمامها، يقف وراء ظهرها، وخلف الحائط (نش 2: 9)[9].

العلامة أوريجينوس

لم يعرف صوفر حدوده، فإن كان ما يحث به أيوب هو طلب معرفة مضاعفة، وهذه طلبة مقدسة، ومشورة حسنة، لكن في عدم التزامه بالحدود أعلن في غباوة أن ما حلّ بأيوب أقل مما يستحقه. وكأنه يليق بأيوب أن يتوقع المزيد من الضربات.

هنا يشبه البابا غريغوريوس (الكبير) صوفر بالصديق الذي يرافق صديقه ويذهب معه إلى الوعر ليساعده في قطع أخشاب، وإذا به في عدم حكمة يضرب بالفأس، فيطير رأس الفأس، ويحطم رأس صاحبه. عوض أن يساعده في قطع الأخشاب، بغباوة قطع رأسه!

يليق بنا في حكمة أن ندرك ما هي حدود التوبيخ والانتهار، وما هي حدود التأديب، حتى لا نحطم إخوتنا. وكما يقول الرسول بولس عن تأديب الشاب الذي أراد أن يلتصق بامرأة أبيه فأمر بعزله، عاد ليقول: "حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحري وتعزونه، لئلا يُبتلع مثل هذا من الحزن المفرط، لذلك أطلب أن تُمكّنوا له المحبة" (2 كو 2: 7-8). فقد نال ما فيه الكفاية وبلغ التأديب غايته، وصار الأمر في غاية الخطورة، فإن لم يجد التائب أحضان الكنيسة الحانية يستعبده اليأس وتهلك نفسه. كما كانوا ملزمين بتأديبه بالعزل، الآن ملزمون بتمكين المحبة له وتجديدها لكي تتهلل نفسه بالخلاص.

v "فتعلم أن الله يغرمك بأقل من إثمك" [6]... هنا يليق بنا أن نعرف أن صوفر وبخ الرجل البار بإثم عظيم حث اتهمه بطريقة خاطئة... لكن كلمة الإهانة المقدمة يمكن إزالتها إن راعينا الجذر الذي منه نبتت. لذلك بحق أمر الرب خلال موسى: "من ذهب مع صاحبه في الوعر ليحتطب حطبًا، فاندفعت يده بالفأس ليقطع الحطب، وأفلت الحديد من الخشب، وأصاب صاحبه فمات، فهو يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا، لئلا يسعى ولي الدم وراء القاتل حين يحمي قلبه ويدركه إذا طال الطريق ويقتله" (تث 19: 5-6). فإننا نذهب مع صاحبٍ إلى الوعر حين نذهب مع قريب لنرى آثامنا، ونحن نحتطب عندما نقطع الأفعال الشريرة من الآثمة بهدف تقوي، لكن الفأس يطير من يدنا عندما يكون الإصلاح صعبًا للغاية، فيضرب قريبه ويموت، فيكون من قدم توبيخًا قد قتل سامعه من روح الحب. لأن ذهن الشخص المُوبخ يندفع للفور إلى كراهية إن كان يدينه دون مراعاة للحدود.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v يجب أن يسبق التوبيخ الرحمة لا الغضب.

القدِّيس أغسطينوس XE "القديس أغسطينوس"

v لا يليق بالأطباء أن يسخطوا على المرضى، بل يجب عليهم أن يضادوا الأمراض ليشفوا المرضى.

القدِّيس باسيليوس الكبير XE "القديس باسيليوس الكبير"

v ارعَ الماشية لا بضجرٍ ولا بهزءٍ، كأن لك سلطان عليهم، بل كراعٍ صالحٍ تجمع الخراف إلى حضنك، وتقوِّي الحبالى.

الدسقوليَّة XE "الدسقولية" – باب ٤
العدد 7- 9:
3. كمال الله لا يُفحص

أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ،

أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ [7]

يصور صوفر عظمة الله ومجده كما يصور حماقة الإنسان وجهله، لهذا يلزم الخضوع له وطلب رحمته وعنايته. لا يمكن لإنسان اكتشاف حكمته فكيف يخَّطئه؟

من يقدر أن يبلغ إلى أعماق الله، ومن يعرف نهايته؟ مهما اشتقت إليه، مهما التصقت وتعرفت على شخصه، تبقى معرفتك له ناقصة تمامًا. لا تتخيل أنك تنجح في البحث عن جوهره، وإدراك كمال حقيقته. ندرك حقيقة وجوده، لكن لا نبلغ إلى إدراك أسراره. كالعين التي ترى المحيط، لكنها لا تبلغ نهايته.

ترجم القديس كيرلس الأورشليمي الكلمة المقابلة "لنهاية" بـ "أقل": "أإلي أثار الله تجد، أم إلى أقل ما صنعه القدير تنتهي؟" ويعلق على ذلك: [إن كانت أقل أعمال الله غير مدركة، فهل يكون خالق هذه كلها مدركًا؟![10]]

v "هل تجد أثرًا للرب؟ أو هل تبلغ نهاية ما يفعله القدير؟" بمعنى إن كنت كما سبق فقلت أنك لا تقدر أن تجد أثرًا لسفينة (على البحر)، ولا لطير نسر (في الهواء)، فمن يجد أثرًا لتدبيرات الله، أو من يقدر أن يفهم إيماءات عنايته الإلهية التي يصنعها بالتتابع؟

v حسن أن يقول هذا عن الله، لكنه لم يقله صوفر بنية نقية، لكن وهو يمجد الله ينطق بالشر على البار.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v لم يكتشف بعد أحد أو سيكتشف ما هو الله في طبيعته وجوهره. فالاكتشاف يحدث في المستقبل. ليت هؤلاء الذين لهم فكر في هذا أن يبحثوا ويفكروا فيما سيتم في المستقبل.

يخبرني عقلي الذي على شكل الله عندما يمتزج ذاك الإلهي، أقصد الذهن والعقل، بما هو شبيه به؛ عندما تعود الصورة إلى أصلها الذي تشتاق إليه. هذا يبدو لي هو معنى هذه العبارة العظيمة أننا في الزمان المقبل سنعرف كما عُرفنا[11].

القديس غريغوريوس النزينزي

v مع أن كل واحد يطلب المزيد من المعرفة على الدوام، فإنها تبقى المعرفة ناقصة في كل الأمور بالنسبة لكمالها الحقيقي حتى يحل الزمن ليأتي ما هو كامل ويزول ما هو جزئي[12].

القديس باسيليوس الكبير

من يستطيع أن يدرك عمق أسرار الله وخطته، أو يتفهم أعماله، أو من يقدر أن يقتفي إثر خطواته؟ هكذا يبقى الإنسان يتمتع بالمعرفة المستمرة، وكلما تقدم يدرك بالأكثر عجزه عن إدراك أعماق سرّ الله.

