علم اللاهوت النظامي

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الأربعون
التجديد والرجوع إلى الله

1 - ما هو الفرق بين التجديد والرجوع إلى اللَّه؟
* يعرِّف الكتاب المقدس التجديد أنه «الولادة الجديدة» (يو 3:3 ويع 1: 18) و«الخليقة الجديدة» (2كو 5: 17 وغل 6: 15 وأف 2: 1 و4: 24) و«القيامة إلى حياة جديدة» (يو 5: 21 وأف 2: 5) و«الولادة من الروح» (يو 3: 8) و«الحياة من الموت» (رو 6: 13). واستخدم اللاهوتيون غالباً كلمة «التجديد» أو «الولادة الثانية» بهذا المعنى، وهو التغيير الذي يجريه اللَّه في النفس ونقلها من الموت الروحي إلى الحياة الروحية، فتتغيّر ميولها الطبيعية من الشر إلى القداسة. فهو تغيير خلُقي لا يقدر على عمله إلا روح اللَّه. ويمتاز التجديد بأنه عمل اللَّه الذي يُرجِع النفس إليه. وأما الرجوع إلى اللَّه فهو عمل الإنسان الناتج عن تجديده، حيث تعود النفس إلى اللَّه بمعونة الروح القدس. والتجديد والرجوع للَّه وجهان لأمرٍ واحد، الأول يختص باللَّه والآخر بالإنسان. ففي الأول تكون النفس مفعولاً بها، وفي الثاني تكون فاعلةً، لأنه إذا غيّر اللَّه الأخلاق الطبيعية الساقطة المتسلطة على الإنسان كانت النفس بذلك مفعولاً بها. وإذا قصد الإنسان بمعونة اللَّه مقاصد جديدة وسعى في الرجوع إلى حياة الطاعة للَّه وقبول الحق واتِّباعه كان هو بنفسه عاملاً. وبهذا يتميّز التجديد عن الرجوع، غير أنه لا بد من وجودهما معاً، لأن المتجدد يرجع للَّه، ولا يرجع للَّه إلا المتجدد. ويُعبَّر أحياناً عن أمر التجديد والرجوع معاً بكلمة «ترجيع» لأن اللَّه أرجع الإنسان إليه، فرجع إلى حياة التقوى، انقياداً لترجيع اللَّه له.
فالرجوع هو عمل الإنسان بمعونة اللَّه ليتمم مطالب اللَّه من كل خاطئ. والإنسان الساقط ينال من اللَّه الحياة الجديدة والتبرير والتبني والتقديس، كعطايا النعمة المجانية. ولكن لا بد من اقترانها بسعيه في الرجوع إلى الصلاح بالتوبة والإيمان.
ومن آيات الكتاب المقدس في الرجوع قوله «حيٌّ أنا يقول السيد الرب، إني لا أُسرّ بموت الشرير، بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئة، فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل؟» (حز 33: 11) وقوله «فتوبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم» (أع 3: 19) وقوله «وكانت يد الرب معهم، فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب» (أع 11: 21) وقوله «لأنكم كنتم كخرافٍ ضالة لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها» (1بط 2: 25).
ويرجع الخاطئ للَّه أحياناً بسرعة وعزم شديدين ثابتين، ولكنه في أحيانٍ أخرى يستغرق مدة تتردد فيها النفس إلى أن يثبت عزمها ولا تتزعزع، فترجع.
ويشتمل رجوع الخاطئ على أمرين جوهريين، هما: (أ) العدول عن الخطية، و(ب) الإقبال إلى اللَّه. ونسمّي الأول «التوبة» والثاني «الإيمان». «احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياء للَّه بالمسيح يسوع ربنا» (رو 6: 11) «لأنكم قد متُّم، وحياتكم مستترة مع المسيح في اللَّه» (كو 3:3). وهذا يعني أن الرجوع لا يتم دفعة واحدة، بل يتوالى وينمو في حياة كل مسيحي، لأن حياته تتوقف على الرجوع للرب بالتوبة والإيمان. غير أن رجوعه أولاً بعزم جديد وتغيُّر مقاصده تغيراً كلياً هو الرجوع الأصلي الذي يتبعه دائماً كل ما يوافقه من حياة التقوى.
وقد يرتد الإنسان أحياناً ويبتعد عن اللَّه وتغلبه التجارب المحيطة به، ولكنه بعد ذلك يرجع إلى اللَّه ثانية بتوبة جديدة. ويُعبَّر أحياناً عن هذا بأنه «رجوع ثانٍ إلى الرب». لكن الأَوْلى أن نسمّيه «ترك الخطية» أو «الانفصال عن العوائد الرديئة» أو «التوبة عن الفتور» أو «العودة من الارتداد». وتُخصَّص كلمة «الرجوع» للتعبير عمّا جرى في بداية الحياة المسيحية في المؤمن عندما شرع أن يسلك في طريق التقوى.

2 - ماذا يقول الكتاب المقدس في التجديد؟
* (1) التجديد ضروري لخلاص الخاطئ (يو 3: 7 وغل 6: 15 وعب 12: 14 وأف 2:2 ورو 3: 11 ويو 6: 44، 65). ويحتاج الإنسان إليه لأنه خاطئ لا يحب القداسة ولا يرغب فيها، ولا يستطيع ما دام في تلك الحال أن يقبل كفارة المسيح بقلبٍ صادق، ولا أن يستفيد منها.
(2) التجديد تغيير تنشأ منه حياة جديدة (يو 3:3 و5: 21 ورو 6: 13 وأف 2: 1 و5: 14). فالخاطئ في حالته الطبيعية ميت بالخطية. وكما أن الميت بالجسد لا يرى ولا يحس ولا يقدر أن يعمل، ولا يتأثر بما يؤثر في الحي، كذلك الخطاة هم موتى بالخطية، عاجزون عن إدراك الأمور الروحية وما يختص باللَّه وبالخلاص وبالواجبات الروحية، ولا يسرّون بها، فيحتاجون لحياة روحية جديدة تنظر نظرةً جديدة للَّه والمسيح والإنجيل والقداسة.
(3) التجديد هو تغيير القلب والأخلاق الباطنة، فتتغير صفات الإنسان الأصلية المتسلطة فيه، وينال قلباً جديداً (مت 12: 33-35 و15: 19 وأع 16: 14 ورو 6: 17 و10:10 ومز 51: 10 وحز 11: 19). والقلب في اصطلاح الكتاب هو ما يفتكر ويشعر ويريد ويعمل، فهو النفس أو الذات. وعليه يكون القلب الجديد ذاتاً جديدة، ويكون التجديد هو ولادة الإنسان ولادة جديدة إذ تأخذ نفسه حياة جديدة وطبيعة جديدة، فكما جعل اللَّه طبيعة آدم مقدسة عندما خلقه، هكذا يخلق في من يختاره للخلاص طبيعة جديدة مقدسة، حتى تتغير ميوله من جهةٍ إلى أخرى.
(4) التجديد هو التغيير الكلي للنفس (أف 2: 5، 10 و4: 23، 24 وكو 1: 13 ورو 8: 2 و2كو 5: 17). وحسب التعليم الإنجيلي تتجدد النفس كلها، بقواها العقلية والحسية وإرادتها. ويبرهن ذلك أن النفس جوهر واحد وقُواها غير منفصلةٍ عن بعضها، فلا يكون بعضها صالحاً والآخر رديئاً، أو البعض يخلُص والآخر يهلك. ولما كان التجديد يشمل كل قُوى النفس قيل إن العقل يستنير والإحساسات تتغيَّر والإرادة تتجدد، ويحصل المتجدد على المعرفة الصحيحة والشعور الصالح والإرادة الخاضعة لأوامر اللَّه، فيصير كالشجرة الجيدة التي تعطي ثماراً جيدة، أي أن كل الشجرة تصير جيدة لا جزء منها. وكذلك تكون النفس في وحدتها، موضوع فعل الروح القدس في التجديد.
(5) التجديد فجائي يتم في الحال عندما يفعله الروح (يو 5: 24 ورو 6: 4 وكو 2: 13). فالروح القدس حين يجدد النفس يتمم ذلك دفعة واحدة بعمل قوته الفائقة. وبهذا المعنى يتميّز التجديد عن الاقتناع العقلي في أنه إيجاد حياة جديدة، وإقامة الميت إلى الحياة. وهو عمل سري لا يُعرَف ولا يُدرَك بشعور المتجدد، بل بما ينتج عنه فقط من التغيير في طبيعته وأفكاره وأعماله، كقول المسيح «الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح» (يو 3: 8).
(6) التجديد هو عمل الروح مباشرةً بلا واسطةٍ إنسانية، ولكنه يتم بواسطة كلمة حق الإنجيل. فإذا اعتبرنا التجديد خليقة جديدة وولادة جديدة روحية فهو يتم بفعل الروح القدس مباشرةً في النفس كما في تجديد الأطفال. ولكن إذا اعتبرنا التجديد جزءاً من رجوع الإنسان إلى اللَّه، فهو يتم في البالغين دائماً بواسطة مرافقة كلمة الحق التي تقنع الإنسان وتحثّه على إتمام ذلك. والواسطة الوحيدة التي في طاقة الإنسان أن يستعملها لأجل نوال التجديد هي قبول الحق. على أننا لا نجزم ونقول بعدم إمكانية التجديد بدون معرفة كلمة حق الإنجيل، لأن التجديد يتم في الأطفال، وإن شاءت الإرادة الإلهية يُحتمل أن يتم كذلك في الوثنيين المسترشَدين من الروح للاتكال على مجرد الرحمة الإلهية، وباستعمال ما عندهم من النور استعمالاً حسناً. وقد فصل اللاهوتيون في هذه المسألة بقولهم إن الروح القدس هو فاعل التجديد، والحق هو الواسطة التي يستعملها الروح ليكمل مقصده. غير أن الحق ليس له فعلٌ في ذلك إلا باستعمال الروح إياه بقوته الفائقة (يع 1: 18 و1بط 1: 23 وأف 6: 17).
(7) التجديد هو عمل اللَّه، فاللَّه هو المجدِّد والنفس هي المجدَّدة. وتظهر في التجديد قوة اللَّه القادرة على كل شيء، فهو فعال دائماً، لا بمعنى أنه يُجبر الإرادة، بل بمعنى أنه يقنعها ويجذبها حتى توافق قصده من تلقاء نفسها بالتسليم الاختياري (يو 1: 13 و3: 5 وأف 1: 19، 20 و2: 10 و1بط 1: 3).
وبناءً على ما سبق تتضح حقيقة التجديد، فنقول:
(1) ليس التجديد تغييراً في جوهر النفس ولا في بنيتها الأصلية.
(2) ليس التجديد من أعمال النفس، خلافاً لقول البيلاجيين الذين قالوا إن التجديد هو عمل الإنسان وإنه لا يختلف عن الإصلاح الذاتي.
(3) ليس التجديد تغييراً في قوة واحدة من قُوى النفس دون غيرها، لأن العقل لا يتجدد دون الحواس الباطنة، ولا الإرادة دونهما، لأن حياتنا الروحية واحدة.
(4) ليس التجديد مجرد استنارة، لأنه حياة جديدة. والاستنارة واحدةٌ من نتائج التجديد، إذ تستنير النفس بنور الحق وتقدر على رؤيته بكماله وجماله ومجده.

3 – ما هو الرأي الإنجيلي في التجديد؟
* الإنسان بسقوطه في حال الخطية خسر كل قدرة الإرادة على كل خير روحي يتعلّق بالخلاص. وهو في هذه الحالة الطبيعية يكره كل ما هو صالح. وهو ميت في الخطية فلا يستطيع بقدرته الذاتية أن يُرجع نفسه ولا أن يُعد نفسه للترجيع. وإذا رجع الخاطئ ينقله اللَّه إلى حال النعمة ويعتقه من عبوديته الطبيعية للخطية. وبنعمته وحدها يقدّره على أن يريد بالحرية ما هو صالح روحياً فيفعله. غير أنه بسبب الفساد الباقي فيه لا يريد مجرد الصالح ولا يريده إرادة تامة، ولكنه يريد الشر أيضاً فيفعله. وكل الذين قد سبق اللَّه فعيّنهم للحياة شاء أن يدعوهم بكلمته وروحه في الوقت المعيَّن المختار من حال الخطية والموت التي هم فيها بطبيعتهم إلى النعمة والخلاص بيسوع المسيح، فينير أذهانهم إنارة روحية خلاصية حتى يفهموا أمور اللَّه، فينزع قلبهم الحجري ويعطيهم قلباً لحمياً، ويجدد إرادتهم. وبقوته الضابطة يحوِّلهم إلى ما هو صالح ويجذبهم إلى المسيح جذباً كافياً حتى يأتوا إليه بكامل حريتهم إذ جعلهم منتدَبين بنعمته.
هذه الدعوة الكافية هي من نعمة اللَّه المجانية الخاصة، وليست من شيء سبق اللَّه فرآه في الإنسان.

4 - ما هي الأقوال المختلفة في سبب التجديد الفعال، وما هو القول الصحيح؟
* شاعت في تاريخ علم اللاهوت ثلاثة أقوال في سبب التجديد الفعال:
(1) الأول أن سببه هو الإرادة البشرية، والقائلون بذلك فريقان: (أ) القائلون باستقلال الإرادة البشرية عن كل الوسائط باعتبارها السبب الوحيد في تجديد النفس و(ب) القائلون باقتران تأثير الحق وقوة اللَّه بالإرادة البشرية في التجديد، حتى تشترك الإرادة البشرية مع الروح القدس في التجديد. فالفريق الأول يقولون إن النفس تجدد نفسها. وهذا مرفوض لأن الخاطئ عاجز بسبب خطيته وتسلط الميول الشريرة عليه، حتى أنه لا يقدر أن يختار الصلاح ويسعى في البر إلا إذا تغيرت أخلاقه بفعل الروح القدس. فالإنسان لا يختار من تلقاء نفسه ما يخالف الأخلاق الداخلية الراسخة فيه. والفريق الثاني (وهم الأرمينيون) يقولون إن الإرادة البشرية تشترك مع الروح والحق في تجديد النفس. وهذا المذهب يصح في أمر الرجوع إلى اللَّه، لأن الإنسان يسعى ليعمل اللَّه فيه. أما في تجديد النفس وتغيير الأخلاق الأصلية الراسخة في الإنسان فليس للإرادة البشرية قدرةٌ على ذلك، لأن تلك الأخلاق أقوى من الإرادة، والإرادة خاضعة لها حتى لا يقدر الإنسان أن يخالفها. ولذلك كان التجديد في الإنسان يمس ما هو وراء الإرادة وأعمق منها. والإرادة لا تفعل التجديد ولا تشترك في عمله، بل هي مفعول بها. ويختار الإنسان القداسة نتيجة للتجديد. ولا يتم التجديد باختيار الإنسان له، وإنما تقبل الإرادة التجديد.
(2) السبب الفعال للتجديد هو الحق الذي يؤثر مباشرةً في نفس الإنسان فيعمل فيه ليتجدد.
فنقول إن هذا الرأي ينسب إلى الحق قوة ليست فيه، لأن الخاطئ لا يقبل الحق مهما اتضح أمام ذهنه، ولا يؤثر الحق فيه بمجرد تأثيره الذاتي لأن قلب الخاطئ يرفضه، ويرفض أن يتسلط الحق عليه. ويجب أن ينظر القلب إلى الحق نظراً جديداً ويحبه، ويكون مستعداً لقبوله قبل أن يأخذ الحق مفعوله فيه. فالتجديد بمقتضى هذا المذهب ليس إلا تأثير الحق في النفس، على أن الإنسان لا يقدر أن يميّز الحق ويطيعه إلا بقلب جديد وأخلاق متغيرة بروح اللَّه. والإنسان لا يختار اللَّه ولا يطيع حقه إلا إذا ظهر اللَّه لديه وصار موضوع محبته وإكرامه وطاعته، فإن «اهتمام الجسد هو عداوة للَّه، إذ ليس هو خاضعاً لناموس اللَّه، لأنه أيضاً لا يستطيع» (رو 8: 7).
(3) سبب التجديد الفعال هو الروح القدس، الذي وحده يقدر أن يغيّر أعماق القلب البشري، وهو يؤثر في الإنسان بواسطة الحق. ولا يتم التجديد في البالغين إلا إذا رافق الروحُ القدس كلمةَ حق الإنجيل. فالحق بدون الروح عاجز، والروح لا يستحسن تجديد الإنسان إلا ببيان الحق للنفس. على أن الفاعل القدير ليس الحق، بل الروح. قال بولس «سيف الروح الذي هو كلمة اللَّه» (أف 6: 17) وهذا السيف إن لم يكن في يد الروح فلا تأثير له. ولكنه إذا كان بيد الروح كان تأثيره فعالاً. ولا يتم فعل الروح بمجرد جعل الحق مؤثراً، بل يغير جوهر القلب ويجهزه لقبول الحق واتِّباعه. فالنفس مفعولٌ بها رأساً بالروح، لا بواسطة الحق فقط. والخليقة الجديدة هي عمل الخالق رأساً، كما قيل في ليدية إن اللَّه فتح قلبها لتصغي إلى ما كان يقوله بولس (أع 16: 14). فكما أن عين الأعمى لا تبصر مهما زاد النور حولها، إلا بعد إزالة العمى، وكما أن الميت لا يتأثر بالمؤثرات الخارجية مهما اشتدت قوتها إلا بعد رجوع الحياة إليه، هكذا عمل الروح في التجديد لا يتم إلا بقوة الروح الذي يقيم النفس للحياة المتجددة ليأخذ الحق مفعوله فيها. والحق هو الواسطة المرافقة لا الفعالة في هذا التجديد.
5 - ما هي الأقوال المختلفة في الواسطة التي يتم بها التجديد؟
* في ذلك قولان، هما قول التقليديين وقسم من الأسقفيين، وقول الإنجيليين:
(1) الأول يعتبر المعمودية واسطةً فعالة ضرورية للتجديد، ويقول إنه عندما تتم المعمودية يتم التجديد، ولا يتم التجديد إلا بالمعمودية. واتفق معهم قسمٌ من أهل الكنيسة الأسقفية، وكذلك بعض اللوثريين. وهناك آياتٌ يستند إليها أهل هذا المذهب (ومنها يو 3: 5 وأع 2: 38 وكو 2: 12 وتي 3: 5). مع أن هذه الآيات تقول إن عمل التجديد يتم بقوة اللَّه لا بالمعمودية، وتشير إلى التجديد الداخلي كما تشير إلى العلامة الخارجية لذلك، وليس فيها ما يربط قوة التجديد بالمعمودية.
والقول بفعل المعمودية في التجديد مرفوض، لأن الكتاب يعلّمنا أن المعمودية علامة خارجية تشير إلى التجديد الداخلي، فإذا لم يكن قد تم التجديد في النفس لا يجوز تعميد البالغين (أع 8: 12) فالأمر الجوهري في التجديد ليس فرض المعمودية الخارجي بل رجوع النفس الداخلي إلى اللَّه كما قال بطرس «الذي مثاله يخلِّصنا نحن الآن، أي المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن اللَّه» (1بط 3: 21). فالسؤال عن اللَّه بضميرٍ صالحٍ هو رجوع النفس إلى اللَّه، وذلك أهم جداً من المعمودية التي هي إشارة خارجية إليه.
ونردّ أيضاً على هذا الاعتقاد بأن علاقة التجديد بالمعمودية ليست كعلاقة المعلول إلى علته، لأن التجديد تغيير روحي في الإنسان، والمعمودية عمل خارجي لا يتجاوز الجسد إلى النفس، إلا في ما يحدث فيها من التعليم الإلهي المرافق لخدمة السر. والكتاب لا ينسب أيَّ تأثيرٍ داخلي في النفس لأي فرضٍ خارجي.

(2) والقول الثاني يعتبر أن قوة اللَّه هي الفاعل في تجديد أخلاق النفس وتغيير صفاتها من حالٍ إلى أخرى، وأن الحق هو الواسطة التي تجعل الإنسان يسعى لنوال الحياة الجديدة. والروح القدس يجعل الحق فعالاً ويُقدِّر النفس على تمييز الحق وقبوله واتِّباعه، فينتج من ذلك أن النفس من جهةٍ واحدةٍ مفعول بها، ومن جهةٍ أخرى فاعلة. فهي مفعول بها في ما يختص بتغيير أخلاقها، وهي فاعلة في استعمال تلك الأخلاق المتجددة. واستعمال النفس ذلك هو إجابة لتأثير الحق فيها. وبهذا المعنى نوفّق بين عمل اللَّه وفعل الإنسان في أمر التجديد والرجوع إلى اللَّه، فاللَّه يجري التجديد بقوة روحية فائقة عاملة في تغيير أخلاق النفس، وهي عند ذلك ترجع إليه بسبب تأثير الحق فيها. على أن عمل اللَّه وعمل النفس غير منفصلين في الزمان، لأن النفس المتجددة لابد أن تسعى حالاً في الرجوع إلى اللَّه. وبما أن التجديد ليس عمل الإنسان، ولا يُطلَب منه سوى الرجوع، وجب على الكارز بالإنجيل أن يحثّ سامعيه أن يرجعوا إلى اللَّه حالاً، كأنهم متجددون لا بأن يجددوا أنفسهم. وكل من يسعى في الرجوع للَّه يبرهن على أن التجديد قد تم فيه بسبق عمل اللَّه، وإن لم يعرف هو بذلك إلا بعد ظهور نتائجه.

6 - ما هي نتائج التجديد؟
* (1) تغيير صفات النفس فجأة وإصلاح ميولها، وإنارة العقل، وحثّ الإرادة على الطاعة وتمكينها من ذلك (يو 7: 17 وأع 16: 14 وأف 1: 18). فالنفس المتجددة ترجع للَّه بالتوبة والإيمان، وعند ذلك تتبرر، فتعيش عيشة جديدة وتتقدس أكثر فأكثر إلى أن تُقبَل أخيراً في أمجاد الحياة السماوية بعد الموت وتكميل تقديسها.
(2) من أهم نتائج التجديد اتحاد النفس مع المسيح بحياة روحية، فتقترن حياة المسيح بحياة النفس المتجددة، ويصبح المسيح والنفس المتجددة واحداً في حياتهما الروحية. وقد اتضح هذا الاتحاد السري بين المسيح وشعبه المتجدد بأقوال مختلفة في الأسفار المقدسة، فشبّهه الرسول بالعلاقة التي بين الأساس والمؤسَّس عليه (أف 2: 20-22 وكو 2: 7 و1بط 2: 4، 5) وباتّحاد الزوجين المؤمنين (2كو 11: 2 وأف 5: 31، 32 ورؤ 19: 7 و22: 17) وباتحاد الأغصان بالكرمة (يو 15: 1-10) وباتحاد أعضاء الجسد بالرأس (1كو 6: 15، 19 و12:12 وأف 1: 22، 23 و4: 15، 16 و5: 29، 30) وباتحاد الجنس البشري بآدم أصل حياته الجسدية (رو 5: 12- 21 و1كو 15: 22، 45، 49). وقيل صريحاً إن المؤمن الحقيقي هو في المسيح (يو 14: 20 ورو 6: 11 و8: 1 و2كو 5: 17 وأف 2: 13) وإن المسيح هو في المؤمن (يو 14: 20 ورو 8: 9 وغل 2: 20) وإن الآب والابن يسكنان في المؤمن (يو 14: 23 وأف 3: 17 و1يو 4: 16) وإن للمؤمن حياةً باتحاده مع المسيح كما للمسيح حياةٌ باتحاده مع الآب (يو 6: 53، 56، 57 و1كو 10: 16، 17 و1يو 1: 3) وإن كل المؤمنين واحد في المسيح (يو 17: 21-23) وإن المؤمن قد اشترك في الطبيعة الإلهية، ليس بمعنى أن جوهر الناسوت قد تغيَّر فصار جوهر اللاهوت، بل بمعنى أن المسيح تنازل ليسكن في قلب المؤمن بروحه (2بط 1: 4) وإن المؤمن مسكنٌ لروح اللَّه (1كو 6: 17، 19 ورو 8: 9). فالمسيح بمقتضى هذا التعليم يحل بروحه في القلب المتجدد، ويتم بذلك اشتراك حياة المؤمن في حياة المسيح. وليس لهذا الاتحاد السري نهاية، فهو يزيد لذة وتأثيراً وقوة إلى أن يبلغ الكمال في الحياة السماوية، وهو من أول نتائج التجديد وأهمهما، بل هو التجديد ذاته، بمعنى أن التجديد يتم به.
7 - ما هو السر العظيم في التجديد؟
* يعلّم الكتاب أن الخاطئ يحتاج إلى التجديد، وأنه لا يقدر أن يجدد نفسه، وأن الرجوع الحقيقي للَّه يقترن دائماً بالتجديد. ومع ذلك يحثّ الكتاب الخاطئ على الرجوع للَّه بالتوبة والإيمان، ويُعتبَر خاطئاً إذا تأخر عن ذلك. فللَّه عمل ضروري في التجديد لا يقدر البشر عليه ولا يشتركون فيه. كما أن للإنسان عملاً ضرورياً في التجديد يتبع عمل اللَّه ولا يتم بدونه. والإنسان مسؤول أمام اللَّه إذا لم يرجع إليه تائباً.
فإن قيل إن طلب ذلك من الخطاة الموتى عبثٌ، قلنا: لا، لأن اللَّه أمرنا أن نعمل هكذا، ووعد أن قدرته الإلهية ترافق تلك الدعوة، فيقدر الإنسان أن يستجيب لها. ولما كان التجديد لا يحدث في البالغين إلا إذا عمل الروح القدس فيهم بكلمة الحق، وجب على كل كارز بالإنجيل أن يقف أمام الخطاة كما وقف حزقيال النبي أمام البقعة المملوءة عظاماً ودعا الأموات بالخطايا ليقوموا ويحيوا، على رجاء أن روح اللَّه يحيي النفوس ويعطيها القدرة على إجابة الدعوة. ونحن نعلم أن الإنجيل يأتي لا بالكلام فقط، بل بالقوة أيضاً وبالروح القدس وبيقينٍ شديد (1تس 1: 5). «استيقِظ أيها النائم وقُمْ من الأموات فيضيء لك المسيح» (أف 5: 14). فإن قيل إن ذلك سرٌ لا يدركه العقل البشري قلنا إن الديانة الإلهية لا تخلو من الأسرار التي لا تستطيع عقول البشر أن تدركها. وإن قيل إن هذا التعليم لا يوافق عدل اللَّه، قلنا: كان الأَوْلى بنا لا أن نعترض، بل أن نجتهد في الرجوع للَّه، وأن نحثّ الناس على أن يرجعوا أيضاً، لأن اللَّه يعامل البشر بالعدل. ولما كان هذا تعليم كتابه المقدس، فلا بد أنه يوافق عدله الإلهي. والقول إن اللَّه ملزوم (بموجب عدله) أن يعامل كل البشر بالتساوي في كل شيء حتى في الرحمة والإحسان أيضاً، يخالف الواقع وغير صحيح (قارن بما قلناه في قضاء اللَّه في فصل 16 س 41-46).
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الحادي والأربعون
الإيمان والتوبة

1 - بماذا يتمّ رجوع النفس إلى الله؟

* يتم بالإيمان والتوبة. فالإيمان هو نظر النفس المتجددة إلىالله، مع قبول شهادة الكتاب المقدس عنه، والاتكال على النعمة الإلهية كما أعلنها الله في عمل الفداء. والتوبة هي نظر النفس المتجددة إلى الخطية بالحزن والخجل، والعزم على تركها، وإتمام ذلك فعلاً، والسعي في حياة مقدسة تطيع أوامر الله. والإيمان والتوبة هما نتيجة الاقتناع بكل ما يتعلق بأحوال النفس الطبيعية الساقطة، واحتياجها إلى المغفرة والخلاص بدم الفادي اقتناعاً كافياً. وهذا الاقتناع لا يحدث إلا في النفس المتجددة التي آمنت وتابت، وهما من أول أعمال التجديد، ويكونان مصحوبين دائماً برجوع الخاطئ إلى الله.

2 - ما هو الإيمان؟

* أبسط تعاريف الإيمان هو أنه «تصديقٌ مبنيٌّ على الشهادة» سواء كانت شهادة البشر أم شهادة الله، وسواء كانت الشهادة بالقول أو بالختم أو بالعلامة أو بالمعجزة. فلما قال إيليا إن الرب هو الله وإن البعل كاذب، قال «الإله الذي يجيب بنار هو الله». وكان نزول النار شهادة الله لصدقه. وهكذا قيل إن الله في العهد الجديد «شهد بصدق الإنجيل بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس» (عب 2: 4). وقيل إن «روح الله يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله» (رو 8: 16). فالإيمان مبنيّ على شهادة من له سلطان أن يثبته، وهو تصديق أمور غير منظورة بناءً على شهادة من له قدرة وسلطان أن يعرّفنا بها.

أما الأدلة على صحة هذا التعريف للإيمان فهي:

(1) هذا هو المعنى المشهور لكلمة «إيمان» فنحن نؤمن بالحوادث التاريخية بشهادة المؤرخين، ونؤمن بالحقائق العلمية بشهادة العلماء، ونؤمن بخبر الخلق والسقوط والفداء بشهادة الوحي كما قيل «بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله» (عب 11: 3). ونؤمن أن الله أرسل ابنه كفارة عن الخطايا بناءً على شهادة الله بذلك. وهكذا نؤمن بكل تعاليم النعمة المجانية، كالتجديد والتبرير والتقديس واتحاد المؤمن بالمسيح والقيامة والدينونة في اليوم الأخير.

(2) هكذا يعرّف الكتاب الإيمان، فالعهد الجديد هو «شهادة يسوع» ولم يأتِ المسيح فيلسوفاً بل شاهداً بدليل قوله لنيقوديموس «إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا» (يو 3: 11). وقال المعمدان «الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها، ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق» (يو 3: 31-33). وكان الرسل شهوداً عيّنهم المسيح للشهادة (لو 24: 48 وأع 1: 8 و2: 32 و3: 15 و5: 32 و10: 42، 43). وكان أعظم اعتراض على الرسل في مدن اليونانيين أنهم لم ينادوا بتعاليمهم كقضايا تقبل المناقشة أو البرهان، ولا بيّنوا الأسس الفلسفية لتعاليمهم، ولا أثبتوها ببراهين عقلية. وفي إجابة بولس على هذا الاعتراض قال إن الفلسفة (التي هي حكمة البشر) لا تبلغ القضايا العظمى المتعلقة بالله وبأعماله والخطية والفداء، وهي جهالة بالنسبة إلى أمور الله. وقال أيضاً إن التعاليم التي علّمها لم تكن من حقائق العقل بل من الإعلان السماوي، ويجب أن نصدقها لا بناءً على المبادئ العقلية أو الفلسفية بل بناءً على سلطان الله. وليس الرسل فلاسفة بل شهوداً، لم يبرهنوا وعظهم بكلام الحكمة الإنسانية، وإنما نادوا بإعلانات الله. ويجب أن نبني الإيمان بتعاليمهم على شهادة الله الصادقة لا على حكمة الإنسان.

ومن الأدلة على تعليم الكتاب المقدس في الإيمان أنه التصديق بناءً على الشهادة أنه أمرنا أن نؤمن بخبر الوحي بأمور الفداء «فمن لا يصدِّق الله يجعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي شهد بها الله عن ابنه. وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه» (1يو 5: 10، 11). والخلاصة أن موضوع الإيمان هو إعلان الله، وأساسه شهادة الله. «فمن قبل هذه الشهادة فقد ختم أن الله صادق، ومن رفضها يجعله كاذباً. وإذا قبلنا شهادة الناس فشهادة الله أعظم، لأن هذه هي شهادة الله التي شهد بها عن ابنه» (يو 3: 33 و1يو 5: 9). ونحن لا نبني إيماننا على موافقة الحق المعلَن لعقولنا، ولا على تأثيره في حواسنا، ولا لكفايته لسدّ حاجات طبيعتنا وأحوالنا (مع أن هذا كله صحيح). لكننا نبنيه على أنه كلام الله، وله هذا الختم «هكذا قال الرب». نعم إن حقائق الوحي يقبلها العقل، ولها تأثير قوي في القلب، وتكفي كل حاجات الطبيعة البشرية الساقطة وهذا ما يستميلنا إلى الإيمان ويقوّيه ويصيّره مؤثراً مفرحاً. ولكن ليس هو أساس الإيمان، بل الأساس هو شهادة الله وسلطانه.

ويتضح تعريف الكتاب للإيمان من أمثلة الإيمان فيه، فقد وعد الله أبوينا الأوَّلين بعد سقوطهما أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك 3: 15). وبُني الإيمان بهذا الوعد على شهادة الله الصادقة. ولما أنذر الله نوحاً بمجيء الطوفان وأمره أن يبني الفلك، آمن نوح، ليس لأنه رأى علامات مجيء طوفان، ولا لأن عقله برهن له أن الإله العادل ينتقم لشريعته على هذا الأسلوب. بل آمن بناءً على شهادة الله فقط. وكذلك وعد الله إبراهيم بأرض كنعان، وأنه وهو شيخ عقيم يصير أباً لأمم كثيرة، وتتبارك بنسله جميع قبائل الأرض. ولم يكن لإيمانه بذلك سندٌ منظور غير كلام الله. وحدث الشيء نفسه مع كل أبطال الإيمان (عب 11).

ويصح ذلك على كل ما جاء في الكتاب، فإيماننا بالعالم غير المنظور والسماء وجهنم وبتعليم الفداء وبأمن الكنيسة وانتصارها الكامل ليس له أساس غير شهادة الله. وإن لم يُبْنَ الإيمان على الشهادة لا يبقى له ما يُبنى عليه، فأساس الإنجيل كله قيامة المسيح من الأموات، ولو لم يكن المسيح قد قام فإيماننا باطل ونحن بعد في خطايانا. وأساس تأكيدنا أن المسيح قام في اليوم الثالث هو الشهادة التي شهد الله بها في الأسفار المقدسة.

الإيمان إذاً هو تصديق الحق بناءً على الشهادة. ويؤمن المسيحيون بصدق الحوادث والتعاليم المدونة في الكتاب بناءً على شهادة الله لها.

3 - ما هي أنواع الإيمان؟

* الإيمان الديني أنواع، فقد يكون مركزه العقل لا غير، فيكون إيماناً عقلياً فقط. ويعتقد كثيرون أن الكتاب المقدس كلام الله، ويقبلون كل تعاليمه باعتقاد العقل. وقد يكون مركزه الضمير الذي يشهد بصدق الحق ويحث الإنسان على التسليم والعمل بموجبه. غير أن الإنسان قد يقاوم حث ضميره ولا يعمل بموجبه، فيكون هذا الإيمان كالزرع الذي ليس له أصل، فيجف بعد قليل وييبس. وقد يكون الإيمان تصديق الحق باشتراك العقل والضمير والقلب، ولا سيما قبول تعاليم المسيح وعمل الفداء، فهو يجعلنا متحدين بالمسيح وأعضاء حية في جسده، ويعطينا نصيباً من كل فوائد الفداء، ويعمل بالمحبة ويثمر أثماراً صالحة. وهذا الإيمان الحي يجعل النفس قادرةً على فهم الحقائق الدينية، فترى فضل الحق وجماله وتميز معناه الروحي، وتفرح به وتقبله وتقتنع به غاية الاقتناع، وتثمر أثمار الإيمان وهي قداسة القلب والحياة. ويقول الكتاب إن الإيمان من ثمار الروح، وإنه هبة الله (كو 2: 12). وأوضح الرسول أصل الإيمان بقوله إنه لم يعتمد في نجاحه على كلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل على برهان الروح لكي لا يبني إيمان البشر على حكمة الناس بل على قوة الله (1كو ص2). فشهادة الروح المقنعة هي دعوته الداخلية الفعالة التي تقود النفس إلى الإيمان الحي، وتُغيّرها. ويشبّه الكتاب هذا بفتح عيني الأعمى ليرى حقيقة الخليقة وعجائبها ومجدها. فالإيمان العقلي هو إقناع الأعمى بجمال الطبيعة قبل فتح عينيه. أما الإيمان المبني على شهادة الروح الداخلية فهو إقناعه بذلك بعد فتح عينيه.

4 - ما هي صفات الإيمان الحقيقي الخلاصي؟

* (1) القبول العقلي للإعلانات الإلهية، فيسلّم العقل بصدق الأسفار المقدسة وبحقيقيَّة الخلاص المُعد لنا بالمسيح، وبصحّة ما يقوله الكتاب عن حالة الإنسان الطبيعية الساقطة واحتياجه إلى المسيح. على أن هذا وحده لا يفيد صاحبه للخلاص، بل يهدي (وحده) الإنسان في طريق الإيمان الخلاصي.

(2) الاقتناع العقلي والقلبي بموافقة عمل الفداء لاحتياج النفس الساقطة، وتقديم الشكر والحمد لله على تمهيد طريقٍ موافقة للخلاص بالمسيح، ومعدَّة مجاناً لجنسنا الساقط. على أن الإيمان الخلاصي لا يتم فقط بالانتباه العقلي ولا بالاقتناع القلبي المقترن بالشكر، بل يلزم له أمر آخر.

(3) الاتكال الاختياري على المسيح باعتباره ربنا ومخلِّصنا، وهذا يتضمن الاعتراف بذنبنا وعدم استحقاقنا، وبسلطة المسيح علينا، وقبول المسيح مخلصاً لنا، والتمسك به طريقاً للمغفرة والتكفير والحياة الروحية. وهناك آيات كثيرة في الكتاب توضح لنا كيف نأتي إلى المسيح لننال الخلاص (مت 11: 28، 29 ويو 1: 12 و4: 14 و6: 53 و8: 12 و14: 1 و20: 31 وأع 16: 31 وأف 3: 17 وعب 12: 2 ورؤ 3: 20).

فالإيمان الحي الخلاصي يشغل القُوى العقلية والحواس الباطنة والإرادة معاً، ولا يتمُّ إلا باشتراك كل قُوى النفس فيه. والإيمان الحقيقي هو إيمان إنسانٍ واقف على صخرة في البحر، وهو في خطر الغرق يزيد عليه اضطراب البحر، وتلطمه الأمواج بقوة كل دقيقة. ويرى أثناء هذا سفينة، فينظر إليها أولاً بعقله، فيعتقد أنها واسطة النجاة. ومتى زاد الخطر ينظر إليها ثانيةً متيقّناً من حاجته إليها، وإتيانها في الوقت المناسب، فيشكر الله على وجودها وينظر إليها ثالثةً راغباً في أن تكون فيها النجاة، فيأتي إليها وقد تأكد أنها الواسطة الوحيدة لخلاصه. والنظر العقلي إلى السفينة هو الاعتقاد بوجودها وأنها توافق احتياجه، فيشكر عليهما كليهما. ولكن هذا لا ينفعه شيئاً لخلاصه ما لم يطلب السفينة ويدخلها متكلاً على أنها تنجيه، ويتمنّع بها فعلاً لخلاصه. والإيمان الخلاصي لا ينفصل عن التجديد أبداً (يو 1: 12، 13 وغل 3: 26) وهو يُشغِل العقل والحواس الباطنة والإرادة، ولا يتم إلا بالتمسك الاختياري بالمسيح بروح الاتكال عليه لأجل الخلاص.

5 - ما هو موضوع الإيمان الخلاصي؟

* للإيمان الخلاصي موضوعان: عام، وخاص. أما العام فهو المعلَنات الإلهية جميعها. وأما الخاص فهو المسيح وعمله باعتباره فادٍ (أع 17: 18 و1كو 1: 23 وكو 1: 27 ورؤ 19: 10). فالإيمان الخلاصي يعتمد على الوعد الإلهي بالخلاص بواسطة المسيح، ويتكل على الفادي. والأدلة على أن هذا هو موضوع الإيمان الخلاصي الخاص كثيرة، نقتصر على خمسة منها:

(1) شهادة المسيح الذي طلب من الناس أن يؤمنوا، وقال إنه رُفع لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 15). وإن الذي يؤمن به لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد (يو 3: 18). وإن الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية. والذي لا يؤمن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله (يو 3: 36). وإنه هذه هي مشيئة الذي أرسله: أن كل من يراه ويؤمن به تكون له حياة أبدية (يو 6: 40) وإنه هو خبز الحياة النازل من السماء. فإن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد (يو 6: 48-51). وإن عمل الله هو الإيمان بالآب الذي أرسل الابن (يو 6: 29). ولا يمكن ذكر كل الآيات التي نص فيها على أن شرط الخلاص هو الإيمان بالمسيح، لأنها كثيرة جداً.

(2) لزوم قبول المسيح، موضوع الإيمان الخلاصي فنحن نخلُص بقبولنا إياه أو قبولنا شهادة الله عن ابنه. ويقول الكتاب «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12). وقوله «أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني» (يو 5: 43) وقوله «إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم، لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه: مَن يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. مَن لا يصدق الله فقد جعله كاذباً، لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه. من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة» (1يو 5: 9، 10، 12). وقوله «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلد من الله» (1يو 5: 1). فواضحٌ أن ما يُطلب منا لأجل الخلاص هو قبول المسيح وقبول الشهادة التي شهد بها الله عن ابنه، والإيمان بأنه المسيح ابن الله الحي. فالمسيح هو موضوع الإيمان الذي يؤكد الخلاص، والإيمان هو النظر إلى المسيح والإتيان إليه وتسليم النفس له.

(3) تعليم الرسل أننا نتبرر بالإيمان بالمسيح. والمقصود بالإيمان هنا ليس الإيمان العقلي، ولا مجرد الثقة العامة بالله، ولا التصديق بالقول الإلهي، ولا اليقين بالحقائق الأبدية، بل الإيمان الذي موضوعه المسيح. قال الرسول «بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون» (رو 3: 22). وقال «إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع، لا بأعمال الناموس» (غل 2: 16). وقال «كان الناموس مؤدّبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان» (غل 3: 24). وقال «لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع» (غل 3: 26). وقال «ما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله» (غل 2: 20).

(4) المسيح فدية عنا، بذل نفسه فدية عن كثيرين وجُعل كفارة عن الخطايا وقدم نفسه ذبيحة لله. والناس يخلصون باستحقاق بره وموته. فلأنه فادينا وكفارة خطايانا، وبالإيمان به نتصالح مع الله، فيجب أن نقبله كذلك ونتكل عليه. ونظام الخلاص كله كما هو في الإنجيل يقتضي أن يكون المسيح في ذاته وعمله موضوعاً للإيمان وأساساً للثقة.

(5) حياتنا في المسيح بالإيمان تجعله يثبت فينا. وهو رأس الجسد ونحن الأعضاء وحياتنا منه. وهو الكرمة ونحن الأغصان، فلا نحيا نحن، وإنما يحيا المسيح فينا.

فهذه الأقوال وغيرها تنفي القول بأن مجرد الإيمان العام بالله أو بالكتاب المقدس يؤكد خلاصنا، وتثبت أن الإيمان الخلاصي هو الذي ينتهي في المسيح، ويجعله لنا إلهاً ومخلصاً. وقيل أيضاً إن الله أرسل ابنه إلى العالم واتخذ طبيعتنا ليعلن مشيئته ويموت عن خطايانا ويقوم لأجل تبريرنا. وفيه يحل كل ملء اللاهوت، ونحن نمتلئ من ملئه. وهو صار لنا حكمة وبراً وقداسة وفداءً. فالذين يقبلون هذا المخلِّص كما أعلن نفسه ويسلّمون نفوسهم له ويوقفونها لخدمته، هم المؤمنون بالمعنى المقصود في الكتاب.

وكل مؤمن حقيقي يقبل المسيح ويتخذه مخلصاً ومنجياً ينجو من شر الخطية وقوتها ومن سلطان الشيطان وكل سيئات الابتعاد عن الله، ويتَّخذه حكمة وبراً وقداسة وفداءً، ويعتبره إلهاً ومخلِّصاً ونصيب نفسه الكافي التام والواهب الحياة. وهذا يتضمن الخضوع لكل تعاليمه، والاتكال على بره وفدائه، والتسليم لإرادته، والثقة بحمايته، ووَقْف النفس لخدمته. فنقبله كما هو مقدم لنا نبياً وكاهناً وملكاً ومصدر الحياة والنور والسعادة، وموضوع العبادة والمحبة.

6 - ما هو أساس الإيمان، وما هي الأدلة على وجوده، وما هي أثماره؟

* أساس الإيمان هو الوعد الإلهي الثابت، والأدلة على وجوده في القلب هي السيرة الحسنة والأعمال الصالحة، طاعةً لأوامر الله. فالإيمان الذي لا يقود الإنسان إلى الطاعة والصلاح إيمان ليس إيماناً حقيقياً (يع 2: 14-26 وغل 5: 6). ومن أثمار الإيمان المحبة، فإن المحبة لله والمسيح والروح القدس لا بد تتبع الإيمان (غل 5: 22). ولا يقدر أحد أن يخلُص بمجرد معرفته أن يسوع هو ابن الله وابن الإنسان، وأنه أحبنا وبذل نفسه لأجلنا وجعلنا ملوكاً وكهنة لله، بدون أن يحب المسيح ويعبده وفقاً لثبات هذا الإيمان وقوته فيه. بل يجب أن يمتلئ قلبه من تلك المحبة ويُخضِع حياته لها. ولذلك قيل إن الإيمان يعمل بالمحبة ويطهر القلب. والمحبة حسب تعليم الرسول مستحيلة بدون الإيمان، لأننا بدونه نكون تحت دينونة الناموس. وما دمنا تحت الدينونة فنحن أعداء لله (رو 7: 4-6). وما دمنا أعداء لله نثمر للموت. ولكن حين نتصالح مع الله ونتحد بالمسيح نثمر لله، فنؤمن أن الله أحبنا ونحن نحبه، ونؤمن أن المسيح بذل نفسه لأجلنا ونوقف حياتنا له. ونؤمن أن هيئة هذا العالم تزول، وأن الأمور التي لا تُرى هي أبدية. ومتى كان لنا هذا الإيمان الذي هو أفضل من الأمور المنظورة، وبرهان الأمور الغير منظورة، طلبنا ما هو فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله.

7 - ما هي نتائج الإيمان؟

* (1) الاتحاد بالمسيح: فيصير المؤمن شريكاً للمسيح في حياته (رو 6: 4-10 و8: 10 وغل 2: 20 وأف 3: 17 ويو 15: 1-6) ويسكن المسيح فيه بواسطة حلول الروح القدس في قلبه. وسكنى الله أو المسيح أو الروح القدس فيه بمعنى واحد (قارن رو 8: 9-11).

(2) التبرير: فإننا تبررنا بإيمان المسيح (غل 2: 16) ولا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع (رو 8: 1) ومن يؤمن به لا يُدان (يو 3: 18). فالإيمان هو الشرط الذي به يحسب الله للبشر بر المسيح حسب وعده في عهد الفداء. ومتى آمنوا رُفعت عنهم الدينونة، لأنهم (وقتها) يلبسون براً كافياً لكل مطالب العدل. قال الرسول «من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا» (رو 8: 33، 34).

(3) السلام: «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رو 5: 1). والسلام ينشأ عن المصالحة المبنيّة على وعد الله بأن يصفح عن كل الذين يؤمنون بالشهادة التي شهد بها عن ابنه، ويسامحهم ويقبلهم ويخلّصهم. فيلزم أن الإيمان يتضمن تصديق هذا الوعد. وهذا التصديق يعني تصديقنا أننا متصالحون مع الله. وكما أن الإيمان قد يكون ضعيفاً أو قوياً، كذلك السلام الذي ينشأ عنه قد يكون متقطعاً ضعيفاً أو دائماً قوياً.

(4) اليقين: ويمكن وجود الإيمان الصحيح بدون أن يصل إلى درجة اليقين الثابت، على أن اليقين من نتائج الإيمان الممكنة، وهو ثمر شهادة الروح الداخلية لقلوبنا بأننا قد تممنا شروط الخلاص (رو 4: 20، 21 و8: 16 وأف 1: 13 و1يو 4: 13 و5: 10). واليقين (وإن لم يكن من جوهر الإيمان) فهو من توابعه الحسنة، التي يجب على كل مسيحي أن يجتهد في بلوغها، بحسب القول «لكننا نشتهي أن كل واحدٍ منكم يُظهِر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية» (عب 6: 11). «اجتهدوا أيها الإخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتَيْن» (2بط 1: 10). لذلك نعتبر الحصول على يقين الإيمان من حقوق كل مسيحي وواجباته.

أما أساس اليقين فهو: (أ) الوعد العام المطلق بدون شرط بأن الذين يأتون إلى الله بالمسيح لا يطرحهم خارجاً، وأن كل من يريد يأخذ ماء الحياة مجاناً. فيجب أن نصدق أن الله أمين وأنه يخلّص الذين يؤمنون به. (ب) محبة الله غير المحدودة وغير المتغيرة، ولنا فيها أساس ثابت للرجاء (رو 5: 1-10 و8: 31). (ج) استحقاق كفارة المسيح غير المحدود وفعل شفاعته الدائمة (رو 8: 34). (د) عهد الفداء الموعود به أن كل من أعطاهم الآب للابن يأتون إليه، ولا يهلك منهم أحد. (هـ) شهادة الروح أننا نفتخر برجاء مجد الله، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا. أي أن الروح القدس يؤكد لنا تلك المحبة التي يصفها بأنها غير محدودة ولا متغيرة (رو 5: 3-5). والروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كان هناك مؤمن يعوزه اليقين الثابت فذلك يعود لعيبٍ في المؤمن، لا لعيبٍ في نظام الفداء أو في مواعيد الله.

(5) التقديس: فإن الإيمان يعمل بالمحبة (غل 5: 6) ويطهّر قلوبنا (أع 15: 9). فبالإيمان نتبرر به، وبه نقبل حلول الروح القدس في قلوبنا، وبه نحيا وبه نتقدس، لأنه الثقة بما يُرجى والإيقان بأمورٍ لا تُرى. وهو الواسطة الوحيدة لنعرف الله والأمور الروحية، فهو للنفس بمنزلة العين للجسد، لأننا به نرى الأمور الأبدية التي لا تُرى وندرك قوتها وقيمتها. وبذلك تفقد الأمور الوقتية المنظورة قوتها على النفس، لأنها لا تُقاس بالأمور التي أعدَّها الله للذين يحبونه. ويتحدث العبرانيين 11 كله عن قوة الإيمان. فقد استطاع نوح بالإيمان أن يقف وحده ضد العالم، وبه قدر إبراهيم أن يقدم ابنه الوحيد، وبه فضّل موسى عار المسيح على خزائن مصر، وبه قدر آخرون أن يقهروا ممالك ويصنعوا براً، وبه سدّوا أفواه أسود وأطفأوا قوة النار، وغيرهم تقووا من به من ضعفٍ وصاروا أشداء في الحرب، وغيرهم تجربوا في هزء وجَلْد، وغيرهم بالإيمان احتملوا الرجم والنشر والقتل بالسيف، وغيرهم بالإيمان طافوا في جلود غنم وجلود معزى معتازين مكروبين مُذلّين. وإن كل أولئك حصلوا بإيمانهم على الصيت الحسن.

والإيمان شرط لازم لفعل وسائط النعمة، وهي الكلمة والمعمودية والعشاء الرباني والصلاة، لأنها وسائط لتحريك الحياة الروحية إلى العمل. غير أنها لا تعمل إن لم نقبلها ونستعملها بالإيمان. نعم إن قوتها ليست من الإيمان، ولكنه الشرط الذي بموجبه يجعلها روح الله فعالة.


(6) تأكيد خلاص المؤمن الحقيقي: «فإنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). وقال المسيح «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24). وقال «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. كل ما يعطيني الآب فإليَّ يُقبِل ومن يقبل إليَّ لا أُخرجه خارجاً. لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو 6: 51، 37، 40). وقال «خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (يو 10: 27، 28). وموضوع رومية 8 هو البرهان على تأكيد خلاص المؤمنين. والقضية التي قصد الرسول إثباتها فيه هي أنه لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، أي لا يمكن أن يهلكوا أو ينفصلوا عن المسيح ويُدانوا.

ولم يَبْنِ الكتاب ثبات المؤمنين على ثبات الإيمان فينا، ولا على مقدار التقوى في القلب، ولا على ثبات إرادة المؤمن. لكنه يبني ثبات المؤمن على ما هو خارج عنه، وهو قصد الله وعمل المسيح وحلول الروح القدس فينا واشتراكنا في حياة الفادي، ومصدر جميع هذه، أي محبة الله السرية التي لا تُحدّ ولا تتغير. ولسنا نحن الذين نحفظ أنفسنا بل نحن «محفوظون بقوة الله بإيمان لخلاص» (1بط 1: 5). ونحن جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع (غل 3: 26). والمسيح فينا هو رجاء المجد (كو 1: 27).

8 - ما هي التوبة؟

* في التوبة ثلاثة أمور:

(1) الاعتراف بأننا خطاة (مز 51: 3، 7، 11): ولكن هذا الاعتراف جزء من التوبة الحقيقية، فلا يستطيع وحده أن يقود الإنسان إلى ترك الشر، ولو أنه يجعله أحياناً يخاف القصاص. ويُسمى هذا الاعتراف في الكتاب «معرفة الخطية» بدليل قول الرسول «لأن بالناموس معرفة الخطية» (رو 3: 20).

(2) الحزن والأسف على الخطية: لأنها التعدي على حق الله وصلاحه، ولذلك يجب أن نكرهها. وسُمي هذا الحزن في الكتاب «الندامة» أو الحزن الذي يُنشئ توبة للخلاص بلا ندامة (2كو 7: 9، 10).

(3) ترك الخطية فعلاً بقصد إصلاح النفس، وطلب المغفرة والتطهير (مز 51: 2، 7، 10 وإر 25: 5): وسُمي في الكتاب «التوبة» (أع 2: 38 ورو 2: 4). فالتوبة الحقيقية لا تتم إلا بالاعتراف العقلي بخطايانا فقط، ولا بمجرد الحزن عليها، بل بالعدول عنها وتركها وطلب النعمة الإلهية لتخلّصنا منها. وليس للتوبة استحقاق، لأنها واجبة علينا في كل حين، وهي لا تفيد شيئاً في الخلاص إن لم تقترن بالإيمان الحي. ومركزها القلب لأنها عمل داخلي في الإنسان لا خارجي. وما يتبعها في السيرة الخارجية كالاعتراف أمام الله بخطايانا (لو 18: 13) وإصلاح ما عملناه من الشر (لو 19: 8) هو أثمارها. فالكتاب يميز بين التوبة والأثمار التي تليق بها (مت 3: 8). والتوبة الحقيقية ترافق الإيمان الحقيقي، فنحن لا نحزن على الخطية كأمرٍ مكروه ما لم نؤمن بالله وبرحمته. والكرازة بوجوب التوبة تتضمن أيضاً الكرازة بلزوم الإيمان (أع 19: 4 و20: 21). فالإيمان والتوبة ضروريان لرجوع النفس إلى الله.

9 - ما هو التعريف الإنجيلي للتوبة؟

* هو أن التوبة نعمة إنجيلية، ويجب على كل خدام الإنجيل أن يكرزوا بوجوبها، كما يكرزون بوجوب الإيمان بالمسيح. وبهذه النعمة يأسف الخاطئ على خطاياه ويكرهها، لا بسبب خطر الخطية وعقابها فقط، بل بسبب نجاستها، ويشعر بذلك وبأن الخطية تناقض طبيعة الله المقدسة وشريعته البارة، ويتمسك برحمة الله بالمسيح للتائبين، حتى يرجع عن خطاياه كلها إلى الله ليسلك معه في كل طرق وصاياه، ويبذل جهده في ذلك.

10 - ما هو الدليل على عدم لزوم الاعتراف لإنسان بالخطايا قبل الحصول على الغفران؟

* القول بضرورة الاعتراف لإنسانٍ ما بالخطية قبل الحصول على الغفران هو من اختراعات البشر، لم يقُله المسيح ولا علّمه الكتاب المقدس. وهو يُفسد التوبة البسيطة الحقيقية، ويرفع التوبة الطقسية إلى منزلة الاستحقاق. وهو يوجِّه أفكار التائب إلى البشر عوضاً عن الله لنواله المغفرة، كما أنه ينكر استحقاق المسيح ويعظّم استحقاق الخاطئ وقدرته على أن يخلّص نفسه بالوسائط البشرية. وهو خطأ لأربعة أسباب على الأقل:

(1) ليس له سند من العهد الجديد الذي يعلمنا أن نعترف لبعض كأخوةٍ للرب لا الكاهن، فأنت تعتذر لمن أسأت إليه (يع 5: 16).

(2) يخالف كل تعاليم الكتاب في عمل الفداء، إذ يجعل توسّط الكاهن بين المسيحي والمسيح أمراً ضرورياً، مع أن المسيح وحده هو الوسيط بين الله والبشر (قارن مع ما قلناه في فصل 32 س 5 عن شفاعة المسيح).

(3) أمرنا الكتاب بالاعتراف لله رأساً (مز 32: 5 ومت 11: 28 و1تي 2: 5 و1يو 1: 9).

(4) أدّى الاعتراف للبشر إلى شرور متنوعة، منها التعدي على حقوق البشر وحرمانهم من الحرية التي يهبها الفداء لكل ضمير.

فإذا طلب خاطئ مشورة قسيس فليس ذلك لأن القسيس هو المرجع الوحيد، لأن العهد الجديد يعلِّمنا عن كاهن حقيقي واحد هو المسيح (عب 3: 1 و4: 14 و5: 6 و7: 24 و8: 1 و9: 28). وليس للبشر أي سلطان على مغفرة الخطية، ولم يكن ذلك حتى لكهنة العهد القديم كما يتضح من أعمالهم ومن شرح الرسول للوظيفة الكهنوتية (عب 5: 1-6). ولم يقل رسل المسيح إن لهم سلطان المغفرة، بل أعلنوا أن ذلك مما يختص بالله وحده، واكتفوا بالتصريح بشروط المغفرة. فادعاء البشر سلطان الله إهانة للمسيح وإفساد لتعاليمه.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الثاني والأربعون
التبرير والتبنّي

1 - ما هو التبرير؟

* التبرير هو فعل نعمة الله المجانية الذي به يغفر خطايانا جميعها ويقبلنا كأبرار أمامه، وذلك لأجل مجرد بر المسيح الذي يُحسب لنا، والذي نقبله بواسطة الإيمان فقط. والذين يدعوهم الله دعوة كافية، هؤلاء يبررهم أيضاً مجاناً، لا بجعله براً فيهم، بل بغفرانه خطاياهم واعتباره إياهم أبراراً وقبوله لهم، لا لأمرٍ فعلوه، أو لما فُعل فيهم، بل لأجل المسيح فقط. ولا لحسبانه الإيمان نفسه، ولا الفعل العقلي الذي يقوم به الإيمان، ولا طاعة أخرى إنجيلية براً لهم، بل بحسبانه لهم طاعة المسيح وإيفاءه. وهم يقبلونه ويستندون عليه وعلى بره بالإيمان، وذلك الإيمان ليس منهم بل هو عطية الله.

والتبرير هو عمل الله القضائي الذي به يُحسَب ويُصرَّح أن قصاص الشريعة قد رُفع عن الخاطئ المؤمن بالمسيح، فرضي الله عنه كأنه بار في ذاته، وذلك لأجل بر المسيح المحسوب له كأنه بره هو بالفعل. وبذلك يتغير حكم الله على الخاطئ، فيبرره بسبب علاقته الجديدة بالمسيح بدلاً من أن يدينه، ويقبله بدلاً من أن يرفضه. وعلى هذا فالتبرير عمل تصريحي، أي تصريح الله بتبرئة الأثيم من إثمه لأمرٍ خارج عنه. وهو يتميّز عن التقديس، لأن التقديس عملٌ في نفس الخاطئ تتغيّر به طبيعته.

وقد جاء التبرير في الكتاب المقدس بمعنيين:

(1) تمجيد الله لما فيه من البر والعدل والصلاح (لو 7: 29 ورو 3: 4) غير أن وروده بهذا المعنى نادر جداً، لأنه لا يصح إلا على المسيح أو على الله في ذاته.

(2) رفع مطالب الشريعة وقصاصها عن الخاطئ باعتباره باراً بسبب بر غيره الذي حُسب له. فليس المقصود بالتبرير تحويل الإنسان الخاطئ إلى إنسان بار في الداخل بجعله باراً ذاتياً، بل التصريح أنه أصبح باراً لانتساب برٍّ إليه من خارج نفسه (أع 13: 39 ورو 5: 1، 9 و8: 30-33 و1كو 6: 11 وغل 2: 16 و3: 11). وتتضح صحة هذا المعنى للتبرير من أنه المعنى الوحيد المقصود في آيات كتابية كثيرة، منها أن الخطاة يتبررون بدون أعمال الناموس بل بدم المسيح بالإيمان مجاناً بالنعمة، بسبب إيفاء المسيح وبره المحسوب لهم (رو 3: 20-28 و4: 5-7 و5: 18، 19 وغل 2: 16 و3: 11 و5: 4 و1يو 2:2). وقد جاء التبرير للإشارة إلى عكس الدينونة أي الإنقاذ منها (رو 5: 16، 18 و8: 33، 34). وثبت هذا المعنى بعبارات أخرى في الكتاب مرادفة للتبرير (يو 3: 18 و5: 24 ورو 4: 6-8 و2كو 5: 19). وعلى ذلك يتميّز التبرير عن التقديس، لأن التبرير أمر يتم في الخارج، والتقديس في الداخل، فالتبرير لا يدل على تطهير طبيعة الخاطئ بمعنى إزالة فسادها الذاتي، بل يدل على إنقاذ من الحكم الشرعي، أي تبرئة الخاطئ أمام الشريعة، ولا يشير إلى تغييرٍ داخلي كالتجديد أو التقديس، بل إلى تغيير خارجي في علاقة الخاطئ بالشريعة، أي إلى وقوفه كبارٍّ أمامها. وعندما يصرح الله بذلك يُقال إنه قد برر الخاطئ، فصار الخاطئ مبرراً، وما فعله الله هو التبرير.

2 - ماذا يتضمن التبرير؟

* يتضمن التبرير أمرين مهمين:

(1) رفع الدينونة أو القصاص، وبموجبه ينقذ الله الخاطئ من حكم الشريعة ويصرح بأنه بار. ولا يعني هذا أن الخاطئ بريء من كل خطية، لأن ذلك خلاف الواقع. ولكن معناه أن الشريعة لا تعود تحكم على الخاطئ لأنها قد استوفت حقها من غيره، ولا يصح أن تأخذ حقها مرتين (رو 4: 5-8). ويُسمى هذا العمل بالنسبة إلى الناموس «تبريراً» وبالنسبة إلى الله باعتباره الحاكم «عفواً» وبالنسبة إلى حنوّ الله ونعمته «مغفرة» (مي 7: 18 ومز 130: 4). وأساس إنقاذ الخاطئ من حكم الشريعة ليس أمراً في نفس الخاطئ، ولا عملاً عمله هو، إنما هو عمل المسيح الذي حمل الدينونة عوضاً عن المؤمن (أع 13: 38، 39 ورو 3: 24، 26 و1كو 6: 11 وأف 1: 7).

(2) إرجاع الخاطئ إلى التمتع برضى الله، فهو لا يحصل على رضى الله بمجرد إنقاذه من حكم الشريعة، لأنه بذلك لا يكون إلا مذنباً أُنقذ من العقاب، والشريعة لا تستوفي حقها بمجرد إطلاق الخاطئ من الدينونة، بل ينبغي أن يكون للخاطئ البر الذي تطلبه الشريعة. وإتماماً لغاية التبرير يُرجع الله الخاطئ إلى رضاه كأنه بارٌ، ويُنعم عليه بهبات الطاعة الكاملة لأن طاعة المسيح قد حُسبت له (لو 15: 22-24 ورو 5: 1 و2 وتي 3: 7). ويُسمى إرجاع الله للخاطئ «المصالحة» ويُسمى باعتبار استقبال الله له كما في رجوع الابن الضال إلى أبيه «التبني» (يو 1: 12 ورو 5: 11 و8: 23 وغل 4: 5 وأف 1: 5). وإرجاع الخاطئ إلى رضى الله ليس لسببٍ في الخاطئ كاستحقاقه، وليس لعملٍ صالحٍ قام به الخاطئ، بل لمجرد طاعة المسيح عنه، ولبرّه المحسوب له. وعلى ذلك تكون علة التبرير عمل المسيح فقط، فإن المسيح بآلامه حمل عنا قصاص الشريعة، وبطاعته قام مقامنا وأوفى الشريعة حقها لأجلنا. فالتبرير أعمّ من الصفح عن الخطية أو المغفرة، لأن المغفرة هي الصفح عما يستحقه الخاطئ من القصاص، أما التبرير فهو إعادة الخاطئ إلى رضى الله الذي يكلله بفوائد بر المسيح كأنها له فعلاً.

3 - كيف ننال التبرير؟

* من الجانب البشري ننال التبرير بالإيمان كشرط أو واسطة. ومن جانب الله يعطيه لنا بحسبانه بر المسيح لنا مجاناً.

4 - ما هي مكانة الإيمان في تبرير الخاطئ؟

* الإيمان مجرد واسطة ننال بها التبرير، لأنه قبول المسيح والاتكال عليه. وليس هو سبب التبرير أو علته إلا بهذا المعنى. ويقول الكتاب إننا نتبرر بالإيمان أي بواسطته، وينسب تبريرنا دائماً إلى نوالنا فوائد عمل المسيح بالإيمان. فليس لإيماننا استحقاقٌ في حدّ ذاته بل هو شرط نوالنا استحقاق المسيح. وتتضح صحة ذلك من أن الإيمان ليس منا لنفتخر به أو ليُحسب لنا من باب الاستحقاق بل هو هبة الله (أف 2: 8 وفي 1: 29). والإيمان من ثمر الروح، فلا يُبنى عليه استحقاق (غل 5: 22). وموضوعه المسيح وكفارته، ولذلك يُرفض كل اتكال على غير المسيح. ولا يُحسب وجوده فينا فضيلةً تستحق الثواب بل يُنسب كل الفضل إلى ذبيحة المسيح ودمه (رو 3: 25، 26 و4: 20، 22 وغل 3: 26 وأف 1: 12، 13 و1يو 5: 10).

وإذا فُرض المحال وقلنا إن الإيمان يستحق الثواب فلا يتم بالإيمان إيفاء مطالب الشريعة التي تطالب بالبر الكامل قبل تبرير الخاطئ، وإنما للإيمان قوة التبرير لأنه واسطته، وبه يتم اتحاد المؤمن بالمسيح. وهو شرط نوال الخاطئ فوائد موت المسيح، كما أن قبول الهبة هو شرط نوالها. فالخلاص لنا مجاناً ولكن على شرط أن نقبله بالإيمان. وفوائد الفداء ممنوعة عنا إلا بشرط قبولنا إياها. كذلك لا يصح القول إن الإيمان يخلّصنا، بل هو واسطةٌ بها نلتصق بالمسيح الذي يخلّصنا. وهو كحلقة تنشأ بها العلاقة الضرورية بين المؤمن والمسيح. وينشأ التبرير فور وجود الإيمان في قلب المؤمن، ويتم إلى الأبد. ولا يتوقف على كون الإيمان قوياً أو ضعيفاً بل على أنه إيمان حقيقي. غير أن الإيمان القوي يولّد الثقة واليقين في قلب المؤمن.

وتتميّز المسيحية عن سائر الأديان بعقيدة التبرير بالإيمان، لأن خلاص الخاطئ بالتبرير لا يتوقف على شيء في الخاطئ ولا على أعماله، بل على ما عُمل خارجاً عنه، لأن طريق الخلاص ليس بالأعمال بل بقبول النعمة مجاناً بالمسيح. والخاطئ لا يستحق الخلاص، ولا يستطيع أن يشتريه، وإنما يقدر أن يقبله بالإيمان، فيكون له ما يستند عليه بدون خوف، وهو وعد الله الصادق، كما أنه من فوائد الكفارة.

5 - ما هو حسبان برّ المسيح للمؤمنين؟

* هو جعل بر المسيح الكامل للخاطئ المؤمن أو نسبته إليه كأنه بره. فكما أن المسيح لم يخطئ بالفعل بحسبان خطايانا عليه، هكذا نحن لسنا أبراراً إلا بحسبان بر المسيح لنا. وكما أن ما حُسب على المسيح هو عدم بر الخاطئ أو جرمه أمام الشريعة، لا إثمه الذاتي، كذلك ما يُحسب للخاطئ هو بر المسيح أمام الشريعة لا بر المسيح الذاتي (انظر فصل 27 س 9). ويتم ذلك بناءً على أن المسيح قام مقامنا وتمم الشريعة عنا. ومن الأدلة على صحة التعليم بالحسبان أقوال الكتاب (رو 5: 12-21 و4: 6-8). وهو يُستنتج من أن المسيح ذبيحتنا ونائبنا (إش 53: 6 و2كو 5: 21 و1بط 2: 24 و1تي 2: 6). فالذي يُحسَب له بر المسيح لا يحتاج إلى غيره ليقف أمام منبر الديان بلا خوف. ومعنى كلمة «حسبان» جعْل بر المسيح للخاطئ أو إضافته إليه (فصل 27 س 8، 9). طلب بولس من فليمون أن يحسب دَيْن أنسيمس عليه. وقيل «لا يحسب لي سيدي إثماً» (2صم 19:19). و«طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية» (مز 32: 2). و«الذي يحسب له الله براً بدون أعمال» (رو 4: 6). و«مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم» (2كو 5: 19). وهذه الأقوال وأمثالها في الكتاب لم تكن قط عُرضة للخلاف لأنها واضحة، فإن بر المسيح يُحسب للمؤمن. وليس المقصود به أن بر المسيح الذاتي يصير في المؤمن وينتقل إليه، فيصير صفةً من صفاته الأخلاقية، كما أنه إذا حُسبت الخطية على إنسان لا يصير خاطئاً بالفعل، بل يُحسب خاطئاً. فكذلك إذا حُسب البر للمؤمن لا يصير المؤمن باراً بالفعل، بل يُحسب باراً، ويُعامَل كأنه بارٌ. فإن بر المسيح يجعل الخاطئ باراً بالمعنى الشرعي لا الأخلاقي، أي يعطيه الحق الشرعي بالصفح الكامل عن كل خطاياه، ويفتح له باب الرجوع إلى رضى الله. ولأن البر الذي يطلبه الناموس ليس للخاطئ، ولا يمكن الخاطئ أن يصنعه، أعلن الله براً آخر (رو 3: 21) وهو بر الله لكل الذين يؤمنون. وأن الناس لا يتبررون من أنفسهم أو من أعمالهم، بل مما فعله المسيح لأجلهم، لأن الله جعله كفارةً عن الخطايا ليكون باراً ويبرر المؤمنين.

وهذا التعليم واضح في رومية 5 في المقارنة بين آدم والمسيح ورياستهما: آدم في التجربة، والمسيح في الكفارة. وقال بولس «إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرتُ كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأُوجد فيه. وليس لي بري الذي من الناموس بل الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان» (في 3: 8، 9). فلم يتكل بولس على بره الذاتي أو صلاحه الداخلي، بل على البر الذي هيأه الله له وقبله بالإيمان. وقال أيضاً إن الله «جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه» (2كو 5: 21). فقوله هذا لا يدل على أن المسيح جُعل خطية بالمعنى الأخلاقي، أي أن المسيح صار خاطئاً بالطبع أو الفعل. فكذلك نحن في التبرير، لا نصير أبراراً بهذا المعنى، بل كما أنه جُعِل خطية بحمله خطايانا كذلك نحن جُعلنا براً بحملنا بره. فخطايانا هي الأساس الشرعي لاتضاعه تحت الناموس ولكل آلامه، وكذلك بره هو الأساس الشرعي لتبريرنا. فكما أن خطايانا حُسبت عليه كذلك بره حُسب لنا. فإذا كان حسبان الخطية عليه لم يجعله فاسداً أخلاقياً، فحسبان بره لنا لا يجعلنا صالحين كذلك.

