بعد نياحة البابا سيمون لم يتمكن الأساقفة من إقامة خلف له، فخلا الكرسي ثلاث سنوات، بعد ذلك طلب أثناسيوس رئيس ديوان الأمير عبد العزيز من الأمير أن يسمح للأنبا غريغوريوس أسقف القيس أن يتولى شئون الكنيسة، فكتب له أمرًا بذلك. وكان الأنبا غريغوريوس إنسانًا تقيًا محبوبًا حتى لم يفكر الكل في سيامة بطريرك لمدة أربع سنوات، وأخيرًا أجمع الرأي علي سيامة الكسندروس بطريركًا، وكان راهبًا بدير الزجاج وديعًا حكيمًا عالمًا بالكتب المقدسة، ما أن رآه الأمير حتى أحبه. سيامته بعد استئذان الوالي أُقيم الكسندروس بطريركًا في 30 برمودة من عام 695م، في عيد القديس مارمرقس، وكانت أيامه الأولي كلها صفاء وشمل الجميع سرور عظيم، وساد الكنيسة السلام. متاعبه مات الأمير عبد العزيز فحزن عليه جميع المصريين من مسلمين ومسيحيين، إذ عرف بعدالته وحكمته، وجاء من بعده عدة ولاة هم عبد الله وقرة وأسامة وعبيد الله كانت أسماؤهم رمزًا للعنف والقسوة علي الجميع، حيث ضاعفوا الضرائب بصورة صارخة، فلم يسمحوا بدفن ميت دون دفع ضريبة عنه، وكان الكل ساخطًا عليهم، وبلا شك كانت الضرائب أضعافًا مضاعفة علي المسيحيين. إذ تولي عبد الله الولاية وجاء إلي الفسطاط جاء البابا يحييه، فسأل عنه فقيل إنه أبو الأقباط، فقبض عليه وسلمه لأحد حجابه وطلب منه أن يهينه حتى يدفع ثلاثة آلاف دينار. تقدم شماس يدعي جرجس إلي الأمير يسأله: "أيهدف مولاي إلي اعتقال البابا أم إلي الحصول علي المال؟"، وإذ أظهر الأمير رغبته في المال طلب منه أن يخلي سبيل البابا حتى يقدر أن يطوف معه وسط الشعب ويجمع له المال، وبالفعل طاف معه في الوجه البحري حتى جمع المبلغ وسلمه للوالي. هذا وقد بذل عبد الله كل طاقاته للإبطال اللغة القبطية في الدواوين والمدارس ومحاكمة من يستخدمها. بعد عبد الله تولي الأمير قرة الولاية عام 701، وتكررت نفس المأساة وقام البابا بزيارة الوجه القبلي، ففرح به الشعب جدًا إذ لم يكن قد زراهم البطريرك قط منذ أيام الأنبا بنيامين (البابا 38) حين كان مختفيًا بينهم، وأخيرًا قام بسداد المبلغ. ارتفعت الضرائب جدًا خاصة علي الأقباط، حتى اضطروا إلي بيع أواني المذبح الفضية، واستبدالها بأوانٍ خشبية أو زجاجية لتسديد الجزية، وكان هناك سخط من المسلمين أيضًا علي الأمير. مرة سعي بعض الأشرار لدي الوالي متهمين البابا بأن قومًا لديه يضربون الدنانير، فأرسل جماعة من الجند أهانوا البابا وصاروا يضربون أصحابه حتى قاربوا الموت، وإذ ظهر بطلان هذه الوشاية تركوا الدار البطريركية. بجانب هذه المتاعب الخارجية سقط البابا تحت متاعب من كنائس الإسكندرية وكهنتها إذ اعتادت منذ عهد قسطنطين أن تقدم لها البطريركية معونات، لكن بسبب الغرامات التي حلت بالبابا والضيق الخارجي لم يستطع البابا أن يقدم شيئًا فثار بعض الكهنة والأراخنة ضده، وكان يتوسل إليهم موضحًا لهم كيف صارت الكاسات التي تقدم فيها الأسرار المقدسة من زجاج بسبب ما حلّ بالكنيسة من ضيق، وإذ يقبلوا كلماته اضطر إلي انتهارهم وطردهم فخرجوا يشنعون عليه. بجانب هذه المتاعب حلّ بالبلاد قحط شديد ووباء، فمات كثيرون بسبب الجوع والمرض، وكان البابا مع الأساقفة يجولون في البلاد ليسندوا الشعب بسبب ما حلّ بهم من كوارث. ومن متاعبه أيضًا ما أثاره طبيب بيزنطي اسمه أنوبيس نجح في استمالة والي الإسكندرية بسبب مهنته، مقنعًا إياه أن يقيمه أسقفًا علي الإسكندرية، وإذ تحقق له لك صار يقاوم البابا بكل طاقاته مستغلاً صداقته مع الوالي، فثار الشعب عليه جدًا، واضطر من الخوف أن يلجأ إلي البابا الذي استقبله بمحبة، فخجل جدًا وأعلن ولاءه للبابا، وبقي هكذا علي ولائه مدي حياته. لما صار حنظله بن صفوان واليًا عام 713 أراد أن يرسم علي يدي كل مسيحي صورة الأسد (الوحش)، ثم قبض علي البابا البطريرك وأمره بذلك، فطلب منه مهلة ثلاثة أيام، فدخل إلي مخدعه واشتهي الانطلاق من هذا العالم ولا يري ما يحل بشعب الله. وإذ تزايد المرض به جدًا سأل قوم الوالي أن يسمح له بالانطلاق إلي كرسيه بالإسكندرية فحسبه يتمارض، لكنه أخذ مركبًا وانطلق سرًا إلي الإسكندرية، وإذ علم الوالي أرسل وراءه قومًا ليقبضوا عليه فوجدوه قد تنيح، فقاموا بتعذيب تلاميذه. كانت مدة إقامته علي الكرسي 34 سنة ونصف، وقد تنيح في 7 أمشير (سنة726م).
من رجال القرن الثالث، كان في الغالب وثنيًا، بهرته المانية فاعتنقها لكنه اكتشف رذائلها وأخطاءها فاعتنق المسيحية. وقد نال شهرة خاصة بسبب مقالة ضد المانيين، حيث امتدح بساطة الفلسفة المسيحية وفاعليتها، وقارن بينها وبين تعاليم المانية المتناقضة غير المنطقية. ويعتبر عمله مصدرًا هامًا في دراسة المانية. يري المؤرخ فوتس Photivs أن الكسندروس كان أسقفًا.
---------------------------
الكسيوس القديس
نال القديس الكسيوس Alexis شهرة عظيمة في منطقة الرها (أديسا) بمنطقة ما بين النهرين، وقد دعي برجل الله، كما عرفه الغرب، ففي القرن الرابع عشر اختير ليكون شفيعًا لجماعة تهتم بالتمريض دعيت "إخوة الكسيوس". وهو يمثل حياة الإنسان الذي يختار حياة الفقر بإرادته فيكون بركة لكثيرين خلال فقره وتقواه. نشأته ولد في النصف الثاني من القرن الرابع من أبوين تقيين محبين للفقراء، كان والده أفيميانوس Euphemian سيناتور بروما، ووالدته اغلايس Aglae عاقرًا، رزقا بهذا الطفل بعد زواجهما بفترة طويلة فربياه بروح التقوى والعبادة. كان مشتاقًا لتكريس حياته للعبادة في بتوليه الروح والجسد، لكن والديه اختارا له فتاه جميلة غنية وتقية، وبسبب حيائه لم يستطيع مقاومة والديه، لكن في أول يوم لعرسه قدم لعروسه خاتمًا ثمينًا وزنارًا قيّمًا (ربما قبل إتمام سر الزواج، في الليلة السابقة)، ثم تخفي في زي بسيط وهرب إلي اللاذيقية. فحزن عليه والداه وزوجته وصاروا في مرارة شديدة يبحثون عنه. خشي لئلا يتعرف عليه أحد فانطلق من اللاذيقية إلي أورفا بسوريا، وكان هناك يبكر كل يوم إلي الكنيسة يقضي نهاره متعبدًا لله، ثم يخرج ليجد كسرة خبز كأحد الفقراء ويعود إلي الكنيسة يقضي غالبية الليل في العبادة. إن كان قد عاش كفقير وحقير، لكن لم يكن ممكنًا له أن يخفي غناه الداخلي، فكان سبب تعزية للفقراء الذين خالطهم وشاركهم فقرهم. أما الأغنياء ومتوسطو الحال فأدركوا من رقته ووداعته وبشاشته أنه ليس بفقير عادي، إنما هو رجل الله المتخفي! قيل إن كاهن الكنيسة إذ كان واقفًا أمام أيقونة العذراء سمع صوتًا يؤكد له أن هذا الفقير الذي ينام كل ليلة عند الباب هو رجل بار، وتكرر الأمر مرة أخري، فطلب الكاهن من الكسيوس أن يذهب معه لبيته، وإذ شاع الأمر في المدينة لم يحتمل كلمة كرامة، فانطلق إلي اللاذيقية وقصد سفينة ليذهب إلي طرسوس، لكن شدة الريح غيرت اتجاه السفينة فاتجه إلي إيطاليا، وعاد إلي بلده وقد اختفت عنه ملامحه. انطلق إلي قصر والده الذي عرف بحبه للفقراء، فطلب من الخدم أن يقبلوه عندهم، فقدموا له أحقر موضع، وللأسف كان يعامل منهم بقسوة واحتقار واشمئزاز بسبب ثيابه الرثة وفقره الشديد. كان كل ما يملكه هو أيقونة للصلبوت، يقضي كل وقته في العبادة والصلاة، لا يخرج إلا إلي الكنيسة مرة في الأسبوع لتناول الأسرار المقدسة. بقيّ علي هذا الحال 17عامًا، يرى والديه دون أن يعرفاه. وإذ عرف أن ساعة انتقاله قد جاءت كتب كل ما حدث له في قرطاس وأمسك به ليصلي، وينتقل وهو ممسك بالقرطاس. قيل إن والده كان يصلي في ذلك الوقت، وكان الأسقف أينوشنسيوس الأول هو الذي يرأس الصلاة، وقد سمع كل الحاضرين صوتًا من السماء يقول إن بارًا قد انتقل الآن في بيت أوفيمانوس. بعد القداس انتقل الأسقف مع السيناتور إلي البيت ليجدا الكسيوس منتقلاً وممسكًا بالقرطاس. عرف السيناتور وزوجته ابنهما فبكيا بمرارة وصارا يقبلانه ثم دفناه وكان ذلك عام 436م، وقد أظهر الله عجائب كثيرة. جاء في بعض المخطوطات اليونانية أنه انتقل في مستشفي بالرها وأنه بعد دفنه في المقابر العامة عرف أسقف الرها قصته فأخرج جثمانه ودفنه في مقبرة خاصة.