يقدم لنا الآباء خلال الفكر الإنجيلي الطريق للدخول إلى سرّ معرفة الله، ألا وهو الحب. كلما التهبت قلوبنا بحبه عمليًا اغتسلت بصيرتنا الداخلية للتعرف على أعماق جديدة. وكلما دخلنا إلى أعماقٍ جديدةٍ في معرفة الله يزداد لهيب حبنا له، فنستخف بالزمنيات ونتعلق بالأبديات.

v "هل تجد خطوات الله footsteps of God؟" ما هو الذي يدعوه "خطوات الله footsteps of God" سوى رأفات افتقاده؟ بهذا يحفزنا على التقدم نحو العلويات عندما نتفاعل مع نسمات روحه...

عندما تلهب محبة الرب الروحية القلب، يعطي معرفة لطريق نتبعه، كنوع من خطوات الله، كمن يسير ويترك بصمات قدميه على القلب...

حسنًا كان المرتل ماهرًا في إتباع خطوات خالقنا عندما قال: "نفسي تتبعك بجدية" (مز 63: 8)، وإذ أراد اقتناء رؤية علوية قال: "عطشت نفسي إلى الله، إلى الله الحي، متى أجئ وأظهر أمام وجه الله؟" (مز 42: 2).

يُوجد الله القدير بمفهوم واضح عندما نطأ تحت أقدامنا فساد موتنا. عندئذ يُرى بواسطة الذين يرتفعون إلى السماء في بهاء طبيعته الإلهية. أما في الزمن الحاضر، فإن نعمة الروح المنسكب في قلوبنا ترفع النفس من الأهداف الجسدية وتسمو بها بالاستهانة بالزمنيات، ولا يتطلع الذهن إلى أسفل وإلى كل ما يُشتهي من أسفل، ويلتهب بالشوق نحو العلويات.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v ليس للسان سلطان أن ينطق بكيفيتها (الأسرار الإلهية)، إنما ينظرها العقل الطاهر وحده، وبها يتنعم ويفرح بنظرها، ويتعجب ويبتهج بوجودهما، ويُذهل ويُسر باستعلانها له؛ ويذهل ويُختطف منهما إلى داخلهم.

وفي الله يُبتلع ويُسبى بنظر جماله، ويتحد بمجده وينذهل.

ليس من دخل إلى هذا، وينظر إلى ما يُرى ههنا بشهوة.

ليس من يتلذذ بهذه (الأسرار)، ويذوق أيضًا حلاوة شيء مما على الأرض.

ليس من ينظر جمالها، وينظر إلى جمال شيء مما في عالمنا أنه حسن.

ليس من استغنى بوجودها، ولا يستخف بالدرهم كالزبل.

ليس من استأنس بوجودها وسكر بالهذيذ بها، ولم يمقت في عينيه جلسات الناس وأنسهم.

ليس من انطلقت في نفسه وفي عظامه محبة المسيح، ويقدر أيضًا أن يحتمل قذارة الشهوة المرذولة.

ليس من صار رفيقًا للملائكة واستأنس بأسرارهم، ولم يرذل رفقة العالم ومكائده.

ليس من سُبي عقله بجمال رب الكل، ويقدر أيضًا أن يسبيه شيء مما في هذا العالم بشهواته.

ليس من ربط عقله بالله والاهتمام به، وينحل أيضًا من شيء ويرتبط بالهم به[13].

الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)

هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ،

فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟

أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَة،ِ

فَمَاذَا تَدْرِي؟ [8]

أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ

وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ [9].

إن كنا لا نستطيع أن نقيس علو السماوات ولا أعماق الهاوية ولا طول الأرض ولا عرض البحار، فكيف نقيس خالق هذه جميعها؟ يقول المرتل: "عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت لا أستطيعها" (مز 139: 6)، "أحكامك لجة عظيمة" (مز 36: 6).

نرفع عيوننا إلى فوق نحو السماء، فنرى الله عاليًا أعلى منها. عندئذ تشتهي نفوسنا التحرر من عبودية محبة العالم، بعمل روح الله القدوس، الذي يطير بنا كما بجناحي حمامة.

نتطلع إلى أعماق الهاوية، فنرى الرب في حبه يحطم متاريسها، وينطلق بنا إلى الأحضان الإلهية.

نجول في الأرض المتسعة، فنجدها ضيقة للغاية أمام اتساع قلب الله لنا، حيث يضم كل البشرية من آدم إلى آخر الدهور، بحبٍ لا حدود له.

ننظر إلى المحيطات فنستخف بها أمام لجة محبة الله الفائقة.

v "هو أعلى من السماء، فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية، فماذا تدري؟ أطول من الأرض، وأعرض من البحر" [8-9]. يلزم أن يُفهم ذلك بمعني روحي. إذا فُهم أي شيء خاص به بطريقة جسدية لهو أمر شرير. الآن هو أعلي من السماء، إذ يسمو فوق كل الأشياء بعدم إمكانية إدراك طبيعته الروحية. هو أعمق من الهاوية لكونه بسموه يعيننا نحن الذين في أسفل. إنه أطول من الأرض بكونه يتجاوز قياس الخليقة باستمرار أبديته لانهائيًا. هو أعرض من البحر، بكونه ضابط أمواج الأمور الزمنية، إذ يُحجمها، منجزًا إياها بقوته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v كل هذه الخصوصيات تشير إلى الإنسان وحده، فيكون "سماءً" عندما يرغب في أن يلصق نفسه بالعلويات.

وهو نفسه يكون هاوية عندما ينبطح مرتبطًا بالسفليات، مرتبكًا بالتجارب.

ويكون "أرضًا" عندما يكثر من الأعمال الصالحة خلال خصوبة الرجاء الثابت.

ويكون بحرًا عندما يضطرب بقلقٍ في بعض الظروف ويرتبك بنسمة ضعفه.

الله أعلى من السماء بكوننا نخضع لقدرة سلطانه، حتى عندما نسمو فوق أنفسنا.

إنه أعمق من الهاوية بكونه يدين الذهن البشري ذاته متطلعًا إليه وسط التجارب.

إنه أطول من الأرض بثمار حياتنا التي يهبنا إياها في النهاية. رجاؤنا ذاته في الزمن الحاضر لا يدرك شيئًا.

إنه أعرض من البحر حيث أن الذهن البشري إذ يتلاطم هنا وهناك يلقي بأهواء كثيرة تخص الأمور العتيدة.

