فاتني في رسالتي الأخيرة الرد على سطرين وردا في النهاية. ليكن تعليقي هذا إذاً هو ختام هذه الرحلة أخيرا، لمن يهمه الأمر، طالما أن الأستاذ مصري فيما يبدو "خرج ولم يعد"!
***
مع انه لا يوجد اى اثر لهذه العقائد قبل عصر نيقية
والمراجع والنت قدامك..
"ظهرت" بالطبع كل هذه العقائد قبل ذلك، بل منذ اللحظة الأولى، لكنها فقط لم "تتبلور" قبل نيقيه وحتى بعدها. بكل الأحوال ليس مهما على الإطلاق متى ظهرت حقا هذه العقائد أو متى تبلورت فاتضحت واستقرت وأخذت شكلها الأخير. لماذا ليس ذلك مهما؟ لسببين:
الأول أن المسيحية، كما نؤكد دائما، هي "خبرة" حية مباشرة، روحية وجودية شاملة، لا مجرد "عقيدة" تخاطب العقل وتحاول أن "تترجم" له ـ بقدر ما تستطيع ـ هذه الخبرة نفسها. لذلك، قبل نيقيه وقبل أن يولد حتى آباء نيقيه، تقدم الآلاف باسم المسيح دون تردد وبكل جسارة ليواجهوا أبشع صنوف العذاب والمعاناة والألم حتى الاستشهاد. فما الذي حملهم على هذا، إن لم يكن إيمانهم العميق الذي لا يتزعزع؟ وما الذي جعل إيمانهم عميقا لا يتزعزع، راسخا صامدا أمام الأهوال بل حتى في وجه الموت نفسه؟ هل هو "قانون الإيمان" كما صاغه أثناسيوس، أو "عقيدة الثالوث" كما شرحها باسيليوس؟ لا هذا بالطبع أبدا ولا تلك، بل ببساطة هذه "الخبرة" الحية المباشرة، قوة الله ذاته وعمل روحه القدوس في قلوب كل مَن عرفوه.
السبب الثاني ـ لماذا ليس مهما على الإطلاق متى ظهرت هذه العقائد أو متى تبلورت ـ هو شخص المسيح نفسه! إذا عدنا في الزمن إلى القرن الأول وحاولنا أن نعايش أهل ذلك العصر بحيث نرى الأمور حقا كما رأوها ونفهمها كما فهموها، فماذا سنجد؟ كل ما كانت هذه "الجماعة المسيحية الأولى" تملكه هو ببساطة حقيقتان اثنتان فقط لا تقبلان الشك: الأولى هي كتابهم المقدس، الناموس والأنبياء والمزامير، بكل ما يحمله من إشارات ونبوءات وإرهاصات تكاد تفوق الحصر، والثانية هي ببساطة شهادتهم هم أنفسهم، خبرتهم وتجربتهم المباشرة مع هذا الشخص "يسوع الناصري"!
***
لو أننا أخذنا في الحسبان كل ما قال يسوع، علاوة على كل ما فعل يسوع، فنحن ببساطة ـ كما قال سي إس لويس في مجادلته الشهيرة ـ أمام احتمال من ثلاثة: يسوع الناصري إما كاذب، أو مجنون، أو إله!
بالنسبة لتلك الجماعة الأولى ـ وهي جماعة يهودية، تؤمن بإله إبراهيم وإسحق ويعقوب ـ كان محالا أن تنكر أو أن تتجاهل ما رأوه آنذاك بعيونهم وسمعوه بآذانهم ولمسوه بأيديهم. ولماذا ينكرون ذلك ابتداء أو يتجاهلوه؟ لا هم ـ ولا معلمهم ـ كانوا فرقة متمردة في حالة انشقاق، أو جماعة قررت، هكذا دون مقدمات، "إنشاء ديانة جديدة"! ربما كان يسوع الناصري "لغزا" حقيقيا في البداية، وربما سأل الكثيرون نفس السؤال آنذاك: هل هو كاذب، أم مجنون، أم إله؟ من ثم نعم، ربما كان لغزا حتى لتلاميذه، لكنهم سرعان ما أدركوا ـ حتى عبر الكتب المقدسة ذاتها ـ أنه هو نفسه المسيا قد جاء أخيرا، هو نفسه المخلّص الذي كان الجميع بالفعل في انتظاره!