أسقف أحد بلاد المشرق، كان يوبخ الوالي يوليكوس علي عبادته للأوثان، فأجابه: "إن كنت في نظرك كافرًا لأني لا أعبد المصلوب، فإنني أجعلك تترك عبادته". ثم سلمه لأحد نوابه الذي قام بتعذيبه سنة كاملة، وإذ لم ينثن عن إيمانه أوقد نارًا وطرحه فيها فلم يمسه آذى، فآمن جمع كبير من المشاهدين. قطعت رؤوس هؤلاء المؤمنين مع رأس هذا الشهيد لينالوا إكليل الاستشهاد، وكان ذلك في الثالث من بؤونة.
----------------------
الماخوس الشهيد
يقدم لنا الشهيد ألماخوس أو تلماخوس Almachus, Telemachus صورة حية للنفس الباذلة التي لا تطيق الشر ولا تقبل القسوة، تقدم حياتها لتفتدي بالرب المتألمين. عاش هذا القديس حياته الديرية في الشرق، وإذ جاء إلي روما وكان وقت عرض ألعاب المجالدين، حيث تحتشد الآلاف في المسرح لتنظر الأسري أو العبيد ينزلون الساحة ويمسكون بعض الأسلحة يتقاتلون بلا هدف إلا لبهجة النفوس المتعطشة لسفك الدماء، فتتحول الساحة إلي مجزرة بشرية. تسمي هذه الألعاب باستعراضات المجالدين The gladiatorial shows . تحولت هذه الاستعراضات إلي نوع من الفن، فصار ينزلها أحيانًا بعض الأحرار مقابل مبلغ من المال ليعرضوا حياتهم للموت، بل وأحيانًا يشعر بعض النسوة بالبهجة أن ينزلن الساحة يتقاتلن، وكان البعض يُقاتل وهو معصوب العينين، وأحيانًا كان يُقتل الآلاف في يوم واحد لمجرد الابتهاج بالاحتفال بعيد روماني. رأي الراهب الشرقي هذا المنظر البشع ولم يعرف ماذا يفعل سوي أنه في محبة نزل إلي الميدان، وعبثًا حاول التفاهم، فدخل وسط المصارعين معرضًا حياته للخطر، فاغتاظ المصارعون إذ أفقدهم بهجة القتال فقام الكل عليه يرجموه. في الحال أحس الإمبراطور هونريوس بهذا القلب المحب، واعتبره شهيدًا للحب، وأعلن إلغاء هذا النوع من الرياضة حوالي سنة 400م (يعيد له الغرب في أول يناير).
من كتاب القرن الرابع عشر. وضع "كتاب النهج السديد والدر الفريد فيما بعد تاريخ ابن العميد"، روي فيه أخبار مماليك مصر من عهد الملك الظاهر بيبرس (سنة 1260م) إلي الملك الناصر بن قلاوون (سنة 1340م). ذُكر اسمه بالكتاب "الفضل" بدلاً من "المفضل".
---------------------------
الوتاريوس وأمه أنثيا
أسقفيته ولد حوالي عام 98 م، وكان والده أوغانيوس قاضيًا يحتمل أن يكون مسيحيًا، ووالدته أنثيا Anthia إنسانة مسيحية تقية قامت بتربية ابنها خاصة بعد وفاة والده. قدمته للأب أناكليتوس أسقف روما الذي اهتم به روحيًا ثم عهد به في يدي أسقف بمدينة إيكانية يدعي ديناميوس. وقد ظهرت مواهب إلوتاريوس Eleutherius وعلمه مع حياته الفاضلة وشجاعته أثناء الاضطهادات خاصة بعد سيامته كاهنًا في سن الثامنة عشرة. إذ بلغ العشرين من عمره سيم أسقفا علي بلاد إيليريا (إسكلافونيا) Illyrium فآمن علي يديه كثيرون الأمر الذي أثار بعض الأشراف الوثنين فبعثوا إلي الإمبراطور يخبرونه بخطورة هذا الأسقف علي العبادة الرسمية للإمبراطور. القبض عليه أرسل الإمبراطور هادريان أحد الولاة يدعي فيلكس للقبض عليه وإحضاره إلي روما، وإذ التقي فيلكس به دخلا في حديث مشترك فيه انجذب فيلكس نفسه للإيمان المسيحي، وصار الأسقف أبًا روحيًا له. صار موقف فيلكس محرجًا مع الأسقف، غير أن الأسقف طلب منه أن يذهبا مع الجنود إلي روما، وهناك تقدم الأسقف بنفسه للإمبراطور الذي قام بتعذيبه، تارة في أتون نار أخري بربطه في أقدام الخيل لتجري به علي الجبال وبإلقائه للوحوش الجائعة وكان الرب يخلصه، وأخيرًا أمر بقطع رأسه. أسرعت أمه أنثيا إليه، وانطرحت علي جسده الطاهر وهي تشكر الله من أجل عطية الاستشهاد التي نالها ابنها مع أحد عشر شهيدًا، فجاء الجند وقطعوا رأسها هي أيضًا (يحتفل الغرب بعيدها في 18 أبريل).
لا نعرف شيئًا عن أبا ألينوس أو ألونيس Abba Alonis سوي بعض أحاديث قليلة وردت بين أقوال آباء البرية، منها: من لم يقل: "لا يوجد في الكون كله إلا الله وأنا" لن يجد راحة (بمعني أنه لا يصنع أمرًا مراضاة لإنسان علي حساب الحق). قيل عن الأب ألونيس إنه كان مرة يخدم والأخوة جالسون عنده يمدحونه، وهو لا يجيبهم البتة، فقال له إنسان منهم: "لماذا لا تجيب الآباء وهم يسألونك؟" فقال: "لو أجبتهم لصرت مثل من يقبل المديح". قال أيضًا: "لو لم أهدم نفسي تمامًا لما قدرت أن أعيد بنائي من جديد". إن أراد الإنسان يقدر في يوم واحد من الصباح إلي المساء يبلغ القامة الإلهية (يحمل السمات الإلهية). سأل أخ أبا ألونيس: "ما معني أن الإنسان يحتقر ذاته؟" فقال له الشيخ: "هذا يعني أنه يري نفسه أقل من الوحوش متذكرًا أنها لا تُدان". لو لم أخف نفسي تمامًا لما كنت أبنيها. أخيرًا فقد ورد حديث بينه وبين الأنبا أغاثون، إذ سأله الأخير كيف يمكنه أن يمتنع عن النطق بأي كذب، فأجابه لو امتنع تمامًا قد يتعرض لخطايا كثيرة معطيًا مثالاً أنه لو شاهد اثنين ذاهبين ليرتكبا جريمة، لكن أحدهما اختفي عنده، فإن سُئل عنه وأظهره يعرضه للقتل. [ لعله يقصد بذلك أنه لا يليق بنا في غير حكمة أن نخبر ما يأتمننا الآخرون عليه من أسرارهم بحجة أننا لا نكذب، مثال ذلك لو سئُل كاهن عن اعتراف معين، ليس له الحق في إفشائه
تعرفنا على حياة هذا القديس خلال ثلاث رسائل لصديقه الحميم القديس أغسطينوس واعترافاته، وخلال رسالة وجهها القديس أليبوس St. Alypius (Alipius) للقديس يولينوس أسقف نولا. نشأته ولد في تاجست بنوميديا شمال أفريقيا، ذات موطن صديقه القديس أغسطينوس الذي كان يكبر أليبوس بسنوات قليلة. درس مع أغسطينوس النحو في تاجست وعندما رحل أغسطينوس إلى قرطاجنة وفتح مدرسة للنحو تبعه أليبوس، غير أن خلافًا دب بين أغسطينوس ووالد أليبوس، أدى إلى منع أليبوس من الحضور في مدرسة أغسطينوس، وإن كان أليبوس بقى يحمل حبًا عظيمًا وتقديرًا له، الأخير كان يبادله ذات الحب. على أي الأحوال استغرق أليبوس في قرطاجنة في مشاهدة الملاعب والمسارح كعادة سكان هذه المدينة، وكان يشتاق أغسطينوس أن يحذره لكنه لم يجد الفرصة المناسبة. وإذ حضر أليبوس إحدى محاضرات أغسطينوس خلسة من وراء والده كان أغسطينوس مستغرقًا في شرح الموضوع