وضع المرتل قلبه في العلا، ومع هذا فقد شعر أنه لم يبلغ إلى الله بعد، فيقول: "عجيبة جدًا هي معرفتك لي، إنها قديرة، لا أستطيع بلوغها" (مز 139: 6). عرف بولس ذاك الذي هو أعمق من الهاوية عندما فحص قلبه، لكنه كان يرهب دينونة الله الأكثر فحصًا. قال: "فإني لست أعرف شيئًا عن ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا؛ ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب" (راجع 1 كو 4: 4).

البابا غريغوريوس (الكبير)
العدد 10:
4. سلطان الله لا يُحد

إِنْ بَطَشَ أَوْ أَغْلَقَ أَوْ جَمَّعَ فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ [10]

بلغ صوفر إلى ذات النتيجة التي سبق فبلغها أيوب الخاصة بحكمة الله المطلقة: "إذ خطف فمن يرده، ومن يقول له ماذا تفعل؟" (12:9) "في علمك إني لست مذنبًا، ولا منقذ من يدك" (7:10).

أن "بطش" بالموت، أو أغلق على أحد في السجن، أو جمعه كما في شبكة المصائد، فمن يقدر أن يمنعه؟ من ذا الذي يقدر أن يقف أمام حكم الله أو يقاوم عمله؟ من له السلطان أن يعترض على أحكام الله؟

v "إن قَلَبَ كل الأشياء، فمن يناقضه؟ أو من يقدر أن يقول له: لماذا تفعل هذا؟" [10] الرب "يقلب" السماء عندما يدمر ارتفاع تأملات الإنسان بأمره المرعب السري. إنه يخرب الهاوية عندما يسمح لنفس أحدٍ أن ترتعب تحت تجاربها لتسقط في أقصى الحدود. ويُسقط الأرض عندما ينزع ثمار الأعمال الصالحة بسكب مصائب عليها. ويقلب البحر عندما يدحض ترددات (تموجات) روحنا المترددة بحدوث رعبٍ مفاجئٍ.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

تعثر مرقيون في القرن الثاني الميلادي، وأيضًا أتباعه من العبارات الواردة في العهد القديم بخصوص الغضب الإلهي، وقد سبق أن خصصت بندا خاصًا بمفهوم "غضب الله" في كتاب الحب الأخوي، فصل 8 عن الغضب. فالله لا يبطش بأحد ولا يغلق على أحدٍ، إنما ما ورد في الكتاب المقدس عن غضب الله هو من قبيل تقديم بعض الأمور الإلهية بلغة بشرية يمكننا فهمها.

لا يحمل الله انفعالات بشرية، إذ هو "حب"!

v حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم.

وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وإن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.

فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ[14].

القديس يوحنا كاسيان

العدد 11- 12:
5. علم الله شامل
لأَنَّهُ هُوَ يَعْلَمُ أُنَاسَ السُّوءِ،

وَيُبْصِرُ الإِثْمَ فَهَلْ لاَ يَنْتَبِهُ؟ [11]

نحن نعرف عنه أقل القليل، أما هو فيدرك كافة أسرارنا حتى الخفية عنا. هو يعرف أناس السوء حتى وإن حسبناهم أو حسبوا أنفسهم أبرارًا، وهو يبصر الإثم الذي نرتكبه خفية. الأشرار مكشوفون أمامه، والشر لا يمكن أن يُخفى عنه. "فهل لا ينتبه؟" أي هل يقف في سلبية أمام الأشرار والشر، حتى وإن غض النظر إلى حين؟

v "لأنه يعلم بطلان البشر، عندما يبصر الإثم أيضًا، فهل لا ينتبه؟" [11]... هنا يلاحظ الترتيب حسنًا، فيصف أولا البطلان أنه يُعرف، وبعد ذلك الإثم أنه يُنتبه إليه. فإن كل إثمٍ هو باطل، وليس كل بطلان هو إثم. فإننا نمارس أمورًا باطلة مادمنا نعمل ما هو زائل. في هذا يزول الشيء من أعين الممسك به، ويقال عنه إنه "باطل". يقول المرتل: "إنما كخيال يتمشى الإنسان" (مز 39: 6)

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْم،ِ

وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ [12].

يقول صوفر إن الإنسان ذاته صار بعد السقوط فارغًا عديم الفهم، لأنه حرم نفسه من حكمة الله. صار "يشبه البهائم التي تُباد" (مز 49: 20). صار غبيًا كالحمار الوحشي (جحش الفرا) الذي تعود أن يسكن البرية. في غباوته يظن أنه حكيم، فلا يريد أن يخضع لأحكام الله، بل يقاوم، ظانًا أنه يعرف الحق والعدل.

ما قاله صوفر هو حقيقة سقط فيها الإنسان بوجه عام، لكن ما يشوب كلامه أنه يعني أيوب دون أصدقائه، فيحسبه في مرتبة حيوانات البرية الغبية، والتي بلا نفع. لكن إذ يتحدث عن نفسه يحسب نفسه حكيمًا، يقدم مشورة صادقة وفعالة!

v "المائت مولود المرأة كجحش البرية" [12]. يشير بهذه الكلمات إلى أيوب، مساويًا إياه بجحش البرية. إذ قال: "لأن سهام الرب في جسدي... هل ينهق جحش البرية بلا سبب، إن لم يكن باحثًا عن طعام؟" (6: 4، 5). بمكرٍ يقول صوفر: لماذا يتحدث عن مائت مولود من امرأة، بمعني عن رجل من رجل، مادام أيوب نفسه يقارن نفسه بجحش البرية. لهذا يقول صوفر: "عبثا يختفي في تعقلانه" [12]. بهذه الكلمات الباطلة التي لا جدوى منها يحدر أيوب إلى التفاهة، إذ يقول صوفر أنه يجب أن يعوي كثيرًا جدًا ولا يتنهد كثيرًا متجنبًا أن يكون إنسانًا. إنه يقارنه بجحشٍ يتضور جوعًا.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v "الرجل الفارغ (الباطل) ينتفخ في كبرياء" هذه هي نهاية البطلان. الكبرياء يفسد القلب بالخطية فيجعله متوقحًا بالإثم، حتى بتجاهل إثمها لا تشعر النفس بالحزن على فقدانها براءتها، وتصاب بالعمى كجزاءٍ عادلٍ، وربما تنفصل عن التواضع أيضًا. كثيرًا ما يستعيد القلب لنفسه شهوات شريرة، متخليًا عن نير مخافة الرب، وكأنه يصير في حرية لارتكاب الشر. إنه يصارع ليجعل الشر في حيز العمل متساهلاً مع نفسه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إن كان الإنسان قد نزل إلى غباوة بعض الحيوانات بل والحشرات، وذلك بكبرياء قلبه وتشامخه على الله مصدر الحكمة، فإن حكمة الله صار إنسانًا، لكي يرتفع به إلى الحكمة السماوية، يتمتع به ويتحد معه. بالتجسد الإلهي، خاصة بصعود السيد المسيح، ارتفعنا به من انحطاط الحيوانات إلى الحكمة السماوية.

v انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح... ويوضح بولس ذلك إذ يقول: "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا". وأين نزل؟! "إلى أقسام الأرض السفلى" وصعد إلى "فوق جميع السماوات" (أف 4: 9-10).