ولم يقل الكتاب قط إننا متبررون بسبب إيماننا، بل يقول دائماً إننا نتبرر بواسطة الإيمان. ولم يقل قط إن الإيمان أساس التبرير، بل إننا نخلص بالإيمان بقبولنا المسيح واتكالنا عليه وحده للخلاص. والذي نقبله هو خارج عنا، وهو المسيح وبره وطاعته واستحقاق دمه وموته، فإننا نراه ونهرب إليه ونتمسك به ونستتر بظله ونلبس برَّه. ويقول الكتاب إن النعمة والأعمال متضادان بطبيعتهما، وينفي أحدهما الآخر، لأن ما هو من النعمة ليس من الأعمال. وقد قيل فيه إن الخاطئ ينال الصفح ورضى الله بالنعمة. فإذا كان ذلك من النعمة فلا أساس له في الخاطئ نفسه. ويقول الكتاب المقدس إن الخلاص هو من النعمة، وإذا لم نقبل الخلاص بالنعمة فليس لنا نجاة.

6 - ما هو الدليل على بطلان تعليم التقليديين أن التبرير بالأعمال لا بالإيمان وحده؟

* يقول التقليديون إن التبرير لا يتميّز عن التقديس، فالإنسان الذي يتبرر يتقدس أيضاً، وفوق تبريره الشرعي أمام عدل الله يُجعَل باراً بالبر الذاتي، لأنه يتحوّل إلى إنسان بار أخلاقياً بالفعل، ويصير قدوساً في ذاته، وإن تلك القداسة الذاتية والأعمال الصالحة المقترنة بها هي أساس التبرير مع بر المسيح. وهم يقولون إن البر الذي يُؤسَّس عليه تبريرنا مشترَك بين بر المسيح وبر الإنسان أي أعماله الصالحة.

أما الإنجيليون فيقولون إن التبرير بالإيمان، وليس بالأعمال مطلقاً، كما يتضح مما يأتي:

(1) هذا ما يقوله الكتاب المقدس، ولا يوجد فيه ما يخالفه، فنحن لا نتبرر بالأعمال مطلقاً، فإنه «بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه» وهذا يشمل كل أنواع أعمال الطاعة لناموس الله، لأن كل طاعة بشرية غير كاملة، بينما تطلب شريعة الله الكمال (غل 3: 10). وقد رفض الرسول كل ثقة ببره الذي من الناموس، ورغب في أن يكون له البر الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان (في 3: 9) ووبخ اليهود لأنهم طلبوا أن يُثبِتوا بر أنفسهم (رو 10: 3). وواضح من قول الكتاب عدم التبرير بالأعمال، وهو قولٌ يُطلَق على كل بر ذاتي بالناموس. وقول المذهب البيلاجي إن المقصود بالأعمال في الكتاب «الأعمال الطقسية» مردود لأنه لم يعتقد أحد من اليهود في أيام بولس ذلك الاعتقاد، ولم يفرقوا بين الأعمال الطقسية والأعمال الأخلاقية ولم يتكلوا على الأولى للتبرير دون الأخرى. وتدل قرينة الكلام على أن المقصود بالناموس شريعة الله ووصاياه، وهذا يبطل التعليم التقليدي أن المقصود بأعمال الناموس «الأعمال قبل التجديد». ولم يدّعِ أحدٌ في زمن بولس أن تلك الأعمال تبرر، ولم يكن من داعٍ للرسول إلى أن يعلم عدم فائدتها، لأن الجميع كانوا يسلّمون به. والكتاب يميز على الدوام بين الإيمان والأعمال بياناً لفائدة الإيمان في التبرير وعدم فائدة الأعمال فيه، كقوله «إن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح» (غل 2: 16). فالمقابلة ليست بين أنواع الأعمال، بل بين جميع الأعمال من الوجه الواحد والإيمان من الوجه الآخر.

(2) يُحسب التبرير دائماً في الكتاب من باب النعمة المجانية لا من باب الاستحقاق، فالنعمة والأعمال متضادان دائماً في أمر الخلاص، بدليل قوله «فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال، وإلا فليست النعمة بعد نعمة» (رو 11: 6 و4:4). فالنعمة تنفي الأعمال، لأنه إن كان خلاصنا بالنعمة فليس هو باستحقاق الأعمال، ولم يبقَ لنا موضوع للافتخار في تبريرنا. فإدخال الاستحقاق البشري في هذا الباب نزعٌ لمجد النعمة واستحقاق المسيح، ولذلك صرح الكتاب أن تبريرنا مؤسَّسٌ على ما هو خارج عنا، كدم المسيح وطاعته وبره (رو 5: 9، 18، 19). والمسيح كاهننا، والكاهن لا يُخلِّص الذين يأتون إليه بجعلهم أبراراً بالبر الذاتي. والمسيح خلّصنا بذبيحةٍ نفسه، والذبيحة لا تطهر قلب الإنسان، إذ ليست هي إلا كفارة وإيفاءً خارجياً للعدل الإلهي. فالمخلّص نجانا بتقديم نفسه فديةً عنا، والفدية لا تجعلنا أبراراً في ذواتنا، وإنما هي تأدية المطلوب عنا. فإن كان التبرير بالأعمال، فقد انتفى الخلاص بالنعمة، وبطُل قول الكتاب بذلك.

(3) لا تقدر الأعمال الصالحة (ولو كانت كاملة) أن تكفر عن الآثام الماضية. ولكن التبرير بدم المسيح يفعل ذلك، وهذا ينفي فائدة الأعمال في التبرير من الخطايا السالفة.

(4) قصد الرسول من تعليم «التبرير بالإيمان» أن يردّ على أقوال المعترضين عليه في زمانه، والذين قالوا إن الخلاص بالنعمة ينزع لزوم الأعمال الصالحة، ولذلك يجوز ارتكاب الخطية لتكثر النعمة. وهذا يدل على أنهم فهموا تعليم بولس أن الأعمال الصالحة لا تخلّص أحداً، وأن الخلاص هو بالنعمة، فيكون تبريرهم بالإيمان دون الأعمال. فلو علَّم الرسول أن الخلاص بالأعمال لما اعترضوا عليه (رو ص6، 7).

(5) تفيد كل أقوال الكتاب أن التبرير شرعي خارج عن الخاطئ، وأن الله يبرر الخاطئ باعتبار أنه قديس. وبر التبرير ليس في الخاطئ بل في غيره، وهو بر المسيح. فلو قدر البشر أن يتبرروا ببر أنفسهم لما مات المسيح، ولو كان الخلاص بالأعمال ما كانت هناك حاجة لطاعة المسيح وبره. فلماذا مات؟ «لأنه إن كان بالناموس برٌ فالمسيح إذاً مات بلا سبب!» (غل 2: 21). وليس الخلاص مجاناً إن كان باستحقاق! وإن كان خلاصنا بالأعمال، فكيف أظهر الله به غِنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع؟ (أف 2: 7، 8). ولو كان تبريرنا بالأعمال لكان لنا ما نفتخر به! لكن الافتخار في هذا الباب ممنوع كما قال الرسول «فأين الافتخار؟ قد انتفى! بأي ناموس؟ أبناموس الأعمال؟ كلا، بل بناموس الإيمان» (رو 3: 27). فالقول بامتزاج الأعمال بالإيمان في التبرير ينفي كل ثقة بالخلاص ويجعله مستحيلاً. ولكن التبرير يتم كاملاً عند إيمان الخاطئ بالمسيح، وليس له درجات ليكمل بالتدريج في زمان طويل. فالقول إن التبرير يتوقف على حالة الخاطئ الذاتية وليس على قبوله بر المسيح بالإيمان ينزع منه كل ثقة بالخلاص، ويتركه عُرضةً للشك واليأس، مع أن له بالإيمان أساساً ثابتاً للثقة بخلاصه.

وقيل إن تعليم يعقوب الرسول (2: 14-26) ينفي أن التبرير بالإيمان فقط. وذلك مردود لأن موضوع كلام يعقوب ليس أساس التبرير، بل علاقة الأعمال الصالحة بالإيمان الحي، وهي أن الأعمال ثمر الإيمان ودليل على وجوده، فإن أساس التبرير الاستحقاقي هو بر المسيح (رو 10: 4 و1كو 1: 30). والإيمان هو الواسطة لنوالنا فائدة ذلك البر (أف 2: 8). وأما قول يعقوب فهو أن الإيمان الحقيقي حيٌ ومثمرٌ دائماً، لا ميت وعقيم، وأنه يظهر بالأعمال الصالحة.

لقد نفى بولس أن الخلاص بالأعمال، ونفى يعقوب القول إن الإيمان كافٍ ولو كانت الأعمال رديئة. بولس قال بلزوم الإيمان ومنفعته للتبرير، ويعقوب قال إن الإيمان الميت لا يبرر. ولو كان موضوع بولس الإيمان الميت لجاء وفق قول يعقوب. ولو كان موضوع يعقوب الإيمان الحي لكان مثل قول بولس. ويقول بولس إن الإيمان يبررنا أمام الله، بينما يقول يعقوب إن الأعمال تبررنا أمام الناس. فلا خلاف بينهما.

7 - ما هي علاقة الأعمال الصالحة بالإيمان الذي يُبرر؟

* الأعمال الصالحة ضرورية ولائقة، ولكنها ليست أساس التبرير، فالأعمال الصالحة هي ثمر الإيمان، وهي مطلوبة من كل مسيحي. والتبرير بالإيمان لا يحرر الإنسان من تكليفه بإتمام مطالب الشريعة الإلهية بل يُثبت ذلك عليه. والمتبرر بالإيمان لا يزال تحت سلطان الشريعة الأخلاقية ويجب أن يطيعها باعتبارها قانون حياته المسيحية، فالإيمان الحي يحثّ الإنسان على السيرة الحسنة، وكل مؤمن حقيقي يريد أن يطيع شريعة الله من كل قلبه، لكنه لا يحسب ذلك من باب الاستحقاق، بل مما يجب عليه.

8 - ما هي فوائد التبرير؟

* (1) رفع الدينونة وإرجاع المؤمن إلى رضى الله كأنه بارٌ، وهذا يشمل غفران كل خطايانا، وتمام المصالحة بيننا وبين الله (رو 5: 1 و8: 1 و2كو 5: 19). ويتم التبرير مرة واحدة، فهو ملجأٌ دائم للخاطئ يلجأ إليه دائماً بالاعتراف بخطيته وطلب مغفرتها. وأساس رجاء المغفرة الدائمة لا يزول، وهو التبرير. وما يجريه الله على المتبرر من الأتعاب والبلايا ليس على سبيل قصاص النقمة والدينونة، بل من باب التأديب لتنميته وتقديسه، وله المغفرة من الله دائماً عند إتيانه إليه بالاعتراف والتوبة.

(2) يقين الحياة الأبدية، لأن المتبررين جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع (غل 3: 26) وهم ورثة الله ووارثون مع المسيح (رو 8: 17). فقد اشترى المسيح للمؤمنين الحقيقيين ببره حقوق الحياة الأبدية. وبما أن المسيح قد أوفى عن المؤمنين كل مطالب الشريعة، لم يبق عليهم إلا التخلص من دينونتها، ونوال فوائد إتمام مطالبها. فعمل المسيح صخر الدهور، وبره رجاءٌ لا يفنى.

9 - ما هي الاعتراضات على تعليم التبرير بالإيمان، وما هو الرد عليها؟

* (1) الاعتراض أن التبرير يقود إلى إهمال الصلاح والتمادي في الإثم، لأنه إذا لم تكن الأعمال الصالحة ضرورية للتبرير فلا لزوم لها، وإذا كان الله يقبل الخاطئ كبارٍّ لمجرد شرط الإيمان بالمسيح، فما هي الفائدة من الصلاح؟ ولماذا لا نعيش بالخطية لكي تكثر النعمة؟ وقد جاوب بولس على هذا الاعتراض وردَّ عليه في رومية 6، 7 بما يأتي: (أ) هذا الاعتراض من باب المغالطة لأن الكلام على «الخلاص في الخطية» خطأ مثل الكلام على «الحياة في الموت». فكيف يمكن أن يخلص البشر من الخطية لكي يعيشوا فيها؟ أو كما قال الرسول «نحن الذين متنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟» (رو 6: 2). (ب) الإيمان الذي يؤكد تبريرنا يؤكد أيضاً الأعمال الصالحة التي هي ثمره الضروري، ويؤكد حسبان بر المسيح حلول الروح القدس فينا والسلوك الذي يتفق معه. فمن يعش في الخطية يُعلن أنه غير مؤمن بإيمان التبرير. (ج) يقترن الإيمان للتبرير دائماً بالانتقال من عبودية الخطية إلى حرية الطاعة لله، فيستحيل أن يعيش المؤمن في الخطية كما يستحيل أن يكون أحد عبداً لسيدين في وقتٍ واحد. فنحن صرنا أحراراً لا لنخطئ بحريتنا، بل قد تحررنا من عبودية إبليس ودخلنا في حرية أولاد الله.

فالتبرير بالإيمان لا يُفضي إلى التهاون مع الخطية، لأن نتيجته الضرورية هي الاجتهاد في الصلاح. وإلا فلا يكون الإيمان حياً، والتبرير لم يتم، والخاطئ لم يزل في عبودية الفساد خادعاً نفسه بالاعتقاد الباطل.

(2) مستحيلٌ أن يصرح الله بأن الخاطئ بارٌ. ونجيب على ذلك أن الله لا يصرح أن الخاطئ بارٌ ببر الخاطئ الذاتي، بل ببرٍ خارجي يُحسَب له، فلا مكان لهذا الاعتراض.

(3) بر المسيح غير كافٍ لتبرير جميع الخطاة الذين يؤمنون. والجواب على ذلك أن بر المسيح هو بر اللاهوت المتجسد، وله قيمة غير متناهية. فهذا الاعتراض باطل.

(4) لا يزال المؤمنون يخطئون، ولذلك لا يستحقون التبرير. ونجيب: لو كان أساس التبرير حال المؤمنين الذاتية الأخلاقية لما استحقوا التبرير، لا أولاً ولا آخراً. لكن أساس تبريرهم خارج عنهم وثابت، وهو بر الفادي، ولذلك لا دينونة على الذين هم في المسيح يسوع (رو 8: 1) وكل مؤمن يعترف أنه غير مستحق. على أن شعور المؤمن بعدم استحقاقه لا يناقض تعليم الكتاب أن العدل استوفى حقوقه من المسيح نائبه والمحامي عنه. ويجب التمييز بين الاستحقاق الذاتي الداخلي في الإنسان والاستحقاق الشرعي المحسوب له من خارج، أي بين البراءة الذاتية والتبرير أمام الشريعة. فيمكن أن المؤمن يتبرر من خطيته أمام الشريعة، وإن لم يزل غير مبرَّر وبلا استحقاق باعتبار حالته الأخلاقية الذاتية. فلا قوة لهذا الاعتراض، لأن عدم استحقاق الخاطئ ذاتياً لا يمنع تبريره بناءً على استحقاق غيره أي المسيح.

(5) ليس في تعليم التبرير بالإيمان ما يمنع الإنسان عن ارتكاب الخطية ويحثه على الصلاح. ونجيب: ليس هذا صحيحاً، لأننا نجد في هذا التعليم ما يذكّرنا بكفارة المسيح ومحبة الله لنا ونعمته المجانية وعدله الثابت الذي ظهر في أنه طلب موت المسيح كفارة لخلاص الخطاة، وفيه أيضاً ما يضرم فينا نار المحبة والشكر لمخلّصنا، ويحثنا على التوبة عن خطايانا والقيام بمطالبه. وفيه أيضاً التنشيط العظيم للخاطئ أن يطيع ربه، لأن قبوله عند الله مؤكد بواسطة بر المسيح (1كو 15: 58). وهذا الاعتراض خلاف الواقع، لأن المؤمن المتبرر هو المجتهد في الطاعة والحياة اللائقة. لأنه إذ يعترف أن خلاصه بالنعمة وتبريره بالإيمان يعترف أيضاً أن تلك النعمة تعلّمه أن ينكر الفجور والشهوات العالمية ويعيش بالتعقُّل والبر والتقوى في العالم الحاضر (تي 2: 12).

10 - ما هو التبنّي؟

* يُدعى البشر أبناء الله بمعنيين: (1) بأنهم مخلوقون على صورة الآب السماوي خالق البشر. (2) بأن المؤمنين منهم رجعوا إلى أبيهم بالتوبة والإيمان، ونالوا ثانية نصيب البنين بواسطة النعمة في المسيح. ومعنى التبني (بحسب الكتاب المقدس) هو المعنى الثاني، فالآب المحب الرؤوف يقبل الابن الضال الذي رجع إليه بالتوبة، ويردّ له جميع حقوق البنوية وإنعاماتها، وكل ذلك لأجل المسيح. فالخاطئ الضال يتجدد ثم يرجع إلى الله أبيه بالإيمان والتوبة، فيتبرر حالاً، وحينئذ يستقبله الله ويكلله بمحبته الأبوية ويُرحب به، ويُعيّن له نصيب الابن، فيسكن الابن ببيت أبيه متمتعاً بحقوق البنوَّة وبركاتها، ويتم بذلك ما يُسميه الكتاب «التبني». ولم ترد هذه الكلمة إلا في رسائل بولس، وقد استعارها من مصطلحات الشريعة الرومانية، واستعملها إشارة إلى ثلاث حالات: (أ) حالة بني إسرائيل في العهد القديم، كما قيل «الذين هم إسرائيليون ولهم التبني» (رو 9: 4). والإشارة في ذلك إلى اختيار بني إسرائيل من بين الأمم ليكونوا شعب الله الخاص. و(ب) حالة المؤمنين بالمسيح، أولاد الله بالإيمان، كقوله «لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع» (غل 3: 26). وقوله «أرسل الله ابنه.. ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني» (غل 4: 5). وقوله «الله سبق فعيّننا للتبني بيسوع المسيح» (أف 1: 5). و(ج) حالة أولاد الله في حصولهم على كمال نصيبهم في ملكوت المجد عند دخولهم بيت أبيهم السماوي، كقوله «نئنُّ في أنفسنا متوقّعين التبنّي فداءَ أجسادنا» (رو 8: 23). وهي بهذا المعنى مرادفة لقول المسيح في التجديد «متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده» (مت 19: 28).

ولنا أن نفهم معنى هذه الكلمة: (أ) باعتبار أن العمل عمل الله و(ب) باعتبار أنه نصيب الإنسان. فباعتباره عمل الله، هو عمل الآب السماوي بناءً على فداء المسيح بواسطة الروح القدس الذي سُمِّي «روح التبني» (رو 8: 15) وذلك الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله (رو 8: 16). وباعتباره نصيب الإنسان ليس هو البنوة المختصة بالملائكة وبأبناء جنسنا كلهم من حيث أنهم أولاد الخالق العظيم، وليست هي البنوة القائمة بتشبُّه الإنسان بالله بواسطة التقديس، بل هي بنوة المختارين المؤمنين الراجعين إلى الآب السماوي الذي يُرحب بهم كشعبه الخاص، فيحصلون على تمام رضاه، ويرثون جميع مواعيده، ويسكنون تحت حمايته، ويتوقعون ذلك النصيب الذي لا يفنى ولا يضمحل.

11 - ما هي الفوائد الجزيلة المقترنة بالتبني؟

* (1) حق الاقتراب إلى الآب السماوي بثقة البنين، كقوله «إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب» (رو 8: 15).

(2) نوال حرية البنين، لأننا افتُدينا من تحت الناموس لننال التبني (غل 4: 5). فصار الناموس لنا ناموس الحرية لا العبودية، وصارت طاعتنا طاعة البنين لا العبيد. على أن الطبيعة الساقطة لم تتحرر تماماً في هذه الحياة من عبودية الفساد، بل تتوقع التبني الكامل، أي فداء أجسادنا عند القيامة الأخيرة (رو 8: 23).

(3) امتياز اختيار الله للذي نال التبني ليعطيه الحياة الأبدية، لأن المُتبنَّي هو المختار، بدليل قوله «الذي عيّننا للتبني لنكون مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين» (أف 1: 5 ورو 8: 29). والمتبنُّون أعزاء على الله الذي اختارهم في المسيح ليكونوا إخوة المسيح في بيت الآب العظيم.

(4) نوال إرشاد الروح القدس، وحلوله فينا، فإن الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله (رومية 8: 14). ويرشد الروح القدس كل مؤمن ويعزيه ويعينه، فالروح هو نائب المسيح، بل هو روح المسيح نفسه.

(5) نوال خيرات الآب السماوي وتأديباته الأبوية وحمايته الخاصة وتعزياته الثمينة. وكل ذلك ليحفظنا ويربّينا وينمي الفضائل الروحية فينا ويجهزنا للحياة الأبدية (يو 14: 18 و1كو 3: 21 و23 و2كو 1: 4 وعب 12: 5-11).

(6) نوال ميراث القديسين المجيد المحفوظ في السماء لأجلنا، حسب قوله «من يغلب يرث كل شيء، وأكون له إلهاً وهو يكون لي ابناً» (رؤ 21: 7 قارن أيضاً رو 8: 17 ويع 2: 5 و1يو 3: 2 و1بط 1: 4 و3: 7 وعب 3: 14 ورو 8: 23 وفي 3: 1). فطوبى لأبناء الآب السماوي الذين أنعم عليهم بالتبني في المسيح فادينا العزيز.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الثالث والأربعون
التقديس والأعمال الصالحة
1 - ما معنى «التقديس» في الكتاب المقدس؟

* للتقديس معنيان: (أ) التطهير طقسياً أو أخلاقياً. و(ب) تخصيص أشخاص أو أدوات أو غيرها من الجماد لهدفٍ ديني. وهذا هو معنى «مقدس» و«قديس» فيُراد به إما المخصص للخدمة الإلهية، أو ما هو طاهر طقسياً أو أخلاقياً. والمقصود بالتقديس الأخلاقي عمل نعمة الله المجانية الذي به نتجدد في جميع قوانا حسب صورة الله، ونزداد قدرة حتى أننا شيئاً فشيئاً نموت عن الخطية ونحيا للبر.

2 - ما الفرق بين التبرير والتقديس؟

* (1) التبرير فعل نهائي يتم كاملاً وفي الحال، بينما التقديس عمل يستمر مدى الحياة.

(2) التبرير عمل شرعي يعلن فيه الله (باعتباره قاضياً) أن العدل قد استوفى حقه من الخاطئ الذي آمن. وأما التقديس فهو نتيجة معاملة الله للخاطئ بوسائط روحية تفعل في داخله.

(3) التبرير إعلانٌ بتغيير علاقة الخاطئ بعدل الله، والتقديس يتعلق بالصلاح الداخلي في قلب الإنسان.

(4) التبرير أمر خارجي والتقديس أمر داخلي.

(5) التبرير مؤسس على ما عمل المسيح لأجلنا، والتقديس على ما يعمله المسيح بروحه فينا، ونتعاون نحن فيه باستعدادنا للطاعة.

(6) التبرير كامل وهو هو للجميع بدون تمييز، أما التقديس فلا يُكمَل في الحال، وهو قابل للزيادة، ويكون في البعض أكمل وأتم منه في غيرهم.

3 - ما هي المذاهب المختلفة في التقديس؟

(1) مذهب البيلاجيين الذين ينكرون الخطية الأصلية وعجز الإنسان الروحي، وينسبون الخطية إلى الأعمال فقط دون الأخلاق الراسخة في الإنسان (انظر فصل 24 س 8-10 وفصل 26 س 7). ولا يرون في التقديس سوى إصلاح أخلاقي في سلوك الإنسان وعاداته نتيجة اجتهاده، بقوته الذاتية، وبواسطة إرشاد الحق.

(2) مذهب المعتقِدين بفاعلية الطقوس الخارجية، وهم ينسبون التقديس إلى فعل الطقوس، ويقولون إن كل من يحافظ على مطالب الكنيسة الطقسية ويطيع أوامرها الخارجية يحصل على التقديس اللازم في هذه الحياة.

(3) مذهب الإنجيليين، ويقول إن التقديس هو عمل الروح القدس، يؤثر به في النفس بوسائط مختلفة ولا سيما وسائط النعمة، فينمّي في المؤمن الفضائل، ويبطل سلطان الخطية، ويجعل الأثيم يموت أكثر فأكثر عن الإثم والشهوات العالمية، ويتقدم أكثر فأكثر إلى الكمال. فالتقديس عند الإنجيليين هو «عمل نعمة الله المجانية» بكيفية فائقة الطبيعة. وهذه النعمة علامة على رضى الله وإنعامه الخاص على المُقدَّس. وكل ذلك يزيد تدريجياً في الأتقياء في هذه الحياة، ويكمل قبل دخولهم السماء.

4 - ما معنى أن التقديس عمل فائق الطبيعة؟

* معناه أن التقديس أعظم من مجرد إصلاح الحياة. فكثيراً ما يغيّر الأشرار سلوكهم فيصيرون في الخارج مستقيمين عفيفين أتقياء. وهذا التغيير عظيم وممدوح ومفيد جداً لصاحبه ولكل من له علاقة به. وقد ينشأ الإصلاح عن أسباب مختلفة كقوة الضمير واحترام سلطان الله والخوف من غضبه، أو مراعاةً لرضى الناس. ولكن مهما كان سببه فهو ليس بمنزلة التقديس. والفرق بينهما كالفرق بين القلب النقي والثوب النظيف. ويمكن حدوث الإصلاح الخارجي مع بقاء صفات الإنسان الداخلية على حالها.

ويجب التمييز أيضاً بين التقديس ونتائج التهذيب والتعليم الأخلاقي. فيمكن أن نحفظ الطفل من شرور كثيرة في العالم حتى يصير مثل الشاب الذي مدحه المسيح، وذلك بواسطة التعليم الأخلاقي والتهذيب المدقق، وحفظه من كل المؤثرات الفاسدة، وتربيته في المبادئ الصحيحة والمعاشرات الجيدة. وهذا التهذيب يستحق الاحترام، وهو ممدوح في كتاب الله. ولكنه لا يمكن أن يغير الطبيعة ولا أن يكون وحده وسيلةً لحياة التقوى. وهو يختلف عن التقديس كما يختلف التمثال الجميل من الرخام النقي عن الإنسان الحي الحقيقي.

والمقصود بما هو فائق الطبيعة أمران:

(1) ما ليس للطبيعة يدٌ فيه. والمقصود بالطبيعة هنا كل ما هو خارج عن تدخُّل الله.

(2) وهو فعل النعمة أو فعل الروح القدس الذي يتميز عن فعل العناية الإلهية بموجب النواميس الثابتة. والفرق بينهما في بعض الوجوه كالفرق بين فعل قوةٍ دائمة العمل وفعل شخصٍ. فالقوة تجري على نظام واحد دائماً، والشخص يفعل وقتاً دون آخر. وعمل عناية الله العادية لا يتجاوز دائرة فعل العلل الثانوية التي وضعها هو ويجريها كما يشاء، أما النعمة أو ثمار الروح فتفوق قوة العلل الثانوية، لأنها فوق دائرة الطبيعيات وتختص بما هو فوق الطبيعة. وقوة الحق أو البرهان العقلي أو الإقناع أو الفصاحة لا يمكن أن تُنتِج توبةً ولا إيماناً ولا قداسةً في القلب والحياة. كما أن هذه لا تنتُج من قوة الإرادة، ولا من اجتهاد الإنسان مهما كان صالحاً، لأنها إنعام من عند الله وثمرٌ من أثمار الروح. بولس يغرس وأبلّوس يسقي، ولكن الله هو الذي ينمي (1كو3: 6).

والمعنى الثاني المار ذكره لما هو فائق الطبيعة لا ينفي مساعدة عمل العِلل الثانوية إلا في المعجزات (كما فتح المسيح مثلاً عيني الأعمى، دون وجود عِلة ثانوية بين إرادته والنتيجة) لأن الناس يتممون خلاصهم بمساعدة الوسائط المناسبة، مع أن الله هو العامل فيهم أن يريدوا وأن يعملوا من أجل مسرته. ومثال ذلك أن النفس في عمل التجديد مفعولٌ فيها، ليس لها فعل في إنشاء الحياة الروحية. ولكن في الرجوع والتوبة والإيمان والنمو في التقوى تبذل كل طاقتها في العمل. أما نتائج ذلك فتفوق فعل طبيعتنا الساقطة، لأنها من فعل الروح. ويبقى التقديس فائق الطبيعة ومن عمل النعمة، مع أن نفس الإنسان فاعلةٌ ومشاركةٌ مع الروح في التقدم نحو الكمال.

5 - ما هي البراهين على أن التقديس عمل فائق الطبيعة؟

* (1) نسبته إلى الله دائماً بمعنى أنه فاعل له كقوله «إله السلام نفسه يقدسكم بالتمام» (1تس 5: 23). وقوله «إله السلام الذي أقام من الأموات ربنا يسوع يكمّلكم في كل عمل صالح لتصنعوا مشيئته، عاملاً فيكم ما يُرضي أمامه» (عب 13: 20، 21). ويُنسب أيضاً إلى الابن كقوله «بذل نفسه لأجلنا لكي يقدسنا لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمالٍ صالحة» (تي 2: 14). وقوله «كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها، مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسةً مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف 5: 25-27). وكثيراً ما يُنسَب التقديس إلى الروح القدس على أنه عمله الخاص في نظام الفداء، فكانوا يصلّون على الدوام لأجل هذا الفعل الإلهي ليرافق وسائط النعمة ويجعلها فعالة في التقديس والتجديد. وكل صلاة وشكر لأجل هبة النعمة، وكل ما جاء في الكتاب عن أن الفضائل المسيحية هي أثمار الروح وعطية الله، هي إثباتٌ لهذه الحقيقة العظيمة، وهي أن إعادة الإنسان إلى صورة الله ليست من فعل طبيعي، بل فائق الطبيعة لأنه من عمل الروح الذي يُنتج ما لا تُنتجه تلك الأسباب.

(2) الأمر الإلهي بأن نصلي لأجل التوبة والإيمان ونِعَم أخرى، فقد نسب الكتاب المقدس التجديد الذي هو إدخال الحياة الروحية في الأموات بالروح، وإبقاء هذه الحياة في قوتها ونموّها، إلى فعل الله القادر على كل شيء. فبولس الرسول صلى لأجل الذين كتب إليهم «ليعلموا ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات» (أف 1: 19). وتعمل نفس القوة الفائقة التي ظهرت في قيامة المسيح في قيامة المؤمن الروحية. ونسب الرسول أيضاً النعمة التي أهّلته للرسالة إلى فعل قوة الله. ثم شجع المؤمنين أن يطلبوا النعم الروحية، وذكّرهم بقوته على كل شيء «أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي تعمل فينا» (أف 3: 7، 20). فقوة الله الفائقة التي تعمل فينا هي القوة التي تعمل في المؤمن لإتمام عمل الخلاص، لا الأسباب الثانوية. والذين هم في المسيح صاروا خليقة جديدة لأنهم خُلقوا فيه ثانية. ولا يشير ذلك إلى ولادتهم الثانية فقط، بل إلى العمل التدريجي أيضاً الذي به يتغير الخاطئ إلى صورة المسيح.

(3) اتحاد المؤمن بالمسيح. فكل تعاليم الكتاب تبرهن أن التقديس فوق الطبيعة، فالبشر لا يقدسون أنفسهم، وقداستهم ونموهم في النعمة ليسا من أمانتهم وثباتهم وسهرهم وسيرتهم واجتهادهم (وإن كانت هذه جميعها مطلوبة) بل من الفعل الإلهي الذي يجعلهم مؤمنين وساهرين ومجتهدين، ويصنع فيهم أثمار البر. قال المسيح «كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمرٍ من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيَّ.. لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 4، 5).

(4) شهادة تعاليم الكتاب في نظام الفداء، فقد خسر البشر بسقوطهم صورة الله، وفقدوا الحياة الروحية، وصاروا يولدون بعيدين عن الله تحت حكم الشريعة، ولا يمكنهم أن يخلّصوا أنفسهم من ذلك كما لا يمكن أن الذين في القبور يردّون الحياة إلى أنفسهم. فخلاصنا كله من المسيح والذين في القبور يسمعون صوته ويقومون بقوته ويحيون، بل هو الذي يحيا فيهم. وقد أوضح المسيح هذا التعليم، وكرره تلاميذه وأثبتوه. فالخلاص من أوله إلى آخره هو من النعمة، بقوة الروح الفائقة الطبيعة. ولذلك قيل إن المسيح «صار لنا حكمة وبراً وقداسةً وفداءً» (1كو 1: 30).

6 - بماذا يقوم التقديس وماذا ينشأ عنه؟

* تبدأ النفس مع المسيح بالتجديد، وهو بدء حياة جديدة. لكن التجديد لا ينتِج حياةً خاليةً من الخطية، لأن الذي يقوم من المرض الشديد قد يبقى زماناً طويلاً في حال الضعف. كذلك النفس المريضة بل الميتة في الخطية لا ترجع حالاً إلى الصحة الكاملة بواسطة الحياة الروحية. وقد يبقى في النفس ما لا يوافق طبيعتها المجددة، فتدور حربٌ بين الميول القديمة والميل الجديد، تكون شديدة ومؤلمة كما يظهر من اختبار شعب الله في كل العصور. ويظهر من الكتاب واختبار كل المسيحيين وشهادة التاريخ الصادقة أن التجديد لا ينزع كل ميل إلى الخطية. والكتاب مملوء من أنباء الحروب الداخلية في أشهر رجال الله، وأخبار وقوعهم في حال الفتور، وسقوطهم في تجارب متنوعة، وأحياناً ارتدادهم وقتياً، وتوبتهم وحزنهم على ضعفهم الدائم. ووصف الكتاب حقيقة الحرب بين الميل إلى الصلاح والميل إلى الشر في قلب المتجدد، وذكر بالتفصيل صفات القوات المتحاربة، ولزوم الحرب ومصاعبها وأخطارها وكل ما يتعلق بها. وقد وصف الرسول هذه الحرب في رومية 7 وقال للغلاطيين «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد، لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون» (غل 5: 16، 17). وحذر أهل أفسس في هذا الجهاد من شر القلب وقوات الظلمة، وأمرهم أن يتقووا في الرب وفي شدة قوته. وقال «لذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تستطيعوا أن تقاوموا في اليوم الشرير. وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا» (أف 6: 10-18).

وفي كل تاريخ الكنيسة نقرأ أخبار جهاد أبطالها ومحاربتهم الميول الرديئة في قلوبهم، واعترافهم وصلواتهم ليساعدهم الله، واشتياقهم لينتصروا على كل الشرور. ومن الواضح أن البشر منذ السقوط هم في حال الخطية، لا لارتكابهم آثاماً متنوعة فقط، بل لفساد طبيعتهم الأصلي. والتجديد هو إدخال حياة جديدة في طبيعتهم الفاسدة، فهو خميرة يمتد فعلها بالتدريج في كل العجين.

ويقوم التقديس بأمرين: (أ) إماتة الإنسان العتيق وإزالة الميول الشريرة المسيطرة على طبيعتنا وإبطال قوتها بالتدريج. و(ب) إنماء الإنسان الجديد وتثبيت الميول الروحية الصالحة، إلى أن يسيطر الروح القدس على الإنسان الداخلي بكل قواه، ويجعل النفس وفق صورة المسيح، ويجعل الأعمال مطابقة لمطالبه.

والكتاب مليء بالنصائح والأوامر للمتجددين من شعب الله أن يقاوموا أهواءهم الشريرة، ويطرحوا عنهم كل خبث وغضب وكبرياء وحسد، ويقوّوا كل ثمر الروح من الإيمان والمحبة والرجاء وطول الأناة والوداعة والتواضع واللطف الأخوي، ويواظبوا على الاستقامة في كل سيرتهم. ومع ذلك قيل لهم إن الله هو العامل فيهم أن يريدوا وأن يعملوا، وإنهم لذلك يجب أن يطلبوا عونه دائماً ويستندوا على مساعدته.

ومما سبق نستنتج ثلاث فوائد في شأن التقديس:

(1) لا يكمل التقديس دفعة واحدة، فلا تزال النفس بعد التجديد تميل إلى الخطية، ميلاً لا يزول إلا شيئاً فشيئاً بواسطة تكميل التقديس.

(2) نتيجةً لوجود الميل إلى القداسة والميل إلى الشر معاً في قلب المؤمن، تقوم حرب روحية تبقى مدة عمر المؤمن، فهو إنسان جديد وإنسان عتيق في شخص واحد. لكنه بواسطة التقديس يخلع الإنسان العتيق ويلبس (شيئاً فشيئاً) الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر والقداسة والحق (أف 4: 22، 24).

(3) الروح القدس هو المعين في هذه الحرب الروحية، فإنه يساعد المؤمن على التمثُّل بالمسيح وينصره على طبيعته الفاسدة (رو 8: 13، 14). فعلاقة التقديس بالتجديد كعلاقة النمو بالولادة. والمؤمن يطلب هذا النمو ويعمل مع الله لينال التقديس، ولينزع الشر من قلبه، وليتقدم في كل ما هو صالح (في 2: 12، 13 و1بط 2: 2). وهكذا ينمو الإنسان الجديد في القوة ويضعف الإنسان العتيق، ويسيطر روح المسيح فينا ويملأ الروح القدس قلوبنا (رو 8: 9، 10 و1كو 6: 19 وغل 5: 16 وأف 5: 18 وكو 1: 27-29). وللتقدم في التقديس شروط هي الأمانة في استخدام وسائط النعمة، من مطالعة كتاب الله، والصلاة، ومعاشرة المؤمنين الأتقياء، والرغبة في إتمام الواجبات الدينية على أنواعها، وبذل الجهد في خدمة المسيح. فالقلب الراغب في القداسة يُسرع في التسليم لإرادة الله وطاعة أوامره، ويفرح بنوال طهارة النفس. ويشمل التقديس النفس والجسد معاً. غير أن تقديس الجسد لا يتم إلا عند قيامته في المجد (في 3: 21 وكو 3: 4 ويو 3: 2 ويه 24). والتقدم في التقديس هو التقدم نحو الكمال في كل الفضائل الروحية وفي كل عملٍ حسن.

7 - ما هي بعض الأقوال الباطلة الشائعة بشأن التقديس؟

* تطرّفت فرقتان أخذتا اتجاهين متضادين في التقديس:

(1) مال أهل الفرقة الأولى إلى رفض الناموس الإلهي، ونادوا بتحرير المؤمن من كل تكليف بطاعته، بحُجَّة أن المسيح أطاع الناموس عنا، فرفع عنا التكليف بذلك. وجاء هذا القول نتيجة سوء تفسيرهم للقول «لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو 6: 14). فالمسيحي ليس تحت الناموس ليخلُص به، ولكنه تحت الناموس باعتباره قانون الحياة المسيحية. وقد أخطأ أصحاب هذا المذهب بغفلتهم عن أن الشريعة تعبيرٌ عن قداسة الله ومطالبه من كل إنسان، كما نسوا أن موت المسيح لم يبطل الشريعة إلا باعتبارها واسطة الخلاص وقانون القصاص. قال المسيح «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل» (مت 5: 17-19). وقال «فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل» (مت 5: 48). ولذلك يجب على المسيحي أن يتمثل بالمسيح في طاعته لناموس الله، فإن المسيح لم يحررنا من الواجبات الأخلاقية، ولكنه أنقذنا من عبودية الناموس باعتباره قانون الاستحقاق والخلاص (غل 5: 22-24 و1يو 1: 6 و3: 6 ورو 6: 14، 15، 22 و8: 4).

(2) مال أهل الفرقة الثانية إلى القول بإمكان الحصول على التقديس التام وكمال التحرير من كل خطية في هذه الحياة. ونردّ عليهم بقولنا إن رأيهم هذا يغيّر مطلوب الشريعة الإلهية، وهو الكمال الأخلاقي، ويجعله ممكناً للبشر، رغم ضعفاتهم. كما أن رأيهم يحصر الخطية في مجرد الأعمال بغضّ النظر عن حالة النفس الأخلاقية الراسخة. وهو ينسب إلى الإرادة البشرية قوة فوق طاقتها، وهي اختيارها القداسة اختياراً دائماً والتخلص التام من الخضوع للتجارب المحيطة بها. ولذلك هوَّن أصحاب هذا الرأي مطالب الشريعة إلى حدٍ يمكّن الخاطئ من القيام بها، وقَصَروا الخطية على الأعمال الظاهرة بدون سؤال عن حالة النفس.

ويخالف هذا الرأي أقوال الكتاب المقدس الذي يقول إن الإنسان لا يقدر أن يعيش بلا خطية (انظر يع 3: 2 و1يو 1: 8). وتفسيرهم ليوحنا الأولى 3: 6، 9 غير صحيح، لأن المعني في الآيتين هو إما ما يُطلب في الحياة المسيحية الكاملة، أو ما يقتضيه حال المؤمن بحسب ميل طبيعته الجديدة. والرسول يوحنا يقارن بين الحياة المسيحية كما يُرجى أن تكون في ميولها وبين الحياة الطبيعية كما هي بالفعل.

وينفي الكتاب هذا الرأي، لأنه يأمر المسيحيين بالتقدم إلى الصلاح، والابتعاد عن الخطية، ومحاربة الشر، والاعتراف بعدم استحقاقهم، والخضوع للتأديبات الإلهية لأجل تقديسهم. وإذا نظرنا إلى المتميزين في التقوى في الكتاب المقدس رأينا فيهم علامات النقص، وسمعناهم يعترفون بذلك. وهكذا إذا نظرنا إلى تاريخ المسيحيين في كل القرون. وإذا قيل إن الكمال لبعض الأشخاص فقط، أجبنا أن ذلك الكمال ليس هو بالنسبة إلى شريعة الله بل بالنسبة إلى أحوال الناس الذين حولهم. قال بولس «لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين» (1كو 2: 6) ولكن هذا القول موجَّه إلى أهل كنيسة كورنثوس الذين كانوا بعيدين عن الكمال المطلوب في شريعة الله. والقول إن نوحاً رجل بارٌ كامل في أجياله (تك 6: 9) يعني أن برَّه وكماله كانا بالنسبة إلى جيله. وهكذا كان شأن أيوب (أي 1:1). وقول الكتاب إن المسيحيين مقدسون ومدعوون قديسين لا إشارة فيه إلى أنهم حصلوا على القداسة التامة، بل إلى أنهم حصلوا على بر المسيح وبدأت فيهم الحياة المقدسة. فكل من تأمل في مطالب الشريعة الإلهية وفي ميل الإنسان إلى الخطية وضعفه يستغرب هذا القول، ويحسبه ناتجاً عن عدم فهم الشريعة وعدم معرفة ماهية الخطية، ويقول مع المرنم «لكل كمال رأيت حداً. أما وصيتك فواسعة جداً» (مز 119: 96).

ولا ينصبّ الاعتراض على هذا المذهب في أنه يطلب الكمال، بل على أنه يدّعي أننا قد نلناه وصرنا كاملين. فكل مسيحي يطلب النمو في القداسة، ويجتهد في ذلك كما قال بولس «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح» (2كو 3: 18). ولكن لا يدّعي أي مسيحي متواضع أنه قد صار كاملاً بحسب مطالب شريعة الله.

8 - ماذا يقول التعليم الإنجيلي في الأعمال الصالحة؟

* هي كل أثمار الحياة الجديدة أي قداسة القلب، والفضائل الأخلاقية والأعمال الخيرية، وكل ما يُطلب من المسيحي في اعتقاده وأعماله وسيرته الظاهرة والباطنة. وهي تشمل علاقتنا بالله وبالبشر. ويجب أن تكون الأعمال الصالحة صالحة في حد ذاتها، وأن يكون إتمامها بروح صالح. والأعمال الصالحة هي الأعمال التي أمر الله بها في كلامه المقدس، وليست التي اخترعها الناس من قِبل غيرة بشرية، أو من قِبل ادّعاء النيّة الحسنة بدون أمر الله. والأعمال الصالحة المشار إليها إذا عُملت طاعةً لأمر الله تكون ثمار الإيمان الصحيح الحي وبراهينه. ويُظهِر المؤمنون بها شكرهم ويشددون يقينهم بالخلاص ويبنون إخوتهم ويزينون إقرارهم المسيحي ويسدّون أفواه المقاومين ويمجدون الله لأنهم عمله مخلوقين لها بيسوع المسيح. فإذ كان لهم الثمر للقداسة تكون لهم النهاية حياة أبدية.

9 - ما هي علاقة الأعمال الصالحة بالتقديس؟

* هي أثمار التقديس التي تُظهِره فعلاً. فكما أن التقديس في هذه الحياة غير كامل، كذلك لا يمكن أن تبلغ الأعمال الصالحة غاية الكمال، بل هي ناقصة دائماً. وبما أن الأعمال الصالحة صادرة عن القلب المقدس فهي تُعمل دائماً إكراماً لسلطان الله بالمحبة لوصيته وبطلب مجده، كما قيل «فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد الله» (1كو 10: 31). ولذلك كانت الأعمال الصالحة خاصة بالمؤمنين المتجددين الذين تعمل فيهم نعمة الله، وكل ما سواها من الأعمال لا تُحسب صالحة، لأن المسيحيين «مخلوقون في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10 ويو 15: 4، 5). ولا يُستثنى من التكليف بعمل الأعمال الصالحة مسيحيٌ، بل الجميع مكلفون بذلك كما قال الرسول «صادقة هي الكلمة، وأريد أن تقرر هذه الأمور لكي يهتم الذين آمنوا بالله أن يمارسوا أعمالاً حسنة» (تي 3: 8).

10 - ما هي الأفكار المتطرفة عن الأعمال الصالحة؟

* قال البعض إنها غير لازمة (انظر س 7). وقال غيرهم إن الأعمال الصالحة من باب الاستحقاق، وإن الإنسان يقدر أن يكملها إلى أن يصل بها إلى درجة الكمال والاستحقاق، حتى يمكن أن يكنز القديسون كنزاً من الاستحقاق الناتج من أعمالهم الصالحة يزيد عما يحتاجون إليه، فتوزعه الكنيسة على الضعفاء والناقصين حتى يُحسب لهم ذلك الاستحقاق!

أما الإنجيليون فيعتقدون أن الأعمال الصالحة، مع أنها تستحق الاحترام، وأنها جيدة وممدوحة من باب الفضل الأخلاقي، إلا أنها لا تستحق أن تُعتبر كاملة أمام شريعة الله، وليس لها أجرة للخلاص، لأن المسيحيين بعد أن يعملوا كل ما في طاقتهم هم عبيد بطالون لا يُحسَبون مستحقي الأجرة عند الله، لأن الخلاص هو بالنعمة وليس بالأعمال. والقدرة على الأعمال الصالحة هي عطية من النعمة الإلهية (لو 17: 9، 10 ورو 6: 23 و5: 15-18 وأف 2: 8-10 و2تي 1: 9 وتي 3: 5). وإذا قيل إن الكتاب المقدس يعلّم أن للمؤمنين ثواباً، نجيب أن ذلك على سبيل النعمة والرضى، لا على سبيل الأجرة. والثواب هو بحسب الأعمال الصالحة لا بسببها، بدليل قوله «الغارس والساقي هما واحد، ولكن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه» (1كو 3: 8). وهذا التعليم يربي في المؤمن روح الأمانة في الطاعة والخدمة، لينال ثواب النعمة لا أجرة الاستحقاق.


ولا ينكر الإنجيليون أن للفضائل الداخلية وللأعمال الخارجية صفة الصلاح، بل يحسبونها أعمالاً صالحة بالحقيقة كما قيل إن غزالة «كانت ممتلئة أعمالاً صالحة» (أع 9: 36). وقال الرسول «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة» (أف 2: 10). وقال «لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح» (2تي 3: 17). وقال «الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم، ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة» (تي 2: 14). ولا تناقض في وصف عمل واحدٍ أنه صالح وغير صالح في ذات الوقت، فإطعام فقير هو عمل صالح في ذاته، ولكن إن أطعم شخصٌ فقيراً ليمدحه الناس صار عمله غير صالح! وإذا فعله من المحبة الطبيعية فهو من الأفعال الأخلاقية، وإذا فعله لمجد المسيح وباسمه وحباً له فهو من أعمال الفضائل المسيحية. ولذلك كانت أعمال أولاد الله صالحة وإن كانت مشوبة بالخطية:

(1) لأنها صالحة في ذاتها، فقد أمر الله بها.

(2) لأنها صالحة في دوافعها، فهي أثمار مشاعر المحبة المقدسة من نحو الله والناس.

(3) لأنها تُعمل لإتمام إرادة الله ولمجد المسيح وتقدم ملكوته.

ويعلّم الإنجيليون أن الكتاب هو القانون الوحيد للإيمان والأعمال، وأنه لا يجب عمل شيء لم يأمر الكتاب به. ولا نقصد أن الكتاب يحتوي على كل ما يجب أن يفعله شعب الله، لكن نقصد أن الكتاب يضع المبادئ التي يجب أن يسلكوا بموجبها، ومن ذلك تُعرف صفة الأعمال اللازمة والأعمال المنهيّ عنها، فيكفي مثلاً أنه يُطلب من الأولاد طاعة والديهم، ومن الشعب طاعة حاكمهم، ومن المؤمنين إكرام الكنيسة بدون تحديد كل عمل يلزم عن هذه الواجبات. ويضع الكتاب كل التحديدات اللازمة وهو يعطي هذه الأوامر العامة حتى لا يقدر الوالدون ولا الحكام ولا الكنيسة أن يدّعوا سلطاناً لم يعطه الله لهم، فلا يُلزِمون الضمير بما لم يأمر به الله.

11 - ما هو تعليم الكتاب في ثبات القديسين المتجددين في حياة التقوى إلى النهاية؟

* الذين قبلهم الله بابن محبته، المدعوين دعوة كافية، المقدَّسين بروحه، لا يمكن سقوطهم من حال النعمة سقوطاً تاماً نهائياً، بل حقاً سيثبتون فيها إلى النهاية، فيخلُصون خلاصاً أبدياً. وثباتهم هذا لا يتوقف على اختيار إرادتهم الخاصة، بل على عدم تغيُّر قضاء الاختيار الصادر عن محبة الله الآب الحرة الثابتة، وعلى فاعلية استحقاق المسيح وشفاعته، وعلى إقامة روح الله بهم وثبوت زرعه فيهم، وعلى حقيقة عهد النعمة. فمن هذه الأمور كلها يقينية هذا الثبات وعدم إمكان تغيره.

وقد اصطلح اللاهوتيون على تعبير «ثبات القديسين» للإشارة إلى هذا التعليم، وهو وجهٌ آخر لتعليم الكتاب في التقديس، فإن الله يقدس، والمؤمن يثبت، والنتيجة واحدة هي خلاص النفس. فالله في قضائه يحفظ الإنسان بنعمته ويعتني به في حياته الروحية، والإنسان كذلك يحفظ نفسه ويجتهد في حياة التقوى باستعمال جميع الوسائط، وهو الثبات. قال المسيح «احفظهم في اسمك الذين أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن» (يو 17: 11). وقال يوحنا «المولود من الله يحفظ نفسه» (1يو 5: 18). ففي يوحنا 17 يطلب المسيح اعتناء الرب بالمتجددين، وفي 1 يوحنا 5 يتحدث الرسول عن اعتناء المتجدد بنفسه للثبات. فكل مسيحي مسؤول بنوع خاص عن حفظ نفسه. ويعلمنا الكتاب أن كل مولود من الله يستجيب لذلك، ويواظب على حياة التقوى إلى أن يخلص.

12 - ما هي الأدلة على صحة القول بالثبات المار ذكره؟

* (1) تعليم الكتاب المقدس. قال المسيح «أنا أعطيها (أي خرافي) حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي» (يو 10: 28، 29). وقال الرسول «لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة» (رو 11: 29). وقال: «واثقاً بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح» (في 1: 6 قارن 2تس 3:3 و2تي 1: 12 و1بط 1: 5 ورؤ 3: 10).

(2) الاستنتاج العقلي من تعاليم أخرى في الإنجيل، منها تعليم الاختيار، والاتحاد بالمسيح، والتجديد والتبرير والتقديس، وحلول الروح القدس، وفاعلية شفاعة المسيح. لأن قضاء الله بالاختيار هو قصده أن يرسل الروح القدس إلى المختار ليساعده على الثبات. واتحاد المؤمن بالمسيح غير قابل للانحلال، والتجديد هو خليقة جديدة وبداية حياة روحية ليس لها نهاية، والتبرير هو التصريح برفع دينونة الشريعة ومنح بر المسيح بالحسبان، والتقديس هو فعل الله القدير في قلب المؤمن. ولا يمكن إبطال هذه القضايا المهمة، لأنها تخصيص قوة الله لخلاص المختار، ولا نبني الثقة في كل ذلك على قدرة بشرية، بل على مساعدة الله وعمله الفعال لأجل خلاص الخاطئ.

13 – ما هي الاعتراضات على هذا التعليم؟

* (1) إنه لا يوافق الحرية التامة. ونجيب على ذلك أن مساعدة الله الفعالة للمؤمن لا تحد حريته مطلقاً، بل تجعله يثبت بكمال حريته إلى النهاية.

(2) إنه يؤدي للتساهل مع الخطية. والجواب على ذلك أن المؤمن المتجدد فيه حياة جديدة، والله ينميه روحياً. ومن شأن تلك الحياة طلب القداسة، وهي عكس التساهل مع الخطية. وتعاملات الله مع المؤمن تثبته في ذلك (2تي 2: 19 و1بط 1:1، 2 و2بط 1: 10، 11).

(3) إنه يؤدي إلى الكسل والتغافل. ونجيب على ذلك أن المؤمنين الحقيقيين لا يرونه بهذه الصورة، بل يحسبونه تنشيطاً لهم في محاربة إبليس وجميع تجاربه (1يو 5: 4).

(4) تتضمن أقوال الحث في الكتاب تحذيراً للمسيحيين من الارتداد، وهذا يعني أنهم قابلون للارتداد. ونجيب على ذلك أن المرتدين ليسوا هم المتجددين، بل المتظاهرين كذباً بالتقوى كما قال الرسول «منّا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليُظهَروا أنهم ليسوا جميعهم منا» (1يو 2: 19). فالتمييز بين المتجددين والمتظاهرين بالتقوى أمرٌ عسرٌ أحياناً (ملا 3: 18 ومت 13: 25، 47 ورؤ 3: 1). أما الفائدة الحقيقية من تلك الأقوال فهي: (أ) بيان عاقبة الذين يرفضون المسيح (عب 10: 26-29 و6: 4-6 و2بط 2: 20) و(ب) تنبيه المؤمنين لخطر الاستسلام للتجارب (1كو 9: 27 و10: 12). ولا نستنتج منها أن المتجدد الحقيقي يخسر الحياة الأبدية.

(5) لنا في الكتاب أمثلة لارتداد بعض المؤمنين. ونجيب على ذلك أن الذين ارتدوا كانوا بلا نعمة حقيقية، مثل يهوذا الإسخريوطي وحنانيا وزوجته سفيرة، أو كانوا متجددين وقعوا وقتياً في الخطية ثم رجعوا بالتوبة إلى الله، مثل داود وبطرس. فيمكن أن يسقط المسيحي المتجدد من شدة تجاربه، أو من داخله، أو من تسلط الغيظ عليه، أو لسبب آخر. غير أنه لا بد من رجوعه بالحزن والتوبة والخجل إلى حياة التقوى، وقد عزم أن يحترس في المستقبل من أن يسقط ثانيةً (مت 24: 24 ولو 22: 31).
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الرابع والأربعون
قانون الحياة الصالحة
1 - ما هو أساس المسؤولية الأخلاقية؟

* في هذا الموضوع أقوال مختلفة، منها أن أساس المسؤولية الأخلاقية أن يكون المطلوب حقّاً، ومنها أن يكون المطلوب موافقاً للعقل، ومنها أن يكون موافقاً للصواب، ومنها أن يكون مناسباً ولائقاً، ومنها أن يكون نافعاً للجميع، ومنها أن يكون مصدر فائدة عامة. ولكن هذه الأقوال كلها قاصرة.

والجواب الصحيح هو أن أساس المسؤولية الأخلاقية هو إرادة الله المعلَنة في كتابه، والتي توافق طبيعته الكاملة. فلا يوجد أساس للواجبات الأخلاقية أعظم من الله ذاته، الذي يطلب منا ما يوافق إرادته.

2 - ما هي الشريعة، وكيف تُعلَن الشرائع للبشر؟

* الشريعة قانون موضوع لا بد له من واضع. وهي تُظهِر إرادة واضعها وتكليفه للذين وضعها عليهم. فجوهر الشريعة الأخلاقية هو إعلان الله في ما يتعلق بسيرة خلائقه. والتكليف الأخلاقي هو إلزامنا أن نتوافق مع إرادة الله في كل الواجبات. ولا بد في هذا البحث أن نسلّم بمبدأين: (1) الصلاح الأخلاقي صلاح في نفسه، ليس فقط بسبب ما يؤدي إليه، ولا بسبب موافقته للعقل. (2) كل ناموس مبني على إرادة الله هو مطالب طبيعة الله. وهذا هو اصطلاح الكتاب المقدس في كلامه عن الشريعة، لأنه يقصد دائماً بها إعلان إرادة الله. وقد أعلن الله شريعته في: (أ) الطبيعة المادية، وفي (ب) طبيعة الإنسان العقلية والأخلاقية، و(ج) لا سيما في المسيح والأسفار المقدسة.

3 - ما هي أنواع الشرائع الإلهية؟

* إذا درسنا الكتاب باعتبار أنه إعلان إرادة الله، رأينا شرائع الله معلَنةً فيه بأنواع مختلفة وبوصايا متنوعة، وقد حُصرت أنواع الشرائع في ما يأتي:

(1) الشرائع المبنية على طبيعة الله، كالأمر بالمحبة الكاملة له، والعدل والرحمة واللطف. فالمحبة واجبة في كل مكان وزمان، كما أن الكبرياء والحسد والخبث شر في كل مكان وزمان.

(2) الشرائع المبنيّة على العلاقات الدائمة بين الناس، كشرائع الممتلكات والزيجة وواجبات الوالدين والأولاد أو كبار القوم وصغارهم. وهذه تتعلق بالبشر ما داموا في هذه الحياة فقط.

(3) الشرائع الوقتية التي تنظم العلاقات الاجتماعية، ومنها الأحكام المدنية التي كانت عند بني إسرائيل، والتي تتعلق بتقسيم الممتلكات، وواجبات الزواج، وقصاص المذنبين.

(4) الشرائع «المقررة» التي لا تختص بالأخلاق، ويُعمل بها لأنها أوامر إلهية، ومنها الطقوس والرسوم الخارجية كالختان، والذبائح، والتمييز بين الأطعمة الطاهرة والنجسة، وبين الشهور والأيام والسنين.

ويظهر من تقسيم الشرائع الإلهية أنها تختلف في المقام والاعتبار، فإذا حدث بينها تناقض في التطبيق أُعطيت الأولوية للأهم. فلشريعة الختان مقام أعلى من وصية السبت، فإذا كان اليوم الثامن لميلاد الطفل هو يوم السبت تم الختان في يوم السبت. وقال المسيح «أريد رحمة لا ذبيحة» وقال «جُعل السبت للإنسان لا الإنسان للسبت». فقد فضَّل المسيح شريعة محبة الله من كل القلب ومحبة القريب كالنفس على كل المحرقات والذبائح.

4 - لماذا نعتبر ناموس الله كاملاً؟

* لأن الناموس الأخلاقي كما يعلنه لنا الكتاب المقدس يتضمَّن القضايا الآتية:

(1) كل ما حرَّمه الكتاب هو حرام، وكل ما حلله فهو حلال.

(2) لا يُعتبر شيء شراً إن لم ينْهَ عنه الكتاب المقدس، ولا نلتزم بعمل شيء إن لم يأمر الله به أمراً مباشراً أو بالاستنتاج الصحيح.

(3) الكتاب المقدس هو القانون الأكمل والأعلى في الواجبات الأخلاقية، وهو كافٍ ليرشدنا في الإيمان والعمل، فإن ناموس الله كامل كل الكمال.

5 - ما هو مقام وصايا الله العشر؟

* وصايا الله العشر قانون تام لواجبات الإنسان إذا فُسرت تفسيراً روحياً. وتُضاف إليها أمور واجبة على المسيحيين في زمن العهد الجديد لم تُعلن إلا في الإنجيل، تتعلق بأحوال المسيحيين دون بني إسرائيل. وما جاء بالوصايا العشر أساس واسع للواجبات الأخلاقية، يشمل كل ما هو جوهري في حياة التقوى. وقد استحسن لاهوتيو العهد الجديد أن يؤسسوا التعاليم الأخلاقية المسيحية على الكتاب كله، وليس على الوصايا العشر وحدها، لأن المسيح جاء ليكمل الوصايا العشر بتعاليم الموعظة على الجبل (متى أصحاحات 5-7. انظر مت 5: 17).

6 - ما هي القواعد المشهورة لتفسير الوصايا العشر؟

* وضع اللاهوتيون قواعد كثيرة لتفسير الناموس الإلهي تفسيراً صحيحاً، منها أنه إذا مُنع عملٌ مُنع أيضاً كل ما يسوق إليه، وإذا رُفض عمل رُفض أيضاً كل ما كان من نوعه. وتعود كل القواعد إلى قاعدة واحدة هي أنه لا يصح تفسير الوصايا العشر كالشرائع البشرية التي تكتفي بالتنبير على الأعمال الظاهرة، بل يجب تفسيرها باعتبارها شريعة الله التي تمتد إلى أفكار القلب ونياته. ومن التأمل فيها نرى أن كل وصية منها تتضمن مبدأ عاماً يشمل واجبات كثيرة خاصة.

7 - ما هي الوصية الأولى، وبِم تأمر، وعمَّ تنهَى؟

* هي «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» (خر 20: 3). وهي تأمر بوجوب الاعتقاد بوجود الله الإله الواحد الحي الحقيقي، وبوجوب إكرامه كما يجب، وبقبول إعلاناته بكل خضوع، وبالاتكال على مواعيده والتسليم لإرادته. وهي توجب أن نفضل الله على جميع مخلوقاته، ونطلب الاقتراب إليه مؤمنين أنه أفضل خيرٍ لنا، وأن ننظر إليه بروح العبادة الحقيقية بالمحبة والمخافة والإكرام والشكر والتسليم والخدمة، وأن نشعر دائماً بحضوره وجلاله وصلاحه وعنايته، وباحتياجنا إليه، ومسؤوليتنا أمامه، ووجوب طاعته. وهذه الوصية (بهذا المعنى) تحتل المقام الأول بين الوصايا، كما قال المسيح «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى» (مت 22: 37، 38). وهي تنهى عن التهاون في طاعة سلطان الله، وتطلب الاعتراف به أمام الناس، وتطالب بإكرامه الإكرام الواجب، وتنهى عن الشِرك والعبادة الصنمية وتقديم العبادة التي يستحقها الله وحده للمخلوق، مهما كان مقام ذلك المخلوق.

8 - ما هي الوصية الثانية، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* الوصية الثانية هي «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك، إلهٌ غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ، وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبيَّ وحافظي وصاياي» (خر 20: 4-6).

ولما كان الله روحاً مجرداً لا يجوز أن يُمثَّل بشيء تصنعه أيدينا أو تتصوره أفكارنا. وعلينا أن نكرمه بعبادةٍ روحية تليق به، وأن نقيم عبادته بالطريقة التي عيَّنها فنرفض كل الاختراعات البشرية. وتنهى هذه الوصية عن استعمال الرسوم والتماثيل والصور. فالعبادة الصنمية لا تقوم بعبادة الآلهة الكاذبة فقط، بل بعبادة الإله الحقيقي بواسطة تماثيل منحوتة أو صور منظورة. ويدخل تحت هذا أيضاً عبادة المواد التي تُحسب مقدسة. ولا يمكن تصوير الله ولا يجوز تصويره بأي وجهٍ. ومع أن تصوير المخلوقات جائز، إلا أن الله حرم عبادتها وعبادته تعالى بواسطتها، ولا يصح أن نجعل أنفسنا أحكم من الله الذي شاء أن تتعلم كنيسته بواسطة إعلان كلمته لا بواسطة الصور الصُم.

9 - ما هي الوصية الثالثة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* هي «لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً» (خر 20: 7). و«اسم الرب» في هذه الوصية كناية عن الله ذاته، وعن كل ما يختص به وبإعلانه نفسه للبشر، كأسمائه المختلفة وألقابه وصفاته وفرائضه وكتابه وأعماله.

وتأمر هذه الوصية باستعمال اسم الرب بغاية الوقار، لفظاً وكتابةً وفكراً، وبالإكرام القلبي لإعلاناته وفرائضه، وبالاعتناء التَّقَوي في تقديم الصلاة واستعمال الأقسام والنذور، لئلا نهينه بتدنيس ما يختص به.

وهي تنهى عن النطق باسمٍ من الأسماء الإلهية أو بصفة من صفاته بعدم الوقار، ولا سيما التجديف، وتنهى عن الإشارة إليه أو إلى فرائضه أو إلى أعماله بأي إهانة أو عدم احترام، وتنهى عن التذمر والضجر من طرقه وأعماله معنا، والشكوى بروح العصيان على إرادته، وتنهى عن التجديف واللعنات والشتائم والاستخفاف بنعمته وحقه، والتظاهر بالتقوى على سبيل الرياء، والخجل من الاعتراف باسمه جهاراً، كما تنهى عن الأقسام الباطلة والنذور الممنوعة، وعن تقديم تضرعاتنا إليه بلا انتباه على سبيل العادة بدون إكرام قلبي واشتراك الشعور الباطني فيها، وتنهى عن العوائد الشائعة في ذكر اسم الرب كثيراً على سبيل العادة بدون روح العبادة، وعن كل ما فيه عدم احترام لاسمه العظيم الفريد، وعن دعائه ليشهد تأييداً للكذب، وعن عدم الاحترام في عبادته. والخلاصة إنها تنهى عن كل ما يشير إلى عدم الخشية والهيبة اللائقة بالله غير المحدود في كماله.

صحيح أنه يحقّ لنا في بعض الأحوال أن نُقسِم وننذر للرب، إلا أن ذلك يجب أن يكون لغايةٍ لائقة وبروح الوقار، لأن هذه الوصية تنهى عن الخبث والخداع في اليمين والقسَم الباطل غير الضروري، وعن كل استشهادٍ بالله بغير انتباه بالعبارات الكثيرة الجارية بين الناس كقولهم «الله يعلم» و«بحياة المسيح» وما إلى ذلك. فإنه ربما كان لها أصل تقَويّ، ولكنها تُستعمل الآن كثيراً من غير التفات إلى مدلولها الحقيقي.

10 - ما هي الوصية الرابعة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* هي «اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبتٌ للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدَّسه» (خر 20: 8-11).

وقد أُعطيت هذه الوصية في الأصل في جنة عدن، وهي فرض دائم عام على البشر مدة الدهور فقد أفرز الله بها سُبع الوقت لنفسه، لأهداف روحية خيرية خاصة بعبادته وبواجباتنا الدينية. وبقيت هذه الوصية في العهد الجديد واجبة على الناس، إلا أن يوم الأحد تعيّن لتلك الغاية بدل السبت. وقد تحرر المسيحي من مطالب الشريعة اليهودية الحرفية الوقتية الخاصة بعبادة العهد القديم، ولكن وجوب احترام يوم الأحد باقٍ في قوته في العهد الجديد، يوماً مفرزاً لعبادة الله وخدمته. أما أهداف الوصية الرابعة فهي:

(1) لنذكر يوم الخليقة، فقد أمر الله الشعب أن يذكروا يوم السبت ويقدسوه، لأن في ستة أيام خلق الرب السماء والأرض.

(2) لنُبقي معرفة الإله الواحد الحي الحقيقي، لأنه إن كانت السماوات والأرض قد خُلقت فلا بد لها من خالق، ولا بد من أن هذا الخالق غير ما خلَق، وهو كائن قبل كون العالم، ولا بد أنه ضابط الكل، غير محدود في علمه وحكمته وصلاحه، لأن جميع هذه الصفات ضرورية في تعليل عجائب السموات والأرض. وما دام البشر يعتقدون بالخليقة فلا بد من إيمانهم بالله الخالق. وهذا هو سبب التشديد في حفظ السبت، حتى لم يكن لشيءٍ من الفرائض الطقسية ما لهذه الوصية من الأهمية العظيمة.

(3) لنتوقّف عن العالميات ونحوّل أفكارنا إلى الروحيات، فلما كان البشر ميّالين للانشغال بالمصالح الدنيوية، وجب أن يكون لهم يوم يتكرر كثيراً، فيه يحرم عليهم الاهتمام بأمور الدنيا ويُؤمرون فيه بالاهتمام بأمور الدين.

(4) أن يكون هناك وقت محدد لتعليم الشعب، ولعبادة الله الجهارية والفردية.

(5) لنتوقف وحيواناتنا عن الأعمال الشاقة في السبت لنستريح ونسترجع القوة بعد أن وقعت علينا عقوبة «بعرق وجهك تأكل خبزك».

(6) لما كان السبت يوم راحةٍ مفرزاً لمناجاة الله، قُصد به أن يكون رمزاً للراحة الباقية لشعب الله،كما جاء في مزمور 95: 11 وفسره الرسول في عب 4: 1-10.

(7) لما انقطع حفظ يوم الراحة بين الشعوب جدَّد الله الوصية به في النظام الموسوي ليكون علامة عهدٍ بين الله وبني إسرائيل، فيتميَّزون بحفظ يوم السبت عن جميع شعوب الأرض، وينالون بذلك بركات الله الخاصة، حسب قوله «سبوتي تحفظونها، لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم، لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم. فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبدياً. هو بيني وبين بني إسرائيل علامةٌ إلى الأبد» (خر 31: 13، 16، 17). وقوله «وأعطيتهم أيضاً سبوتي لتكون علامة بيني وبينهم ليعلموا أني أنا الرب مقدِّسهم» (حز 20: 12).

وقد استُبدل السبت بالأحد في العهد الجديد، لأن الرسل الذين أقاموا الكنيسة بالإلهام الإلهي أدخلوا فيها جميع النواميس الموسوية المبنية على ما يجب أن يبقى من علاقات الإنسان بالله وبالقريب. غير أن ما اتّخذوه من ذلك هو الأصول الجوهرية فقط، وأما ما كان طقسياً أو رمزياً أو مختصاً باليهود فتركوه. فالبشر اليوم ملتزمون بعبادة الله، ولكنهم غير ملتزمين بالعبادة في أورشليم خاصة، أو بواسطة الذبائح، أو بخدمة اللاويين. وكذلك الزواج لا يزال مقدساً ولكن شرائعه اختلفت عن شريعة موسى. ولا زال القتل من الجرائم الكبيرة الآن كما كان في زمن موسى، لكن الشرائع القديمة المتعلقة بولي الدم ومدن الملجأ قد زالت. ومثل ذلك أمر السبت لأنه من الواجب علينا أن نقدس يوماً واحداً من الأيام السبعة للرب كما كان واجباً على رؤساء الآباء وبني إسرائيل، لأن هذه الوصية أُعطيت لكل البشر، والجوهري فيها أمران: (أ) أن يكون السبت يوم راحة وانقطاع عن أمور الدنيا وملاهيها. و(ب) أن يُصرف في عبادة الله والخدمة الدينية. وأما ما بقي من هذه الوصية فعرضيٌّ قابل للتغيير، فليس من الضروري أن تكون علّة حفظه نجاة بني إسرائيل من مصر، ولا يجب علينا القيام بتفاصيل الأمور التي يجوز عملها والتي لا يجوز، أو عقاب المخالفين بذات العقوبات. فنحن غير مكلّفين مثلاً بالامتناع عن إشعال النار في السبت. وإن كان بنو إسرائيل قد احتفلوا به تذكاراً لنجاتهم من عبودية مصر، فمن باب أولى يجب أن نذكر فداء العالم بواسطة المسيح. وإذا كان من الواجب أن نذكر خلق العالم المادي على الدوام، فكم يجب أن نذكر الخليقة الجديدة بقيامة المسيح من الموت. والعبادة في اليوم الأول من الأسبوع (الأحد) هي الطريقة التي اختارها الله لدوام ذكر قيامة المسيح، التي يتوقف خلاصنا عليها.