الذي أمامه مقدمًا تشبيهًا في عروض المسارح، موبخًا بطريقة لطيفة المنهمكين فيها، ولم يكن يقصد أليبوس في ذلك الحين، لكن الأخير حسب الكلمات موجهة إليه فغضب على نفسه كيف يعيش تحت هذا الضعف، وقرر أن يتغلب على هذه العادة. وإذ بدأ بالتنفيذ فرح به والده، وسمح له بالانضمام إلى مدرسة أغسطينوس لما عرف أنه هو السبب في تغير سلوك ابنه. لقد انجذب الشابان في ذلك الوقت إلى المانية (بدعة أتباع ماني) التي تقوم على إيجاد ثنائية بين الروح من جانب والمادة من جانب آخر، وحسبما أنهما يجدان العفة والطهارة فيها، وإن كانت المانية لم تشبعهما في الداخل! في روما إذ أراد أليبوس كنصيحة والديه أن يبلغ مركزًا مرموقًا في العالم ذهب إلى روما ليدرس القانون. وكان قد بدأ خطوات جادة نحو التحول إلى المسيحية، لكنه وجد ما قد عاقه عن ذلك. لقد قابله أصدقاؤه يومًا وصاروا يضغطون عليه لكي يذهب معهم المسرح فاعتذر لهم، رافضًا تمامًا الذهاب، وإذ كان قد امتنع عنها وهو في قرطاجنة كما رأينا. وإذ ألحوا عليه قال لهم إنه وإن ذهب بجسده فسيبقى غائبًا بفكره، لكنهم لم يتوقفوا حتى حملوه معهم. إذ أخذ الكل أماكنهم أغلق أليبوس عينيه كي لا يرى ولا يفكر فيما هو أمامه. فجأة سمع صرخة دوت بين كل المشاهدين ففتح عينيه بدافع حب الاستطلاع ليرى أحد المصارعين قد جُرح والدماء تنزف منه. لم يستطع أن يغلق عينيه بل صار يتابع ذلك الصراع العنيف بكل مشاعره، وعاد أليبوس إلى حياته الأولى منغمسًا في حضور المسارح والصراعات العنيفة الرومانية، جاذبًا الآخرين معه. هذا الدرس لم ينسه أليبوس حتى بعد قبوله الإيمان المسيحي ونواله سرّ العماد، إذ كان يشعر دائمًا بالخوف من ضعفه الذاتي، ولا يثق إلا في الله وحده الذي يخلص بذراعه القوية الرحيمة. بالرغم من انغماسه في حضور المشاهد الوحشية التي فيها يصارع البشر مع وحوش مفترسة أو مع بعضهم البعض بعنف شديد وقسوة، فكثيرًا ما تترمل النساء ويصير الأولاد أيتامًا لمتعة وقتية ينعم بها المشاهدون محبو سفك الدماء وعذابات الآخرين، بقى أليبوس محبًا لحياة الطهارة، سالكًا بوقار واتزان حتى أكمل دراسته، ونال مركزًا قضائيًا. إذ جاء أغسطينوس إلى روما صار أليبوس ملاصقًا له، وذهب معه إلى ميلان عام 384م، وشاركه تحوله إلى المسيحية، وسُجل اسماهما معًا في سجلات الموعوظين في الصوم الكبير لعام 387م، ونالا سر المعمودية. في أفريقيا بعد فترة قصيرة سافرا إلى أفريقيا، ليعيشا معًا في تاجست موطنهما مع جماعة قليلة مكرسة للرب تمارس حياة التوبة والعبادة بغيرة متقدة. عاشا هكذا ثلاث سنوات حتى سيم أغسطينوس كاهنًا على مدينة هيبو، وانتقلت هذه الجماعة معه، ثم سيم أليبوس كاهنًا، وقام برحلة تقوية إلى فلسطين التقى فيها بالقديس جيروم. وعند عودته إلى أفريقيا سيم أسقفًا على تاجست حوالي عام 393م. كان يعاون القديس أغسطينوس في أعماله العامة، وكان مملوءًا غيرة في حبه وخدمته لله وكنيسته. في سنة 429 تحدث عنه أغسطينوس كشيخ، وربما تنيح بعد ذلك بقليل.
قدمت أعمال الشهداء والقديسين في الغرب أسماء كثيرين بهذا الاسم "اليتاريوس" أو "اليثيريوس" Eleutherius، منها القديس أسقف روما الذي تنيح حوالي عام 189م (مايو30)، والشهيد اليتاريوس النيقوميدي في الاضطهاد الذي أثاره الإمبراطور دقلديانوس (2 أكتوبر)، وآخر بذات الاسم حوالي سنة 258 (9 أكتوبر) كان علي ما يظن شماسًا مع القديس ديونيسيوس أسقف باريس.
----------------------------
اليدورس أسقف ألتينو
التقى الجندي أليدورس أو هيليدورس أو أليدور St. Helidorus of Altino بالقديس جيروم في أكويليا بإيطاليا حوالي عام 372م حيث تتلمذ على يديه. كان محبًا للصلاة ودراسة الكتاب المقدس، يقضي أيامًا بلياليها في الصلاة والدراسة، وإن كان لم يدخل ديرًا ولا التزم بالسكنى في البرية. إذ عزم القديس جيروم على السفر إلى الشرق مع الأبوين أوغريس وإينوشنسيوس ارتبط بهم أليدور وزاروا بلادًا كثيرة بسوريا. وفي إنطاكيا تعرفوا على أبوليناريوس الذي لم يكن بعد قد كشف عن بدعته، فكان أليدور يستمع لتفاسيره للكتاب المقدس، وبعد فترة قصيرة استطاع أن يتحسس ما في كلمات أبوليناريوس من سموم الهرطقة. اعتكف القديس جيروم في برية بإقليم كلشيدا نحو تخوم سوريا والعربية وتبعه اليدور إلى حين، لكنه اشتاق إلى وطنه فعاد إلى دلماسيا، واعدًا صديقه ومعلمه أن يعود إليه في القريب العاجل، غير أنه بقى زمانًا بجانب والديه فأرسل إليه القديس جيروم يحثه على التمتع بحياة البرية، محدثًا إياه عن الدموع التي ودعه بها والتي لم تنقطع بعد، طالبًا منه ألا يستكين هناك بسبب دموع أمه أو توسلات أبيه، كاشفًا له عن أهمية حياة الوحدة في البرية. تأثر أليدور بالرسالة جدًا، وإن كنا لا نعرف ما هي العوامل التي عاقته عن الانطلاق إلى معلمه جيروم ليحيا معه في البرية، لكنه كان يمارس الحياة النسكية التقوية بقوة منطلقًا إلى أكويليا، وهناك سيم أسقفًا على مدينة الثينو بالرغم من رفضه الشديد لقبول هذه الوظيفة. بجانب حياته النسكية التي عاشها خلال عمله الأسقفي اهتم بخلاص شعب الله ومقاومة البدع مثل الأبولينارية والأريوسية، كما حضر مجمع أكويليا عام 381م. عندما سيم ابن اخته نيبوتيان كاهنًا كتب إليه القديس جيروم الذي لم يفقد قط حبه لصديقه أليدور سائلاً إياه أن يقتدي بخاله كمثل حيّ للراعي المسيحي. كان أليدور يسند القديس جيروم ماليًا في الإنفاق على ترجمته للكتاب المقدس إلى اللاتينية. غالبًا تنيح حوالي عام 400م.
كان أليعازر أحد معلمي الشريعة الموسوية، وكان أبوه أحد السبعين شيخًا الذين ترجموا العهد القديم من العبرية إلى اليونانية (الترجمة السبعينية) كأمر بطليموس ملك مصر. إذ ملك أنطيوخس ملك الروم بلاد الشام، وحاصر أورشليم استعمل العنف مع اليهود، مطالبًا إياهم بكسر الشريعة، بأكل اللحوم المحرمة وما إلى ذلك، فخاف كثيرون وأطاعوه، أما أليعازر وزوجته سالومي وأولادهما السبعة فاحتملوا عذابات كثيرة حتى علقوا ومُشطت أجسادهم بأمشاط حديدية وتعرضوا للحرق حتى نالوا إكليل الاستشهاد (8 مسرى).