افهموا من هذا الذي صعد؟!...

إنني أتأمل في عدم استحقاق جنسنا حتى أدرك الكرامة التي نلناها خلال مراحم الرب المملوءة حنوًا. فإننا لم نكن سوى تراب ورماد...

لقد صرنا أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة، إذ صار الإنسان يقارن بالحيوانات غير العاقلة، وقد صار مثلها (مز 48: 21). وإذ يصير الإنسان هكذا مثلها إنما يكون أردأ منها. لأنها هي هكذا بحكم طبيعتها، أما عدم تعقلنا نحن الخليقة المزينة بالعقل فهذا بإرادتنا...

وهكذا عندما تسمع عن الإنسان أنه صار كالحيوانات غير العاقلة، فلا تظن أنه صار مساويًا لها، بل أحط منها. لا بمعنى أنه نزل إلى مستوى أقل منها، بل إذ ونحن بشر صرنا إلى هذه الدرجة الشديدة من الجمود...

هذا ما يعلم به إشعياء بوضوح قائلاً: "الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم" (إش 1: 3).

لكن ليتنا لا نضطرب بسبب معاصينا القديمة، لأنه حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا (رو 5: 20).

لقد رأيتم كيف صرنا أكثر غباء من الحيوانات، فهل تريدون أن تروا كيف صرنا أكثر عدم تعقل من الطيور؟!

"اليمامة والسنونة المزقزقة حفظنا وقت مجيئها. أمَّا شعبي فلم يعرف قضاء الرب" (إر 8: 7).

انظروا كيف صرنا أكثر غباء من الحمار والثور وطيور السماء واليمامة والسنونة، أتريدون أيضًا أن تروا ماذا قد بلغ إليه غباؤنا؟!

إنه يرسلنا إلى النمل لنتعلم منه الحكمة "اذهب إلى النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها وكن حكيمًا" (أم 6:6).

لقد صرنا تلاميذ للنمل، نحن الذين خلقنا على صورة الله ومثاله. ولكن لم يكن خالقنا هو السبب، بل نحن السبب إذ لم نرد أن نبقى على صورته ومثاله.

ولماذا أتكلم عن النملة فقط، فإننا قد صرنا أكثر جمودًا من الحجارة؟! هل أقدم دليلاً على ذلك؟ "اسمعي خصومة الرب أيتها الجبال ويا أسس الرب الدائمة. فإن للرب خصومة مع شعبه" (ص 6: 2).

إنه يدين الإنسان مستدعيًا أسس الأرض... لأن الناس صاروا أكثر جمودًا من أسس الأرض.

إلى أي مدى من عدم الحكمة يريدون أن يصلوا بعد؟! إذ صاروا أكثر غباء من الحمار وعدم حساسية من الثور، وعدم فهم من اليمامة والسنونة، وعدم حكمة من النملة، وأكثر جمودًا من الحجارة، بل ويشبهون الأفاعي (راجع مز 58: 5)...

ولماذا أتكلم بعد عن الخليقة غير العاقلة، فإننا قد صرنا (في شرنا) ندعى أبناء إبليس، إذ يقول "أنتم من أب هو إبليس" (يو 8: 44).

ومع ذلك فبالرغم من أننا جامدو الحواس، وناكرو المعروف، وأغبياء وأكثر قسوة من الحجارة، وهكذا صار انحطاطنا وعدم استحقاقنا... لكن اليوم ارتفعت طبيعتنا فوق كل الخليقة!

القديس يوحنا الذهبي الفم

إِنْ أَعْدَدْتَ أَنْتَ قَلْبَك،َ

وَبَسَطْتَ إِلَيْهِ يَدَيْكَ [13].

إن كان الله لا يمكن إدراك أبعاده - إن صح التعبير - وهو صاحب السلطان، والعالم بكل شيءٍ، فمن الجانب الآخر لا يدرك الإنسان كمال الله وكمال معرفته، بل ولا حتى الأسرار الخاصة بالطبيعة البشرية. لذا لاق بالإنسان عوض نقد تصرفات الله أن يلجأ إليه بالصلاة، وينزع كل ما هو غريب عن الله من إثمٍ وظلمٍ، فيرفع الله وجهه، ويهبه بركات لا حصر لها.

إِنْ أَبْعَدْتَ الإِثْمَ الَّذِي فِي يَدِكَ،

وَلاَ يَسْكُنُ الظُّلْمُ فِي خَيْمَتِكَ [14].

يطلب صوفر – كما فعل زميلاه من قبل - أن يلجأ أيوب إلى الله بقلبه كما بسلوكه العملي، فلا يحمل رياءً ولا خداعًا، حتى يستجيب الله لصلاته.

قدم نصيحة صادقة عن التوبة، لكن لا نعلم ماذا كانت نية صوفر، هل يطلب فعلاً توبته، أم كان يود تأكيد شر أيوب وريائه.

يطلب منه أن يعد قلبه بالنقاوة وأن يبسط يديه بالمثابرة في الصلاة كمن يريد أن يمسك بالله ولا يتركه حتى يباركه، كما فعل أبونا يعقوب.

يطالبه صوفر بالكف عن الإثم، وطرد الظلم من خيمته. طلب عجيب لإنسان يقطن في مزبلة، يلبسه الدود كرداءٍ، وتحوط به القروح من أخمص قدميه إلى رأسه. أي إثم يمكن أن يمارسه بيدين تنزفان بلا توقف؟ وأي خيمة يطرد منها الظلم وهو يعيش في مزبلة؟

v كل خطية ترتكب إما بالفكر وحده أو بالفكر والعمل معًا. لهذا فإن "الإثم في يدك" هو إثم بالعمل. أما "الشر في الخيمة" فهو الظلم في القلب، فإن قلبنا يُدعى بحق خيمة، فيها نُدفن في داخلنا عندما لا تظهر أنفسنا في الخارج خلال العمل.

