مختلفتَين لكل منها قوانينها الخاصّة المستقلّة ونظامها الخاصّ بها. فقد وقف أمام محكمة يهوديّة تعتمد علي التقاليد اليهوديّة المستمدّة من شريعة موسي وقضاتها هم رجال الدين من كهنة وفرّيسيين وكتبة، ومحكمة رومانيّة ذات صبغة مدنيّة وعسكريّة وقاضيها هو الوالي الروماني بيلاطس البنطي. ومن ثمَّ فقد كانت التُهم الموجّهة له أمام المحكمة اليهوديّة تختلف تمامًا عن التُهم الموجّهة له أمام الوالي الروماني. وما كان يُعتبر إدانة في نظر اليهود لا يُعتبر كذلك في نظر الرومان. وما كان يُدينه أمام الوالي الروماني يجعله بطلاً أمام اليهود !! أولاً : محاكمته أمام المحكمة اليهودية : مضي الجند بالمسيح من بستان جيسثماني إلي حنّان رئيس الكهنة السابق(1) وحما قيافا رئيس الكهنة، المعاصر لأحداث الصلب (يو18/13)، ثمّ أرسله حنّان " مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ" (يو18/24)، " فَأَخَذُوهُ وَسَاقُوهُ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ" (لو22/54)، " حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ " (مت26/57)، وبدأوا في محاكمته ليلاً. وكانت محاكمته أمام هذا المجلس، السنهدرين(2)، محاكمة صوريّة لأنَّ رئيس الكهنة، ومعظم الأعضاء كانوا قد قرّروا من قبل قتل السيّد المسيح وكانوا يُرسلون الجواسيس وراءه في كل مكان " لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ." (مت22/15)، ومن ثمَّ فقد " كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ " (مت26/59). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ (1) كانت رئاسة الكهنوت وراثية في نسل هارون فقط (عدد 10:3) ولكن تغير هذا النظام بعد أن انضمت اليهودية إلى سوريا وخضعت لواليها ولما صارت تحت حكم روما كان رؤساء الكهنة يُعينون ويُعزلون حسب موالاتهم للرومان ومن ثم فقد كان يوجد أكثر من رئيس كهنة سابق في وقت واحد مثل حنان هذا وأولاده الخمسة الذين تولوا بعده. (2) السنهدرين هو المحكمة اليهودية منذ العصر الفارسي وخلال الحكم الروماني وقد كان أعلى سلطة دينية وسياسية وقضائية بعد الوالي الروماني، وقد جاءت الكلمة من "سندريون Synedrion – " اليونانية وتعني محكمة. أنظر محاكمة يسوع فرنك ج باول ترجمة إبراهيم سلامة ص 47-51 The Ixicon Webster Dic. Vol. 2 p. 850 - The International Bib. Ency. Vol. 4 p. 331
وكانت الاتهامات الموجّهة إليه بحسب ما جاء في الإنجيل بأوجهه الأربعة والتلمود والتقليد اليهودي هي : السحر والنبوة الكاذبة " فقالوا أن معه بعلزبول . وأنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين "(3)، ويُعلّم بدين جديد ويُنادي بعبادة الله بطريقة تُخالف ناموس موسي ويَدّعي أنَّه ابن الله " لَنَا نَامُوسٌ وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ " (يو19/7). وهذه الاتهامات سبق أنْ ردّ عليها مرّات عديدة مبرهنًا بالأقوال والأعمال صدق رسالته وحقيقة كونه ابن الله " صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا. " (يو14/11)، " لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي. 000 فَتِّشُوا الْكُتُبَ000 وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي." (يو5/36-40). ومن ثمَّ فقد وقف في المحكمة صامتًا ولم يُجِبْ عن شئ مما اتهموه به لأنَّه لم يكنْ هناك فائدة من الكلام وهذا ما عَبَّر عنه بقوله لهم " إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي." (لو22/67-68)، فقد كان المجمع قد قرّر قتله والقضاء عليه منذ زمن كما كان حكم الموت محتوم عليه منذ الأزل كما أعلن هو ذلك مرات كثيرة . " وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ لَمْ يَجِدُوا. " (مت26/59-60). ولم يتكلّم هو ولم يُعَلِّق علي شهادات الزور " وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً." (مت26/63)، " فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟» " (مت26/62). ولكنه تكلّم عندما سأله رئيس الكهنة عن تعليمه وتلاميذه بطريقةٍ خبيثةٍ تُوحي بأنَّه يُعَلِّم تعليم سرِّي وأنَّ له تلاميذ في الخفاء، فقال له بصورة قاطعة " أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ علاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا " (يو18/20-21) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ (3) مر22:3 وكانت عقوبة النبي الكاذب في الشريعة هي الموت "النبي الذي يطغى فيتكلم كلاماً لم أوصه أن يتكلم به…فيموت ذلك النبي " تث 20:18