ولم يحدث هذا التغيير في السبت من اليوم السابع إلى اليوم الأول لمجرد وجود السبب الذي ذكرناه، لكنه حدث بسلطان كافٍ أيضاً، فإن المسيحيين (بإرشادٍ رسولي) كفّوا عن حفظ اليوم السابع وحفظوا اليوم الأول للعبادة. وهذا برهان قوي على أن السبت فرض إلهي دائم، وسبب دوام حفظه مقدساً منذ الخليقة إلى الآن هو سلطان الله وإرشاده الخاص.

أما كيفية تقديس يوم السبت المسيحي، فقد اتفقت الكنيستان اليهودية والمسيحية على أن تقديسه حسب الوصية لا يقوم بمجرد الانقطاع عن الأعمال العالمية، بل يشمل أيضاً تخصيصه للخدمة الدينية. وصحة هذا القول ظاهرة من البراهين الآتية:

(1) يدل الاتفاق العام بين شعب الله في العهدين القديم والجديد في تقديس السبت على إفرازه من دائرة الأعمال العالمية إلى الأعمال المقدسة.

(2) أمر الله بزيادة عدد الذبائح في خدمة الهيكل في السبت، مما يدل على وجوب حفظه حفظاً دينياً.

(3) كان الغرض من وصية السبت دينياً، وهو تذكار عمل الخليقة أولاً ثم قيامة المسيح.

(4) ورد في اللاويين 23 جدول الأيام التي فيها يُدعى الشعب إلى المحافل المقدسة والعبادة الجمهورية، وكان السبت أولها.

(5) صدر أمر الله مكرراً بتعليم الشعب الناموس وقراءته في كل الأوقات المناسبة، وكان هذا التعليم من أهم الأغراض المقصودة من تلك المحافل المقدسة التي منها محفل السبت (تث 6:6، 7، 17-19 ويش 1: 8). وكان ذلك من أهم واجبات اللاويين (تث 33: 10) والكهنة (لا 10: 11 قارن ملا 2: 7). وكانت قراءة الناموس جزءاً مفروضاً من خدمة جميع الأيام التي يجتمع الشعب فيها للعبادة، كما يظهر من قوله «حينما يجيء جميع إسرائيل لكي يظهَروا أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، تقرأ هذه التوراة أمام كل إسرائيل في مسامعهم. اِجمَع الشعب، الرجال والنساء والأطفال والغريب الذي في أبوابك، ليسمعوا ويتعلموا أن يتّقوا الرب إلهكم، ويحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة» (تث 31: 11، 12). فكان هذا هدف جمع الشعب. ويتضح من العهد الجديد أن الأسفار المقدسة كانت تُقرأ كل سبت في المجامع.

(6) يظهر من وضع الوصية الرابعة في الوصايا العشر، والتنبير عليها في العهد القديم، وطريقة ذكرها في كتب الأنبياء، وتعيين المزامير التي تُقرأ في ذلك اليوم عند اليهود (لاسيما مز 92) أن السبت أُفرز منذ القديم للواجبات الدينية.

(7) يظهر هذا أيضاً من كل العهد القديم، فكل طقوسه كانت دينية قُصد بها إبقاء معرفة الإله الحقيقي وتهيئة الطريق لمجيء المسيح. فالقول إن أعظم أيامه المقدسة كان للراحة من التعب الجسدي فقط يخالف هدف الديانة التي أعلنها الله بواسطة موسى.

ثم أن الجميع يسلّمون بأن الوصايا العشر واجبة على الكنيسة في جميع القرون، ولو أن التفاصيل في طريق حفظ الوصايا قد زالت. فالوصية الخامسة لا تزال توجب على الأولاد طاعة والديهم، وأما الناموس اليهودي الذي يعطي الآباء سلطان الحياة والموت على أولادهم فقد بطل. والوصية السابعة لا تزال تنهى عن الزنا، وأما امتحان المرأة المتَّهمة بذلك بماء اللعنة (عدد ص 5) فقد مضى. وينطبق هذا المبدأ على تفسير الوصية الرابعة، فإن الأمر نفسه لا يزال باقياً، وأما النواميس التي تتعلق بطريقة حفظه فقد زالت بزوال النظام القديم الذي كانت هذه النواميس جزءاً منه.

ولنا أمران نعرف منهما كيف يجب أن نحفظ السبت، وكيف نعرف ما يجوز وما لا يجوز فيه:

(1) هدف الوصية: فما كان موافقاً له كان جائزاً، وما كان مخالفاً فممنوع. ونعرف هدف الوصية من كلماتها، وهو أمران: (أ) الراحة من الهموم والأعمال العالمية، فتتوقف المسؤوليات الدنيوية برهة من الزمان حتى لا تُنهَك عقول الناس وأجسادهم من التعب، ويتيسر لهم الاهتمام بمصالحهم الروحية. و(ب) عبادة الله كما يجب ودرس كلمته والتأمل في الأمور الأبدية التي لا تُرى.

ولا شك أن مِن أهم أهداف السبت المسيحي تذكار قيامة المسيح من الموت، فوجب أن ننظر بإمعان في هذا اليوم للمسيح، وإلى عمل فدائه، فنصرف اليوم في عبادته وشكره وحمده، ودعوة الناس إلى قبول ما يعرضه عليهم من النعمة والفرح برجاء خلاصه. فهو يوم فرح، ولذلك نهت الكنيسة الأولى عن الصلاة فيه بالركوع، وأمرت بالصلاة وقوفاً منتصبين متهللين بكمال ما عمله الله لأجل فداء العالم.

(2) ما نراه في وصايا المسيح ورسله وسيرتهم: فقد قال المسيح إن السبت جُعل للإنسان، لا الإنسان للسبت. السبت «للإنسان» لا لليهود أو لأهل عصرٍ واحد أو لأمة واحدة، بل «للإنسان» من حيث هو «إنسان» أي لكل البشر.

ونجد أحياناً أن بعض الواجبات الدينية تتعارض مع بعضها. عند هذا يجب تفضيل الأهم على المهم، فإن حياة الإنسان وصحته وخيره أفضل من التمسك الشديد بالخدمة الخارجية. وهذا ما قصده النبي بقوله «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هو 6:6). واقتبس المسيح هذه العبارة مرتين تفسيراً لشريعة السبت، فوضع لنا قاعدة أنه يجوز في السبت عمل كل ما تتطلّبه الرحمة، والاعتناء الواجب بخيرنا أو خير القريب وبراحتنا وراحته، فصرّح بفعل الخير في السبوت (مت 12:12 ومر 3: 4). وقال إن الكهنة في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء (مت 12: 5) وأراد بذلك أن خدمة الهيكل كانت جائزة في السبت مع أنها تكلف الكاهن عملاً متعِباً. وقال مرة أخرى للمشتكين عليه «إن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا يُنقض ناموس موسى، أفتسخطون عليَّ لأني شفيتُ إنساناً كله في السبت! لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكماً عادلاً» (يو 7: 23، 24). فكل ما هو ضروري للعبادة الدينية أو الحضور إليها جائز في السبت.

فهذه الوصية تأمر بحفظ يوم الرب وتخصيصه للهدف منه، في عبادة الله الجمهورية والفردية والصلاة ومطالعة كتابه والتأمل في حقه، والقيام بأعمال الرحمة للبشر والبهائم، وتعزية الحزانى وزيارة المرضى وافتقاد المتغافلين عن واجباتهم الدينية لإيقاظهم، والمتخاصمين لمصالحتهم، والمؤمنين لدراسة واجباتهم وخير كنيستهم. كما أن الوصية تأمر بالانقطاع عن الأعمال المعتادة والانشغال بالمصالح العالمية والتنزهات للحصول على المسرة الدنيوية التي تفرغ القلب من التفكير في الله وفي ما يجب علينا له.

وهذه الوصية تنهى عن إهمال راحة يوم الرب بالأعمال غير الضرورية والتفكير والحديث في الأمور العالمية التي لا علاقة لها بالروحيات، وعن السفر لغاية دنيوية، أو فتح المخازن والبيع والشراء فيها، وفلاحة الحقول، والاشتغال بالزرع أو الحصاد والتنزهات والزيارات الدنيوية والألعاب الجائزة في بقية الأيام.

11 - ما هي الوصية الخامسة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* الوصية الخامسة هي «أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك» (خر 20: 12). والمبدأ العام الذي تعلّمه هو أن نكرم من هم أرفع منا مقاماً بما يليق بمقامهم وما يحق علينا لهم، كالإكرام والطاعة والشكر، حسب العلاقة بيننا وبينهم. والآباء هم الأول في الرتبة والأهمية عند الأبناء. وقد كان حكم الوالد عظيم الشأن في العصور القديمة، وهو أصل الأحكام المدنية في العالم. وفي العهد القديم أقوال كثيرة تُثبت هذه الوصية (خر 21: 17 وتث 21: 18-21 و27: 16 وأم 20:20). وكذلك في العهد الجديد، فإن المسيح كان خاضعاً لوالديه (لو 2: 51). وأمر الرسول الأولاد أن يطيعوا والديهم في الرب (أف 6: 1) وأن يطيعوهم في كل شيء، لأن هذا مرضيٌ في الرب (كو 3: 20) لأن هذه الطاعة أمر ديني وجزء من طاعة الله، ويطيعوهم في كل ما يقع في دائرة السلطان الأبوي. ويتضح السلطان الأبوي من حقيقة علاقة الوالد والولد، ومن الكتاب المقدس. وطاعة الوالدين شكر ومحبة قبل أن تكون طاعةً لمَن لهم سلطان وضع الشرائع المدنية وإجراءها، ولا لأنهم أنبياء أو كهنة أو أرباب ضمير يضبطون إيمان الأولاد ويحكمون لهم في مسائل الواجبات ويعفونهم مما يتوجب عليهم للغير. ولما كانت هذه الطاعة خدمة محبة فليس لها حدود واضحة، فغاية الأمر أنه يجب على الأولاد الخضوع لإرادة والديهم في كل شيء لا يناقض وصايا الله، فإنه ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس.

وكما أن على الأولاد واجبات لوالديهم وطاعتهم، كذلك على الوالدين واجبات لأولادهم. وقد ذكر الرسول خلاصة هذه الواجبات سلباً وإيجاباً فقال «أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم» (أف 6: 4). فلا يجوز أن يغيظوا أولادهم بالغضب أو القسوة أو الظلم، أو التفريق في معاملتهم، أو في مطالبتهم بما لا يستطيعونه، أو الإفراط في استعمال السلطان. ثم يقول «بل ربّوهم بتأديب الرب وإنذاره». والتأديب يعني التعليم، والإنذار للإصلاح. ولا بد أن يكون التأديب والإنذار مبنيّين على وصايا المسيح، ليجريهما بكلمته وروحه، مستعملاً الوالد وسيلةً لذلك. فالمسيح يُجري هذا التأديب والإنذار بأن يسوق الوالد إلى ذلك بواسطة روحه. وهذا المبدأ المسيحي في تهذيب الصغار أمر جوهري حسب قول الرسول، فإن للإنسان طبيعةً دينية كما أن له طبيعة عقلية، وإهمال الأولى يناقض تعليم الكتاب وحكم العقل، وإهمال الثانية يجعل كل التهذيب تربية جسدية فقط. فإذا استنارت قوى الأولاد الأخلاقية والدينية ونمت كما ينبغي، صاروا مستقيمين مفيدين سعداء. وتحتاج الأخلاقيات إلى التهذيب الواجب، كما تحتاجها العقول والأجساد. ولا يتم التهذيب الديني إلا إذا دخل الحق في العقل وعمل في الضمير. ويعلمنا الكتاب أن ابن الله الأزلي هو مخلِّص البشر الوحيد، وأن الناس لا يخلُصون من سلطان الخطية إلا بالإيمان به وطاعته. فإذا لم يُربَّ الأولاد بتأديب الرب وإنذاره ذهبوا مع الجماعة التي يألفونها، وانقادوا معها إلى الهلاك.

وتتضمن هذه الوصية أيضاً الواجبات التي على الرعية للحكام المدنيين، حسب القول «اخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب. إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمرسَلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير، لأن هكذا هي مشيئة الله» (1بط 2: 13-15). وقد لخَّص بولس القول في الحكم السياسي وواجبات الرعية نحو الحكام في أربعة أمور (رو 13: 1-5): (أ) أن كل سلطان هو من الله. (ب) أقام الله الحكام السياسيين. (ج) مقاومة الحكام مقاومة لله، لأنهم خدّامه، يُجرون سلطانه بين الناس. (د) طاعة الحكام أمر واجب على الضمير وجزء من طاعة الله.

ويظهر مما تقدم ستة أمور:

(1) الحكم السياسي فرضٌ إلهي، لا مجرد ترتيب بشري اختياري يُقام أو لا يُقام كما يشاء الناس، ولا هو مبنيٌ على اتفاقية بين البشر، بل هو أمرٌ من الله. ولم يحدد الكتاب للحكم السياسي صورة واحدة لا بد منها في كل زمان ومكان، بل ترك ذلك لعناية الله واختيار الأمة. ولم يعيّن الله أسلوب الحكم، ولا عيّن الأشخاص الذين يمارسون أموره، ولا فرض طريق تعيينهم، ولا حدد ما لهم من سلطان.

(2) سلطان الحكام من الله، فهم خدّامه ونوابه. نعم إنهم ينوبون عن الملك أو الرئيس الذي عيّنهم، أو عن الأمة التي اختارتهم ليُؤتَمنوا على هذا السلطان الذي فوَّضه الله للبشر. ولكن ما يصدرونه من قوانين هو من الترتيب الإلهي، لأن الله شاء أن تكون لهم تلك الوكالة.


(3) طاعة الحكام وشرائع البلاد من الواجبات الدينية، فإننا مأمورون بالخضوع لكل ترتيب بشري «من أجل الرب» أي احتراماً له (1بط 2: 13)، و«بسبب الضمير» (رو 13: 5).

(4) وجوب الطاعة لكل حاكم بغضّ النظر عن أصله وصفاته. وقد كُتبت وصايا الرسولين بطرس وبولس أثناء حكم نيرون الذي أحرق المسيحيين. فيجب أن يُطاع الحاكم لأن سلطانه مبنيٌ على إرادة الله المعلنة صريحاً في وقائع الأمور وفي كلمته، كما قال الكتاب «به تملك وتقضي العظماء عدلاً» (أم 8: 15).

(5) السلطان البشري مقيَّد، وهذا التقييد مقدَّر دائماً إذا لم يكن ظاهراً. فمثلاً وصية «لا تقتل» مطلقة حسب ظاهرها تمنع القتل، على أن الكتاب المقدس يبيح القتل أحياناً أو يجعله واجباً. وبنفس المنطق نقول إن هناك مبادئ تقيّد سلطان الحاكم، منها أنه محصور في الدائرة الشرعية المختصة به، لأنه لما كان مُقاماً لحماية الحياة والمال وحفظ النظام ومعاقبة فاعلي الشر ومدح فاعلي الخير، كان سلطانه مقيَّداً بأعمال الناس الظاهرة، فليس له أن يتعرض لأفكار الناس الباطنة. ومنها أيضاً أن ليس في سلطته أن يأمر بما فيه عصيان الله، لأن سلطانه من عند الله، فلا يجوز استعماله ضد الله.

(6) من المبادئ العامة في هذه المسألة أن كل إنسان يحكم لنفسه في الأحوال التي تجيز أو توجب العصيان على الحكم المدني، فهذه مسألة متروكة للشخص، لأنه لما كان كل إنسان مسؤولاً عن نفسه لله، وجب عليه دون غيره أن يحكم في أمرٍ مفروض: هل هو إثم أو لا؟ وعلى هذا حكم دانيال لنفسه، وكذلك شدرخ وميشخ وعبدنغو والرسل والشهداء. غير أن بين العصيان والمقاومة فرقاً ظاهراً، لأنه قد يجب على الإنسان أن يعصى ناموساً أو أمراً يدعوه إلى ارتكاب الخطأ، بدون أن يقاوم إجراءه. فقد أبى الرسل طاعة الرؤساء والولاة، ولكنهم خضعوا للعقاب الذي وقّعوه عليهم. وكذلك عصى الشهداء المسيحيون الشرائع التي أمرتهم بعبادة الأصنام، ولكنهم لم يقاوموا إجراء الشريعة.

وتشتمل هذه الوصية أيضاً وجوب طاعة الكنيسة بحسب القول «أطيعوا مرشديكم واخضعوا لهم، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم. اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة الله» (عب 13: 7، 17). وقال المسيح لتلاميذه إنه إذا كان الأخ المذنب يقاوم الوسائط المستعملة للإتيان به إلى التوبة، فيجب أن يُشتكى إلى الكنيسة. فإن لم يسمع من الكنيسة فليكن كالوثني والعشار (مت 18: 17). أما المبادئ التي تضبط طاعتنا للكنيسة فتشبه ما يضبط طاعتنا للحاكم السياسي وهي:

(1) الكنيسة المنظورة ترتيب إلهي، يجب على كل من يسمع الإنجيل أن يصير عضواً فيها ويخضع لسلطانها.

(2) كل سلطان كنسي من الله، وكل أصحاب الرتب الكنسية خدامه يعملون باسمه وسلطانه، فتكون مقاومتهم مقاومةً للترتيب الإلهي.

(3) كل حقوق الكنيسة الخاصة بها، وسلطان أصحاب الرتب فيها مذكورة في كلمة الله.

(4) للكنيسة ثلاثة حقوق: (أ) تعليم جميع الأمم ما أعلنه الله في كلمته من واجبات الناس في الإيمان والعمل. ولكن ليس لها سلطان يتجاوز حدود الإعلان الإلهي في الأسفار المقدسة. (ب) ترتيب العبادة الجمهورية وإجراء وخدمة سرَّي المعمودية والعشاء الرباني، وانتخاب أصحاب الرتب فيها، ومباشرة كل ما يلزم لأجل دوامها وامتدادها. (ج) قبول الأعضاء وإجراء تأديب من يجب تأديبه منهم، ورفضهم حسب مقتضى الحال.

(5) لما كانت الكنيسة قد انتظمت لهدفٍ معلوم، وكان سلطانها ناشئاً من الله، وجميع حقوقها الخاصة مذكورة في الكتاب المقدس، وجب أن ينحصر سلطانها ضمن حدود مبادئ الكتاب المقدس.

12 - ما هي الوصية السادسة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* الوصية السادسة هي «لا تقتل» (خر 20: 13) وقد فسّرها المسيح بمعنى أنها تنهى عن البغض والمعاداة والضرر والخبث على أنواعه (مت 5: 21، 22) وعن كل ما يؤدي إلى ما تنهى عنه صريحاً، فكما أنها تنهى عن القتل تنهى أيضاً عن كل الانفعالات المُضرّة. وقد أعطى الكتاب مقاماً معتبراً لحياة الإنسان لأمرين: (أ) لأن الله خلق الإنسان على صورته، فإنه يشبهه في جوهر طبيعته، وينوب عنه في الأرض. فإذا أهانه أحد أو أضرَّه كان ذلك احتقاراً لله. (ب) إن جميع الناس إخوة من دم واحد وأولاد أب واحد، فعلينا أن نحب جميع الناس، ونبذل كل جهدنا في وقاية حياتهم والسعي في نفعهم. ولهذا يكون القتل أعظم كل الجرائم التي يرتكبها الإنسان انتقاماً من أخيه. ولما كانت الوصية السادسة تنهى عن القتل بغضاً ومعاداة، كان من الواضح أن القصاص بالقتل الذي أمر الله به (تك 9: 6) لا يدخل في النهي المذكور، لأنه لا يُقصد به الانتقام، بل إرساء قواعد العدل وحماية أرواح الناس. وبما أن هاتين الغايتين جائزتان كان قصاص القتل بالقتل جائزاً أيضاً، بل واجباً.

ومن الواضح أن الوصية السادسة لا تنهى عن الدفاع عن النفس، لأربعة أمور:

(1) ليس هذا القتل من باب البُغض، فلا يدخل في معنى النهي المذكور.

(2) المحاماة عن النفس من الأمور الغريزية في طبيعتنا، فهي إعلان إرادة الله.

(3) من أحكام العقل والعدل أنه إذا كان لا بد من موت واحد من اثنين، وجب أن يكون للمعتدي لا للمعتدَى عليه.

(4) الإنسان في حكم البشر العام وحكم كلمة الله بريءٌ إذا قتل آخر في المحاماة عن حياته وعن حياة قريبه.

أما الحرب فهي من أفظع الشرور، وأغلب الحروب في تاريخ البشر إثم محض. لكن لا نقدر أن نقول على الإطلاق إن الحرب ممنوعة، لأن حقوق الدفاع تستلزم الحرب أحياناً. ويجب على كل دولة وكل شعب أن يستعمل جميع الوسائط الممكنة والمناسبة لاجتناب الحرب.

ويدخل في هذه الوصية النهي عن الانتحار أي قتل النفس وهو ذنب فظيع، لأن حياتنا ليست لنا، فليس لنا الحق في إعدامها أكثر من إعدام حياة الغير. وكذلك يندرج في نهيها المبارزة للقتل.

وتأمر هذه الوصية بالانتباه لحفظ حياة أنفسنا وحياة غيرنا. وهذا يمنع الميل إلى التعدي على الناس، ويوجب الاعتناء بصحتنا وصحة غيرنا، وبالمعاملة اللطيفة، وباحتمال الإنسان اعتداء غيره عليه بالصبر والاجتهاد في رفع أسباب ذلك، دون استعمال العنف، مع الاستعداد الدائم لإعانة كل من هو في خطر الموت.

13 - ما هي الوصية السابعة، وبِمَ تأمر، وعمَّ تنهى؟

* الوصية السابعة هي «لا تزن» (خر 20: 14) وقد فسّرها المسيح بأنها تنهى عن كل ما هو نجس بالفكر والقول والفعل (مت 5: 27-32). ولما كان صلاح المجتمع في الطهارة يتوقف على اللياقة في علاقة الذكور والإناث، ولما كان خير الجميع الناس ونقاوة الكنيسة ونجاح الديانة يتوقف على احترام العائلة، كانت المحافظة على سلامة العلاقة التي وضعها الله بين الجنسين في غاية الأهمية. ولا يُفهم من هذه الوصية أن لحياة العزوبة فضلاً خاصاً، لأنه لو صحّ ذلك لكان خلْق الإنسان ذكراً وأنثى خطأً من الله! والكتاب في كلا العهدين يكرم الزواج غاية الإكرام ويعتبره نظاماً إلهياً وضعته الحكمة الإلهية لغاية حسنة، وهو بركة فائقة لجنسنا. والقانون الأصلي الدائم فيه أن يكون بين رجلٍ واحد وامرأة واحدة. وهو اقتران لا يجوز انفكاكه إلا بالموت أو لسبب آخر ذكره المسيح. وما يظهر في الكتاب أنه عدولٌ عن هذا القانون كاتّخاذ نساءٍ كثيرة في العهد القديم هو بسماحٍ من الله لأسباب وقتية، ولكن القانون السماوي والأمر الإلهي واضحٌ من البدء. وقد ثبَّت المسيح القانون الأصلي (مت 19: 3-9 ومر 10: 4-9 ولو 16: 18 ومت 5: 32). ولا يجوز لطرفٍ أن يتزوَّج بعد الطلاق إلا إن كان طلاقه لعلة الزنا (مت 5: 31، 32 و19: 3-9 ومر 10: 2-12 ولو 16: 18). لكن يستنتج من تعليم بولس جواز الانفصال بدون حرية الزواج لأسباب أخرى (1كو 7: 10-15).

وهذه الوصية تأمر بتمام الاحترام لعهود الزواج، والعدول عن كل مخالفة لها بالفكر والقول والفعل، وأن نحفظ قلوبنا وأجسادنا من كل نجاسة، وأن نجتنب كل ما يُفضي إلى ذلك من أحاديث الخلاعة أو المعاشرة المجونية ومطالعة الروايات العشقية والأغاني السفيهة والصور النجسة، وأن نختار عِشرة أصحاب العفة والحشمة، ونفضل الطاهرين على غيرهم.

وتنهى هذه الوصية عن الزنا والفسق والفحش الطبيعي وغير الطبيعي على جميع أنواعه.

14 - ما هي الوصية الثامنة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* الوصية الثامنة هي «لا تسرق» (خر 20: 15) وهي عماد المحافظة على حقوق الممتلكات، وحق تصرف الإنسان بماله وليس لآخر حق في ذلك. وأساس هذا الحق إرادة الخالق، وهي الضمانة الوحيدة للفرد وللجمهور، لأنه لو بُني على أساس آخر لكان متزعزعاً.

وأنواع التعدي على الوصية الثامنة كثيرة، وقد اكتنف الخطر العظيم مجتمعنا بسبب انتشار الخداع والسرقة على أنواعها بين الجمهور. لأنه إذا كانت الوصية تنهى عن تخصيص مال الغير لخدمتنا أو فائدتنا بطريقة تخالف الاستقامة أو العدل، وكان ذلك التخصيص سرقة في عيني الله، كانت السرقة أخطر تعدٍ على الوصايا العشر. وهذا التعدي لا ينحصر في السرقة المعروفة التي يستطيع الحاكم إظهارها والمعاقبة عليها، بل يشمل أموراً أخرى نذكرها الآن بالتفصيل وهي:

(1) جميع أنواع الخداع في المعاملات، مثل وصف شيء معروض للبيع بغير ما هو في الواقع. والأقبح من ذلك بيع شيء على أنه سليم صحيح وهو سقيم أو مزوّر.

(2) الاحتيال على الإنسان بناءً على جهله أو احتياجه، فإذا باع رجلٌ شيئاً يعلم أن قيمته أقل مما يحسبها المشتري، فذلك سرقة. وإذا عرف إنسان خسارة شركة مصرفية أو إفلاس جمعية تجارية، واغتنم هذه المعرفة فباع أسهمها لمن يجهلون حقيقة الأمر، فقد ارتكب السرقة، لأن «لا تسرق» نهيٌ عام عن أخذ مال الغير بطرق ملتوية. وكذلك كل أنواع الاحتيال لرفع أسعار بضائع التجارة أو خفضها، كإشاعة الأخبار الكاذبة التي من شأنها رفع السعر أو خفضه، وكشراء كل الإنتاج لرفع الثمن كما يقول سفر الأمثال «محتكر الحنطة يلعنه الشعب، والبركة على رأس البائع» (أم 11: 26). ومن هذا أيضاً انتهاز الفرصة عند احتياج الغير وطلب ثمن فاحش لما يكون مضطراً إليه.

(3) سلب أملاك الناس بناءً على مجرد خطأ شرعي فيما يثبت ملكيتهم لها، وقد ينشأ هذا الخطأ عن جهل، أو عن فقد الصك الشاهد على حقهم، بالغرق أو النار أو السرقة أو لسبب آخر. ومن يغتنم حدوث خطأ كهذا ليحرز مال الغير يخالف وصية «لا تسرق» أي لا تأخذ ما ليس لك في عيني الله. ومن هذا القبيل أيضاً المضاربة حيث ينتهز الذكي عدم انتباه الغافل ويسلب ماله بلا عوض. ولا نهاية لأنواع الحيل والمكر.

وهذه الوصية تأمر بالأمانة والاستقامة والعدل في كل الأعمال التجارية، فالواجب علينا أن نعطي كل ذي حقٍّ حقه في كل حين، وأن نجتهد في عملنا الخاص لنقوم بحاجاتنا وحاجات من لنا، بدون أن نثقل على غيرنا بسبب الكسل (2تس 3: 6-10). وأن نحافظ على حقوق غيرنا في ما يختص بالممتلكات، وأن نعتزل اختلاس شيء ليس لنا، وأن نسلك بالأمانة التامة في كل ما وُكل إلينا، وأن نعدل عن الربح بوسائط اغتصابية أو خداعية أو خارجة عن المألوف الجائز ومقتضى الإنسانية.

وهذه الوصية تنهى عن الربا الفاحش، وعن الشراء والبيع بالغش أو بموازين الغش ومكاييله، وعن إفساد الطعام بخلطه بمواد رخيصة أو ضارة، أو مساعدة الآخرين على السرقة أو قبول أموال مسروقة وتخبئتها، أو التجارة بالعبيد، أو اختلاس أملاك غيرنا أو أموالهم بالتحايل على القانون، أو رشوة القضاة وأرباب الحكم، أو تغيير حدود الممتلكات، أو الظلم أو الاختلاس في جمع الضرائب أو التهرُّب من دفعها، وكل تزوير في الحسابات المالية، وخيانة في مسؤولية الوكالة، وتحويل أملاكنا إلى يد الغير لنتخلّص من تأدية ديوننا، والتأخر عن رد ما قد أخذناه من غير حق، وعن عدم رد المستعار، والسرقة الأدبية، أي نشر ما لغيرنا من المؤلفات كأنها تأليفنا.

15 - ما هي الوصية التاسعة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* الوصية التاسعة هي «لا تشهد على قريبك شهادة زور» (خر 20: 16). وهي تنهى عن كل ما يخالف الصدق. وأقبح أنواع هذا الخطأ شهادة الزور على القريب. والوصية تشمل كل أنواع الغش والخداع والكذب.

والصدق من الأمور الواجبة في كل زمان، لأنه من صفات الله الصادق الأمين، وكل ما يخالفه أو يناقضه يناقض الطبيعة الإلهية نفسها. فالصدق أساس جميع الكمالات الإلهية.

وأما أنواع الخطأ التي تحرمها الوصية التاسعة فاثنان:

(1) الكذب على جميع أنواعه، وهو كل ما يخالف العدل والحق بهدف إفساد صيت القريب الحسن. وأقبح مثال للكذب شهادة الزور في المحاكم، وهو يتضمن الخبث والكذب والاستهزاء بالله. ولما كان هذا الذنب ينتهك حرمة الصيت والمال والحياة نفسها، وجب ألا نسكت عنه. ومن هذا النوع ذكر عيوب الناس في غيابهم، وهم لا يقدرون أن يدافعوا عن أنفسهم (وهي النميمة). ومن هذا النوع أيضاً الوشاية (لا 19: 16).

(2) كل ما يخالف نواميس الصدق. ويشمل الكذب على أنواعه، وهو الإخبار بغير الصحيح. وقد تقوم فيه الإشارة مقام الكلمة، مثلاً إذا سُئل شخص عن الطريق إلى مكان معلوم وأشار بيده إلى غيرها، فهذا كذب، كما لو أنه أضلَّ السائل بصريح اللفظ. ولكن قد يكون الإخبار بغير الصحيح عن جهل أو خطأ غير متعمَّد، وفي هذه الحالة لا يكون كذباً. ولذلك عرَّف بعضهم الكذب بأنه «الإخبار بالشيء على خلاف ما هو في الواقع، مع العلم به، وبقصد ونيَّة الخداع». وقيل إن الكذب لا يجوز أبداً حتى أن تضحية الإنسان بحياته هو أو غيره لأجل الحق أفضل جداً من شهادة الزور على الله. ولذلك لم ينكر الشهداء المسيح، ولم يتظاهروا بالإيمان بآلهة كاذبة ليخلّصوا حياتهم أو حياة إخوانهم، لأن وجوب كلام الصدق كان واضحاً في نظرهم.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
وقد قسم القديس أغسطينوس الكذب إلى ثمانية أنواع، لكن أكثرها لا يختلف عما سواه إلا من حيث الموضوع أو النتيجة. وقسم توما الأكويني الكذب إلى ثلاثة أنواع: الخبيث والخيري والهزلي:

(1) فالكذب الخبيث يشمل جميع أنواع الكذب التي تصدر من قلب رديء بغاية رديئة. ويدخل في هذا القسم «الحجز العقلي» وهو قول اشتهر به الآباء اليسوعيون الذين وضعوا ثلاث قواعد هي: (أ) تعود صفة العمل الأخلاقية إلى النيَّة فقط، فإذا كانت النية صالحة كان العمل صالحاً، ولو كان من الجرائم. ولكن نقول: لو أخذ العمل صفته الأخلاقية من النية لجاز القتل لأجل خير الكنيسة! (ب) «الأرجحية» بمعنى أنه إذا ترجح أن العمل حلال لا يكون هناك خطأٌ في ارتكابه، حتى لو اعتقد الفاعل أنه حرام. وعندهم أن العمل يكون حلالاً بالترجيح إذا وقع خلاف فيه بين رجال علم الأخلاق. (ج) يجوز أن يُقسِم الإنسان أنه لم يعمل ما قد عمله، بشرط الإضمار في نفسه (مع الإخفاء عن السامع) أنه مثلاً لم يعمله عشر سنين قبل الوقت الحاضر! وقِس على ذلك. ولكن واضح أن هذه القواعد الثلاث باطلة، لأنها تبيح الكذب الذي ينهى عنه ناموس الله.

(2) والقسم الثاني الكذب الخيري، وهو ما يُرتكب لأجل غاية صالحة، وأمثلته ما يُقال للمرضى تعزية أو تشجيعاً، وما يُقال في فحص الجنايات لكشف المجرم، وما يُقصَد به دفع الشر أو نوال الخير لأنفسنا أو لغيرنا. ولكن الكذب الحقيقي هو الإخبار بما هو غير صحيح بنية الخداع. فالمسيحي مثلاً الذي يسأله الحاكم الوثني إن كان مسيحياً، ملتزم أخلاقياً بالجواب الصادق أو بالسكوت. أما القول إن الكذب النافع خطأ عرضي فمبني على أن العمل بالنية. على أن الكتاب المقدس وضع القانون النهائي، وهو أن الدينونة عادلة على كل من «يفعل السيئات لكي تأتي الخيرات» (رو 3: 8).

16 - ما هي الوصية العاشرة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

* هي «لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أَمَته ولا ثوره ولا حماره، ولا شيئاً مما لقريبك» (خر 20: 17).

(1) النوع الأول من الشر الذي تنهى عنه هذه الوصية هو اشتهاء ما ليس لنا، خصوصاً ما للقريب. وهذا يعني القناعة والرضى بما أعطانا الله. وتنهانا الوصية عن التذمر والشكوى، وعن حسد الغير على حُسن أحوالهم أو كثرة أموالهم. غير أن الأمر بالقناعة لا يوجب الكسل، لأن الاجتهاد واجب في تحصيل خيرات هذه الدنيا واستعمال الوسائط الحلال لتحسين الأحوال.

وليس للقناعة أساس راسخ في العقل إلا التقوى، لأن التسليم للقضاء المحتوم ليس من باب الرضى، بل هو عدم مبالاة ويأس. ونحن نؤمن بإله حقيقي غير محدود في القدرة والحكمة والمحبة، وبأنه يعتني بكل المخلوقات وكل الحوادث، وبأنه يقضي بأعظم خير لكل شخص بمفرده ممن يتكلون عليه ويخضعون لإرادته. وهذا يرضينا بما أعطانا. وإذا تأملنا تعاليم المسيحية في هذه المسألة وعرفنا إن الذي يُجري هذا الحكم العام هو المسيح الذي دُفع إليه كل سلطان في السماء والأرض، عرفنا أن الذي يقسم نصيبنا هو الذي أحبنا وبذل نفسه عنا، وهو الذي يسهر على شعبه كما يسهر الراعي على قطيعه، حتى أنه لا تسقط شعرة من رؤوسنا بدون إذنه. وإذا نظرنا للمستقبل الأبدي الذي أعدَّه لنا عرفنا أن أحزان هذه الحياة لا تُقاس بالمجد الذي سوف يُستعلن فينا، وأن خفّة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا ثقل مجد أبدياً، فترتفع قناعتنا إلى سلام يفوق كل عقل، بل إلى فرح مملوء بالمجد. وكل ذلك ظاهر في تاريخ شعب الله. قال بولس الرسول «تعلّمتُ أن أكون مكتفياً بما أنا فيه» (في 4: 11). وقال أيضاً «أُسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح» (2كو 12: 10). وهذا هو اختبار آلاف المؤمنين في كل العصور. فخيرٌ للإنسان أن يكون مثل لعازر من أن يكون كالرجل الغني (لو 16: 19-31).

(2) النوع الثاني من الشر الذي تنهى عنه هذه الوصية هو الحسد، وهو اشتهاء ما ليس عندنا، كما أنه يتضمن الأسف على تمتع الغير بما حُرمنا نحن منه، والشعور بالبغض لمن هم أفضل منّا حالاً، واشتهاء نزع ما يتميّزون به عنا. وهذا يسبب عذاب النفس وضياع كل ما فيها من السلام. ولهذه الخطية درجات كثيرة، تبدأ من السرور عند وقوع المصائب بالغير، أو اشتهاء حلول الشر بهم، أو نزولهم إلى حالة مساويةٍ لحالنا، وتنتهي إلى بُغض السعداء بسبب سعادتهم، والعزم على أذاهم إذا أمكن. قال أحد الفلاسفة «يسرُّ كل إنسان باطناً بمصائب الناس ولو كانوا من أعز أصدقائه!». ولما كان الحسد منافياً للمحبة، كان أكثر الخطايا مخالفة لطبيعة الله.

(3) النوع الثالث الذي تنهى عنه هذه الوصية هو شدة محبة المال. والشخص الذي يجعل حب المال هدفه الأول يصير طماعاً، قال فيه الرسول إن الاشتهاء أصل كل الشرور، لأن الطمع يؤدي للدناءة والغش والخداع، حتى القتل! ويتعرض المشتهي لخطرٍ دائم. قال الكتاب في محب المال: (أ) إنه لا يقدر أن يدخل السماء (1كو 6: 10). (ب) إنه عابد الأوثان (أف 5: 5) فالمال إلهه. (ج) إن الله يكرهه (مز 10: 30).

ومن فوائد هذه الوصية أنها كانت الواسطة التي ساقت بولس الرسول إلى معرفة الخطية، فقال «لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس: لا تشته» (رو 7:7) فإن أكثر الوصايا الأخرى تنهى عن أعمال ظاهرة، وأما هذه فتحرم حالةً داخليةً قلبية. ويتضح منها أن الطاعة الخارجية لا تقوم بما يطلبه الناموس، وأن الله ينظر إلى القلب، ويمدح أو يذم ما انطوت عليه النفس من المشاعر والأهداف، وأن الإنسان قد يكون فريسياً نقياً في الظاهر، ولكنه كالقبر المبيَّض المملوء عظام أموات وكل نجاسة.

ويواجهنا سؤال: هل الشهوة خطية؟ ونعني بالشهوة ميل الإنسان بطبعه إلى الخطية، حتى إن كان متجدِّداً. قال بولس «لم أعرف الخطية إلا بالناموس، فإني لم أعرف الشهوة لو لم يقُل الناموس لا تشته» (رو 7:7) وهذا يعني أن الشهوة تقود إلى الخطية. والوصية تنهى عن الشهوة، وهي ممنوعة في القلب وإن لم تتحول عملاً. وعلى ذلك يكون نهي هذه الوصية يشمل أشواق القلب السرية التي تسبق أعمال الإرادة وتستقل عنها. فالخطية التي كشفها بولس في قلبه بواسطة هذه الوصية لم تكن خطية ظاهرة مرتكبَة، بل خطية الاشتهاء لما هو محرَّم.

وهذه الوصية تأمر بالاقتناع بحالنا بدون التعدي على حقوق القريب ومقتنياته، وبدون حسد، بل بأن نعزز شرفه وسعادته وسلامته وجميع أحواله الحسنة وأملاكه الشرعية.

17 - ماذا يجب أن يكون شعورنا عند مطالعة شريعة الله الأخلاقية؟

* يجب أن يكون شعور التواضع، لأننا نسمع مجد الله الأخلاقي وقداسته واتساع سلطان شريعته التي تكشف أعماق القلب، وتحكم على كل الخطايا السرية كما تحكم على الظاهرة، وتطلب الخضوع الكامل لإرادته، وكل الاجتهاد في القيام بمطالبه. ولا يمكن أن نقوم بمطالب الشريعة كما ينبغي في هذه الحياة، فإن رجاء التبرير بالناموس متعذرٌ بل مستحيل. فيجب أن نشكر الله على نيابة المسيح عنا في إتمام تلك الشريعة، واحتماله القصاص الذي أوجبته علينا، فإنه بذلك أعدَّ لنا براً كاملاً نتبرر به مجاناً «لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن» (رو 10: 4) «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاةً، هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعَل الكثيرون أبراراً» (رو 5: 19).

18 - ما هي علاقة المسيحي المؤمن بشريعة الله؟

* هي أن تلك الشريعة لم تزل قانون حياته الصالحة. على أن تبريره وخلاصه ليسا بها، بل بالنعمة. وعلاقة المؤمن في العهد المسيحي بتلك الشريعة قائمة بصفتين مهمتين، وهما الحرية وطاعة المحبة. فكل مسيحي بالحق تحرّر بناموس روح الحياة في المسيح يسوع من ناموس الخطية والموت (رو 8: 2). وهو يقدر بقوة روح الحياة أن يطيع، لأنه يساعده ليصير (وهو تحت الناموس الأخلاقي) تحت ناموس الحرية (يع 1: 25). فهو يجتهد أن يعمل مطالب الله من تلقاء نفسه وبحريته، لمجد الله، حتى يكون روح طاعته هذه بالمحبة والرغبة القلبية إكراماً للرب وحباً له ولشريعته. وتلك المحبة هي غاية ما يقصده الناموس في الإنسان «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، وتحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء» (مت 22: 37-40) «فالمحبة هي تكميل الناموس» (رو 13: 10). فإذا وُجدت المحبة في قلب الإنسان، تعمل باجتهاد وغيرة لتكميل الشريعة الإلهية، ولا تكتفي بالطاعة الخارجية بل تطلب الطاعة القلبية الخالصة.

19 - ماذا قال المسيح ورسله في أحكام الوصايا العشر الأخلاقية؟

* أثبت المسيح والرسل تلك الأحكام ووسعوا دائرتها لتشمل كل الواجبات التي يلتزم بها الإنسان في العهد المسيحي، ولاسيما الواجبات للمسيح باعتباره نبياً وكاهناً وملكاً. وإذا أردنا تكميل شريعة الواجبات الأخلاقية للمؤمن من بعد تجسد المسيح وكفارته وإقامة الكنيسة المسيحية وإرسال الروح القدس، فعلينا أن ننظر إلى أقوال المسيح ورسله في تلك الواجبات، فلا نرى فيها اختلافاً مع المعاني الروحية للوصايا العشر. بل نراها توسّع دائرة الوصايا العشر لتشمل الواجبات الأخلاقية الناشئة عن عمل الفداء وإقامة الديانة المسيحية والكنيسة المنظورة. وتنحصر هذه الواجبات في قسمين:

(1) ما يختص بالمسيحي باعتباره مؤمناً، بغضّ النظر عن علاقته بالكنيسة وبالعالم: أي الواجبات الشخصية، فيشمل أموراً مختلفة نذكر منها: (أ) الواجبات المتعلقة بالرجوع إلى الله، كالتوبة والإيمان والتسليم لسلطان المسيح واحترام تعاليمه وطاعة أوامره، وقبوله معلماً وفادياً وملكاً (مت 3: 8 وغل 5: 22). (ب) الواجبات المتعلقة بأهداف القلب المتجدِّد، كطلب مجد الله في كل أعمالنا، والاجتهاد في إرضائه، والحياة المخصَّصة لخدمة المسيح، كما قال الرسول «لأن لي الحياة هي المسيح» (في 1: 21) وإنكار الذات في سبيل إتمام ذلك (لو 9: 23) والاقتداء بالمسيح «اتبعني أنت» (يو 21: 22). وطلب كمال أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا (مت 5: 48 و1يو 2: 1 و3: 7 ورو 8: 4 و2كو 7: 1 وفي 2: 15 و3: 12، 13). (ج) الواجبات المتعلقة بمحاربة الشيطان وتجاربه، ومن ذلك الاجتهاد في خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد (كو 3: 9، 10) وإبادة أعمال الجسد وإحياء ثمار الروح (غل 5: 17-23) والسلوك بالروح لئلا نكمل شهوة الجسد، وبذل الجهد في مقاومة التجارب المتنوعة داخلية أو خارجية، ورفض غرور العالم وسلطان رئيسه. وتتم هذه المحاربة بالمقاومة الشديدة للشيطان وجميع جنوده (أف 6: 12) وبصلب أنفسنا مع المسيح وإماتة شهواتنا الجسدية (كو 3: 5 وتي 2: 11، 12) وضبط أنفسنا فكراً وفعلاً لئلا نُحزن الروح القدس (أف 4: 30 و1تس 5: 19) والسهر الدائم بالصلاة لنكون مستعدين دائماً (مت 26: 40، 41 و1بط 4: 7) وأن نداوم على كل ذلك بجراءة وصبر ووداعة ورجاء إلى النهاية (1كو 16: 13 وأف 6: 10 ويع 1: 4 ورو 12: 12 وفي 4: 8). (د) الواجبات المتعلقة بخدمة المسيح ومنها إكرامه باعتبار أنه سيدنا، وعمل كل شيء باسمه (يو 13: 13 وكو 3: 17) والشعور باحتياجات إخوتنا الذين مات المسيح لأجلهم وأمرنا أن نهتم بمصالحهم الروحية والجسدية بكل أمانة ومحبة وإنكار ذات وتواضع وغيرة (يو 12: 26 و13: 15 ورو 12: 3 وفي 12: 20، 21 وتي 2: 10 و1كو 9: 17 و6: 20 و2تي 2: 21 ولو 19: 13). (هـ) الواجبات المتعلقة بالعبادة الدينية والتسبيح والصلاة، وهي تتضمن تقديم أنفسنا وأجسادنا ذبيحة حية للرب، وتقديم العبادة له بكل وقار قلبي بالتسابيح والتشكرات والتضرعات الجمهورية والعائلية والفردية، لخلاص أنفسنا وخلاص غيرنا، والتأمل في حقه وطلب الاقتراب إليه والاتحاد به (رو 12: 1 ومز 150: 1، 2 و2كو 9: 15 و1تس 5: 18 ولو 18: 1 وأف 6: 18 وفي 4: 6 ومت 6: ، 9 ومز 19: 14).

(2) أما القسم الثاني فهو الواجبات التي تختص بالمسيحي في علاقته بالكنيسة والعالم: ويشمل: (أ) الواجبات المتعلقة بالعضوية الكنسيَّة، بالانضمام إلى شركة الكنيسة وطاعتها في كل ما يوافق نصوص الكتاب، وحضور اجتماعاتها الأخوية، ومعاشرة الإخوة في الرب باللطف الأخوي، ومساعدتهم في ضيقاتهم وتعزيتهم في أحزانهم ومساعدتهم على أثقالهم (لو 22: 19 و1كو 11: 25 وعب 10: 25 و13: 17 وكو 3: 16 وغل 6: 2 و2كو 6: 14-18) وأن يكون الإنسان خادماً غيوراً للمسيح في نشر بشرى الخلاص وإتمام واجباته في الأعمال الخيرية ومساعدة جميع المشروعات الكنسية لعمل الخير وبنيان النفوس في التقوى (1كو 13 ورو 14: 7 وفي 2: 5، 13، 21 وأف 4: 15، 16). (ب) الواجبات المتعلقة بالزيجة والعائلة، فتكون الزيجة بين رجل واحد وامرأة واحدة بكل طهارة ومحبة (مت 19: 6 ومر 10: 6-8 وأف 5: 22، 25) وأن تكون تربية الأولاد بمخافة الرب، في تعليمهم واجباتهم الدينية وإرشادهم باللطف والمحبة وتربيتهم لخدمة الرب بكل أمانة (1تي 5: 8 وأف 6: 1، 4) وأن يكون التعامل في البيت بلياقة متبادلة بين السادة والخدام (كو 4: 1 وتي 2: 9، 10). (ج) الواجبات المتعلقة بالأعمال التجارية، ومنها أن نحفظ الوصية الثامنة «لا تسرق» بكمال معناها، وأن نجتهد في كل عمل نقوم به، غير متكاسلين (خر 20: 15 ورو 12: 11 وأف 4: 28 و2تس 3: 10). (د) الواجبات الإنسانية من السعي في نفع الجميع، ومعاشرتهم باللطف واللياقة والصبر وطول الأناة، والشفقة على الفقراء والمساكين والإحسان إليهم، والتصرف دائماً مع الكل بالعدل والإنصاف والصدق والإخلاص والاستقامة والصفح (رو 13: 8 و1بط 2: 17 و3: 8 ومت 5: 43، 48 و1يو 3: 16 ومت 7: 12). وخلاصة كل ذلك في ما يُسمى بالقانون الذهبي «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم» (مت 7: 12). (هـ) الواجبات المتعلقة بعلاقتنا بالحاكم المدني، ومن ذلك أن نكرمه ونطيعه ونعطي ما لقيصر لقيصر (مت 22: 21) وأن نطلب خير الوطن وارتقاءه في كل الروحيات والماديات.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الخامس والأربعون
الكنيسة وفرائضها
[FONT=&quot]1 - ما هو هدف المسيحية، وما هي الواسطة المنظورة لإدراك ذلك الهدف؟


[FONT=&quot]* تهدف المسيحية لخلاص الإنسان نفساً وجسداً من حكم الشريعة الإلهية، ومن سلطة الخطية ومحبته لها، فتجعله يحيا حياة مقدسة تنتهي بالحياة الأبدية السماوية. ويتم هذا الخلاص في الأفراد: (أ) بتجديد القلوب وإيقاظ النفس إلى حياة الإيمان والطاعة، ثم (ب) للجماعات وللبشر إجمالاً. ومن نتائجه إصلاح أحوال العالم وإرجاع الحق والعدل والإنصاف إلى حياة البشر عموماً. فهدف المسيحية الأول إصلاح الفرد، وهدفها الثاني إصلاح البشر في كل التصرفات والأعمال والعلاقات. فليست غايته إصلاح أفرادٍ من البشر فقط بل إصلاح البشر بالإجمال، وترجيع العالم في كل أحوال الحياة إلى حال القداسة والغبطة.


[FONT=&quot]وتتم هذه الأهداف بالتجسد وعمل الفداء وفعل الروح القدس في تخصيص فوائد الفداء للمؤمنين. أما الواسطة المنظورة لإجراء كل ذلك فهي كنيسة الله التي أقامها بين البشر لتعلن الإنجيل للناس، وتُحيي الإيمان به في قلوبهم وعقولهم. ومُنشئها هو المسيح، وهي مؤسَّسة عليه وعلى كلمته، وهي تستمدّ حياتها وقدرتها الروحية ونجاحها من روح الله الذي يحل في قلوب أعضائها. وهي مدعوَّة ومعيَّنة من الله لتتمّم هذه الغاية السامية، التي هي مسؤولية كل أعضائها. ولكل واحدٍ من هؤلاء الأعضاء عمل خاص في إتمام الغاية العامة. وقد سُمّي هذا البحث في الكنيسة وفرائضها ونظامها وعلاقتها بالعالم، وعملها الخاص في بنيان ملكوت المسيح بالإكليزيولوجيا (أي الكلام في الكنيسة) وهو قسم من أقسام علم اللاهوت الكبرى.[/FONT]

[FONT=&quot]2 - ما هي الكنيسة؟[/FONT]

[FONT=&quot]* الكنيسة ترجمة كلمة يونانية وردت في العهد الجديد أول الأمر لتشير إلى جمهورٍ من المؤمنين بالمسيح مجتمعين للعبادة والصلاة في مكان واحد. ثم استُعملت بعد زيادة عدد المسيحيين وانتشارهم لثلاثة معان: [/FONT]

[FONT=&quot](1) الجماعة المحلية، وهم جماعة المؤمنين المجتمعين في مكان واحد للعبادة. ومن أمثال ذلك الكنيسة التي في رومية وكولوسي وبيت فليمون (رو 16: 5 وكو 4: 15 وفل 2).[/FONT]

[FONT=&quot](2) مجموعة كنائس في منطقة واحدة متجاورة، ككنائس غلاطية أو آسيا (أع 9: 31 و1كو 16: 1، 19). وكان ينشأ مع امتداد المسيحية في مدينة واحدة عدة كنائس، كما في أنطاكية وأفسس وأورشليم، وسُميت كلها «الكنيسة في أنطاكية» أو «في أفسس» أو «في أورشليم» (أع 15: 4).[/FONT]

[FONT=&quot](3) جميع كنائس العالم، أو جميع المؤمنين الذين تجددوا بالروح القدس، واتخذوا المسيح رباً ومعلماً ومخلصاً وملكاً في كل مكان (1كو 12: 28 وفي 3: 6 وأف 5: 25 و1تي 3: 15). فلما انضمت للمسيحية جموع كثيرة، تألفت الكنيسة من فريقين، أحدهما المؤمنون الحقيقيون، والآخر المعترفون بالإيمان المسيحي اعترافاً خارجياً فقط. فميّزوا بينهما باستعمال تعبير «الكنيسة المنظورة» و«الكنيسة غير المنظورة». وأرادوا بالأولى كل جماعة المعترفين بالمسيح، سواء اقترن اعترافهم بالإيمان القلبي أم لا، وأرادوا بالثانية المتجددين أهل الإيمان الحي والرجاء الوطيد للخلاص في المسيح.[/FONT]

[FONT=&quot]فيصح إطلاق «الكنيسة» على جميع المتجددين في كل زمان ومكان في السماء وعلى الأرض. لكن هناك فرقاً في الأرض بين الجماعة المنظورة والجماعة غير المنظورة. وهناك تمييز بين كل جماعة من هؤلاء قامت بنفسها في مكان واحد أو اعتادت الاجتماع في بناء خاص لإقامة العبادة. وقد دُعيت الكنيسة في العهد الجديد بألقاب متنوعة، منها «بيت روحي» (1بط 2: 5) و«بيت الله» (1تي 3: 15) و«هيكل الله وهيكل الروح القدس» (1كو 3: 15، 16) و«المدينة المقدسة» (رو 21: 2) و«جسم المسيح» (أف 5: 30) و«جسد المسيح» (1كو 12: 27) و«عروس المسيح» (أف 5: 31، 32) و«ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 1: 23) و«عمود الحق وقاعدته» (1تي 3: 15) و«ملح الأرض، ونور العالم» (مت 5: 13، 14).[/FONT]

[FONT=&quot]وتكوّنت هذه الكنيسة من جماعتين: جماعة يهودية وجماعة مسيحية. وأصل المسيحية هو حلول الروح القدس في قلوب المؤمنين يوم الخمسين بعد صعود المسيح بمدة وجيزة. وهكذا أُقيمت الكنيسة المسيحية.[/FONT]

[FONT=&quot]3 - ما هي حال الكنيسة على الأرض؟[/FONT]

[FONT=&quot]* كنيسة المسيح مقدسة، لكنها ليست خالية من النقائص والشوائب. وتشبه حالتها حالة النفس المتجددة، فإنها مقدسة من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى هي غير كاملة التقديس. وعند الكنيسة وسائط روحية لتغلب العالم ولتُرجع البشر للمسيحية. لكنها ضعيفة ومحاطة بأعداء يطلبون ملاشاتها. وهي تتمم وظيفتها على الأرض بمحاربتها الشديدة للشر، ومناداتها بالحق، وتنظيم الاجتماعات لتنشر التعاليم الإلهية ولتبني التقوى، وبالمشروعات الخيرية التقوية بأمل الغلبة رويداً رويداً على جنود مقاوميها بمساعدة الروح القدس، وحضور المسيح معها، ووعده الثابت بأنها ستفوز بالنصرة الكاملة.[/FONT]

[FONT=&quot]4 - هل لهذه الكنيسة نظام خارجي منظور، وما هو؟[/FONT]

[FONT=&quot]* اشتهرت في تاريخ الكنيسة أربعة مذاهب في النظام الخارجي وهي: النظام التقليدي، والنظام الأسقفي، والنظام الاستقلالي، والنظام النيابي أو الجمهوري.[/FONT]

[FONT=&quot](1) يؤمن أصحاب المذهب التقليدي أن الكنيسة واحدة، لها نظام واحد منظور، رأسها الأرضي البابا وهو نائب المسيح، وفي النظام الكاثوليكي هو خليفة بطرس الأسقف الأول في روما الذي كان رئيساً على غيره من الرسل. والموظفون في الكنيسة هم البطاركة والأساقفة (أي المطارنة) وسائر رجال الدين. ولهؤلاء حقوق فائقة وسلطان عظيم. ويعتقد التقليديون أن أعضاء الكنيسة الحقيقيين هم فقط ضمن دائرة نظامهم. ويعتقد الإنجيليون أن المسيح لم يَقْصُر ذلك السلطان الفائق على بطرس، لأن باقي الرسل كانوا من أساس الكنيسة (أف 2: 20 ورؤ 21: 14) وكانت مشورة يعقوب مساوية لقول بطرس (أع 15: 7-30) وكذلك وبخ بولس بطرس (غل 2: 11) ودعا بطرس نفسه الشيخ رفيق الشيوخ لا رئيسهم (1بط 5: 1). والادِّعاء بالخلافة الرسولية يخلو من البرهان (انظر فصل 5 س 21).[/FONT]

[FONT=&quot](2) ويعتقد أهل النظام الأسقفي أن الكنيسة جماعة تحت رئاسة الأساقفة والقسوس والشمامسة. وأساقفتهم هم خلفاء الرسل، ولهم قوات رسولية، وقد تسلسلوا من الرسل بسلسلة الرسامة الكنسيّة. ولا يتوظف عندهم إلا الذي رُسم عن يد أساقفتهم بالرسامة القانونية، ولذلك لا يعتبرون رسامة القسوس في الكنائس الأخرى رسامة حقيقية، بدعوى أنهم لم يُرسموا عن يد الأساقفة في الكنيسة الأسقفية. وهم يؤمنون أن الكنيسة والأساقفة مع سائر القسوس والشمامسة هم أصحاب السلطة، وليس للشعب حقوق في سياسة الكنيسة. وقالوا إن نظامهم مؤسس على الكتاب المقدس. غير أن البراهين على ذلك ليست كافية، لأنه لا يوجد دليل كتابي على أن الأسقف أعظم من القسيس وظيفةً وسلطة، بل يتضح منه أن الأسقف هو القسيس، وأنه لم يكن هناك فرق بينهما في المقام في أزمنة الرسل (قارن أع 20: 17 مع 28 وتي 1: 5 مع 7 و1بط 5: 1 مع 2). وقد ظهر هذا التمييز في القرون التالية للعصر الرسولي، وأخذ ينمو ويزيد. على أن الفكر الأسقفي تغيّر كثيراً، وأخذ الأسقفيون ينظرون إلى نظامهم نظر الاستحسان والتفضيل، دون أن يعتبروه النظام الوحيد للكنيسة، فحسبوا القسوس والمؤمنين الخارجين عن نظامهم إخوةً لهم في المسيح.[/FONT]

[FONT=&quot](3) ويعتقد أهل النظام الاستقلالي أن كل كنيسة محلية مستقلة في نظامها، قائمة بنفسها، تختار موظفيها أي القسيس والشمامسة لا غير، وتقوم بأمورها، وتُجري تأديباتها بالاستقلال التام. على أن بعض الاستقلاليين استحسنوا المشاركة بين بعض الكنائس في التدبير والمشورة للنظر في المسائل التعليمية والإدارة الكنسيّة. ولو أنهم لا يلتزمون بسلطان أحكام المجمع الذي يلتئم لذلك، ويحسبون قراراته على سبيل النصيحة الأخوية فقط. وقد استحسن هذا النظام جمهور من الإنجيليين لأنهم وجدوه موافقاً لإنماء الكنيسة في الفضائل، وفي ما هو لخيرها. غير أن استقلال كل كنيسة عن غيرها أدَّى أحياناً إلى الفوضى في أمور التعليم والتأديب.[/FONT]

[FONT=&quot](4) والنظام الرابع هو النيابي أو الجمهوري، وفيه تقوم كل كنيسة محلية بذاتها، ولكن لها علاقة بمجلس كنسي يُدعى «المجمع المشيخي» الذي له بدوره علاقة بمجمع أعلى يدعى «السنودس» وله علاقة بمجمع أعلى يُدعى «المحفل العام» وهو مركز السلطة البشرية الأعلى في الكنيسة. ولأعضاء كل كنيسة حق انتخاب مجلس لها من الشيوخ والشمامسة ينوب عن الكنيسة بالإجمال لإجراء أعمالها والنظر في مصالحها والسؤال عن طهارتها وخيرها. ولهذا المجلس أن ينتخب من أعضائها من ينوب عن تلك الكنيسة مع قسيسها في المجمع المشيخي. وللمجمع حق انتخاب من ينوب عنه في السنودس والمحفل العام. والمجلس في كل كنيسة مع القسيس هم نواب الكنيسة للنظر في إدارتها والسهر على مصالحها وإجراء تأديبها عند الحاجة. وبهذه الواسطة يتسهَّل النظر في المسائل والمشاكل بدون طرحها على كل أعضاء الكنيسة. ولكن ليس للمجلس سلطان إلا لأنه مختار من الكنيسة كلها لينوب عن الأعضاء. وإذا لم يتمم وكالته بأمانة فهو مسؤول أولاً أمام الكنيسة، وثانياً أمام المجمع المشيخي. وهذا النظام يجعل جماعة من الأتقياء والمتقدمين في المعرفة والخبرة وكلاء تحت المسؤولية في أعمال الكنيسة المختلفة، وتدبيرها بما يليق من الاعتناء والحكمة واللطف، ولكن بسلطان مقيَّد يرجع إلى كل أعضاء الكنيسة الذين انتُخبوا ذلك المجلس نواباً لهم في هذه الأمور. وعلى فرض أن المجلس في كنيسة ما لم يُجرِ الحق في أمر التأديب أو فض المشاكل، فلكل من يحسب نفسه مظلوماً حق استئناف دعواه إلى المجمع المشيخي. وكذلك له حق الاستئناف إلى السنودس والمحفل العام، وهكذا يقدر كل فردٍ في الكنيسة أن ينال حقه، فتحفظ الكنيسة طهارتها وحقوقها باستخدام حكمة أهل المعرفة والخبرة والتقوى، بطريقة منظمة في كل ما يتعلق بخيرها وبنيانها. وبذلك نتخلّص من صعوبة أن ينظر كل أعضاء الكنيسة في كل المسائل، كما ننتفع بالسلطة البشرية المسؤولة عن سلامة الكنيسة.[/FONT]

[FONT=&quot]5 - هل في الكنيسة وظائف، وما هي؟[/FONT]

[FONT=&quot]* عيّن المسيح رأس الكنيسة وظائف في كنيسته، بعضها وقتي وبعضها دائم. فالوظيفة الوقتية هي وظيفة الأنبياء والرسل، وليس لها وجود في الكنيسة الآن. والوظائف الدائمة بموجب النظام النيابي المار ذكره ثلاث، وهي ما تقوم بالتعليم والإدارة والخدمة، وهي: [/FONT]

[FONT=&quot](1) وظيفة التعليم: وللشخص الذي يشغلها أسماء مختلفة، منها قسيس، وأسقف، وشيخ، وناظر، وخادم، وراعٍ، ووكيل سرائر الله (أع 14: 23 و20: 17، 28 و1كو 4: 1 وفي 1:1 و1تي 5: 1، 19 وتي 1: 5 ويع 5: 14 و1بط 5: 1-5). والخدمة المطلوبة منه هي أن يكرز ويعلّم حق الإنجيل لينير الخطاة ويحثّهم على التوبة وبنيان المؤمنين في المعرفة والفضائل، وأن يفسر كتاب الله، ويحامي عن الحق، ويقاوم الضلال. كما أن عليه أيضاً أن يعرف أحوال الرعية ويسهر عليها ويعزيها وينشطها ويرشدها بالأحاديث الشخصية والزيارات الأخوية، ويمارس سرَّي المعمودية والعشاء الرباني، ويقوم بالخدمة المناسبة وقت إجرائهما، ووقت الزواج والمرض والموت.[/FONT]

[FONT=&quot](2) وظيفة الإدارة: ويُدعى المتوظفون بها «شيوخاً مدبِّرين» و«المدبرين» و«قوات» (1تي 5: 17 ورو 12: 8 و1كو 12: 28).ولهؤلاء الشيوخ المدبرين أن يشاركوا القسوس في سياسة الكنيسة، وأن يراقبوا أحوال الكنيسة الجسدية والروحية، ويفحصوا طالبي الانضمام إلى عضوية الكنيسة ويحكموا بقبولهم أو رفضهم، وأن يُجروا تأديبات الكنيسة عند الحاجة، ويحافظوا على طهارتها على الدوام. وقد استعمل الكتاب ألقاباً أخرى تشير على الأرجح إلى القسوس والمدبرين معاً، ومن ذلك قول الرسول «الذين يتعبون بينكم ويدبرونكم في الرب وينذرونكم» وقوله «اذكروا مرشديكم» و«أطيعوا مرشديكم» و«سلموا على جميع مرشديكم» (1تس 5: 12 وعب 13: 7، 17، 24). وفي كل هذه الأماكن يفيد الأصل اليوناني معنى الإدارة مع الإرشاد.[/FONT]

[FONT=&quot](3) وظيفة الخدمة: ويُدعى الموظفون فيها الشمامسة (1تي 3: 8-13 وفي 1:1 وأع 6: 1-6). وخدمة الشمامسة ليست التعليم ولا الإدارة، بل قبول عطايا الكنيسة وتوزيعها على الفقراء، وعمل الخير، وخدمة الكنيسة في أمور جسدية زمنية كوكلاء على أحوال الكنيسة الخارجية.[/FONT]

[FONT=&quot]وفي هذه الوظائف الثلاث ما يكفي لبنيان الكنيسة وإدارتها وخدمتها. وأهم هذه الوظائف الثلاث الوظيفة التعليمية. ويقوم بها من يدعوه الروح القدس، ومن تنتخبه الكنيسة المحلية، التي توافق بانتخابها له على دعوته الإلهية. وينتخب كل أعضاء الكنيسة المحلية جميع من يقومون بهذه الوظائف. ويبقى كل منهم في وظيفته مدة معينة بحسب نظام تلك الكنيسة، وفي نهايتها إما أن يُنتخب مرة أخرى، أو يُنتخب غيره لتلك الوظيفة. لكن ليس من عادة الكنيسة أن تعيّن مدةً معلومة لخدمة القسيس المُنتخَب. ولكن لا يوجد مانع من ذلك إذا جرى باتفاق الشعب والقسيس. وليس لأحدٍ من موظفي الكنيسة أدنى سلطان خارج عن حقوقه كما حددها كتاب الله، بل يليق بكل موظف في الكنيسة أن يقوم مقام الخادم للمسيح وللكنيسة، كما قال المسيح «أنا بينكم كالذي يخدم» (لو 22: 27).[/FONT]

[FONT=&quot]6 - هل لكنيسة المسيح فرائض مختصة بها؟[/FONT]

[FONT=&quot]* نعم، وتُسمى غالباً وسائط النعمة وهي: [/FONT]

[FONT=&quot](1) الكتاب المقدس وهو كلمة الله التي تنشرها الكنيسة في العالم، وتكرز بها لتبني القديسين.[/FONT]

[FONT=&quot](2) المعمودية.[/FONT]

[FONT=&quot](3) العشاء الرباني.[/FONT]

[FONT=&quot](4) الصلاة.[/FONT]

[FONT=&quot]7 - ما هو عمل الكلمة؟[/FONT]

[FONT=&quot]* الكتاب المقدس هو مجموع الأسفار المنزلة التي تحوي كلمة الله المكتوبة، وهي الواسطة العظمى التي يستعملها الروح القدس ليعلّم العالم الحق المُعلَن. وهدف الكنيسة الأول هو أن تعلّم البشر كلمة حق الإنجيل، وتحثّهم على قبولها وطاعتها لبنيانهم في الفضائل. وهي لذلك تقيم اجتماعات جمهورية للعبادة بقراءة الكتاب والصلاة والترانيم الروحية والكرازة بالحق. ويرافق هذا كله قوة الروح القدس الذي يجعل الحق فعالاً مؤثراً في قلوب الناس، وحثّاً مقنِعاً للخطاة. وللكرازة بالكلمة فعل عظيم وأهمية كبرى في امتداد ملكوت المسيح على الأرض. وللعبادة والصلاة والترنيم تأثير عظيم في تربية فضائل التقوى.[/FONT]

[FONT=&quot]8 - ما هي أسرار الكنيسة؟[/FONT]

[FONT=&quot]* أسرار الكنيسة اثنان فقط، وهما المعمودية والعشاء الرباني.[/FONT]

[FONT=&quot]9 - ما هي المعمودية؟[/FONT]

[FONT=&quot]* هي سر من أسرار الديانة المسيحية، وُضع في الغسل بالماء باسم الآب والابن والروح القدس، علامةً وختماً لتطعيمنا في المسيح، ونوالنا فوائد عهد النعمة، وتعهُّدنا أن نكون للرب. وقد وضع المسيح هذا السر، ولذلك يجب أن يبقى في كنيسته إلى منتهى العالم، فقد قال «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19). وقال بطرس «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح» (أع 2: 38). وقد جرت المعمودية في الكنيسة منذ أيام المسيح إلى يومنا هذا (رو 6: 3-5 وكو 2: 11، 12). وقد أكرم المسيح المعمودية لما عمده يوحنا (مت 3: 13-17). ومعمودية يوحنا كانت للتوبة والتطهير استعداداً لمجيء المسيح (أع 19: 4) وهي تشبه المعمودية المسيحية وتشير إليها، فإنها لم تكن كمعمودية الدخلاء المعروفة عند اليهود (على ما يرجح) بل هي رسمٌ جديد لغاية خاصة، فكانت بناءً على الإيمان بالمسيح الآتي، مقترنة بالتوبة عن الخطية (لو 3:3، 16 وأع 19: 4). وقد عمّد يوحنا المعترفين بإيمانهم بالمخلّص الآتي. ونحن نُعمد المعترفين بإيمانهم بالمخلص الذي قد أتى.[/FONT]

[FONT=&quot]10 - ما هو هدف المعمودية؟[/FONT]

[FONT=&quot]* هدفها إدخال المعمَّد إلى الكنيسة الظاهرة، وهي مع ذلك رمزٌ وختم لعهد النعمة، وإشارةٌ إلى تطعيم المعمَّد في المسيح وتجديده ومغفرة خطاياه وتسليم نفسه لله بيسوع المسيح ليسلك في جِدَّة الحياة. وهذا السر رمز وإشارة وختم. فهو إشارة إلى حقيقة، ولكنه ليس الحقيقة عينها، فالمعمودية علامة خارجية على حقيقة داخلية،هي فعل النعمة الإلهية في قلب المعمَّد الذي سبق المعمودية. فإذا تمَّت النعمة الداخلية يجب أن تتم الحقيقة الخارجية، وهي المعمودية بالماء. ومعمودية الأطفال ومعمودية البالغين سواء في ذلك، لأن كليهما علامة تشير إلى حقيقة جوهرية مستقلة عنها قد جرت قبلها. وتقوم تلك الحقيقة في معمودية الأطفال في أنهم أعضاء حقيقيون في كنيسة المسيح المنظورة بناءً على ولادتهم ضمن حضن الكنيسة من آباء هم أنفسهم من أعضاء الكنيسة المنظورة، وقد اعتمدوا بمعموديتها. وتلك الحقيقة المشار إليها في معمودية البالغين هي تجديدهم بالروح القدس واتحادهم بالمسيح بالإيمان، ودخولهم الكنيسة بإتمامهم الشروط الروحية في ذلك، وتكون المعمودية هي العلامة الخارجية لذلك. فمعمودية الأطفال مؤسّسة على عضويتهم في الكنيسة المنظورة لا على تجديدهم بالولادة الروحية، بينما معمودية البالغين مبنيّة على عضويتهم بواسطة التجديد والإيمان الحي في ذات الكنيسة وإقرارهم بذلك جهاراً (أع 2: 41، 47). وتشير المعمودية إشارة خارجية إلى خمسة أمور، هي: دخول الأطفال والبالغين علانية في الكنيسة، وتجديد البالغين، واتحادهم بالمسيح بالإيمان والتوبة، مع مغفرة الخطايا، والقيامة الروحية (يو 3: 5 وغل 3: 27 وأع 2: 38 ورو 6: 4، 5). وليس للمعمودية فعلٌ في ذاتها في إجراء التجديد.[/FONT]

[FONT=&quot]11 - من له الحق أن يُعمِّد؟[/FONT]