كان صوفر صديقًا لشخصٍ بارٍ يعرف ما يجب أن يُقال، لكنه هو نفسه إذ يحمل الشبه للهراطقة، في توبيخه لشخصٍ كهذا، لا يعرف بحق كيف يقدم حتى ما يعرفه. فإنه يأمرنا أولاً أن ننزع الإثم عن اليد، وبعد ذلك نزيل الشر من الخيمة. فإن من يقطع من نفسه كل الأعمال الشريرة الخارجية يلزمه بالضرورة أن يعود إلى نفسه، ويمتحن نفسه بحكمة من جهة قلبه، لئلا الخطية التي لم تعد تمارس بالفعل تبقي متخلفة في الفكر. لذلك حسنا قال سليمان: "هيئ عملك في الخارج، وأعده في حقلك، بعد ذلك تبني بيتك" (أم 24: 27). فإنه ماذا يعني عندما يهيأ العمل حتى يعد الحقل بنشاط في الخارج سوى أن نقتلع أشواك الشر، حتى نعمل حاملين ثمار المكافأة؟ وبعد حرث الحقل ماذا بعد ذلك من العودة إلى بناء بيتنا، سوى أننا غالبًا ما نتعلم من الأعمال الصالحة النقاوة الكاملة للحياة التي يلزم أن نبنيها في أفكارنا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v تُعطى التوبة للبشرية كنعمةٍ فوق نعمةٍ. التوبة هي ميلاد ثانٍ من الله، ننال عربونه في العماد، ونناله كعطية خلال التوبة.

التوبة هي مدخل الرحمة المفتوح لجميع طالبيها. خلال هذا المدخل ندخل إلى الرحمة الإلهية، وباعتزال هذا المدخل لا يقدر أحد أن يجد رحمة.

إذ "أخطأ الجميع" كقول الكتاب الإلهي، "يتبرّرون مجّانًا بالنعمة" (رو 23:3-24). التوبة هي النعمة الثانية، تولد في القلب كثمر للإيمان والمخافة.

المخافة هي العصا الأبوية التي تقودنا حتى إلى عدن الروحية، لكن ما أن نبلغ هناك تتركنا وترجع.

عدن توجد في الحب الإلهي، حيث فيه فردوس كل التطويبات. هذا هو الموضع الذي فيه نال القديس بولس قوتًا فائقًا للطبيعة. إذ ذاق شجرة الحياة تعجّب قائلاً: "ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشر، ما أعدّه الله للذين يحبونه" (1 كو 9:2)[15].

القديس مار اسحق السرياني

v لا يوجد مرض يمكن أن يصيب النفس إلا وتُقدم له كلمة الرب دواءً. وكما توجد أدوية مركبة يقوم الأطباء بخلطها ومزجها لمعالجة الأمراض الجسدية، هكذا توجد أدوية مركبة يعدها روح الرب لمعالجة شهوات الخطية ومواجهتها، فيقدر من يشعر بالمرض أن يجد الدواء قريبًا منه، ويتمتع بالشفاء.

جميع الأمراض تُشفي بما يضادها، فالأمراض التي تتسبب من البرد تُشفي بالأعشاب الساخنة الحارة، والأمراض التي تتسبب من الحرارة تُشفي بواسطة الأعشاب المرطبة...

تعلَّم إذن من هذا أيها الحكيم، يا من تريد شفاء أمراض نفسك، وأفعل لنفسك ما يصنعه علم الطب مع الجسد. فإن الأمور التي على المستوى الخارجي قد وضعت أمام عيوننا كمثال نحتذي به بالنسبة لما يمس المستوى الداخلي، فتُشفي نفوسنا بنفس الطريقة التي تُشفي بها أجسادنا.

إذن لنُعدّ الدواء المضاد لمواجهة كل شهوة:

ضد الشك: الإيمان،

وضد الخطأ: الحق،

وضد الارتياب: اليقين،

وضد الخبث: البساطة،

وضد الكذب: الصراحة،

وضد الخداع: الصدق،

وضد الاضطراب: الوضوح،

وضد القسوة: الحنان،

وضد الوحشية: الرأفة،

وضد الشهوة الجسدية: الشهوة الروحية،

وضد اللذة: الألم،

وضد فرح العالم: فرح المسيح،

وضد الأغاني: التسابيح الروحية...

وضد الحزن: الفرح،

وضد الإعجاب والفخر بأنفسنا: الرجاء الصادق في الله،

وضد الرغبات الجسدية: الرغبات الروحية،

وضد النظرة الجسدية: النظرة الروحية...

وضد التطلع إلى الأمور المنظورة: التفكير في ما لا يُرى...

وضد الارتباط بالعائلة الجسدية (بالنسبة للراهب): الارتباط بالعائلة السماوية،

وضد الحياة في مسكن أرضى: الحياة والسكنى في أورشليم العليا.

إذًا تُشفي جميع هذه الأمراض وما يشبهها بضدها.

من يشتهي الحياة السماوية يلزمه أن يتنازل عن الأمور الأرضية المادية، لأن اشتهاء أحدهما لا وجود له في داخلنا ما لم يمت الآخر. لا تُولد شهوة الروح في أفكارنا إلا بموت شهوة الجسد، فبموت الواحد يحيا الآخر.

عندما يكون الجسد عائشًا فينا بكل شهواته ورغباته، تكون النفس حينئذ ميتة بكل رغباتها[16].
القديس مار فيلوكسينوس
العدد 15- 20:
6. لا مفر من الغضب الإلهي إلا بالتوبة والصلاة
حِينَئِذٍ تَرْفَعُ وَجْهَكَ بِلاَ عَيْبٍ،

وَتَكُونُ ثَابِتًا، وَلاَ تَخَافُ [15].

هنا يبدو صوفر فاتحًا باب الرجاء مثل زميليه أليفاز (8:5 الخ) وبلدد (5:8-7،20-22)، على عكس أيوب الذي بسبب شدة التجربة كثيرًا ما سادت عليه النظرة التشاؤمية بأن حياته الأولى لن تعود!

ما قاله صوفر وإن كان لا يناسب أيوب في تلك الظروف، إلا أنه مبدأ حق بالنسبة لكل تائب صادقٍ في توبته. فإنه لا يستطيع أن يرفع وجهه أمام القدوس إلا إذا نزع عنه العيب والخزي بنقاوة قلبه وقداسة خيمته، بهذا يقف أمام الله ثابتًا في رجائه واتكاله على الله، بغير خوف في محبته لله.

v إن قدمت صلاتك بقلبٍ طاهرٍ [13] بلا لوم من جهة أي عمل غير لائق فإنك إذ تقدم تنهدات على نفسك أمام الله تصير في لقاء معه. عوض الحزن يكون لك الفرح، وعوض المصائب تنال بركات، وتكون ملامح وجهك مشرقة كماءٍ نقيٍ [15]... ولا تعود تخاف من علل أخرى، لأن الله ينزع العلل عنك. تنال عفوًا من متاعبك، وشكرًا على الهدوء الذي يخيم عليك، ولا تخاف التجارب، فتكون كمن وجد راحة في ميناء آمن، لا تخاف الأمواج حيث لا يقدر البحر أن يسبب ضررًا.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v الآن إذ نمسح بالكامل هاتين الاثنتين (إثم اليد والظلم الذي في الخيمة)، نرفع وجوهنا بلا لوم لله. لأن النفس هي وجه الإنسان الداخلي، به نعرف خالقنا بالحب وبه ننظره.