وهو هنا يُشير لأعضاء المجمع باعتبارهم جميعًا سمعوه وشاهدوا أعماله ويعرفون تلاميذه . ولكن هذه الإجابة لم تعجب " وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفًا" فلطم السيّد علي خدّه، وقال له: "أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟" فقال له يسوع " إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟ " (يو18/22-23). وأخيرًا وبعد فشل المجمع في إدانة السيّد عن طريق الشهود الزور إتجّه رئيس الكهنة إلي السيّد المسيح نفسه ليحصل منه علي اعتراف يُدينه في نظر المجمع ويُؤدّي به إلي الموت فقال له " أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟" (مت26/63)، وكانت إجابته بالإيجاب تعني حكم الموت لأنَّهم سبق أنْ حاولوا قتله أكثر من مرّة بسبب إعلانه أنَّه "اِبْنَ اللَّه " وقالوا " نَرْجُمُكَ 000 لأَجْلِ تَجْدِيفٍ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهاً " (يو10/33)، وما كان من السيّد إلاَّ أنْ يُعلن الحق ويتقدّم إلي الموت الذي لأجله جاء وقال له " أَنَا هُوَ " (مر14/62) ، " أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ" (مت26/64) ، وهو هنا يُشير إلي ما تنبّأ به عنه دانيّال النبيّ "وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ. " (دا 7/13-14) . ونظرًا لأنَّ رؤساء اليهود لم يُؤمنوا بأنَّ يسوع الناصري هو المسيح المنتظر ابن الله وبعد أنْ نال رئيس الكهنة الإجابة المطلوبة التي تحقّق غرضهم في قتل المسيح قام بحركة مسرحيّة فمزّق ثيابه لتضخيم الموقف أمام المجمع وموحيًا لهم بعظم وخطورة الاعتراف " فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ!" (مت26/65)،
فأجمعوا علي أنَّه مستحقٌ الموت " فَأَجَابُوا: إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ" (مت26/66). وبعد هذا الحكم بصقوا علي وجهه ولطموه وسخروا منه وإستهزأوا به وجلدوه وجدفوا عليه (مت26/67لو 22/63-65). وبعد أنْ حكموا عليه بالموت تشاوروا في كيفيّة تنفيذه ثمّ قرّروا تقديمه إلي الوالي الروماني بيلاطس لينفّذ هذا الحكم فيه لأنَّ السلطات الرومانيّة كانت قد سحبت من المجالس اليهوديّة هذا الحق(4). ثانياً : محاكمته أمام الوالي الروماني:(5) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (4) كان الولاة الرومان قد جردوا المحاكم اليهودية من سلطة الحكم على أحد بالموت الذي كان من حق الوالي الروماني وحده وهذا ما عبروا عنه بقولهم لبيلاطس " لا يجوز لنا أن نقتل أحد " ( يو18/31) . (5) قال البعض زاعـماً " من المستحيل أن يكون بيلاطس قد خضع لمطالب اليهود بصلب المسيح وهو الذي كان يقمعهم بشدة وينزل بهم أحكام الإعدام دون محاكمة وكان يبطش بهم دون سبب لدرجة أن السلطات في روما استدعته لتحذيره من الاستمرار في سياسته التعسفية تلك " !! ونقول لهؤلاء أن اليهود وقفوا أمام بيلاطس يتهمون المسيح بثلاثة تهم خطيرة سياسيا ، وهي أنه ضد الإمبراطور الروماني قيصر ، كما أنه يريد أن ينصب نفسه ملكاً ويمنع أن تعطى الجزية لقيصر ، وبالتالي لو تساهل معه يكون هو ، بيلاطس نفسه بحسب هذه التهمة ، مشتركا معه في هذه الثورة ضد قيصر ومناهضا وضدا لقيصر . ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي يضطر فيها بيلاطس أن يرضخ لليهود بالرغم من قسوته وصرامته معهم فيذكر لنا المؤرخ والكاتب اليهودي يوسيفوس معاصر تلاميذ المسيح (36-100م) الأتي " نقل بيلاطس حاكم اليهودية الجيش من قيصرية إلى أورشليم ليقضي فترة إقامته الشتوية هناك ولكي يبطل الشرائع اليهودية . ولذلك أورد صور قيصر التي كانت تستعمل كشعارات وأدخلها المدينة حيث تمنعنا شريعتنا من عمل أية صورة . وكان الولاة السابقون لا يدخلون المدينة بمثل هذه الشعارات . وكان بيلاطس هو أول من أحضر هذه الصور إلى أورشليم وأقامها هناك . وقد حدث هذا بالفعل دون علم الجماهير لأنه تم أثناء الليل . ولكن ما أن علموا به حتى أتوا إلى قيصرية في جماعات كبيرة وظلوا عدة أيام يلتمسون من بيلاطس أن يزيل هذه الصور . وعندما رفض مطالبهم التي تعني الإساءة إلى قيصر لم ينصرفوا واستمروا في مطالبتهم . وفي اليوم السادس أمر جنوده بتجهيز أسلحتهم بينما جاء هو وجلس على كرسي القضاء الذي كان مجهزاً خارج المدينة بحيث لا يظهر الجيش الذي كان مستعداً للأطباق عليهم . وعندما عرض اليهود مطالبهم مرة أخرى أعطى الإشارة للجنود ليحيطوا بهم وهدد بألا تقل عقوبتهم عن الموت إذا لم يتوقفوا عن مضايقتهم ويعودوا إلى منازلهم . ولكنهم ألقوا بأنفسهم على الأرض وعرضوا رقابهم للموت . وقالوا أنهم يرحبون بالموت أفضل من التعدي على شرائعهم . وقد تأثر بيلاطس بتصميمهم على عدم المساس بشرائهم وأمر في الحال بإعادة الصور من أورشليم إلى قيصرية . وهكذا أنهزم بيلاطس في أول صدام بينه وبين اليهود " (محاكمة يسوع للفقيه الإنجليزي فرانك ج باول ، ترجمة إبراهيم سلامة ص136و137) .
وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ "، ولكن السيد" لَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ."(لو23/8-9). أولاً : لأنَّ هيرودس هذا هو هيرودس أنتيباس قاتل يوحنا المعمدان وكان يعيش مع هيروديا في علاقة تحرمّها الشريعة وقد وبّخه يوحنا المعمدان بسببها علانية فقبض عليه وأودعه السجن ثم قطع رأسه (مت 14/3-12) والذي سبق أنْ وصفه السيد المسيح بالثعلب (لو 13/31-33 وأنظر ص11). وثانياً : لأنَّه تعامل مع المسيح كمشعوذ، فأراد أنْ يرى آية تُصنع منه وأنْ يستمع لأقواله لا لكي يؤمن بل ليتفرج كما يتفرج علي المشعوذين في البلاط، كان مدفوعًا لذلك بفضوله ولكن المسيح أرفع من ذلك وأعظم. وفي نفس الوقت " وَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. " (لو23/10-11). لم يعامله هيرودس كمجرم بل كمتهوّس دينيّ يستحق الاحتقار والإزدراء. " فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ. وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هَذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». " (لو23/13-16). وكانت لهم عادة أنّ يُطلق لهم الوالي أسيرًا واحدًا يطلبوا أنْ يطلقه لهم في الفصح (مت27/15،مر15/6؛ لو23/17)، وكان هناك اسيرًا مشهورًا يُدعي باراباس أُمسك في فتنة حدث فيها قتل فطالبوا بيلاطس أنْ " أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ " (مر15/8) ، فخيّرهم بيلاطس بين باراباس ويسوع " مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. " (مت27/17-18). ولكن حدث شئ عجيب أذهل بيلاطس وجعله يتأكّد أكثر وأكثر من براءة المسيح وعظمته وسموّه " وَإِذْ كَانَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً:
قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟» أَجَابَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ: «لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرُ». فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ. " (يو 19/1-16) . مما سبق يتّضح لنا أنَّ الشخص الذي حُوكم أمام السنهدرين وأمام بيلاطس لم يكن سوي المسيح فقد أعلن أنَّه المسيح ابن الله الحي وتكلّم عن ملكوته الأبديّ وأشار إلي ما جاء عنه في نبؤه دانيال النبي كما صمت في المواقف التي لا يصمت فيها أي بشر وتكلّم حين دعت الضرورة لإعلان ذاته ومجده وملكوته أمام أعضاء مجلس السنهدرين وأعلن أيضًا عن ملكوته السماوي أمام بيلاطس وأنَّه جاء ليشهد للحق وقال لبيلاطس أنَّه ليس له سلطان عليه وأعلن خطيئة الذين أسلموه إلي بيلاطس، كما شهد بيلاطس لبرّه وسموّه وعظمته وتألمت زوجة بيلاطس في حلم من أجله وشهدت لبرّه بالوحي الإلهي. كان متهمًا في عيون اليهود ولكنه سبّب الخوف والرعب ووقعت رهبته وخشيته علي الذين حاكموه، فهل يمكن أنْ يكون سوي المسيح ؟؟؟!!!
