هناك ببساطة مشكلة ستواجهك عاجلا أم آجلا: وهي أن كل كلمة تقريبا يختلف معناها لديك عن المعنى الذي أقصده. مثلا ما هي "الخطيئة"؟ عندما كتبت «عملية إعدام وقضاء على الخطية»: ما هو المقصود هنا بـ"الخطية"؟ عندما كتبت: «فعل الهى يصدر من الله فيؤثر فى الخاطئ»: ما هو هذا "الفعل" الإلهي، وما هو "التأثير" الذي يقع في الخاطئ؟ أيضا «يحوله إلى بار»: مَن هو بالضبط البار؟ كذلك «كما ولدته امه»: ما هي حالة الإنسان حين تلده أمه؟
فهذا يا صديقي هو ببساطة ما كنت أحاول سابقا شرحه ـ علاوة على معنى المغفرة ـ بحيث يمكننا في النهاية أن نصل معا ليس إلى إقناعك بأي شيء ـ معاذ الله ـ بل فقط إلى "توحيد المصطلح" وبناء "لغة مشتركة"، وهو الأساس لأي حوار حقيقي موضوعيّ جاد. أما وقد ابتلانا الله بشيطان المقاومة والعناد والجدل وسائر فنون السيرك و"ألاعيب شيحة"، فماذا أقول؟!
علاوة على ذلك فنحن ـ كلانا ما دمنا قد اتفقنا ـ لم نجب حتى الآن على االسؤال الذي طرحته منذ رسالتي الأولى: لماذ تتكرر الذبائح؟ لماذا تتكرر حاجتنا إلى الذبيحة؟ لقد قلتَ ـ وأقول معك ـ إن المغفرة تحوّل الخاطئ إلى «بار كما ولدته امه». فإذا كان الإنسان قد صار بارا كما ولدته أمه حقا، فلماذا يعود فيخطئ ثانية؟ ومرة أخرى أعيد الاقتباس الذي ذكرته سابقا عن القديس ذهبي الفم: تكرار الدواء يعني ببساطة ضعف مفعوله!
بالنسبة إليك ـ كمسلم ـ هذا هو "الطبيعي"! الإنسان يخطئ ثم يتوب، ثم يخطئ ثم يتوب، وهكذا حتى يأتي أجله! الإنسان "ضعيف" بطبعه ولا يستطيع أن "يثبت" في القداسة. ولكن، هل هذا حقا "طبيعي"، أم هو فقط ما "اعتدت" عليه وما تشهده في الجميع تقريبا من حولك فاعتقدت أن هذه "طبيعة" الإنسان وأنه هكذا حقا خلقه الله؟
وهنا يتساءل المسيحي في المقابل: لماذا يخلق الله كائنا حرا عاقلا رائعا كالإنسان ثم يجعل طبيعته بكل هذا "الضعف"، حتى أنه ـ رغم التوبة والندم ـ لا يستطيع أن "يثبت" في القداسة، بل ربما حتى ينحط أحيانا دون رتبة الحيوان؟ ثم لماذا خلق الله هذا الإنسان ابتداء "في كَبَد" وفي شقاء وابتلاء كما يقول القرآن؟ ما علة ذلك حقا وحكمته، إن لم يكن هو نفسه إلها ساديّا مريضا، مختلا بكل ما تعنيه الكلمة؟ ثم لماذا خلق الله ـ وهو القدوس ـ عالما بالعكس يطفح بكل هذا النجَس، بكل هذا الشر والإجرام والعنف والظلم والقهر والقسوة والألم؟!
يقترح المسيحي بالتالي اقتراحا بسيطا: أن هذه ليست حقا "طبيعة" الإنسان، ولا تلك حقا "طبيعة" العالم كما خلقه الله وكما أراده!
الحديث يطول ويطول ولكن الخلاصة هي: أن "المغفرة" يا صديقي لا تحل أبدا مشكلة الإنسان أو ترفع محنته. حتى لو أنه حقا عاد "بارا كما ولدته أمه"، فالمرنم يقول: هأنذا بالإثم صُوّرت، وبالخطية حبلت بي أمي! (مز 5:51). ونفس المعنى في أيوب: مَن يُخرج الطاهر من النجس؟ لا أحد! (أي 1:14). ثم يعود ليؤكد: زاغ الأشرار من الرحم. ضلوا من البطن. (مز 3:58). فما حال الإنسان؟ كلهم قد ارتدوا معا، فسدوا. ليس من يعمل صلاحا، ليس ولا واحد. (مز 3:53). فمن هو البار حقا الذي يقول عنه الأستاذ مصري ثائر؟ لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي! (مز 2:143). أفلا تساعدنا الصدقة على الأقل وأعمال البر كما كان يقول؟ قد صرنا كلنا كنجس، وكثوب عِدّة كل أعمال برّنا (إش 6:64)......
(هذه الشواهد جاءت كلها من العهد القديم فقط، لعلك لاحظت)!
أقول: إن "المغفرة" يا صديقي لا تحل أبدا مشكلة الإنسان أو ترفع محنته، أو حتى يعود الإنسان بعد المغفرة "بارا" حقا كما تتصور. فلماذا إذاً التناقض؟ كيف أتفق معك على تعريف المغفرة ثم أعود فأنكره؟ لا تناقض أبدا. هو فقط اختلاف المصطلح كما ذكرت في البداية: الخطيئة بالنسبة لك ـ أو الذنب ـ هي فقط هذا "الغعل" الخاطئ الذي يرتكبه الإنسان، وهذا ما قبلته معك وأقبل كل ما تقول بشأنه، وهذا ما يغفره الله ويصفح عنه. أما الخطيئة بالنسبة لي فهي بالأحرى "حالة" لا فعل، بل حتى "طبيعة" لا سلوك! "الخطيئة" التي تقصدها هي ققط "الأعراض" الخارجية للمرض، وأما الخطيئة التي أعنيها فهي هذا "المرض" نفسه، والذي "يولد" به الإنسان أصلا! لذلك فحتى لو عاد الإنسان حقا "كما ولدته أمه" ومن ثم ظهر "بارا" من الخارج: فهو ما يزال رغم ذلك مريضا يضرب المرض في أعماقه وما يزال بأمسّ الحاجة للشفاء!
أتمنى على أي حال أن تكون الإجابة التي تطلب قد وصلتك أخيرا. فإذا كان لديك أي مزيد من الجدل، فعندئذ أرجو قبل كل شيء أن تجيب فضلا عن سؤالي الذي طرحته برسالتي الأخيرة: ما هو بالضبط هدفك من هذا الحوار؟
أشكرك ختاما على الاهتمام والمتابعة، وحتى على محاولات "التثبيت" الجريئة أيضا ، تحياتي ومحبتي. ♥