لوقا 25
فقال لهما (يسوع): «أيها الأحمقان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء!
أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟»
ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب.
لاحقا بنفس الإصحاح:
وقال لهم (يسوع): «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم: أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير».
حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.
وقال لهم: «هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مبتدأ من أورشليم...».
وفي أعمال الرسل 3 يقول الرسول وقد أدرك المعاني أخيرا:
والآن أيها الإخوة، أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم، كما رؤساؤكم أيضا.
وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه، أن يتألم المسيح، قد تممه هكذا.
فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب.
ويرسل يسوع المسيح المُبشّر به لكم قبل.
الذي ينبغي أن السماء تقبله، إلى أزمنة رد كل شيء، التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر.
فإن موسى قال للآباء: إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلمكم به.
ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب.
وجميع الأنبياء أيضا من صموئيل فما بعده، جميع الذين تكلموا، سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام.
***
حتى آريوس ـ فيما بعد ـ لم يستطع أبدا أن يتجاهل ألوهية المسيح وتفرّده. لكنه، حفاظا على وحدانية الله، لم يستطع الاعتراف به إلها كاملا. كان الحل بالتالي هو أنه وضع المسيح في رتبة فوق البشر، نعم، لكنها أيضا دون الإله الواحد. وهكذا، رويدا رويدا، صارت الكنيسة كلها آريوسية!
فقط أثناسيوس العظيم، "حامي الإيمان" حقا، وقف وحيدا. وحين قيل له: «أنت وحدك، العالم كله ضدك»، رد عليهم: «وأنا وحدي ضد كل العالم». فلماذا أصر أثناسيوس هكذا على موقفه وتمسك برأيه؟ لأن ما يقوله آريوس ـ هكذا أدرك هذا العملاق ـ هو ببساطة الإشراك بعينه! إذا كان الله حقا واحدا، أيها الحمقى، فمن الحتميّ أن يكون المسيح الابن من "نفس جوهر" الآب! لابد أن يكون الجوهر واحدا، واللاهوت واحدا. ليس لهذا الكون إله كبير وإله أصغر قليلا، فوق البشر ولكن دون الآب! بل هو إله واحد، جوهر واحد، وإن تعددت إعلانات هذا الجوهر أو تعددت أقانيمه! بعبارة أخرى، وعلى عكس ما يتصور المخالفون تماما، الهدف من عقيدة الثالوث، ولماذا أصر أثناسيوس عليها، كان تحديدا إثبات الوحدة الإلهية! كان تحديدا إثبات الوحدانية لله، وليس أبدا نفيها أو إنكارها!
من ثم فحتى العقائد ـ حين ظهرت، أو حين تبلورت ـ ما ظهرت وما تبلورت إلا لحماية هذا الإيمان، نفس الإيمان كما "عرفه" الجميع عقلا وكما "اختبروه" قلبا وروحا منذ اللحظة الأولى.
لذلك ختاما ليس مهما على الإطلاق متى ظهرت حقا هذه العقائد أو متى تبلورت. المهم هو: هل تعكس هذه العقائد في النهاية إيمان الآباء،، منذ آدم فصاعدا، وبالوقت نفسه تستوعب نبوءات الأنبياء حين تحققت، رموز الكتاب حين تكشّفت، ووعود الله حين أوفى القدوس أخيرا بوعوده؟ ثم هل تتفق هذه العقيدة ـ علاوة على ذلك ـ مع برهان "الخبرة" الحية المباشرة كما عاشها الرسل الأطهار والآباء القديسون وكل مَن عرف الله حقا؟ هذا أيها الأحباء هو المهم، وهذا هو مقياس "الحقيقة" في أية عقيدة.