1- لمحة تاريخية : كلمة الصليب في اليونانيّة ستاوروس (stauros) وهو آلة إعدام وتعذيب قاسية جدًا وتطبّق علي مقترفي الآثام الخطيرة، وقد إستخدمها الفينيقيّون، كما يذكر المؤرّخ اليونانيّ هيرودوت(1)، ويري كثيرون أنَّ الفُرس هم أوَّل من إخترعها وطبّقها في القرنَين السادس والخامس قبل الميلاد(2)، واستُخدمت في مصر في القرن الخامس قبل الميلاد(3)، واستخدمها بعد ذلك الإسكندر الأكبر وأهل قرطاجنة بشمال أفريقيا وأخذها عنهم الرومان واستخدموها بكثرة. ولأنَّ هذه العقوبة كانت قاسية جدًا ورهيبة فلم تُطبَّق قطّ علي الأحرار سواء الإغريق أو الرومان وإنما طُبِّقَت علي العبيد والثوّار غير الرومانيّين، ونظرًا لأنَّها أقسي العقوبات وأكثرها ردعًا وإرهابًا فقد طُبِّقَتْ بكثرة علي الثوّار المطالبين باستقلال بلادهم عن الدولة الرومانيّة، ويذكر المؤرّخ اليهودي يوسيفوس المعاصر لتلاميذ المسيح (36-100م) أنَّها طُبِّقَتْ مرّات كثيرة جدًا علي ثوّار اليهوديّة(4). وكان هناك ثلاثة أنواع من الصلبان، نوع علي شكل حرف T (Crux Commissa) وآخر علي شكل حرف X والمسمّي بصليب القديس إندراوس (Crux decussata) والثالث يتكوّن من عارضتَين متقاطعتَين + (Thecrux immissa) وهذا النوع هو الذي صُلِبَ عليه السيّد المسيح وهذا ما يؤكّده لنا موقع العنوان الذي سُمِّر علي الصليب أعلي رأس السيّد المسيح (يو19/19)، وهذا ما يؤكّده التقليد أيضًا بصورةٍ قاطعةٍ(5). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Herodotus 3: 125
<B><FONT face="Times New Roman" color=red size=3><SPAN style="FONT-WEIGHT: bold; FONT-SIZE: 12pt; COLOR: red; mso-bidi-font-family: 'Times New Roman'">(2) Ibid
2 - الجلد وطريق الصليب : بعد الحكم بإدانة متهم والحكم عليه بالإعدام صلبًاً كان لابد أنء يُجْلَد حسب عادة الرومان حتي يسيل الدم من معظم أجزاء جسده، وعملية الجلد هذه كانت تُسْرِع بالموت وتُقلّل من سكراته. وكان عليه بعد ذلك أنْ يحمل خشبة الصليب الأفقيّة التي ستُسَمَّر عليها يداه إلي مكان الصلب وهو عادة خارج المدينة كما كان عليه أنْ يمرّ بأكبر عدد ممكن من شوارع المدينة وحواريها وطرقها الأكثر ازدحامًا ليراه أكبر عدد ممكن من الناس، كما كان يُصْلَب عادةً في مكان مرتفع وعام ليراه العامة من مسافات كافية، حتي يكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه مخالفة القانون الروماني أو الثورة علي الإمبراطوريّة المستعمرة، وكان يتقدّم أمامه أحد الضبّاط أو الجنود يحمل لوحة مكتوب عليها التهمة الموجّهَة ضدَّه والتي تُلصَق بعد الصلب علي الصليب ليراها الجميع، وعندما كان يصل إلي ساحة الإعدام يُجَرَّد المصلوب من ملابسه وتُقَسَّم علي الجنود القائمين بعملية الصلب وتُسْتَر عَوْرَتُه فقط بقطعة من القماش ثم يوضع علي الأرض وتُسَمِّر يديه بقسوة وفظاعة بالمسامير الكبيرة والسميكة أو تُربَط بالحبال في العارضة الأفقيّة، التي كان يحملها، ثم تُرْفَع العارضة والمصلوب لتُثَبِّت بالخشبة القائمة والتي كانت مثبتة في الأرض وفي منتصفها كتلة خشبية بارزة صغيرة تُسَمَّي السرج ليستقر عليها ردفَي المصلوب ولتحفظ وزن الجسم حتى لا تُمزِّق المسامير يديه، وتُثَبِّتْ قدمَيه بمسمارٍ ضخم من خلال مشطي القدم معًا أو تُسَمِّر كل قدمٍ منفصلة(6). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (6) أكتشف سنه 1968م في جيف آت ها – مفتار بأورشليم بقايا عظام من القرن الأول الميلادي في معظمه (كان تجمع فيه عظام الموتى) تعطينا تفصيلات عن طرق الصلب زمن المسيح، تضم عظمتين لعقب قدم شخص صلب في القرن الأول ما يزالا مثبتين معاً بمسمار حديد وأخد بطول 14سم.the International St. B. Ency. VOL. 1, P, 829.
وبعد أنْ يُعَلَّق المصلوب علي الصليب كان يُعاني آلامًا رهيبةً قاسيةً من آثار المسامير والجروح التي تأخذ في التورم والتلف إلي جانب التعرّض للحشرات المختلفة والطيور الجارحة والحيوانات المتوحّشة وغيرها، وكذلك من التعرّض للطقس الذي يكون أحيانًا شديد الحرارة وأحيانًا أخري شديد البرودة، ويُترَك وحيدًا غير قادر علي أي شئ بالمرة بما في ذلك خدمة الوظائف الجسديّة، ومما يُزيد من آلامه التعرّض للإهانة والسخرية من الذين كانوا يشاهدون عملية الصلب. وكانت الآلام الجسديّة والنفسيّة والعقليّة التي يتضمنّها هذا الموت الرهيب البطيء لا يمكن تخيّلها ولا تُوصف والتي قد يُصاب المصلوب من جرّائها بالجنون أو الصرع أو التشنّج. ويستمر المصلوب في هذا العذاب القاسي الرهيب والذي كان يعانيه ويستمر فيه علي الصليب مدّة من 36 ساعة إلي أربعة أيّام وقد إستمر بعض المصلوبين أسبوعًا. وماتوا مثل المجانين. وكانت عملية الجلد التي تتم قبل الصلب ودرجة كثافتها إلي جانب قوّة بنية الجسم والطريقة التي يُصْلَب بها المصلوب سواء كانت بتسمير يديه ورجليه أو بربطهم بالحبال هي التي تحدّد طول المدة التي يقضيها المصلوب علي الصليب. وبعد موته كان يُتْرَك جسده ليتعفَّن علي الصليب إنْ لم يُطالب أحد بدفنه.