[FONT=&quot]* حق ممارسة المعمودية يختص بالقسوس المعيّنين قانونياً لوظيفتهم في الكنيسة. وتعتبر الكنيسة الإنجيلية المعمودية التي يقوم بها رجال الدين في الكنائس الأخرى صحيحة لا تحتاج إلى التكرار عند انتقال أحدٍ من تلك الكنائس إلى الكنيسة الإنجيلية. على أننا لا نقول إن المعمودية التي جرت على يد مؤمن غير مرتَسم في أحوال تمنع حضور القسيس أو يستحيل فيها الوصول إليه هي باطلة، ولكننا نعتقد أن إجراء ذلك السر على يد القسوس أليق وألزم، إلا إذا وُجد مانع يمنع من ذلك.[/FONT]

[FONT=&quot]12 - مَن له الحق أن يتعمَّد؟[/FONT]

[FONT=&quot]* تحقّ المعمودية للذين يعترفون بإيمانهم بالمسيح وطاعتهم له، ولكل طفلٍ والداه مؤمنان، أو أحدهما، من أعضاء الكنيسة المنظورة عند إقرارهم الصادق بإيمانهم بالمسيح. أما البالغون فينبغي أن يكون إقرارهم قلبياً صادقاً، وتكون سيرتهم متوافقةً مع إقرارهم. وينبغي أن يتضمن ذلك الإقرار الإيمان بالمسيح وقبول تعاليمه، والتصريح بالاتكال عليه مخلِّصاً لهم، والوعد بعدم ارتكاب الخطية عمداً، وبالحياة المستقيمة التقية، وبتربية أولادهم في الديانة المسيحية. ولا يُطلب أقل من ذلك من الوالدين الذين يرغبون في تعميد أطفالهم، فينبغي أن يكونوا من أعضاء الكنيسة المنظورة المعتمدين، ويقروا بإيمانهم الإقرار الصادق، ويعدوا بتربية أولادهم تربية حسنة بموجب تعاليم الكتاب المقدس. ووفقاً لما سبق تجوز معمودية أطفال المؤمنين غير المشتركين في الكنيسة، وإن لم يكونوا قد نالوا العشاء الرباني والعضوية التامة في تلك الكنيسة. فتتم معمودية أطفالهم بناءً ما سبق من الشروط. على أنه يليق بكل والد في مثل هذه الأحوال أن يتقدم في أقرب وقت للدخول في العضوية التامة في الكنيسة.[/FONT]

[FONT=&quot]13 - كيف ينبغي أن تتمّ المعمودية؟[/FONT]

[FONT=&quot]* تتم المعمودية برش الماء على المعمَّد، أو بسكبه، أو بالتغطيس فيه باسم الآب والابن والروح القدس. وليس من الضروري أن تتم بأحد هذه الطرق دون غيرها، فقد اعتادت الكنيسة الإنجيلية رش الماء. على أن قسماً من الإنجيليين يفضِّل التغطيس، بل يحسبه ضرورياً للمعمودية الحقيقية. ويتضح أن التغطيس ليس أمراً ضرورياً في المعمودية الحقيقية مما يأتي: [/FONT]

[FONT=&quot](1) الكلمة اليونانية للعماد ليست غالباً بمعنى التغطيس بل بمعنى الغسل لأجل التطهير، بدون تعيين الكيفية. فقيل في متى 15: 2 «فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزاً» (قارن مر 7: 1-5 ولو 11: 37-39) فكلمة «يغسلون» في بعض هذه الآيات هي في الأصل اليوناني ذات الكلمة المستعملة للعماد (قارن الأصل اليوناني في مر 7: 4 ولو 11: 38). فقيل في مرقس 7: 4، 8 إن اليهود «اعتادوا غسل كؤوس وأباريق وآنية نحاس وأسِرَّة» والكلمة المترجمة «غسل» هنا هي نفس الكلمة المترجمة «معمودية». ولم تكن تلك «الغسلات» في العهد القديم بالتغطيس غالباً، بل بالسكب، كما جرت العادة في كل مكان. وقيل في عب 9: 10 «وهي قائمة بأطعمة وأشربة وغسلات مختلفة» وهنا كذلك استُعملت تلك الكلمة عينها. فهي ليست خاصة بالتغطيس بل بالغسل، سكباً كان أو تغطيساً. واستُعملت كذلك للإشارة إلى العماد بالروح القدس (مت 3: 11 ومر 1: 8 ولو 3: 16 ويو 1: 33 وأع 1: 5 و11: 16 و1كو 12: 13) وفي هذا المقام لا يصلح معنى التغطيس. وقيل في 1كو 10: 2 إن بني إسرائيل اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر لما عبروا البحر الأحمر، غير أنهم لم يغطسوا في مياه البحر، بل الذين غطسوا كانوا المصريين الذين لم يعتمدوا![/FONT]

[FONT=&quot](2) لا يشير ذكر إجراء العماد في العهد الجديد أنه حدث بالتغطيس باعتباره الكيفية الوحيدة، كما اتضح في الأقوال في معمودية يوحنا (مت 3: 5، 6 ومر 1: 5 ولو 3: 6-21). وكذلك معمودية الخصي على يد فيلبس (أع 8: 26-39). ومعمودية نحو ثلاثة آلاف شخص في يوم واحد (أع 2: 38-41). ومعمودية بولس (أع 9: 17 و18، 22: 12-16) ومن ذلك قوله «فقال حنانيا لبولس قم واعتمد واغسل خطاياك» وقوله «وقام بولس واعتمد» فليس في هذا ما يدل ضرورةً على تغطيسه. وأيضاً عماد كرنيليوس (أع 10: 47، 48). وعماد السجان في فيلبي (أع 16: 33) لما «اعتمد في الحال». ولم يكن لزوم في تلك المعموديات لبِركة أو نهر أو ماء يغمر الإنسان. والأرجح أن بِرك الماء لم تكن في البيوت والسجون وفي كل الأماكن التي جرى فيها ما ذُكر من العماد. ولهذا لا يقول الإنجيليون بضرورة التغطيس، ولا يعترضون عليه، بل يحسبون الرش والسكب والتغطيس بمنزلة واحدة.[/FONT]

[FONT=&quot]14 - هل تجوز معمودية الأطفال؟[/FONT]

[FONT=&quot]* نعم بل تجب، ليس لأن الطفل يهلك بدون المعمودية، بل لأنه مولود ضمن الكنيسة المسيحية وعضوٌ من أعضائها، ولأن الرسل عمّدوا بيوتاً بكاملها (أع 16: 15، 33 و1كو 1: 16 وأع 18: 8 و10: 48). وكما كان الأطفال في العهد القديم من أهل الكنيسة وخُتنوا، هكذا في العهد الجديد يُعمَّدون لأنهم من أعضاء الكنيسة بناءً على عضوية والديهم، لأن الكنيسة تضمّ المؤمنين وأولادهم.[/FONT]

[FONT=&quot]15 - هل تتجدد النفس بواسطة المعمودية؟[/FONT]

[FONT=&quot]* لا، لأن التجديد هو عمل الروح القدس داخل نفس الإنسان، لا عمل الماء المرشوش على جسده. ولا ترتبط النعمة والخلاص بهذا السر ارتباطاً غير منفصل حتى لا يتجدد ولا يخلُص أحد بدونه، ولا يُقال إن كل معمَّد لا بد متجدد، فلا يقدر على تطهير القلب إلا الله. وينكر الإنجيليون أن الروح القدس يجدد القلب عند إجراء المعمودية، فإن الإيمان يسبق المعمودية. كما ينكرون أن المعمودية واسطة فعالة في توصيل النعمة الإلهية إلى قلب المعمَّد، ويقولون إن المعمودية علامة خارجية مستقلة تشير إلى النعمة الداخلية وفعلها في القلب، وهي رمز أو ختم لذلك، وإنها مطلوبة عند دخول المعمَّد البالغ جهاراً في الكنيسة. على أنه لا بد من الأدلة الكافية على دخوله روحياً بالتجديد والإيمان إلى شركة تلك الكنيسة قبل دخوله جهاراً بالمعمودية. وإن إهانة هذا السر خطية ومخالفة لأمر الله. ومن الأدلة على بُطل تعليم أن التجديد يتم بالمعمودية ما يأتي: [/FONT]

[FONT=&quot](1) يعلّم الكتاب في كل موضع أن الشرط الوحيد الضروري للخلاص هو الإيمان بالمسيح الذي يجدد القلب بفعل الروح القدس. وهذا برهان واضح على خطأ التعليم بلزوم المعمودية لأجل التجديد والخلاص. قال المسيح «كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية». وقال يوحنا «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله». وقال المسيح «أنا هو خبز الحياة. من يُقبل إليَّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً». وقال «هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير». وقال «مَن آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يو 3: 14-16، 36 و6: 35-40 و11: 25، 26). وقال الرسل لكل خاطئٍ صادفوه «آمِن بالرب يسوع المسيح فتخلص» (أع 16: 31). و«كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلد من الله. من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (1يو 5: 1، 5). فكل من يؤمن بالابن له حياة أبدية، ومن آمن خلص، سواءٌ كان يهودياً أو يونانياً، عبداً أو حراً، عالِماً أو جاهلاً معتمداً أو غير معتمد.[/FONT]

[FONT=&quot](2) يُشترط في عماد البالغين الإيمان والتوبة، فلا يمكن أن المعمودية تخلّص المعمَّد، ولا يمكن أن تمنحه الفوائد الروحية، لأن من تاب إلى الله مؤمناً بالمسيح يخلُص، وإن لم يعتمد في الحال. ويلزم من ذلك أن التجديد يجب أن يسبق المعمودية، ولكن المعمودية لا تنشئ ولا تمنح تجديداً.[/FONT]

[FONT=&quot](3) تعليم التجديد بالمعمودية يناقض روح المسيحية، التي أرادت أن تبطل خطأين ظهرا بين اليهود في زمن المسيح والرسل: (أ) تعليم أن البشر يخلصون بناءً على سيرتهم أو حقهم. و(ب) التعليم بلزوم الطقوس الخارجية وقوتها الذاتية الفائقة الطبيعة. وقد علّم المسيح أن الناس يخلصون بالنظر إليه كما خلص بنو إسرائيل من الموت بالنظر للحية النحاسية. وإن كان أحد لا يولد من الروح القدس لا يقدر أن يدخل ملكوت الله، مهما اجتهد في حفظ الناموس الطقسي. وعلّم الرسل الأمور الآتية: (أ) نحن لا نخلُص بالأعمال بل بالإيمان، ولا ببرنا بل ببر المسيح. (ب) الديانة أمر قلبي، وليست شعائر خارجية. لقد ضلّ اليهود وهم يعلّمون أنه لا يمكن لغير المختون أن يخلُص، ويعلّم التقليديون أنه لا يمكن أن يخلص أحد بدون معمودية، طفلاً كان أو بالغاً. وعلّم اليهود أنه لا يمكن أن يدخل المختون جهنم ما لم يقطعه المسؤولون من جماعة بني إسرائيل، واعتقدوا أن الختان يُقدِّس، وهذا ما رفضه الإنجيل، فقال بولس «لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله» (رو 2: 28، 29). إذاً المسيحي في الظاهر ليس هو المسيحي، بل المسيحي في الداخل هو المسيحي، والمعمودية التي تخلّص النفس ليست المعمودية بالماء بل معمودية القلب بالروح القدس. واعتبر الرسل تعليم الخلاص بالطقوس وتعليم الخلاص بأعمال البر باطلين.[/FONT]

[FONT=&quot](4) ذكر الكتاب ما يدل على المشابهة بين فعل الكلمة والأسرار، فقال إن الله يخلّص الناس بالكرازة، وإن الإنجيل هو قوة الله للخلاص وإن الإيمان بالسمع، وإننا نولد بالكلمة ونتقدس في الحق. ولكن ليس كل من سمع الإنجيل يخلُص، إن لم ترافقه قوة تأثيرات الروح القدس الخلاصية المقدسة. فلا يُقال إن المعمودية تُنتج هذه النتائج، أو إن الروح القدس يرافقها على الدوام بتأثيراته الخلاصية بناءً على ما قيل إننا بالمعمودية نتحد بالمسيح، أو إننا نغتسل بها من خطايانا.[/FONT]

[FONT=&quot](5) كثيرون من المعمَّدين لا ينالون الحياة الأبدية، مع أن المولود من الله لا يمكن أن يهلك. وقول المسيح إن من لا يولد من الروح لا يقدر أن يدخل ملكوت السماء يفيد أن الذين يولدون ثانية يخلصون. وقوله «مَن يؤمن به له حياة أبدية» ولما كان المسيح حياً، فالذين يشتركون في حياته هم أحياءٌ. وعلّم الرسول أن جميع المتجددين يخلصون، وقال إن الذين سبق الله فعيّنهم فهؤلاء دعاهم أيضاً (أي الدعوة الفعالة التي تتضمّن التجديد) والذين دعاهم فهؤلاء برّرهم أيضاً، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً (رو 8: 30). فالتجديد يحقّق الخلاص. فلو كان الخلاص تابعاً للمعمودية في كل الأحوال، لخلص جميع المعمَّدين. لكن لما كنا لا نرى في كل المعمَّدين علامات الخلاص، لا يكون العماد والخلاص بمعنى واحد، ولا يكون التجديد بالمعمودية.[/FONT]

[FONT=&quot]إن الاختبار يناقض تعليم التجديد بالمعمودية، فالتجديد ولادة جديدة وخليقة جديدة وقيامة من موتٍ روحي إلى حياة روحية، كما أنه تغيير يتم بفعل قوة الله العظيمة، ويشبه التغيير الذي تم في المسيح عندما قام من الموت وارتفع إلى يمين العظمة في الأعالي. فلا يمكن أن يبقى بدون تأثير ظاهر، بل لا بد أن يؤثر في حياة المتجدد الداخلية والخارجية، ويصيّره إنساناً جديداً في المسيح يسوع. على أن كثيرين من المعتمدين لا يُظهِرون دليلاً على تغيير حياتهم، ولا يظهر فرق بينهم وبين غير المعمَّدين. فالقول إن التجديد هو بالمعمودية يحط من شأن التجديد الذي هو هبة الروح القدس الثمينة.[/FONT]

[FONT=&quot]إن حياة الله في النفس ذات قوة، فإذا قلنا إن ميتاً قد قام وليس فيه شيءٌ من علامات الحياة، أو إن شجرة يابسة قد نضرت وهي لا تُخرج ورقاً ولا تثمر ثمراً، فكأننا قلنا إن هذا حي مع أنه ميت، نعم إن البزرة قد يكون فيها مبدأ الحياة ويبقى زماناً طويلاً غير ظاهر، ولكنه يظهر حالما تتم له شروط النمو. وشروط نمو الحياة الروحية في الطفل هي تقدم العقل ومعرفة الحق، فإذا تمت له فلا بد أن تنمو فيه بزرة الحياة الروحية بفعل الروح القدس الذي له حياة في ذاته، ويمنح الحياة لجميع الذين يسكن فيهم. فتعليم التجديد بالمعمودية يناقضه الواقع لأن المعتمدين اعتماداً جسدياً فقط يبقون بدون تغيير في قلوبهم وحياتهم.[/FONT]

[FONT=&quot]وقد استشهد أصحاب تعليم «التجديد بالمعمودية» على آيتين هما قول المسيح «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 5). وقول الرسول «لا بأعمال في برٍ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس» (تي 3: 5). وقول المسيح (على رأيهم) يعني أن الولادة الروحية تتم بالمعمودية. على أن تلك الآية لا تشير بالضرورة إلى المعمودية، بل الأرجح أن المسيح لم يشر بها إلى المعمودية بل إلى التجديد. ومن خواص تلك الولادة الروحية التطهير، وقد استُعمل الماء للتطهير الطقسي في العهد القديم، وهو واسطة الاغتسال في كل زمان ومكان، فلذلك استعمله المسيح ليوضح لزوم التطهير بالولادة الروحية للدخول في ملكوت الله. وهذا مثل قول يوحنا المعمدان «أنا أعمدكم بماءٍ للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (مت 3: 11). وبالطبع لم يقصد المعمدان «بالروح القدس ونار» النار المادية، لكنه استعارها للتطهير كما في آيات أخرى كثيرة (إش 4: 4 وإر 5: 14 وملا 3: 2 وأع 2: 3). فالعماد بالنار هو التطهير التام، وهو لا يحدث إلا باقترانه بفعل الروح القدس. وبنفس المنطق تحدث المسيح عن لزوم الولادة من الماء والروح بمعنى أنها الولادة المطهِّرة. على أن الفاعل في ذلك ليس الماء، بل روح الله، واستُعير الماء للتطهير. ومما يرجح صحة هذا التفسير أن المسيح كان يخاطب نيقوديموس بذلك الكلام، وهو يهودي لم يعرف المعمودية المسيحية، والمسيح لم يعمد بالماء بل بالروح القدس. وكل من يراجع أقوال المسيح لنيقوديموس في يو 3: 1-13 يرى أن قصده كان توضيح لزوم الولادة الروحية لنيقوديموس، ولم يذكر المعمودية أبداً. ولو فرضنا أن المسيح أشار إلى المعمودية، فهو لم يقصد أنها واسطة الميلاد الثاني، بل قرنها بالتجديد، لأنها العلامة الخارجية للدخول في ملكوته، وهي لا تنفع شيئاً بدون الولادة من الروح، فقال «إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (آية 3) وأيضاً «المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح» (آية 6). وأيضاً «ينبغي أن تولدوا من فوق. الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح» (آيتا 7، 8). فلو كانت الولادة الروحية السرية بماء المعمودية لكان عدم تصريح المسيح بها غريباً. ولذلك نرجح أن المسيح لم يشر إلى المعمودية مطلقاً في هذه الآية. ولا ورد بصريح العبارة في كل العهد الجديد أن المعمودية واسطة فعالة ولازمة للتجديد، وليس لهذا القول أصل غير التعليم البشري.[/FONT]
[FONT=&quot][/FONT]
[/FONT]
[/FONT]
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

وإن صح أن الولادة الروحية تتوقف على المعمودية عجبنا من قلة إيضاح هذا الأمر الجوهري في الأسفار المقدسة، لأن الإشارات إلى المعمودية نادرة في رسائل العهد الجديد، حتى أنها لم تُذكر قط في 13 رسالة من الرسائل. وقال بولس «أشكر الله أني لم أعمد أحداً منكم إلا كريسبس وغايس» وقال أيضاً إن المسيح لم يرسله ليعمد بل ليبشر (1كو 1: 14، 17). فلو صح إن العماد هو التجديد لما شكر الله على عدم إجرائه في كورنثوس، ولما فضّل التبشير على العماد. والحق إن المعمودية رسم خارجي والتجديد ولادة روحية لا يتم إلا بروح الله الذي يعمل حيث يشاء. على أننا لا ننكر أبداً العلاقة بين المعمودية والتجديد، وهي علاقة العلامة والختم بالحقيقة الروحية المستقلة عنها.

أما القول «خلّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس» (تي 3: 5) فالإشارة فيه إلى المعمودية مبهمة جداً وملتبسة، والأرجح أن الرسول لم يشر فيها إلا إلى الميلاد الثاني، الذي هو الواسطة الفعالة في تطهير القلب. كأن الرسول أراد أن يميز غسل الميلاد الثاني عن غسل المعمودية، ويثبت أن الغسل الداخلي هو الفعال للخلاص لا الغسل الخارجي (1بط 3: 21) ولذلك تُحسب العبارة التالية وهي «وتجديد الروح القدس» تفسيرية للقول «بغسل الميلاد الثاني» فالغسل هو تجديد الروح القدس.

وهنا تصح قاعدة من قواعد التفسير وهي «إذا احتملت آية أكثر من معنى واحد، رُجِّح المعنى الأقرب إلى قصد الكاتب ووحدة التعاليم» وكذلك قاعدة بهذا المعنى وهي «لا يجوز تفسير آية ملتبسة تفسيراً يناقض العقائد الشهيرة الثابتة المتَّفق عليها، والواضحة من آيات أُخرى». فنقول إن تأسيس تعليم لزوم المعمودية للتجديد، وفعلها المطلق في ذلك على آيتين ملتبستين خطأ عظيم، ولاسيما أن ذلك التعليم يخالف روح الكتاب، وغير مثبَت بنصّ صريح، مع أنه من ألزم التعاليم للبشر، لو أنه كان صحيحاً.

16 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في مصير الأطفال الذين يموتون بدون معمودية؟

* نقصد بـ«الأطفال» الذين لم يبلغوا سن التمييز في المسائل الأخلاقية، ولم يدخلوا في حال المسؤولية من جهة أفعالهم تحت الشريعة الإلهية، وقبل ارتكابهم خطايا شخصية فعلية تستحق حكم الشريعة عليهم بالدينونة والقصاص. وتعليم الكتاب المقدس في نصيب هؤلاء الأطفال عند موتهم أنهم يخلصون، ولهم نصيب مبارك في فوائد الفداء بواسطة كفارة المسيح المحسوبة لهم رأساً برحمة الله وصلاحه. ولا ينكر الإنجيليون ولادة الأطفال في حال الخطية الأصلية تحت الدينونة، وحاجتهم إلى الميلاد الثاني بتجديد الروح القدس، بل يعلّمون ذلك وفقاً لتعاليم الكتاب (مز 51: 5 ويو 3: 6 ورو 5: 14 وأف 2: 3). ولكن لا بد من تمييز الخطية الأصلية عن الخطية الفعلية المرتكبة بالاختيار، فالخطية الأصلية وحدها لا تسبّب هلاك النفس، لأن نصيب الفداء بكفارة المسيح يُمنح رأساً للأطفال لأجل خلاصهم من الخطية الأصلية بدون لزوم إجراء سر المعمودية. ومما يؤيد هذا الاعتقاد ما يأتي:

(1) الأطفال حاصلون على رحمة خاصة من الله الذي يشفق عليهم ويعتني بهم بحنوّه الأبوي، كما يتضح من عبارات شتى في شأنهم، منها قول المسيح «لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات». وقوله «هكذا ليست مشيئةٌ أمام أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار» (مت 18: 10، 14 قارن أيضاً آيتي 5، 6). وقوله «دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات» (مت 19: 14). والقول «لمثل هؤلاء ملكوت السموات» يبرهن أن الأطفال يخلصون إذا ماتوا في طفولتهم. ولا يوجد في الكتاب قول يفيد أن طفلاً هلك قط، بل ذُكر ما يدل على خلاصهم (2صم 12: 23). وقيل عن إرميا ويوحنا المعمدان ما يؤكد تجديدهما في طفولتهما (إر 1: 5 ولو 1: 15).

(2) تعليم الكتاب في عظمة فائدة فداء المسيح التي تحيط بكل بني جنسنا، إلا الذين يحرمون أنفسهم منها بارتكاب الخطية بدون توبة، ويستخفّون بوسائط الخلاص أو يهملونها. ولذلك نتحقق أن الذين يموتون في سن الطفولة يحصلون على الخلاص بالمسيح، فكما كان آدم نائبهم من جهة، هكذا المسيح نائبهم من جهة أخرى. قال الرسول «لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى، وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم، الذي هو مثال الآتي» (رو 5: 14). وذلك يتضمن أنه كما ناب آدم عن الأطفال هكذا ينوب عنهم المسيح. وقال أيضاً «فإذاً كما بخطيةٍ واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا ببر واحدٍ صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة، لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاةً، هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبراراً. وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية، ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً، حتى كما ملكت الخطية في الموت، هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا» (رو 5: 18-21). وهذه الآيات تفيد أن الأطفال كما ورثوا الفساد من آدم بدون إرادتهم، هكذا يرثون البر والخلاص من المسيح بدون إرادتهم. والأسفار المقدسة لا تحرم الأطفال من هذا النصيب البتة، سواءٌ كانوا معتمدين أم لا، من والدين مؤمنين أم غير مؤمنين. فكل نسل آدم تحت الدينونة، وكذلك كل نسله ينال نصيب الفداء بالمسيح، إلا الذين صرح الكتاب المقدس بعدم أهليتهم لملكوت الله. وليس لنا حق أن نحصر هذا التعليم إلا في ما يحصره الوحي الإلهي. ولذلك قال الرسول إن النعمة «ازدادت جداً» وأيضاً «تفاضلت نعمة ربنا جداً» وإن فوائد الفداء تتعاظم على شر السقوط، وإن عدد المفديين يفوق جداً عدد الهالكين، كما يستنتج من قوله «ازدادت النعمة جداً». «وبالأولى كثيراً.. نعمة الله قد ازدادت للكثيرين» (رو 5: 15، 20 قارن 1كو 15: 22 ورؤ 7: 9). ولا يتناقض هذا مع قول المسيح «ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه» (مت 7: 14) لأن ذلك قيل في البالغين، والكتاب المقدس موجَّه لأهل الفهم ليرشدهم، لا للأطفال الذين لا قدرة لهم على إدراكه، فلا يكون قول المسيح هذا للأطفال ولا عليهم، بل يشير إلى البالغين. وكذلك لا نفهم من قوله «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله» (يو 3: 36) أن خلاص الأطفال مستحيل لأنهم لم يؤمنوا بابن الله، لأن المسيح لم يقل هذا لهم، وهم غير قادرين على الإيمان.

(3) يُبنى الحكم للدينونة في اليوم الأخير على أعمال الإنسان، ولكن ليس للأطفال عمل يوجب الحكم لأنهم لم يخطئوا بالفعل، فهم لا يدخلون مع من يُدانون (رو 2: 5، 6).

وإذا قيل لماذا لم يصرح الله بهذا التعليم بأكثر وضوح في الكتاب المقدس؟ قلنا: إن الله لا يعلن من سرائر حكمته ما لا يفيد البشر ويرشدهم للخلاص، كما أن رحمة الله غير مقيدة بهذه المسألة. ولنا أساس كافٍ لنأمل بل نؤكد أن لهؤلاء الصغار نصيباً في الرحمة الإلهية. على أن خلاصهم لا يتم إلا بتخصيص فوائد موت المسيح لهم وتجديدهم بروحه الصالح، لأن لا خلاص للبالغ وغير البالغ إلا بكفارة المسيح والتجديد.

17 - ما هي آيات الكتاب المقدس التي تشير إلى العشاء الرباني، وماذا تعلمنا بشأنه؟

* هي «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26:26-28). «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي. ثم أخذ الكأس وأعطاهم فشربوا منها كلهم. وقال لهم: هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين» (مر 14: 22-25). «وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفك عنكم» (لو 22: 19، 20). «كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبزٌ واحد، جسدٌ واحد، لأننا جميعاً نشترك في الخبز الواحد» (1كو 10: 15-17). «لأني تسلّمت من الرب ما سلمتكم أيضاً، أن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعد ما تعشوا قائلاً: هذه الكأس هي للعهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري. فإنكم كل ما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء. إذاً أيُّ من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرماً في جسد الرب ودمه. ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس، لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق، يأكل ويشرب دينونة لنفسه، غير مميزٍ جسد الرب» (1كو 11: 23-30).

فهذه الأقوال تعني:

(1) العشاء الرباني فرضٌ إلهي واجب على الدوام.

(2) العناصر التي تُستعمل فيه هي الخبز والخمر.

(3) الأمور المهمة في خدمته ثلاثة: (أ) تكريس الخبز والخمر، (ب) كسر الخبز وصب الخمر وتوزيعهما، (ج) قبول المشتركين إياهما.

(4) المقصود في هذا السر أربعة أمور: (أ) تذكار موت المسيح، (ب) التعبير عن اشتراكنا بالإيمان في جسد المسيح ودمه بطريقة ظاهرة، (ج) التعبير عن اتحاد المؤمنين بالمسيح وبعضهم ببعض في حياة واحدة روحية، (د) الإشارة إلى قبولنا علانية العهد الجديد المثبت بدم المسيح وختم ذلك.

(5) شروط الشركة المفيدة ثلاثة: (أ) تمييز جسد الرب، (ب) الإيمان به، (ج) المحبة للمسيح وشعبه.

وأهم الأمور التي وقع فيها الخلاف في هذا السر أربعة:

(1) معنى أن الخبز والخمر هما جسد المسيح ودمه.

(2) معنى أن المشتركين يقبلون جسد المسيح ودمه.

(3) الفوائد التي تحصل منه، والطريقة التي تحصل بها.

(4) الشروط التي تتوقف عليها فاعليته. وسنتحدث عن كل هذا بالتفصيل.

وأجمعت الكنائس على أن هذا السر فريضة إلهية واجبة على الدوام، فلم تشُكّ الكنيسة المسيحية قط في أن المسيح قصد أن يُحفظ هذا السر في كنيسته حتى مجيئه ثانيةً. واستندت على ما يأتي:

(1) وصية المسيح الصريحة في ذلك (لو 22: 19 مكررة في 1كو 11: 24).

(2) القصد منه ذكر المسيح، وتكرار خبر كفارته على آذان البشر، واشتراك شعبه في فوائد ذبيحته. فإن هذا يستلزم وجوب حفظه ما دام المسيح غائباً عن كنيسته بالجسد.

(3) فهم الرسل أمر المسيح على هذه الكيفية بدليل حفظهم هذا السر وإشارتهم إليه تكراراً في ما كتبوه باسم «كسر الخبز» و«عشاء الرب» و«مائدة الرب».

(4) عادة الكنيسة العامة في شأنه. وذلك لا يمكن تعليله إلا بأنه كان بأمر المسيح وسلطان الرسل.

(5) قول الرسول «إلى أن يجيء» فهذا يدل على لزوم ممارسة هذا السر إلى مجيء المسيح ثانيةً.

18 - ما هي تسميات العشاء الرباني في الكتاب المقدس؟

* (1) «عشاء الرب» أو «العشاء الرباني» لأن الرب يسوع رسمه ليلة العشاء الأخير (1كو 11: 25).

(2) «كأس البركة» (1كو 10: 16) لأن المسيح بارك الكأس كما بارك الخبز أيضاً (مت 26:26).

(3) «مائدة الرب» و«كأس الرب» (1كو 10: 21). بمعنى الطعام والشراب الروحيين الموضوعين على المائدة.

(4) «شركة جسد المسيح ودمه» (1كو 10: 16) فبواسطة الخبز والخمر يشترك المؤمن في جسد المسيح ودمه.

(5) «كسر الخبز» (أع 2: 42). والمقصود بذلك السر كله.

وقد أطلقت الكنيسة على هذا السر أسماء أخرى، منها:

(1) «الأفخارستيا» أي الشكر (مت 26: 27) لأنه خدمة شكر، فهي كأس الشكر كما أنها كأس البركة.

(2) «الاجتماع» لأن ممارسته كانت تتمّ في اجتماعٍ جمهوري في حضور المسيح.

(3) «الليتورجيا» أي الخدمة، إشارةً إلى الخدمة المقدسة في تخصيص عناصره المقدسة، وتُرجمت إلى «القداس».

(4) «التقدمة» ليس باعتباره ذبيحة كفارية، بل لاقترانه بجمْع الحسنات، ولأنه يذكّر بتقدمة المسيح على الصليب.

(5) «أفلوجيا» أي البركة (1كو 10: 16).

(6) «السر» لأنه إشارة سرية إلى موت المسيح وفوائده للمؤمنين.

ويسمي الإنجيليون هذا السر «عشاء الرب» و«العشاء الرباني» و«مائدة الرب» و«كسر الخبز».

19 - ما هي العناصر التي تُستعمل في عشاء الرب؟

* نستعمل فيه ما عيَّنه المسيح: الخبز والخمر، لأنهما مادتان بسيطتان تشيران إلى جسد المسيح ودمه. وكان الخبز الذي استعمله المسيح فطيراً، غير أن الرسل استعملوا ما وُجد أمامهم من الخبز دون اهتمامٍ بنوعه، إن كان فطيراً أو مختمراً، فليست المادة أو شكل الأرغفة هي الأساسية، بل وجود خبز يشير إلى الذي قال عن نفسه إنه خبز الحياة الذي نزل من السماء. وقد نشأت منازعه شديدة على هذا الموضوع في القرن الحادي عشر بين الكنيستين الشرقية والغربية، فرفضت الشرقية استعمال الفطير باعتباره عادة يهودية لا يلتزمون بها، وحكمت الغربية بأنه النوع الوحيد الجائز استعماله، ولو أن استعمال الخبز المختمر جائز أيضاً لأنه لا يفسد السر.

والخمر المستعمل في هذا السر هو عصير العنب المختمر. ولا يوجد ما يثبت قول البعض إن المسيح لم يستعمل خمراً، بل استعمل عصير العنب غير المختمر. والكأس هو لجميع المؤمنين بدليل قول المسيح «اشربوا منها كلكم» (مت 26: 27) «فشربوا منها كلهم» (مر 14: 23).

20 - كيف يُجرَى العشاء الرباني؟

* تتم خدمة هذا السر بثلاثة أمور:

(1) الصلاة الافتتاحية وفيها نقدم الشكر لله لأجل ابنه الذي نذكر موته، ونجهّز قلوب المشتركين للخدمة المقدسة، ونكرّس العنصرين، فليس في الخبز والخمر في ذاتهما أو في استعمالهما إشارة إلى جسد المسيح ودمه.

(2) كسر الخبز اقتداءً بالمسيح وإشارةً إلى جسده المكسور لأجلنا.

(3) توزيع العنصرين وتناولهما اقتداءً بالمسيح الذي بعد أن بارك الخبز وكسره ناوله للتلاميذ قائلًا «خذوا كلوا». وكذلك بعد أن بارك الكأس أعطاهم قائلًا «اشربوا منها كلكم».

وقد أعطى المسيح تلاميذه الخبز والخمر، واشترك معهم في ما قدمه لهم. وهذا يعلمنا أنه:

(1) يجب أن يأخذ المشترِك بيده الخبز والخمر.

(2) يجب أن يتناول القسيس والشعب معاً من العنصرين.

(3) يجب عدم خلط الخبز والخمر ومناولتهما معاً، بل يتم توزيع كلٍ منهما وحده.

(4) لا يجب منع الشعب من التناول من الكأس، بحجة الخوف من انصباب دم الرب وتدنيسه. ويجب أن يتم التناول من عشاء الرب بغاية الفرح والسرور لأنه تذكارٌ لتلك الذبيحة التي بها نلنا المصالحة مع الله ورجاء الحياة الأبدية. وليس في السر ما يوجب الحزن والغم، بل تحزن النفس من التأمل في خطاياها. ولكن بموت المسيح تخلص من الدينونة وتنال المغفرة، وهذا من أعظم أسباب الابتهاج.

وليس في الكتاب نصٌّ عن وقت ممارسة هذا السر، لكن في بداية تاريخ الكنيسة كانوا يجتمعون يومياً لذلك (أع 2: 46) وأسبوعياً أيضاً (أع 20: 7). وقد جرت العادة في الكنيسة أن تمارسه مرة كل شهر أو شهرين أو ثلاثة. وبما أن الكتاب لم يصدِر أمراً بهذا الشأن، فقد تُركت المسألة لاستحسان الكنائس. كما لا يوجد أمرٌ بتحديد عدد المشتركين في وقت واحد، أو مكان تناولهم من العنصرين مثل أن يكون وقوفاً عند المنبر أو جلوساً في وسط الكنيسة، ولا يوجد تحديد لطريقة التناول: جلوساً أو ركوعاً، أو طريقة التوزيع مثل أن يكون من يد القسيس أو من أحد الأعضاء، أو في أن الخبز فطير أم لا، أو في أن الخمر ممزوجة بالماء أم لا. فهذه قضايا هامشية لا تؤثر في الجوهر. ولا يجوز أن تشغل الكنيسة نفسها بهذه العرضيات.

21 - ما هو هدف العشاء الرباني؟

* لما كان موت ابن الله المتجسد لأجل خلاصنا هو أهم جميع الحوادث، اقتضى ذلك حفظه تذكاراً دائماً. ولهذا رسم المسيح هذا السر وقال لتلاميذه «اصنعوا هذا لذكري» وقال الرسول «كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 26). وممارسة عشاء الرب في الكنيسة بدون انقطاع منذ الصَّلب إلى هذا اليوم برهان قاطع على صدق وقوع حادثة الصلب، التي هو تذكار لها. ولكن هدف العشاء الرباني أبعد من ذلك، فهو شهادة عن القصد من الصَّلب «هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم» و«هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» فموت المسيح كفارة وذبيحة «المكسور لأجلكم». فإذاً ليس الفداء بالتعليم ولا بالتأثير الأخلاقي، بل بالكفارة. والعشاء الرباني يُظهر هذه الحقيقة ويثبتها.

ويتناول المؤمن في العشاء الرباني المسيح بالإيمان، أي يقبل جسده ودمه روحياً. قال الرسول إن «الخبز الذي نكسره هو شركة جسد المسيح، والكأس التي نباركها هي شركة دم المسيح» (1كو 10: 16). وقال المسيح «خذوا كلوا هذا هو جسدي» وأيضاً عن الكأس قال «اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي». ولا بد أن لمناولة جسد المسيح ودمه معنى خاصاً. ويلزم عن ذلك أمران: (أ) أنه يصير هو وشعبه واحداً و(ب) أن جميع المؤمنين الحقيقيين يصيرون بواسطة هذه الشركة مع المسيح جسداً واحداً وأعضاءً بعضهم لبعض. والمسيح وشعبه هم واحد، بمعنى أن ليس هم الذين يحيون بل المسيح يحيا فيهم (غل 2: 20). فهو يحل فيهم، وحياته حياتهم. وبما أنه حيٌّ فهم يحيون أيضاً (يو 14: 19). وهم واحد كما أن الرأس والأعضاء في الجسد الإنساني هي واحد. والروح القدس المعطى له بدون كيل يتوزع على شعبه فيصيرون «جسداً واحداً مركّباً معاً ومقترِناً» (أف 4: 16). وهم بروح واحد يعتمدون إلى جسد واحد (1كو 12: 13). وهذا الاتحاد بين المسيح وشعبه يشبه الاتحاد بين الكرمة والأغصان، فإن حياة الكرمة هي نفس حياة أغصانها (يو 15). وكذلك المسيح وشعبه واحد كما أن الرجل وامرأته هما واحد، فنحن «أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه» (أف 5: 30).

يتحد المؤمنون معاً تحت رأس واحد ويصيرون جسداً واحداً بمعنى روحي. ويحل الروح القدس في كل واحد منهم ويجعلهم واحداً، ويعمل فيهم جميعاً على السواء أن يريدوا وأن يعملوا، ويكون لهم مبدأ حياة واحد، فيكون لهم إيمان واحد واختبار ديني واحد، ورب واحد وإله واحد وأب واحد. وهم مرتبطون معاً، حتى إذا تألم عضو واحد أو تمجد عضو واحد اشتركت معه بقية الأعضاء في الألم أو المجد (1كو 12: 26). وقد أجمعت كل الكنائس على ذلك، وعلى أن المؤمنين يتحدون في العشاء الرباني بالمسيح ويتحد بعضهم ببعض.

وفي الليلة التي أُسلم فيها المسيح وضع سر جسده ودمه وسمّاه العشاء الرباني ليُمارَس في كنيسته إلى منتهى العالم ليذكر المؤمنون تقديم نفسه بموته ذكراً دائماً، ولختم فوائد ذلك للمؤمنين الحقيقيين، ولغذائهم الروحي ونموهم فيه، ولتجديد التزامهم بجميع الواجبات التي له عليهم، وليكون رابطاً وعربوناً لشركتهم معه وشركة بعضهم مع بعض باعتبارهم أعضاء جسده السري. وهناك خمسة أهداف مهمة في عشاء الرب وهي:

(1) التذكار: لأنه يذكّرنا بموت المسيح كفارةً عنا، ويشهد شهادة دائمة بتلك الحادثة الفائقة التي هي جوهر الدين المسيحي. وممارسة هذا السر على توالي العصور إعلانٌ وشهادة من الكنيسة المسيحية بموت المسيح كفارة، وإذاعة إيمان المسيحيين بذلك. وهو علامة ظاهرة لأن نظام العهد القديم قد استُبدل بنظام العهد الجديد، فتحوّل الفصح إلى العشاء الرباني بأمر المسيح وسلطانه. فلا يمكن أن تنسى الكنيسة ولا العالم أن الرب يسوع مات ذبيحة لأجل خطايا البشر.

(2) الإقرار: فالمشتركون في ذلك العشاء يعترفون بإيمانهم بالمسيح مصلوباً، وباتكالهم عليه لأجل الخلاص، وبقبولهم إياه فادياً وملكاً، وبأنهم تلاميذ له، وبأنهم يجددون عهدهم بذلك، وينذرون نذور الأمانة له والطاعة لسلطانه. وكأنهم بواسطة اشتراكهم في ذلك العشاء يخصصون نفوسهم بكامل إرادتهم للمسيح، ويوقفون أنفسهم له، ويعتزلون العالم (1كو 10: 21).

(3) البنيان: يُبرز هذا السر أمام المؤمن أعظم حقائق الإيمان ويحرك عواطفه ويجدد فيه المحبة للمسيح والإيمان به والاتكال عليه، وينبّهه إلى هدف خدمته، ويذكّره بواجباته المتنوّعة لربه ولكنيسته وللعالم، ويربي فيه الفضائل المسيحية على أنواعها، ولا سيما المحبة الأخوية، ويخمِد روح الخصام والنفور بين المشتركين اشتراكاً واحداً في جسدٍ واحد. فمناولته يجب أن تقترن دائماً بتجديد العهود والنذور للمسيح ولكنيسته ولخدمته، وهكذا يتحرك قلب المؤمن تحركاً جديداً في التقوى كلما حضر مائدة الرب.

(4) إثبات الاتحاد الأخوي في الكنيسة: فإنه يجمع الكنيسة كأهل بيت واحد وأهل إيمان واحد برب واحد. وكلما اجتمع الشعب للاشتراك فيه يعلن بعضهم لبعض إيمانهم ومشاركة بعضهم لبعض في رجاء واحد. فكل واحد يحقق لإخوته أنه أخ في الرب ومرتبط بهم بُربُط حياة واحدة مشتركة في المسيح، وأنه ليس من أهل الخصام والخبث والعداوة والبُغض، بل من أهل المحبة والسلام والصبر والاتحاد. حتى أن كل من تناول يقدر أن ينظر إلى وجه كل من تناول معه ويتحقق أنه من محبيه، وأنهما أهل بيت واحد في الرب. ويصدق هذا كله على كل أعضاء كنيسة المسيح في كل العالم لا على أعضاء كنيسة واحدة في مكان معين، فالمؤمن من بلاد بعيدة يمكنه أن يجتمع اجتماعاً أخوياً حول مائدة الرب مع المؤمنين، ولو لم يكن قد رأى وجه واحدٍ منهم قبلاً، ويشعر أنه أخ بين إخوة في الرب.

(5) الإشارة إلى مستقبل الكنيسة: لأنه ينبّه جميع المؤمنين حول مائدة الرب إلى الاجتماع في السماء عند عشاء عرس الحمل السماوي. وفيما نذكر الصليب الذي حدث في أورشليم الأرضية قديماً، نتطلع إلى ما سيحدث في أورشليم السماوية في المستقبل. فبدايته على جبل صهيون الأرضي ونهايته على جبل صهيون السماوي. فهو وليمة تمثل وليمة المفديين في المجد، إذ الخبز يشير إلى الخبز السماوي، والخمر إلى تلك الخمر التي سيشربها المسيح مع مختاريه في ملكوت أبيه. فالتناول نبوَّة ابتهاج وفرح بشركة القديسين في المجد مع ربهم رئيس الوليمة.

22 - مَن يشترك في عشاء الرب؟

* لا يوجد من يستحق أن يشترك فيه. أما من يتناوله فهو المؤمن الذي يعلن أنه تلميذ المسيح الذي يتناول باستحقاق كفارة المسيح. وليكون الإنسان مؤمناً يجب أن يعرف المسيح معرفة اختبار، ويصدّق ما أعلنه الله بشأن ابنه، ويؤمن أن المسيح مات لأجل خطاياه، وأن جسده كُسِر لأجله هو شخصياً، ويقبل المسيح بالتوبة والإيمان كما هو مقدَّم له كفارة عن الخطية، ويعرف الإنجيل معرفة كافية، ويعترف علناً بهذا كله.

وعلى كل من يتناول أن يكون مستعداً لذلك، فيقترن تناوله بالمحبة الفائقة للمسيح والشكر له، والعزم الثابت على ترك الخطية وعلى العيشة لمجد الرب. ويُطلَب من الذين يريدون أن يشتركوا باستحقاق في العشاء الرباني أن يمتحنوا أنفسهم عن معرفتهم تمييز جسد الرب، وإيمانهم للتغذّي بالمسيح، وتوبتهم ومحبتهم وطاعتهم الجديدة، لكي لا يكونوا غير مستحقين، فيأكلوا ويشربوا دينونة لأنفسهم. ويجب على القسيس أن يحذّر العالميين والجهال والعائشين في الخطية عمداً، والمتوغلين في الشر سراً، من الاقتراب إلى مائدة الرب، كما يجب عليه أن يدعو إلى هذه المائدة المقدسة كل من شعر بإثمه وضلاله وضعفه، واتكل على كفارة المسيح للصفح والقبول عند الله، أي أن يكون قد عرف التعليم الإنجيلي، وقدر على تمييز جسد الرب، وعزم على رفض الخطية والعيشة الطاهرة.

وخلاصة ما تطلبه الكنيسة للاشتراك في عشاء الرب ما يأتي:

(1) التجديد والإيمان الحي، لأن ذلك الطعام الروحي ليس للأموات بل للأحياء.

(2) العماد لأن المعمودية علامة ظاهرة للدخول في الكنيسة المنظورة (أع 2: 38، 41 و8: 12 و10: 47، 48 و22: 16).

(3) الاشتراك في عضوية الكنيسة المنظورة، لأنه لما كانت كنيسة المسيح بيتاً واحداً وجب أن يكون المتقدم إلى التناول من أهل ذلك البيت. والكنيسة جمهور من المؤمنين تحت نظام مقرر، فينبغي أن تسبق العضوية في الكنيسة الاشتراك في فرائض تلك الكنيسة. وعلى الكنيسة أن تدعو عند ممارسة السر أعضاء غيرها من الكنائس الإنجيلية، إذا كانوا في عضوية تامة ليشتركوا معها في التناول.

(4) السلوك التقوي اللائق الذي يطرح كل فساد في الأخلاق، وكل اعتقاد يخالف تعاليم الأسفار المقدسة، وكل سيرة تعيب الديانة المسيحية، وكل ما يناقض إرادة الرب (1كو 5: 9، 11 و2تس 3: 6).

23 - من يحكم في أن طالب التناول مستعد للتناول؟

* حق ذلك الحكم للكنيسة نفسها، أي النائبين عنها مع قسيسها، وهم أعضاء مجلسها (انظر جواب س 5 في هذا الفصل). وعلى مجلس الكنيسة أن يفحص المتقدم للاشتراك في عضوية الكنيسة والتناول من عشاء الرب من جهة معرفته بالحقائق الإنجيلية، وتوبته عن خطيته، وإيمانه بالرب يسوع باعتباره مخلصه، وبعقائد الديانة التعليمية الجوهرية، وطهارة حياته ونيته في إتمام مسؤوليته لكنيسة المسيح، وفي محافظته على أوامر الرب محافظة حقيقية. وليس لمجلس الكنيسة أن يحكم حكماً قاطعاً خالياً من الشك في أن الطالب متجدد بروح الله أو لا، لأن ذلك فوق طاقة البشر. بل عليه أن يسمع منه الإقرار الواضح بإيمانه ومقاصده، وأن يتحقق أنه لا شيء في سيرته يناقض إقراره. فإن لم توافق سيرته إقراره، وجب على المجلس أن يؤخر قبول انضمام الطالب، وينبّهه بلطف لسيرته، ويبيّن له لزوم التأخير إلى أن يُعيد امتحان نفسه ويُصلح سلوكه.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

24 - ما هو القول الصحيح في فاعلية تناول العشاء الرباني؟

* اشتهر في تاريخ الكنيسة في هذه المسألة أربعة أقوال:

(1) تعليم زونجلي: وقد تبعه الأرمينيون والسوسينيون، وهو أن العشاء الرباني مجرد علامة محسوسة تشير إلى موت المسيح، بدون أن يكون فيه أدنى فاعلية في حد ذاته. ولا يحضر فيه المسيح على الإطلاق، لا جسدياً ولا روحياً. ولذلك لا يحسبون عشاء الرب من وسائط النعمة، بل يحسبونه تذكاراً لموت المسيح، وشهادةً لإيمان المشترِك. ويخلو هذا المذهب من الاحترام الواجب لهذا السر.

(2) تعليم الكنيسة اللوثرية: وهو أن جسد المسيح موجود في ذلك العشاء، لا بمعنى أن الخبز والخمر يستحيلان إلى جسده ودمه، بل بمعنى أن المسيح يحضر جسدياً ويصاحب العناصر ويرافقها على منوال سري، حتى يقبل المشترك المسيح فعلاً بمعنى سري أثناء قبوله الخبز والخمر، اللذين لا يزالان في حد ذاتهما خبزاً وخمراً. وعلى ذلك يكون لعشاء الرب فاعلية حقيقية ذاتية، وتأثير فعلي في كل من يقبله. غير أن فاعليته (وإن كانت ذاتية فيه) تتوقف على إيمان المشترك. وهذا يعني أن عدم الإيمان يمنع فاعلية السر. ويوضحون معنى تعليمهم هذا بقولهم إن النار لا تفعل في الحطب إلا إذا كان جافاً. على أن جفاف الحطب لا يعطي النار قوتها. وقولهم إنه لولا إيمان المرأة التي مست ثوب المسيح ما استفادت. على أن قوة المسيح على الشفاء لم تتوقف على إيمان تلك المرأة. فاللوثريون يعتقدون أن لعشاء الرب قوة ذاتية وفاعلية حالة فيه، غير أن المشترِك لا يستفيد من ذلك إلا إذا كان مؤمناً. ونحن لا نعترض على رأيهم في لزوم الإيمان لنوال الفائدة من عشاء الرب، وإنما نعترض على قولهم بفاعلية السر بناء على حضور جسد المسيح على المنوال السري المذكور.

(3) التعليم التقليدي: وهو أن في عشاء الرب نعمة ذاتية، وليس فقط إشارة إليها، وأنه واسطة فعالة في توصيل النعمة إلى قلوب المشتركين فيه «فعلاً مفعولاً» وأن نوال الفائدة لا يتوقف على إيمان المشترِك، بل على عدم مقاومته لذلك الفعل، وأنه يجب على الذي يناوِل السر أن يكون ذا سلطان من الكنيسة، وأن يكون قصده قصدها في ممارسة السر. فالأسرار (عندهم) تتضمن النعمة، ولها في نفسها قوة ذاتية على تطهير المتناوِل، وأن قوتها في الدين تشبه قوة المواد الطبيعية في الطبيعة أو قوة النار على الإحراق. فكما أن النار تشتعل لأن الله جعل فيها قوة على الاشتعال، كذلك تُوصِّل الأسرار النعمة للمتناول، لأن الله جعل فيها قوة على ذلك، وهي معيّنة لهذه الغاية. وقيل إن الأسرار تتضمن النعمة لأنها تمنحها من قوتها الذاتية، بسبب القوة الحالة فيها، لا إلى فعل الروح القدس وحده.

(4) تعليم الكنيسة الإنجيلية: وهو أن فاعلية العشاء الرباني ليست فيه بالذات، بل بواسطة الروح القدس الذي يرافقه ويوصِّل فوائده إلى قلب المؤمن. فالروح القدس هو الذي يجعل ذلك السر واسطةً لاتحاد المؤمن بالمسيح اتحاداً روحياً بالإيمان. وعلى هذا تكون للعشاء الرباني فاعلية عظيمة في بنيان المشتركين وتقوية اتحادهم بالمسيح وتحريك عواطفهم وملئهم بالقداسة والتقوى. وتتوقف فاعلية السر على حضور المسيح روحياً، وبركته على المشتركين، وعلى فعل الروح القدس في إتمام غاية السر الروحية. فعلى متناول السر أن يقبله بالإيمان بإحساسات التواضع والشكر والمحبة القلبية، وإلا فليس له شركة فيه.

يرفض الإنجيليون القول إن العشاء الرباني فعال في ذاته، وإن العنصرين يستحيلان إلى جسد المسيح ودمه حقيقةً، وكذلك يرفضون قول اللوثريين إن في السر فاعلية ذاتية (وإن كانت تتوقف على إيمان المشترِك) لأن جسد المسيح حاضر فيه حقيقة بمعنى سري. وكذلك يرفض الإنجيليون قول زونجلي والسوسينيين وغيرهم إن سر العشاء هو علامة خارجية وإعلان منظور لإيمان المشتركين. وتتوقف فاعلية السر (بموجب مذهب الإنجيليين) على حضور المسيح روحياً بالروح القدس، وتأثيره في قلوب المشتركين حتى ينالوا جسد المسيح بطريقة روحية، لا جسدية، لأن جسد المسيح ودمه ليسا حينئذ في الخبز والخمر بمعنى جسدي، أو بمعنى استحالتهما، بل المسيح حاضر فيه لإيمان المؤمنين بطريقة روحية كحضور العناصر الخارجية للحواس الظاهرة. أما جسده الحقيقي فهو في السماء. وإنما هو يحضر مع شعبه على الأرض وفي احتفال مائدته بروحه القدوس.

25 – ما هي الأدلة على بطلان القول بالاستحالة؟

* يخالف تعليم الاستحالة شهادة الحواس والعقل والوحي. ولنا على إبطاله براهين كثيرة نذكر منها:

(1) لم يُعرَف تعليم الاستحالة في الكنيسة الأولى. وأول من صرح به على نسق تعليمي في الكنيسة الغربية باسخاسيوس رادبرتس في منتصف القرن التاسع في كتاب ألفه في «جسد الرب ودمه» فقاومه أفضل لاهوتيي ذلك القرن ومنهم راترامنس الذي ألَّف كتاباً قال فيه «أما من جهة الجواهر المادية فكما كانت قبل التقديس لم تزل كذلك بعده». وقال أريجينا في علاقة المسيح بالأفخارستيا «نقدمه روحياً ونأكله عقلياً بالذهن لا بالأسنان». وفي القرن الحادي عشر نفى برانجر تلك البدعة، على أن السنودس الروماني أثبتها سنة 1079 وقُبلت قانونياً بأنها من الإيمان في المجمع اللاتراني الرابع سنة 1215م تحت رئاسة البابا إنوسنت الثالث. ووجدت هذه البدعة احترامها في الكنيسة الشرقية في أواخر القرن الثامن حين حكم المجمع النيقوي الثاني سنة 787م (وهو الذي حكم بعبادة الصور والتماثيل) بجواز اعتبار العناصر رموزاً قبل تقديسها، لا بعد ذلك. على أن المجمع الذي التأم في القسطنطينية سنة 754م حكم أن عناصر الأفخارستيا هي بمنزلة رموز أو إشارات. ولكن بعد المجمع النيقوي الثاني أخذ الشرقيون يؤمنون بالاستحالة، وداموا على ذلك إلى أن صُرح بالإيمان بها في عقائد كنيستهم التي أُعلنت في منتصف القرن السابع عشر، بعد الإصلاح اللوثري في القرن السادس عشر.

وإذا نظرنا إلى القرون الأولى من تاريخ الكنيسة رأينا في مؤلفات الآباء القدماء ما يحقق لنا عدم تصديق الكنيسة لتعليم الاستحالة، فإننا لا نرى له ذِكراً في القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح. ولو أننا نجد في كلام جستن الشهيد (سنة 155م) وإيريناوس (سنة 185م) عبارات مبهمة حوّلها القائلون بالاستحالة عن معناها المقصود، لأننا لا نجد فيه ما يشير إلى تغيُّر جوهر الخبز بل ما معناه إنه صار مفروزاً لغاية مقدسة، وهو رمز إلى جسد المسيح، أو بمعنى سري صار الخبز إشارة إلى حضور المسيح روحياً وكذلك الدم. وليس في مؤلفات أكليمندس الإسكندري وأوريجانوس وترتليان وكبريان ما يثبت تعليم الاستحالة قط. وفي القرن الرابع والخامس والسادس لم يصدق أفضل المؤلفين المسيحيين القول بالاستحالة. فقال أوسابيوس القيصري (سنة 330م) إن تذكار ذبيحة المسيح على مائدته «بواسطة رموز الجسد والدم» وقال أثناسيوس (سنة 370م) في شرحه إنجيل يوحنا ص 6 ما معناه «إن مناولة جسد المسيح ودمه حقيقةً أمرٌ لا يُقبل، وإن قصد المسيح في هذه الآيات لا يُفهم إلا روحياً». وقال غريغوريوس النازيانزي (سنة 380م) «إن عناصر الأفخارستيا رموز جسد المسيح ودمه». وقال يوحنا فم الذهب (سنة 400م) «إن الخبز المقدس يستحق أن يُسمى جسد الرب، مع أن الخبز لم يزل على حقيقته» وقال باسيليوس (سنة 375) «إننا نأكل جسد المسيح ونشرب دمه إذا صار لنا شركة بالكلمة والحكمة بواسطة تجسده وحياته البشرية». وقال مكاريوس الأكبر (سنة 380م) ما معناه إن الخبز والخمر أُشير بهما إلى جسد المسيح ودمه ولا نأكل منهما إلا روحياً. وقال أغسطينوس (سنة 420م) «إن قول المسيح إنه يعطينا جسده لنأكل لا يجوز فهمه جسدياً، لأن نعمته لا تُقبَل بالأسنان» وإن قول المسيح «هذا هو جسدي» كان بمعنى أن «الخبز وُضع علامةً لجسده». وذكر الوليمة التي فيها «قدم المسيح لتلاميذه جسده ودمه مجازاً». وقال ثاودوريتوس (سنة 450م) «العناصر هي رموز سرية» وأشار إليها بتلك العبارة بعد تقديسها وأثبت أنه لا يحدث فيها تغيير جوهري في الأفخارستيا. وقال غيلاسيوس أسقف روما (سنة 495م) «إن جوهر الخبز وجوهر الخمر لا يزالان فيهما، فالحق أننا نحتفل بالأسرار المقدسة بصورة جسد المسيح ودمه ورمزهما».

على أننا لا ننكر أن قليلين من الآباء كتبوا ما يُظن أنه تعليمٌ بالاستحالة، منهم غريغوريوس النسي وكيرلس الأورشليمي وأمبروز وهيلاريوس الذين نبغوا في أواخر القرن الرابع. على أن ما قصدوه بعباراتهم في هذا الموضوع لم يزل تحت الشك، وإن ظهر فيها ما يقرب من معنى الاستحالة. ولا يبعد عن الظن أن عبارات هؤلاء الآباء وأقوال الليتورجيات القديمة في عشاء الرب لا تفيد إلا حضور المسيح سرياً أو بالمعنى المجازي (وهذا يوافق اعتقاد الكنيسة اللوثرية). وقد استعملوا المجاز البليغ إكراماً لمقام ذلك السر العظيم وتوضيحاً، لأنه رمزٌ لجسد المسيح المكسور ودمه المسفوك لأجل خلاص العالم، وبنفس الروح الذي به قال المسيح له المجد «هذا هو جسدي».

(2) يناقض شهادة الحواس: لأن الخبز بشهادة الحواس لا يزال خبزاً، والخمر لا تزال خمراً، فهذه شهادة النظر والذوق والشم واللمس. وإذا تُرِك ذلك الخبز فسد كالخبز المعتاد. وجواب التقليديين على هذا هو «إن حواسكم بجملتها تغشّكم، فإن شهدَتْ أن الخبز لم يزل خبزاً بعد التقديس، فلكم دليل الوحي على إبطال تلك الشهادة، وهو قول المسيح «هذا هو جسدي». فيجب عليكم أن تعتبروا شهادة الوحي أكثر من شهادة الحواس». وتسهيلاً لقبول هذا القول صرحت الكنيسة أن الاستحالة تقع في جوهر الخبز والخمر لا في أعراضهما، وقصدت بأعراض الخبز اللون والطعم والشكل والخواص الطبيعية الخارجية التي تميزه ظاهراً عما سواه من المواد. وقصدت بالجوهر أمرٌ سريٌ لا تدركه الحواس، تقوم به أعراض الخبز. وجعلت ذلك الأمر السري مركز الاستحالة دون ظواهر المادة. ولا نرى كيف يتغير الجوهر ولا تتغير معه الأعراض، لأن هذا يخالف كل نواميس الطبيعة، فاستحالة الجوهر تقتضي تغيير الأعراض لا محالة.

وإذا قيل إنه يجب على المسيحي المؤمن أن يصدق أحياناً ما هو فوق إدراكه بالعقل والحواس سلَّمنا. ولكن لا نسلِّم أن المؤمن مكلَّف بقبول ما يخالف عقله وحواسه، فنحن نؤمن بقيامة المسيح، ولكن إيماننا هذا مبني على شهادة الحواس، لأن كثيرين من البشر شاهدوا المسيح وعرفوه بالحواس بعد قيامته. والمسيح نفسه سمح لتوما أن يلمسه ليؤمن. وهكذا يُقال في جميع معجزات الكتاب لأنها تمّت أمام البشر، فامتحنوها بحواسهم وبنوا إيمانهم على شهادة حواسهم. ولو بقي الخمسة الآلاف جياعاً بعد إطعامهم الأرغفة الخمسة والسمكتين لما صدقوا المعجزة، وكذلك لو بقي لعازر ميتاً في القبر لما صدقوا إن المسيح أقامه. والمسيح بقوله «جسوني وانظروا» استشهد بالحواس (لو 24: 39، 40 ويو 20: 27).

(3) يناقض العقل: لأنه يُلزمه أن يسلم بلا برهان بأمرٍ لم يذكره الوحي، ولو كان صحيحاً لوجب أن يكون عليه دليلٌ واضحٌ مقنعٌ. فمن المستحيل أن يتغير الجوهر مع بقاء الأعراض المادية على حالها. ونحن لا ننكر قدرة الله على تحويل خبز أو حجر أو حديد إلى لحم، لكننا نقول إنه في حالة حدوث ذلك تتغيَّر الأعراض مع الجوهر. ونقول أيضاً إن العهد القديم ينهى عن أكل الدم أوشربه، خصوصاً دم البشر، فيحقّ لنا أن نسأل: هل أجاز الله أكل لحم البشر في زماننا وأعلن جواز شرب دمهم؟ وإذا أكلنا جسد المسيح وشربنا دمه بموجب تعليم الاستحالة، فماذا يا ترى يحدث بعد ذلك؟ لأننا إذا أخذنا المسيح في أجسادنا حقيقة، فهل تتصرف الطبيعة بحسب عادتها، أو هل يتخلّص المسيح من هذا المصير بمعجزة خاصة؟ والعقل البشري ينفر من التأمل في مثل هذه الأفكار!

ونسأل أيضاً: قال المسيح «هذا هو جسدي المكسور لأجلكم» فإذا حدث حقيقة أن الخبز والخمر تحوّلا إلى جسد المسيح ودمه عندما وضع المسيح هذا السر، فهل انكسر جسده وهل سُفك دمه وهو لم يزل حياً أمام تلاميذه؟ فيكون قد مات وهو مع تلاميذه في العلية قبل صلبه بعدة ساعات! فكيف كان جسده مكسوراً وميتاً ودمه مسفوكاً مع وجوده حياً أمامهم؟!

ومن ذلك أن الإنجيل يقول إن جسد المسيح بعد قيامته تغير وصعد إلى السماء في غاية المجد، وهو لا يزال ممجَّداً في جسده. ورأيناه في وقت التجلي أخذ هيئة لا تحتملها العين البشرية بسبب لمعانها وبهائها السماوي. فإذا صار المسيح على هذه الهيئة الآن فهل يترك مجده السماوي كلما حدث قُدّاس على الأرض، ويحضر بهيئة لا تختلف عن ظواهر الخبز؟! وحين يحضر القداديس الأرضية، هل تفرغ السماء منه، أو هل تتكاثر ظهوراته في الأرض، مع وجوده الدائم في السماء؟!

ويقول الإنجيل في وضع العشاء الرباني إن المسيح أخذ خبزاً وبارك وكسر وأعطى تلاميذه وقال «خذوا كلوا هذا هو جسدي» (مت 26:26). فماذا صار يا ترى حينئذ؟ هل أخذ المسيح جسده في يده ووزعه على التلاميذ؟ وهل كان جالساً في كمال جسده ومع ذلك أمسك جسده بيده في ذلك الوقت عينه؟ وهل فهم التلاميذ كلامه على هذا المعنى وحسبوا الخبز جسده الحقيقي الجالس أمام عيونهم؟! وكل ذلك حمل ثقيل على العقل السليم يخالف كل أحكامه.

(4) تعليم الاستحالة يناقض تعليم الكتاب المقدس: (أ) تفسير قول المسيح «هذا هو جسدي» بمعنى حرفي هو تفسيرٌ غير صحيح، لأن قصد المسيح في هذا الكلام البسيط هو أن الخبز يرمز إلى جسده الذي كان سيقدّمه ذبيحة عن الخطية، وقد استخدمه ليكون علامة محسوسة تدل على جسده، وليذكّر المشتركين بذلك. وقد ورد المجاز كثيراً في الكتاب على هذا الأسلوب. والاصطلاح المجازي موجودٌ في كل لغات البشر، ومن أمثلته في الكتاب المقدس «يهوذا جرو أسد.. يساكر حمار جسيم.. نفتالي أُيَّلة مُسيَّبة.. يوسف غصن شجرة مثمرة» (تك 49: 9، 14، 21، 22). و«الرب صخرتي». و«الرب الله شمس ومجن» و«كلامك سراج» (مز 18: 2 و84: 11 و119: 105). و«هذه العظام هي كل بيت إسرائيل» (حز 37: 11). و«فأنت هذا الرأس من ذهب.. وهذه الحيوانات العظيمة هي أربعة ملوك.. والتيس العافي ملك اليونان» (دا 2: 38 و7: 17 و8: 21 قارن تك 40: 12، 18 و41: 26، 27). و«أنتم ملح الأرض. أنتم نور العالم» (مت 5: 13، 14). و«أنا هو خبز الحياة. وأنا باب الخراف. وأنا الكرمة وأنتم الأغصان» (يو 6: 35 و10: 7 و15: 5). و«الصخرة كانت المسيح» (1كو 10: 4). و«هاجر جبل سيناء في العربية» (غل 4: 25 قارن رؤ 1: 20 و17: 12، 18 و19: 8 و22: 16).

فقول المسيح «هذا هو جسدي» هو اصطلاح روحي رمزي، ولذلك بقي تلاميذ المسيح قروناً يقرأون هذا القول ويمارسون هذا السر دون أن تخطر الاستحالة على بالهم! (ب) علّمنا الكتاب أن جسد المسيح صعد إلى السماء وسيبقى هناك إلى أن يجيء ثانية، بدليل قوله «الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء» (أع 3: 21). وقوله «إذاً نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد. وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه أيضاً» (2كو 5: 16). وقوله «إن كنتم قد قمتُم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله» (كو 3: 1). فجسد المسيح بموجب هذه الآيات في السماء إلى أن يجيء ثانية. ومن خواص الجسد أنه لا يشغل مكانين في وقتٍ واحدٍ، وقد قيل عن المسيح نفسه بعد قيامته «ليس هو هنا لأنه قام» (مت 28: 6). فالمسيح لم يقم بجسده في أماكن كثيرة في وقت واحد كما يظهر من أقوال الكتاب في جسده بعد قيامته من الأموات (لو 24: 39 و40 ويو 20: 27). (ج) حوّلت الكنيسة التقليدية أقوال المسيح في يوحنا 6 إلى برهان على تعليم الاستحالة، مع أنه ليس في هذا الأصحاح ما يشير إلى العشاء الرباني، بل إن المسيح دعا نفسه فيه «خبز الحياة» و«الخبز النازل من السماء» ليوضح علاقته بالمؤمنين باستعارة الخبز وفائدته في التغذية التي تقوم بها الحياة. وقدم المسيح نفسه للعالم لنأكل منه بالإيمان روحياً كما نأكل من الخبز جسدياً. ولم يشر المسيح بأقواله في يوحنا 6 للعشاء الرباني الذي لم يكن قد وضعه بعد. وحينما قال السامعون «يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز» قال لهم «أنا هو خبز الحياة. من يُقبِل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً» (يو 6: 34، 35). فاعتبر المسيح أكل جسده والإقبال إليه والإيمان به بمعنى واحد.

ولئن صحّ أن عشاء الرب هو المقصود من قول المسيح «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم» (يو 6: 53) تكون النتيجة أن كل من لا يشترك فيه ليس له حياة أبدية. ويكون أن اللص التائب على الصليب قد هلك لأنه لم يأكل جسد المسيح كما هو مقدَّم في عشاء الرب، وكذلك أطفال بلا عدد لا ينالون الخلاص لأنهم لم يتناولوا! فتخصيص كلام المسيح في هذا الأصحاح بسر الأفخارستيا يُفضي إلى نتائج تخالف نفس الاعتقاد التقليدي. وكذلك إذا صحّ أن عشاء الرب هو المقصود من قول المسيح «إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (آيتا 51، 54) يكون المعنى أن كثيرين كانوا في حضن الكنيسة التقليدية وخرجوا منها وصاروا إنجيليين، مثل لوثر وألوف مثله قد نالوا الحياة الأبدية، لأنهم تناولوا في الكنيسة التقليدية. وهذا يخالف رأي الكنيسة التقليدية! ويقول المسيح في يو 6: 63، 64. «الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أكلّمكم به هو روح وحياة، ولكن منكم قوم لا يؤمنون». (د) أقوال المسيح عند وضع السر تمنعنا من قبول التعليم الحرفي إن العناصر صارت جسده حقيقةً، لأن المسيح بعد ما قال «هذا هو جسدي» و«هذا هو دمي» قال أيضاً «من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي» (مت 26: 29). وهذا دليل قاطع على أن المسيح اعتبر الخمر بعد صلاته عليها لا تزال خمراً. وكذلك قال الرسول بعد تكريس العناصر «الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟» (1كو 10: 16). وهذا برهان على أن الرسول اعتبر الخبز بعد كسره لا يزال خبزاً. وكذلك دعا الرسول الخبز «خبزاً» بعد تكريسه، والكأس «كأساً» (1كو 11: 23-26).

(5) ينتج عن تعليم الاستحالة نتائج مضرة. فليس هذا التعليم ضلالاً فقط، لكنه يؤدي إلى ضلالٍ أبعد منه، مثل: (أ) عبادة العناصر عبادة أصنامية، لأنها عبادة دينية لمادة بسيطة. فلو صحَّت الاستحالة لوُجد المسيح حقيقةً في الخبز والخمر، ولجاز السجود لهما! ولكن إذا لم يصح شيءٌ من تعليم الاستحالة فتلك العبادة أصنامية! (ب) تقديم جسد المسيح بعد الاستحالة المزعومة ذبيحة كفارية لأجل خطايا الأحياء والأموات، وهذه الذبيحة (على قولهم) لا تختلف عن ذبيحة الصليب معنى وفاعلية. ولا يخفى أن في ذلك إهانة هائلة لذبيحة المسيح الحقيقية، لأن الكنيسة التقليدية تعلم لزوم تكرار ذبيحة المسيح في ذبيحة القداس، التي تحسبها وسيلةً لرفع الدينونة عن الأحياء (وعن أهل المطهر في الاعتقاد الكاثوليكي). على أن ذبيحة المسيح بموجب تعاليم الكتاب لا تتكرر، بل هي وحدها كافية ولها فاعلية دائمة وغير محدودة. (ج) هذا التعليم يؤدي إلى رفض الوحي والدين والحق، لأنه يلزِم العقل البشري بقبول التعليم بلا برهان، وقبول معجزات كثيرة بدون دليل، بل لمجرد سلطان الكنيسة وباسم الديانة.