الآن رفع هذا الوجه عينه هو رفع النفس لله بممارسة الصلاة.

أما الوصمة التي تفسد رفع الوجه فهي نية العمل... فإنها (النفس) في الحال تتحطم، وتفقد كل ثقة في الرجاء. وحينما تنشغل بالصلاة تلتصق بتذكر الخطية التي خضعت لها. تفقد الثقة في نوال ما تشتاق إليه، فتحمل في الذهن الرفض المستمر لممارسة ما تسمعه من الله. لذلك يقول يوحنا: "أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا، فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه" (1 يو 3: 21- 22). ويقول سليمان: "من يحول أذنه عن سماع الشريعة فصلاته أيضا مكرهة" (أم 28: 9). فإن قلبنا يلومنا في تقديم صلواتنا عندما نتذكر أنها تقف ضد وصاياه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v ليس أحد يعينه الله ما لم يصنع هو شيئًا. إنه سيُعان إن صلي[17].

v الأثر الكامل للإيمان هو هذا: يجعلنا نسأل فنأخذ، نطلب فنجد، نقرع فيُفتح لنا. بينما الإنسان الذي يجادل يغلق باب رحمة الله أمام نفسه[18].

v لا توجد وسيلة بها يصل الشعب إلى كمال مطلق، أو بها أي إنسان يصنع أقل تقدم نحو البرّ الحقيقي التقوى إلا بمعونة مخلصنا المصلوب، المسيح، وعطية روحه. من ينكر هذا لا يستطيع أن يُحسب مسيحيًا نهائيًا كما أظن[19].

القديس أغسطينوس

لأَنَّكَ تَنْسَى الْمَشَقَّةَ.

كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرُهَا [16].

حين يتمتع المتألم بتعزيات الله ينسي آلامه ومشقته كما تنسي الأم آلام مخاضها بسبب فرحها بالمولود الجديد. وتصير الآلام أشبه بقليلٍ من ماء انسكب من أناء لا أثر لها في شيء.

الله هو وحده القادر أن يرفع المتألمين فوق الآلالم، ويعبر بهم فوقها وتصير كلا شيء، بل وتتحول إلى بركات لا تُحصى.

وَفَوْقَ الظَّهِيرَةِ يَقُومُ حَظُّكَ.

الظَّلاَمُ يَتَحَوَّلُ صَبَاحًا [17].

إن كان أيوب قد شعر أن نوره قد انطفأ تمامًا، وصارت حياته أشبه بالظلام الدامس، ففي رأي صوفر أن الله يشرق بنوره عليه عند توبته ليجعل من حياته نورًا أعظم من نور الشمس عند الظهيرة، ويحول ظلام الليل إلى نور الصباح المبهج.

v "إشراق الظهيرة عند المساء" هو تجديد الفضيلة في وقت التجربة... مكتوب: من يخاف الرب تكون نهايته حسنة" (ابن سيراخ 1: 13)... كلما واجه بالأكثر صلبانًا خارجية، يتلألأ بالأكثر بنور فضائله في داخله، كما يشهد بولس القائل: "وإن كان إنساننا الخارجي يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا. لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا" (2 كو 4: 16).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v أيّها النور غير المنظور!

أيها البهاء الذي لا يراه بهاء آخر!

أنت هو النور الذي تختفي أمامك كل الأنوار المخلوقة!

أنت البهاء الذي ينطفئ قدّامه كل بهاء خارجي!

أنت هو "النور" مصدر كل الأنوار، و"البهاء" ينبوع كل بهاء!

أنت هو النور والبهاء، أمامك تصير كل الأنوار ظلمات، وكل ضياء بالنسبة لك ليس إلاَّ ظلامًا!

أنت هو البهاء الذي بك تصير الظلمة نورًا، وبك يتلألأ الظلام لمعانًا!

أنت هو النور الأسمى، لا تحجبك سحابة ما، ولا يعوقك بخار، يعجز الليل عن أن يسدل بظلامه عليك، لا يعوقك حاجز ولا تُغرٍقك ظلال!

أخيرا، أنت النور الذي ينير الخليقة الداخليّة على الدوام، ابْتَلِعْني في هوّة جلالك، حتى أعاين كل أعماقك، بقوّة بهاء لاهوتك ذاته، وعمل البهاء المنعكس عليَّ منك!

لا تتركني قط، لئلاَّ يتزايد جهلي وتكثر شروري، فبدونك أصير فارغًا وبائسًا!

بدونك لا يكون لأحد صلاح، إذ أنت هو الحق والصلاح الحقيقي وحده!

هذا ما اَعترف به؛ وهذا هو ما أعرفه، يا الله إلهي، أنَّه حيثما وُجٍدْتُ بدونك لا يكون لي غير الشقاء - في الداخل كما في الخارج - لأن كل غني غير إلهي إنّما هو بالنسبة لي فقر مدقع!

القدِّيس أغسطينوس

وَتَطْمَئِنّ،ُ لأَنَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ.

تَتَجَسَّسُ حَوْلَكَ، وَتَضْطَجِعُ آمِنًا [18].

تعزيات الله تنزع من النفس القلق وتهبه طمأنينة وسلامًا حيث تنفتح أمامه أبواب الرجاء عوض اليأس.

إنه يحفر (يتحسس) حوله كما يفعل الجنود، حيث يحفرون الخنادق، ويضطجعون فيها في آمان، لأنه تحت ظل جناحي الله يستريحون، وفيه يتمتعون بكل احتياجاتهم.

v يرفع الرجاء ذاته بأكثر ثبات في الله بالنسبة للأمور الصعبة التي يعاني منها الإنسان من أجل الله. لا يمكن جمع الفرح بالمكافأة في الأبدية ما لم يزرع هنا أولاً في حزن تقوي. يقول المرتل: "الذاهب ذهابًا بالبكاء، حاملاً مِبذَر الزرع، مجيئًا يجئ بالترنم حاملاً حزمه" (مز 126: 6). هكذا يقول بولس: "إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه، إن كنا نتألم فسنملك أيضا معه" (2 تي 2: 11-12). كذلك يحذر تلاميذه، قائلاً: "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v أن تترجى الله من الله، هذا هو أن تحب الله صاحب النعمة[20].

v كم أنا بائس؟!

إلهي... متى تفارقني هذه الطبيعة الفاسدة، وتعمل قوّتك الكاملة في؟!

إلهي... لذيذة هي الوحدة والسكون والحق والنقاوة، هذه كلّها التي هي لك! أمّا أنا فألهو بالضوضاء والصخب والباطل والرذيلة!