3 - الصلب والناموس اليهودي : لم تُوجَد عقوبة الصلب في الناموس وإنما طبّقها عليهم الرومان بكثرة، حتي أصبحت معتادة عندهم. وكان الناموس ينصّ علي قتل المجدّفين رجمًا بالحجارة ثم يُعَلَّقون بعد ذلك علي شجرة كعقوبة إضافيّة دلالة علي أنَّهم كانوا مجدِّفين علي الله ومتّهمين من قِبَلَه. وكان لابد أنْ تُدْفَن الجثة في نفس اليوم حتي لا تُدَنِّس الأرض لأنَّ المُعَلَّق كان يُعْتَبَر ملعونًا، " وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً»." (تث21/22-23) .
4 - في الطريق إلى الجلجثة (الجمجمة) : بعد الحكم علي الرب يسوع المسيح بالصلب وجلده خرج من دار الولاية حاملاً صليبه الذي سيُصْلَب عليه وسار به في شوارع أورشليم وطرقها الأكثر ازدحامًا وسط حرّاسه من أربعة جنود وقائد مائة ومحاطًا بجماهير غفيرة لا حصر لها، ونظرًا لأنَّه كان قد قضى أسبوعًا مثيرًا في أورشليم إنتهي بمعاناته في البستان وهروب تلاميذه عند القبض عليه وظلَّ يُحاكم طوال الليل من الساعة الواحدة ليلاً وحتى التاسعة صباحًا ( بتوقيتنا الحالي ) أمام رؤساء الكهنة والسنهدرين وأمام بيلاطس البنطي وهيرودس وقد عاني أثناء هذه المحاكمات كل صنوف الإهانة والسخرية من سبٍّ ولطمٍ وركلٍ وضربٍ وبصقٍ علي وجهه وجلدٍ، وكان ظهره متورِّمًا ومتهرئًا وممزقًا من شدّة وقسوة سياط الجلادين المركب بها قطع من الرصاص أو العظم انغرست في لحمه بقسوة وعنف إلي جانب آلام إكليل الشوك الذي انغرست أشواكه في رأسه فسببت له آلاماً شديدة وصارت تنزف بغزارة، وكما كان جسده ينزف كان قلبه يُدْمِى بسبب ما لاقاه من نكران وجحود، فنال منه التعب والإجهاد الشديد ولم يقوَ علي حمل الصليب فسقط به علي الأرض عدَّة مرات، كما يؤكِّد التقليد، فسَخَّر الجند الرومان أحد المارة، وهو سمعان القيراوني، ليحمل معه الصليب " وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً اسْمُهُ سِمْعَانُ فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ." (مت27/32) ، " أَمْسَكُوا سِمْعَانَ رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ." (لو23/26) . كان سمعان هذا من مدينة القيروان بشمال أفريقيا والتي كان بها مستعمرة تضمّ عددًا كبيرًا من اليهود وقد جاء ليحضر الفصح في أورشليم ولزيارة الهيكل ولما سخَّره الجنود الرومان ليحمل الصليب خلف السيّد لم يكن يجرؤ أنْ يرفض طلبهم هذا فحمل الصليب مُسَخَّرًا ولكن شئ عجيب قد حدث، لا ندركه، جعل سمعان يري ما لم يره الجند ويجد في شخص السيد المسيح المتجِّه إلي ساحة الإعدام ما
جعله يُؤمن به ويُصبح هو وأولاده وزوجته من أتباعه بل ومن المتقدّمين في الكنيسة، والمعروفين في كنيسة رومية بالذات، فيقول عنه القدّيس مرقس في إنجيله الذي دوّنَه في رومية " سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ " (مر15/21)، ويكتب القدّيس بولس في رسالته إلى رومية مسلمًا علي روفس هذا ابن سمعان وعلي أمّه زوجة سمعان التي يعتبرها أمّه، "سَلِّمُوا عَلَى رُوفُسَ الْمُخْتَارِ فِي الرَّبِّ وَعَلَى أُمِّهِ أُمِّي." (رو16/13). فقد استطاع السيّد. المحكوم عليه بالإعدام صلبًا، وهو حامل صليب العار والهوان أنْ يحوِّل سمعان هذا إلي أحد اتباعه المؤمنين به. فهل يمكن أنْ يكون آخر غير المسيح ؟؟!! كلا. لأنَّه لا يستطيع أنْ يفعل ذلك سوي المسيح وحده. وفي الطريق إلي الجلجثة، "وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ." (لو23/27)، وكان ضمن هؤلاء كثيرون من الذين اِتّبعوه عندما دخل أورشليم ظافرًا منتصرًا وكثيرون من أتباعه غير المعروفين لرؤساء الكهنة وبعض اتباعه الذين كانوا يتابعونه من بعيد، كما فعل بطرس وقت المحاكمة (لو22/54)، وكثيرات من النسوة اللواتي كن ينحن عليه، وبرغم ما كان يقاسيه من آلام جعلته يسقط تحت حمل الصليب إلا أنَّه أشفق عليهن وعلي المصير القادم علي أورشليم واتجه إليهن، محذرًا من الدينونة الآتية عليها بسبب رفضها للمسيح وتسليمها له ليموت ميته العار والهوان ، وقال " يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا. لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟». " (لو23/28-31). وهو هنا يشفق ويتنبّأ ويحذِّر برغم الآلام الرهيبة التي كان يُعانيها والموت الرهيب الذي كان ذاهبًا إليه، فقد أشفق عليهُنَّ من المصير الأتي علي المدينة ومن