ونحن نقول إن المسيح لما تأنس لم تستحِل ألوهيته إلى الإنسانية ولا إنسانيته إلى الألوهية، ولا بعد صعوده إلى السماء. فكيف يصير الخبز إلهاً حينما يصعد على أيادي القسوس؟ وأية قوة في أيديهم حتى يصنعوا من تراب الأرض (الخبز والخمر) إلهاً خالق السموات والأرض؟ وأية علامة عندهم لإثبات ذلك؟

نقول أيضاً إنه لا يمكن وجود جسم مادي مخلوق في مكانين معاً في وقت واحد. والمسيح الإله المتجسد لما كان على الأرض لم يكن قط في مكانين معاً في وقت واحد. فكيف يحضر جسده بعد صعوده إلى السماء في ألوف الأمكنة في دقيقة واحدة؟

نقول أيضاً إن الجسد والدم يؤكلان، وأما اللاهوت والنفس اللذان (على زعمهم) يوجدان في القربان، فكيف يمكن أكلهما وهما روحيان؟ وربما يوجد من يقول إن في الديانة بعض أمور عسرة الفهم تفوق العقل البشري، ومنها مسألة الاستحالة. ونحن نقبل هذا، غير أن ذلك يكون في ما يخص جوهر اللاهوت لا خبز القربان الذي هو عنصر التراب، الذي قال عنه السيد المسيح «اصنعوه لذكري» لا «اعبدوه عوضاً عني».

26 - ما هو القول الصحيح في لزوم سرَّي المعمودية والعشاء الرباني لخلاص النفس؟

* يعلّمنا الكتاب المقدس أن ممارسة السرين واجبة، ولكنهما ليسا واسطتين ضروريتين للخلاص. فقد يمكن الخلاص بدونهما. ولكن الكنيسة التقليدية تعتقد وتعلّم أن الأسرار وسائط لازمة للنعمة، بمعنى أن الفوائد التي يُشار بها إليها لا يمكن نوالها بدون ممارستها. فلا تكون مغفرة خطايا ولا تجديد بدون معمودية، ولا قبول جسد المسيح ودمه لغذائنا الروحي ونمونا في النعمة بدون الاستحالة، ولا تكون مغفرة للخطايا التي تُرتكب بعد المعمودية إلا بواسطة الكاهن وذبيحة القداس وسر التوبة، ولا نعمة للرسامة إلا إذا كانت قانونية، ولا استعداد لائق للموت إلا بالمسحة المقدسة.

ولا تعلّم الكنيسة التقليدية بضرورة جميع أسرارها السبعة للخلاص، بل أن كلاً منها لازم لنوال النعمة التي تُقصد به. فقالت: لا نعمة من الرسامة إلا بأنها على قانونها، وإن سر التوبة لا يلزم إلا عند ارتكاب الخطية بعد المعمودية، وسر الأفخارستيا (الذي يعتبرونه أعظمها) ليس ضرورياً للأطفال، ولكن المعمودية عندهم هي الطريقة الوحيدة للحصول على مغفرة الخطايا والتجديد، وحِلَّة الكاهن لازمة لمغفرة الخطايا بعد المعمودية. وهذا المبدأ يؤدي إلى نتائج مخيفة، فبحسبه يخرج كثيرون من المعترفين بالمسيح من الشهداء من ملكوت السموات. ولذلك قالوا إنه متى استحال قبول الأسرار لسبب خارجٍ عن الإرادة، تُغني رغبة الشخص في قبولها عن ممارستها، وهو ما يُسمى «معمودية الاشتهاء» أو «معمودية الدم» فالأولى كناية عن الرغبة في نوال السر، والثانية عن سفك الدم قبل الموت من أجل الإيمان، أو فضيلة أخرى مسيحية.

غير أن هذا الاستثناء لا يصح على الأطفال، ولذلك لا يمكن أن يتمتعوا بفوائد الأسرار! فغير المعتمدين كلهم يقصرون عن نوال الحياة الأبدية. فلا يقدر أحد أن يخلص (عندهم) ما لم يمت في حضن الكنيسة الحقيقية، وليس في حضن الكنيسة إلا المعمَّدون، والحافظون لسر التوبة، والخاضعون للأساقفة القانونيين.

ولنبرهن أن الأسرار ليست الوسائط الوحيدة للخلاص نقول:

(1) هذا القول يناقض تعاليم الكتاب الواضحة، ومنها أن الله ينظر إلى القلب، وأنه لا يطلب من البشر الساقطين إلا الإيمان بالمسيح والتوبة إلى الله، وهما الشرطان اللازمان للخلاص، وأن جميع البشر لهم قدوم إلى الله بواسطة فداء المسيح ليقبلوا منه غفران الخطايا وكل فوائد موته، وأنهم لا يحتاجون إلى توسُّط الكهنة لذلك القدوم أو لنوال تلك الفوائد، وأن الطقوس الخارجية لا قوة لها في ذاتها على منح النعمة. والدليل على ذلك قول المسيح «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية». و«من يؤمن به لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين». وقيل أيضاً «آمِن بالرب فتخلص» و«كل من يدعو باسم الرب يخلص» و«كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلد من الله». وإذ لا يمكن أن يُنقَض الكتاب فلا يمكن أن الذي يؤمن إيماناً صحيحاً بما أعلنه الله في شأن ابنه، ويتوب توبة قلبية لا ينال الحياة الأبدية، فإننا نصير أولاد الله بالإيمان بالمسيح. نعم أمرنا الرب أن نعتمد، كما أمرنا أن نعترف بالمسيح قدام الناس، وأن نحب إخوتنا، ولكن هذه من الواجبات التي يلزم الإيمان بطاعتها، وليست وسائط الخلاص.

(2) هذا التعليم يناقض روح الديانة المسيحية، فإن الله روح، وهو يطلب من الذين يعبدونه أن يعبدوه بالروح والحق، وقيل إن الطقوس الخارجية ليست بشيءٍ، وإن الختان لا ينفع شيئاً ولا الغرلة، و«ليس اليهودي في الظاهر يهودياً ولا الختان الظاهر في اللحم ختاناً، بل اليهودي في الداخل هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالحرف هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله» (رو 2: 28، 29). فالمسيحي في الظاهر فقط ليس مسيحياً، والمعمودية التي تخلّص ليست غسل الجسد بماء، بل ترجيع النفس إلى الله (1بط 3: 21). والاعتقاد أن حالة الإنسان أمام الله تتوقف على شيء خارجي، كالجنسية أو عضوية كنيسة أو طائفة، أو ممارسة طقس أو نظام احتفالي، خطأ بحسب الإنجيل، ولم يدخل في الديانة اليهودية إلا في نظام الفريسيين الفاسد.

(3) هذا التعليم يؤدي إلى انحطاط الديانة الروحية، لأنه نظام طقسي يجعل الأسرار وسائط وحيدة للنعمة، ويحسبها وحدها لازمة للخلاص. والسؤال العظيم في بحثنا مع الطقسيين هو: هل يتوقف خلاص الإنسان على الطقوس الخارجية أو على حالته الداخلية؟ وهل نخلص بالأسرار أو بالإيمان؟ فالرسول علّمنا أنه «في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة» (غل 6: 15).

27 - ما هو السر، وكم عدد الأسرار؟

* السر هو رمز مقدس وختم لعهد النعمة، أقامه الله رأساً للدلالة على المسيح وفوائده، ولإثبات نصيبنا فيه، وأيضاً لوضع فرق ظاهر بين أعضاء الكنيسة وسائرالعالم، ولأجل ربطهم بخدمة الله في المسيح حسب كلمته. وتصير الأسرار وسائط فعالة للخلاص، ليس بقوة في ذاتها، ولا في خادمها، ولكن بمجرد بركة المسيح وفعل روحه القدوس في الذين يقبلونها بالإيمان.

أما اعتقاد الكنيسة التقليدية في الأسرار فهو أن السر يتضمن النعمة التي يدل عليها، وأنها تُمنَح بواسطة العمل الخارجي، أي أن في الأسرار قوة حقيقية ذاتية تجعلها فعالة في توصيل الفوائد الخلاصية إلى الذين يقبلونها. (انظر إجابة س 25 من هذا الفصل).

وقد أجمع المسيحيون على أن المعمودية والعشاء الرباني سرّان أو فريضتان، لأربعة أسباب:

(1) إنهما طقسان فرضهما المسيح.

(2) يدل كلاهما في نفسه على معنى، فالمعمودية تدل على التطهير بفعل الروح القدس، ويدل العشاء الرباني على الفداء بالمسيح والغذاء الروحي.

(3) إنهما فرضان دائمان، عُيِّنا للرمز، والتعليم، والختم. ولذلك هما للتثبيت والتقوية، ويفيدان الذين يقبلونهما بالإيمان.

وقد زاد التقليديون خمسة أسرار على السرين اللذين وضعهما المسيح، فصارت سبعة. وقد أثبتت الكنيسة الكاثوليكية أن الأسرار سبعة في المجمع التريدنتيني، مع أن ذلك لم يُعرف في مجامع الكنيسة قبل المجمع الفلورنسي (سنة 1439م) ولم يُصرح بقانونيته حتى الجلسة السابعة من المجمع التريدنتيني (سنة 1547م). وهذه هي الأسرار الخمسة الزائدة:

(1) التثبيت: وهو الخدمة المرافِقة لإدخال المعتمدين في طفوليتهم إلى شركة الكنيسة، وقد رُسم في القرون الأولى للكنيسة وبقي زماناً طويلاً بين الإنجيليين مثلما كان بين التقليديين، فإن الذين يُعمَّدون في طفوليتهم يحسَبون من الكنيسة (بناءً على تصريح والديهم أو أشابينهم) بإيمانهم وتكليفهم بواجباتهم. ومتى بلغوا سن التمييز كانوا يفحصون معرفتهم وسلوكهم، فإذا وُجدوا متعلمين جيداً وخالين من اللوم يأخذون على أنفسهم واجبات تعهدهم في المعمودية، وحينئذ تثبت عضويتهم في الكنيسة.

(2) التوبة: وقسمها التقليديون إلى فضيلة وإلى سر، وقالوا إن النوع الأول يقوم بالحزن على الخطية والعزم على تركها وقصد التكفير عنها. والنوع الثاني هو نظام رتَّبه المسيح لمغفرة الخطايا المرتكبة بعد المعمودية بواسطة حِلَّة كاهن ذي سلطان، وإيفاء الخاطئ عن نفسه العدل الإلهي. فمادة السر هي عمل التائب الذي يتضمن الندامة والاعتراف وإيفاء القانون. ويُراد بالندامة الحزن أو الأسف. والاعتراف المتضمَّن في هذا السر يقتضي أن يكون شفاهياً للكاهن (الأمر الذي لم يُعرف قانونياً قبل المجمع اللاتراني الرابع سنة 1215م) ويتضمن كل الخطايا المميتة. والخطية التي لا يعترف بها صاحبها لا تُغفر له. وصرح في المجمع التريدنتيني أن هذا الاعتراف مع اعتبار سر التوبة ضروري للخلاص. والقول إنه لا يمكن أن تُغفر خطية تُرتكب بعد المعمودية بدون أن يعترف بها مرتكبها للكاهن الذي له سلطان الحل والربط، يعني أن كفارة المسيح المجيدة صارت خالية من الفائدة (انظر فصل 41 س 10).

(3) الرسامة: وجعلوها سراً لاعتقادهم أن المسيح رتبها وأمر بها، وأنها وسيلة لنوال سلطان فائق الطبيعة على تقديس جسده ودمه (في التناول) وعلى مغفرة الخطايا. وعندهم أن الحق والسلطان على الرسامة يختصان برؤساء الكهنة أو الأساقفة لأن لهم وحدهم الامتياز الرسولي أن يمنحوا الروح القدس بوضع أياديهم. ولكننا نعلم أنه لم يكن للرسل سلطان إلا على منح القدرة على عمل المعجزات، ولم يدّعوا استعمال السلطان على منح قوة الروح القدس في الخلاص والتقديس.

(4) الزيجة: وحسبوها سراً لأنها وإن لم يرسمها المسيح، فقد أُشير بها إلى الاتحاد السري بين الكنيسة ورأسها الإلهي. ولأنها إذا تُمِّمت كما يجب كانت وسيلة إلى حلول النعمة الإلهية على الزوجين.

(5) المسحة المقدسة: وتعرَّف بأنها سر تحل فيه النعمة بواسطة المسح بالزيت والصلاة المكتوبة بخدمة الكاهن على المعتمد الذي يمرض مرضاً خطيراً، وتُغفر خطاياه وتزداد قوة نفسه.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل السادس والأربعون
الصلاة
1 - ما هي الصلاة الحقيقية؟

* الصلاة هي خطاب النفس لله، توضح فيها محبتها له، وإجلالها لكماله الإلهي، وشكرها على كل مراحمه، وتوبتها عن خطاياها، واتكالها على محبته وشفقته، وخضوعها لسلطانه، وثقتها في عنايته، ورغبتها في رضاه، وطلبها بركات عنايته الروحية والجسدية. والمؤمن الحقيقي هو الذي يتَّخذ الموقف اللائق أمام خالقه، ويدرك صفاته الإلهية، وعلاقته به باعتباره الخالق والحافظ والفادي، بروح الإكرام والطاعة اللائقة. ونطلق كلمة «صلاة» على التعبير بكلماتنا عن أفكارنا ومشاعرنا وأشواقنا من نحو الله. ولذلك فإن من لا دين له لا يصلي، أما صاحب الديانة الصحيحة فيُظهِرها بصلاته، فالصلاة مع الشكر جزء مخصوص من العبادة الدينية، يطالب الله بها كل الناس، على أن تُقدَّم باسم الابن وبمعونة روحه وحسب مشيئته، بالتعقل والوقار والاتضاع والحرارة والمحبة والمواظبة. ويجوز أن نطلب في صلاتنا كل أمرٍ جائز، وأن نتوسَّل لأجل جميع أنواع الناس، أحياء أو ممن سيحيون. ولا تجوز الصلاة لأجل الموتى، ولا لأجل الذين قد عُلم أنهم ارتكبوا الخطية التي للموت (وهي التجديف على الروح القدس برفض شهادته للمسيح).

2 - ما هي الحقائق التي يجب التسليم بها في الصلاة؟

* تقتضي الصلاة التسليم بأمور كثيرة، نذكر منها:

(1) التسليم بأن الله شخص ذو ذات، عندما يتكلم عن نفسه يقول «أنا» ونخاطبه بالضمير «أنت» فإنه لا يدرك ويجاوب ويحب ويخاطب الذوات إلا الذات. فإن كان «الله» فكرة مجردة، أو قوة مجهولة، أو اسم إشارة إلى نظام الكون الأخلاقي، لكانت الصلاة جهالة.

(2) التسليم بقرب الله منّا ومعرفته أفكارنا ورضاه أن نخاطبه. فلو كان بعيداً ما أمكن أن نخاطبه. لكنه قريب، ويريد أن نخاطبه، وهو يسمعنا، ويعلم أفكارنا من بعيد، ويعرف طلباتنا من قبل أن نطلبها.

(3) التسليم بأنه يدبر كل الطبيعة، ويسيطر على كل خلائقه وكل أعمالهم. فكما أنه خلق كل الأشياء، ومنح المادة والروح خواصهما، فهو أيضاً حاضرٌ في كل مكان، يُدبر هذه القوات، فلا يحدث أمر بدون تدبيره أو إذنه. فإذا أمطرت السماء أو لم تمطر، وأخصبت الأرض أو أقفرت، وخاب رجاء الفلاح، فذلك لأن الله أراد، وجعل قوانين الطبيعة تنتج هذه النتائج. فلا تصح نسبة ما ذُكِر إلى مجرد عمل الطبيعة، بل إلى تدبير الله. فليس للطبيعة سلطانٌ على الله، بل هو مالك ومدبر كل أعمالها ليتمّم مقاصده. وكما نتمم نحن أعمالنا باستعمال القوانين الطبيعية استعمالاً عقلياً اختيارياً، كذلك يتمم الله قصده بها بالحكمة والاختيار. فإذا أراد مثلاً أن يعطي المطر جعل كل الأسباب الثانوية التي تُنزل المطر تعمل معاً لإحداثه. وتستلزم العناية أن يعمل الله في دائرة الكون ما نفعله نحن في دائرة فعلنا المحدود. غير أننا محتاجون للقيام بما هو خارج عنا لنستخدم الأسباب الثانوية، فلا نستطيع أن نعمل شيئاً ضدها أو بدونها، وأما الله فليس محتاجاً إلى ذلك، بل إن شاءت مشيئته يقدر أن يعمل ضد الأسباب الثانوية وبدونها كما يعمل بواسطتها.

(4) التسليم بأن الله فوق العالم ومستقل عنه، وقد خلق العالم، وكل الأشياء المادية بخصائصها وقواتها المختلفة، التي يدبرها هو بنفسه على الدوام بعلمه الكامل وقدرته على كل شيء.

(5) التسليم بأن سلطان الله يصل إلى عقول البشر وأفكارهم وإحساساتهم وميولهم، وأن قلب الإنسان في يديه، ويقدر أن يديره كما تُدار جداول المياه (أم 21: 1).

لقد خلق الله كل الأشياء بكلمة قدرته، وجعل في خلائقه خصائصها، فيحقّ لنا أن نصلي لأجل المطر والصحو والتوفيق في السفر وغير ذلك، وأن نشكر لأجل البركات التي لا تُحصى من عطايا ذلك الآب الجواد.

ولله سلطان كامل على أفكار البشر، فلا يناقض العقل أن نصلي له ليحوّل قلوبنا وقلوب الغير إلى الصلاح، كما نصلي له لأجل الصحة. وكل من يؤمن بقوة الصلاة يدرك أن حوادث العالم المادي والأخلاقي لا تحدث صدفة. بينما يوضح لنا الكتاب المقدس القضاء السابق، يوضح لنا أيضاً فاعلية الصلاة، فلا يمكن أن يكون أحدهما ضد الآخر. وقد قضى الله أن يكمل مقاصده باستعمال ما عيَّنه من الوسائط، ومنها صلوات شعبه. فإن جاز لأحدٍ أن يعترض على الصلاة بزعم أن الله سبق وعيّن ما سيحدث، يجوز أن نعترض على استعمال الوسائط في كل أمر. وإذا كان لا يجوز لأحدٍ أن يقول «إذا قُضي لي أن أعيش فلا داعي لأن آكل» يجوز له أن يقول «إذا قُضي لي أن أحصل على الخير فلا داعي لأن أصلي لأجله!». فإذا كان الله قد قضى بأن يباركنا، فقد قضى أيضاً أننا نطلب منه البركة، لأن علاقة الصلاة بالخير الممنوح لنا كعلاقة أية واسطة للحصول على الغاية المقصودة.

3 - إلى من نوجِّه الصلاة دائماً؟

* لا يجوز توجيه الصلاة إلى غير الله، الآب والابن والروح القدس. فصلاة الوثنيين إلى كائنات وهمية أو إلى أصنام لها أعين ولا تنظر وأيادٍ ولا تخلِّص، باطلة لأنها توجيه صلاةٍ إلى مخلوق لا نعلم بحضوره، ولا برهان على أنه قادر أن يسمع أو يستجيب طلباتنا.

وقد توجّهت صلوات العهد القديم بالإجمال إلى الله الإله الواحد، لأن تثليث الأقانيم في اللاهوت لم يكن حينئذ قد أُعلن إعلاناً تاماً. أما في العهد الجديد فقد توجَّهت الصلاة إمّا إلى الله المثلث الأقانيم، أو إلى الآب أو الابن أو الروح القدس (لكل أقنوم وحده). وتسبيحات المسيحيين قد تتوجّه إلى الله الواحد أو لكل أقنوم على حدة. وتشتمل الصلاة على كل خطاب نوجّهه لله، سواءٌ كان تسبيحاً أم اعترافاً أم طلباً أم تمجيداً، وعليه نرى في العهد الجديد صلوات موجّهة إلى المسيح، فالرسل صلّوا له وهو معهم على الأرض، وطلبوا منه بركات لا يمكن أن يمنحها إلا الله. ومن ذلك قولهم «يا رب، زد إيماننا» (لو 17: 5). واللص المصلوب، لما أشرق عليه نور الحق، قال: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» (لو 23: 42). وآخر كلام نطق به استفانوس الشهيد الأول كان «أيها الرب يسوع، اقبل روحي» (أع 7: 59). وبولس الرسول قال «أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قواني أنه حسبني أميناً إذ جعلني للخدمة» (1تي 1: 12) وقال يوحنا: «الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه. له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر كل ما فيها، سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللحَمَل البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين» (رؤ 1: 5، 6 و5: 13). ويعلّمنا الكتاب أن المسيح هو إله ظهر في الجسد، وقد دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وقد رُفع ليعطي التوبة ومغفرة الخطايا، ويعطي الروح القدس، ويحل فينا ويحيينا. وكل ذلك يدفعنا لأن نوجِّه إليه صلواتنا، بحسب قوله «لكي يُكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله» (يو 5: 23). ولذلك يعبد جميع المسيحيين المسيح ويمجدونه ويلجأون إليه في وقت الضيق، ويعترفون باسمه ويتحدثون بقواته، ويشكرونه ويسبحونه، ويوقفون أنفسهم لخدمته.

وهناك من يعترض على الصلاة لأنها تعني اهتمام الله العظيم بتوافه أمور البشر، مما يقلل مجده ويحط من شأنه. ونسوا أن الله غير محدود في علمه وقوته وحضوره واهتمامه بشعبه. ونحن نعلم أن الإنسان إذا نظر إلى مكان متسع يقدر أن يحيط نظراً وعلماً بأمور كثيرة في وقت واحد. ولكن ما هو الإنسان بالنسبة إلى الله العالم بكل شيء، الذي لا فرق عنده بين القليل والكثير وبين الصغير والكبير، الذي به تحيا جميع الخلائق وتتحرك وتوجد.

4 - ما هي شروط الصلاة المقبولة؟

* لاستجابة الصلاة شروط، أهمها ما يأتي:

(1) أن تكون من القلب: فإن الله روح فاحص القلوب لا يرضى بمجرد الكلام أو بالوقار الظاهري، ولا يقدر الإنسان أن يخدعه. فإذا خلت الصلاة من اشتراك القلب فيها كانت بلا فائدة، كاستعمال كلمات الشكر بدون شكر قلبي، أو كلمات الاتضاع والاعتراف بدون الشعور بعدم استحقاقنا، أو كلمات الطلب بدون التشوّق إلى البركات التي نطلبها. وكثيراً ما نصلي بدون تركيز، فنكرر الكلام بدون تفكير. ومِن الذين يحضرون الكنائس مَن يكررون كلماتٍ وقورة ويتظاهرون أنهم يتَّحدون مع المصلي في صلاته، ولكن بدون شعور وانتباه.

(2) أن تكون بالوقار: لأنه لما كان الله غير محدود في عظمته وقداسته وعلمه وقدرته، وجب على كل الذين يقتربون منه أن يدنوا بالوقار اللائق بجلاله العظيم. ومخافة الله هي رأس الحكمة في كل ديانة صحيحة، وبين كل قوم يعرفون الخالق ويخافون اسمه القدوس، ويسجدون له كما يسجد أهل السماء أمام عرشه. فلا يجوز أن نخاطبه كما نخاطب البشر، أو نكلمه بألفاظ الأُلفة الخالية من التوقير والاحترام. فإذا أردنا أن نصلي كما ينبغي لندرس سفر المزامير، وهو سفر صلوات، لأن كل مزمور إما صلاة طلب أو شكر أو اعتراف. وكثيراً ما تختلط هذه المواضيع معاً لتصف الأحوال الداخلية والخارجية للشخص المصلي. وفي المزامير ترى المرنم يعترف بسلطان الله عليه، ويعلن على الملأ أن الله يدبِّر كل الأمور، وأنه قريب إلى شعبه دوماً وأمين معهم، وأن علاقته بهم علاقة أب محبٍ بأولاده. ولكنهم في جميع ذلك لم ينسوا عظمته غير المحدودة وما يحق له من عبارات الإجلال والتوقير.

(3) أن تكون بالتواضع: وهو الشعور بأننا غير مستحقين بسبب فسادنا وعدم أهليتنا في عيني الله. وهو روح تواضع أيوب عندما وضع يده على فمه وقال «أندم في التراب والرماد» وإشعياء إذ قال «ويل لي لأني نجس الشفتين» وروح العشار الذي لم يتجاسر أن يرفع عينيه إلى السماء بل قرع على صدره قائلاً «اللهم ارحمني أنا الخاطي». وقد حسب كثيرون هذا الكلام مبالغة أو رياءً، ولكن الله اعتبره مناسباً، لأنه يعبّر بصدقٍ عن المشاعر التي تنشأ من إدراكنا أننا خطاة في عيني الله البار الطاهر.

(4) أن تكون بلجاجة: وقد علَّمنا المسيح لزومها ثلاث مرات. الأولى في قصة المرأة الفينيقية التي لم تكفّ عن الصراخ قائلة «ارحمني يا سيد يا ابن داود» حتى نالت طلبها (مت 15: 22). والثانية في مثل قاضي الظلم الذي قال «فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني أنصفها لئلا تأتي دائماً فتقمعني» وقال الرب «اسمعوا ما يقول قاضي الظلم! أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً وهو متمهّل عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً» (لو 18: 5-8) والثالثة في قصة الإنسان الذي رفض أن يعطي صديقه خبزاً، وقال فيه المسيح «وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه، فإن من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج» (لو 11: 8). واللجاجة من جانبنا تعني أننا ندرك قيمة البركات التي نطلبها. فإذا صلى أحد لأجل حياته أو لأجل حياة أحبائه يجب أن يصلي بلجاجة حارة راجياً الاستجابة.

(5) أن تقترن بالتسليم: فإن من عرف علاقته بالله، مهما كانت طلبته، يقول «يا رب، لتكن لا إرادتي بل إرادتك». وإن كان يليق بالابن أن يسلم في كل طلباته لأبيه الأرضي، فكم يجب أن نُخضع إرادتنا لأبينا السماوي، الذي وحده يعلم ما هو الأوفق لنا، والذي إذا استجاب كل طلباتنا ربما آل كثيرٌ منها إلى ضررنا. وقد ترك لنا المسيح وهو في بستان جثسيماني مثالاً لذلك يجب أن لا ننساه أبداً.

(6) أن تقترن بالإيمان: فيجب أن نؤمن: (أ) أن الله موجود. (ب) وأنه قادر أن يسمع صلواتنا ويستجيبها. (ج) وأنه يحب أن يستجيب الصلاة. (د) وأنه لا بد أن يستجيب صلواتنا إذا كانت موافقة لمقاصده الحكيمة ولخيرنا الأعظم. ولنا في الكتاب أوضح التأكيدات وأقواها لهذا الإيمان، فقد أمرنا المسيح «اسألوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم». وأكد لنا ذلك في وعده بقوله «مهما سألتم باسمي فذلك أفعله» (يو 14: 13). وقوله أيضاً «إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السماوات» (مت 18: 19). ولكن جميع مواعيد الله هي على شروط، إما ظاهرة أو مقدَّرة، فلا يخال عاقل أن الله أخضع سياسته للعالم، أو رتّب عطاياه لطلبات البشر أصحاب الحكمة القاصرة بوعده إنه يفعل لهم كل سؤلهم، حتى إن لم يوافق حكمة مقاصده. وقد جاء بيان الشرط المقدَّر في أماكن كثيرة، كقول يوحنا «هذه هي الثقة التي لنا عنده: أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا» (1يو 5: 14). وقد تُستجاب الصلاة بطريقة لا ننتظرها، كما استجاب الله صلاة بولس ليُنقذه من شوكة جسده (2كو12: 8، 9). فإذا كنا مستنيرين روحياً سنثق أن استجابة الله هي أفضل شيء لنا. وأكثر ما ينقص صلوات المسيحيين هو عدم ثقتهم بمواعيد الله الثمينة، وعدم إيمانهم بأنه حاضر ومستعد لإجابتهم. فإذا كان الآباء الأرضيون يطلبون ثقة أولادهم بهم، ويحزنون إذا رأوا فيهم ما يدل على عدم الاتكال، فكم بالحري أبونا السماوي يطلب أن يرى فينا كل ذلك.

(7) أن تُقدم باسم المسيح: كما قال المسيح لتلاميذه «مهما سألتم باسمي فذلك أفعله. لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي. إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا» (يو 14: 13 و15: 16 و16: 24). والمقصود باسم المسيح نفس المسيح، والمقصود بالإيمان باسم ابن الله الوحيد الإيمان بأن المسيح هو ابن الله، وأنه قد أعلن كذلك مخلصاً وحيداً للبشر. والمقصود بالقول إن فلاناً يعمل باسم فلان هو أنه يعمل بسلطانه وبقوته، وبهذا المعنى قال المسيح إنه عمل الأعمال باسم أبيه، وقيل كثيراً إن الرسل صنعوا العجائب باسم المسيح. والمقصود بطلب شيء باسم المسيح هو طلب ذلك الشيء لأجله ولأجل اعتباره عند من يُطلب منه. فلما أمرنا المسيح أن نصلي باسمه أرادنا أن نقدم شخصه وعمله سبباً لاستجابتنا. فيجب أن نبني اتكالنا على استحقاق المسيح، لا على استحقاقنا ولا على صفاتنا، ولا على مجرد رحمة الله، لأن الإنجيل يقول إن كل بركة يمنحها الله للبشر هي في المسيح، ومن نتائج شفاعته واستحقاقه.

5 - ما هي شروط الصلاة الفعالة؟

* إذا قُدِّمتُ الصلوات المقبولة بموجب الشروط السابقة ولم يحدث جواب بحسب انتظار المصلي، فما هو السبب؟ هل ترك شيئاً مما يتوقف عليه نجاح الصلاة؟ وماذا يلزم لتُستجاب صلواته؟ وجواباً لذلك نقول: إن شروط النجاح تتضح من آيات كثيرة، منها قول المرنم «تلذَّذْ بالرب فيعطيك سؤل قلبك» (مز 37: 4) وقول يعقوب «تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون رديئاً لكي تنفقوا في لذاتكم» (يع 4: 3). وقوله أيضاً «ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجاً من البحر تخبطه الريح وتدفعه» (يع 1: 6). وقول المسيح «إن ثبتم فيَّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم» (يو 15: 7) وقوله «متى وقفتم تصلّون فاغفروا إن كان لكم على أحد شيءٌ، لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاتكم. وإن لم تغفروا أنتم لا يغفر أبوكم الذي في السموات أيضاً زلاتكم» (مر 11: 25، 26).

وحين صلى بولس لله ثلاث مرات أن تفارقه شوكة جسده، استجاب الرب بقوله «تكفيك نعمتي» (2كو 12: 8، 9). وكذلك داود صلى لأجل ابنه من بثشبع ولم يستجب الله طلبه (2صم 12: 16-23). فالوعد العام باستجابة الصلاة محدود بشروط:

(1) يتوقف النجاح في الصلاة على حال المصلي وصفاته: فليطلب مجد الله لا مجد نفسه أو غرضه الشخصي الصادر عن الطمع أو الخبث أو الرغبة فيرفع شأن ذاته. وينبغي أن يكون غيوراً حاراً في صلواته لا بارداً بلا انتباه. وينبغي أن يرافق الإيمان الحي الصلاة حتى يتحقق أن الله سامع ومنتبه له ويستجيبه بمقتضى حكمته. ويجب أن يثبُت المصلي في المسيح وتثبُت أقوال المسيح فيه. فالإنسان المتحد بالمسيح يشارك المسيح في أفكاره ويكون فيه روح المسيح. وكلما اشتد هذا الاتحاد تكون صلواته عبارة عن فكر المسيح وإرادته، ولذلك تكون صلاته فعالة. والصلوات الفعالة خاصة بالقديسين أهل التقوى والاتحاد الروحي بالمسيح.

(2) يتوقف نجاح الصلاة على ما نطلبه، فليكن بحسب مشيئة الله، لأن معرفة الإنسان وحكمته قاصرتان. فلنسلم الأمر لله ليتصرف بحكمته في استجابة الصلاة، لئلا يؤذي المصلي نفسه إن أعطاه الله ما يطلبه تماماً. فلو أعطى الله للإنسان الجاهل كل ما يطلبه، لا تتم مقاصده الصالحة في تربية المؤمن وتقديسه وإعداده للحياة السماوية وخلاص نفسه من تجارب إبليس. وكثيراً ما يكون عدم حصولنا على مطالبنا في الصلاة موضوع شكر، كما يكون الحصول عليها موضوع شكر أيضاً.

(3) يتوقف النجاح في الصلاة على مدى موافقتها لمقاصد الله وحقوقه: فليست علاقتنا بالله مجرد علاقة محتاج بمحسن، لكنها علاقة أبناء بأبيهم، وعلاقة رعايا بالملك السماوي، فالله حاكمنا، وله مقاصد وحقوق. وهو يستجيب صلواتنا بالطريقة التي توافق مقاصده في المصلي لتربي فيه الفضائل وتزيد منفعته لغيره ونجاحه في خدمة المسيح.

ونحن لا نقدر أن نحكم على نجاح الصلاة من مجرد استجابتها، فلا يعلم الصلاة الحقيقية الفعالة غير الله، الذي وعدنا أن صلاة البار تقتدر كثيراً في فعلها.

6 - ما هي أنواع الصلاة المختلفة؟

* الصلاة هي مخاطبة الله، وتتضمن المشاعر الروحية نحو الله في الفكر والشعور والأشواق، بكل الاحترام والوقار والشكر والحزن على الخطية والشعور بالضعف. فالإنسان الذي يحيا ويسير مع الله يصلي على الدوام طاعةً للأمر الرسولي «صلوا بلا انقطاع». ومن واجباتنا وحقوقنا أن لا نقطع هذا الحديث مع الله. فليكن القلب مثل مذبح البخور الذي لا تنطفئ النار عنه أبداً.

وتُقسم الصلاة إلى ثلاثة أقسام:

(1) السرية: وهي واجبة لأن المسيحي يحفظ حياة الله في نفسه بروح الاقتراب منه وباتحاده الدائم معه. ويحتاج المؤمن ليحفظ حياته وصحته الروحيتين إلى أوقات معينة ومرتبة للصلاة، كما يحتاج جسده إلى طعامه اليومي. وقد قال المسيح «متى صلَّيت فادخل إلى مخدعك وأَغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيةً» (مت 6:6). ولنا في الكتاب مثال من المسيح نفسه، فإنه كثيراً ما انفرد للصلاة، وكثيراً ما صرف فيها ليالي كاملة. فإذا كانت نفس المسيح النقية قد احتاجت إلى أوقات لمخاطبة الله، فمَن مِن شعبه يتجاسر أن يهمل هذه الواسطة المهمة للنعمة؟ إن أقل ما يجب على المسيحي أن يفتتح كل يوم ويختمه بالصلاة السرية الانفرادية.

(2) الصلاة العائلية: وهي تتضمن صلوات أهل البيت واجتماعات شعب الله لأجل الصلاة المتبادلة. فعلى الإنسان أن يشترك مع عائلته ومع إخوته في الرب في ما يختص بحياته الداخلية والخارجية، فالرباط العائلي أعظم رباط بين البشر، ويجب أن يتقدس بالصلاة معاً. وتتطهر علاقة الوالدين والأولاد وتتقدس إذا كانت العائلة تجتمع صباحاً ومساءً لعبادة الرب. ولذلك يجب أن يكون رأس العائلة قادراً على قراءة الكتاب المقدس وعلى التقدُّم في الصلاة. وعلى الذين لا يُحسنون القراءة أن يتقدموا في الصلاة. وعلى أهل الإيمان أن يحافظوا في بيوتهم على هذا الترتيب للصلاة. ومسؤولية رب البيت لعائلته ومسؤوليته لله تلزمه أن يجعل مسكن عائلته بيتاً لله. وإذا لم يجعله كذلك فكيف يمنع دخول الأرواح الشريرة إليه!

(3) الصلاة الجمهورية: والمقصود منها العبادة والتعليم، وتتضمن العبادة الصلاة والترنيم، ويتضمن التعليم قراءة كلمة الله والوعظ. ويجب أن نحفظ التوازن بين العبادة والتعليم، لأن بعض المسيحيين جعلوا التعليم ثانوياً بالنسبة للعبادة، فخصّصوا لها ضِعف الوقت المخصص للتعليم، وليس هذا مناسباً، لأن معرفة الكتاب أمر مهم. ولا يمكن أن تكون هناك عبادة حقيقية لله بدون معرفته معرفة صحيحة، ولا أن تحدث توبة أو إيمان أو حياة طاهرة بدون فهم الحقائق التي تُبنى عليها حياة التقوى والطاعة. فالديانة هي خدمة عقلية لا يتفق الجهل معها، ولذلك سُمي القسوس في الكتاب «معلِّمين». والأمر الأعظم الذي أمر به المسيح ورسله هو قوله «اذهبوا وعلّموا جميع الأمم. فذهبوا وكرزوا في كل موضع». وقال بولس إن المسيح لم يرسله ليعمد أو يكمل الخدمات الدينية فقط، بل ليكرز بالإنجيل الذي هو حكمة الله للخلاص. ولم تقدر قوة بشرية أن تحوِّل هذا الرسول من الكرازة إلى مجرد العبادة.

ومع أن التعليم يجب أن يكون الأمر الأهم في خدمة يوم الرب، كما كان في العصر الرسولي، إلا أننا لا يجب أن نهمل الصلاة الجمهورية والعبادة القلبية. وليكون هذا الجزء من الخدمة المقدسة بانياً للشعب يجب مراعاة ما يأتي:

(1) أن يكون في الخادم روح التقوى الحقيقية، وأن يمارس في قلبه كل ما يعبِّر عنه في صلواته من المشاعر والرغبات.

(2) أن يحفظ غيباً أفكاراً وآيات كثيرة من الكتاب، فإن رجال الله القديسين قديماً تكلموا مسوقين من الروح القدس، وكانت كلماتهم مرتبة من روح الله، سواء كانت في التمجيد أو الشكر أو الاعتراف أو الطلب، فأوضحوا في كلامهم فكر الروح، وهو أنسب كلام للتعبير عن المشاعر والأشواق التي يجعلها الروح في أفكار شعب الله. ولا توجد صلاة مناسبة للبنيان أكثر من التي يكثر فيها استعمال عبارات الكتاب.

(3) يجب أن تكون الصلاة على ترتيب حسن، تجمع كل الأجزاء والمواضيع المناسبة. وهذا يمنع اضطرابها وتشويشها وتكرارها.

(4) يجب أن تكون موافقة لمقتضيات الأحوال، سواء كانت خدمة يوم الرب الاعتيادية، أو ممارسة الأسرار، أو الخدمات الخاصة في الأيام المعيّنة للشكر والصوم والاتضاع.

(5) يجب أن تكون كلماتها بسيطة ووقورة وصحيحة.

(6) يجب أن تكون الطلبات قصيرة، فالطول غير اللائق في الصلوات يؤدي إلى التشويش وكثرة التكرار بدون فائدة.

7 - هل يصحّ استعمال الصلوات المكتوبة المرتَّبة في العبادة الجمهورية؟

* اختلف المسيحيون في هذه المسألة، وجرت العادة باستعمال كتب الصلاة في بعض الكنائس، ولم يسمحوا باستعمال غير هذه الصلوات. على أن غيرهم ارتاب في جواز ذلك وحكمته، واستحسن معظم الإنجيليين الحرية في ذلك، واختاروا الصلوات الارتجالية، مقتنعين بما يأتي:

(1) عدم وجود دليل في كتاب الله على أن الصلوات المكتوبة هي المطلوبة من الكنيسة، وعدم وضوح استخدام الكنيسة الأولى لهذه العادة.

(2) عدم موافقة ذلك لوظيفة الروح القدس في مساعدة المؤمنين (رو 8: 26).

(3) عدم موافقته للهدف من الصلاة، وهو التعبير عن المشاعر القلبية الأصلية فينا بإخلاص وشوق. فإذا التزمنا باستعمال عبارات صاغها غيرنا، كانت تعبيراً عن أفكارهم، وربما لا توافق أحوال قلوبنا واحتياجاتها. فالصلوات المكتوبة للعبادة تعطل حرية الأفكار وتحدّ حرية النفس في مخاطبة الخالق. وقال البعض إن ذلك ثقل على روح الصلاة، يؤدي للفتور وروح الاستناد على العبادة الشفاهية. وقال غيرهم: لا، بل إن الانتباه والتقوى الحارة يغلبان كل ميل للتغافل، وشهدوا أن تأثير الصلوات المكتوبة في قلوب العابدين حسن ومفيد. وقد اختلف أفاضل الأتقياء في الحكم في هذا الموضوع.

ولا نقول إن عبادة الله بصلوات مكتوبة لا يناسب التقوى، بل يمكن أن القلب المستقيم الذي يحب الله يعبده عبادة مقبولة باستعمال صلوات مكتوبة. لكن إذا فكرنا في احتياجات البشر عموماً، وفي أهداف الصلاة وفاعليتها، سنفضّل الصلاة الحرة المرتجَلة.

8 - كيف تبني الصلاة النفس روحياً؟

* قلنا إن وسائط النعمة هي الوسائط التي عيّنها الله ليوصّل تأثيرات الروح والحق إلى نفوس البشر، وهي: الكلمة والأسرار والصلاة. فالصلاة هي العلاقة بين الخالق والمخلوق، وهي شرط منح البركات الروحية، الذي يجعل كل أمر يؤول لخيرنا الأفضل، وهي تقرّبنا إلى الله مصدر كل خير، الذي يحرك فينا كل مشاعر الوقار والمحبة والشكر والخضوع والإيمان والفرح والتعبد. ومتى اقتربت النفس إلى الله يقترب الله إليها ويُظهِر لها مجده ومحبته، ويمنحها السلام الذي يفوق كل عقل. قال المسيح «إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 23) ففي هذا الاتحاد لا بد أن تتقدس النفس.

9 - هل للصلاة قوة؟

* هناك قُوى روحية فاعلة في العالم، منها القوى العقلية والروحية والأخلاقية، كقوة الإيمان والاقتناع والتمسك الشديد بمبدأ معلوم، وقوة الحق، ومشاركة الآخرين في مشاعرهم، وقوة الضمير. وهناك قوة أخرى أعظم من كل قوة العالم وفوقه، وهي قوة الله التي تعمل مع أعمال كل الخلائق وتديرها بدون أن تلغي طبيعة تلك الخلائق. وتنهض هذه القوة السامية للعمل بواسطة الصلاة. فبصلاة موسى نجا بنو إسرائيل من الهلاك، وبصلاة صموئيل تشتت جيش العدو، فإن «طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها. كان إيليا إنساناً تحت الآلام مثلنا، وصلى صلاة أن لا تمطر، فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلى أيضاً فأعطت السماء مطراً، وأخرجت الأرض ثمرها» (يع 5: 17، 18). وطلب بولس مراراً من المؤمنين أن يصلّوا لأجله، وأمر أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، ليقضي المسيحيون حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار (1تي 2: 1، 2) وهذا يدل على أن للصلاة قوة. ومتى سلّم الإنسان بوجود إلهٍ حق يدبر كل الأمور تزول من عقله الشكوك في فاعلية الصلاة، وتصير له مصدراً للفرح والقوة الروحية، وأساساً للطمأنينة في الحاضر والثقة من جهة المستقبل، كما حدث مع شعب الله في كل العصور. قال المرنم «رب الجنود معنا. ملجأنا إله يعقوب» (مز 46: 11).

وقوة الصلاة تناقض القول إن فائدة الصلاة هي مجرد تعويد المصلي أن يسلم للإرادة الإلهية، وكأن فائدة الصلاة الوحيدة هي إعانة القلب ليقول «ليس إرادتي بل إرادتك يا الله». ومع أن التسليم لإرادة الله شرط من شروط الصلاة المقبولة، إلا أنه ليس غايتها الوحيدة، كما يتضح من صلوات الأتقياء في العهدين القديم والجديد، ومن أقوال الكتاب المقدس في هذا الموضوع، لأنه لا بد من طلبٍ في الصلاة غايته نوال المطلوب، لا تعويد المصلي أن يسلّم ويرضى بعدم نوال المطلوب. وإذا راجعنا صلوات رؤساء الآباء والأنبياء والرسل الأتقياء والمسيح نفسه، وجدنا أنهم طلبوا طلبات بقصد نوالها، وليس لأنهم أرادوا أن يزيدوا روح التسليم في قلوبهم لله.

10 - ما هي الاعتراضات على فاعلية الصلاة، وما هو الرد عليها؟

* إن مجرد وجود الاعتراضات على حقيقة علمية أو دينية ليس أمراً غريباً ولا مهماً. والسؤال الأهم هو: هل هذه الاعتراضات صحيحة؟ لقد قامت اعتراضات كثيرة على العلوم الفلسفية والطبيعية والدينية، ولكن تبيّن ضعف كثير منها، لأنها نتجت عن الجهل أو الكبرياء أو العداوة للحق. وفي بعض الأحيان لو أعاد المعترض النظر إلى ما اعترض عليه لرآه حقاً. فالاعتراضات على تعليم سامٍ فائق الإدراك كفاعلية الصلاة من الذين لا يقبلونه بالإيمان والوداعة والإكرام لوعد الله أمرٌ وارد. وقد اعترضوا على الصلاة بالأقوال الآتية:

(1) لا فائدة للصلاة، ويمكن أن يستغني البشر عنها بدون خسارة.. ونجيب: إن هذا باطل، بدليل أن الله الذي يعرف احتياجات البشر أمرَنا في حكمته أن نصلي، لأن للصلاة منفعة عظيمة، لا لنحصل على طلبنا فقط، بل لننمي التقوى في قلوبنا أيضاً. وقد لجأ البشر إلى الصلاة في كل القرون، مما يبين أن العقل البشري مقتنع بأنها لازمة للإنسان.

(2) إذا كانت الصلاة فعالة هكذا، وجب أن يظهر فعلها في المصلّين، ولكننا لا نجدهم أفضل من غيرهم، فما الفائدة من صلواتهم؟.. والجواب على ذلك أن منافع الصلاة ونتائجها الثمينة غير ظاهرة لأعين العالم، ولكنها معروفة عند أهل الصلاة، فليس للعالم خبرة في حصول المصلي على مغفرة خطاياه، وعلى السلام الداخلي والتطهير القلبي والقوة الروحية والرجاء المنعش والراحة في الضيق والتعزية في الحزن والإرشاد في الحيرة. ولا يعرف أهل العالم لأجل أي شيء يصلي الأتقياء، ومن أجل من يطلبون. ولا يعرف المسيحيون إلا جانباً صغيراً من نتائج تضرعات الإيمان. ومن يعرف ماذا تكون أحوال الدنيا وأحوال الأتقياء أنفسهم لولا صلواتهم؟ فلو كفّ كل مصلٍّ عن طلباته لزادت الرذائل والقبائح والمظالم كثيراً. ومن الذي حامى عن طهارة المجتمع وسلامته، وجدَّ في الإصلاحات والأعمال الخيرية غير أهل الصلاة؟ ولا شك أن تلك الأعمال نتيجة صلواتهم مع غيرتهم في إتمام واجباتهم.

(3) لا تتضح منفعة الصلاة بالامتحان العلمي الدقيق، فلم يعتقد بفائدتها إلا العجائز!.. والجواب على ذلك أن ذلك الامتحان العلمي الدقيق فوق طاقة البشر لأنه يجب لصحته أن يرضى الله عليه ويكون شريكاً في إجرائه، وإلا فقد أصبح الامتحان ناقصاً وباطلاً. ولا يوجد مؤمن تقي يرغب في دخول مثل هذا الامتحان، لأن من يعرف الله ويريد أن يُقنع الكفرة سيأبى أن يستعرض قوة صلاته أمام المعترضين عليها. وعلى فرض إجراء ذلك الامتحان، كيف نقدر أن نتحقق إن كانت الصلوات المرفوعة حقيقية في أحوال غريبة وسخيفة كتلك؟ فمَن مِن الأتقياء يسلم نفسه لهذا الهذيان ليبرهن ما لا يشك هو في صدقه؟ وإذا جرى ذلك الامتحان في موضوعٍ تكون لليد البشرية فعل فيه، فكيف نقدر أن نتحقق إن كانت تلك فاعلية الصلاة أو نتيجة تدخُّل يدٍ بشرية؟ فإذا جرى ذلك الامتحان في مريضين، وصُلِّي لأجل شفاء الواحد ولم يُصلَّ لأجل شفاء الآخر، فكيف نعرف إن كانت حالتا الشخصين متساويتين تماماً عند بداية ذلك الامتحان؟ وكيف نقيّم فاعلية الأدوية واعتناء الطبيب والممرضة وبراعتهما؟ وكيف نقدر أن نتأكد إن كان هناك شخص لا نعرفه يصلي لأجل المريض المفروض أنه متروك بدون صلاة؟ فربما كان كثيرون من الأتقياء يصلون لأجل الشخصين دون أن يعرف أحدٌ بذلك، ولا سيما إذا جرى الامتحان بمعرفة العالم كله؟ لقد وعد الله أن يستجيب صلوات الأتقياء، لكنه لم يعد أن يتنازل لإجابة اعتراض الكافرين. فهذا الامتحان الجسدي المنظور المقصود بروح الكفر هو امتحان بلا معنى، ومستحيل! وقد امتُحنت الصلاة في حياة الأتقياء وتاريخ الكنيسة، وكان لسان حال الكنيسة في كل العصور قول المرنم «أحببت لأن الرب يسمع صوتي تضرعاتي، لأنه أمال أذنه إليّ، فأدعوه مدة حياتي» (مز 116: 1، 2). وقد تنازل الله مرة في العهد القديم (إجابة لطلب إيليا) أن يعلن نفسه للناس إعلاناً خاصاً ليبرهن أنه يجيب صلوات شعبه، فقال إيليا «أيها الرب إله إبراهيم وإسحاق وإسرائيل، ليُعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل، وأني أنا عبدك، وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور. استجبني يا رب استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حوَّلت قلوبهم رجوعاً» (1مل 18: 36، 37). ولكن هذا التنازل كان بطلب نبي من الأنبياء لأجل تمجيد اسم الرب وإقناع شعبه وتخجيل أعدائه.

(4) القوانين الطبيعية الثابتة تمنع فاعلية الصلاة، بدليل أن كل القوانين الطبيعية تجري مجراها ولا تقبل أدنى معارضة تغيّر فعلها العادي الذي لا يتغير.. والجواب على ذلك أنه لا بد من واضع لكل شريعة طبيعية، وهو الله. فلا ننظر للشريعة وننسى واضعها، ولا يجوز رفع شأنها على شأن خالقها، ولا يصح ادعاء خروجها عن دائرة سلطته، لأنه ليس من شريعة طبيعية تجري مجراها بقوتها الذاتية بغير علاقة بإرادة واضعها. ومن الواضح أن وراء الشرائع جميعها إرادة الخالق القادرة أن تجريها مجراها المعتاد، أو تستخدمها في مجرى آخر، أو تحصر فعلها، أو تُدخل فواعل أخرى تعمل معها، أو أن توقفها تماماً إذا شاءت. فجميع الشرائع الطبيعية هي خادمة لله لا متسلطة عليه، وهي تُجري مقاصده. لهذا أوجدها، وهو قادر على أن يستخدمها حسب إرادته. وقد استحسن الله أن يعطي الإنسان بعض القدرة على استخدام الشرائع الطبيعية الثابتة لإتمام مقاصد خاصة، فطيّر الحديد في الهواء، وتغلب على جاذبية الأرض وانطلق في الفضاء الخارجي. فالقدرة التي للإنسان أولى أن تكون للخالق. فالله قادر أن يستخدمها لهدفٍ خاص أو يوقف عملها إذا اقتضى الأمر، وليس من طبيعة الشرائع أن تتسلط على الخالق. وواضح أن معرفتنا بتلك الشرائع وثبوتها جزئية لا كاملة، ويحتمل بل يرجح أن ثبوتها هو فقط بالنسبة إلينا وإلى اختبارنا إياها. ونحن لا نتساءل: هل تستجيب الشرائع الثابتة للصلاة؟ بل: هل يستجيب الخالق واضع تلك الشرائع والمتسلط عليها صلواتنا؟ فنحن لا نوجّه صلواتنا إلىالشرائع، بل إلى من هو أعلى منها. ولما كان هو صاحب سلطانٍ وقادراً، ولما كان يريد أن يستجيب صلواتنا، زالت الصعوبات من أمامنا. وقد اتضح هذا من المعجزات المتنوعة التي أجراها الأنبياء والرسل والسيد المسيح نفسه.

ولا يصعب على المؤمن أن يسلِّم بقدرة الله على توقيف الشرائع الطبيعية أو تغيير أحكامها أو التصرف بقوته رأساً بعكس نظامها. ونحن لا نطالب الله أن يُجري معجزات ليستجيب مطالبنا، لأن لديه طرقاً أخرى خلاف المعجزات، فهو قادر مثلاً أن يجمع قوات طبيعية بنِسبٍ متنوعة ليُنتج من تركيبها نتائج وفق غايته، وذلك في دائرة خارجة عن إدراك البشر، أو في دائرة لا يبلغها اختبار البشر المحدود. فكما أن الإنسان يُجري تفاعلات كيماوية أو غيرها لينفذ غايته، ويشق الصخور بالديناميت، هكذا لله قدرة على التصرف بوسائل معروفة لنا أو غير معروفة. فهو يقدر بمعرفته السابقة غير المحدودة أن يسبق بترتيب الأحوال والحوادث حتى تتزامن صلاة المؤمن مع استجابتها، فيعطي المصلي طلبه في وقته الموافق، ويأتي الجواب كأنه على سبيلٍ طبيعي بوسائط عادية، ولو أنه في الحقيقة (الخافية علينا) معجزة! والصلاة الحقيقية هي صلاة الروح القدس في المؤمن، حتى أن الله يجعل المؤمن يصلي في الوقت المناسب لينال ما يقصد الله أن يعطيه له، لأن مقاصد الله سابقة للشرائع، وهو يستخدمها ليتمم مقاصده، فهو لم يخلق العالم وينظم شرائعه لتمنعه تلك الشرائع من إتمام مقاصده!

(5) تستلزم إجابة الصلاة الإيمان بحدوث المعجزات، والمعترض لا يؤمن بالمعجزات.. والجواب على ذلك أن تلك الإجابة لا تستلزم إجراء معجزة، كما بينّا سابقاً. وإن صحّ أنها تستلزم إجراء معجزة فذلك لا يوجب رفضها. على أن الصلاة المقبولة إما أن تكون موافقة لمقاصد الله فلا بد من إجابتها، وإما أن يسلِّم المصلي أمره لحكمة الله في صلاته نفسها، ويرجو الجواب الموافق لتلك الحكمة. وعلى هذا فلا بد من حصوله على ما يطلبه، إمّا بحسب طلبه أو بطريقة أخرى أنسب، بحسب الحكمة الإلهية. وليس في كل ذلك ما يستلزم المعجزة.

(6) الصلاة مخالفة للعقل.. والجواب على ذلك أنها ربما خالفت عقل المعترض، ولكنها لا تخالف عقل المؤمن ولا عقل الخالق، كما يتضح من القول: «فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال» (1تي 2: 8). وقد صلى المسيح للآب السماوي وأمرنا أن نصلي. فإذا قيل إن الله جوّاد إلى غير نهاية، وهو يمنحنا بركاته بدون أن نطلبها، قلنا إن الغاية في صلواتنا ليست أن نزيد جود الله، بل أن نستعمل الوسائط المعينة لنوال فوائد جوده. وإن قيل إن الله غير متغيِّر فلا نفع من صلواتنا لأنها لن تغيّر ما سبق ورتّبه، قلنا إن عدم تغير الله لا يعني أنه لا يغيّر معاملته لنا، فعقابه للخاطئ لا بد يحدث، ولكن إذا تاب الخاطئ وتمسك بالمسيح، عامله الله بالرحمة. فصلواتنا لا تغيّر مبادئ الله بل تغير معاملته لنا بحسب مبادئه الثابتة. لقد عيّن الله الصلاة واسطة للاقتراب إليه، واتحاد إرادتنا بإرادته، وزيادة شعورنا باحتياجنا إليه، فما نظنه مستحيلاً هو ممكن عند الآب السماوي المحب، الذي يطالبنا بالصلاة ليكمل العلاقة بيننا وبينه ولينمّينا في أعمال التقوى.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل السابع والأربعون
الوفاة وحالة النفس إلى وقت القيامة
1- ما هو موضوع هذا الجزء، وما هي البحوث الرئيسية فيه؟

* موضوعه الإسخاتولوجيا، وهي مركبة من كلمتين يونانيتين معناهما «عِلم الأخرويات» أي الأمور المختصة بمستقبل النفس، ونهاية العالم، ومجيء المسيح ثانية، والقيامة، والدينونة، ونصيب الأبرار السماوي، وقصاص الأشرار الأبدي. وهي أمور غاية في الأهمية، لأن المسيحي والكنيسة، لا يبلغان الكمال في هذه الحياة الدنيا بل في العالم الآتي، الذي تسبقه الوفاة ومجيء المسيح ثانية والقيامة والدينونة.

2- ما هو الموت الجسدي، وبماذا يصفه الكتاب المقدس؟

* الموت الجسدي هو انفصال النفس عن الجسد فتزول منه الحياة، وتنحل عناصره البسيطة ويعود إلى التراب. وهو يختلف عن الموت الروحي الذي هو انفصال النفس عن الله، ويختلف عن الموت الثاني الذي هو نفي النفس الأبدي من حضرة الله وشقاء الإنسان نفساً وجسداً في جهنم. ويُعبَّر عن الموت الجسدي في الكتاب المقدس بانضمام الإنسان إلى قومه (تث 32: 50) والذهاب في طريق الأرض كلها (يش 23: 14) والانضمام إلى آبائه (قض 3: 10) ورجوع التراب إلى الأرض (جا 12: 7) والنوم (يو 11:11) والموت (أع 5:5) ونقض بيت خيمتنا الأرضي (2كو 5: 1) والاستيطان عند الرب (2كو 5: 8) والرقاد بيسوع (1تس4: 14) والانحلال (2تي 4: 6) والنزول إلى القبر (أي 7: 9).

3- ما هي علاقة الموت بالخطية، وكيف يُحسب موت المؤمن؟

* الموت أجرة الخطية. وقد وصف الكتاب المقدس كل أضرار الخطية، روحية أو جسدية أو عقابية، بكلمة «موت» كما قيل «لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت» (تك 2: 17). ونُسِب دخول الموت للعالم إلى فعل الخطية (رو 5: 12). أما موت المؤمن فليس قصاصاً، لأن المسيح قد أخذ على نفسه القصاص أي عقاب الشريعة بتمامه، فصار الموت للمؤمن واسطة الانتقال إلى الحياة الأبدية. وكما أن كل مصائب المبرَّرين أمر من أمور التأديب الأبدي لا القصاص الشرعي، كذلك الموت لا يُعتبر علامة غضب الله، بل واسطة حَمْل المؤمن إلى دار البقاء كما قيل «عزيزٌ في عيني الرب موت أتقيائه» (مز 116: 15 قارن رو 8: 1، 2 و14: 8 و1كو 3: 22 و15: 55).

4- برهن أن الموت الجسدي ليس هو ملاشاة النفس والجسد.

* القول بملاشاة النفس والجسد معاً يخالف تعليم الكتاب المقدس الذي ينادي بخلود النفس وبقيامة الجسد أخيراً (قارن الكلام على خلود النفس في فصل 23 س 14-16). وتعلّمنا الفطرة أن الإنسان يبقى بعد الموت، وهذا ضروري لإكمال غاية الخالق في خلق الإنسان، ولبيان حقيقة أن الله حاكم أخلاقي للأبرار والأشرار. والقول بالملاشاة لا يوافق طبيعة النفس التي هي جوهر بسيط لا تقبل الانفصال أو التجزؤ. ولا يذكر الكتاب أبداً أن الله يلاشي الحياة العقلية الروحية بعد أن خلقها. وهذا ما تشهد به كلمة الله (مت 22: 31، 32 و2تي 1: 10).

5- ماذا يعلمنا الوحي في حالة النفس بعد الموت؟

*يعلمنا أن النفس لا تموت ولا تنام، وأن نفوس الأبرار تكمل حينئذ في الطهارة وتدخل السماء حيث تنتظر فداء أجسادها الكامل، وأن نفوس الأشرار تُطرح في جهنم حيث تبقى في القصاص والظلام محفوظة إلى حكم اليوم العظيم (لو 23: 43 و2كو 5: 6، 8 وفي 1: 23 ولو 16: 23، 24 ويه 6، 7). وليس من المهم أن نعرف إن كانت السماء التي سيذهب إليها المؤمن فور موته هي مسكنه الأبدي عينه، أو إن كانت مسكناً وقتياً مع المسيح إلى أن يأخذ جسده عند القيامة ويدخل مع الكنيسة الكاملة إلى المجد الأخير. فيكفينا أن نعرف أن ذلك الفردوس هو مسكن المسيح ومكان السعادة والطهارة والأمن. والكتاب يقول إن نفس الأبرار تذهب حالاً إلى حضرة المسيح (2كو 5: 1-8 ولو 23: 43 ويو 14: 3 وفي 1: 22، 23 ومت 22: 32 ولو 16: 22 ويو 11: 26 و1تس 5: 10 ومت 17: 3). أما الأشرار فإنهم في العقاب إلى يوم الدين (2بط 2: 9 ولو 16: 23 و1بط 3: 19). ولا بد أن يدرك الأبرار والأشرار نصيبهم الأبدي عند الموت.

ويعلمنا الكتاب أن ذلك النصيب غير كامل في بعض الوجوه إلى حين القيامة والدينونة والحكم النهائي، إمّا بالحياة الأبدية أو بالموت الأبدي. فالأبرار يتوقعون نوال أجسادهم عند القيامة ودخولهم بالنفس والجسد معاً إلى السعادة السماوية، والأشرار يتوقعون نوال أجسادهم كذلك والذهاب بعد الدينونة إلى الشقاء الأبدي (رو 8: 23 وفي 3: 11 ورؤ 6: 11 و2بط 2: 9).

أما التعليم الإنجيلي بالتفصيل في تنوُّع أحوال البشر الخطاة عند الموت فيتضح بخمسة أمور:

(1) المؤمنون الذين عاشوا في نور الوحي وعرفوا طريق الخلاص بالمسيح، أو كانت لهم فرصة جيدة لنوال تلك المعرفة ورفضوا، ولم ينتبهوا لواجباتهم من نحو المسيح، فليس لهم رجاء بعد موتهم، بل هم تحت الحكم، وسيذهبون عند الموت إلى نصيبهم الأبدي، وسيكون قصاصهم بالعدل حسب استحقاقهم.

(2) الذين يموتون بدون معرفة الوحي ولم يسمعوا الإنجيل، كالوثنيين، هم تحت الدينونة، لا لأنهم رفضوا الإنجيل أو أهانوا المسيح، بل لأنهم أخطأوا بسلوكهم المضاد لما لهم من معرفة، فقد كانت لهم شهادة الطبيعة والضمير. وهؤلاء ليس لهم فرصة أخرى بعد الموت للتوبة والإصلاح، وليس لهم رجاء الخلاص بالوسائط الباطلة والأديان الفاسدة. ولكن إذا حدث أن أحداً منهم تاب توبة حقيقية ورفض الخطايا واجتهد في الحياة الصالحة بإرشاد الروح القدس، متكلاً على رحمة الله وحدها، وهو يحسب أنه غير مستحق للرحمة في نفسه، ونظر إلى مجرد النعمة الإلهية، يصير الرجاء أنه بين مختاري الله، فقد أرسل الرب إليه الروح القدس ليرشده إلى أفضل استعمال للنور الذي عنده. وإذا نال الخلاص، لا يكون ذلك بسبب أعماله واستحقاقه، بل بنواله فوائد كفارة المسيح، هبةً من عند إله الرحمة، ولو أنه لا يعرف أن المسيح جاء إلى العالم ولا أنه صنع فداءً للبشر. ولكن بنعمة الله يصير بإرشاد الروح من طالبي الرحمة التي أُظهرت بواسطة فداء المسيح. وهذا ما نرجوه بناءً على رحمة الله، ولو أنه ليس وارداً في تعليم كتابي صريح.

(3) الذين عاشوا قبل مجيء المسيح في زمن العهد القديم واستعملوا الوسائط المعينة من عند الله عن يد الآباء الأولين، أو بالنظام الموسوي استعمالاً حسناً، لهم الخلاص بالإيمان بالفداء بالمسيح الموعود به والمشار إليه برموز الذبائح وغيرها من الفرائض الدينية. فإنهم باستعمالهم تلك الوسائط المعينة من الله رفضوا الاتكال على صلاح أنفسهم، واتكلوا على رحمة الله، ودخلوا عند الموت في حال الخلاص. أما الذين رفضوا تلك الوسائط فلن يستفيدوا منها.

(4) جميع الأطفال الذين يموتون قبل سن التكليف، والبُلهاء أيضاً، هم خارجون عن دائرة المساءلة الأخلاقية. هؤلاء ينالون الخلاص بنعمة المسيح، وينالون فوائد كفارته، فيدخلون في حال الخلاص حالاً بعد الموت (انظر ما جاء بخصوص الأطفال الذين يموتون بغير معمودية في فصل 45 س 16).

(5) الذين عرفوا المسيح وقبلوه بالتوبة والإيمان مخلصاً لهم، وعاشوا عيشة موافقة لذلك، وماتوا متكلين على المسيح، نالوا الخلاص حالاً وصـاروا مع المسيح في النعيم إلى يوم القيامة، حين تقترن النفس والجسد ويكمل فداؤهم الأبدي.

6- ما عدد المذاهب المخالفة لتعليم الكتاب في هذا الشأن، وما هي؟

هي ثلاثة:

(1) مذهب القائلين بنوم النفس، أي بقائها بلا شعور من وقت الموت إلى القيامة.

(2) مذهب القائلين بالمطهر وذهاب نفوس البشر إليه.

(3) مذهب القائلين بالامتحان بعد الموت، أي أن الذين لم ينالوا الخلاص في هذه الحياة سيحصلون على فرصة أخرى لقبول المسيح ونوال الخلاص به بعد القبر، أي أن البشارة بإنجيل الخلاص ليست خاصة بهذه الحياة فقط، بل أن الخلاص ممكن بواسطتها في العالم الآتي.

7- ما هي أدلة القائلين بنوم النفس في المدة بين الموت والقيامة وما الاعتراضات عليهم؟

* يرى المعتقدون بهذا في الكتاب أمرين يزعمون أنهما يبرهنان رأيهم:

(1) كثيراً ما يُدعى الموت رقاداً، ويُدعى الأموات راقدين (1تس 4: 14).

(2) يعلم العهد الجديد بدينونة أخيرة عندما يعيِّن نصيب كل نفس إلى الأبد، وهذا (على ما يتوهمون) ينافي القول بأن نصيب النفس يُعيّن حالاً عند تركها الجسد، لأنه (على زعمهم) إذا كان الأبرار عند الموت يدخلون حال السعادة والأشرار حال الشقاء، فقد دينوا، ولا حاجة إلى دينونة بعد.

وهذان الدليلان ضعيفان، ولا يقويان على نفي تعليم الكتاب الواضح. أما الأول فنرد عليه بأن الجسد المائت والجسد الراقد متشابهان، ونحن عادة نشبِّه الموت بالرقاد الدائم، وأغلب من يستعملون هذا التشبيه هم المؤمنون إيماناً ثابتاً بحياة النفس وشعورها المستمر بعد الموت.

أما الدليل الثاني فهو أضعف من الأول، لأنه وإن كان نصيب كل إنسان قد تعيَّن عند دقيقة الموت، فإنه توجد أسباب عديدة ومهمة توضح وجود دينونة عامة رهيبة في اليوم الأخير، عندما تظهر أسرار القلوب ويعلن الله عدله أمام كل البشر والملائكة.

وقد اتضح من كلام الكتاب أن النفس تبقى شاعرةً بعد الموت، لأنها ترجع إلى الجسد عند القيامة (جا 12: 7). وموت الجسد لا يتضمَّن موت النفس (مت 10: 28). وقد ظهر موسى وإيليا عند تجلي المسيح بعد نحو 14 قرناً من موت موسى (لو 9: 30، 31). ونفهم من مثَل الغني ولعازر أنهما كانا حيَّين بعد الموت (لو 16: 22، 23). ووعد المسيح اللص التائب أنه يكون معه في اليوم ذاته في الفردوس (لو 23: 43). ويقول الرسول إن التغرُّب عن الجسد هو الاستيطان مع الرب (2كو 5: 8) وإن موته انطلاق ليكون مع المسيح (في 1: 21، 23). وقيل إن الأبرار بعد الموت أرواح أبرار مكمَّلين (عب 12: 23). وقال استفانوس عند موته «أيها الرب يسوع اقبل روحي» (أع 7: 59). وقيل إن المؤمنين هم أصحاب الحياة الأبدية التي ابتدأت فيهم وهم في هذا العالم (يو 5: 24) وإن سيرة المسيحيين هي في السموات، أي أنهم من الرعية السماوية وإن كانوا لا يزالون على هذه الأرض (في 3: 20). ورأى يوحنا في رؤياه نفوس الشهداء تحت المذبح ولهم وجدان وأشواق حية (رؤ 6: 9-11). فهذا المذهب يخالف كل ما نعرفه عن طبيعة النفس وعدم غيابها عن الشعور مطلقاً، لأن النفس لا تنام مع نوم الجسد ولو في ساعة الموت مع ضعف الجسد، وقد تشعر بشعور أشد مما اعتادت عليه. ويأبى العقل السليم أن يظنَّ أن النفوس الحية في هذه الحياة، الغيورة في خدمة الله، تذهب حالاً عند الموت إلى حالة عدم الشعور والانقطاع عن الإحساس ورؤية الرب في المجد.

8- ما هي أقسام عالم الأرواح عند الكنيسة الكاثوليكية؟

* قسم الكاثوليك عالم الأرواح إلى أقسام شتى، جعلوا لكل نوع من الأرواح مكاناً يذهب إليه:

(1) أول تلك الأماكن هو لمبوس الآباء، وهو (على زعمهم) مكان نزلت إليه نفوس الآباء قبل مجيء المسيح وانتظرت مجيئه. ولما أتى المسيح وأكمل عمل الفداء بموته على الصليب نزل إلى حيث كانت تلك النفوس مسجونة وخلَّصها وأخذها ظافراً إلى السماء.

(2) والمكان الثاني هو لمبوس الأطفال، وهو مكان يذهب إليه الأطفال غير المعمَّدين بعد موتهم، ويبقون فيه إلى الأبد. وهذا المكان (مثل لمبوس الآباء) لا ذكر له في كلمة الله. وقالوا إن الأطفال والآباء في العهد القديم لم يستفيدوا من الواسطة الوحيدة لتطهير النفس من الخطية الأصلية، وهي (على زعمهم) بالمعمودية على يد الإكليروس.

(3) والمكان الثالث هو المطهر، وهو مكان يدخل إليه جميع الذين يموتون من المنتمين للكنيسة الكاثوليكية دون أن يوفوا قصاص خطاياهم الزمني، بحسب قانون «سر التوبة». والمطهر مكان عذاب. والرأي الغالب عندهم أن ذلك العذاب يكون بنار مادية، وغايته التطهير والتكفير، وهو أليم هائل ومدته غير معينة، لكن يمكن تقديرها وتخفيف العذاب بواسطة صلوات القديسين، ولاسيما ذبيحة القداس. ولرؤساء الكنيسة الكاثوليكية ولاسيما البابا نفسه سلطة وقدرة على رفع العذاب عن النفوس في المطهر. وسبب هذا التعليم أن أصحابه يعتقدون أن المسيح ينقذنا من الخطية الأصلية وخطر الموت الأبدي بواسطة المعمودية، إذا لم نخطئ بعد ممارستها. ولكن التخلص من الخطايا التي نرتكبها بعد المعمودية لا يكون إلا بحل الكاهن عند الاعتراف، الذي به الخلاص من القصاص الأبدي، في هذه الحياة بواسطة سر التوبة، وبعد الموت بعذاب المطهر. والوسائط العظيمة للتخلص من المطهر هي صلوات الأتقياء وذبيحة القداس والغفرانات وتخصيص شيء من كنوز استحقاق القديسين.

(4) المكان الرابع هو جهنم، وهي عندهم مكان يتعذب فيه الملائكة الساقطون إلى الأبد، والبشر الذين يموتون في الخطية المميتة. فإلى جهنم يذهب جميع الذين يموتون خارجاً عن حضن الكنيسة الكاثوليكية، وكل الذين لا يعتمدون من البالغين، وكل الذين يرتكبون خطية مميتة ويموتون بدون نوال الحِل من الكاهن.