---------------------
اماتاس القديس
يذكر القديس جيروم في عرضه لسيرة القديس أنبا بولا أن أماتاس (أماتوس) Amatus كان تلميذًا للقديس أنبا أنطونيوس. ويروي لنا القديس بالاديوس أنه مع القديس مكاريوس (الصعيدي) كانا يدبران الدير الذي كان عبارة عن كينوبيون يضم جماعة المتوحدين المتتلمذين للقديس أنبا أنطونيوس، وأنهما هما التلميذان اللذان دفنا القديس أنطونيوس بعد نياحته
حدثنا عنه إسطفانوس الكاهن الإفريقي بعد نياحة القديس أماتورAmator, Amatre بحوالي 160 عامًا. كان أماتور ابنًا وحيدًا لأحد أشراف مدينة Auxerre، اختار له فتاة غنية وجميلة تدعى مرثا زوجة له، بالرغم من صراحة الابن مع أبيه عن شوقه للحياة البتولية. جاء الأسقف يتمم له سرّ الزواج في البيت، وكان شيخًا مسنًا يدعى فاليريان، يصعب فهم كلماته بسبب شيخوخته المتأخرة جدًا، وإذ أمسك بكتاب الخدمات يصلي بدأ يصلي بصلوات سيامة الشماس، ولم يدرك أحد من الحاضرين شيئًا سوى العريس وحده. التقى العريس بعروسه، وإذ سألها إن كانت قد لاحظت شيئًا فأجابت "لا"، عندئذ أخبرها بما فعله الأسقف، إنه لم يصل صلاة سرّ الزيجة بل صلاة سيامة شماس فدهشت جدًا، وعندئذ سألته عن تفسيره الأمر. أجابها أماتور إن هذه علامة من الله عن رغبته في تكريسهما لحسابه، فارتمت الفتاة بين ذراعي أماتور لتلعن بفرح وشوق أنها عن طيب خاطر تقدم حياتها لله معه. ركع الاثنان ليصليا معًا، وإذ برائحة عجيبة تملأ غرفتهما، ولما سألت العروس عريسها إن كان يشم شيئًا، أجابها: "إنها رائحة الفردوس". قضيا فترة طويلة في الصلاة والحديث معًا في الرب، وإذ اطفي السراج ليناما، أشرق عليهم نور بهي، ثم ظهر لهما ملاك يحمل اكليلين وضعهما على رأسيهما. كانت عادة الأفراح تمتد لمدة أيام، وقبل أن تنقضي أيام فرحهما تنيح الأسقف الشيخ وسيم القديس هيلاديوس خلفًا له، وانطلق العروسان إليه يطلبان بركته ويخبرانه بما حدث معهما، ففرح بهما جدًا، وسمح لمرثا أن تدخل أحد أديرة الراهبات، وسام أماتور شماسًا ثم كاهنًا يساعده. إذ تنيح الأسقف أختير أماتور أسقفًا، وفي فترة أسقفيته الطويلة كسب كل بقية الوثنيين في المنطقة للإيمان المسيحي، وبنى كنائس، وصنع عجائب باسم الرب. مع الوالي جرمانيوس في السنوات الأخيرة لأسقفيته كان والي المدينة شابًا يدعى جرمانيوس، بالرغم من كونه مسيحيًا لكنه كان يمارس هواية صيد الحيوانات ويأتي برؤوسها ويعلقها على شجرة كمثرى كبيرة في وسط المدينة كتقدمة للإله Woden، الأمر الذي أعثر كثيرين. تحدث معه الأسقف وأخذ يحذره مرات وإذ لم يرتدع قام إلى الشجرة في غياب الوالي وألقى برؤوس الحيوانات على الأرض وحطم الشجرة تمامًا. وإذ جاء الوالي ثار وقرر أن يقتل الأسقف. وبمشورة بعض المؤمنين ترك الأسقف المدينة حتى يُصرف غضب الوالي، فجاء إلى مدينة Autun، وهناك كان يصلي من أجل الوالي كما كان يصلي إلى الله أن يرشده إلى من يصلح للأسقفية بعده بسبب شيخوخته، فأُعلن له أنه لا يصلح أحد إلا جرمانيوس الوالي. وبالفعل عاد إلى مدينته لينطلق الكل إليه في الكنيسة يعلن فرحه بأبيه الأسقف، وكان من بينهم الوالي الذي أظهر مودة وتوبة، عندئذ أمر الأسقف بإغلاق الأبواب وأعلن اختياره جرمانيوس أسقفًا. وقد فرح به الشعب وكان سبب بركة لكثيرين. تنيح الأب أماتور غالبًا في أول مايو 418م.
تعرفنا على شخصية القديس أمانديوس St. Amandus of Bordeaux من رسائل القديس بولينوس أسقف نولا، الذي لم يخبرنا عن والديه أو نشأته، إنما قال إنه تربى منذ طفولته المبكرة ينتعش بمعرفة الكتب الإلهية. عاش عفيفًا في جسده، ضابطًا لسانه فلا ينطق بكلمة باطلة. سامه الأسقف ديلفينوس St. Delphinus of Bordeaux كاهنًا، يعمل معه في الكنيسة، فأظهر غيرة شديدة على مجد الله. هو الذي كان يعلم بولينوس أسقف نولا في فترة ما قبل العماد، حين كان من الموعوظين، لذا ارتبطا معًا بصداقة دامت مدى الحياة. وقد كتب له بولينوس عدة رسائل يظهر منها مدى ما بلغه أمانديوس من تقوى وورع وحكمة. في سنة 400م تنيح القديس ديلفينوس وأُختير أمانديوس خلفًا له. نقل الأب غريغوريوس أسقف تورز Tours عن الأنبا بولينوس هذه الكلمات: [ إن أردت أن تشاهد أساقفة يستحقون الله، تطلع فقط إلى اكسيبيروس أسقف تولوز، وسمبليكوس أسقف رافينا، وأمانديوس أسقف بوردو]. تنيح هذا الأسقف غالبًا في 18 يونيو عام 431م.
---------------------------
امبروسيوس الإسكندري الشهيد
ثري اسكندري، استشهد بعد اعتناقه المسيحية على يدي أوريجينوس. كان متعلقًا بمعلمه أوريجينوس ومحبًا لكتاباته ومقالاته، فكان يمده بالمال لنسخ كتبه ونشرها.
تبقى سيرة القديس إمبروسيوس لأسقف ميلان صورة رائعة تشهد للرعاية الروحية الصادقة، وتكشف عن حياة المؤمن الرافض لمجد العالم مكرسًا كل علمه وطاقاته لبنيان النفوس في الرب، كما تعلن عن كنيسة البيت التي تثمر بركات بلا حصر! نشأته ولد عام 340 ميلادية من أسرة تقية، فقد كان والده حاكما لبلاد الغال (فرنسا) في عهد قسطنطين الصغير، مقره تريف. وكانت أخته مارسيلينا التي تكبره بحوالي 10 سنوات إنسانة تقية قامت بدور فعّال في حياته كأم أكثر منها أختًا، أما أخوه ساتيروس الأكبر منه فمتقارب معه في السن. يروي لنا سكرتير إمبروسيوس أنه لما كان طفلاً مضطجعًا في مهده في بهو القصر رأت المربية أسراب نحل يدخل فم الطفل إمبروسيوس وتخرج فاضطربت، لكن والديه وأخته اقتربوا منه ولم يزعجوه، وبعد برهة طار النحل وارتفع عاليًا حتى غاب عن الأنظار، وعندئذ قال الأب: "هذا الطفل سيكون عظيمًا". وإذ كان في الثالثة عشرة من عمره أقام ليبريوس أسقف روما مارسيلينا مكرسة للعبادة والخدمة. وإذ تنيح الوالد انتقلت الوالدة والولدان إلى قصرهم بروما حيث عاشت معهم العذراء المكرسة مارسيلينا وصديقة لها عذراء، فكان القصر ديرًا يضم أسرة تتسم بالوداعة والبساطة مع الحب المتبادل في الرب. كان إمبروسيوس وأخوه يدرسان معًا اللغة اليونانية والقانون الروماني والبيان والبلاغة. إمبروسيوس حاكم ميلان إذ كان إمبروسيوس منطلقًا من روما إلى ميلان ليتسلم عمله كحاكم ميلان، أوصاه صديقه بترونيوس بروباس: "لاتعمل كقاض بل كأسقف"، وكان يقصد ألا يطلب السلطة بل يقدم أبوة حانية وحبًا لكل إنسان، وكان ذلك الصوت نبوة وهو لا يدري. جاء إمبروسيوس إلى ميلان ليجدها ميدانًا مضربًا بالمجادلات الأريوسية، إذ كانت تابعة للأسقف الأريوسي أوكسنيتوس، الذي لم يمضِ عام على مجيء إمبروسيوس لينتقل الأسقف، فتحولت المدينة إلى صراعات مرة حول اختيار الأسقف الجديد. علت المجادلات حول اختيار الأسقف في وسط الكاتدرائية فاضطر إمبروسيوس أن يحضر بصفته حاكم المدينة. وعند دخوله سمع الكل صوتًا واضحًا يقول: "إمبروسيوس هو الأسقف"، وتكرر الصوت، فاندفع الكل يطلب سيامته، أما هو فقاوم وهرب لكنه تحت إلحاح الشعب رضخ أخيرًا. إمبروسيوس الأسقف اعتمد إمبروسيوس على يَدي صديقه القديم الكاهن سمبليكيان الذي قال: "قد تكون لي صداقة مع كثيرين، وأما صداقتي مع إمبروسيوس فهي صداقة الأب مع ابنه". هو ذاك الكاهن الذي استطاع أن يجتذب فيكتريانوس الأستاذ الوثني الذي ترجم كتابات أفلاطون وعلّم شباب أشراف روما المسيحيين، الأمر الذي كان له أثرة في رجوع أغسطينوس وتوبته. أرسل إليه القديس باسيليوس الكبير يهنئه على قبوله مسئولية الرعاية. وجاءت