فيها وتنبَّأ بالحصار والدمار والمصير المظلم الذي ستواجهه والويلات التي سيعانيها سكانها لدرجة أنَّ النساء اللواتي لم يحبلن ولم ينجبن يكنَّ محظوظات في تلك الأيام التي ستكون فيها قسوة الحصار والويلات التي يُعانيها الشعب بسببه وقسوة الرومان العظيمة حتي أنَّ الناس سيبحثون عن الموت من الجوع والعطش واليأس الذي يوصل بعضهم إلي درجة يأكلون فيها لحوم البشر بعد أن يكونوا قد أكلوا جميع الحيوانات الطاهرة والنجسة. ويُوضِّح ذلك بما لاقاه هو نفسه علي أيدي صالبيه، فإنْ كانوا قد عاملوه بهذه القسوة وهم يعلمون أنَّه برئ فكيف سيتعاملون مع العصاة والمتمردين والثوار في زمن ذلك الحصار والدمار الذي تنبَّأ به، كما يتضمَّن قوله أيضًا أنَّه إذا كان بنو إسرائيل قد فعلوا ذلك بملكهم الإلهي الذي استقبلوه بالمزامير وسعف النخل فكم وكم ستكون دينونة الله عليهم وهم الأشرار العصاة. وقد تمَّ ما تنبَّأ به السيّد المسيح حرفيًا سنه 70م فقد حاصر الرومان المدينة ودمّروها وأحرقوا الهيكل وهلك في أورشليم أكثر من مليون يهودي في أيام قليلة. والسؤال الآن : هل يمكن أنْ يكون هذا الشخص، الذي حوَّل سمعان المُسَخَّر لحمل صليبه إلي أحد المؤمنين به والذي أشفق علي الباكيات عليه وعلي مصير أورشليم والذي تنبَّأ عن ما سيحدث لهذا الشعب وهذه المدينة في المستقبل القريب، وهو في هذا الموقف الرهيب، إنسانًا آخر غير المسيح ؟؟!!والإجابة : كلا، لا يمكن أنْ يكون هذا سوي المسيح " رب المجد " الذي يقدر علي كل شئ في أي وقت وتحت أي ظرف، خاصة وأنَّه وضع نفسه تحت هذه الظروف بإرادته. 5 - على الصليب بين لصين : ثم وصلوا بالسيّد إلى " مَوْضِعِ «جُلْجُثَةَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ»." (مر15/22) وجردوه من ملابسه وقسمها الجنود الأربعة على أنفسهم ثم القوا قرعة على القميص " أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ نَشُقُّهُ بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ». " (يو19/23-24)، ولم يبقَ له سوي مئزر - ساتر عورة - كما يقول التقليد. ثم قدموا له " أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ.. " وذلك لتخفيف آلامه(7) ولكنه " وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ " (مت27/34)، لأنَّه لم يردْ تخفيف آلامه بل فضَّل أنْ يشرب الكأس حتي الثمالة ثم ألقوه علي خشبة الصليب بقسوة وفظاظة وعنف ودقُّوا المسامير الطويلة والغليظة في يديه ورجليه مُعَلَّقين إيَّاه علي الصليب أو كما يقول القدّيس بولس الرسول "مُسَمِّراً ايَّاهُ بِالصَّلِيبِ " (كو2/14). " وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. " (مر15/27)، " وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ. " (يو19/18) وذلك للتشهير به وزيادة في تحقيره وكان صليبه مرتفعًا عنهما زيادة في السخرية. وكان الجميع يعيِّرونه وكذلك أيضًا اللصان المصلوبان معه (مر15/29-32؛ مت27/39-44). ولكنه هو كان يفكر بصورةٍ أخري وبأسلوبٍ آخر يتّفق مع جلاله وعظمته وشخصيّته الإلهيّة: 1 - فبينما كان الجنود يدقُّون المسامير في يدَيه ورجلَيه بقسوةٍ وعنفٍ صلي لهم وقال " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " (لو23/34) ، ولو كان المصلوب شخصًا آخر غير المسيح لصرخ بجنون وسبَّ ولَعَنَ وجدَّف ولكنَّه كان يعلم أنَّهم يفعلون به ذلك وهم يجهلون حقيقته " لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ. " (1كو2/8)، كما أنَّه وهو في هذه الظروف الرهيبة طبَّق كما سبق أنْ نادى به " وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ " (مت5/44). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ (7) كانت بعض سيدات أورشليم الرحيمات يحضرون هذا المشروب ليعمل كمخدر ومخفف لآلام بعض المصلوبين عملاً بقول سليمان الحكيم "أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمرى النفس" أم 6:31.