(5) المكان الخامس هو السماء، وهي مكان الأبرار المكملين والملائكة الأطهار، حيث الله والمسيح جالس على عرش عظمته. ولا يدخل السماء قبل القيامة إلا الذين يطهرون تماماً عند موتهم والذين ينالون التطهير في المطهر بعد الموت.

9 – ما هي الاعتراضات على تعليم المطهر؟

* أقرَّت الكنيسة الكاثوليكية هذا التعليم في بداية القرن السابع، وهو موجود في شِعر فرجيل، وفي محاورة «فيدو» لأفلاطون. وصُرّح به قانونياً في مجمع فلورنس (سنة 1439م) وفي المجمع التريدنتيني (سنة 1545-1563م).

أما الاعتراضات على هذا التعليم فهي كثيرة، نقتصر على خمسة منها:

(1) لا يستند هذا التعليم على الأسفار المقدسة، وقد سلَّم معتقدوه بذلك، ولو أنهم ادعوا أن في الكتاب تلميحاً إلى المطهر. ومن ذلك قول المسيح «من قال كلمةً على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي» (مت 12: 32). ولكن هذه الآية لا تشير إلى المطهر بل إلى جهنم، بدليل قوله «لن يُغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي» أي لا مغفرة له أبداً. وهذا نصيب الذين في جهنم. أما ما قالوه على سبيل الاستنتاج من هذه الآية، وهو أن المغفرة تكون لبعض الخطايا في العالم الآتي، فلا سند له في الأسفار المقدسة. ومنه قول الرسول «فعمل كل واحد سيصير ظاهراً لأن اليوم سيبيِّنه، لأنه بنارٍ يُستعلَن، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو. إن بقي عمل واحد قد بناه عليه فسيأخذ أجرة. إن احترق عمل واحد فسيخسر، وأما هو فسيخلُص ولكن كما بنار» (1كو 3: 13-15). ولكن هذه الآية لا تشير لنيران المطهر، بل للامتحان الذي يكشف الصفة الجوهرية في عمل كل إنسان، هل هي مما يُمدَح أم لا. وامتحان عمل كل إنسان يختلف عن تطهير نفسه. وأما قول الرسول «فسيخلص ولكن كما بنار» فمعناه أنه يتعسَّر عليه الخلاص كثيراً، فيكون كمن أحاطت به النار وصار في خطر ولكنه خلص. وهذا اصطلاح في اللغة اليونانية، ومنه قول السيد المسيح «كن مراضياً لخصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلِّمك الخصم إلى القاضي، ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى في السجن. الحق أقول لك، لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير» (مت 5: 25، 26). ولكن الخطية المذكورة في هذه الآية هي الإصرار على عدم المغفرة للخصم، ولا إشارة فيها إلى المطهر بل إلى جهنم.. ومنه قول بطرس الرسول «فإن المسيح أيضاً تألم مرةً واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة لكي يقرِّبنا إلى الله، مُماتاً في الجسد ولكن مُحيىً في الروح. الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن إذ عصت قديماً حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح» (1بط 3: 18-20). على أن السجن المذكور في هذه الآيات هو سجن النفوس الهالكة بالطوفان، وكانت كرازة المسيح لهم في أيام نوح كما قيل. وبما أن هؤلاء الأشرار لم يقبلوا الكرازة صاروا في سجن جهنم، لأن خطيتهم كانت رفض الحق، ولأنهم ماتوا غير تائبين ولذلك هلكوا. والمطهر (على فرض وجوده) ليس لغير التائبين ورافضي الحق. فسجن النفوس التي هلكت في الطوفان ليس هو المطهر بل جهنم. فليس في هذه الآية أية إشارة إلى المطهر (انظر ما قلناه عن نزول المسيح للهاوية في فصل 37 س 8).

وذُكرت في الأسفار المقدسة الأماكن في العالم الآتي بأسماء مختلفة كالهاوية وجهنم والفردوس والسماء، ولكن لا ذكر للمطهر فيها. ولم يذكر المسيح والرسل الأطهار شيئاً من ذلك. وعليه فإن هذا التعليم إضافة بشرية على كل التعاليم الإلهية (رؤ 22: 18).

(2) يتناقض القول بالمطهر مع ما جاء في الأسفار المقدسة، ومن الآيات التي تناقضه ما جاء عن لعازر: «حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم» (لو 16: 22) وعن الغني أنه ذهب إلى الهاوية أي إلى جهنم، وبين هذين المكانين هوة عظيمة قد أُثبتت ولا طريق بينهما (لو 16: 26). ومنها قول المسيح للص التائب «اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 43). فلو وُجد المطهر لقال المسيح للص «بعد سنين كثيرة تكون معي في الفردوس، لأنك تحتاج إلى نيران المطهر زمناً طويلاً!». وعدم ذكر المسيح للمطهر هنا دليلٌ على عدم وجوده. ومنها صلاة استفانوس «أيها الرب يسوع، اقبل روحي» (أع 7: 59). والقول إن التغرب عن الجسد هو الاستيطان عند الرب (2كو 5: 8). والقول «إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع» (رو 8: 1). وقول المسيح «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24) والقول «المسيح افتدانا من لعنة الناموس» (غل 3: 13) والقول «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة» (1بط 2: 24). والقول «مَن سيشتكي على مختاري الله؟» (رو 8: 33-39). وقيل أيضاً إن دم المسيح يطهر من كل خطية، وإن لا خلاص إلا بالمسيح، وإن القديسين في السماء قد طهَّروا ثيابهم بدم الحمل. وقيل إشارة إلى أحوالنا بعد الموت «من يظلم فليظلم بعد، ومن هو نجس فليتنجس بعد، ومن هو بار فليتبرَّر بعد، ومن هو مقدس فليتقدس بعد» (رؤ 22: 11). فلو وُجد المطهر لكانت هذه الآية مناسبة لذكره، ولكنها لم تذكره!

وليس في الكتاب المقدس ما يشير على الإطلاق إلى عذاب المؤمنين بعد موتهم، بل فيه ما ينفي ذلك، وهو قول الرسول «لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السماوات بناءٌ من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدي» (2كو 5: 1). وقوله: «وُضع للناس أن يموتوا مرَّة، ثم بعد ذلك الدينونة» (عب 9: 27) فلماذا لم يكملها بالقول: «ثم بعد ذلك عذاب المطهر»؟

وهذا التعليم يناقض أقوال الكتاب الصريحة عن خلاص المؤمن بالمسيح ويكلِّفه أن يوفي ديون نفسه، ويستلزم كذلك فرض استحقاق الأعمال الصالحة. ولكن الإنجيل يحكم أننا نخلص بالنعمة لا بالأعمال. بل إن التعليم بوجود المطهر يستلزم القول بأن القديس يمكن أن يكنز لنفسه كمية من الاستحقاق أكثر مما تقتضي مغفرة خطاياه، ومن هذا الاستحقاق الزائد المكنوز تأخذ الكنيسة وتخصص ما تشاء لإعانة النفوس في المطهر. فكأن جنسنا الساقط العاجز يقدر أن يعمل فوق ما يطلبه الله منه، حتى يصير الله مديوناً له. وحاشا لله!

(3) أدى تعليم المطهر إلى أضرار جسيمة في تاريخ الكنيسة. ولا يخفى أن السلطان الذي لا يُؤتمن عليه إلا الله نفسه، إذا سُلِّم إلى أناسٍ خطاة ضعفاء، لابد أن ينتهي بأعظم فساد.

(4) الأدلة التي تستند عليها الكنيسة الكاثوليكية لإثبات المطهر ضعيفة وخاطئة، ومنها ادعاؤها قوة الحل والربط، وقولها بالخلافة الرسولية، وشهادة التقاليد، واستدلالها بالصلاة لأجل الموتى، وتعليم سر التوبة بمعنى أن الإنسان ملزوم أن يكفر عن خطايا نفسه حتى إن كان متبرراً ببر المسيح.

وقد رفضت الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية فكرة المطهر، الذي لم يُذكر شيء من أمره في المجامع المسكونية الأولى. فإن أجساد البشر بعد الموت تعود إلى التراب وترى فساداً، وأما نفوسهم التي لا تموت ولا تنام فتعود حالاً إلى الله الذي أعطاها، لأن لها جوهراً غير قابل للموت. وحينئذ تصير نفوس الأبرار كاملة في الطهارة في السماوات العليا، حيث تشاهد وجه الله في النور والمجد وهي تنتظر فداء أجسادها الكامل. أما نفوس الأشرار فتطرح في جهنم حيث تبقى تحت العذاب والظلام التام محفوظة إلى حكم اليوم العظيم. ولا يحكم الكتاب المقدس عن مكان آخر غير هذين للنفوس المنفصلة عن أجسادها.

(5) التعليم بالمطهر يناقض العقل لأنه يقول إن نار العذاب تطهر نفوس البشر. فما هي علاقة نار العذاب بالتطهير الأخلاقي، وما هي العلاقة بين فعل النار المادية وتطهير النفس الروحي، وأين ذلك كله من قول الكتاب إن «دم يسوع المسيح يطهر من كل خطية» وإن الأطهار «غسلوا ثيابهم بدم الحمل» وليس بنيران المطهر؟

10 - ما هي الاعتراضات على القول بفرصةٍ ثانية بعد الموت لنوال الخلاص للذين لم ينالوه في هذه الحياة؟

* يعلِّم الإنجيل أن الموت هو نهاية الفرصة المعينة للبشر للتوبة والإيمان بالمسيح، وهو نهاية نوال المغفرة والخلاص بواسطة استعمال نور الطبيعة عند من لم يعرفوا الوحي (إذا صحَّ إمكان الخلاص بالنور الخارج عن معرفة الكتاب المقدس). ولم تصدق التعاليم اللاهوتية المؤسسة على كتاب الله في عصر من العصور على القول بدوام الفرصة لاستماع الإنجيل ونوال فوائد موت المسيح في العالم الآتي بعد انتقال الإنسان من هذه الحياة الأرضية. بل قد اشتهر دائما القول «هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص» (2كو 6: 2) أي أن الموت هو نهاية الأمر. وهذا التنبيه وغيره مفيد ومهم لأنه يقطع كل رجاء باطل من جهة الخلاص بعد الموت للذين لم يخلصوا قبله كما قيل «فلنخَفْ أنه مع بقاء وعدٍ بالدخول إلى راحته يُرى أحدٌ منكم أنه قد خاب منه» (عب 4: 1). وكما قيل في مثل العذارى العشر «أُغلق الباب» بمعنى أن باب الرجاء في الخلاص قد أُغلِقَ عند الموت. فيتوقف مستقبل كل إنسان على نتيجة أعماله في هذه الحياة. والحصاد في العالم الآتي هو نتيجة الزرع هنا. وهذا النظام يتفق مع حكمة الله ويوافق هدف عمل الفداء، كما يوافق عدل الله وصـلاحه.

على أنه قد شاع الاعتقاد بين البعض أن هذا التعليم غير عادل، ويخالف روح الوحي وبعض آيات الكتاب التي حُسبت أنها تلميحات إلى فرصة أخرى بعد الموت، لا سيما للذين لم تكن لهم فرصة الاستماع لبشرى المسيح ومطالعة أسفار الوحي في هذه الحياة.

أما الاعتراضات على هذا الاعتقاد فهي ستة:

(1) إن الأسفار المقدسة لا تعلم ذلك، ونذكر منها ما قاله المسيح، وما قاله الرسل: (أ) قول المسيح «من قال كلمةً على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي» (مت 12: 32). فاستنتجوا من هذه الآية وجود مغفرة أخرى في العالم الآتي.. لكن المعنى ليس كذلك، بل غاية قول المسيح هي تشديد القول بعدم مغفرة تلك الخطية أبداً، بدليل ما يرادفه في إنجيل مرقس وهو قوله «من جدَّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبديَّة» (مر 3: 29). فقول المسيح يعلمنا أن لا مغفرة لمن جدف على الروح القدس برفض ما يعلنه عن المسيح، لا في هذا العالم ولا في العالم الآتي، فإن وقت امتحان الإنسان ينتهي قبل موته، أي عند ارتكابه تلك الخطية التي ليس لها مغفرة. (ب) ما قاله الرسول بطرس عن كرازة المسيح للأرواح التي في السجن (1بط 3: 18-20) فاستنتَجوا من هذه العبارة أن المسيح ذهب وكرز بالإنجيل للموتى، فصارت لهم فرصة أخرى للتوبة وقبول الإنجيل، واستدلوا بقولٍ آخر في هذه الرسالة (1بط 4: 6).. وللرد نقول: إن هذا الاستنتاج لا يصح من هذه الآيات، فليس فيها أية إشارة للكرازة بالإنجيل في جهنم للأرواح التي قد انتقلت إلى ذلك السجن، بل هي تقول إن المسيح بشر الذين هلكوا بالطوفان بلسان نوح، لأن نوحاً بشَّر بروح المسيح. وكذلك ما جاء في 1بطرس 4: 6 لا يشير إلى تبشير الموتى بعد الموت، بل إلى تبشير الذين كانوا قد ماتوا وهم أحياء على الأرض. وسندنا في هذا التفسير أن كل ما ينبئنا به الكتاب في شأن التبشير بالخلاص لم يكن بعد الموت على الإطلاق بل قبله. وليس في الكتاب ما يثبت الظن أن المسيح في المدَّة بين موته وقيامته نظَّم نظاماً آخر للخلاص بين الهالكين. وعلى فرض صحة القول إن تلك الكرازة كانت بمعنى منح فرصة أخرى للأموات لقبول الإنجيل، فلماذا تخصَّصت تلك الكرازة لمن هلكوا بالطوفان فقط؟ ألا يعني هذا أن الله ميَّزهم على غيرهم وأعطاهم فرصة استماع الحق ونوال الخلاص بواسطة كرازة نوح مدة 120 سنة؟ ولماذا هذا التمييز؟ ألم يكن أَوْلى بهذه الفرصة الثانية للتوبة أولئك الذين لم تكن لهم فرصة كافية في هذه الحياة ليتوبوا؟ وعليه، فليس في هذه الآية دليل يثبت وجود فرصة للتوبة بعد الموت بناءً على عدم وجود فرصة في هذه الحياة. ولو صحَّ تفسيرهم لَمُنحت فرصة توبة بعد الموت لأهل سدوم وعمورة (لو 17: 26، 27 و2بط 2: 3-9). وعلى فرض أن تلك الكرازة صارت كما يزعمون، فمن أين نستنتج أنها أنشأت توبةً في الذين نالوها؟ فإن الذين رفضوا الحق في هذه الحياة سيرفضونه بأعظم حماقة في العالم الآتي. وعلى ذلك يكون معنى هذه الكرازة كمعنى مثل الغني ولعازر «إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون» (لو 16: 31). والأصح أن هذه الآيات لا تعلّم تعليماً يناقض غيرها من التعاليم الصريحة الكثيرة في الكتاب. وقد استند أهل هذا الزعم لإثباته على آيات غير المذكورة، وحسبوها إشارة إلى خلاص جميع البشر أخيراً (1كو 15: 22-28) كما استندوا إلى آيات تفيد أن المسيح رب الأحياء والأموات (رو 14: 9 ورؤ 1: 18) وآيات تشير حسب تفسيرهم إلى أن قصاص الأشرار ليس أبدياً، وآيات شتى تبين عظمة محبة الله للخطاة وقيمة الخلاص وهول الهلاك. على أن تلك الآيات لا تدل على شيء مما قصدوه. فإن الكتاب المقدس لا يعلِّم عن فرصة للتوبة والخلاص بعد الموت.

(2) تعلِّم الأسفار المقدسة ما يخالف هذا الزعم، فالكتاب يقدم إنجيل الخلاص للبشر لأنه يهمهم في هذه الحياة، وينبغي قبوله هنا لا في الدهور الآتية، لأن التأخر عن قبوله خطر يُفضي إلى هلاك النفس. كما أن التبشير بالخلاص ووسائط النعمة وتأثير الروح القدس جميعها تختص بعالمنا هذا، ولا وَعْد ولا تلميح بوجودها في العالم الآتي، ولا مغفرة بعد الموت، فالنفس عند الموت تبلغ حالتها الأبدية إما للخلاص وإما للهلاك، وإن تلك الحال لن تتغير إلى الأبد. ومن العبارات التي تثبت ما سبق: (أ) مثل المسيح في لعازر والغني (لو 16: 19-31) فقيل إن نصيب الغني بعد الموت كان مبنياً على ما جرى في حياته (آية 25) وإن ذلك النصيب لا يمكن أن يتغير لوجود الهوة العظيمة التي تمنع العبور (آية 26) وإن الغني طلب لإخوته على الأرض لا لنفسه (آيتا 27، 28) ولم يذكر إبراهيم غير كتب «موسى والأنبياء» كوسائط إرشاد في هذه الحياة لإخوة الغني. (ب) قول الرسول: «لأنه لا بد أننا جميعاً نُظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شراً» (2كو 5: 10) فالحكم يصدر على ما يُصنع في هذه الحياة، وانفصال الروح عن الجسد هو نهاية ما تجرى عليه الدينونة. (ج) قول الرسول «الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله» (رو 2: 5-11) فأساس الحكم هو أعمالنا في هذه الحياة، لا الأعمال التي يعملها الإنسان بنور الوحي فقط، بل التي يعملها بنور الطبيعة أيضاً كما قيل «اليهودي أولاً ثم اليوناني» (آية 9). (د) قول الرسول إن الأمم ستُحاكم بحسب النور الذي لها (رو 2: 14-16 و1: 18-32). فلكل إنسان (حتى الوثني) نور كافٍ يجعله بلا عذر، والحكم عليه لا بد منه إذا رفض إرشاد ذلك النور. وعلى هذا فالذين ليس لهم غير النور الطبيعي يُمتحنون في هذه الحياة، لكن الحكم عليهم لا يكون كما لو كان لهم نور الوحي. وهو حكم نهائي بمقتضى استحقاقهم وبموجب العدل. (هـ) قول الرسول «وُضِع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة» (عب 9: 27) ولم يقل: ثم بعد ذلك فرصة أخرى بعد الموت. (و) قول المسيح «أنا أمضي، وستطلبونني وتموتون في خطيتكم.. لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو 8: ا 2، 24). وهذا يفيد أن ذلك نهاية الأمر، كأن الموت في خطاياهم يقطع رجاءهم في الخلاص. (ز) قول صاحب الرؤيا «من يظلم فليظلم بعد، ومن هو نجس فليتنجس بعد» (رؤ 22: 11). وهذا معناه أن لا فرصة للأشرار بعد الموت. (ح) قول المسيح «لكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلَّم ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يُولد» (مت 26: 24). فلو عرف المسيح أن ليهوذا فرصة أخرى للتوبة بعد الموت ما قال: خير له لو لم يولد. (ط) قول الرسول «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف، وغيرة نارٍ عتيدة أن تأكل المضادين» (عب 10: 26، 27) فلو كانت للناس فرصة للتوبة أو الهداية بعد الموت ما قال الرسول ذلك، بل لقال: إذا أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق تبقى لنا فرصة بعد الموت لنوال فوائد الذبيحة الكفارية. فهذه الآية تستأصل هذا الضلال، وتنفي كل فرصة للتوبة بعد الموت.

من كل ما سبق نرى أن جميع الناس حتى الوثنيين (رو1: 18-32 و2: 3-15) أخذوا فرصة كافية للتوبة ونوال الخلاص في هذا العالم. فإذا لم يتمموا واجباتهم دانهم الله على قدر النور الذي رفضوه، لا نور الإنجيل الذي لم يعرفوه. ولا بد من معاملة الله لهم بالعدل كما قيل «كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك، وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يُدان» (رو 2: 12).

وإذا قيل إن الكتاب المقدس لم يصرح بنفي فرصة التوبة بعد الموت، قلنا: لا لزوم لذلك، لأن الكتاب صرح بأن فرصتنا هي في هذه الحياة، ولم يصرح بفرصة أخرى بعد الموت. وهذا دليل على عدم وجودها. ولو أنها كانت موجودة لأفادنا الله بها، لأنها من أعظم ما يهم البشر.

(3) التعليم بوجود فرصة ثانية لنوال الخلاص بعد الموت يخالف مثال الرسل وغيرتهم في التبشير مدَّة بقائهم في هذا العالم، فقد اجتهدوا كلهم في الكرازة بخبر الخلاص للبشر في هذه الحياة، وكابدوا مشقات عظيمة لإتمام غايتهم. فلو عرفوا أن للبشر فرصة أخرى بعد الموت ما أظهروا تلك الغيرة العجيبة في دعوة الناس للرب في هذا العالم، ولم يسكتوا عن إبلاغ أهل زمانهم أنهم إن لم يقبلوا المسيح في هذه الحياة، فلهم فرصة أخرى بعد الموت. فإن كان الرسل لم يقولوا هذا القول ولا قاله المسيح له المجد، فمن من البشر يجوز له أن يقوله؟ وإذا كان المسيح قد قاله، فمَن مِن البشر سيهتم بأن يتوب هنا ولا ينتظر الفرصة بعد الموت، فيعيش في هذه الدنيا بحسب شهواته الدنيوية. لأن الناس بذلك لا يرون حاجةً إلى التوبة في هذه الحياة، فلا يؤثِّر فيهم وعظ ولا إنذار. وتكون نتيجة هذا التعليم نزع الشعور بالمسؤولية من قلوب البشر، وانحطاط شأن الديانة.

(4) يبرهن أمر المسيح للكنيسة بالذهاب إلى كل العالم والكرازة بالإنجيل لجميع الناس ليرجعوا إلى الله في هذه الحياة، خطأ القول بفرصة أخرى للتوبة بعد الموت، لأن فرصة نوال الخلاص بالمسيح لا تكون إلا في هذه الحياة! ولقد وعد المسيح المبشرين أن يكون معهم في إتمام هذا الأمر إلى انقضاء الدهر، ولكنه لم يقل شيئاً عن الخلاص بعد انقضاء العالم. وقال الرسول «فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟» (رو 10: 14) وجعل المسيح الرسل «صيادي الناس». وقال الرسول يعقوب «من ردَّ خاطئاً عن ضلال طريقه يخلّص نفساً من الموت (كأن لا فرصة بعد الموت) ويستر كثرة من الخطايا» (يعقوب 5: 20). فليس في أمر المسيح للكنيسة ما يجعلها تعلم البشر بفرصة توبة أخرى بعد الموت.

(5) أدلة القائلين بهذا التعليم ليست كافية لإثباته ولا لترجيحه. ومنها: (أ) الفرصة الثانية ضـرورية لأن الله عادل.. وللرد نقول: ليس الله ملزوماً أن يهب أكثر من فرصة واحدة، بل إنه غير ملزوم بعمل الفداء مطلقاً. يكفي أنه سيعامل كل البشر بتمام العدل ولا يظلم أحداً، سواء كان من رافضي المسيح عمداً أم من الذين لم يعرفوا شيئاً من أمر الإنجيل. ومبدأ الحكم عند الله هو عين العدل، فالعبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته يُضرَب كثيراً. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاً (لو 12: 47، 48). فمبدأ العدل ظاهر في قول المسيح «يفعل ما يستحق ضربات» والنتيجة أن الذي لا يفعل ما يستحق الضربات (إن وُجد مثل هذا العبد) لا يُضرب أبداً. (ب) الفرصة الثانية لازمة لأن من الصعب على العقل أن يسلّم بكفاية مدة هذه الحياة للتوبة.. وللرد نقول: إن الكتاب المقدس أضبط وأصح من حكم العقل، بل إن إنارة كل عقل هي من الكتاب. وليس للعقل حكم على الكتاب في شيء. وإذا سلمنا برفع شأن العقل على أقوال الكتاب الواضحة، فإنما نجعل الحكم للعقل لا للكتاب في جميع المسائل، لا في هذه فقط. (ج) يستلزم كون الإنجيل لجميع الناس أن نقدمه لهم. وإن لم تتهيأ الفرصة لذلك في هذه الحياة فلابد منها بعد الموت.. وللرد نقول: إن الإنجيل، وإن كان مُعداً للناس جميعاً، إلا أنه لا يفيدهم إلا إن قبلوه. والذي يرفضه في هذه الحياة ليس له أن ينتظر فرصة أخرى بعدها. والذين لم يعرفوا الإنجيل منا لا يحكم الله عليهم بسبب رفضهم الإنجيل، بل بسبب رفضهم ما عندهم من نور. ولكن في قدرة الله أن يرشدهم بروحه وبنور العقل والضمير إلى الاتكال على رحمته بالتوبة والتواضع. وعلى هذا لا نرى مانعاً (إن شاءت إرادته) يمنعه من تخصيص فوائد موت المسيح لخلاصهم. أما الذين يخطئون رغم ما عندهم من نور الطبيعة فيُدانون كسائر البشر بموجب استحقاقهم لا سواه. فلنا أن نتركهم إلى جودة الله وعدله. وليس لنا أن نقول إن الله ملزوم أن يقدم لكل شخص نور الإنجيل، وإلا يكون قد ظلم الذين لم ينالوا هذا النور. لأنه لو كان الله ملزوما بذلك لكان عَمَلُ الفداء على سبيل الدَّيْن، لا على سبيل النعمة. (د) لجميع البشر الحق في معرفة المسيح والاستفادة من وسائط النعمة وتأثير الروح القدس. وبما أن جانباً عظيماً من البشر ليس لهم هذه المعرفة في هذه الحياة، يحق لهم ذلك في الحياة الآتية.. وللرد على هذا نقول ما قلناه في الجواب السابق، وهو أنه ليس لأحدٍ حق في معرفة المسيح، لأن هذا يرجع إلى رحمة الله وقضائه واستحسانه ونعمته، فهو يرحم من يشاء. على أن الخلاص لا يتوقف فقط على معرفة المسيح ومعرفة الوحي، فإن الأطفال والمجانين يخلصون، فليس لنا أن نحكم بعدم إمكان خلاص البشر بدون معرفة المسيح. فربما اختار الله أناساً منهم فيرشدهم بروحه ونور الضمير والطبيعة إلى رفض الخطية وإلى التوبة والاتكال على رحمته. وليس لنا أن نحكم أن الوثني الذي تمت فيه هذه الشروط لا ينال نصيباً من فوائد موت المسيح، وإن لم يعرف كيفية الخلاص بكفارة المسيح. وهذا القول ليس بعيداً عن روح الكتاب، وهو يوافق ما نعرفه عن رحمة الله، ويستلزم التوبة في هذه الحياة.

(6) التعليم بفرصة ثانية للخلاص بعد الموت يؤدي إلى نتائج خاطئة، نذكر منها ما يأتي: (أ) إنه يحط من شأن الكتاب المقدس وسلطانه باعتباره دستورنا في المسائل الدينية، ولا سيما في ما يختص بطريق الخلاص. فإذا صحَّ أن نضيف إلى الكتاب تعليماً كهذا ليس فيه، فذلك إهانةٌ للكتاب وإنكارٌ لكفايته ورفضٌ لإرشاده. (ب) إنه يرفع شأن العقل إلى درجة غير جائزة، ويفوِّض إليه إصدار تعاليم تخالف الوحي، لأننا إذا حكمنا بوجود فرصة أخرى بعد الموت بحجة أننا بذلك نبرر الله من الظلم، نكون قد جعلنا الكتاب المقدس يقول ما لم يقُلْهُ! وليس لنا أن نسلك بنور العقل من جهة مسائل أوضحها الوحي. (ج) إنه يحط من شأن الحياة الحاضرة، ويغير علاقتها بالحياة الآتية، ويجعل معظم البشر ينالون الخلاص في العالم الآتي. وهذا يخالف الكتاب الذي يعظم شأن هذه الحياة ويجعلها وحدها فرصة نوال الخلاص. (د) إنه يحوِّل بُشرى الخلاص من باب النعمة إلى باب الاستحقاق، لأن هذا التعليم يقول إن لكل إنسان حقاً أن يعرف طريق الخلاص بالمسيح معرفة جيدة، وإلا فهو مظلوم. وهكذا يصير الخلاص ليس من النعمة بل من حقوق البشر. (هـ) إنه يرفع عن جميع الوثنيين وعن أهل الوحي أيضاً لزوم التوبة في هذه الحياة، ويحررهم من مسؤولية واجباتهم الدينية. فإذا كان للجميع فرصة أخرى، لا تبقى ضرورة لأن ينتهزوا الفرصة الأولى. وكذلك يرفع عنهم كل دينونة إن لم يستفيدوا من الوسائط المُعدَّة في هذه الحياة، فالوثني يموت بريئاً. كما أن الذين عرفوا الإنجيل لا يكونون تحت المسؤولية عند انتقالهم إلى العالم الآخر. وهذا يدفع البشر لرفض وسائط الخلاص هنا وعدم الانتباه لها بحجة أن لهم فرصة أخرى بعد الموت. (و) إنه يُخمد غيرة الكنيسة في التبشير بالإنجيل بين الوثنيين والضالين، ويقضي على كل كرازةٍ للعالم. فلماذا تتكلف الكنيسة إرسال المبشرين إلى الضالين لتعليمهم طريق الخلاص بالمسيح، مع أن لهم فرصة أخرى أفضل لمعرفة المسيح ونوال الخلاص به! ولكن بولس لم يرَ هذا الأمر على هذه الصورة، فقال «فإذ نحن عالمون مخافة الرب نُقنع الناس» (2كو 5: 11) وقال «لأن محبة المسيح تحصرنا» (آية 14). فالذي ساق الكنيسة إلى التبشير بالإنجيل والاجتهاد في توزيع الأسفار المقدسة ورد الضالين في كل العالم إلى المسيح هو اليقين أن ذلك ضروري في هذه الحياة لخلاصهم.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الثامن والأربعون
مجيء المسيح ثانية وسوابقه التاريخية

1- ما هو تعليم الكتاب المقدس في مجيء المسيح ثانية؟

* تعلمنا الأسفار المقدسة أن المسيح سيجيء ثانيةً بالمجد، مجيئاً حقيقياً منظوراً. والحوادث التالية تسبق هذا المجيء:

(1) ينتشر الإنجيل في كل العالم، وتصل الدعوة للأمم فينضمون إلى الكنيسة المسيحية.

(2) يرجع اليهود إلى المسيحية وينضمون إلى الكنيسة بعد شتاتهم وابتعادهم مدة طويلة.

(3) يحدث ارتداد عظيم في الكنيسة ويظهر «ضد المسيح» أي «إنسان الخطية» ويُباد.

(4) تدخل الكنيسة في عصير جديد (عُبِّر عن طول مدته بألف سنة) فيه تمتد المسيحية إلى كل العالم وتتسلط على قلوب البشر، ويُقيَّد إبليس فيستريح العالم من مكائده.

(5) يُحَلّ الشيطان مدة وجيزة عند نهاية الألف السنة، فيحارب الكنيسة، ثم يأتي المسيح.

2- ماذا يقول الكتاب المقدس بخصوص انتشار الإنجيل في العالم قبل مجيء المسيح ثانيةً؟

* الآيات في شأن ذلك كثيرة وواضحة، منها «يملك المسيح من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض. ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له» (مز 72: 8، 11). «يباركنا الله وتخشاه كل أقاصي الأرض» (مز 67: 7). «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب» (إش 2: 2-4). «جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» (إش 49: 6). «لأن الأرض تمتلىء من معرفة مجد الرب كما تغطي المياه البحر» (حب 2: 14). «في ذلك الزمان يسمون أورشليم كرسي الرب، ويجتمع إليها كل الأمم إلى اسم الرب إلى أورشليم، ولا يذهبون بعد وراء عناد قلبهم الشرير» (إر 3: 17). وشبه المسيح ملكوته بخميرة تمتد وتخمر العجين كله، وبحبَّة خردل نمت نمواً عظيماً.

3- ما هي نبوات الكتاب المقدس بخصوص رجوع اليهود للمسيح قبل مجيء المسيح ثانية؟

* أشهر النبوات ما يأتي:

(1) نبوات عن تشتتهم ورفضهم، مع بقائهم أمة متميزة في كل العالم مدة رفضهم، ومنها لاويين 26: 33-39 و26: 44 وتث 4: 27 و28: 25-68 وإش 6: 9-13 و65: 11-15 وإر 9: 16 و24: 9 و29: 18 و30: 11 و46: 28 وحز 12: 15 ودا 9: 27 وهو 3: 4 وعا 9:9 ومت ص 24 ولو 21: 24 ورو 11: 25.

(2) نبوات عن رجوعهم وقبولهم الديانة الحقيقية، ومنها تثنية 30: 2-6 وإش 11: 11، 12 و49: 5، 6 و56: 8 وحز 20: 32-44 و36: 24-37 و37: 1-14 وهو 3: 5 وعا 9: 8، 9 ومي 2: 12، 13 و7: 15-20 وزك 10: 9، 10 و12: 10 ورو 11: 25 و2كو 3: 12-18.

4- ما هي التفسيرات الرئيسية لهذه النبوات؟

* هناك ثلاثة تفسيرات رئيسية:

(1) رأي اليهود، وهو أن النبوات عن أمتهم تعني رجوعهم من شتاتهم إلى بلادهم وامتلاكهم لها، وذلك تحت حكم المسيح، فيجددون هيكلهم وديانتهم على صورتها السابقة، ويرتفع شأنها إلى أعلى درجة بين شعوب الأرض.

(2) رأي أصحاب التفسير الحرفي لتلك النبوات، وهو لا يختلف في جوهره عن رأي اليهود، إلا أنهم يقولون إن الديانة اليهودية عند تجديدها تكون ديانة الكنيسة كلها، أي أن الكنيسة المسيحية تتحول إلى كنيسة يهودية. ولا يصادق معظم المفسرين تماماً على هذا التفسير، بل يقولون إنه لا ينبغي أن ننتظر انقلاباً تاماً مثل هذا في الديانة المسيحية، وإن التفسير الحرفي يصح فقط من جهة رجوع اليهود إلى أرض فلسطين ورفع شأنهم بين المسيحيين على اختلاف أممهم وبلدانهم، وذلك عند اعتناقهم المسيحية. وهذا الرأي قريب من المذهب الروحي (تحت رقم 3). غير أنه لا يمكن برهنة قولهم إن جزءاً من النبوات عن اليهود يتفسر حرفياً وجزءاً آخر روحياً. وإذا صح التفسير الحرفي لجزءٍ ينبغي طبعاً التسليم به للكل. ولذلك استصوب معظم المفسرين التفسير الروحي للكل، وهو الرأي الثالث.

(3) رأي أصحاب التفسير الروحي للنبوات عن اليهود، الذين يقولون إن كل تلك النبوات تتم بانضمام اليهود إلى الكنيسة واشتراكهم قي بركات الإنجيل وخيراته. وبعد رجوعهم إلى الكنيسة إذا اتفق أن بعضهم أو معظمهم أرادوا أن يرجعوا إلى بلادهم ويستوطنوها فليس هناك نبوة تمنع ذلك. وكذلك لا مانع إذا أرادوا أن يستوطنوا أمريكا أو الصين. ولكنهم والحالة هذه يرجعون وهم مسيحيون بحريتهم، لا ليجددوا الديانة اليهودية فيها تحت حماية الله، بل ليمارسوا المسيحية فيقيمون هناك كنائس ويعبدون المسيح بالحق. ولاشك أن ذلك يسر قلب كل مسيحي، ويتمجد الله به أكثر جداً من رجوعهم يهوداً لغاية سياسية. فمن اقتصر على فهم تلك النبوات على هذه الصورة فلا حرج عليه، ولكن يضل من يتطرف في تفسيرها حرفياً بأنها تشير إلى رجوع اليهود إلى فلسطين لبناء أورشليم والهيكل ثانية، وتقسيم الأرض بين أسباط إسرائيل القديمة، وتجديد طقوسهم الدينية، وكل ذلك تحت حكم المسيح، الذي (على زعمهم) يأتي لهذه الغاية ويجلس على عرشه في أورشليم، ويجمع حوله الأمة اليهودية ويقربها إليه دون سائر المؤمنين، وكل ذلك إتماماً لتلك النبوات. وهذا تفسير مستبعد، ليس ما يؤيده في العهد الجديد، بل إنه يخالف روحه، وقد نشأ عن خطإٍ في تفسير مقاصد الله.

5- ما هو الرأي الأصح في هذه التفسيرات الثلاثة؟

* نقول بصحة الرأي الثالث بدليل:

(1) تفسير تلك النبوات على أنها تشير إلى رجوع اليهود للكنيسة، وهو وافٍ بالمقصود، ويطابق باقي تعليم الكتاب، فإن تجديد الديانة اليهودية ودوامها إلى غير نهاية لا يُراد به ظاهره الحرفي، لأنه تعبير عن معناها الجوهري الحقيقي. وهذا ينطبق على تعاليم العهد القديم عن العصر الإنجيلي، وعلى ما جاء في العهد الجديد عن مستقبل الكنيسة والأحوال السماوية. ومن أمثلة ذلك قول المسيح «طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم إنه يتمنطق ويُتكئهم ويتقدم ويخدمهم» (لو12: 37). «أنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً» (لو22: 29). «من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ 3: ا 2). فهذه الآيات وما شابهها مجازية، تعبر عن حقائق روحية سامية باستعارة أمور أرضية زمنية. وتفسيرها حرفياً يُفقدها معناها الصحيح، ويؤدي إلى الضلال في تفسير كلام الله. وإذا صح هذا المبدأ على أقوال العهد الجديد النبوية، فكم بالحري يصحّ على نبوات العهد القديم. ونحن نعلم أن كل ما في العهد القديم من طقوس وفرائض رمزي استعدادي قُصد به تهذيب شعب الله القديم وتدريبهم في إدراك الأمور الروحية، لأنهم كانوا لا يزالون في حالة الطفولة، وفي احتياج إلى ما يناسب ذلك الحال.

وتوضح استعارات وتشبيهات وكنايات العهد القديم مستقبل كنيسة الله الديني، وهي موافقة لأحوال الشعب في زمن استعمالها. مثال ذلك في عهد داود وسليمان شُبِّه المسيح بملك ذي سلطان عام يمتد ملكه إلى كل أمم الأرض. ولما انقسمت المملكة وساءت أحوال الشعب عبر عن المستقبل بذكر الاتحاد بين إسرائيل ويهوذا، وارتفاع ملك داود، ودعوة الشعوب للتمتع بالراحة والسلام في الملكوت الثابت. وعبر حزقيال عن أحوال المستقبل باستعارات مبنية على بناء أورشليم وإقامة الهيكل ثانية، ورجوع الشعب إلى أرضهم المقدسة، وإرجاع السلطان إليهم، لأنه تنبأ في وسط ظروف مخالفة لذلك تماماً.

ولو أننا فسرنا تلك النبوات حرفياً لظهر لنا وكأن نبوات الأنبياء متناقضة، لأن أقوالهم أحياناً يُراد بها حرفياً إصلاح ما حدث من الخلل في النظام اليهودي، وأحياناً يُراد بها إبادة ذلك النظام على الإطلاق (إر 31: 31 وإش 65: 17 و66: 1-4 وحج 2: 7). ومنها ما يراد به صعود الأمم إلى أورشليم ليمارسوا الديانة اليهودية (إش 66: 23 وزك 14) ومنها ما يراد به امتداد اليهودية وكل طقوسها في كل الأرض (إش 19: 19-25 وملا 1: 11). ومن نبوات حزقيال ما يؤكد لنا بناء الهيكل والمدينة وسكنى الأرض المقدسة بمجدٍ واحتفال عظيم. مع أن أقوال يوحنا الرسول في سفر الرؤيا تعلّمنا أنه لا يكون هيكل، لأنه لا احتياج إليه في المستقبل. فبموجب المبدأ الروحي لتفسير النبوات، لا خلاف في كل ذلك، لأن المعنى الجوهري واحد في الكل.

إن التفسير الحرفي لتلك النبوات يخالف مبدأً جوهرياً في ديانة الله وتصرفاته في تهذيب البشر وتتميم مقاصده الإلهية، ولاسيما في بنيان ملكوته وإكمال عمل الفداء، وهو التقدم من الأدنى إلى الأعلى ومن الأبسط إلى الأبلغ. ففروض الديانة اليهودية أركانٌ ضعيفة بالنسبة إلى المسيحية وروحها، كما أن فروض المسيحية على ما هي الآن هي دون ما ستكون في مستقبل الكنيسة المجيد. فالقول بلزوم التفسير الحرفي هو بمثابة الاعتقاد أن الله مقيَّد بسَنّ رسوم واحدة خارجية لديانته وشعبه من بدء العالم إلى انقضائه.

(3) الديانة اليهودية ديانة رمزية، وكذلك أمور كثيرة في تاريخ شعب اليهود، وقد تمت كلها في نظام العهد الجديد. ولا خلاف على وجود رموز في العهد القديم، وينتهي الرمز بمجيء المرموز إليه، لأنه متى ظهر المرموز إليه لا نحتاج إلى الرمز. وكان النظام الموسوي الديني رمزاً لنظام الإنجيل، فلما ظهر الإنجيل لم تعد هناك حاجة إلى نظام موسى، الذي مضى وزال. وقد أعلن الإنجيل ذلك بصريح الكلام. ولذلك يقوم التقدم والنمو في الديانة الإلهية بالنظام الإنجيلي لا بالرجوع إلى النظام اليهودي، وإلا فيكون المرموز إليه قد انتهى في الرمز، لا الرمز في المرموز إليه، خلافاً لمبادئ النظام الرمزي ولشرائع الله السامية. كذلك بنو إسرائيل، شعب الله المختار في العهد القديم، المفرز عن بقية شعوب الأرض، كان حسب الجسد رمزاً للكنيسة التي هي بالحقيقة النسل المختار في عصر الإنجيل، وهي التي اختارها المسيح من العالم وافتداها بدمه ليضمها إلى ملكه الأبدي، ولذلك لما ظهرت الكنيسة ونظمت على مبادئ الإنجيل زالت الديانة اليهودية وطقوسها، ولم تُعد الأمة اليهودية شعباً خاصاً لله، فانتهى الرمز في المرموز إليه وزال عند ظهوره. ولأجل بيان ذلك سُمي كل المؤمنين في العهد الجديد «نسل إبراهيم» (غل 6: 16 وأف 2: 12، 19) «وآتين إلى جبل صهيون» (عب 12: 22) و«أولاد أورشليم العليا» (غل 4: 26) و«أهل الختان» (في 3: 3 وكو 2: 11) وسُموا أيضاً في سفر الرؤيا «يهوداً» بمعنى أنهم يستحقون المديح (رؤ 2: 9). وقيل أيضاً عن هذا النسل المقدس إنهم «حسب الموعد ورثة» (غل 3: 29) وهو الموعد لإبراهيم. ولما كان المؤمنون في كل مكان هم نسل إبراهيم وورثة المواعيد الممنوحة له، كانت تلك المواعيد تشير ليس إلى مجرد امتلاك أرض كنعان بل إلى المرموز إليه بأرض كنعان، أي كنعان السماوية التي هي الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل. ولا شك أن هذا ما قصده الرسل في كل ما علّموه في هذا الشأن، لأنهم في كل كلامهم عن المستقبل لم يشيروا إلى الميراث اليهودي الرمزي، بل أشاروا دائماً إلى أن الرمز قد مضى، والمرموز إليه هو الموضوع الوحيد لرجاء الكنيسة. فنتعلم من أن إسرائيل القديم رمز إلى إسرائيل الجديد اختفاء الرمز في المرموز إليه، وأن الأمة اليهودية تنضم للكنيسة المسيحية، وأنه لم يعُد لليهود حق في مواعيد الله لكنيسته ما لم ينضموا إليها، لأن مواعيد الله هي لهم ليس لأنهم من نسل إبراهيم الجسدي، بل باعتبارهم شعب الله حسب الاختيار. لذلك لا ينالون المواعيد إلا عندما يصيرون شعب الله بمعنى روحي.

وربما يُعتَرض بالقول إن اليهود اليوم مثل شعب الله في العهد القديم، هم رمزٌ لأنفسهم، وهم شعب الله تحت نظام الإنجيل، وإن امتلاكهم أرض كنعان قديماً يرمز لامتلاكهم إياها مرة أخرى في ظروف أفضل. فنجيب: إن ذلك ليس من نظام الرمز بل يخالفه، لأن الرمز دائماً أقل من المرموز إليه في كل شيء، ولذلك لا يصح أن يكون أمرٌ رمزاً إلى نفسه. هل يصح أن نعتبر أكل المن في البرية رمزاً إلى أكله مرة أخرى، أو ذبح خروف الفصح رمزاً إلى نفسه في نظام آخر؟ كلا! وكذلك لا يصح أن يكون امتلاك أرض كنعان في العهد القديم رمزاً لامتلاكها ثانية في عصر الإنجيل، بل إلى امتلاك ما هو أفضل وأسمى منها، يكون مطابقاً لمقاصد الإنجيل.

لقد اعتبر الرسل الديانة اليهودية رمزية، وأنها تمَّت في المسيحية، وأن المسيحيين غير مكلفين بعْدُ بحفظها. ووبَّخ الرسول بولس كل ميل إلى الفرائض اليهودية، وحثَّ المسيحيين على تركها لأنها زالت. وما أحسن قول المسيح للسامرية عن عبادة الله «لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، بل بالروح والحق» أي في كل مكان. ويوافق قول المسيح هذا ما حدث عند موته، وهو انشقاق حجاب الهيكل إلى اثنين، دلالة على زوال فرائض النظام الموسوي ونسخها تماماً. ومن هذا القبيل قول الرسول «لأن فصحنا أيضا المسيح قد ذُبح لأجلنا» (1كو 5: 8).

وكل ما تقرر في شأن الديانة اليهودية من هذا القبيل يصح أيضاً على الشعب اليهودي، فإسرائيل الأمة اليهودية شعب الله في العهد القديم هم رمز للكنيسة. فما دامت الرمزية قائمة يستمر التمييز بين اليهودي والأممي. ولما انتهت الرمزية بظهور المرموز إليه زال التمييز بين اليهود والأمم، وتألف شعب الله المختار من كل جنسٍ وقبيلة. ولنا على ذلك نصوص إلهية كثيرة في كلام الرسل الأطهار (انظر رو5: 12 وغل 3: 28 وكو 3: 11 وأف 2: 14) وهو ما يؤيده تسمية المؤمنين من كل جنس «نسل إبراهيم» و«إسرائيليين» (غل 3: 29 و6: 16 وأف 2: 12 وعب 12: 22).

إن التفسير الحرفي ينافي روح العهدين القديم والجديد. نعم لليهود مواعيد خاصة بهم تتعلق برجوعهم أخيراً إلى حضن الكنيسة وانضمامهم إلى شعب الله، ولكن لا يوجد وعد ولا برهان على ارتقائهم فوق غيرهم في ملكوت المسيح. غير أن رجوعهم يكون بركة للكنيسة لإحيائها وتنشيطها، كما قال الرسول إن اقتبالهم يكون حياةً من الأموات! (رو 11: 15). ويا له من منظر بهيج للغاية عند المؤمنين متى رأوا اليهود يرجعون للمسيح والكنيسة بنفس واحدة، يقبلون الإنجيل ويبشرون بحق المسيح.

وما قلناه عن رمز الديانة اليهودية والشعب اليهودي نقوله عن ميراثهم في أرض كنعان، التي هي رمز أيضاً لميراث الكنيسة التي سترث حسب المواعيد ليس أرض كنعان فقط بل الأرض كلها، كما قيل عن إبراهيم إنه «وارثٌ للعالم» (رو 4: 13) أي السماء الجديدة والأرض الجديدة، ميراث الكنيسة الأبدي حسب المواعيد (1بط 1: 4 و2بط 3: 13).

(3) لم يذكر المسيح والرسل رجوع اليهود إلى فلسطين وتجديد ديانتهم فيها، ولكنهم ذكروا رجوعهم إلى الله بقبولهم المسيح وتطعيمهم في الكنيسة بعد دخول ملء الأمم. وليس في كل العهد الجديد نص على رجوع اليهود إلى بلادهم وأحوالهم القديمة وتجديد ديانتهم التي نُسِخَت، ولا إشارة لذلك ولا ما يؤيده مطلقاً. ولكن ما ورد كثيراً هو إجراء الدينونة عليهم وتدمير مدينتهم وتشتّتهم في كل العالم. نعم اقتبس أصحاب الرأي الحرفي في رجوع اليهود وتجديد ديانتهم بعض آيات العهد الجديد على أن فيها إشارة لذلك، ومنها قول المسيح للرسل «أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (مت 19: 28) وقوله «وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تُكمَّل أزمنة الأمم» (لو21: 34). وسؤال الرسل للمسيح «هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟» وجواب المسيح لهم «ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة» غير أنه ليس في كل ذلك ما يؤيد رأيهم. وإذا نظرنا إلى أمثال المسيح التي فيها يبين أحوال ملكوته نستفيد منها فوائد كثيرة ومختلفة عن مستقبل ذلك الملكوت، ولكن لا نرى فيها ما يدل على رجوع اليهود إلى فلسطين وتجديد نظامهم الديني ولا حتى ما يشير لذلك، مع أن بعضها يتحدث عن علاقة اليهود بذلك الملكوت (مت 21: 28-46 و22: 1-14 ولو 13: 6-9 و15: 11-32). وموضوع بعض النبوات ما يطرأ على الكنيسة من الفساد وما يصيبها من الضيق أثناء تقدمها وامتدادها، ثم انتصارها أخيراً (مت 13: 24-50 وص 25 ولوقا 16، 18). ثم ليس في كلام بولس عن مستقبل اليهود ما يدل على امتيازهم وارتفاعهم وتجديد ديانتهم في المستقبل (رومية 9-11) بل بالعكس نراه يبين أن رجوعهم يكون رجوع المصالحة مع الكنيسة ودخولهم في عضويتها. وكذلك بطرس لم يذكر لا في مواعظه ولا في رسائله أن لإسرائيل حسب الجسد مستقبلاً. ومع أنه كان بين الرسل الذين سألوا المسيح عن ردّ المُلك لإسرائيل، نراه بعد سكب الروح القدس في يوم الخمسين ينادي تكراراً بالمسيح الجالس الآن على عرش داود (أع 2: 30 و4: 24-28). ولما تكلم عن مستقبل ملكوت المسيح (أع 3: 19-21) لم يذكر ردّ المُلك إلى إسرائيل بل ردّ كل شيء إلى حالة المجد والسعادة الأصلية، كما تكلم أنبياء الله القديسون منذ إنشاء العالم. وإذا نظرنا إلى سفر الرؤيا لا نرى فيه كلاماً في هذا الموضوع. نعم قيل إن ختم الاثني عشر ألفاً من كل سبط (رؤ 7) هو دليل على رجوع اليهود، ولكن ذلك لا يشير إلى اليهود بل إلى مختاري الكنيسة، فقد أشار سفر الرؤيا للكنيسة باستعارات وتشبيهات يهودية. ويؤيد ذلك أن عدد المختومين (144 ألفاً في رؤيا 14) يشير إلى مختاري الكنيسة دون تمييز. وتفسير البعض أن المرأة المذكورة في رؤيا 12 هي الكنيسة اليهودية، وأن نسلها هم اليهود في حالة التشتت في البرية، لا يتَّفق مع روح السفر وهدفه. والدليل على ذلك سكوت المسيح ورسله عن هذا الموضوع، حيث يُنتظر منهم أن يعلنوه لو كان صحيحاً.

(4) روح العهد الجديد وتعليمه نسخ الديانة اليهودية إلى الأبد، ورفض العهد الجديد اليهود أن يكونوا بعد شعب الله الخاص، وذلك كله يقتضي التفسير الروحي للنبوات عن مستقبل الأمة اليهودية. أما نسخ الديانة اليهودية إلى الأبد فمن أوضح تعاليم العهد الجديد. وقد ذكر فيه كثيراً (انظر أف 2: 14، 15 وكو 2: 14 و3: 1-3 وغل 4: 9-11 و5: 2-4).

وأما روح العهد الجديد فيناقض الديانة اليهودية، وقد نادى الرسل بنسخها وزوالها، وإنشاء ديانة على صورة أخرى تختلف عنها، هي المسيحية التي لا يمكن جمعها مع الديانة اليهودية في نظام واحد. وأما رفض اليهود أن يكونوا شعب الله الخاص فمعروف. ولا شك أن الله قصد خلاصهم أخيراً بدعوتهم إلى المسيح وانضمامهم إلى كنيسته.

(5) تفسير العهد الجديد لبعض النبوات المشابهة تماماً في ألفاظها وروحها للتي نحن في صددها الآن يرجِّح التفسير الروحي لها. ومن أمثلة ذلك تفسير الرسول بولس أن نسل إبراهيم يشمل المؤمنين من اليهود والأمم أيضاً، أي نسله الروحي لا الجسدي (رو4: 11-16). وتفسيره قول يوئيل: «كل من يدعو باسم الرب يخلص» وأنه إعلان لخلاص الأمم بالمسيح (انظر غل 3: 6-18 ورو 10: 13) مع أن يوئيل وجَّه كلامه حسب الظاهر إلى اليهود، إذ قال لهم «بنوكم وبناتكم وشيوخكم» وقد فسّر العهد الجديد هذه النبوة وأعلن المقصود منها. وهناك تفسير يعقوب الرسول لنبوة عاموس عن بناء خيمة داود الساقطة أنها تشير إلى رجوع الأمم ببنيان الكنيسة المسيحية (أع 15: 13-18).

(6) يستلزم التفسير الحرفي نتائج صعبة القبول ومستحيلة الحدوث عند كل مسيحي ذي عقل سليم. وذلك مما يثبت التفسير الروحي. فإن صح التفسير الحرفي للنبوات عن الأمة اليهودية يلزم فهم ما قيل عن الأمم القديمة المعاصرة لليهود حرفياً أيضاً. ومما قيل عنها إنها تكون موجودة عند رجوع اليهود الذين يغلبونها ويبيدونها، وذلك بعيد التصديق. وكذلك إن صح التفسير الحرفي لما جاء في زكريا 12 مثلاً يلزم وجود الأسباط والعشائر والعائلات قائمة متميزة بعضها عن بعض، حتى أن بيت داود يتميز عن غيره. قال «وتنوح الأرض عشائر عشائر على حدتها، عشيرة بيت داود على حدتها ونساؤهم على حدتهنَّ. عشيرة بيت ناثان على حدتها ونساؤهم على حدتهن. عشيرة بيت لاوي على حدتها ونساؤهم على حدتهن». كل العشائر الباقية عشيرة عشيرة على حدتها ونساؤهم على حدتهن. وفي نبوات أخرى ميز الكهنة عن اللاويين وأولاد صادوق عن عائلات أخرى من الكهنة، وكل سبط في رتبته (إش 66: 21 ومل 3: 3 وحز 44: 15 وص 48). وكل ذلك بعيد التصديق، لأن تلك المميزات العائلية الخاصة قد زالت عند اليهود. ولولا ذلك لأبقاها الله بعنايته كما حفظ معرفة بيت داود وعشيرته إلى أن أتى المسيح. ثم نهى الرسل عن حفظ أنساب لا حدّ لها (1تي 1: 4).

وإذا صحّ التفسير الحرفي يلزم الاعتقاد أن كل الأمم يصعدون كل سنة إلى أورشليم ليعبدوا الرب ويعيدوا الأعياد المفروضة (زك 14: 16 وإش 66: 23) وذلك بعيد أيضاً. وكذلك إن صح التفسير الحرفي يتعذر علينا تفسير كلام حزقيال في بناء الهيكل والمدينة وتقسيم الأرض بين الأسباط (حز ص 40-48) لأن إتمامه حرفياً مستحيل. ولكن إذا فسرناه روحياً، بمعنى أنه يشير إلى نجاح الكنيسة وامتدادها وتسلطها، وجدناه يوافق روح الإنجيل.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

6- ما هي براهين أصحاب «التفسير الحرفي» للنبوات عن مستقبل الأمة اليهودية؟

* تشير النبوات بموجب هذا التفسير إلى قيام الأمة اليهودية (أي نسل إبراهيم الجسدي) وامتلاكهم أرض الموعد ثانية باعتبارها ميراثاً خاصاً من الله لهم، وتجديد ديانتهم وارتقائهم في ملكوت المسيح فوق سائر المسيحيين. وتقترن هذه الأمور عند أصحاب هذا التفسير بمجيء المسيح في الجسد لإقامة ملكوت أرضي عاصمته أورشليم، أي أن عرش ملكه يكون في تلك المدينة، وشعب اليهود يكون حاشيته والرؤساء والمشيرين في ملكوته.

ولا يخفى أن في العهد القديم نبوات كثيرة عن رجوع اليهود من سبي بابل، الأمر الذي قد تم حرفياً وانتهى، كما أن فيه نبوات أخرى عن حالتهم السيئة في عصر الإنجيل، ثم عن نجاتهم من تلك الحال المعبَّر عنها غالباً برجوعهم إلى أرضهم ومدينتهم وبناء هيكلهم وممارسة فرائضهم الدينية بسلام ونجاح، وذلك ليس بالمعنى الحرفي بل بالمعنى الروحي أي رجوعهم إلى الكنيسة. ومن النبوات ما يشير إلى الكنيسة باستخدام تشبيهات وكنايات مأخوذة من عادات اليهود الدينية وأحوالهم الشعبية.

وقد استخف أصحاب الرأي الحرفي (في تفسير النبوات عن اليهود) بالرأي الروحي، وقالوا إن إتمامها روحياً غير حقيقي، وإنه لابد من إتمامها حرفياً، وإلا فلا صحة للنبوات ولا لما تتضمنه من مواعيد الله! وزعموا أن كل نبوات الكتاب تقريباً عن أحوال الكنيسة وامتدادها وآخرتها المجيدة بتشبيهات وكنايات يهودية لا تختص بالكنيسة المسيحية، بل تختص باليهود نسل إبراهيم الجسدي. مع أن موضوع النبوات عن العصر الإنجيلي هو كنيسة المسيح، لا أمة اليهود، وأن النبوات كما أنبأت عن المسيح بأسماء وألقاب مختلفة كنسل المرأة و«شيلون» و«نسل داود» و«داود» و«الغصن» و«عبد الرب» و«عمانوئيل» و«الراعي» و«الرجل رفقة يهوه» و«الرب برنا» و«ملاك العهد» و«عبدي البار»، و«رجل الأوجاع» و«راعي يهوه» و«أصل يسى» و«نور الأمم» و«حجر الزاوية» و«الأساس المؤسس» و«الكوكب من يعقوب» و«القضيب من إسرائيل». كذلك أنبأت عن شعب المسيح بأسماء وألقاب مختلفة أكثرها يهودي مثل «بيت إسرائيل» و«بيت يهوذا» (قارن إر 31: 31 مع عب 8:8 و10: 14-17) و«نسل يعقوب» و«نسل إسرائيل» (قارن مز 22: 22، 23 مع عب 2: 11، 12) و«خيمة داود» (قارن عا 9: 11، 12 مع أع 15: 14-17) و«صهيون» (قارن مز 2: 6، 7 مع أع 13: 33، 34).

ولمسألة التفسير الحقيقي للنبوات عن مستقبل اليهود علاقة بمسألة أخرى، وهي أن النبوات تتضمن كلاماً مجازياً واستعارات وتشبيهات وكنايات، نفسرها تفسيراً روحياً بغير معناها الحرفي المطلق، وهذا يبطل أهم براهين أصحاب التفسير الحرفي، لأنهم يزعمون أن النبوات لابد أن تتم حرفياً. وقد أنكر بعضهم وجود المجاز والكناية في الكتاب، وفسروا كل عبارة فيه على معناها الحرفي.

ولا يقصد أصحاب التفسير الحرفي أن يقتصروا على إثبات لزوم الإتمام الحقيقي لكل نبوة (الأمر الذي لا خلاف فيه) بل يقصدون أن يثبتوا لزوم إتمام كل نبوة حرفياً. وعندنا أن كل نبوة لابد أن تتم، وإتمامها إما أن يكون حرفياً أو روحياً، وذلك حسب قصد الله بها.

ولا يدل التفسير الروحي لمستقبل اليهود على أدنى بغضة لهم أو ازدراء بهم، ولا يسلب شيئاً من حقهم في المواعيد الإلهية. ولكنه يدل على أن لهم بركات أعظم مما يدل عليه التفسير الحرفي. فما هي وراثة أرض فلسطين بالنسبة إلى وراثة بركات الإنجيل؟ وما هي امتيازاتهم القديمة وطقوسهم بالنسبة إلى حرية الإنجيل وفوائده؟ إن اقترابهم إلى أورشليم السماوية أسمى من حلولهم في أورشليم الأرضية، وسجودهم في الكنيسة أفضل من سجودهم في هيكلهم القديم.

ويظهر ضلال أصحاب التفسير الحرفي بأمرين: (أ) ينكرون استخدام الأنبياء للمجاز في نبواتهم للتعبير عن أمور روحية، و(ب) يزعمون أن الإتمام الحقيقي للنبوات عن الأمة اليهودية يكون حرفياً. فنشأ عن الأول أنهم حسبوا اليهود (حسب الجسد) موضوع نبوات كثيرة، مع أن موضوعها الصحيح هو الكنيسة. ونشأ عن الثاني الزعم أن صدق الله وأمانته في إتمام نبواته يتوقفان على تحقيقها حرفياً. فنادوا أولاً بصدق الله وأمانته وضرورة تحقيق النبوات، ثم اجتهدوا في إيضاح أن التحقيق الحرفي هو فقط التحقيق الحقيقي. ثم أتوا بالنبوات التي تتكلم حسب الظاهر عن عظمة إسرائيل وديانة اليهود ورجوعهم إلى بلادهم وبناء أورشليم والهيكل، ثم استنتجوا صدق كل ما ادعوا به من جهة تلك الأمة بموجب معنى تلك النبوات الحرفي.

أما المفسرون الروحيون فيسلّمون بأن الله صادق، ولا بد من إتمام نبواته، ولكنهم ينكرون تحقيق النبوات حرفياً فقط. وبهذا يفسرون تلك النبوات ولا يخشون الضلال في تفسيرهم، لأن التفسير الحرفي هو يهودي في روحه وغايته، وبعيد عن روح الإنجيل ومقاصده، ولم يثبت من التاريخ واختبار الكنيسة، ويخالف تعليم الرسل. وتمسكنا به الآن يقودنا لأن نستخف بالإنجيل، ويرجعنا إلى الأركان الضعيفة التي زالت إلى الأبد عند مجيء المسيح. وقولهم إنه ليس للنبوات سوى الإتمام الحرفي يخالف ما نراه من عدة وجوه:

(1) يخالف ما نراه في النظام الرمزي في العهد القديم، والرموز فيه كثيرة، وقد تمت في العهد الجديد. ولكن هل تمت حرفياً؟ لا! فإن الرمز بحَمَل الفصح لم يتم في حملٍ حقيقي، ولا الذبائح الحيوانية تمت قي أمثالها، ولا ملكوت داود تم في ملكوت مثله من كل وجه، ولا جلس المسيح على عرش داود بالمعنى الحرفي، ولا دخل الهيكل ليشفع في المؤمنين على صورة دخول رئيس الكهنة قديماً إلى قدس الأقداس. وإذا صحّ أن الله عبَّر بالرموز عن حقائق إنجيلية، وأن تلك الرموز قد تمت في أمور روحية على صورة توافق النظام الإنجيلي فلا يُحتمل أن النبوات التي تشير إلى أمور إنجيلية، لا تتم أيضا على صـورة توافق ما ينتظر.

(2) ورأي أصحاب التفسير الحرفي يناقض نفسه، فمما يستندون عليه «العظام اليابسة» التي رآها حزقيال (حز 37: 1-14). فقالوا إن هذه النبوة تفيد رجوع اليهود إلى أرض فلسطين، واستخدموا كل مبادئهم وقواهم لإيضاح ذلك ولكن في ما يوافق غرضهم فقط، وأما ما لا يوافق غرضهم فسكتوا عن تفسيره حرفياً. مثال ذلك قوله «هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي، وآتي بكم إلى أرض إسرائيل» (حز 37: 12). فسّروا الإتيان بهم إلى أرض إسرائيل حرفياً، أما فتح قبورهم وإطلاقهم منها فلم يفيدونا: هل معناها حرفي أم مجازي؟ أما التفسير الروحي فهو أن رؤيا العظام اليابسة تشير إلى الرجوع من السبي، أو بالحري الرجوع إلى الكنيسة.

وفي تفسير ما جاء في زكريا 14 حرفياً صعوبات تبين خطأ المبدأ الذي بموجبه يفسرون كل هذا الأصحاح على أنه إعادة الأمة اليهودية إلى مركزها في أورشليم. وذلك يستلزم حدوث محاربة عنيفة (حرفياً) من الأمم ضد أورشليم، فيها تؤخذ المدينة وتُنهب البيوت وُتفضح النساء. ثم يخرج الرب ويحارب تلك الأمم (حرفياً) كما في يوم حربه يوم القتال. وتقف قدماه (حرفياً) في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي يواجه أورشليم من الشرق، فينشق جبل الزيتون من وسطه (حرفياً) نحو الشرق ونحو الغرب وادياً عظيماً، وينتقل نصف الجبل نحو الشمال ونصفه نحو الجنوب. وتهربون في جواء جبالي لأن جواء الجبال يصل إلى «آصل» (حرفياً) وتهربون كما هربتم من الزلزلة في أيام عزيا ملك يهوذا، ويأتي الرب إلهي وجميع القديسين معك (حرفياً). ويكون في ذلك اليوم أنه يكون نور. الدراري تنقبض. ويكون في يوم واحد معروف للرب. لا نهار ولا ليل (حرفياً) بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور. ويكون في ذلك اليوم أن مياهاً حية تخرج من أورشليم نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي (حرفياً). في الصيف وفي الخريف تكون. وقيل أيضاً: وتتحول الأرض كلها كالعربة من جبع إلى رمون جنوب أورشليم. وترتفع وتُعمَر في مكانها من باب بنيامين إلى مكان الباب الأول إلى باب الزوايا، ومن برج حننئيل إلى معاصر الملك (حرفياً). فيسكنون فيها ولا يكون بعد لعن، فتعمر أورشليم بالأمن. وقيل أيضاً: وهذه تكون الضربة التي يضرب بها الرب كل الشعوب الذين تجندوا على أورشليم: لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم (حرفياً). وقيل أيضاً إن كل الباقي من جميع الأمم الذين جاءوا على أورشليم يصعدون من سنة إلى سنة ليسجدوا للملك رب الجنود وليعيدوا عيد المظال (حرفياً). ويكون أن كل من لا يصعد من قبائل الأرض إلى أورشليم ليسجد للملك رب الجنود لا يكون عليهم مطر (حرفياً). وأن لا تصعد ولا تأتِ قبيلة مصر، ولا مطر عليها. تكن عليها الضربة التي يضرب بها الرب الأمم الذين لا يصعدون ليعيدوا عيد المظال. وقيل أيضاً: في ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل «قدس للرب» والقدور في بيت الرب تكون كالمناضح أمام المذبح (حرفياً). وكل قدر في أورشليم وفي يهوذا تكون قدساً لرب الجنود، وكل الذابحين يأتون ويأخذون منها ويطبخون فيها (حرفياً). وفي ذلك اليوم لا يكون بعد كنعاني في بيت رب الجنود.

وزكريا 14 هو من أهم وأشهر النبوات عند أصحاب التفسير الحرفي! ألا يتضح لكل عاقل أن مبدأهم في تفسيره باطل، لأنه يستلزم شق جبل الزيتون، وهروب الشعب في جوف الوادي بين الشطرين، وحدوث يوم يختلف عن كل الأيام بأنه ليس نهاراً ولا ليلاً، إذ في مسائه يكون نور، خلافاً للنظام الطبيعي، وأيضاً يخرج نهران من أورشليم نحو الغرب والشرق، أحدهما يجري إلى البحر المتوسط والثاني إلى بحر لوط. وأيضاً تنخفض كل الجبال (ما عدا الجبل الذي عليه أورشليم والهيكل) وتصير سهلاً واحداً فسيحاً. وتصعد كل الأمم بدون استثناء سنوياً إلى أورشليم ليعيدوا عيد المظال ويقدموا الذبائح الدموية اليهودية، ومن لا يحضر منهم يعاقبه الله بالقحط. وأيضاً الخيل تتزين بأجراس مكتوب عليها «قدس للرب». كما تكتب العبارة نفسها على جميع قدور الهيكل وقدور أورشليم ويهوذا التي يستعملونها لطبخ طعامهم. ولا يكون كنعاني بعد في بيت الرب. فما أغرب كل تلك الأمور.

ومن شاء أن يبحث عن تناقض التفسير الحرفي مع المقصود بأقوال الأنبياء، وتناقضه مع نفسه فليراجع نبوة حزقيال ص 40-48 حيث يرى أن تفسير تلك الأصحاحات على المبدأ الحرفي يؤدي إلى بحرٍ من الصعوبات. وكذلك نبوة يوئيل 3 فإن تفسيره حرفياً يستلزم أن الله يجمع كل الأمم وينزلهم إلى وادي يهوشافاط ويحاكمهم هناك، وأن الشمس والقمر يظلمان، والنجوم تحجز لمعانها، والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته، فترجف السماء والأرض. وأيضاً الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً، ومن بيت الرب يخرج ينبوع يسقي وادي السنط، ويهوذا وأورشليم تسكنان إلى الأبد. ومن هذا القبيل ما جاء في ميخا «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه الشعوب» (ميخا 4). وفي سفر ملاخي «فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور، وكل المستكبرين وفاعلي الشر يكونون قشاً، ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود. لا يُبقي لهم أصلاً ولا فرعاً، ولكم أيها المتَّقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها، فتخرجون وتنشأون كعجول الصِّيرة» (ملاخي 4).

(3) يخالف قول أصحاب التفسير الحرفي ما نراه في إتمام نبوات كثيرة في الكتاب. مثلاً: كيف تمت النبوات عن المسيح؟ هل ملك على عرش داود حرفياً وجلس في أورشليم ملكاً منظوراً، وكان ملكاً لليهود فقط. هل مارس المسيح وظيفة رئيس الكهنة على صورتها القديمة الحرفية؟ وكيف جاء إيليا في شخص يوحنا المعمدان؟ وبأي معنى تمت النبوات عن إقامة خيمة داود الساقطة، وعن نسل إبراهيم؟ وعمّن قيل في العهد الجديد إنهم ورثة بحسب الموعد؟ (غل 3: 29). قال هوشع عن رفض إسرائيل «لأنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم إلهاً». ثم قال «لكن يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يُكال ولا يُعدّ. ويكون عوضاً عن أن يُقال لهم: لستم شعبي يقال لهم أبناء الله الحي. ويُجمع بنو يهوذا وبنو إسرائيل معاً ويجعلون لأنفسهم رأساً واحداً ويصعدون من الأرض، لأن يوم يزرعيل عظيم» (هو 1: 9). فنسأل أصحاب مذهب التفسير الحرفي عن هذه النبوة: على أي صورة تمت أم ستتم؟ وإذا نظرنا إلى ما جاء عن هذه النبوة في رومية 9: 24-26 نرى أن إتمامها هو في تكثير عدد المؤمنين بالمسيح، من اليهود ومن الأمم، وهذا كافٍ لدحض التفسير الحرفي. وهكذا نقول في ما جاء عن صهيون وأورشليم، وبناء الهيكل، ورجوع اليهود إلى بلادهم: أن الأَوْلى هو تفسيره بمعناه الروحي لا الحرفي.