إليه أخته مارسيلينا من روما لتعيش معه، وحتى حين كانت تتركه للخلوة في منزل بريف ميلان، كانت على اتصال به خلال الرسائل. كانت تشاركه صلواته ودراساته وخدمته للفقراء. كما جاء إليه أخوه ساتيروس الذي تولى إدارة شئون الأسقفية وتدبير الأمور المادية، بقلب نقي ونفس زاهدة ولم يكن بعد قد نال سرّ العماد (وهذه نقطة ضعف في حياته أي تأخره في العماد). في عام 378 سافر ساتيروس إلى أفريقيا فغرقت السفينة وأنقذه الرب بأعجوبة حتى نال سرّ المعمودية وتنيح في ميلان بين يدي أخيه وأخته، فرثاه القديس إمبروسيوس، قائلاً: "لماذا أبكيك يا أخي الحبيب؟... لقد تغير المكان فقط، ومن الآن ستكون أرواحنا معًا"... وبعد ثمانية أيام ألقى القديس عظته المشهورة عن "الإيمان بالقيامة". جهاده كان جهاد القديس إمبروسيوس لا يتوقف، فمن الداخل كانت الأريوسية قد بثت بعض التفاسير المتحررة والغريبة، كما كانت الوثنية لا تزال تحارب المسيحية وتدس فيها بعض المفاهيم الخاطئة كتحويل أعياد القديسين إلى مهرجانات عالمية، وأيضًا كان عليه وأيضًا كان عليه إصلاح ما يعم المجتمع من فساد وظلم. دخل الأسقف مع الشعب في صراع ضد الإمبراطورة يوستينة الأريوسية التي استسلمت أخيرًا للواقع حينما وجدت حتى الجند لا يقبلون الأريوسية. توبة الإمبراطور ثيؤدوسيوس كان موقف القديس إمبروسيوس لا يُحسد عليه حينما استشاط الإمبراطور غضبًا على أهل تسالونيكي لأن عامة الشعب قتلوا أحد ضباطه، فدعي الشعب لمشاهدة المباريات في الساحة، وإذ جمعهم أصدر أمره للجنود بقتلهم فهلك الألوف وصار فزع في كل المملكة. كان ثيؤدوسيوس مقتنعًا أن ما فعله كان من قبيل العدالة، وإذ أراد دخول الكنيسة منعه القديس إمبروسيوس حتى يقدم توبة عملية وعلنية ويصلح ما أمكن من آثار هذه المذبحة. هنا يقف الأسقف لا موقف صاحب سلطان أو منازع للسلطة وإنما كأب روحي، كان حازمًا كل الجزم مع الإمبراطور وكان أيضًا يفتح له أبواب الرجاء بكل حب وحنو، لذلك حينما حاول المحيطون بالإمبراطور أن يصوروا الأسقف بالشخص المتسلط العنيف لم يقبل الإمبراطور، وإنما بعد فترة قدم دموع توبة وانسحاقًا حقيقيًا وسجد حتى الأرض ليقبل الله توبته. هنا طالبه الأسقف بسن شرائع لحماية الضعفاء، منها عتق الأبناء الذين باعهم الآباء بسبب الفقر، وإصدار قانون يحمي الشعب من قسوة بعض الرجال الرسميين سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، وألا ينفذ حكم الإعدام على أحد إلا بعد 30 يومًا من صدور الحكم. حتى تُعطى فرصة للحاكم أن يراجع نفسه. انتهت القصة بصداقة حميمة بين الإمبراطور والأسقف لم تنفصم عراها حتى الموت، حتى إنه عندما انتصر الإمبراطور في موقعة أكويلا أرسل إلى الأسقف رسالة يقول له فيها إنه مدين له بانتصاره، فحمل الأسقف الرسالة إلى المذبح، وكتب إلى الإمبراطور يقول له: "لقد وضعت رسالتك مع الذبيحة حتى يتكلم إيمانك أمام الله في نفس الوقت الذي أنطلق فيه أنا بالصلاة". ظهرت أبوة إمبروسيوس حين شفع في المأسورين من الوثنيين بأكويلا حتى لا ترتاع جماهير الوثنيين بميلان أو غيرها من البلاد، وقد قبل الإمبراطور الأمر الذي كان له أثره في حياة الوثنيين. وفي 19 يناير سنة 395، أي بعد خمس سنوات من توبة الإمبراطور، وبعد بضعة أسابيع من نصرته في أكويلا رقد الإمبراطور وهو مستند على صدر الأسقف، وكان يناديه باسمه في اللحظة الأخيرة. مع أغسطينوس لقد أُعجب أغسطينوس وهو بعد مانيًا بالأسقف من أجل البلاغة والبيان، ولكن الأسقف استطاع أن يسحبه للإيمان. وكان الأسقف يعزي القديسة مونيكا، كما كان معجبًا بإيمانها ودموعها التي لا تجف بسبب أغسطينوس، وقد تم عماد أغسطينوس على يديه في أبريل عام 387م. نياحته بعد عامين من وفاة الإمبراطور توقف إمبروسيوس عن الكتابة بسبب المرض، وقد استمر في قراءاته وتأملاته، حتى قال عنه سكرتيره بولينوس إنه إذ كان يتأمل دفعة توهج وجهه كالنور. حدث أنه في أحد الأيام بينما كان يصلي مع صديقه سمبليكيان الذي كان يلازمه ملازمة الظل أن رأى إمبروسيوس السيد المسيح يقترب منه بابتسامة إلهية ويدعوه لمرافقته في السماء، فعلم أن وقت رحيله قد أزف. في يوم الجمعة الكبيرة، في 4 أبريل عام 397، مّد القديس ذراعيه على هيئة صليب ولم يغير هذا الوضع لمدة ساعات حتى أسلم روحه. في اللحظات الأخيرة إذ تجمع الكل حول الراعي الأمين وقف جماعة من الشمامسة في ركن من الغرفة يتهامسون عمن يخلف القديس إمبروسيوس. اقترح البعض سمبليكيان، وأجاب البعض إنه كبير السن، وإذا بالقديس يفتح شفتيه ليقول: "إنه كبير السن لكنه فاضل!". ارتاع الشمامسة وخجلوا حتى تركوا الحجرة وتحققت كلمات الأسقف. أعماله وكتاباته بالرغم من اهتمامه الشديد بعمله الرعوي والمتاعب التي لاحقته، فقد ترك القديس إمبروسيوس تراثًا ثمينًا. فمن جانب اهتم بتنظيم العبادة الليتورجية العامة في إيبارشيته، فقدم تدبيرًا ليتورجيًا جميلاً يعتز به أهل ميلان، كما أدخل نوعًا من الموسيقى الكنسية دُعيت بالإمبروسيةAmbrosian ، أما كتاباته وعظاته فتضم كتابات عقيدية، وتفسيرية، ونسكية - أخلاقية، وعظات، ورسائل. 1. من كتاباته العقيديه كتاب عن الثالوث القدوس يشرح فيه عقيدة التثليث، ويؤكد لاهوت السيد للرد على الأريوسيين، وآخر عن الروح القدس، وعن سر التجسد الإلهي ضد الأريوسيين والأبوليناريين، وعن الأسرار، وعن التوبة ضد أتباع نوفاتيان ليؤكد سلطان الكنيسة في حل الخطايا وضرورة الاعتراف وأهمية الأعمال الصالحة، وكتاب يرثي فيه أخاه يحوي حديثًا عن عقيدة القيامة. 2. من كتاباته التفسيرية 6 كتب عن أيام الخلقة الستة "هكساميرون"، وتعليقات على "قايين وهابيل"، "فلك نوح"، "إبراهيم" الخ... 3. من كتاباته النسكية والسلوكية كتابه عن شرف البتوليه، وآخر عن الترمل الخ... 4. عظاته. 5. رسائله، توجد منها 91 رسالة تعالج مواضيع تاريخية وعقيدية وأخلاقية وكتابية، كما تحوي رسائل عن الصداقة. هذه الرسائل تكشف عن سمو شخصيته، وغيرته المتقدة، وورعه، وثقافته العالية، وسلطانه المملوء حبًا.
استشهدت أمبيرة مع ابنيها القديسين أبا هور ويبسوري في أيام الحاكم الروماني، ووضعت رفاتهم في كنيسة بلدهم شباس مركز دسوق (محافظة كفر الشيخ). إذ هاجم بعض الأجانب مصر، واستولوا على دمياط وبعض البلاد المحيطة بها، خرج الملك الكامل بجيوشه يحاربهم، وكان الجند في أثناء مرورهم على البلاد يخربون بعض الكنائس ويهدمونها ويستولون على ما بها. تعرضت الكنيسة التي في شباس للهدم، وإذ رأى أحد الجند التابوت الذي به رفات هؤلاء القديسين ظن أن به مالاً أو أشياء ينتفع بها، فأخذه، وإذ فتحه ولم يجد به سوى الرفات ألقى بالرفات المقدسة على الأرض وأخذ التابوت. رأته زوجة كاهن وكانت تنظره من بعيد، فلما غادر الجند المكان أخذت الرفات المقدسة ولفتها في طرف إزارها، وأخفتها في الأرض، وغطت عليها بالحجارة. انشغل المؤمنون بإصلاح ما تهدم، ونسيت المرأة أن تخبرهم بما فعلته، وبعد عشرين سنة أخبرتهم، فجاء الكل بفرح يحملون الرفات، وقد أظهر الله عجائب عظيمة في ذلك اليوم بصلوات هؤلاء الشهداء، منها أن فتاة مؤمنة كانت قد فقدت بصرها تمامًا وانقطع الرجاء في شفائها، طلبت صلوات هؤلاء الشهداء وتباركت بالرفات، فعاد إليها بصرها في الحال، فمجدت السيد المسيح. تحتفل الكنيسة بوجود هذه الرفات في التاسع من طوبة.