2 - وأثناء تجديف أحد اللصين عليه أشرق نوراً في قلب الآخر ، اللص اليمين كما يذكر التقليد، وأدرك حقيقة المسيح والذي يبدو أنَّه شاهد وسمع أقواله أو علي الأقل سمع عن أعماله وأقواله قبل القبض عليه كما أنَّه شاهده علي الصليب في سموّ وجلال وعظمة غير معهودين في المصلوبين العاديين فأدرك أنَّه أكثر من مجرَّد إنسان بل وأدرك أنَّه المسيح الآتي إلي العالم والذي له السلطان والملكوت، كما تنبأ دانيال النبي (دا 7/13-14)، فوبخ زميله قائلاً "أوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». " (لو23/40-42)، عرف السيّد صدق كلمات اللص وقبل توبته ووعده بأنَّه سيكون معه في الفردوس " فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»." (لو23/43) أي في مقرِّ أرواح الأبرار والقديسين، وهنا بدأ يتحقق قول المسيح " وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ " (يو12/32). 3 - وكان يقف بالقرب من الصليب المعلَّق عليه كثيرات من النساء اللواتي صعدن معه من الجليل منهن أُمه مريم العذراء وأخت أمه مريم زوجة كلوبا وسالومي ومريم المجدلية (مر15/40-41)، وكان يقف هناك أيضًا يوحنا الحبيب ابن زبدي، التلميذ الذي كان معروفًا عند رئيس الكهنة (يو18/15). وكانت العذراء في تلك اللحظة تعاني مما سبق وتنبَّأ به سمعان الشيخ عندما ذهبت به إلى الهيكل لتقدم له ذبيحة كما حسب الناموس ، قائلاً " وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ " (لو2/22-35)، فأشفق السيّد علي أمّه (برغم ما كان يعانيه من آلام) من الحزن والوحدة ومما قد يحدث لها من اليهود فسلّمها لتلميذه الحبيب يوحنا " فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً قَالَ لِأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ هُوَذَا ابْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ. " (يو19/26-27). 4 - ثم عمَّت الظُلمة الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة (مت27/45) ، أي من الساعة الثانية عشرة إلي الثالثة ظهرًا بتوقيتنا الحالي.
اختفت الشمس في عزّ الظهر ورفضت أنْ تُشرق علي الأرض التي يتألّم عليها سيّد الكون وعبَّرت الطبيعة عن حزنها لآلام الفادي كما سبق أنْ عبَّرت عن فرحها بميلاده فأشرق نجمًا من المشرق وأضاء السماء (مت2/2و10) ابتهاجًا بذلك الميلاد. وفي أثناء ساعات الظلمة الثلاث هذه إجتاز الآلام النفسيّة والروحيّة وإحتجب وجه الآب عنه كنائب وبديل عن الخطاة. فقد كان في هذه الساعات كما قال يوحنا المعمدان " حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ." (يو1/29)، وكما تنبَّأ إشعياء النبي " مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا." (إش53/5)، برغم أنَّه البار الذي لم يعرف خطية، إجتاز المرحلة التي كان يجب أنْ يدخلها الخطاة، مرحلة الآلام الروحيّة واحتجاب وجه الآب ومن ثمَّ صرخ مصليًا إلي الآب كنائب عن البشرية " إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي» أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ " (مت27/46)، فقد بذل نفسه كما قال " فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ " (مت20/28). 5 - وبعد أن قضى على الصليب ست ساعات ذاق فيها الآلام الرهيبة وعانى طوالها من سكرات الموت وفقد فيها معظم الدم والسوائل التي في جسده وتعرض خلالها إلى حرارة الظهيرة ، خاصة في الساعات الثلاث الأولى التي لم تغرب فيها الشمس ، فشعر بعطش شديد، خاصة من الحمى الشديدة التي انتابته ، وقال " أَنَا عَطْشَانُ " ، يقول الكتاب " بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ». وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ. " (يو19/28-29). 6- وبعد أنْ أخذ الخلَّ رأي أنَّ كلّ شيء قد كَمُل إذ قد تمَّم كلّ ما جاء لأجله كما سبق وخاطب الآب قائلاً " الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. " (يو17/4) ، وعلي الصليب كان عمل الفداء قد تمَّ ومن ثمَّ فقد نطق كلماته الأخيرة بصوتٍ عالٍ وبصرخةِ النصر " قَدْ أُكْمِلَ " (يو19/30).