(4) كل من خاض في هذا البحث يرى أن جانباً عظيماً من النبوات قد تم روحياً. فأرض كنعان لم تفض لبناً وعسلاً، ونسل إبراهيم لم يكن كرمل البحر، وعدد الأمم الذين يجتمعون أخيراً لمحاربة أورشليم لا يكون حرفياً كرمل البحر (رؤ 20: 8)، ومُلك داود لم يكن إلى الأبد حرفياً، فقد انقسمت المملكة في عهد حفيده رحبعام، ثم سقطت مملكة يهوذا. فهل تحتمل تلك النبوة غير المعنى الروحي؟ كذلك قيل عن المسيح إن اسمه يدوم كالشمس، ولكن الشمس تغيب وستزول! فلا يكون المقصود بذلك المعنى الحرفي. وجاءت نبوة عن شق البحر الأحمر ثانية (إش 11: 15) والتيهان أيضاً في البرية (حز 20: 34-38) وإخراج الماء من الصخرة (إش 48: 21) وظهور عمود السحاب والنار (إش 4: 5) وإمطار النار والكبريت على سدوم (حز 38: 22) ورجوع الحالة الأصلية في الفردوس (إش 11: 6-8 و65: 25). فهل تم أو سيتم كل ذلك حرفياً؟ قال يوحنا قي الرؤيا عن أورشليم الجديدة إن علوها يكون 12 ألف غلوة، وكذلك طولها وعرضها (رؤ21: 16). فهل المقصود بهذا المعنى الحرفي؟

وقال حزقيال إن شعب الله سيشتغلون سبعة أشهر في دفن موتى أعدائهم أهل جوج ليطهروا الأرض، ثم قال «وأنت يا ابن آدم فهكذا قال السيد الرب: قل لطائر كل جناح ولكل وحوش البر: اجتمعوا وتعالوا. احتشدوا من كل جهة إلى ذبيحتي التي أنا ذابحها لكم، ذبيحة عظيمة على جبال إسرائيل، لتأكلوا لحماً وتشربوا دماً. تأكلون لحم الجبابرة وتشربون دم رؤساء الأرض. كباش وحملان وأعتدة وثيران. كلها من مسمنات باشان. وتأكلون اللحم إلى الشبع، وتشربون الدم إلى السكر من ذبيحتي التي ذبحتها لكم. فتشبعون على مائدتي من الخيل والمركبات والجبابرة وكل رجال الحرب يقول السيد الرب» (حز 39: 12، 17-20). فهل المقصود هو المعنى الحرفي؟ هل يقيم الله وليمة للطيور ووحوش البر، ويدعوها دعوة خصوصية لتأكل وتشرب على جبال إسرائيل لحم الجبابرة ودم رؤساء الأرض حتى تشبع من اللحم وتسكر من الدم، وأن تلك الوليمة تشتمل على لحم البشر ودمهم، وأيضاً على لحم ودم كباش وحملان وأعتدة وثيران، جميعها من مسمنات باشان. وليس ذلك فقط بل أيضاً على الخيل والمركبات.

وما قولهم في ما جاء في سفر الرؤيا عن دعوة الطيور لعشاء الإله العظيم (رؤ 19: 17، 18). هل يقف ملاك حرفياً في الشمس ويصرخ لجميع الطيور لتجتمع إلى عشاء الإله العظيم لتأكل لحوم ملوك وقواد وأقوياء وخيل، ولحوم الحر والعبد الصغير والكبير؟ ألا ترى أن هذه النبوة مثل نبوة حزقيال لا تتفسر حرفياً على الإطلاق! فمن يقدر أن يتصور الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً! إن هذه النبوات وأمثالها لا تفسير معقول لها إلا التفسير الروحي!

وفي أقوال المسيح نبوات لا تُفهم إلا بمعناها الروحي، ومنها قوله لليهود «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه» أراد بذلك هيكل جسده. وقوله لتلاميذه حين أكل الفصح معهم «لا أشرب من عصير الكرمة هذا حتى أشربه جديداً معكم في ملكوت أبي». فهل المعنى حرفي يُقصد به أن يسوع يشرب من ذلك النوع من الخمر في السماء! وقوله «خذوا كلوا هذا هو جسدي. اشربوا هذا هو دمي». فهل تحوَّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه حرفياً؟ وقوله لبطرس: «أعطيك مفاتيح ملكوت السموات» فهل أعطاه المفاتيح بمعنى حرفي؟ وقوله لنيقوديموس «الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» أليس المقصود به الولادة الروحية؟ وقول بولس إن القديسين سيدينون الملائكة، وأيضاً سيدينون العالم، ألا يخالف المعنى الحرفي أن المسيح هو الديان الوحيد؟ وجاء في الكتاب المقدس ذكر كتاب اسمه «سفر الحياة» وذكر دانيال وملاخي وسفر الرؤيا أسفاراً أخرى. فمن يعتقد أن تلك الأسفار مجلدات ذات صفحات مادية كُتبت أسماؤنا عليها؟ إن معناها روحي مجازي لا حرفي. ومن يظن أن كلام المسيح عن وجوب المغفرة للأخ المذنب إلينا سبعين مرة سبع مرات مقصود به هذا العدد فقط؟ وما هو التفسير المرجح لما جاء في الكلام عن تقييد الشيطان ألف سنة، فهل للهاوية مفتاح؟ وهل يأخذ الملاك سلسلة مادية في يده ليقيد بها الشيطان ثم يطرحه في الهاوية ويغلق بابها ثم يختم عليه؟ (رؤ 20: 3). وبالاختصار، ألا يوجد صهيون إلا صهيون الأرضية، ولا أورشليم إلا المدينة المعروفة بهذا الاسم في فلسطين، ولا نسل لإبراهيم سوى اليهود، ولا ختان إلا الختان الذي في الظاهر في اللحم، ولا عبودية إلا عبودية مصر، ولا برية إلا برية سيناء، ولا خبز إلا ما نتج من الحقول، ولا ماء إلا ماء الينابيع الأرضية، ولا كنعان إلا أرض فلسطين!

(5) وقد يحامي أحدٌ عن التفسير الحرفي للنبوات عن اليهود بقوله إن كل نبوات الويل والتهديد على تلك الأمة قد تم حرفياً. فنجيب: (أ) لا شك في تحقيقٍ صحيحٍ كامل لكل مواعيد الله، ولا بد أن يُظهر الله لطفه ورحمته ورضاه لإسرائيل الجسدي إتمامأ لمواعيده. غير أن كيفية تحقيق هذا تكون حسب استحسانه ومقاصده في بنيان ملكوته وإكمال عمل الفداء. فالأمر الجوهري في النبوات عن اليهود هو رجوعهم إلى رضا الله، وانضمامهم إلى عضوية ملكوته، واشتراكهم في فوائد الكنيسة وبركاتها، وذلك يمكن إتمامه بدون الرجوع إلى الديانة اليهودية وتجديدها. ويتم هذا بكيفية مسيحية لا يهودية. (ب) يميز العهد القديم بين شعب الله الحقيقي (أي نسل إبراهيم المقدس من اليهود المؤمنين الحقيقيين، وغيرهم) وبين الأمة اليهودية (أي نسل إبراهيم الجسدي). فتشمل الأمة الروحية الحقيقية نسل إبراهيم الروحي بمن فيهم المؤمنون من غير أبناء إبراهيم بالجسد، ولكنهم من الوثنيين الذين سلكوا في خطوات إيمان إبراهيم (رو 4: 12). وهؤلاء هم جماعة المؤمنين الحقيقيين، أي الكنيسة الإلهية غير المنظورة المعروفة أيضا باسم «إسرائيل الله». وقد بيَّن الرسول بولس الفرق بين شعب اليهود والكنيسة الإلهية (رو 9-11) وقال «ألعل الله رفض شعبه؟ حاشا! لأني أنا أيضاً إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين. لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه». ثم ذكر كلام إيليا ضد إسرائيل، وجواب الله له «أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبةً لبعل». ثم قال «فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة» (رو 11: 1-5). ويظهر من العهد القديم أن جانباً عظيماً من اليهود ارتدوا عن الإيمان ورفضوا الله وديانته، فرفضهم الله. غير أن البعض حسب اختيار النعمة ندموا على ذلك فميزهم الله بعلامة على جباههم (حز 9: 4). وقد حاقت بهم كل الويلات والبلايا التي هددهم الله بها، كما تحقق كلام التعزية والإنعاش والمواعيد الكثيرة لإسرائيل الحقيقي، أي الكنيسة المؤمنة بين اليهود. فوعدهم الله في النبوة بالرجوع من بابل، وأعلن لهم مجيء المسيح وصفاته وعمله المجيد ليخلص الشعب المختار، وكشف لهم أيضاً مجد مستقبل الكنيسة في عصر الإنجيل وارتفاعها وامتدادها وازديادها ثم نصرتها الأخيرة. واستخدم الله في ذلك تشبيهات وكنايات سامية جداً، بُني معظمها على ما يختص بديانة اليهود وأحوالهم الجسدية (انظر إش 40-66 والجزء الأخير من حزقيال ونبوة زكريا). وقد أعطاهم الله عربوناً على إتمام كل تلك المواعيد، هو إرجاع شعبه من بابل في الوقت المعين.

فما هي النبوات التي تمت حرفياً؟ أليست هي النبوات التي تحتوي على تهديد المرتدين من اليهود التي يُنتظر إتمامها حرفياً؟ وما هي النبوات التي تمت روحياً، أو ستتم بالتدريج؟ أليست هي النبوات الموجهة ليس إلى الأمة اليهودية حسب الجسد، بل إلى الكنيسة الحقيقية التي ستتألف من المؤمنين الأمناء بين اليهود، والتي توسعت عند مجيء المسيح وانضمت إليها الأمم، فأخذت تتقدم وتتسع، ولا تزال كذلك إلى أن تعم أخيراً كل قبائل الأرض؟ نعم إن تلك الكنيسة الإلهية (سواء في العهد القديم أم الجديد) هي وارثة المواعيد الإلهية، والتي تنال البركات الخاصة لشعب الله الخاص، أي المؤمنين بالمسيح في كل زمان ومكان. نعم إن توجيه النبوات عن تقدم الديانة وازدهار الكنيسة إلى اليهود فقط ضلال مبين، وإن دلت ألفاظها حسب الظاهر على نجاح الديانة اليهودية ورفع شأن تلك الأمة.

جاءت أقوال أنبياء اليهود بطريقتين: الأولى بالتوبيخ والتهديد والإنذار والوعيد، وقد تم كل ما أعلنوه عليهم من ويل. والثانية إنباءً بالبركات والمواعيد الروحية والزمنية، وتلك قد تمت أيضاً. فعند تفسير أقوال الأنبياء يجب الانتباه إلى هذا التمييز، فلا ننسب التوبيخ والإنذار بالويل للأتقياء، ولا نوجِّه المواعيد بالبركات للعصاة والمرتدين. ولأن النوعين على الغالب واردان معاً، وكلام التهديد والإنذار بالويل يسبق كلام الوعد والتعزية، يجب تدقيق النظر في ذلك. إن مواعيد الله ليست لليهود دون المسيحيين، ولا للمسيحيين دون اليهود، بل هي للكنيسة كلها، مكوَّنة من اليهود والوثنيين الذين قبلوا المسيح. وكنيسة الله هي واحدة، وهي وارثة المواعيد سواء كانت مؤلفة من اليهود أم من الأمم. والسؤال المهم هو: ما هي الكنيسة؟ قال اليهود إنها الأمة اليهودية لأنها نسل إبراهيم حسب الجسد. غير أن الكتاب بيَّن لنا أن علاقة الأمة اليهودية بالكنيسة انتهت عند مجيء المسيح، وصارت الكنيسة الحقيقية هي صاحبة المواعيد والمكونة من ورثة إيمان إبراهيم، لا ورثة دمه الجسدي (يوحنا 1: 11-13).

(6) وإذا سُئلنا: هل للأمة اليهودية نصيب في مواعيد الكتاب؟ نجيب: نعم لها نصيب: (أ) في النبوات عن مجد الكنيسة تحت نظام الإنجيل، وذلك متى انضمت إلى الكنيسة المسيحية، فتشترك في ذلك المجد العظيم الخاص بكنيسة المسيح. و(ب) في النبوات التي تعد برجوع اليهود إلى الله واجتماع شتاتهم وقبولهم بعد رفضهم، وذلك سيتم متى رُفع البرقع أخيراً عن عيون إسرائيل وقبلوا المسيح. حينئذ يشتركون في ميراث الكنيسة.

وإذا قيل إن الوعد لإبراهيم بإعطاء أرض كنعان له ولنسله هو إلى الأبد (تك 13: 15 و17: 8 و26: 3 و18: 13) ولم يتم بعد كما ينبغي، فينتظر إتمامه في المستقبل حرفياً. نجيب: إن الإتمام الحرفي الصحيح يستلزم قيام إبراهيم من الأموات ليرث الأرض مع نسله، وإن الآباء أنفسهم لم ينتظروا إتمام ذلك الوعد حرفياً. قيل عن إبراهيم «بالإيمان تغرب في أرض الموعد كأنها غريبة، ساكناً في خيام مع إسحاق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه. لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله» (عب 11: 9). فنرى أن الآباء سلَّموا بأنهم غرباء ونزلاء على هذه الأرض. ولكن الوعود تحققت لهم، فورثوا الأرض بعد التيه في البرية، وامتد سلطانهم فيها حسب وعد الله لإبراهيم. فقيل عن سليمان «وكان متسلطاً على جميع الملوك من النهر إلى أرض الفلسطينيين وإلى تخوم مصر» (2 أي 9: 26). وجاء في نحميا «أنت هو الرب الإله الذي اخترت أبرام وأخرجته من أور الكلدانيين وجعلت اسمه إبراهيم. ووجدت قلبه أمينا أمامك، وقطعت معه العهد أن تعطيه أرض الكنعانيين.. وتعطيها لنسله. وقد أنجزت وعدك لأنك صادق» (نح 9: 7، 8). فبشهادة الوحي أخذت أمة اليهود (حسب الجسد) نصيبها حرفياً في الوعد لإبراهيم.

(7) وإذا لم يسلّم المعترض بما قلناه، وقال إن الوعد هو لإبراهيم ولنسله إلى الأبد، أي أن نسله يكون كنجوم السماء وكرمل البحر، وأن كل أرض كنعان تكون له ولهم ملكاً أبدياً، وأن جميع قبائل الأرض تتبارك فيه وفيهم، وذلك لم يتم تماماً بامتلاك الإسرائيليين أرض كنعان قبل مجيء المسيح. فنجيب: إن الإشارة في كلمة «نسل» في ذلك الوعد غير محصورة في نسل إبراهيم الجسدي، بل تشمل المسيح وكل المؤمنين به في عصر الإنجيل. فلا بد أن أرض كنعان تشير إلى ميراثٍ أوسع وأفضل للكنيسة «فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثاً للعالم، بل ببر الإيمان» (رو 4: 13) وهذا يعني أن العالم أجمع هو الميراث الحقيقي لإبراهيم ونسله. ثم نقول إن أرض كنعان هي من الأمور الرمزية في العهد القديم، وإنها كانت رمزاً إلى ما هو أسمى وأفضل وأوسع وأمجد في نظام الإنجيل، وإن تميز بين اليهود كشعب الله الخاص وبين الأمم قد زال، وإن الديانة اليهودية وكل ما يختص بها قد تمت في ظهور المرموز إليه بها وزالت. أفلا يلزم عن ذلك أن الأرض المقدسة قد زالت مع جملة رموز العهد القديم باعتبارها ميراثاً خاصاً باليهود؟ وكما توسع نسل إبراهيم توسع أيضاً ميراثهم، وصارت الكنيسة تتوقع ليس كنعان الأرضية بل كنعان السماوية، وستمتلك ليس فقط جزءاً صغيراً وحقيراً من هذه الأرض بل الأرض كلها، لأن المسيح سيتسلط على جميع الأمم والشعوب. وإذ ذاك ترث الكل لا الجزء، وتتمتع بالمرموز إليه لا بالرمز الذي قد زال، ولا يتم تقدمها نحو الكمال برجوعها إلى الجزئيات بل بسعيها نحو الكليات، وليس باجتماعها في بلاد واحدة وهيكل واحد ومركز واحد للعبادة وتقديم ذبائح مادية وممارسة فرائض زمنية، بل برجوع كل البشر إلى الله وتكريس الأرض كلها لعبادته الروحية وخدمته القلبية الطاهرة.

(8) وإذا قال أحد إن الأمة اليهودية لا تزال متميزة عن سائر الشعوب في كل العالم، وإن ذلك دليل على أن الله سيردهم أخيراً إلى أرض فلسطين ويعيد ديانتهم هناك. فنجيب: كلا، بل إن بقاء اليهود على هذا الحال هو إتمام للنبوات التي قالت إنهم سيكونون كذلك، ولا يوجد ما يدل على رجوعهم حرفياً إلى أرض فلسطين. بل يصح أن نحسب حال اليهود هذا دليلاً على أن النبوات عنهم تتم برجوعهم كأمة إلى الكنيسة المسيحية ليقبلوا الإنجيل.

(9) وربما اعترض أحد بأن النبوات تذكر رجوع اليهود إلى أرض فلسطين بصريح اللفظ، فلماذا لا نفهمها عنهم وعن رجوعهم حرفياً؟ فنجيب: أنبأ الله في العهد الجديد عن أزمنة الإنجيل وأحوال الكنيسة باستخدام ألفاظ وعبارات وكنايات وتشبيهات ومجازات واستعارات مألوفة عند اليهود في زمن العهد القديم، ومبنية غالباً على عاداتهم الدينية وبلادهم وما فيها من الحيوان والنبات والمعادن وما جرى فيها من حوادث، ليجعل تلك النبوات مفهومة عندهم. ومن أمثلة ذلك دعوة إبراهيم، والخروج من مصر، والتيهان في البرية، ومدينة أورشليم، وجبل صهيون، وهيكل سليمان، واحتشاد الشعب للأعياد، وتقديمهم الذبائح والقرابين وإيقادهم البخور وتبويقهم بالأبواق، وترنيمهم ترنيمات الفرح، ورجوعهم من السبي وبناؤهم المدينة والهيكل ثانية، وامتلاكهم أرض كنعان، إلى غير ذلك مما استُخدم للتعبير عن أحوال الكنيسة وكل ما يختص بها من الأمور الروحية في عصر الإنجيل. فيجب على المستنيرين بنور الإنجيل أن يفسروا تلك الخيارات المجازية وأمثالها بالنظر إلى معناها الجوهري الإنجيلي، لا الخارجي الحرفي اليهودي، وأن يتوقعوا انضمام اليهود إلى الكنيسة ليشتركوا في بركات شعب الله، ويجب أن يبشروهم بالإنجيل ويطلبوا من الله أن يتمم مواعيده فيهم، ويتوقعوا برجاء وشوق رجوعهم إلى حضن الكنيسة وانضمامهم إلى شعب الله تحت رياسة المسيح، حسبما وُعدوا منذ القديم.

7- ما هو الارتداد العظيم الذي يسبق مجيء المسيح ثانية؟

* يحدث ارتداد عظيم في الكنيسة ويظهر «ضد المسيح» أي «إنسان الخطية» وإبادته. والكلام النبوي في هذا الموضوع واضح، ومنه كلام بولس في الارتداد عن الإيمان وظهور إنسان الخطية قبل مجيء الرب، وإبادته (2تس 2: 1-10). وفي سفر الرؤيا عبارات كثيرة تدل على هذه الحادثة المريعة باستعمال تشبيهات وكنايات واستعارات متنوعة.

وجاءت نبوات الرسل عن أعداء الكنيسة في صورتين: (أ) صورة تصف عداوتهم ومقاومتهم لها دينياً بواسطة تعاليم فاسدة وأنظمة بشرية وعجائب كاذبة وخرافات وأباطيل، بالإشارة إليهم بأسماء مختلفة منها: «الارتداد» و«إنسان الخطية» و«ابن الهلاك» و«ضد المسيح» و«وحش طالع من الأرض له قرنان شبه خروف» (رؤ 13: 11) و«النبي الكذاب» و«الزانية» و«بابل». و(ب) صورة تصف عداوتهم للكنيسة على صورة المقاومة السياسية والطمع والافتخار العالمي، باستخدام كلمة تصف الممالك السياسية المضادة لملكوت المسيح وهي «وحش» موصوف أنه طالع من البحر له سبعة رؤوس وعشرة قرون جلست عليه الزانية، وكانت قرونه واسطة إبادتها أخيراً (رؤ 13: 1-10 و17: 16).

وقد اختلف المفسرون في مدلول «ضد المسيح» فقال بعضهم إنه يشير إلى قوة دينية تقاوم المسيح، وقال آخرون إنه يشير إلى قوة سياسية عالمية تقاومه، وقال غيرهم إنه يشير إلى شخص أثيم. واختار جمهور المدققين الاحتمال الأول. وعلى ذلك يُراد به ارتداد ديني، ويرادفه «إنسان الخطية» و«ابن الهلاك» و«الزانية» و«بابل» و«النبي الكذاب» وكلها تشير إلى أمرٍ واحد هو الارتداد عن الحق أو الزنا الروحي أو مقاومة المسيح بواسطة تعاليم كاذبة وأضاليل مهلكة. ومما يؤيد ذلك استعمال «ضد المسيح» في رسائل يوحنا للتعبير عن معلّمين كذبة ومضلّين.

وليس في غير رؤيا يوحنا من أسفار الرسل إلا نبوات قليلة، غير أنها ثمينة وسامية، ويتحدث أكثرها عن ارتداد عظيم في الكنيسة وظهور مقاومة شديدة للإنجيل من أعداء أقوياء عبروا عنهم بأسماء مختلفة أشهرها «ضد المسيح» و«إنسان الخطية» و«ابن الهلاك» و«سر الإثم» و«التنين» و«الوحش» الأول والثاني (رؤيا 13) و«النبي الكذاب» و«الزانية» و«"بابل». وبعضها تشير إلى مقاومة دينية، وغيرها إلى مقاومة عالمية. والتنين كناية عن إبليس رئيس الجميع.

ومن الأمور التي ستصاحب ذلك الارتداد ومن خصائصه المتنوعة إفساد الحق، واغتصاب حقوق الله والمسيح، وإصدار قوانين دينية وفرائض مختلفة تخالف روح الإنجيل، والادعاء بسلطان سام على عالم الأرواح، والنجاح باستعمال المعجزات الكاذبة وكل خداع. وينشأ ذلك الارتداد من داخل الكنيسة لا من خارجها، ولا بد أن يهلك كل المرتدين في ما عدا التائبين منهم.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
وفي رسائل بولس نبوتان تستحقان الذكر، إحداهما عن إنسان الخطية، والأخرى عن الارتداد في الأزمنة الأخيرة، أولهما وردت في 2 تسالونيكي، والثانية في 1تيموثاوس. وبما أن النبوة عن إنسان الخطية جاءت أولاً نبدأ الكلام بها، فنبحث أولاً عن معنى الآية التي وردت فيها.

افتتح الرسول كلامه في هذا الموضوع بقوله «ثم نسألكم أيها الإخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه، أن لا تتزعزعوا سريعاً عن ذهنكم ولا ترتاعوا، لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا، أي أن يوم المسيح قد حضر» (2تس 2: 1، 2). ويمكن فهم «مجيء المسيح» و«يوم المسيح»، إما مجازاً، أي مجيئه في دينونته لليهود، أو حرفياً أي مجيئه في المجد ليدين العالم. نعم إنها جاءت أحياناً بالمعنى الأول، ولكنها وردت غالباً في العهد الجديد بالمعنى الثاني، وهو المعنى الموافق لها في هذا المكان، كما يتضح من القرينة.

والتعبيران «مجيء المسيح» و«يوم المسيح» لا يشيران في هذا المكان إلى خراب أورشليم، بل إلى مجيئه أخيراً ليدين العالم، وهو الأصح والمقبول. وجاءت دائماً بهذا المعنى في 1تس 2: 19 «لأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا؟ أم لستم أنتم أيضاً أمام ربنا يسوع المسيح في مجيئه؟». وطلب لهم أن «تثبت قلوبهم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه» (1تس 3: 13). وصلى أن «إله السلام نفسه يقدسهم بالتمام، وأن تُحفظ روحهم ونفسهم وجسدهم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح» (1تس 5: 23).

كل هذه الأقوال تشير إلى الدينونة العامة. وإذا كانت قد جاءت دائماً بهذا المعنى في 1تسالونيكي، فلماذا لا تُفسَّر بهذا المعنى في 2تسالونيكي؟ إن المقصود بمجيء المسيح هنا هو مجيئه الثاني ليدين العالم. وقد تكلم الرسول عن هذا المجيء نفسه في الرسالة الثانية. (انظر 2تس 1: 6-10).

كان مهماً جداً ألا يضل أهل تسالونيكي في هذا الأمر، بعد أن عرفوا أن مجيء المسيح قريب، وآمنوا بذلك. فإن لم يأتِ حسب انتظارهم، يتزعزع إيمانهم في عقيدة المجيء الثاني، ثم في باقي العقائد المسيحية! ولذلك حذرهم الرسول من السقوط، وأكد لهم أنه لا بد من حدوث أمور مهمة قبل المجيء الثاني، فقال «لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي (يوم المسيح) إن لم يأتِ الارتداد أولاً، ويُستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهاً أو معبوداً، حتى أنه يجلس في هيكل الله كإلهٍ، مُظهراً نفسه أنه إله» (2تس 2: 3، 4). وليس هذا الارتداد سياسياً كثورةٍ ضد حكومة، بل هو ديني، أي سقوطٌ من الديانة والعبادة الصحيحة، فهو «ارتداد عن الإيمان» (1تي 4: 1) و«ارتداد عن الله الحي» (عب 3: 12). قال إيراسموس إن أداة التعريف في الارتداد هنا هي للعهد، فهو ارتداد شهير جاءت عنه نبوة سابقاً. وكذلك قوله «إنسان الخطية» هو إشارة إلى ما هو معلوم عندهم من كلامه سابقاً.

وقد ذكر الرسول هذه الأمور لأهل تسالونيكي ليحذر حديثي الإيمان منهم من الارتداد العظيم الذي سيطرأ على الكنيسة، فقال لهم «أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا؟ والآن تعلمون ما يَحجِز حتى يُستعلن في وقته. لأن سِرّ الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يَحجِز الآن» (2تس 2: 5-7). وهذا يعني أن «إنسان الخطية» لم يكن قد استُعلن بعد حينئذ، لأن زمن ظهوره لم يكن قد أتى بعد. غير أن سر الإثم كان يعمل حينئذ، لأنه يوجد «سر للأثم» كما يوجد «سر للتقوى» (1تي 3: 16) والواحد ضد الآخر. فزرع الفساد كان قد زُرع، ولكنه لم يبلغ أشدّه بعد، والخميرة كانت متحركة في بعض الأجزاء ولكن كان لا بد من مرور وقتٍ قبل أن تخمِّر كل العجين، وإنسان الخطية كان قد حُبِل به في الرحم ولو أن ذلك كان في بدايته، ولا بد من مرور وقت قبل أن يولد، فقد كان هناك ما يمنع ظهوره. غير أن الرسول لم يقُل إنه شخص أو شيء آخر؟ ولكنه يبقى غير واضح إلى أن يُرفع ما يَحجزه من الوسط. وليس في طاقتنا الآن تحديده يقيناً، غير أن المفسرين الأوَّلين أجمعوا على أن إنسان الخطية هو المملكة الرومانية. والأرجح أن الرسول احترس من التصريح به كتابةً لأنه يختص بالسياسة العليا للدولة، ولذلك قال «إلى أن يُرفع من الوسط الذي يحجز الآن، وحينئذ سيُستعلن الأثيم، الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه» (2تس 2: 8). ولا بد أن الرسول أخبر أهل تسالونيكي به شفاهاً، وإن لم يكتب إليهم عنه في الرسالة إلا تلك العبارات المبهمة.

فالأمر واضح جداً أن الأثيم المذكور هنا وإنسان الخطية هما شخص واحد، وهو الذي يبيده الرب بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه. فإذا كانت هاتان العبارتان تشيران إلى حادثتين متميزتين، يكون المعنى أن المسيح يبيده بالتدريج بالتبشير ونشر كلمته، ويبطله عند مجيئه الثاني بمجد أبيه مع ملائكته القديسين. وإذا كانتا تشيران إلى حادثة واحدة فذلك إطناب ورد مثله كثير في الأسفار الإلهية، المقصود منه أن المسيح يبطله بغاية السهولة بنفخة فمه وبظهور مجيئه.

ولما رغب الرسول في أن ينبئ عن إبادة إنسان الخطية، أدرج ذلك في الخبر عنه، ثم عاد وذكر الأحوال الأخرى التي بواسطتها يتقدم هذا الشرير ويثبت نفسه في العالم، وهي أنه ينال الثقة والسلطان بالحيل الشيطانية، ويدّعي أنه يمتلك قوات فائقة، ويفتخر بالإعلانات والرؤى والمعجزات الكاذبة التي يستخدمها لينشر تعاليمه، فقال «الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوات وبآيات وعجائب كاذبة» (2تس 2: 9). وهو يستعمل كل الحيل الشريرة وأنواع الخداع والأهواء والتصرفات الرديئة مع بني البشر، ولكنه ينجح فقط مع أصحاب القلوب الفارغة من الحق الذي لو قبلوه لنالوا الخلاص الأبدي، ولذلك قال «وبكل خديعة الإثم في الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يَخلُصوا» (2تس 2: 10). ولما كان من العدل أن الله يسلِّم الذين يُسرّون بالبُطل والكذب للبُطل والأكاذيب في هذا العالم، للدينونة في العالم الآتي، قال الرسول «ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، لكي يُدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سُروا بالإثم».

لقد ارتعب أهل تسالونيكي من بعض العبارات في الرسالة الأولى، إذ ظنوا أن نهاية العالم قد اقتربت والمسيح آتٍ للدينونة. وأراد الرسول أن يصلح أخطاءهم ويطمئن قلوبهم فأكد لهم أن مجيء المسيح لا يزال بعيداً، وأنه مسبوقٌ بارتداد عظيم أو سقوط بعض المسيحيين من الإيمان الحقيقي والعبادة الصحيحة.

8- ما معنى دخول الكنيسة في عصر سعيد هو الألف السنة؟

* معناه دخول الكنيسة في عصر جديد، كُني عن طول مدته بألف سنة، فيه تمتد المسيحية إلى كل العالم وتتسلط على قلوب البشر، ويُقيَّد إبليس فيستريح العالم من مكايده. وكل هذه أمور مقررةٌ في النبوات الإلهية، وفيها تلميحات كثيرة تدل على أن المسيحية تكون حينئذ ذات تأثيرٍ كلي في البشر، والديانة الوحيدة في العالم، وأن الحجر المقطوع من جبلٍ بغير يدين يصير حينئذ جبلاً عظيماً ويملأ الأرض (دا 2: 43، 45). وتبطل عداوة ومقاومة السياسيين ورجال الديانة الكاذبة للإنجيل، ويحدث تقدُّم عظيم ومجيد في الأمور الزمنية والمدنية والاجتماعية والعلوم والفنون والصناعة والاختراعات ووسائل المعيشة، لأن العالم يستريح نوعاً ما من الخطية والحروب والخصومات الناتجة عنها.

وقد توهَّم البعض أن مجد الألف سنة لا يكون بارتفاع شأن المسيحية وبلوغها أسمى درجة في فعلها قي قلوب البشر، بل تكون بتجديد الديانة اليهودية، ورجوع الكنيسة إلى الأركان اليهودية القديمة، وإقامة ملكوت المسيح بصورة زمنية أرضية (إذ يأتي هو في الجسد) ويُعاد بناء أورشليم وتصير عاصمة ذلك الملكوت، ويتم تعيين وزراء ورؤساء له من اليهود نسل إبراهيم الجسدي.

ويجب الانتباه لصفات الأتقياء وأحوال القلب البشري أثناء الألف السنة لئلا ننتظر الكمال التام على هذه الأرض. نعم يقول الكتاب إن الشيطان يُقيّد، وإن المسيحية تمتد، وإن أعداءها يبيدون، وإن السلام التام يسود بين كل الأمم. لكنه لا يبشرنا بأن كل مسيحي يبلغ الكمال الروحي، فإن العيوب الشخصية لا تزول بالتمام من قلوب البشر ولا من تصرفاتهم، لذلك ربما يحتاجون إلى علاجٍ إلهي مرّ كالحزن والضيق والتأديب. لكن المنتظر أن التقوى تزيد جداً في العالم في تلك المدة، حتى تصير أرضنا مكان راحة وسعادة روحية وجسدية لا نظير لها إلا في العالم السماوي وحلول العرش الإلهي.

أما كيفية دخول مدة الألف سنة في العالم، والوسائل التي تسهل مجيئها فتتم بتبشير كل الأمم بالإنجيل، ويحوِّل الله جميع الأمور العالمية إلى وسائل يتمم بها هذه الغاية، ويـسكب الروح القدس في كل مكان وبين جميع القبائل والشعوب. وفي الكتاب مواعيد وأوامر كثيرة في هذا الشأن، منها أمر المسيح لكنيسته أن تبشر بالإنجيل وتتلمذ الشعوب، ووَعْده أن يرافقها، ويرسل لها الروح القدس. والمسيح الآن ملكٌ مطلقٌ في الكون يعتني بكنيسته، ويوجِّه أعمال عنايته وكل ما يحدث في العالم من اضطراب وانقلاب في الأمور السياسية والحروب والاختراعات ليبني هذا الملكوت ويتمم هذه الغاية السامية. ومن وسائل إتيان عصر السلام والراحة إبادة أعداء الله المعاندين الذين لا رجاء في إصلاحهم. ومن النصوص على ذلك كلام الرسول عن إبادة إنسان الخطية وابن الهلاك (2 تس2: 8) وقول الملاك في سفر الرؤيا لجميع الطيور: اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لتأكلي لحوم الأشرار ومقاومي المقاصد الإلهية (رؤ 19: 18). ولابد أن الأرض تمتلىء في ذلك اليوم من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر، وكذلك لا يسيؤون ولا يُفسدون في كل جبل قدس الرب. ولا شك أننا قد اقتربنا جداً من ذلك اليوم المبارك، لأن الكنيسة تجتهد الآن في أن تتمم وصية ربها في تبشير جميع الشعوب بالإنجيل بغيرةٍ شديدةٍ، ويتكلل اجتهادها بالنجاح في كل مكان، وتزيد آمالها يومياً بإتمام ذلك العمل ببركة الله عليها، وبإرسال الروح القدس لها بقوة، وبالوسائل التي ذكرناها، وبأعمال العناية الإلهية. ولا بد من الصبر والأمانة والاجتهاد في العمل والصلاة.

9- ما معنى حلّ الشيطان مدة وجيزة؟

* يُحل الشيطان مدة وجيزة عند نهاية الألف سنة ويحارب الكنيسة، ثم يأتي المسيح. ولعل القارئ ينذهل من حدوث ارتدادٍ كهذا بعد أن تنتشر المسيحية وتسود في العالم طول تلك المدة.

وعندما يُحلّ الشيطان يحارب البشر في هياج شديد لأنه يعرف أن وقته قصير، وهذا يفسر لنا إمكانية حدوث ذلك الارتداد المخيف. وربما كان بقاء الكنيسة مدة طويلة بدون تجربة، ودوام راحتها في العالم، تؤدي بها إلى إهمال الأمور الروحية، مما يجعل كثيرين من البشر عرضة لمكائد إبليس. وسواء أدركنا أسباب حل الشيطان وفهمنا المقاصد الإلهية فيها أم لا، فلا بد من حدوثها، لأن ما جاء في سفر الرؤيا في هذا الشأن صريح جداً (رؤ 20: 7-9). غير أن ما يريحنا هو تأكيد الله لنا أن النهاية تكون في يده، وأن هو يضبط شعبه ويحدد مدة وجود تلك الحوادث بموجب حكمته السامية (رؤ 20: 10).

10- ما هي الحوادث التي تصاحب مجيء المسيح ثانية؟

* تصاحبه أربعة أمور، هي: (1) القيامة. (2) الدينونة الأخيرة. (3) نهاية العالم. (4) ظهور ملكوت المسيح في كماله، أي دخول الكنيسة في أمجادها السماوية.

والآن لنشرح هذه الأفكار الأربعة:

(1) القيامة: في النبوات أدلة كثيرة على حدوث قيامة عامة عند مجيء المسيح (يو 5: 28 ومت 25: 31، 32 وأع 24: 15 ورؤ 20: 12، 13). ونستنتج ذلك لأن تلك النبوات تتكلم غالباً عن القيامة والمجيء معاً. ومن ذلك القول «متى جاء ابن الإنسان في مجده يجتمع أمامه جميع الشعوب». ونتعلّم أيضاً أن قيامة الأبرار والأشرار تحدث في وقت واحد، عند مجيء المسيح للدينونة خلافاً لزعم البعض أن قيامة الأبرار تحدث قبل الألف سنة، وقيامة الأشرار بعدها. ولكن المسيح قال «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28، 29). وقال بولس إن المسيح متى استُعلن من السماء يكافئ المؤمنين وينتقم من الذين لم يطيعوا الإنجيل ويُتعجَّب منه في جميع المؤمنين (2تس 1: 7-10) ومن النصوص على قيامة الأبرار عند مجيء المسيح قوله «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني: أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً، بل أقيمُه في اليوم الأخير» (يو 6: 39-54 و12: 48). والمقصود باليوم الأخير هنا هو يوم الدينونة، لأن النبوة تتحدث عن القيامة. وقيل عنه في مكان آخر إنه يحدث متى ظهر المسيح في مجده. وليس في الكتاب نصٌ على غير قيامةٍ واحدة للأموات، الأبرار والأشرار معاً. نعم ذُكر في سفر الرؤيا قيامة أولى (رؤ 20: 4-6) غير أنه لا دليل على أن تلك القيامة تختص بالأجساد، بل هي إقامة روح الأمانة والشجاعة والتقوى أثناء مدة الألف السنة، كما بينّا في كلامنا في هذه الآية في البحث عن رأي القائلين بمجيء المسيح قبل الألف السنة.

(2) الدينونة الأخيرة: أما الإشارات النبوية إلى دينونة عامة أخيرة فكثيرة وواضـحة، وخلاصتها أن تلك الدينونة تحدث عند مجيء المسيح ثانية، وبعد القيامة العامة حالاً، وأنها تجري على الناس والملائكة، وأن الديان هو المسيح، وأنه في ذلك اليوم يُعيِّن نصيب الأبرار والأشرار إلى الأبد.

(3) نهاية العالم: تتعلق نهاية العالم بمجيء المسيح ثانية. ومنها قول بطرس «وأما السموات والأرض الكائنة الآن فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها، محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفجّار» (2 بط 3: 7-13) وقول صاحب الرؤيا «الذي من وجهه هربت الأرض والسماء، ولم يُوجد لهما موضع» (رؤ 20: 11). والأرجح أن ذلك التغيير العظيم في حالة السموات والأرض الذي يحدث في اليوم الأخير لا يعمّ جميع الكون المادي ولا جميع النظام الشمسي، بل يقتصر على أرضنا هذه وما يتعلق بها. أما بقاء الكون إلى الأبد فليس عليه نص في الكتاب، والأرجح أنه غير أبدي لأنه غير أزلي، ولأن لكل الخلائق نهاية ما عدا الإنسان، وذلك بموجب القصد الإلهي، وأن الله في الأبدية يبدع خلائق كثيرة مشابهة للخليقة المعروفة لنا، ليظهر مجده وقدرته وحكمته وكمال صفاته للخلائق العاقلة، ولأجل تشغيلها في خدمته. غير أن كل ذلك من باب الظن فقط، فليس في الكتاب نصٌ ولا تلميحٌ إليه. ومتى انتهت السموات والأرض ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة، منزلاً جديداً أبدياً للمسيح وكنيسته. ولكن لا نعلم المواد التي تتكونان منه، فمن المحتمل أن تكون هذه الأرض نفسها ولكن على حالةٍ جديدة، أو أن الله يستبدلها بغيرها. غير أنه يكفينا أن نعرف أن المسيح يعدُّ لنا مكاناً يسكن فيه معنا.

(4) ظهور ملكوت المسيح في كماله، ودخول الكنيسة في أمجادها السماوية: تأسس ملكوت المسيح عند مجيئه في الجسد وصعوده بعد القيامة وجلوسه عن يمين الله، ومنذ ذلك الوقت أخذ يتقدم بالتدريج نحو الكمال. والمقصود بالكمال هنا انضمام جميع شعب الله إليه، وانتصاره على جميع أعدائه، وإتمام ذلك عند مجيء المسيح وإدخال الكنيسة في حالتها المجيدة السماوية. ومن النصوص على ذلك أن الحجر المقطوع بغير يدين يصير جبلاً عظيماً ويملأ الأرض كلها، ويشبِّه المسيح تقدم ملكوته بفعل الخميرة ونمو حبة الخردل (إش 49: 6 وحب 2: 4 ودا 2: 34، 45 و7: 14 ومز 2: 8 و72: 11، 17 و86: 9 وملا 1: 11). وقد شُبِّه هذا الملكوت بين مجيء المسيح الأول والثاني بحقلٍ تنمو فيه الحنطة مع الزوان إلى الحصاد، الذي هو انقضاء العالم، وحينئذ يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار. أي أن الملكوت يكون في أثناء تلك المدة عرضة للمتاعب، فأحياناً ينحط ويتأخر، وأخرى يرتفع وينجح، وذلك كله واضح في تاريخ الملكوت. وهناك نبوات تقول إنه وإن نجح هذا الملكوت وامتد، فلا بد أن يطرأ عليه الانحطاط والضيق قبل مجيء المسيح ثانية، حتى يكاد الإيمان لا يوجد حينئذ على الأرض. لكن أقوال الأنبياء تؤكد أن الكنيسة تكاد تتلاشى، ولكن تبقى بقيةٌ أمينة على الأرض تتمسك بالديانة الحقيقية، وفيما تكون الكنيسة في هذا الضيق يظهر ملكوت المسيح بمجد سماوي، ويجتمع إليه عند نهاية الدينونة الأخيرة جميع المؤمنين من كل زمانٍ ومكانٍ وأمةٍ، وتنتهي أحوال الكنيسة الأرضية في أحوالٍ سماوية مجيدة. أما الأشرار وغير التائبين فيمضون إلى النار الأبدية المعدَّة لإبليس وملائكته.

11- ما هو الاعتقاد الذي تتفق عليه كل الكنائس في مجيء المسيح ثانيةً؟

* اعتقدت الكنيسة في كل أجيالها أن المسيح يأتي ثانيةً بهيئةٍ منظورة، لغايات معروفة. وفي هذا الاعتقاد عدة قضايا صادق عليها كل المؤمنين، وهي:

(1) إلغاء التمييز بين اليهود والأمم، فلم يعُد اليهود وحدهم شعب الله الخاص: قال المسيح «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم. اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». وهذا يعني أن جميع الأمم مدعوون للدخول في ملكوته ليكونوا شعبه. ورأى بطرس رؤيا أقنعت الكنيسة بالكرازة للجميع (أعمال 10) فلم يُسمع بعد ذلك في الكنيسة الأولى عن أحد قال إن اليهود أفضل من الأمم. وقد شرع الرسل يبشرون العالم كله، ودعوا الجميع لقبول الإنجيل، وكذلك فعل خلفاؤهم الذين كرزوا وبشروا في كل القرون المتوالية. ولا تزال الكنيسة تواظب على ذلك إلى هذا الوقت. نعم إن المسيح جاء لليهود أولاً، وكان التبشير الأول لهم، غير أن كل ذلك كان قبل رفضهم كأمة، وإزالة التميُّز بينهم وبين الأمم، ودعوة الجميع لقبول الإنجيل.

(2) ابتدأ مُلك المسيح منذ صعوده ولا يزال ثابتاً ويمتدُّ في العالم: ومن نبوات العهد القديم على ذلك قول زكريا إن ملك أورشليم يأتي راكباً على أتانٍ وجحش ابن أتان (زك 9:9). وتحققت النبوة. وأشار العهد الجديد كثيراً إلى أن للمسيح سلطاناً ملكياً، ووصفوه أنه ملك جالس على عرشه السماوي. ومن ذلك قول مرقس «الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله» (مر16: 19). فقوله «جلس عن يمين الله» يوافق ما جاء في مزمور 2 أن الله أقام ابنه ملكاً على جميع الشعوب. وكذلك قول بطرس في يوم الخمسين عن المسيح «إذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا» (أع 2: 33). وما جاء عن استفانوس قبل موته أنه رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله (أع 7: 55). وفي الرسائل شواهد كثيرة تؤيد هذا، ومنها القول عن المسيح «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عب 1: 3). و«أما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس (أي كان حينئذ قد جلس) إلى الأبد عن يمين الله» (عب 10: 12 انظر أيضاً 8: 10 و12: 2) وقول بطرس عن المسيح «الذي هو في يمين الله، إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له» وقول بولس «رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب» (في 2: 8-11). و«إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويَّات، فوق كل رياسةٍ وسلطانٍ وقوةٍ وسيادةٍ وكل اسمٍ يُسمَّى، ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 1: 20-23). وفي الكتاب آيات كثيرة تؤيد ذلك. (انظر تك 49: 10 وعد 24: 17 و2صم 7: 16 وإش 9: 6، 7 وص 11 و52 و53 ومي ص 4 ومز 2 و45 و72 و110 ومت 13: 41 وأع 2: 33-36 و5: 31 و10: 36 و1بط 3: 22 ويو 3: 35 ورو 14: 9 وفي 2: 9، 10 وعب 2: 9 و12: 2 ورؤ 3: 21 و17: 14).

وهذه أدلة قاطعة على مُلك المسيح عند صعوده من هذه الأرض، وهو لا يزال جالساً على عرش الكون. فما الداعي بعد إلى أن يتخذ مُلكاً؟ نعم ننتظر امتداد ملكه بزيادة عدد الخاضعين له، وظهور مجده أكثر فأكثر، وتغير أحوال ملكوته الخارجية وارتقاءه من درجة إلى أخرى. غير أن كل ذلك ليس اتخاذ مُلكٍ جديد بل تغيير الأحوال الخارجية لملكوت هذا الملك الواحد. وقد رأينا أيضاً أن مركز عرش المسيح هو السماء، فلا نصدق أن ينتقل مركز ملكه إلى أرضنا، لأن ذلك يكون انحطاطاً للعرش الإلهي من السماويات إلى الأرضيات، الأمر الذي لا يصادق عليه الكتاب المقدس ولا يقبله العقل السليم.

(3) جلس المسيح على عرش داود باعتباره ملكاً: قال الرسول بطرس «يُقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود إنه مات ودُفن، وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبياً، وعلم أن الله حلف له بقسمٍ أنه من ثمرة صُلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تُترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً. فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه. لأن داود لم يصعد إلى السموات. وهو نفسه يقول: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً» (أع 2: 29-36). أليس في قوله «فيسوع هذا أقامه الله» تعليم صريح في إتمام الوعد بإقامة المسيح ملكاً على عرش داود؟ لاشك أنه أقامه من الأموات لهذه الغاية. وقيل عن المسيح «هذا يقوله القدوس الحق، الذي له مفتاح داود، الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح» (رؤ 3: 7). فقد أخذ المسيح مفتاح داود، أي سلطانه الملكي. وكل ذلك عكس رأي سابقي الألف السنة، الذين ينكرون جلوس المسيح الآن على عرش داود، ويقولون إنه سيجلس عليه عند مجيئه إلى أورشليم قبل الألف السنة!

(4) ملكوت المسيح روحي لا جسدي: وفي الكتاب شواهد كثيرة على ذلك، منها قوله «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو 18: 36) «لا يأتي ملكوت الله بمراقبةٍ، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، لأن ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21). وقول الرسول «لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو14: 17). ولما سأل رجلٌ المسيح أن يطلب من أخيه أن يقاسمه الميراث، فيقضي لهما في الأمور الدنيوية، أجابه «يا إنسان، من أقامني عليكما قاضياً أو مقسّماً؟» (لو 12: 14) بمعنى أن تلك الأمور خارجة عن دائرة ملكوته. وقد بيّن روحانية ملكوته بإلغائه الفرائض الزمنية والشرائع المدنية اليهودية، واكتفى بأن يعبد تابعوه الآب بالروح والحق، لأن الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا (يو4: 24). ويظهر ذلك أيضاً من شروط الدخول في ملكوته، وكلها روحية فقط، وكذلك الواجبات المطلوبة من أهل ملكوته والوسائط المعينة لبنيانه وامتداده. ولذلك يمكن إقامة ملكوت المسيح بدون تغيير في ظروف الإنسان الخارجية والمدنية إذا كانت لا تخالف أصول المسيحية وآدابها. ألا يتضح جيداً من الإنجيل أن ملكوت المسيح ليس جسدياً ولا أرضياً ولا زمنياً مثل ممالك الأرض، بل هو ملكوت روحي يتعلق بأحوال الإنسان الروحية؟ (انظر يو 3: 3-5). وكل ما تقدم يخالف رأي سابقي الألف السنة، الذين ينادون بملكوتٍ جسدي منظور يقوم في هذا العالم وتكون عاصمته أورشليم!

(5) ملكوت المسيح هو كنيسته، فأعضاء الكنيسة المنظورة هم أعضاء ملكوته. قال الرسول «الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو 1: 13). وما ذلك الملكوت إلا الكنيسة التي رأسها المسيح، خلافاً لاعتقاد سابقي الألف السنة الذين يظنون أن الكنيسة هي ترتيب استعدادي لإظهار الملكوت أخيراً.

(6) وسائط حفظ ذلك الملكوت وامتداده روحية: وهي التبشير بالحق، وممارسة الأسرار، وتعليم الناس مبادئ الإنجيل، وبيان صدق جميع الأسفار المقدسة، وإقناع العالم بصدق المسيحية. قال الرسول «وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين، لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح» (أف4: 11). وقال أيضاً «إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية، بل قادرة بالله على هدم الحصون» (2كو 10: 4). وكل هذا يدل على أن الوسائل المعينة هي روحية، وكذلك ما يعمله الله في بنيان ملكوت يعمله بواسطة الروح القدس الذي يقنع الإنسان بالخطية، وينير القلب ويجدده ويحركه للتوبة والإيمان، ويقدسه، وينمي فينا الفضائل المسيحية. ولا يمكن إتمام كل ذلك إلا بواسطة الروح القدس. فالحق هو السيف والروح القدس هو الفاعل الذي يتمم مقاصده. وعصر الإنجيل هو عصر الروح القدس الذي فوِّض له وحده إتمام عمل الفداء، وذلك عكس قول سابقي الألف السنة الذين يؤمنون أن الوسائط المستعملة الآن لرجوع العالم إلى الله ضعيفة، وأنه لا بد من مجيء المسيح بالجسد، ولذلك ينبغي أن ننتظره بكل صبر، وأن اجتهاد الكنيسة في التبشير بالإنجيل لأجل رجوع العالم إلى الله هو عبث، لأن هذه الغاية لا تتم إلا بمجيء المسيح بالجسد ليقيم ملكوتاً على الأرض.

(7) عصرنا الحاضر (عصر الإنجيل) هو من مجيء المسيح الأول إلى مجيئه ثانيةً، وهو على نوع خاص عصر الروح القدس: والكنيسة تبشر بالإنجيل بمؤازرة الروح لإنارة الناس ورجوعهم إلى الله وقبولهم الخلاص بواسطة المسيح. وقد وعد المسيح قبل صـعوده للسماء أن يرسل الروح القدس، كما وعد الله به أنبياءه في العهد القديم، وأنه قد أكمل ذلك الوعد في يوم الخمسين وحتى عصرنا الحاضر، وسيستمر ذلك إلى النهاية. إن الروح القدس قادر على كل شيء، وهو ينير قلب الإنسان ويقنعه بالحق ويجدده ويقدسه ويثبته إلى النهاية. فهل نحتاج إلى غير معونته لنُرجع العالم إلى الحق؟ وهل هناك لزوم للبرهان على خطأ قول بعض سابقي الألف السنة إن العالم يحتاج إلى مجيء المسيح بالجسد ليرجع العالم إلى الله، وعلى أنه يحط من شأن الروح القدس الذي فوض الآب والابن إليه ان يتمم هذا العمل؟

(8) لابد من انتصار الإنجيل وامتداد ملكوت المسيح إلى كل العالم، بواسطة بشارة الإنجيل، وتسلط المسيحية في قلوب الناس، وسكب الروح القدس على كل البشر: وهذا هو روح مواعيد العهد القديم ومعناها. ومما جاء منها في هذا الشأن ما معناه أن المسيح سيرث الأمم، وأن كل قبائل الأرض يأتون إليه، وأن ديانته تمتد إلى أقاصي الأرض، وأنه يملك على كل الشعوب (هو 2: 23 وإش 45: 22، 23 ودا 7: 14 ومز 2: 8 وإش 49: 6 وملا 1: 11). ولما كان المسيح على الأرض فوض الكنيسة لتتمم هذا العمل، وأمرها أن تعلّم الأمم وتتلمذهم، ووعدها أن يكون معها إلى انقضاء الدهر (مت 28: 19، 20 ومر 16: 15). وكل ما يقوله الكتاب عن رجوع العالم إلى الله يشير إلى حدوثه بوسائل روحية، كما أن ما يقوله الكتاب عن التقدم والذهاب إلى أورشليم، لا يتم البتة بوسائط ملكية إجبارية، كاستخدام قوه السيف ونحوها.

(9) تشبه أحوال ملكوت المسيح بين مجيئه الأول ومجيئه الثاني أحوال حقلٍ ينمو فيه الزوان مع الحنطة إلى وقت الحصاد: والمقصود بالحصاد في ملكوت المسيح هو انقضاء العالم (مت 13: 38-43). ولابد أن يطرأ عليه التغيير في مدة تقدمه نحو الكمال، فأوقاتاً ينحط وأخرى يرتفع. وفي النبوات كلام عن الحالين، فإنها أنبأت عن تقدمه ونجاحه إلى درجة عظيمة مدة طويلة، غير أنه في أثناء ذلك التقدم ينتظر الارتداد العظيم، وظهور «ضد المسيح» ووقوع الكنيسة في ضيق شديد تحت مقاومةٍ عنيفة. ولكن تقدمها يكون بالرغم من تلك الموانع، وبالرغم من الضيق والانحطاط مدةً وجيزة قبل مجيء المسيح. وكُني في الكتاب المقدس عن مدة النجاح بألف سنة، والأرجح أنه يُراد بها مدة طويلة جداً.

ويقول المؤمنون بمجيء المسيح في الجسد ليملك على الأرض مدة ألف سنة إن مُلكه يبدأ فجأة، أي أنه يُستعلن من السماء في وقتٍ لا ينتظره العالم، ويبيد الأشرار، ويقيم ملكوته على هيئةٍ منظورة في أورشليم. وقد تيقَّن بعضهم (بحساباتهم الكثيرة التي بنوها على المُدد المذكورة في دانيال والرؤيا) أنه قد اقترب وقت ذلك جداً. غير أن الأزمنة والأيام المذكورة في دانيال والرؤيا لا تحدد وقت مجيء المسيح مطلقاً (ما عدا الإشارة إلى مجيئه الأول في دا 9: 25-27). ولا يوجد في الكتاب المقدس ما يساعد على تحديد الموعد.

وتؤمن الكنيسة كلها أن ملكوت المسيح ينمو ويتقدم بالتدريج باستخدام الوسائط المعينة من الله لذلك، فينبغي عليها أن تمارس تلك الوسائط بكل أمانة، وأن تبشر بالإنجيل في كل العالم وتطلب سكب الروح القدس وبركاته الثمينة على عملها إلى أن تمتد المسيحية إلى أقاصي الأرض ويبدأ عصر السلام والمجد. وقد بيَّن المسيح في أمثاله أن ملكوته ينمو بالتقدم التدريجي كالنبات (مر 4: 26-32 ومت 13: 33). وهذا ما حدث في كل تاريخ هذا الملكوت، فإذا استمرت الكنيسة مجتهدة في هذا العمل المبارك بكل أمانة وغيرة، طالبة بركة الروح القدس على أتعابها، سترى هذا الملكوت يتقدم بسرعة إلى أن ينضم إليه جميع الشعوب. والأرجح أن قوانين التقدم في ملكوت المسيح الروحي لا تختلف عن قوانين التقدم الطبيعية، فالتقدم يسرع كلما اقتربنا إلى النهاية. غير أن ذلك لا بد أن يكون حسب ترتيبٍ معيّن وبوسائط مختارة من الله. فكما صرف الخالق مدة طويلة في إعداد الأرض للبشر، بالتدريج وبترتيبٍ منظم، هكذا سيصرف مدة معلومة لديه في إنشاء ملكوت يبلغ درجة الكمال والمجد.

(10) أتى المسيح ثانية بالجسد ليدين العالم ويُدخل كنيسته في حالتها السماوية المجيدة: قد وردت ألفاظ «مجيء» و«إتيان» و«ظهور» و«استعلان» في العهد الجديد نحو 80 مرة إشارةً إلى مجيء المسيح، بعضها إلى مجيئه الأول، وبعضها إلى مجيئه لدينونة أورشليم، وبعضها إلى مجيئه روحياً ليرافق شعبه كما قال «لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم» و«الذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه وأظهر له ذاتي» و«إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 18 و15: 21، 23).

وأكثر العبارات عن مجيئه تشير إلى مجيئه الثاني في انقضاء العالم. وكل ما جاء في الكتاب في هذا الشأن يدل على أنه يأتي مرة واحدة في حالة المجد، وتجتمع أمامه كل الأمم، الأحياء والأموات. أما المؤمنون الأحياء وقت مجيئه فيتغيرون ويصعدون مع الأموات المقامين من قبورهم لملاقاة الرب في الهواء. ثم يميز الأبرار عن الأثمة، ويعطي الأبرار الملكوت المُعدّ لهم منذ تأسيس العالم، ويرسل الأشرار إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. وكل ذلك يحدث في انقضاء العالم، حين يرسل ابن الإنسان ملائكته ويجمع من ملكوته جميع المعاثر والشكوك (مت 25: 31، 32، 34، 41 و2تي 4: 1 و1كو 15: 5 وفي 3: 21 و1تس 4: 17 ومت 13: 40، 41).

ويتضح من نصوص كثيرة في الكتاب أن مجيء المسيح هذا هو للدينونة (انظر يو 5: 22، 23، 27 و1كو 4: 5 وأع 17: 31 و2كو 5: 10 ومت 13: 27-43 و16: 27 و25: 31-46 و2تي 4: 1). وجميع العبارات التي تنبئ عن هذا المجيء تدل على أن فيه تنتهي المدة المعينة لامتداد ملكوته على الأرض، وليس فيها أدنى إشارة إلى أن يكون الواسطة لتوبة العالم أو لامتداد الملكوت.

أما الأدلة على أن المسيح يأتي ثانية بالجسد، منظوراً كما أتى أولاً فهي: (أ) التشابه بين الكلام عن المجيء الأول والثاني (عب 9: 28 وأع 3: 20، 21). (ب) النص الصريح علي ذلك (أع 1: 11 ولو 21: 27). (ج) نتيجة ذلك المجيء، وهي أن جميع قبائل الأرض تنوح، والأموات يقومون والأشرار يصرخون للجبال والصخور أن تقع عليهم وتغطيهم من وجه الرب. (د) كلام الرسل الذي يدل على أنهم فهموا أنه يأتي هكذا (1تي 2: 13 وعب 9: 28 وكو 3: 4 وفي 3: 20 و1تس 2: 19 و4: 15-17 و1تي 6: 14 و1بط 1: 5-7 و5: 4).

وفي الكتاب عبارات كثيرة عن مجيء المسيح تشير ليس إلى مجيئه الثاني بالجسد منظوراً، بل إلى مجيئه لإجراء الدينونة، كمجيئه لإخراب أورشليم، ولبدء نظام الكنيسة يوم الخمسين وغير ذلك، وهو مجيء غير منظور بالجسد.

(11) عند مجيء المسيح ثانية يتم القصد في إعطاء وسائط النعمة للبشر وتنتهي، لأن الكنيسة تُكمَل حينئذ فلا يبقى لزوم لبشارة الإنجيل ولا لممارسة الأسرار ولا لمؤازرة الروح القدس للبشارة. وفي الكتاب نبوات كثيرة عن مجيء المسيح تحوي إنذاراً وتنبيهاً للكنيسة لتثبت وتستمر أمينة ومطيعة لأوامر سيدها إلى أن يأتي (انظر لو 19: 13 و2بط 1: 19 ويع 5: 7 و1بط 1: 13 و2تي 4: 8 وفي 3: 20). وفيها أيضاً إشارة لأن ذلك المجيء يكون نهاية مدة امتحان الكنيسة وجهادها وأتعابها في هذه الدنيا، وتنبيه وتوبيخ للخطاة المستخفين بنعمة الإنجيل يتبين منها أنه عند مجيء المسيح ينتهي عملهم ويأخذون نصيبهم (2تس 1: 7-10 و2بط 3: 10 ولو 12: 39، 40 و17: 26، 27، 30). وكل ذلك يدل على أن الكتاب المقدس يوجه أفكار المؤمنين بالإنجيل والمستخفين به إلى مجيء المسيح كنهايةٍ لوسائط التعليم ولزومها.

وعند مجيء المسيح ثانية تنتهي أسرار الكنيسة، فمن النص على إلغاء المعمودية قول المسيح لتلاميذه «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 18-20). وهذا يبين أن المعمودية تنتهي بنهاية العالم، أي بانقضاء الدهر الذي هو وقت مجيء المسيح ثانية. ومن النص على إلغاء العشاء الرباني قول الرسول «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 26) فبعد مجيء المسيح ثانية لا نمارس العشاء الرباني.

أما بلوغ الكنيسة حال الكمال عند مجيء المسيح ثانية فواضح من أنها هي عروس المسيح، وعند مجيئه ثانية يتخذها لنفسه كنيسة كاملة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك (أف 5: 25-27 وكو 1: 22 و1تس 3: 13 و1كو 15: 23).

(12) متى أتى المسيح تحدث القيامة العامة، أي قيامة الأبرار والأشرار معاً (مت 25: 31، 32 ويو 5: 28، 29 وأع 24: 15). ومن النصوص على قيامة الأبرار القول «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين. فإنه إذ الموت بإنسانٍ، بإنسانٍ أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع. ولكن كل واحد في رتبته. المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه» (1كو 15: 20-23). وقول المسيح «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني: أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو6: 39، 40). ومن النصوص على قيامة الأشرار قول المسيح «فإنه تأتي ساعة فيها يسمع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو5: 28، 29) وقول الرسول «إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته في نار لهيبٍ، معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذين سيُعاقَبون بهلاكٍ أبديٍ من وجه الرب ومن مجد قوته متى جاء ليتمجد في قديسيه ويُتعجَّب منه في جميع المؤمنين» (2تس 1: 6-10) وقول صاحب الرؤيا «ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض، والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع. ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله. وانفتحت أسفار، وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. وسلّم البحر الأموات الذين فيه، وسلّم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما، ودينوا كل واحد بحسب أعماله. وطُرح الموت والهاوية في بحيرة النار. هذا هو الموت الثاني. وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طُرح في بحيرة النار» (رؤ 20: 11-15) وليس في الكتاب ما يثبت حدوث قيامتين، واحدة للأبرار عند مجيء المسيح قبل الألف السنة، وأخرى للأشرار بعد الألف السنة، كما يزعم سابقو الألف السنة الذين يسندون رأيهم إلى قول صاحب الرؤيا «ورأيت عروشاً فجلسوا عليها، وأُعطوا حكماً، ورأيت نفوس الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله. والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السِّمة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة» (رؤ 20: 4-6). فقالوا إن في هذا دليلاً على القيامتين. غير أن تفسيرهم هذا لا يمكن إثباته كما سنبيِّن.

(13) عند مجيء المسيح ثانية تحترق الأرض والسماوات الموجودة الآن، ثم تصير سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر. قال بطرس «ولكن سيأتي كلصٍ في الليل يوم الرب، الذي فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحل، أي أناسٍ يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى، منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب، الذي فيه تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب! ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر» (2بط 3: 10-13 ومز 102: 25، 26 ولو 21: 23 ورؤ 21: 1).

(14) موعد مجيء المسيح ثانية غير معروف، ولا يمكن معرفته. وكل اجتهاد في هذا السبيل وجميع الحسابات التي عُملت لذلك لا تُجدي نفعاً. غير أنه قام في كل القرون قومٌ ادعوا معرفة ذلك بواسطة حسابات مستندين فيها على الغالب على أن كلمة «يوم» في النبوات يراد بها «سنة» جاعلين ذلك مفتاحاً لأسرار المقاصد الإلهية.

وهناك من قالوا إن مجيء المسيح قريب، بعد سنوات أو أشهر أو أيام، لأن الكتاب يقول إنه قريب. والصواب أن أقوال الكتاب هذه تصف حياتنا أنها لحظة، وأن هيئة هذا العالم تزول، وأن نهاية كل شيء قريبة، كما قال يعقوب «هوذا الديان واقف قدام الباب» (يع 5: 9). فهي تشير إلى سرعة زوال العالم الحاضر، بمقارنة الزمن بالأبدية. وهذا هو المقصود بقول الكتاب «الرب قريب». «يوم المسيح قد حضر». «لأن مجيء الرب قد اقترب». «إنما نهاية كل شي، قد اقتربت» (في 4: 5 و2تس 2:2 و1بط 4: 7) أي أنه ليس بعيداً حسب نظر الله، الذي في عينيه ألف سنة كيوم واحد، ويوم واحد كألف سنة، أو بالنظر إلى قِصر الدهر الحاضر بالنسبة إلى الأبدية. ولا شك أن الروح القدس قصد بهذه العبارات أن يشير إلى المدة التي قبل مجيء المسيح، ولكنه لم يشر إلى طولها كما أشار في الكلام عن خراب أورشليم، فإنه بعد أن قال إنه قريب على الأبواب، قال أيضاً «الحق أقول لكم، لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» (مت 24: 34). ومع ذلك بقي اليوم نفسه غير معين.

وجميع القضايا التي أوردناها هي سلسلة من الأدلة كاملة ومرتبطة معاً، يؤيد كل منها الآخر. وجميعها تثبت أن مجيء المسيح يكون في نهاية العالم للدينونة، وأنه هو الآن ملكٌ جالس على عرش داود، وأن ملكوته روحي، وأن وسائط بنيان ملكوته روحية وكافية لغايتها، ولا حاجة إلى وسائط جسدية لا توافق حقيقته، وإنه سيمتد ويعم العالم ببشارة الإنجيل وسكب الروح القدس، وإن مجيء المسيح هو للدينونة وإدخال الكنيسة في حالتها السماوية. وإن وسائط النعمة وأسرار الكنيسة تنتهي عند مجيئه، فلا يمكن أن يكون مجيئه قبل الألف السنة، لأن الكنيسة تبقى تمارس تلك الوسائط في هذه المدة. وإنه عند مجيئه تحدث القيامة وهي الوحيدة، وتكون في نهاية العالم لأنه عند حدوثها تحترق أرضنا هذه. ومع أن وقت حدوث كل ذلك مكتوم لا يعرفه أحد سوى الله، غير أنه يجب علينا أن نتوقع دائماً مجيء المسيح وتلك الحوادث بصبر وإيمان، فنستفيد من هذا الموضوع أكثر جداً مما نستفيد منه إذا حدّدنا الوقت، وحوَّلنا الروحيات إلى جسديات وملكوت المسيح الروحي إلى ملكوت جسدي، مخالفين أوضح عبارات الكتاب التي تبين إتمام النبوات عنه أنه الآن ملكٌ جالس على عرش داود، ومستخفّين بالوسائط المعينة لرجوع العالم إليه، وبمجيء الزمان المجيد الذي فيه تمتلئ الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.



12- ما هو رأي من يقولون بمجيء المسيح ثانيةً قبل الألف السنة؟

* تنتظر الكنيسة كلها مجيء مدة الألف السنة في المستقبل، معتقدة أنها لم تأتِ بعد. وقال بعض المفسرين (وهم قليلو العدد) إن تلك المدة بدأت بعد المسيح بنحو 800 سنة ودامت ألف سنة، والآن قد انقضت. وبنوا رأيهم على أن تلك القرون كانت مظلمة ولم يكن لها حظ من أمجاد الألف السنة. نعم قد حدث فيها «الإصلاح» العظيم في الكنيسة، غير أن ما قيل عن الألف السنة يدل على أنها تكون زمن راحة وسلام وامتداد لملكوت المسيح وانتصار كامل للدين، وذلك خلاف ما حدث مع الكنيسة في تلك القرون المظلمة حين تلطخت بخطايا جسيمة وتوغل أغلب رؤسائها في الآثام والمعاصي والحروب. نعم امتدت المسيحية في تلك القرون ولكن على صورة ميتة خالية من الروحانية والأعمال الصالحة والسلوك الحبي، حتى انحط المسيحيون حينئذ إلى أدنى درجة في الاعتقاد والسيرة، ولزم «الإصلاح» لإرجاعهم إلى التعليم الصحيح والحياة الطاهرة. وهذا يظهر أن هذا القول سخيف وباطل.

وقال آخرون إن مدة الألف السنة (وإن كانت لا تزال مستقبلة) لا تختص بتاريخ الكنيسة تحت النظام الحاضر الذي سينتهي بدمارٍ فظيع وخراب عام، ثم يتلوه مجيء المسيح بالجسد إلى أرضنا فتبدأ الألف السنة، وتدخل الكنيسة في نظام آخر تحت رياسة المسيح الأرضية وهو في الجسد.

 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

15- ما هي الأمور التي تناقض من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟

(1) تهيأت الوسائط بمجيء المسيح الأول لا الثاني، وأُعدَّت الطريق بواسطة تعاليم المسيح وحياته وموته لترجيع العالم.

(2) علَّم يسوع كل الحق اللازم لهذه الغاية والذي يناسب طبيعة الإنسان، وأوضحه بحياته وموته وأقوال رسله، ولم يترك حاجة لأمر آخر أفضل.

(3) أُعطيت القوة الروحية اللازمة لجعل حق الإنجيل فعالاً في خلاص الخطاة بإرسال الروح القدس الموعود به، والذي منح القوة الخاصة بالعصر المسيحي.

(4) لم يأذن المسيح فقط لتلاميذه وأعطاهم سلطاناً، بل أمرهم أيضاً أن يحملوا الإنجيل للخليقة كلها، إلى أن يرجع العالم للرب. واختارهم لهذا العمل المهم الذي أعد له كل ما يلزم لإتمامه. وهكذا فهموا أوامره. وكرسوا حياتهم له.

(5) وجد الرسل في نبوات العهد القديم ما يدل على حقيقة عملهم، وأن المسيح أرسلهم بنور الإنجيل إلى الأمم ليرجعوا إلى الله.

(6) تُظهر النبوات حقيقة عصر الإنجيل ونتائجه. أما حقيقته فهي إعلان مجيء المسيح الأول، وأعظم الحوادث في تاريخ حياته وذبيحته الفدائية وموته وأعمال شعبه وإرساله الروح القدس ليعمل فيهم وبهم ومعهم. وأما نتائجه في ذلك فهي إنارة الأمم وانتصار الحق وامتداد صهيون حتى تحتوي العالم كله.

(7) تذكر الأسفار المقدسة عجز البشر عن إتمام هذا العمل العظيم، ولكنها لا تخاف من عدم النجاح، لأن قوة الله تعمل في الضعف البشري. «لنا هذا الكنز في أوان خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منّا» (2كو 4: 7) و«عندما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كو 12: 10).

(8) عصرنا الحاضر هو الوقت الوحيد للرحمة والخلاص. وليس في كل الكتاب المقدس شعاع رجاءٍ بتوبة الخطاة في حالةٍ بعد الحالة الحاضرة. وكل الدعوات والمواعيد وإرسال الروح القدس محصورة في الحياة الحاضرة لأن بعد الموت الدينونة (عب 9: 27) والحصول على النصيب الأبدي (مت 25: 46).

(9) لم يعد المسيح الكنيسة بمجيئه ليملك بالجسد على الأرض، بل قال ما يرجح عكس ذلك.

16 - ما هي أخطاء من يقولون برجوع اليهود إلى فلسطين، وإعادة النظام اليهودي فيها؟

* ينادي أصحاب هذا الرأي بأن الديانة اليهودية (ما عدا تغييرات قليلة) ستنتظم ثانية في أورشليم، ويعتمدون في ذلك على تفسيرهم لحزقيال 40-48 تفسيراً حرفياً. ولكن التفسير الروحي لهذه النبوة (وأمثالها قي هذا الموضوع) أقرب من التفسير الحرفي. ونبرهن ذلك: (أ) من العهد الجديد. (ب) من العهد القديم، ولاسيما من هذه النبوات نفسها بالنظر إلى ظروف كاتبيها والذين توجَّهت إليهم أولاً. (ج) ومن الظروف، لاسيما سهولة قبول تفسيرها الروحي وصعوبة قبول تفسيرها الحرفي.