حياة أبا أمبيكوس Ampikos مع أبا بترا Patra تمثل الصداقة الحقة والشركة التي لا تنفصل، فإننا كثيرًا ما نجد في وسط نظام الجماعات بعضًا أحب الشركة على مستوى ثنائي أو في حدود عدد صغير مثل القديسين أنبا أبرام وأنبا جورجي، والأخوين القديسين مكسيموس ودوماديوس، وأنبا أيوب وأخوته الخ... عاش هذان القديسان كصديقين حميمين، وكان الرهبان يحثونهما على الذهاب إلى مائدة الآباء، وبالكاد وافق أبا بترا أن يذهب إلى هذه المائدة بمفرده. وبعد أن أكل قال له أمبيكوس: "كيف تجاسرت وذهبت إلى مائدة الشيوخ؟" أجاب أمبيكوس: "لو إنني جلست بينكم لكان الإخوة يكرمونني كشيخ مسن ويطلبون مني أن أكون الأول في إعطاء البركة، فأظن في نفسي أنني أفضل منكم جميعًا، لكنني إذ ذهبت مع الآباء فإنني أقل الجميع، إنني أنسحق وأحسب نفسي كلا شيء".
في قفط إذ أصدر الإمبراطور دقلديانوس أوامره باضطهاد المسيحيين، صار أريانا والي أنصنا يجول في كل صعيد مصر لا عمل له سوى تعذيب المؤمنين. ولما بلغ بالسفينة إلى ساحل مدينة قفط (على النيل) في رياء خرج إليه كهنة الأصنام لمقابلته يفتخرون أمامه قائلين: "عش يا مولانا إلى الأبد، فإنه لا يوجد في مدينتنا من يذكر اسم المسيح"، ففرح أريانا جدًا وأجزل لهم الهدايا، وقدم ذبائح للآلهة وانطلق بسفينته. سمع بذلك صبي مسيحي اسمه "إمساك" أو "بويمساح"، يسكن في شمال المدينة مع أخته ثيؤدورا "تاوضورا" في بستان يُعرف بحقل النسوة، يعملان معًا فيه ليعيشا على القوت الضروري، ويقدمان ما تبقى للمساكين. حزن الصبي لما علم بما فعله هؤلاء الكهنة، ولعل حزنه يرجع إلى ما حمله هؤلاء الوثنيون من رياء وكذب لجلب هدايا كثيرة من أريانا، أو لعله شعر أنه بهذا حُرم هو من نوال إكليل الاستشهاد، وربما حسب صمته على ما قاله هؤلاء الكهنة الوثنيون فيه إنكار ضمني لإيمانه ولم يعرف ماذا يفعل، وإنما صلى طالبًا إرشاد الله ومعونته. في ذات ليلة ظهر له ملاك الرب يسأله أن ينطلق إلى قاو ليجد هناك الوالي ويعترف باسم السيد المسيح، وأخبره مقدمًا بكل ما يحدث له لكي يسنده ويعزيه. إلى قاو في الصباح إذ استيقظ من نومه رفع صلاة حارة لله، وخرج إلى ساحل المدينة وركب السفينة منطلقًا إلى قاو كوصية الملاك، دون أن يخبر أخته بشيء. وهناك وجد أريانا يعذب المسيحيين، فصرخ إنه مسيحي، فأمر الوالي بجلده بقسوة حتى امتلأ جسمه بالجراحات وكان ينزف دمًان فأرسل الله ملاكه وشفاه داخل السجن الذي أُلقي فيه. في اليوم التالي عاود الجند جلده ثم لفوه في حصير وألقوه في النيل، فأسلم الروح بيد الله ونال إكليل الشهادة في 16 من شهر كيهك (حسب السنكسار القبطي لرينيه باسيه 15 كيهك). أعد الله تمساحًا في النيل جذب الحصير وبه جسد القديس وانطلق به حتى بلغ مدينة قفط فألقاه على الساحل. ظهر ملاك الرب لأخته في الليل وأعلمها بما ناله أخوها من مجد، وفي الصباح أخبرت الكهنة فانطلقوا ومعهم المؤمنين إلى الساحل وحملوا جسده بإكرام عظيم، ودفنوه في بستانه. وبعد انقضاء فترة الاضطهاد بنى المؤمنون كنيسة باسمه، وقد أظهر الله عجائب كثيرة في الكنيسة بصلواته. قيل إنه في أيام أنسطاسيوس إمبراطور الشرق أرسل قائدًا إلى ديار مصر ليجمع الخراج، وإذ بلغ إلى مدينة قفط سمع المؤمنون عنه أنه ظالم وعنيف وقاسي القلب، فاجتمعوا في الكنيسة يطلبون رحمة الله بصلوات الشهيد إمساح. وإذ عرف القائد ذلك انطلق إلى الكنيسة ووجد أبوابها مغلقة، فمدّ يده ليشعل النار في الباب، وإذ بيده تيبس، ويُصاب بشلل، فيحمله رجاله إلى السفينة، وفي الطريق مات. ولما سمع أنسطاسيوس بذلك مجد الله وأمر أن يترفق جامعو الخراج بالناس. نبيل سليم: أبطال مجهولون، ديسمبر 1970.
القديس أمفيلوشيوس Amphilochius من رجال القرن الرابع، كان صديقًا حميمًا للقديسين باسيليوس الكبير وغريغوريوس الناطق بالإلهيات وغريغوريوس أسقف نيصص. ولد في قيصرية الكبادوك ما بين سنة 340 – 350م، وقد نشأ محبًا للعلم والثقافة كما اتسم بالعدل والحكمة مع شرف نسبه، لذلك نجح في عمله كمحام حين بدأه بالقسطنطينية عام 364، وتدرج حتى صار قاضيًا. وقد عُرف بنزاهته ونظافة يده. وكان القديس غريغوريوس يحثه على تكريس وقت أكبر لدراسة الكتاب المقدس والعبادة والخدمة، لكنه كان يشعر أنه يخدم الله خلال تقواه في عمله كقاضٍ. مرّت به تجربة قاسية على نفسه، إذ اتُّهم ظلمًا بأنه قد برّأ رجلاً مذنبًا بنواله رشوة، وبلغ ذلك القصر الإمبراطوري بالقسطنطينية، فأسرع القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس يكتب إلى القصر ليعلن براءة صديقه، وبالفعل خرج من التجربة أكثر كرامة. أما ما انتفع به فهو إدراك أهمية نصيحة صديقه القديم الذي طالما كان يحثه على التفرغ للخدمة، فقرر ترك عمله عام 367 والانفراد في بيته يثابر على دراسة الكتاب المقدس والحياة التأملية مع عبادات روحية ونسك، كما كان يعين والده في شيخوخته المتأخرة وأمراضه الكثيرة. اتخذ أمفيلوشيوس القديس باسيليوس الكبير صديقًا له وأبًا روحيًا ومدبرًا لحياته، وقد وجدت بينهما رسائل متبادلة كثيرة، وإن كان قد اتبع (أمفيلوشيوس) أسلوب الحذر لئلا يُرشح لعمل كهنوتي. غير أن الله دعاه للعمل الأسقفي عام 374 لمدينة أيقونية بليكاؤنية والتي كانت تُدعى بيسيدية الثانية، ويبدو أنه قبل الأسقفية خلال ضغط القديس باسيليوس، كما يظهر من رسالة الأخير له، إذ جاء فيها: "الطوباوي في الله الذي يختار في كل جيل من يسره، مظهرًا آنية اختياره، مستخدمًا إياهم في خدمة القديسين، هذا الذي يصطادك في شباك نعمته التي لا يمكنك الانفلات منها، بالرغم من محاولتك للهروب لا منا وإنما من الدعوة التي وجهها الله خلالنا، فجاء بك إلى منتصف بيسيدية، حتى تأسروا للرب الذين سبق فأسرهم الشيطان، وتخرجوهم من الأعماق إلى النور حسب مشيئته" رسالة 161. التقى أمفيلوشيوس بعد سيامته بالقديس باسيليوس في قيصرية الكبادوك يسأله الإرشاد في بدء عمله الأسقفي شفاهة، ثم رجع إلى كرسيه، ولم يخجل من استشارته بعد ذلك بالرسائل، بل سجل القديس باسيليوس لنا كتابه عن الروح القدس بناء على طلب هذا الأب. يصعب الحديث عن هذا الأب فقد مدحه كثيرون من الآباء المعاصرين له. دعاه القديس غريغوريوس الثيؤلوغس ملاكًا سمائيًا وعمود الحق والاستقامة والحبر البريء من العيب. هذا وقد اتسم الأب بغيرته المتقدة على الإيمان المستقيم، مناضلاً ضد الهراطقة بعظاته وكتاباته ضد الأريوسيين منكري لاهوت السيد المسيح، والميساليون Messalians (كلمة سريانية تعني رجال الصلاة) الذين نادوا بأن الشيطان أتحد بنفس كل إنسان نتيجة خطية آدم، لا يخرج في المعمودية وإنما بالصلاة الدائمة غير المشتتة، مركزين على الحياة النسكية بطريقة مبالغ فيها من جهة فاعليتها في خلاص الإنسان. اشترك في مجمع القسطنطينية المسكوني عام 381 كأحد الأعضاء البارزين، ومُدح على أرثوذكسيته في قانون الإمبراطور ثيؤدوسيوس في 30 يوليو 381. رأس مجمع Side على خليج أداليا عاك 390 الذي أدان الميساليين (باليونانية ايوخيت Euchites) كهراطقة. وفي سنة 394 حضر مجمعًا بالقسطنطينية الذي أقر الخلافة الأسقفية لإبيارشية Bostra. كتاباته أغلب كتاباته مفقودة، منها كتابه "عن الروح القدس" الذي أشار إليه القديس جيروم، كما لدينا بعض مقتطفات من كتابات أخرى له مفقودة. أما الكتابات التي وصلت إلينا كاملة فهي رسالته المجمعية التي كتبها كطلب مجمع أيقونية المنعقد عام 376، فيها يدافع عن لاهوت الروح القدس ضد Pneumatomachoi، ومقال بالقبطية ضد The Apotacties, Gemellites، ثمان عظات على نصوص من الكتاب المقدس.