أعود فماذا أقول بعد؟! أنت هو الخير الحقيقي، رحوم، قدُّوس، عادل... أمّا أنا فشرّير، محب لذاتي، خاطئ، ظالم!...

أنت النور، أمّا أنا فظلمة!

أنت الحياة، أمّا أنا فموت!

أنت الطبيب، أمّا أنا فمريض!

أنت الفرح، أمّا أنا فحزن!

أنت الحق الصادق، أمّا أنا فبطلان حقيقي، مثلي مثل أي إنسان على الأرض!

بأية لغة تريدني أن أحدّثك يا خالقي؟! أتوسّل إليك أن تتفضّل فتُصغي إليّ. إنَّني من صنع يديك، وهلاكي أمر مخيف!

إنّي جُبلتك، وها أنا أموت! إنّي من صُنْع يديك، وها أنا اَنحدر نحو العدم!

إن كان لي وجود، فأنت مُوجدي، "يداك صنعتاني وأنشأتاني" (مز 119: 73). يداك اللتان سُمِّرتا على الصليب، فَلْيُعطياني السلام؛ لأنَّه هل تحتقر عمل يديك؟!

أه! أتطلّع إلى جراحاتك العميقة، فقد نقشتَ اسمي في يديك! ِاقرأْ اسمي وخلّصني!

إن نفسي التي تتأوه قدّامك، هي من عمل يديك. اخلق منّي خليقة جديدة؛ فهذا هو عملك. لذا فهي لا تكف عن الصراخ إليك قائلة: "يا أيّها الحياة، أَحْيني من جديد!"

أنَّها من جبلة يديك، تلتف حولك متوسّلة إليك أن ترد إليها جمالها الأول!

اغفر لي يا إلهي، ما دمتَ قد سمحتَ لي بالحديث معك. لأنَّه من هو الإنسان حتى يتكلّم مع الرب خالقه؟!

نعم. سامحني! سامح تجاسري! سامح عبدك الذي تجاسر ليرفع صوته أمام سيده!

إن الضرورة لا تعرف قانونًا! فالألم يدفعني إلى الحديث معك! والكارثة التي َحَلَّت بي تجعلني اَستدعي الطبيب لأنّي مريض! إنَّني أطلب النور لأنّي أعمى! أبحث عن الحياة لأنّي ميّت! ومن هو هذا الطبيب والنور والحياة إلاَّ أنت؟!

يا يسوع الناصري ارحمني!

القدِّيس أغسطينوس
وَتَرْبِضُ، وَلَيْسَ مَنْ يُزْعِجُ،

وَيَتَضَرَّعُ إِلَى وَجْهِكَ كَثِيرُونَ [19].

لا يليق بالإنسان أن يضطرب، بل يربض أو يرقد ويستريح دون إزعاج، لأنه في أحضان الله، تحوط به العناية الإلهية.

يصير الشخص ليس فقط في آمان، ليس من أعداء يتغلبون عليه، ولا من كوارث تهز كيانه، وإنما يتضرع إلى وجهه كثيرون، إذ يجدون سلامًا وتعزية في مجرد التطلع إلى وجهه. يرون صورة المخلص ربنا يسوع مطبوعة على وجهه، تشهد لسكناه في قلبه.

من يستعطف وجه الله، يحمل صورة وجه الله، فيستعطفه كثيرون.

v من يطلب المجد الحاضر بلا شك يخشى الاحتقار. من كان فاغر فمه على الدوام طالبًا الربح حتمًا يخشى الخسارة... أما من تأصل في الاشتياق نحو الأبدية وحدها، فإنه لا يتشامخ بالثروة، ولا يهتز بالمصائب. إذ ليس له شيء في هذا العالم يشتهيه، فإنه لا يوجد ما يخشاه من العالم.

ألم يربض بولس ويستريح قلبه بلا خوف عندما قال: "فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو 8: 38- 39).

قوة هذا الحب مدحه صوت الكنيسة المقدسة حين قيل في نشيد الأناشيد: "لأن المحبة قوية كالموت" (نش 8: 6). فيُقارن الحب بقوة الموت الذي إذ تمسك به النفس تموت تمامًا عن مباهج العالم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَمَّا عُيُونُ الأَشْرَارِ فَتَتْلَفُ،

وَمَلْجَأُهُمْ يَبِيدُ،

وَرَجَاؤُهُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ [20].

بعد أن قدم صورة رائعة عن التوبة الخالصة وثمرها المفرح، حذر من الشر وآثاره. فإن عيون الأشرار تتلف. العيون التي لا تتطلع إلى الله مصدر الخير تفسد.

"ورجاؤهم تسليم النفس"، يبيد ويتلاشى، إذ "عند موت إنسانٍ شريرٍ يهلك رجاؤه" (أم 11: 7).

v يقصد بالعيون النية المقدمة لنا. يشهد الحق في الإنجيل، قائلاً: "إن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيرًا" (مت 6: 22). إن كانت النية الطاهرة تسبق عملنا، فمهما بدا العمل لدى البشر، فإنه في عيني دياننا الداخلي يُحسب العمل طاهرًا. فأعين الأشرار هي نياتهم من جهة شهواتهم الجسدية التي في داخلهم. هذه تتلف لأنها لا تبالي باهتماماتهم الأبدية، متطلعين دومًا نحو المكاسب الزمنية وحدها...

"ويكون رجاؤهم دنسا للنفس". ما هو رجاء الخاطى هنا في كل أفكاره سوى أن يسمو على الآخرين في السلطان، وتفوق مخازنه مخازن كل الناس، وأن يكسر منافسيه ليسيطر عليهم، وأن يشبع شهوته، وأن يذعن في كل شيءٍ لإشباع الشهوة. حسنًا قيل أن رجاءهم "دنس للنفس".

الآن كان يمكن القول بأن صوفر محق في هذا لو أن الطوباوي أيوب لم يعلن هذا بأكثر كمال خلال حياته.

البابا غريغوريوس (الكبير)


من وحي أيوب 11

هب لي الحق الإلهي الحي!
v تسبحك نفسي، لأنك خلقتها على صورتك.

تشتهي في أعماقها أن تتعرف على حقك الإلهي.

كعروسٍ تترقب يوم عرسها الأبدي،

تود أن تتزين بفكر عريسها، وتتعرف على أسراره.
v أعترف لك يا أيها الحق العجيب!

كثيرًا ما خالجني فكر متشامخ.

ظننت في نفسي مدافعًا عنك يا أيها الحق،

فأمسكت بسيفٍ مع بطرس أضرب العبد المقاوم.

قطعت بغباوتي أذنه الروحية،

وأفقدته القدرة على سماع كلمتك!