6 - العجائب والمعجزات التي رافقت عملية الصلب : حدثت عدَّة ظواهر عجيبة أثناء الصلب وبعد وفاة المسيح مباشرة، فقد اِختفت الشمس وعَمَّتْ الظُلمة علي الأرض مدَّة الثلاث ساعات الثانيّة لصلبه ولحظة موته " أَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ." (لو23/45)، " وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ." (مت27/51-53). أ -احتجاب الشمس: هذه الظاهرة التي حدثت أثناء صلبه وعند موته مباشرة تُعْلِن لنا عن غضب الطبيعة بل والكون علي شرِّ الإنسان الذي صَلَبَ البار، وكان ذلك معجزة بكل المقاييس تُبرهن علي أنَّ المصلوب لم يكن سوى "رب المجد " . ب -انشقاق حجاب الهيكل: وحجاب الهيكل هذا هو ستارة سميكة جدًا بسمك راحة اليد وبطول 60 قدم وبعرض 30 قدم وهو كما يقول التلمود والمؤرّخ الكنسي الذي من أصل يهودي أدرشيم(8)، مُكَوَّن من 72 مربعًا منسوجًا معًا وكان ثقيلاً لدرجة أنَّه يحتاج إلي 300 كاهن ليُعمل كل منها، وهو ضخم وغالي الثمن جدًا، ويقول المؤرّخ اليهودي والكاهن المعاصر لتلاميذ المسيح يوسيفوس(9)أنَّه ستارة بابليّة من نسيج مُطَرَّز بالكتان النقي وباللون الأزرق والقرمزيّ والأرجوانيّ ومُزَيَّن برسومٍ مُطَرَّزة بصورةٍ رائعةٍ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ (8) J.D wight Pentecost, The Words and Works of Jesus. ch. P. 488 (9) The Jewish Wars B. 5:4, 5.
وكان يفصل بين القُدْس الذي تقام فيه العبادة اليوميّة وقدس الأقداس، الذي يُوجد به تابوت العهد وكرسي الرحمة، والذي يُمثِّل الحضور الإلهي ولا يُفتح إلا مرَّةً واحدةً في السنة في يوم عيد الكفارة ولا يدخله إلا رئيس الكهنة هذه المرة الواحدة فقط ليُقَدِّم دم ذبيحة عيد الكفارة العظيم (خر26/33؛لا16/14) التي تعني أنْ تقدم الخطاة إلي الله لا يكون إلا بدمّ الذبائح " وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ! " (عب 9/22). وقد استمرَّت هذه الذبيحة الدمويّة تُقدَّم من موسي إلي المسيح، ولكن عند موت المسيح إنشقَّ حجاب الهيكل من أعلي إلي أسفل بقوَّة إلهيّة دون تدخّل أي قوّة ماديّة أو بشريّة فقد إنشقَّ حجاب الهيكل قبل الزلزال مباشرة ولم يكن في إمكان أي قوَّة بشريَّة أو ماديَّة أنْ تشق هذه الستارة التي في سمك راحة اليد والمصنوعة من الكتان الثمين بأي وسيلة ماديّة، وإنما شقتهُ قوَّة إلهيَّة علويَّة علامة علي أنَّ عهد الذبائح قد إنتهي فقد أُزِيلَ الحاجز الذي كان يفصل بين الله والناس بدمِّ المسيح الذي قَدَّم ذاته نيابة عن الخطاة فوُجِدَ فداءً أبديًا. ج -الزلزال وتفتت الصخور: وتلي انشقاق حجاب الهيكل تزلزل الأرض وتشقق الصخور، وهذا الزلزال الذي يفوق الطبيعة أعطى برهاناً واضحاً أنه تم بعمل الله ، وتشققت الصخور إعلاناً بأن الأرض ارتعبت في تلك اللحظة الرهيبة التي حدثت فيها هذه الجريمة المخزية للعالم . د - قيام أجساد بعض القديسين الراقدين: وقام بعض القدّيسين الراقدين من الموت لحظة موته وظهروا للكثيرين بعد قيامته، خاصَّة لتلاميذه، وكانت قيامتهم علامة إلهيَّة ومعجزة سمائيَّة رافقت موته علي الصليب وبرهنت علي أنَّه القادر علي إحياء الموتي حتي عندما فارقت روحه جسده، كما برهنت علي القيامة العامة وعلي أنَّهم كانوا أوَّل ثمار انتصاره علي الموت(10). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (10) ) أولئك الموتى الذين عادوا إلى الحياة يرى البعض أنهم من قديسي العهد القديم (أنظر 2بط 4:3) ، ويرى البعض الآخر أنهم من الذين شاهدوا المسيح وآمنوا أنه المسيح الآتي إلى العالم وقد ماتوا قبل صلبه ، ولما قاموا من الموت ظهروا للكثيرين الذين كانوا يعرفونهم وهم أحياء . بينما يرى كثيرون من أباء الكنيسة ومن مفسري العصر الحديث أن أولئك الموتى هم الذين بشرهم المسيح عند نزوله إلى الهاوية بعد موته (1بط 19:3) واصطحبوه إلى المجد عندما صعد إلى السماء .