الأب أموناس أو بيامون من ديوكلاس، أي منطقة البرلس. قدم لنا القديس يوحنا كاسيان حديثًا شيقًا معه في كتابه "المناظرات" (مناظرة 18)، عن أنواع الرهبنة الثلاثة، موضحًا غاية الرهبنة كحياة شركة مع الله وحب للأخوة مع موت عن محبة الاقتناء. وقد تحدث في صراحة أن من يطلب الوحدة هربًا من متاعب الشركة واحتمال الاخوة يخدع نفسه، الوحدة ليست هروبًا بل هي حب. كما تحدث عن ميدان الخطية الحقيقي ألا وهو النفس، فلا نلوم الظروف أو الآخرين بل أنفسنا. مناظرات يوحنا كاسيان: 18 (كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج).
ولد هذا القديس في سنة 294م بجوار مريوط، وهو كزميله أنطونيوس كان من أسرة مسيحية تقية موسرة وفقد أبويه وهو في سن الحداثة فبات تحت وصاية عمه، وكانت كل آملاه متجهة إلى عيشة التبتل والقداسة، غير أن عمه خطب له فتاة غنية رغمًا عنه وعلى غير إرادته. ولما لم يكن في قدرته مخالفة أمر عمه أخذ في مخاطبة الفتاة التي خطبت له بالأقوال الروحية، وقد استطاع بسيرته المقدسة أن يؤثر عليها تأثيرًا حسنًا فحبب إليها عيشة الطهارة وغرس في قلبها الميل إلى تكريس النفس لتكون عروسًا محفوظة للعريس الحقيقي يسوع المسيح. ومن ثَمَّ اتفق الإثنان على أن يقبلا عقد زواجهما وهما مصممان على أن يعيشا معًا كأخ وأخت لا كزوج وزوجة. وقد لبثا على هذه الحال مدة طويلة وهما يحافظان كل المحافظة على شروط العفة والأمانةحتى مرت سبع عشرة سنة على زواجهما وبعدها انتقلت الزوجة إلى الدار الأبدية. فرأى هذا القديس في حلم أن القديس أنطونيوس يدعوه إلى لبس إسكيم الرهبنة، ولما استيقظ من النوم نهض وذهب إلى حيث يقيم القديس إيسيذوروس وهذا ألبسه الإسكيم المقدس فأقام عنده مدة من الزمن ثم قصد بعد ذلك جبل تونة حيث يقيم القديس أنطونيوس. وقد أقام القديس امونيوس عند القديس أنطونيوس مدة وتتلمذ له ودرس منه قوانين الرهبنة المقدسة ثم بنى له مغارة في تونة الجبل، وهناك أجهد نفسه بعبادات كثيرة فحسده الشيطان وأتاه في شكل امرأة راهبة وقرع بابه، فلما فتح له وطلب منه أن يصليا تحول الشيطان إلى لهيب نار. ثم مضى وسكن في امرأة وأغراها على إيقاع القديس في الخطية، فلبست أفخر ثيابها وأتت إليه نحو الغروب وبدأت تقرع باب مغارته قائلة: "إنني امرأة غريبة وقد ضللت الطريق وأمسى عليَّ الوقت، فلا تدعني خارجًا لئلا يأكلني وحش وتكون أنت المطالب بدمي". فلما فتح لها وعرف مكيدة الشيطان الذي أرسلها أخذ يعظها من الكتب الإلهية ويخوفها من عذاب الجحيم المعد للخطاة ويذكر لها الغبطة المعدة للصديقين، فتح الرب قلبها وفهمت قوله وخرَّت عند قدميه باكية وسألته أن يقبلها ويساعدها على خلاص نفسها ونزعت عنها ثيابها هذه. فحلق لها رأسها وألبسها ثوبًا من شعر وسماها الساذج، ثم علمها طريق الفضيلة فسارت فيها سيرًا حميدًا حتى فاقت فضائل القديسين بصومها الكثير وصلاتها المتواترة. ولما خاب الشيطان من هذا الأمر أيضًا عاد فدبر حيلة أخرى، وذلك انه تزيا بزي راهب وصار يتردد على الديارات ويقول لهم وهو باكٍ: "إن الأنبا أمونيوس الناسك قد تزوج بامرأة وها هي نده في المغارة، فجلب بعمله هذا الفضيحة للرهبان والإهانة للإسكيم المقدس. فلما سمع بذلك الأنبا أبوللو المتشبه بالملائكة أخذ معه الأنبا يوساب والأنبا نوهي وأتوا إلى جبل تونة وقصدوا مغارة الأنبا أمونيوس، فلما قرعوا باب المغارة وفتحت لهم تحققوا الأمر. فلما دخلوا صلوا كالعادة ثم جلسوا يتحدثون في عظائم الله إلى آخر النهار، فقال لهم الأنبا أمونيوس: "هلموا لنرى الساذج لأنها تخبز لنا قليلاً من الخبز". فلما خرجوا إليها وجدوها واقفة تصلي وسط التنور وهو محمى وناره مضطرمة ويداها مبسوطتان، فتعجبوا من ذلك ومجدوا الله. وبعد أن أكلوا من الخبز وشربوا انفرد كل واحد إلى محل نومه، فعرف ملاك الرب الأنبا أبللو بقضية الساذج مع الأنبا أمونيوس، وأن الرب إنما أرسلهم إلى هنا لكي يحضروا نياح الساذج. وقد تم قول الملاك، إذ أنها نحو الساعة الثالثة ليلاً اعترتها حمى شديدة فسجدت للرب وأسلمت روحها بيده، فكفنوها وبعد الصلاة دفنوها، ثم عرفهم الأنبا أمونيوس بفضائلها وأنها أقامت عنده 18 سنة لم ترفع وجهها إلى فوق لترى وجههن وكان طعامها خبزًا وملحًا. بعد ذلك أوفده الأنبا أنطونيوس إلى وادي النطرون ليؤسس أديرة هناك، فتبعه جمهور عظيم من نادري العفة فنظم لهم الأحوال ورتب لهم معيشتهم واستمر يسوسهم بالفضائل. وبعد قليل تنيح بسلام وكانت نياحته سنة 73 للشهداء الموافقة لسنة 357م. السنكسار، 20 بشنس.