حسبت نفسي رجلاً كنسيًا،

وفي غباوة دافعت عنها بروح غريب لا يليق بابنها!
v هب لي روح الحق والمعرفة، بروح الحب والحنو.

أي حق أدافع عنه بدون الحب الصادق لكل البشرية؟

أتيتَ يا أيها الحق إلى عالمنا الشرير.

في مرارةٍ قدمنا لك الصليب، وأنت محب كل البشرية.

في غباوة دافعنا عن الحق، فاضطهدناه.

هب لي أن أتمتع بك وبروحك القدوس.

فأنت هو الحق، وأنت هو الحب، وأنت هو الطريق.

ليعمل روحك القدوس في،

الروح القادر أن يبكت على خطية، ويهب تعزيات إلهية.

هبنى مرهم الحنو والانسحاق بتواضع حقيقي

فأجتذب بحبك وحنوك ومعرفتك كثيرين إلى شبكة كنيستك!
v لتجعل كلماتك المقدسة في فمي،

فيتقدس لساني، ولا ينطق إلا بالحق المملوء حبًا.

تتكلم أنت فيَّ بلساني، كما بصمتي.

أشهد للحق في أحاديثي كما بسكوني!
v لتفتح فمك وتتحدث معي،

كلماتك نور تكشف ظلمتي، وتبددها،

تهبني استنارة فتخلصني وتمجدني.

علمني كيف أتحدث مع إخوتي، شركائي في الضعف.

عوض الإدانة أترفق بهم، فتترفق أنت بي.

أضعف مع ضعفاتهم، فيلتهب قلبي بنار حبك.

أحسب نفسي مقيدًا كما هم مقيدون،

فتحررنا جميعا يا واهب الحرية!
v لتشرق بنور حكمتك الإلهية عليّ،

فأتمتع بفهمٍ مضاعف.

أدرك حبك خلال أعمال محبتك الفائقة.

واكتشف أسرار رعايتك لي، حتى في وسط تأديباتي.

اسبحك من أجل سخاء عطاياك،

حين تعطي وحين تأخذ أراك الإله العجيب في رعايته.
v هب لي حكمة مضاعفة، فأدرك خطتك الظاهرة والخفية.

وأفهم مع حكمتك الشركة في سمة محبتك.

أحمل بالحكمة المضاعفة حبًا مضاعفًا.

أحبك وأحب إخوتي الذين هم موضوع حبك.
v أحبك حبًا مضاعفًا،

أحبك بكل قلبي ونفسي وقدرتي!

لا أعرف لحبي لك حدودًا!

وأحب إخوتي حبًا مضاعفًا،

أقدم لهم روح الحب بالعطاء السخي وطول الأناة.

لا أعرف كيف أبغض أو أحسد أو أدين.

أود أن أتعامل معهم كما اشتهي أن يعاملوني به.
v هب لي يا رب حكمة مضاعفة، وفهمًا مضاعفًا، وحبًا مضاعفًا.

مع كل صباح أتمتع بمراحمك الجديدة،

فازداد حكمة وفهمًا حبًا.

لن اكتفي يومًا ما بما تهبني إياه حتى أصير أيقونة لك.

عطاياك تلهب شوقي إليك،

وتثير فيَّ الشركة معك والإقتداء بك،

يا أيها الحكمة الإلهي والمحبة!
v هب لي حتى في توبيخ محبوبي أن أكون مترفقًا!

فتكون كلماتي ممسوحة بمسحة روحك القدوس المعزي.
v أقف أمامك أيها القدير،

فيلتهب قلبي شوقًا نحو مزيدٍ من اللقاء،

وتئن نفسي في داخلي، تود أن تتعرف بالأكثر عليك.

أخبرني، إن كنت لا أعرف أسرار خليقتك المنظورة،

فكيف أتجاسر وأدعي معرفة خالقها غير المنظور؟

إن كنت لا أقدر أن أرى أثر السفينة بعد عبورها،

ولا أثر النسر بعد طيرانه،

فكيف اقتفي أثرك لأعرف خطتك؟
v هب لي حبك، فيه أتعرف عليك وعلى خطتك.

ارفع قلبي بروحك فوق كل محبة باطلة،

فيحلق دومًا في سماواتك، ويتعرف عليك؟

لأعرفك فيزداد حبي لك،

واستخف بالأكثر بكل محبةٍ أرضيةٍ.
v اخبرني، إلى أين أتطلع يا من لا تسعك السماوات والأرض؟

أتطلع إلى السماء، فاشتهي أن يطير بي روحك القدوس،

ويحلق بي في سماواتك،

يرتفع بي من مجدٍ إلى مجدٍ، حتى استقر في أحضانك.

أتأمل في أعمال الهاوية، فأجد ليس لي مكان فيها.

لقد نزلت إليها، وحطمت متاريسها،

وحملتني على ذراعيك، لتدخل بي إلى الأمجاد.

أنظر إلى الأرض بكل اتساعها،

فتضيق بي جدًا أمام اتساع قلبك من نحوي ونحو إخوتي.

أرتعب على شاطئ المحيط،

لكن اتساعه يحسب كلا شيء أمام لجة محبتك الفائقة!

حقا ما هو الارتفاع أو العمق أو الطول أو العرض لمحبتك اللانهائية!
v نتهلل بسلطانك المطلق يا أيها الحب.

أنت صاحب السلطان، ليس من يقدر أن يقاوم،

ولا من يقدر أن يقف أمامك يسألك!

لكن سلطانك سلطان الحب والأبوة الحانية، يا صانع الخيرات.

تريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون.

سلطانك دومًا للبنيان والمجد،

مادمنا نضع حياتنا في يديك،

ونتجاوب مع نعمة صلاحك الفائق.
v أعترف لك يا رب بالانحطاط الذي انحدرت إليه.

فقدت الفهم الحقيقي، وعاني قلبي من الفراغ.

من يقدر أن يملأه سواك يا حكمة الله.

لتسكن فيّ، وتحملني فيك،

فأتمتع بك، وأسلك في طريق الحكمة العجيب!

بك أصعد من هاوية الجهل،

وارتفع معك إلى سماوات الحكمة والمعرفة.

بروحك تنزع دومًا أعمال الإنسان القديم،

تحطم جهلي وغباوتي،

وتجدد فيَّ أعمال الإنسان الجديد.

فأصير بالحق أيقونة لك، يا كلي الحكمة!
v هب لي حياة التوبة الصادقة،

أعطي ظهري للجهالة،

ووجهي نحوك يا أيها الحكمة الإلهي.

أعلن توبتي بتركي كل شر،

وسلوكي في الحق بغنى نعمتك.

ارفع قلبي إليك،

فأنال أكثر مما أسأل، وفوق ما احتاج.

أسفار الكتاب المقدس
أعلى