تبقى سيرة هذا القديس أنشودة حب تتغنى بها الكنيسة على قيثارة الروح، أوتارها متنوعة ومتكاملة، وقد اتسم قديسنا بحبه الشديد للنسك مع التسبيح الدائم بفرح، وأمانة في الرعاية، قدم حياته وحياة كل شعبه ذبيحة حب فائق يشتمها الله الأب في المسيح يسوع رائحة ذكية. الأنبا أمونيوس الأسقف سيم أمونيوس أسقفًا على مدينة إسنا في أيام القديس بطرس خاتم الشهداء، فعاش بروح الحب الإنجيلي يمتزج نسكه برعايته الروحية، يقضي أيام السبت حتى الاثنين مع شعبه يشاركهم العبادة ويعظهم ويرشدهم، ويهتم بكل احتياجاتهم، ثم يعود إلى مغارة خارج المدينة على حافة الجبل جنوب غربي المدينة، يقضي بقية الأسبوع يمارس حياة الوحدة بقلب متسع بالحب لله والناس، مؤمنًا برعاية الله لشعبه. هكذا كان الأنبا أمونيوس وسط شعبه ناسكًا محبًا، وفي مغارته يصلي لأولاده بأبوة روحية صادقة. الأنبا أمونيوس والاستشهاد كان القديس الأنبا أمونيوس يهيئ للفردوس طغمة من الشهداء قوامها شعب إسنا كله، إذ كان بعظاته كما بحياة الإماتة التي عاشها وبلهيب قلبه نحو السماء يهيئ كل قلب لقبول الاستشهاد بفرح. زار إريانا والي أنصنا بصعيد مصر مدينة إسنا أكثر من مرة فقتل القديسة الأم دولاجي التي شجعت أولادها الأربعة على الاستشهاد، كما قتل أربعة من أراخنة الشعب (6 بؤونة). والآن يعود مصممًا ألا يترك مسيحيًا في المدينة. دخل إسنا من الباب البحري وجال مع جنوده في شوارعها حتى بلغ الباب الجنوبي الغربي، فوجد سيدة عجوزا مريضة غير قادرة على الحركة، فسألها عن شعب المدينة، أجابته إنهم سمعوا بأن إريانا الوالي قادم إلى أبيهم الأسقف ليستعدوا لملاقاته، وإذ سألها عن ديانتها أجابته بشجاعة، فأمر بقتلها، وتُركت في بيتها، ولا زال شعب المدينة يدعونها الرشيدة حتى يومنا هذا، إذ أرشدت عن اخوتها لينعموا الإكليل السماوي. انطلق إريانا مع جنده نحو الأسقف وشعبه فوجد جماعة عند ساقية "كريم" فقتلوهم، ثم انطلقوا إلى دير القديس الأنبا اسحق. الأسقف يسند شعبه قيل إنه إذ كان الأنبا أمونيوس في مغارته يصلي من أجل شعبه كي يسندهم الرب في وسط الضيق، ظهر له ملاك الرب، قائلاً له: "أنت مقيم هنا والجهاد معدَ لأولادك". في الحال ترك الأب مغارته وانطلق إلى دير القديس اسحق السائح بجبل أغاثون، حيث كان الشعب يحتفل بالعيد. هناك استقبله الشعب بفرح شديد وتسابيح يمجدون بها الله، فوقف في وسطهم وصار يحدثهم عن المجد الأبدي واحتمال الآلام بفرح من أجل الأبدية. بعد العظة انطلق إلى مغارته، فلم يتركه الشعب بل سار وراءه، فلأجل راحتهم رجع معهم إلى دير القديس اسحق السائح، وقضى معهم الليل كله في تسابيح لا تنقطع، مع عظات روحية عن الأمجاد السماوية. وفي الصباح المبكر جدًا أقام القداس الإلهي وتناول الشعب، ليجدوا بعد ذلك إريانا وجنوده قادمين. استقبلهم الشعب بفرح شديد كمن هم ينتظرون رحيلهم من هذا العالم، ولقاءهم مع عريسهم السماوي. ألقى الوالي القبض على الأسقف، وصار جنده يقتلون الشعب بلا توقف. منذ سنوات قليلة إذ كانوا يحفرون بدير "الشهداء" بإسنا، وُجدت الأجساد متراصة بلا عدد فوق بعضها البعض تحت الأرض. في أنصنا أخذه إريانا أسيرًا إلى مدينة أسوان، ليعود به ثانية، فيجد ثلاثة فلاحين أُميين عند الباب البحري من مدينة إسنا عادوا من الحقل، حزانى لأنه لم يكن لهم نصيب مع كل شعب المدينة الذي استشهد. طلب الفلاحون من الجند أن يقتلوهم كاخوتهم، فرفض الجند لأن سيوفهم لم تعد تصلح بسبب كثرة الذين قتلوهم، وإذ أصرَ الرجال الفلاحون أن يلحقوا باخوتهم أمر الوالي بقتلهم على حجر بفؤوسهم. ولا زالت مقبرتهم إلى يومنا هذا، يشتم الكثيرون رائحة بخور تفوح منها ليلة الأحد، تُسمى بالثلاثة فلاحين (سورس وأنطوكيون ومشهوري). سافر الوالي إلى أنصنا يقتاد معه الأسقف الأسير، وهناك حاول استمالته تارة بالوعود وأخرى بالوعيد. دُهش الوالي إذ شعر بمهابة الأسقف وشجاعته، وأخيرًا أعدّ له أتون نار يلقيه فيه. طلب الأسقف أن يمهله قليلاً ليقف يصلي كي يبارك الله البشرية ويذكر شعب إسنا الشهداء، كما طلب خلاص الوالي... وأخيرًا سلم نفسه ليلقوه في النار فتخرج روحه إلى عريسها في الرابع عشر من كيهك. فانوس ميخائيل: عظة الأحفاد في تاريخ الشهداء الأمجاد، 1923م.
احد تلاميذ القديس آمون الكبير، رفيق الآباء تادرس (ثيؤدور) واليريون وبامو وبيؤر. يرى البعض أنه هو الذي رافق البابا أثناسيوس الرسولي إلى روما سنة 340م، وليس أمونيوس الطويل كما ظن سقراط. تنيح بعد عام 355م بفترة وجيزة، أي بعد اضطهاد الأريوسيين مباشرة.
------------------------------
امونيوس السقاص
فيلسوف إسكندري، وُلد في أواسط القرن الثاني ورقد عام 241م. كلمة "سقاص" مشتقة من كلمة "ساكسcaki " اليونانية، ومعناها "كيس". تعلم الفلسفة الأفلاطونية وتعمق فيها جدًا، وفي أواخر القرن الثاني نال المعمودية، وإن كان بعض المؤرخين يرون أنه لم ينل العماد إنما كان معجبًا بالمسيحية. أراد من الوثنيين أن يقبلوا مبادئها جنبًا إلى جنب مع ما هو حسن في الوثنية ورفض ما هو فاسد في الوثنية. لم يبق من مؤلفاته سوى كتاب: "اتفاق البشائر الأربع".
رهبنته وُلد حوالي عام 340م، وإذ بلغ العشرين من عمره ترهب في منطقة نتريا مع اخوته الثلاثة، وهم ديسقوروس (رسمه البابا ثاوفيلس أسقفًا على هرموبوليس أي دمنهور) ويوسابيوس وأفتيموس، كما ترهبت أختاهما في دير للبنات. عرف أمونيوس واخوته باسم "الاخوة الطوال" لما اتسموا به من طول فارع غير عادي، وكان أمونيوس أكثر اخوته علمًا وتقوى، يحفظ الكتاب المقدس بعهديه عن ظهر قلب، ويقرأ كتب الكثير من الآباء منهم العلامة أوريجينوس والقديس ديديموس. نسكه عرف بنسكه الشديد وقمعه للجسد، حتى قال عنه القديس أوغريس: "لم أر إنسانا قمع شهوته مثل أمونيوس". كان حازمًا مع جسده كل الحزم، لم يأكل طبيخًا على الإطلاق منذ شبابه حتى نياحته، مكتفيًا بالخبز والخضراوات الطازجة. اشتهر بتقواه ونسكه فحاول بعض الأراخنة ترشيحه للأسقفية، وقد وعدهم البابا تيموثاوس الثاني والعشرين بسيامته إن أحضروه له، فذهبوا إليه وحاصروه، وإذ وجد نفسه في مأزق غافلهم وقطع أذنه اليسرى كي لا يترك البرية، قائلاً لهم إن القانون الكنسي يمنع سيامته. لكن البابا وافق على سيامته حتى بعد قطعه لأذنه. وإذ عرف ذلك هددهم أنه سيقطع لسانه إن ألزموه بالسيامة فاضطروا أن يتركوه، وعاش الأب أمونيوس بأذن واحدة، لذا دعي بالباروئيس أي "ذو الأذن الواحدة". مشكلة الاخوة الطوال كانت منطقة نتريا ملتهبة بسبب "مشكلة الأوريجانية"، فقد رأى بعض الرهبان أن أوريجينوس قد أغنى المؤمنين بالفكر الروحي الذي يلهب فيهم روح التأمل، فعشق هؤلاء كتاباته وتحمسوا له، بينما رأى آخرون أنه قد أفسد بمنهجه الفكر الرهباني، فنزع عن الرهبان بساطتهم وشغلهم بأفكار عقلية عن التداريب الروحية التي تمس الحياة النسكية، هذا بجانب ما حمله أتباع أوريجينوس من أخطاء عقيدية أدت إلى حرمانهم وحرق كل كتب أوريجينوس. كان الاخوة الطوال متحمسين لأوريجينوس، الأمر الذي بسببه ضايقهم البابا ثاوفيلس حتى طرد الأنبا ديسقوروس من إيبارشيته ومعه اخوته، فهربوا إلى فلسطين ومعهم مجموعة من الرهبان يقدرون بثمانين راهبًا، ووجدوا في قلب الأسقف يوحنا الأورشليمي المعروف بإعجابه بأوريجينوس قلبًا مفتوحًا. كتب البابا ثاوفيلس خطابًا مجمعيًا إلى 17 أسقفًا بفلسطين و15 أسقفًا بقبرص، يعلن فيها بوضوح موقف هؤلاء الرهبان وأخطاء كتابات أوريجينوس العقيدية. أُعجب القديس جيروم بموقف البابا ثاوفيلس الحازم، بينما بعث أساقفة فلسطين للبابا رسالة يوضحون فيها أن ما جاء في رسالته عن أخطاء أوريجينوس، لا يقبلونها حتمًا وأنه لا وجود لها في فلسطين. إذ كان البابا ثاوفيلس يلاحق الاخوة طوال القامة أينما حلوا لم يجدوا راحة فانطلقوا من بلد إلى بلد ومن أسقف إلى أسقف، وأخيرًا اضطروا إلى الالتجاء إلى القديس يوحنا الذهبي الفم بالقسطنطينية، أوائل عام 402م. وإذ كان ذهبي الفم يعشق الحياة الرهبانية، ويحب رهبان مصر على وجه الخصوص أرسل إلى البابا ثاوفيلس يطلب منه الصفح عن الاخوة طوال القامة، مدافعًا عنهم وعن العلامة أوريجينوس، فأثار غضب البابا بدلاً من رضاه، خاصة وأنه عرف أن البطريرك قد سمح لهم الشركة في العبادة العامة، فأرسل إليه رسالةً مملوءة جفاءً وتعنيفًا، واتهمه بتحريض الرهبان للتمرد عليه. كان لهذه المشكلة أثرها في محاكمة القديس يوحنا الذهبي الفم ونفيه. للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم: سيرته (7) مشكلة الاخوة طوال القامة.