(أ) الأدلة من العهد الجديد:

التفسير الحرفي في هذا المقام مرفوض لأنه يناقض العهد الجديد، ويختلف مع روح نظام الإنجيل بجملته، كما يتضح من أقوال المسيح وتلاميذه. فحسب النظام الحرفي يلزم أن رؤيا حزقيال تتضمن رجوع الديانة اليهودية أعظم وأوسع مما كانت في القديم. وحسب العهد الجديد يلزم أن تموت الديانة اليهودية، لأنها أكملت وظيفتها عند موت المسيح، ولم يعد لها سلطان إلهي. ولما كتبت رسالة العبرانيين كانت اليهودية قد عتقت وشاخت وصارت قريبة من الاضمحلال. وقد أوضح بولس الرسول في مواضع كثيرة من رسائله أن المسيح نقض حائط السياج المتوسط بين اليهود والأمم بنزعه ما كان خاصاً باليهود، وأبطل بجسده ناموس الوصايا في فرائض (أف 2: 14، 15) ومحا الصك الذي على الأمم في الفرائض، الذي كان ضداً لنا، وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب (كو 2: 14). هذه هي نهاية النظام الموسوي. وملخص رسالة غلاطية هو أن الرجوع من المسيحية إلى اليهودية ليس غباوة فقط، بل خطية وارتداداً عن المسيح (غل 3: 1، 3). وقال إنه ليس يهودي ولا يوناني (إذ كانت الديانة اليهودية قد زالت) لأن الجميع واحد في المسيح يسوع. «وأما الآن إذ عرفتم الله، فكيف ترجعون أيضاً إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون أن تُستعبَدوا لها من جديد؟ أتحفظون أياماً وشهوراً وأوقاتاً وسنين (يهودية)؟ أخاف عليكم أن أكون قد تعبت فيكم عبثاً» (غل4: 9-11). «إن اختُتِنتُم لا ينفعكم المسيح شيئاً. لكن أشهد أيضاً لكل إنسان مُختَتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس. قد تبطّلتم عن المسيح أيها الذين تتبرّرون بالناموس! سقطتم من النعمة» (غلاطية 5: 2-4). ومعنى هذا كله أنه لم تعُد للختان وظيفة ولا سلطان ولا لكل الناموس الطقسي، لأنه كان مؤدِّباً إلى المسيح قبل مجيئه. وأما بعده فصار الناموس الطقسي بدون فائدة ويضرُّ من يستند عليه.

لقد تساهل الرب بصبره وحكمته مع اليهود المتنصِّرين في ذلك التغيير العظيم من الديانة اليهودية إلى المسيحية، ولكنه أعطى أوامر واضحة برفض الديانة اليهودية لأن وظيفتها كملت، ولا يناسب استعمالها بعد في ملكوت الله. فهل يصدق أنه سيُرجع أيضاً حائط السياج المتوسط والفرائض والذبائح الدموية وكل ما كان في النظام الموسوي؟

وإذا قيل: سترجع حسب معنى كلام حزقيال الحرفي في ص 40- 48 نجيب: إذا كان العهد الجديد من الله، فالرجوع إلى الديانة اليهودية قد انتهى، لأن كلام المسيح وتلاميذه في هذا الموضوع واضح جداً، فقد قال للسامرية (وهو قبالة جبل جرزيم، لما سألته عن مسألة كانت منذ زمان طويل موضوع الخلاف وهي: أفي ذلك الجبل يقبل الله السجود أم في أورشليم؟) «صدقيني أنه تأتي ساعة، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب.. تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يو 4: 21-24). أي أن هذه المسألة قد زالت أهميتها، وأن كل نظام يقصُر العبادة على مكان واحد بطُل، ولم يعُد شيءٌ من مثل ذلك يُلزم العابد حتى يقبله الله. فإن كانت نبوة حزقيال حرفية يلزم أن يكون هناك مكان محدد للعبادة، وتصير كلمات المسيح للسامرية بلا معنى. وإذا تتبعنا أقوال حزقيال حرفياً نقول إنه ستأتي ساعة حين يسجد الناس لله كما في القديم في المكان المعين، لا بمجرد الروح والحق، بل بكل طقوس الديانة اليهودية القديمة. فهل يمكن أن يكون في فكر المسيح رجوعٌ إلى الديانة اليهودية؟ وهل ألهم هو حزقيال أن يتنبأ بذلك؟ كلا! فلا يمكن الرجوع إلى تعيين مكانٍ واحدٍ للعبادة، لأننا في عهد الإنجيل الذي فيه أصبح قلب كل تقي هو هيكل الله، وكل مكان صالحاً لتقديم الابتهالات والتضرعات القلبية فيه، ولا يمكن أن يزول نظام الإنجيل ويعود النظام الموسوي مكانه.

لقد قال رسل المسيح أن المسيحيين في عصر الإنجيل هم هيكل الله، وأن الله يسكن فيهم ويسير معهم (1كو 3: 16 و6: 19 و2كو 6: 16). وهذا تحقيق لنبوات العهد القديم كما يُفهم من نبوة عاموس عن بناء خيمة داود الساقطة أنها تشير إلى رجوع الأمم واجتماعهم إلى الكنيسة، لا إلى بناء الهيكل ثانية حرفياً (عا 9: 11، 12 وأع 15: 13-18). ولم يقرن الرسول بولس رجوع اليهود إلى المسيح برجوعهم إلى أرضهم، ولا علَّم أن هاتين الحادثتين تكونان معاً. نعم إنه اعتقد برجوعهم إلى المسيح، وسَّره ذلك كثيراً، ولكنه لم يلمح البتة إلى رجوعهم إلى أرضهم، ولا إلى إعادة بناء الهيكل من الخشب والحجارة (رو 11: 11-36).

وأخيراً نقول إن بين نظام العهدين القديم والجديد تناقضاً، حتى لا يمكن جمعهما معاً، لأن القديم كان محصوراً محدوداً خاصاً بأمة، وأما الجديد فيمتد إلى كل العالم. الأول كان محجوزاً ضمن أسوار ليمنع العبادة الوثنية ويُبقي رجاسات العالم خارجاً، وأما الثاني فيناضل ويكافح ضد العبادة الوثنية وخطايا العالم في كل مكان حسب أمر واضعه العظيم «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». فكيف يمكن مزج هذين النظامين حتى يرجع العالم إلى الرب بواسطة الرجوع إلى الديانة اليهودية التي من شأنها الانحصار؟

(ب) الأدلة من العهد القديم: ولاسيما من النبوات نفسها، بالنظر إلى ظروف كاتبيها والذين توجهت إليهم. فقد تربَّى أنبياء اليهود في النظام اليهودي، وكانت أفكارهم عن ملكوت الله يهودية، وألفاظهم وعباراتهم واستعاراتهم وإشاراتهم للتعبير عن تلك الأفكار يهودية أيضاً، وكذلك كان الذين قرأوا نبواتهم أولاً من اليهود. والرب نفسه كلم اليهود بلغة واستعارات يهودية، فأعلن اللهُ ملكوتَ المسيح للأنبياء بكلمات وإشارات مأخوذة من النظام اليهودي. وكان ذلك لازماً لإعلان كل أمرٍ ديني لليهود. وقد وضعنا هذا المبدأ هنا لنوضح سبب استخدام اصطلاحات النبوات وإشارتها الخاصة، لا لنبرهن على أن النبوات أعلنت بركات إنجيلية. وأما معرفة الأنبياء بأن قوة الإنجيل المجيدة ستُرجع العالم للرب، وأن روح الله هو العامل في الأيام الأخيرة فواضحة أولاً من إشارتهم إلى عصر الإنجيل، وهذا يوجب تفسير نبواتهم عن بركات الإنجيل لا عن النظام والطقوس الموسوية. وثانياً من اقتضاء نبواتهم إتماماً عظيما جداً لا يمكن أن يتم بدون الأمور الإنجيلية.

(ج) الأدلة من الظروف: ولاسيما سهولة قبول التفسير الروحي لتلك النبوات وصعوبة قبول تفسيرها حرفياً، فالنظام الحرفي لتفسير النبوات عن اليهود ليس صحيحاً بالنظر إلى الظروف. فمن المستبعد جداً أن الأسباط العشرة الذين فُقد ذكرهم من التاريخ منذ السبي يظهرون أيضاً ويبيِّنون جداول أنسابهم المتصلة إلى أجدادهم، ويبرهنون ذلك للعالم، ويسكنون في أماكنهم المذكورة في حزقيال 48. وأن حدود أرض فلسطين تتغير بطريقة غريبة وتصير قائمة الزوايا، وأن النهر الكبير يجري من المقدس بفيضان غريب إلى البحر الميت وتُشفَى مياهُه فيمتلئ سمكاً. ومن المحال أن أوقات الإنجيل المجيدة ومدته الجليلة تنتهي وتكمل بالرجوع من نظام العهد الجديد إلى نظام الدين اليهودي. ومن المستبعد أن يُرجِع الله كنائس الأمم إلى الحروب الدائمة مع اليهود التي سببت في القرنين الأول والثاني سفك دماء شهداء كثيرين. وأن يرجع اليهود إلى التعصب والتعالي والعِرقية والانفصال عن الأجناس الأخرى وروح عدم محبة الآخرين كما ظهر منهم في بدء المسيحية، وإلى الاستناد على الطقوس والفرائض الخارجية. وغير معقول أن المسيح يعطي كنيسته نظاماً يعظم الطقوس والفرائض على روح المحبة والطهارة والسلام، وأن يبدل ما في النظام المسيحي من مجد الروح القدس وقوته الفائقة بنهر جميل وسمك كبير وأشجار مثمرة، فيُرجع الكنيسة والعالم من دين روحي إلى فردوس أرضي حرفي بحسب التفسير الحرفي لما جاء في حز 47: 1-12. فلنفرح لأن كل ذلك غير وارد، ولنُسرّ بأن غريزيات طبيعتنا المسيحية تناقض هذا التفسير للنبوات، وأن لا دليل يسند التفسير الحرفي خلافاً للتفسير المؤيد بالأدلة الكافية والذي يظهر الحق المجيد وفق روح نبوات العهد القديم وتفسير العهد الجديد إياها، ويكشف عن مستقبل عظيم مجيد في ملكوت فادينا.

(2) في مذهب سابقي الألف السنة أمور مستحيلة: (أ) مستحيلة في نفسها وفي تحقيقها، منها أن المسيح لما قال «اقترب ملكوت الله» قصد أن ذلك الملكوت يكون بعد نحو ألفي سنة أو أكثر (!) وأن يوحنا المعمدان الذي أتى ليعد الطريق للمسيح أراد بقوله: «اقترب ملكوت الله» مجيء المسيح ثانية لا مجيئه الأول (!) وأن حضور المسيح في الجسد مع المسيحيين أفضل لمساعدتهم وتعزيتهم من حضوره معهم بواسطة الروح المعزي (!) مع أن المسيح قال خلاف ذلك (يو 16: 7). وأن سكان العالم في مدة الألف السنة يكونون من أمم جميعها في الجسد والخطية، ومن ربوات من القديسين قاموا من الأموات بأجسادهم الروحانية، وجميعهم يسكنون معاً ويعاشرون بعضهم بعضاً في عالمٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحدٍ (!). (ب) وبموجب هذا الرأي لا توجد واسطة لترجيع العالم إلى الله غير مجيء المسيح بالجسد، وهذا يحط من شأن عمل البشارة واجتهاد الكنيسة في تعليم الإنجيل ونشره في العالم، وبنيان ملكوت المسيح، كما يحط من شأن الروح القدس وقوته ومجده، لأنه (على زعمهم) غير كافٍ لإتمام هذه الغاية. وعندنا أن ظهور المسيح بالجسد في مجده ليس من الوسائط الفعالة في إقناع العالم بخطاياه وإرجاعه إلى الحق، لأن القلب البشري لا يتجدد ولا يتغير من مجرد منظر مجيد، فكم من الناس رأوا المسيح وهو على الأرض ولم يستفيدوا منه مطلقاً ومتى جلس على عرش مجده للدينونة يراه الجموع ولكن بدون فائدة روحية لأحدٍ منهم. وعلى فرض أن المسيح أتى بالجسد وملك على الأرض، ألا يبقى البشر محتاجين بعد إلى البشارة؟ أو هل تنفع البشارة أحداً بدون مرافقة الروح القدس وفعله الخاص في إنارة قلبه وإرجاعه إلى الله؟ فإذا كان تقدم الإنجيل يتوقف على الروح القدس إلى هذا المقدار، والمسيح على الأرض، فما المانع من تقدمه والمسيح على عرشه السماوي، إذا رافق الروح كلمة البشارة؟ وما الداعي لمجيئه بالجسد لإرجاع العالم إلى الله، بينما الروح القدس قادر على إرجاعه في الوقت المناسب، وقد أعطانا عربوناً لذلك ما فعله يوم الخمسين من تغيير قلوب ثلاثة آلاف شخص في يوم واحد وإرجاعهم إلى الحق؟ أليست السموات أليق وأمجد من هذه الأرض الحقيرة لتكون عرشاً للمسيح؟ وإذا نزل ابن الله إلى هذا العالم ومعه أهل السماء وتبوأ عرشاً أرضياً، ألا يفرغ السماء مما يتعلق بملكه المجيد؟ وهل من المعقول أن ذلك العرش الكائن عن يمين الله الذي جلس عليه المسيح يبقى فارغاً من مجد حضوره مدة ألف سنة، وأن الملائكة يغيبون عنه طول هذه المدة ولا تُسمع هناك ترنيمات الفرح والسرور والتسبيح وتنتقل أمجاد السماء إلى أورشليم الأرضية؟ (ج) ومما يدل على بطل هذا النظام هو أنه لو كان من تعليم المسيح وتلاميذه لأبطل استعمال الحق الإنجيلي الفعال بواسطة الروح القدس، ولاشى الرجاء بالنجاح العظيم، وحمل الكنيسة على أن تترك العمل وتنتظر مجيء المسيح ثانية. ولما حدث شيء من نتائج تبشير الرسل والكنيسة الأولى الفائقة الوصف. فنستنتج أن ذلك ليس من تعليم المسيح ورسله، وبالتالي فهو غير صحيح. ومن المحال أن الرب يسوع نظر بعين الاحتقار إلى خدمة الذين قدموا أموالهم وصلواتهم وضحوا بسعادتهم الأرضية وحياتهم في سبيل الكرازة بالإنجيل للخليقة كلها طاعة لأمره. فالنظام الذي يُفضي إلى مثل هذه العقائد المضادة لتعليم الكتاب وللعقل ولروح التقوى يهدم رجاء شعب الله في الحق الإنجيلي الفعال بواسطة الروح القدس، وينفي الثقة بالله في نجاح خدمة الإنجيل، ويناقض روح الرسل والكنيسة الأولى، ويقاوم الإرسالية العظيمة التي وجهها المسيح لشعبه في العصر الحاضر بواسطة عنايته وروحه.

(3) بعض الحقائق المهمة التي تغاضي عنها هذا النظام:

فات سابقي الألف السنة إدراك بعض الحقائق المهمة جداً، منها مناسبة حقائق الإنجيل العظيمة للعقل البشري، وسلطانها على القلب والسيرة إذا علَّمها الروح القدس وقُبِلَت بالبساطة. وأن للمحبة قوة في إخضاع قلوب الناس للتوبة أكثر من الخوف، لأنهم يقولون إن نزول الأحكام المخيفة عند مجيء المسيح ثانيةً له قوة في ترجيع الخطاة وجعلهم يحزنون على خطاياهم أكثر من دموع المسيح ودمه. وفاتهم اعتبار عظمة عمل الروح القدس في عصر الإنجيل. ولذلك أغفلوا حضور المسيح في قلب المؤمن بواسطة المعزي (يو 14: 16-18 و16: 13-15) وأغفلوا قوة الروح المقدس في إظهار الحق للخاطئ وجعله مؤثراً في ضميره وقلبه. وفاتهم أيضاً فهم روح الرسل وعملهم لما امتلأوا من الروح القدس وبشروا بالإنجيل، وبالتالي فهم جوهر النظام المسيحي وغايته.

فمن هذه الأخطاء يتبين فساد مذهب سابقي الألف السنة، واعتقادهم أن الحق ضعيف، لا يغلب في الحرب المستعرة في هذا العالم بين الحق والضلال والقداسة والخطية والمسيح والشيطان، مدة العصر الحاضر. ومن العجب أنهم قالوا إن النصرة في الحرب الحاضرة والترتيب الحاضر لا بد ستكون أخيراً للضلال والخطية. وأما في النظام التالي فيأتي المسيح بقوات جديدة من أحكامه الرهيبة ويغلب. وإذ ذاك تكون نصرته بواسطة النار والرعود والزلازل وانقلابات الطبيعة. فما لم يمكن إتمامه بواسطة المحبة والدموع والحق وبرهان الروح القدس يتم بواسطة المخاوف الرهيبة التي تصحب مجيئه ثانية وجامات غضبه المهلك، وأنه لا يمكن بواسطة الإنجيل والروح القدس الحصول على نصرة روحية في الحرب العظيمة في ميدان القلوب البشرية. فلا يليق أن نخفض شأن الإنجيل بمثل هذا الكلام، ولا أن نحط اعتبار الروح القدس بمثل هذه التشدُّقات، ولا أن نُضعف رجاءنا بسبب تأخر النصرة، مع أن قوات الحق تزداد قوة وإن كان بطريقه خفية، ولنا نبوات أكيدة عن النصرة نطق بها الأنبياء في القديم، وأنشدوها بأصوات الفرح والابتهاج.

17- يستند أصحاب رأي مجيء المسيح ثانية على آيات من نبوة دانيال. اشرح رأيهم، وما هو الرد عليه؟

* استندوا على سفر دانيال في أمرين:

(1) حوَّلوا ما فيه من الإشارات إلى نبوات عن عصر الإنجيل، فحسبوا المملكة الرابعة في أصحاحي 2، 7 مملكة روما الوثنية، وملوكها العشرة ممالك أوروبية تقوم في القرون المتوسطة لعصر الإنجيل، والقرن الصغير الكنيسة الكاثوليكية، والمملكة الخامسة (أي مملكة المسيح) تقوم بعد إبادة القرن الصغير. ولذلك قالوا إن ملكوت المسيح لا يقوم إلا بعد إبادة الكنيسة الكاثوليكية، أي لم يقم بعد.

(2) حرفوا معنى كل المُدد المذكورة في هذا السفر على مبدأ وهمي، وهو أن كل يوم يعني سنةً، وقالوا إنها تشير إلى زمن خراب الكنيسة الكاثوليكية ومجيء المسيح. وقد بينّا في ما تقدم أن هذا التفسير مشكوك فيه. أما مبدأهم أن يوم النبوة هو سنة فسنبرهن خطأه في إجابة سؤال 22. فإذا فسرنا سفر دانيال بالصواب، لا نرى فيه دليلاً على وقت مجيء المسيح ثانيه، ولا على شكله بالجسد على الأرض.

18- ما هو التفسير الصحيح لأصحاحي 2 و 7 من نبوة دانيال؟

* علاقة سفر دانيال بالعهد القديم، ولاسيما بالنبوات، كعلاقة رؤيا يوحنا بالعهد الجديد، ولاسيما بأقوال المسيح ورسله النبوية. فسفر دانيال هو «سفر رؤيا العهد القديم» وهو نور لتعزية الحكماء الأتقياء، وإنارة الظلمة من وقت السبي إلى وقت المجيء الأول للمسيح، كما كانت رؤيا يوحنا سبب تعزية وإنارة لقديسي العهد الجديد ترشدهم في سياحتهم في العالم المظلم من وقت خراب أورشليم وحتى مجيئه ثانية عندما ينتهي النظام الحاضر (قارن تي 2: 11-13 مع رؤ 1: 7 و22: 17، 20) والفرق بينهما أن دانيال وجَّه كلامه لليهود في العهد القديم، ويوحنا للمسيحيين في العهد الجديد.

ويتضمن دانيال 2 أقوالاً عن الممالك التي هي الموضوع الأهم في السفر، فالصنم الذي رآه يمثل المملكة البابلية والمملكة المادية الفارسية والمملكة اليونانية والمملكة السورية (المسماة أحياناً الدولة السلوقية) وبعدها ملكوت المسيح المعبَّر عنه بحجرٍ قُطِع بغير يدين وصار جبلاً كبيراً ملأ الأرض كلها.

وفي الأصحاحات التالية يرد ذكر تلك الممالك بأكثر تفصيل، ففي دانيال 7 عبَّر عن الممالك الأربع الأولى بحيوانات، للرابع منها عشرة قرون، ورأى أن قرناً صغيراً (آية 8) أخضع ثلاثة من القرون العشرة، وأن ذلك القرن الصغير القوي حارب القديسين وغلبهم حتى جاء «القديم الأيام» وأعُطي الدين لقديسي العلي، وجاء الوقت فامتلك القديسون المملكة. وتشير القرون العشرة إلى عشرة ملوك من المملكة الرابعة، ويشير القرن الصغير إلى ملكٍ منهم، هو أنطيوخس أبيفانيس الذي ضايق اليهود جداً.

ويتضمن الأصحاحان 8، 11 نبوات عن تلك الممالك الأربع التي انقسمت إليها مملكة الإسكندر، وأعمال أنطيوخس أبيفانيس أحد ملوكها (وهو القرن الصغير المذكور في ص 8: 9-11، 23-25) هو موضوع الكلام في ص 11: 21-45.

فنبوة دانيال تُلقي نوراً نبوياً على المدة المتوسطة بين سبي بابل ومجيء المسيح، وترينا زوال قوات العالم القديم العظيمة، وقيام ملكوت المسيح الأبدي بعدها.

والمسألة المهمة في تفسير نبوة دانيال هي: إلى من يشير الحيوان الرابع المذكور في ص 7؟ وقرونه العشرة؟ والقرون الثلاثة التي قُلعت منها؟ والقرن الصغير الذي طلع بينها؟ قال بعض المفسرين إن الحيوان الرابع يشير إلى المملكة الرومانية، فتكون القرون العشرة عشر ممالك انقسمت إليها تلك المملكة بعد سقوطها. والقرون الثلاثة التي قُلعت منها هي ثلاثٌ من تلك الممالك العشر، والقرن الصغير هو الكنيسة الكاثوليكية. غير أن في هذا الرأي صعوبات وتناقضات كثيرة، ولم تقم أدلة كافية لإثباته، ولذلك رأى مفسرون آخرون رأياً آخر، وهو أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية التي أسسها سلوقس أحد قواد الإسكندر بعد موت الإسكندر وانقسام مملكته، وكانت عاصمتها أنطاكية سوريا. والقرون العشرة تشير إلى عشرة ملوك من تلك المملكة. والقرون الثلاثة التي قُلعت منها هي ثلاثة أشخاص حاولوا أخذ المُلك، والقرن الصغير هو أنطيوخس أبيفانيس الذي عارضهم في ذلك وأخذ الملك منهم. ولأن هذه المسألة شغلت المفسرين كثيراً وكثُرت فيها أبحاثهم، آثرنا أن نتحدث فيها لنبيِّن صحة الرأي الثاني من الرأيين المذكورين آنفاً (أي أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية):

(1) مملكة سوريا هي التي أعقبت الممالك الثلاث السابقة والتي أعقبتها المملكة الخامسة. وموقعها في التاريخ يوافق موقع الحيوان الرابع في جملة أوجه: (أ) في الزمان: لأنها أعقبت مملكة الإسكندر (المشار إليها بالحيوان الثالث) وتأسست بعد حروب وخصومات شديدة مدة 11 سنة، وسرعان ما أقامت علاقة شديدة باليهود، خلافاً لمملكة روما التي لم تكن لها علاقة بهم إلا قرب مجيء المسيح، ولا أضرَّت بهم ضرراً عظيماً إلا وقت خراب أورشليم بعد المسيح بنحو سبعين سنة. (ب) في المكان: لأنها تسلطت على ذات الأراضي التي تسلطت عليها الممالك الثلاث السابقة خلافاً للمملكة الرومانية. (ج) في شعوبها: لأنها تألفت من الشعوب التي تألفت منها ممالك بابل ومادي وفارس واليونان. (د) في علاقتها باليهود: لانحصارهم فيها، بخلاف مملكة روما التي كان سلطانها وقتئذ محصوراً في أوروبا، ولم تتداخل في أمور اليهود حتى زمن هيرودس الذي ملك على اليهود بمساعدة روما، وبعد موته استولت روما عليهم.

(2) هذا الرأي يجعل علاقة المملكة الرابعة باليهود مطابقة تماماً لما نرى في أحوال الممالك الثلاث السابقة من كثرة تداخلها في أمور اليهود، فإن أهمية تلك الممالك وسبب ذكرها في النبوة هي عظمتها وشدة علاقتها بشعب الله. وكلام الله لدانيال في شأنها هو أن تلك الممالك الأربع العظيمة التي تحيط باليهود وتتسلط عليهم وتهددهم بالدمار والملاشاة وإبادة ديانتهم ستتلاشى، ويقوم مكانها ملكوت المسيح ليملأ كل الأرض. وقد خلفت مملكة مادي وفارس مملكة بابل سياسياً وجغرافياً في علاقتها باليهود، كما خلفت مملكة الإسكندر في آسيا مملكة مادي وفارس سياسياً وجغرافياً في علاقتها باليهود، فنستنتج أن المملكة الرابعة تخلف مملكة الإسكندر سياسياً وجغرافياً في علاقتها باليهود. أما مملكة سوريا فاجتمع فيها كل ذلك، وكانت علاقتها بالممالك السابقة علاقة طبيعية.

(3) قيل عن المملكة الرابعة (وهي القرن الصغير) إنه يحاول أن يغير الأوقات والسُنَّة (الشريعة)، أي الأوقات والسنة اليهودية المعهودة عند دانيال. ونسبت أسفار المكابيين تغيير السنة اليهودية إلى أنطيوخس أبيفانيس، وقيل عنه إنه يحارب القديسين ويغلبهم (أي شعب الله، لأن كلمة «قديسين» تُطلق في الكتاب عليهم) وأعمال أنطيوخس في محاربة اليهود ومضايقتهم مشهورة جداً.

(4) إذا كانت مملكة المسيح هي الخامسة لا بد من وجود المملكة الرابعة قبلها. أما مملكة المسيح فتأسست عند صعوده إلى يمين الله ليأخذ الملك بدليل: (أ) أن يوحنا المعمدان والمسيح كرزا أن زمان ملكوت الله قد اقترب. ويخبرنا العهد الجديد عن اقتراب ذلك الملكوت وتأسيسه. وقبل موت المسيح بقليل تكلم عن قوة مَلكية أُعطيت له (يو 17: 1، 2 ومت 28: 18) وبعد صعوده شهد كل الرسل أن المسيح صار ملكاً على ملكوته وأُعطي له السلطان رسمياً (أع 2: 33، 36 و10: 36 وأف 1: 20-22 و1بط 3: 22 ويو 3: 35 ومت 11: 27 وفي 2: 9، 10 وعب 1: 3 و12: 2 ورؤ 3: 21 و17: 14). وهذه الشواهد تكفي لتبين أن المسيح استلم الملك عند صعوده إلى السماء،. والخبر الأخير عنه في الإنجيل هو اختفاؤه في سحاب السماء. أما دانيال فرأى بعين النبوة ما كان بعد صعود المسيح فقال «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى قديم الأيام فقرَّبوه أمامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض». والخلاصة أن ملكوت المسيح تأسس بمجيئه الأول إلى الأرض وتجهيزه ما يلزم لذلك، وجلوسه عن يمين الله في الأعالي. ومن ذلك الوقت أخذ السلطان ولا يزال في يده، وسيدوم متسلطاً في الكون تسلطاً مطلقاً إلى نهاية العالم. وبما أن ملكوت المسيح هو المملكة الخامسة في سلسلة الممالك المذكورة آنفاً، وتأسيسه كان عند صعوده، فلابد أن المملكة الرابعة قد سبقت مجيئه الأول. ومما يؤيد ذلك أيضاً ما قيل عن إجراء الدينونة على الحيوان الرابع، أو بالحري القرن الصغير (دا 7: 9-12). فإن تلك الدينونة ليست الدينونة الأخيرة العامة، بل دينونة خاصة على القرن الصغير للحيوان الرابع بسبب تجديفه، أجراها الله قبل مجيء المسيح استعداداً لقيام ملكوته. وذلك واضح من القرينة، لأنه لا توجد إشارة إلى الدينونة العامة مطلقاً، لأن تلك تحدث عند نهاية العالم، وهي تختص بأفراد البشر لا بمملكة واحدة ولا بممالك، ولا يكون بعدها زمان خلافاً لهذه التي كان بعدها زمان (دا 7: 12). تلك يعقبها قصاص الأشرار وإدخال الأبرار إلى الراحة السماوية، أما هذه فيعقبها قتل الحيوان وهلاك جسمه ودفعه لوقيد النار (دا 7: 11) أو كما قيل (في آية 26) «نُزِع عنه سلطانه». وهذا يدل على أن عاقبتها هي إبادة أمة ودمار مملكة أرضية. والديان في الدينونة العامة الأخيرة هو المسيح، بدليل شواهد عديدة قي الكتاب. وأما في هذه فهو «القديم الأيام» (آية 9) أي الله الآب. وخلاصة ما تقدم أن المملكة الرابعة يجب أن تسبق مجيء المسيح الذي ابتدأت فيه المملكة الخامسة، وكان قد جرى قبل مجيئه دينونة مهلكة على الحيوان الرابع، الأمر الذي لم يتم على مملكة روما مطلقاً.

(5) تشير النبوتان في ص 8، 11 إلى نفس موضوع النبوة في ص 7 أي أحوال تلك الممالك العظيمة، وأعمال أنطيوخس أبيفانيس الملقَّب بالقرن الصغير (في ص 7، 8) وبأنه محتقر (في ص 11: 21) وهما على الأرجح تشيران إلى نفس الممالك المشار إليها بنبوة التمثال في ص 2 ونبوة الحيوانات في ص 7. وتتشابه أقوالهما عن أنطيوخس أبيفانيس المكني عنه بالقرن الصغير في ص 8 وما قيل عن القرن الصغير في ص 7. وهذا يثبت أن القرن الصغير في ص 7، 8 هو شخص واحد، هو أنطيوخس أبيفانيس.

وإذا ثبت أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سورية اليونانية (المسماة غالباً المملكة السلوقية) ينبغي بيان المقصود بالقرون العشرة للحيوان الرابع، فإنها تشير إلى عشرة ملوك قاموا في تاريخ المملكة الرابعة كما قيل «والقرون العشرة من هذه المملكة هي عشرة ملوك يقومون، ويقوم بعدهم آخر وهو مخالفٌ الأوّلين ويذل ثلاثة ملوك» (دا 7: 24). والقرن الصغير طلع بين القرون العشرة. فليس هو أحدها، بل هو قرنٌ آخر، وهو الحادي عشر (دا 7: 8، 20، 24). والشخص المشار إليه بالقرن الصغير في ص 7، 8 هو نفس الشخص المذكور في 11: 21-45 كما يظهر من اتفاق التعبيرات عنه، ومن مشابهة الأوصاف والأعمال المنسوبة إليه في كل تلك الأصحاحات. فبناءً على هذه الملاحظات نقول إن القرون العشرة هي عشرة من ملوك المملكة الرابعة (أي مملكة سورية) ونبغوا فيها بالتتابع، والملك الصغير هو الملك الحادي عشر.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

19- قامت اعتراضات على أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية. ما هي أشهرها، وما هو الرد عليها؟

(1) يقتبسون قول المسيح «متى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس، ليفهم القارئ» (مت 24: 15 ومر 13: 14 ولو 21: 20) يدل على أن كلام دانيال في المملكة الرابعة نبوة عن تدمير الرومان أورشليم. فكل ما قيل عن الحيوان الرابع والقرن الصغير هو عن مملكة روما والكنيسة البابوية.. فنجيب: صحيح إن تلك العبارات في الأناجيل الثلاثة مقتبسة من دانيال، لكنها غير مأخوذة من كلامه عن الحيوان الرابع، بل من كلام آخر في سفره يشير إلى الرومان وأعمالهم، حيث قيل «ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد، وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة، وعلى جناح الأرجاس مُخرَّب» (9: 27). وفي هذا المكان في النسخة السبعينيَّة (التي كانوا يقتبسون منها كثيراً في زمن المسيح) عوضاً عن العبارة الأخيرة «وفي الهيكل» جاءت «رجسة الخراب» وهي نفس العبارة الموجودة في الإنجيل (انظر دا 9: 27 حاشية التوراة بالشواهد). فنرى أن ذلك الاقتباس في الإنجيل في محله تماماً، لأنه مأخوذ من كلام دانيال في أعمال روما، لا في الحيوان الرابع والقرن الصغير. ولا غيره للألفاظ المتشابهة في ذلك (كما في دا 11: 31 و12: 11).

(2) يقولون: نحن لا نرى في الإنجيل ما يثبت هذا الرأي، بل نرى في سفر الرؤيا ألفاظاً تشبه ألفاظ دانيال في كلامه عن القرن الصغير تشير إلى المملكة الرومانية، لاسيما إلى الكنيسة البابوية.. فنجيب: لم يرد في الإنجيل ما يشير إلى أن الحيوان الرابع هو مملكة سوريا، والقرن الصفير هو أنطيوخس، لأن تلك النبوة كانت قد تمت ومضت، ولا حاجة إلى ذكرها بعد في الإنجيل، خلافاً للمملكة الخامسة التي تمت النبوات عنها في عصر المسيح، فإن الإنجيل مليء بالإشارات إليها كما رأينا. أما ما بين ألفاظ سفر الرؤيا وألفاظ دانيال من المشابهة فنشأ عما بين مواضيع نبواتهما من المشابهة، لا عن أن النبوتين تشيران إلى شيء واحد. فإن دانيال تنبأ عن عدو للكنيسة اليهودية، وتمت نبوات في أوانها، أي قبل زوال الكنيسة اليهودية. أما يوحنا فتنبأ في الرؤيا عن عدو للكنيسة، ويحتمل أنه استعمل عبارات تشبه عبارات دانيال لما بين صفات العدوين وأعمالهما وطرق مقاومتهما للديانة الحقيقية من المشابهة. والأرجح أنه استعار ألفاظ دانيال نفسها للتعبير عن موضوعه. وهكذا نقول أيضاً في مقارنة أقوال بولس في ذكر «إنسان الخطية» (2تس 2: 3-10) وصفات القرن الصغير في دانيال من المشابهة، فإنها لم تنشأ عن أن أقوالهما تشر بالضرورة إلى شخص واحد، بل عن مشابهة صفات عدو الكنيسة اليهودية أنطيوخس لعدو للكنيسة إنسان الخطية وضد المسيح. والقرن الصغير في العهد القديم، وإن اختص بالكنيسة اليهودية قبل مجيء المسيح، كان في صفاته وأعماله ذا صفة رمزية تشير إلى ضد المسيح وإنسان الخطية في زمان العهد الجديد، ولذلك نعتبره رمزاً لضد المسيح في أزمنة الإنجيل.

(3) يقولون إن وصف قوة الحيوان الرابع وعظمته وتسلطه على الآخرين لا يصح إلا على مملكة روما التي كانت قوية وممتدة وشديدة البأس.. فنجيب: نبوة دانيال موجهة إلى الأمة اليهودية وما جاء بها خاص بتاريخ اليهود في المستقبل القريب، أي في مدة نحو 500 سنة منذ نطق بها إلى أن أتى المسيح وأسس ملكوته. وكان المقصود منها تنشيط شعب الله في وسط الممالك الوثنية القوية، وإيضاح سلسلة تلك الممالك لهم، وعلاقتهم بهم كأمة. ولذلك وُصف الحيوان الرابع بأنه هائل وقوي، والقرن الصغير بأنه عامل أعمالاً عظيمة لليهود لا للعالم أجمع. وبهذا الاعتبار يصح وصف الحيوان الرابع على مملكة سوريا، ووصف القرن الصغير على أنطيوخس أبيفانيس، لأنهما ألد أعداء اليهود وأشدهم ضرراً. أما القول إن مملكة سوريا اليونانية (أي الدولة السلوقية) كانت صغيرة وقليلة الاعتبار فغير صحيح، لأنها كانت متسعة وقوية وقاسية وظالمة، حاربت حروباً وسفكت دماءً.

20- ما هي براهين أصحاب رأي أن الحيوان الرابع هو مملكة روما الوثنية، وما هي الردود على ذلك؟

* (1) يقولون إن المملكة الرومانية كانت مملكة عظيمة وواسعة، تدخَّلت في أمور اليهود لأنها كانت آلة في يد الله لإبادة اليهود، ولذلك يصح أن نحسبها الحيوان الرابع.. فنجيب: ليس في سفر دانيال دليل على أنه يتنبأ عن الممالك السياسية القائمة في عصر الإنجيل. وإذا اعتبرنا الحيوان الرابع أنه مملكة روما نؤخر النبوة إلى ما بعد تأسيس ملكوت المسيح بمئات السنين، ويصعب علينا تفسير العشرة القرون والقرن الصغير، إذ لا يوجد عشرة ملوك يمكن أن نحسبهم القرون العشرة، ولا ملك آخر يصح عليه ما قيل عن القرن الصغير. ولذلك التزم أصحاب الرأي الروماني أن يغضوا النظر عن التفسير الإلهي الذي بموجبه تعتبر القرون الصغيرة رمزاً لعشرة ملوك، وكذلك القرن الصغير رمزاً لملك آخر، وجعلوا الإشارة إلى عشر ممالك، لا إلى عشرة ملوك، والقرن الحادي عشر حوَّلوه إلى سلسلة رؤساء كنيسة، وذلك بالرغم من وضوح قول الله إنه ملوك لا ممالك. قال دانيال «والقرون العشرة من هذه المملكة هي عشرة ملوك يقومون، ويقوم بعدهم آخر، وهو مخالفٌ الأوّلِين، ويذل ثلاثة ملوك» (7: 24) وكذلك اعتبار مملكة روما الحيوان الرابع يؤخر المملكة الخامسة عن وقتها حتى يلزم عن ذلك أنها لم تؤسَّس بعد، لأنها تقوم بعد انقراض الرابعة (دا 7: 21-28). وبما أن الكنيسة البابوية لا تزال قائمة، يلزم عن رأيهم أن مملكة المسيح لم تقم بعد (انظر دا 7: 11، 12، 26، 27).

(2) يقولون إن وصف القرن الصغير يصح على الكنيسة البابوية تماماً، ولذلك لابد من الإشارة إليها.. فنجيب: يرمز القرن الصغير إلى قوةٍ تقاوم الكنيسة في عصر الإنجيل. ولا صحة للظن أن القرن الصغير يشير إلى الكنيسة البابوية، لأنه برز في تاريخ اليهود من تمَّ فيه كل ذلك الوصف، فلا لزوم أن ننتظر بعد مجيء المسيح من يتم فيه ذلك. وقد كان للكنيسة اليهودية مضطهِد ومقاوِم كما للكنيسة. والنبوات عن الأول في دانيال وعن الثاني في الرؤيا، ولا لزوم أن نوجِّه نبوات دانيال إلى الكنيسة البابوية، فإن القرن الصغير ملك كسائر القرون العشرة وقد طلع وراءها.

(3) يقولون إن تأسيس ملكوت المسيح وإعطاءه لقديسي العلي يجب أن يشير إلى الألف السنة، لأننا لا ننتظر إتمام هذا إلا بعد انقراض كنيسة روما.. فنجيب: يعلمنا الكتاب المقدس أن ملكوت المسيح تأسس عند صعوده، وأخذ يمتد منذ ذلك الوقت، ولا يزال يمتد إلى الآن. وعلى ذلك لا تعتبر الألف السنة زمان تأسيس الملكوت، بل وقت امتداده وانتصاره العام. وقبل ذلك الوقت ننتظر حسب نبوات سفر الرؤيا سقوط «ضد المسيح».

(4) يقولون إن تأسيس ملكوت المسيح يكون في أيام الملوك المشار إليهم في دا 2: 44 بقوله «وفي أيام هؤلاء الملوك» وإن «هؤلاء الملوك» تشير إلى الممالك العشر المشار إليها بالقرون العشرة في ص 7.. فنجيب: الإشارة في قوله «هؤلاء الملوك» هي إلى الملوك الأربعة المشار إليهم في دانيال 2 وهم ملك بابل، وملك مادي وفارس، وملك اليونان، وملك سوريا. فإن الله بدأ في زمن هؤلاء الملوك بالاستعداد لإقامة ملكوته ويتضح من دانيال 7 أن ملكوت المسيح يقوم بعد إبادة الحيوان الرابع أو بالحري بعد إجراء الدينونة على القرن الصغير. فالمقصود بإقامة ملكوت المسيح في أيام هؤلاء الملوك هو إتمام الاستعداد وتجهيز العالم لمجيء المسيح.

21- لماذا نرفض تفسير كلام دانيال عن الحيوان الرابع وعن القرن الصغير أنه يشير إلى المملكة الرومانية؟

* (1) وصف الحيوان الرابع لا يصدق على المملكة الرومانية، لا باعتبار زمانها ولا مكانها ولا علاقتها بالثلاث الأخرى، لأنها لم تعقب الثالثة منها، ولا سبقت الخامسة لأنها خربت قبل تأسيسها. ولا تألفت من الشعوب التي تألفت منها تلك الثلاث، ولا اضطهدت اليهود إلا بعد مجيء المسيح وتأسيس ملكوته. والكنيسة البابوية لم تضطهِد الكنيسة.

(2) وصف الحيوان الرابع أو المملكة المشار إليها به أنها مؤلفة من قطع متنوعة، بعضها من حديد وبعضها من خزف، وبعضها قوي وبعضها قصِم، وأنها منقسمة، لا يصح على المملكة الرومانية التي كانت قوية ثابتة ممتدة ولم تكن مقسومة قبل مجيء المسيح. وقيل أيضاً عن الحيوان الرابع إنه كان مخالفاً لكل الحيوانات التي قبله وهذا يصح على مملكة سوريا تماماً، ولا يمكن تطبيقه على مملكة روما.

(3) القول إن القرن الصغير يغيِّر الأوقات والسُنَّة (الشريعة) يفيد أن المحاربة بينه بين قديسي العلي جرت فيما كان اليهود شعب الله، وقبل زوال النظام الموسوي.

(4) طلع القرن الصغير بين قرون الحيوان الرابع. وعلى ما نستنتج كان ملكاً سياسياً مثل الملوك العشرة، لأنه لا دليل مطلقاً على أنه رئيس روحي كنائسي لطائفة دينية.

(5) ضُرب الحيوان الرابع بسبب خطايا القرن الصغير. قال دانيال «كنت أنظر حينئذ من أجل صوت الكلمات العظيمة التي تكلم بها القرن. كنت أرى إلى أن قُتل الحيوان وهلك جسمه ودُفع لوقيد النار» (دا 7: 11). وحسب الرأي الروماني يلزم أن مملكة روما الوثنية هلكت بسبب خطايا الكنيسة البابوية.

(6) المملكة الخامسة أو مملكة المسيح هي الحلقة الأخيرة في سلسلة نبوات دانيال عن الممالك الخمس، فإن حسبنا المملكة الرابعة مملكة روما جعلنا قيامها وسقوطها قبل تأسيس ملكوت المسيح لا بعده، وذلك يخالف الواقع.

(7) نبوات دانيال الأربع في ص 2، 7، 8، 11 هي على الأرجح مرادفة بعضها لبعض، أي تشير إلى مواضيع واحدة، بدليل ما في كلامها عن كل جزء بمفرده من المشابهة الكلية. أما الرأي الروماني فيحول ما قيل في ص 7 عن الحيوان الرابع والقرن الصغير إلى موضوع آخر، أي الكنيسة البابوية، مع أنه مكرر في المعنى في ما قيل عن القرن الصغير في ص 8 الذي يقول أصحاب الرأي الروماني إنه يشير إلى أنطيوخس أبيفانيس.

(8) التفسير الإلهي للقرون العشرة هي أنها عشره ملوك، والقرن الصغير أنه ملك آخر طلع بينهم. وحسب الرأي الروماني القرون العشرة هي ممالك، والقرن الصغير كنيسة، وهذا تناقض!

(9) يستلزم تفسير النبوات حسب الرأي الروماني أن نسلِّم بمبدأ آخر مثبت من الكتاب المقدس، وهو أن «يوم» في النبوات يشير إلى سنة، وعليه فالعبارة «زمن وزمنين ونصف زمان» تشير إلى 1260 سنة، وذلك مستحيل كما سنرى في إجابة السؤال التالي.

22- كيف تبرهن خطأ رأي من يقولون إنه اليوم مستعار (في بعض النبوات) لسنة؟

* (1) حقيقة هذا الرأي:

اتَّخذ البعض هذا الرأي مبدأً لتفسير المُدد المذكورة في سفري دانيال والرؤيا، فاعتبروا ال 1260 يوماً بمعنى 1260 سنة. غير أن هذا المبدأ ليس من الأمور المبرهنة، لا من نصوص الكتاب المقدس، ولا من إتمام النبوات التي تمت. وقد سُمي هذا الرأي «رأي اليوم السنوي» وبموجبه يجب ضرب الأزمنة أو السنين والشهور في بعض النبوات في عدد أيامها، ويكون الحاصل هو عدد السنين الحقيقي. وهذا خطأ.

(2) الأدلة على بطلانه:

(أ) لأنه يخالف العقل، فقد أعطى الله النبوات للبشر في لغتهم، ولولا ذلك لما أمكنهم أن يستفيدوا منها بدون إعلان خاص لتفسير اللغة النبوية. ولا نستثني ما في النبوات من التشبيه والمجاز والكناية من هذا الحكم، لأن الألفاظ المستعملة لذلك مستعملة بمعناها المتعارف عليه، فكلمة «أسد» مستعملة بمعنى أسد و«خروف» بمعنى خروف. وكلمة أسد مثلاً مستعملة للدلالة على ما في المستعار له من صفات الحيوان الموضوعة له، وهذا لا يختص بالنبوات بل عام في الكلام. وفي اللغة العبرانية كلمة «يوم» وكلمة «سنة». فلو أراد الله «سنةً» لاستعمل كلمة سنة وليس كلمة «يوم».

(ب) ليس في النبوات ما يسند هذا الرأي. فقال أهله إن الله قصد بذلك أن يجعل كلامه عن الوقت غير مفهوم إلى أن يتم، فأغلق على هذا الجزء من الحق وأخفى مفتاحه.. ورداً على ذلك نقول: (1) لا دليل على أن الله قصد أن يخفي ما يظهر أنه قصد أن يعلنه، فاعتمد على الألغاز لإبهام النبوات وإخفاء معرفة الزمان، وهو يدَّعي أنه يعلنه. فلو قصد هذا الأمر لاكتفى بعدم ذكر الوقت كما فعل كثيراً. فما الغاية من إعلانه الزمان على صورة اللغز أو المعمَّى؟ (2) لو جعل الله اليوم كناية عن سنة لكشفت لنا حوادث قليلة محققة مفتاح السر، وبطل قصد الله في إخفاء الوقت، لأننا بعد أن نجد المفتاح يسهل جداً استعماله، وجدول الضرب بسيط وسهل الاستعمال.

(ج) لا يمكن إثباته من إتمام نبوة ما. قال البعض إن ذلك سيتبيَّن من حوادث لم تحدث بعد.. فنجيب: الأمر بالعكس، فالنبوات التي تمت تبرهن أن المقصود باليوم في النبوات هو «يوم».

(د) تناقض جميع النبوات التي تمَّت بشأن هذا الرأي، فكل ما ذُكر في الكتاب من إتمام نبوّاته يبين أن الألفاظ الدالة على الوقت في النبوات مستعملة بمعناها الحقيقي المشهور لا على سبيل اللغز. ومن ذلك إنباء الله بواسطة نوح أن الطوفان يكون بعد 120 سنة (تك 6: 3) وتلك المدة كانت 120 سنة حقيقية لا 43200 سنة. وقوله لنوحٍ «لأني بعد سبعة أيام أيضاً أُمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة» (تك 7: 4). فلو بقي نوح محبوساً في الفلك سبع سنين قبل مجيء الطوفان لكانت تلك بلية شديدة عليه. وقول الله لإبراهيم «نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم، فيذلّونهم أربع مئة سنة» (تك 15: 13). فهل يصدّق أحد أن تلك المدة كانت 400 × 360 أي 144 ألف سنة. وقوله «وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة» (عد 14: 33). فهل تاهوا في البرية 14400 سنة؟ قال إشعياء، وفي مدة 65 سنة ينكسر أفرايم حتى لا يكون شعباً» (إش 7: 8) ونرى من التاريخ أن تلك المدة كانت 65 سنة حقيقة لا 23400 سنة، عند نهايتها خربت مملكة إسرائيل على يد شلمنأسر سنة 722 ق م، وأن النبي حسب نهايتها عندما أرسل آسرحدون إلى البلاد قوماً ليسكنوها. وقال أيضاً «في ثلاث سنين كسني الأجير يُهان مجد موآب» (إش 16: 14) ولكن ليس من يحسب هذه المدة 180 سنة. وإذا كانت هذه المدة ثلاث سنوات فقط، لماذا لا تكون الثلاث سنوات ونصف في دا 7: 25 و12: 17 كذلك؟ وقال إرميا «تخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة» (إر 25: 11). وأيضاً «عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردّكم إلى هذا الموضع» (إر 29: 10). وفهم دانيال أن المقصود بالسنة هنا معناها الحقيقي المشهور، فلو اعتقد برأي «اليوم السنوي» لحسب أن الرجوع يكون 25200 سنة بعد السبي، وقطع الأمل من بقائه على قيد الحياة إلى ذلك الوقت. ومن هذا القبيل نبوة حزقيال عن سبي وقتي إلى مصر، وهو 40 سنة لا 14400 سنة. ونبوة دانيال عن جنون نبوخذنصر سبعة أزمنة (دا 4: 16، 23، 25، 32). قال أصحاب هذا الرأي إن الزمان والزمانين والنصف الزمان في دا 7: 25 و12: 7 أي ثلاث سنوات ونصف هي بالحقيقة 1260 سنة. فما قولهم في هذه السبعة الأزمنة التي على رأيهم يجب أن تكون 2520 سنة؟ فكما أن السبعة الأزمنة التي هي مدة جنون نبوخذنصر هي سبع سنين اعتيادية، كذلك الثلاثة الأزمنة والنصف التي هي مدة تغيير أنطيوخس الطقوس الموسوية والذبائح التي عبّر عنها بالأوقات والسُنَّة (الشريعة) (دا 7: 25).

(هـ) يقول أصحاب هذا الرأي إنه يصدق على أزمنة ضيق صهيون واضطهادها، لا على عصر نجاحها وسعادتها، فاعتبروه في النبوات عن تسلط «ضد المسيح» دون النبوات عن مُلك المسيح الحقيقي. وهو باطل لأن هذا التمييز يجعلنا نحسب اليوم في بعض النبوات يوماً والسنة سنةً، وفي غيرها اليوم سنة والسنة 360 سنة. والحساب الأخير للضيق والعار، والأول للنجاح والمجد! وذلك لما يأتي: (1) لأنه يلزم عنه أن الله قصد أن يكتم عن شعبه مدة ضيقهم الحقيقية بواسطة التلاعب في الكلام، أو بالحري أعلن لهم جزءاً من 360 من الوقت الحقيقي، وهو مما لا يقبله العقل. (2) لأن مُلك «ضد المسيح» بموجبه يكون أطول من ملك المسيح، فمدة ملك عدو المسيح 1260 سنة ومدة ملك المسيح ألف سنة فقط، فيزيد زمن الاضطهاد والضيق والمصائب على زمن السلام والحق والبر والخلاص، وهذا لا يُصدَّق! إن رحمة الله لهذا العالم لا تسمح بذلك، وكلام النبوات يناقضه. قال الرب «لحيظةً تركتُك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظةً، وبإحسانٍ أبدي أرحمك، قال وليّك الرب» (إش 54: 7، 8). فهل نسبة اللحظة إلى الأبد كنسبة 1260 إلى ألف.

(3) أدلة أصحاب هذا الرأي والرد عليها:

يستند أصحاب هذا الرأي على ما يأتي:

(أ) قول الله لبني إسرائيل «بنوكم يكونون رعاة في القفر 40 سنة.. كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوماً، للسنة يوم. تحملون ذنوبكم أربعين سنة» (عدد 14: 33، 34).. فنجيب: إنه لم يستعمل اليوم هنا بمعنى سنة بل بمعناه الحقيقي. فلو قال إنهم يتيهون 40 يوماً، ورأينا من التاريخ أنهم تاهوا 40 سنة لأمكن إثبات رأيهم من ذلك. ولكن القول هو إن سني تيهانهم تكون بقدر أيام تجسسهم الأرض، لقصاصهم مذكراً لهم على الدوام بخطيتهم. نعم في هذه الآية نبوة حقيقية، وهي قوله «يكونون رعاة في القفر أربعين سنة» وأيضاً «تحملون ذنوبكم أربعين سنة» وبموجب رأيهم كان ينبغي أن مدة تيهانهم تكون 14400 أي 40 × 360 وذلك خلاف الواقع.

(ب) قول الله لحزقيال «اتكئ أنت على جنبك اليسار، وضع عليه إثم بيت إسرائيل. على عدد الأيام التي فيها تتكئ عليه تحمل إثمهم. وأنا قد جعلت لك سني إثمهم حسب عدد الأيام 390 يوماً. فتحمل إثم بيت إسرائيل. فإذا تممتها فاتكئ على جنبك اليمين أيضاً، فتحمل إثم بيت يهوذا 40 يوماً. فقد جعلت لك كل يوم عوضاً عن سنة» (حز 4: 4-6). ولكن كلمة «يوم» في هذا القول مستعملة بمعناها الحقيقي لا بمعنى سنة، وكلمة «سنة» مستعملة بمعنى سنة لا بمعنى 360 سنة. صحيح أن اتّكاءه على الجنب الواحد 40 يوماً عبّر عن حملهِ خطاياهم 40 سنة، ولكن اليوم في ذلك ليس سنة بل يشير إلى سنة. فلو قال الله «أربعين يوماً» وقصد أربعين سنة لكان ذلك برهاناً على صدق الرأي.

(ج) قول بطرس إن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة وألف سنة كيومٍ واحدٍ (2بط 3: 8). فإذا كان في هذه الآية دليل فلسوء الحظ هو أكثر من المطلوب، أي أن اليوم ليس سنة فقط بل ألف سنة، والألف السنة يومٌ واحدٌ. وعليه فالألف السنة التي تنبأ عنها يوحنا في سفر الرؤيا ليست إلا يوماً واحداً فقط. فلا نعلم كيف نتصرف في هذا الأمر؟ هل نضرب الوقت الظاهر في ألف أو نقسمه على ألف لنحصل على الوقت الحقيقي! لأنه من يعلم المقصود بنبوة ما؟ هل هو أن اليوم بمعنى ألف سنة، أو أن الألف السنة بمعنى يوم واحد؟ ولكن الحمد لله أن «الكاف» في هذه الآية تخلّصنا من هذه الصعوبة، لأنها ترينا أن ليس فيها دليل على أن الله يقول يوم ويريد به سنة.

(د) قوله «سبعون أسبوعاً قُضيت على شعبك وعلى مدينتك» (دا 9: 24-27). وهو أقوى ما يوردونه لإثبات هذا الرأي.. فنجيب: إن الكلمة الأصلية المترجمة «أسبوعاً» في صيغة المفرد، معناها سبعة، ويصح أن تكون 7 أيام أو 7 سنين. فالجمع المؤنث يستعمل لسبعة أيام، والجمع المذكر المستعمل هنا لا يدل مطلقاً وحده على أسبوع أيام، بل إذا قُصد به ذلك زيدت بعده كلمة «أيام» (كما في دا10: 2، 3). ولا بد بعد ذكر كلمة «سبعة» أن نسأل عن المعدود ما هو؟ فيجب أن ننظر إلى القرينة أو إلى ما كان في بال الكاتب. ففي هذه المسألة هو 70 سنة السبي، وعليه يكون المعنى «سبعين سبعة سنين»، وذلك ليس من قبيل استعمال «يوم» بمعنى سنة.

قال جبرائيل الملاك لدانيال «من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها، إلى المسيح الرئيس، سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً» (دا 9: 25). فمن إصدار ذلك الأمر إلى مجيء المسيح 69 أسبوعاً. ثم يتلو ذلك الأسبوع الأخير تمام السبعين الذي فيه يثبت العهد مع كثيرين (آية 27) وفي وسطه يبطل الذبيحة والتقدمة (بتقديم نفسه الذبيحة الكاملة النهائية). وإذا ضربنا ال 69 أسبوعاً من السنين في سبعة يحصل 483 سنة، وإذا أضفنا إلى ذلك سبعة أي الأسبوع الأخير كان المجموع 490 سنة.

ولأجل البحث عن المقصود هنا بالأمر الذي منه تبدأ ال 69 أسبوعاً، أو 483 سنة، نقول: ذكر الكتاب المقدس الأوامر الآتية:

1- أمر كورش عز 1: 1-4 ق م 536

2- أمر داريوس عز 6: 8 ق م 519

3- أمر أرتحشستا لعزرا (في السنة السابعة من مُلكه) عز 7: 7، 11-26 (457ق م).

4- أمر أرتحشستا لنحميا (في السنة العشرين من مُلكه) نح ص 2 (444ق م).

والمرجح أن الأمر الثالث من هذه الأربعة هو المشار إليه في دا 9: 25. وإذا أضفنا 457 إلى 26 (وهي المدة من التاريخ المسيحي، الذي يبدأ بعد ميلاد المسيح بأربع سنوات) إلى السنة التي فيها بدأ المسيح خدمته الجهارية وهو ابن 30 سنة، كان المجموع 483 وهو عدد السنين المشار إليها بال 69 أسبوعاً. وفي وسط الأسبوع الأخير، أي بعد شروع المسيح في خدمته الجهارية بنحو ثلاث سنوات، صُلِب وأبطل كل ذبيحة وتقدمة.

23- نرجو المزيد من الإيضاح عن «مدة من الزمان» في دانيال 7: 25 و12: 7.

* الإشارة في هذين الشاهدين هي لمدة واحدة عُبّر عنها في أولهما بزمانٍ وأزمنة ونصف زمان، وفي الثاني بزمان وزمانين ونصفه، وهو الصواب. وسبب الفرق بينهما أن دانيال 7 مكتوب باللغة الكلدانية التي ليس فيها صيغة المثنَّى كالعبرانية، ولذلك قيل «أزمنة» عوضاً عن زمانين. ودانيال 12 مكتوب باللغة العبرانية، فاستعمل فيه المثنى فقيل «زمان وزمانين ونصف». وفي دانيال 11، 12 مدة أخرى قدرها 1290 يوماً. وفي عدد 12 مدة أخرى قدرها 1335 يوماً. وفي دا 8: 14 مدة قدرها 2300 صباح ومساء. وفي دانيال 9: 24 مدة معبَّر عنها بسبعين أسبوعاً. وفي كل تلك المدات المقصود على الأرجح ذكر الزمان بمعناه الحقيقي البسيط، أي ليس مجازياً.

والمدة الأولى (المذكورة في دا 7: 25 و12: 7) هي ثلاثة أزمنة ونصف زمان. واللفظة المترجمة هنا بزمان تشير إلى مدة معلومة، أو إلى حصة معينة من الزمان. وبما أن السنة هي المدة التي يصح بالأكثر ذكرها على هذه الصورة، أجمع رأي أغلبية المفسرين على أن العبارة «زمان وزمانين ونصف» تشير إلى ثلاث سنوات ونصف سنة. ومما يؤيد ذلك قرينة الكلام التي جاء فيها ذكر مدة قدر ما 1290 يوماً، أي ثلاث سنوات ونصف سنة (انظر دا 12: 11). وهي تشير إلى زمان تسلط أنطيوخس أبيفانيس على الهيكل اليهودي وتعطيله الذبيحة اليومية، الذي بلغ كما نتعلم من التاريخ ثلاث سنوات ونصف سنة (1مكابيين ا). فإن هذه المدة ذُكرت بالضبط، لأن بين إزالة المحرقة الدائمة على يد أنطيوخس وتطهير الهيكل على يد المكابيين مدة تزيد عن ثلاث سنوات ونصف بمقدار ثلاثين يوماً، فيكون «زمان وزمانين ونصف زمان» عبارة تقريبية لذلك، و1290 يوماً هي عدد أيام تلك المدة تماماً.. والمدة المذكورة في دا 12: 12 وقدرها 1335 يوماً، أي أكثر من المدة المذكورة في دا 12: 11 بخمسة وأربعين يوماً تشير إلى وقت موت أنطيوخس أبيفانيس الذي حدث بعد تطهير الهيكل على يد المكابيين بنحو شهر ونصف.. والمدة المذكورة في دا 8: 14 هي كما يظهر من القرينة مدة اضطهاد أنطيوخس أبيفانيس لليهود من وقت قتل أونياس رئيس الكهنة سنة 171 ق م إلى وقت تطهير الهيكل في شهر ديسمبر سنة 165 ق م.

وما قلناه في هذا الموضوع يطابق التفسير الأصحّ لسفر دانيال الذي بموجبه يشير الحيوان الرابع إلى مملكة سوريا اليونانية، والقرن الصغير إلى أنطيوخس أبيفانيس الذي اضطهد اليهود اضطهاداً عنيفاً جداً وشرع في إبطال ديانتهم وإلغاء سُنَّتهم (شريعتهم)، وعظم نفسه ضد العلي.

بقي علينا الآن أن ننظر في المدة المذكورة في دا 9: 24 وهي 70 أسبوعاً فنقول: المقصود بالأسابيع هنا أسابيع سنين لا أسابيع أيام، لأن عقل دانيال كان مشغولاً وقتها بمدة السبي التي هي سبعون سنة، فاستجاب الله لطلبته لأجل رجوع اليهود، وكشف له أمراً أعظم من ذلك وهو مقدار المدة قبل مجيء المسيح، وقال «سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك» (دا 9: 24). فلو أراد أسابيع أيام لصرح بذلك كما في ص 10: 2، 3 حيث قال في هاتين الآيتين «ثلاثة أسابيع أيام» تمييزاً عن السبعين أسبوعاً من السنين المذكورة قبل ذلك بخمس آيات. فتبين أن المدات المذكورة في سفر دانيال جميعها تُفسَّر بمعنى حقيقي، ولا لزوم لاعتبارها خلاف ذلك

24- ما هو المقصود من قول المسيح في متى 24: 14 «ثم يأتي المنتهى»؟

* قال المسيح: «ويُكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم. ثم يأتي المنتهى» (مت 24: 14). فقال أصحـاب رأي مجيء المسيح قبل الألف السنة إن القصد ببشارة الإنجيل مجرد الشهادة للحق أمام كل الأمم. والآن إذ قد بُشّر بالإنجيل في أماكن كثيرة في العالم اقترب مجيء المنتهى (وهو على زعمهم مجيء المسيح بالجسد ليملك على الأرض).

ونجيب على هذا: (أ) التفسير الصحيح لهذا القول هو أن «منتهى» هنا تشير إلى نهاية النظام اليهودي، أي تدمير الرومان أورشليم والهيكل، لا إلى نهاية العالم، وذلك واضح من قول المسيح (بعد كلامه السابق) «لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» (مت 24: 34). والمقصود بكلمة جيل في هذا الصدد أهل زمانه، وقد جاءت بهذا المعنى في العهد الجديد 42 مرة. أما سابقو الألف السنة فوسعوا معناها، وقالوا إن المقصود بها الأمة اليهودية، وإن معنى العبارة هو أن الأمة اليهودية لا تزول من الأرض حتى يتم كل ما قيل في هذا الأصحاح، وهو غير صحيح. (ب) تشير كلمتا «يكرز» و«شهادة» إلى أكثر من مجرد ذكر اسم المسيح أمام البشر، فإنهما تشيران إلى التبشير بالإنجيل وتعليمه للناس وتفهيمهم إياه وحملهم على قبوله، لأن الكرازة والشهادة مستعملتان في الكتاب لإيضاح الحقائق الدينية التي تبيِّن لنا محبة الله وكيفية الخلاص بالمسيح، كما يتضح من قوله لتلاميذه حين أرسلهم ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها «تكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض» (أع 1: 8). وقوله أمام بيلاطس «لهذا قد وُلِدتُ أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق» (يو 18: 37).

25- ما معنى قول الرسول بطرس في أعمال 3: 21 «أزمنة ردّ كل شيء»؟

* قال الرسول بطرس «توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب، ويرسل يسوع المسيح المبشَّر به لكم قبلُ، الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة ردّ كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر» (أع 3: 19-21). فقال أصحاب مذهب سابقي الألف السنة إن قوله «أزمنة ردّ كل شيء» يشير إلى وقت مجيء المسيح بالجسد ليملك على الأرض. وهو غير صحيح بدليل أن «ردّ» تشير إلى إرجاع الأشياء إلى ما كانت عليه. وهذا يشير إما إلى أحوال مملكة داود المجيدة، وهي التي ترمز إلى ملكوت المسيح، أو إلى أحوال جنة عدن الطاهرة المقدسة، والثاني هو الأرجح. لقد تكلم الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر عن «رد كل شيء» وهو موضوع أعظم نبوات العهد القديم، أي انتصار الإنجيل وفعله العظيم في رد العالم إلى حالة السلام والراحة والقداسة. ولكن هل تقبل السماء يسوع إلى أن تبدأ أزمنة رد كل شيء، أو بالحري إلى أن تنتهي؟ أو هل يأتي المسيح قبل إتمام هذه النبوات أو بعد إتمامها؟ فسابقو الألف السنة اعتقدوا بالأول، وقالوا لا يُرَدّ شيء مطلقاً إلى أن يأتي المسيح ويشرع في ذلك بنفسه. غير أن نبوات العهد القديم تبشرنا بإقامة ملكوت المسيح وتقدم الإنجيل ونجاحه وامتداده وإنارة البشر بواسطته وإرجاعهم إلى الله ومُلك المسيحية على قلوب البشر، وما ينشأ لهم عن ذلك من الفرح والسلام والراحة. وعليه، فقد بدأ تحقيق الأمور التي تكلم عنها الأنبياء، وأشار إليها بطرس بقوله «ردّ كل شيء» منذ صعود المسيح، ولا تزال تتقدم في ذلك، وستستمر تتقدم إلى أن تبلغ الإتمام الكامل. وسيبقى المسيح في السماء إلى أن تتم أزمنة رد كل شيء، وحينئذ يأتي المسيح. ولا يوجد برهان على أنه يأتي ليتمم ذلك الرد.

26- اشرح معنى قول الرسول بولس عن إنسان الخطية في 2تسالونيكي 2: 1-8.

* قال الرسول بولس «ثم نسألكم أيها الإخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه، أن لا تتزعزعوا سريعاً عن ذهنكم، ولا ترتاعوا، لا بروحٍ ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منّا، أي أن يوم المسيح قد حضر. لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولاً، ويُستعلَن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهاً أو معبوداً، حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله. أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا؟ والآن تعلمون ما يَحجُز حتى يُستعلَن في وقته. لأن سر الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يَحجُز الآن. وحينئذ سيُستعلَن الأثيم، الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه» (2 تس 2: 1-8). ومعنى ذلك على رأي أشهر المفسرين أنه لابد من حدوث أمرين عظيمين قبل مجيء المسيح، وهما الارتداد العظيم، وظهور «إنسان الخطية» أي «ضد المسيح» الذي وصفه الرسول بالتدقيق، وأن أصول الشر كانت حينئذ تعمل فقط، وأنها تكمل متى أتى إنسان الخطية وابن الهلاك الذي كان حينئذ يمنع ظهوره، وهم قد عرفوه. وأن «إنسان الخطية» متى وصل إلى معظم قوته وأشد ضرره، يبطله الرب بظهور مجيئه ويبيده بنفخة فمه. وعلى ذلك قال سابقو الألف السنة إن مجيء المسيح بالجسد ضروري ليبيد ضد المسيح.

فنجيب: إن مجيء المسيح المذكور هنا ليبيد إنسان الخطية ليس هو بالضرورة مجيئه الثاني للدينونة، بل يُحتمل أنه يشير إلى مجيئه في إجراء الوسائط اللازمة لإتمام إبادة ضد المسيح، كما جاء في قول المسيح عن مجيئه لخراب أورشليم «فإني الحق أقول لكم، لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان» (مت 10: 23 وإش 13: 6، 9 و19: 1 و30: 27-33 ومي 1: 3-5 ورؤ 3: 3).

ويظن بعض المفسرين أن إنسان الخطية شخصٌ شرير جداً يظهر بعد الألف السنة قبيل مجيء المسيح ثانية للدينونة، وأن مجيء المسيح المشار إليه هنا (عندهم) هو مجيئه الأخير ليبيد إنسان الخطية، إذ يكون إنسان الخطية موجوداً فيبيده بنفخة فمه وبظهور مجيئه. وليس في الكتاب ما يثبت هذا الرأي، فهو مجرد ظن.

27- ما هو التفسير الأصح لما جاء في سفر الرؤيا 20: 4-10؟

* الأرجح أن هذه الآيات تشير إلى انتصار الإنجيل الكامل في مدة الألف السنة، وحصار الشيطان في تلك المدة المجيدة، وأن المقصود بالقيامة الأولى قيام المسيحية في العالم.

وقد استند أصحاب رأي مجيء المسيح قبل الألف السنة على قول صاحب الرؤيا «ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده. فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان، وقيّدهُ ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه، وختم عليه لكي لا يُضل الأمم في ما بعد حتى تتم الألف السنة، بعد ذلك لا بد أن يُحَلّ زماناً يسيراً. ورأيت عروشاً فجلسوا عليها وأُعطوا حكماً. ورأيت نفوس الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السِّمة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة. وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة. هذه هي القيامة الأولى. مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. فهؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه الألف السنة» (رؤ 20: 1-6).

زعم سابقو الألف السنة أن القيامة المذكورة هنا هي قيامة جسدية، وأن المُلك هو مُلك منظور على الأرض مع المسيح، إذ يأتي بالجسد لهذه الغاية. والحق هو:

(1) هذا القول لا يُثبِت مجيء المسيح قبل الألف السنة إلا إذا فسرناه تفسيراً حرفياً. على أن تفسيره الحرفي مردود بأن يوحنا لم يقُل إنه رأى أجساد القديسين، ولا إنه رآهم قاموا من قبورهم، بل إنه رأى نفوسهم، وذلك لا يثبت قيامة أجسادهم، بل بالعكس ينفيها.

(2) هذه الرؤيا توافق تماماً رؤيا فتح الختم الخامس (رؤ 6: 9-11) ففيهما رأى يوحنا نفوساً بشرية هي نفوس شهداء قُتلوا لأجل كلمة الله ولأجل شهادة يسوع. في الأولى رآهم تحت المذبح يقدمون صلواتهم إلى الله لينتقم لدمائهم من مضطهديهم، وأما في الثانية فرأى أن ذلك قد جرى، وانتقم الله لدمائهم. رأى يوحنا أن حق المسيح الذي كان قبلاً في خطر الفشل قد انتصر، وهم غلبوه. وهذا من أشهر الأمور في السفر، أي تعزية القديسين المضطهَدين وتقوية إيمانهم وصبرهم بواسطة رؤى عن المستقبل السعيد الذي أمامهم، لا براحتهم الشخصية في السماء، بل بانتصار ملكوت المسيح الذي لأجله احتملوا العذاب والموت، على رجاء أنهم يشاهدونه ظافراً بعد الجهاد العظيم. وقد أُشير إلى هذا التغيير بذكر نفوسٍ شُوهدت أولاً في تنهُّدات التضرع إلى الله تحت المذبح، ثم على عروشٍ وهي حية مالكة مع المسيح وظافرة بفرحٍٍ بسبب تقييد الشيطان وسقوط الأعداء وتمتع العالم بالسلام والطهارة في مُلك عمانوئيل. فهذا التغيير هو لهم حياة من الموت. ومن المناسب الإشارة إليه بالقيامة.

(3) استعمال القيامة بهذا المعنى ورد في إش 26: 14، 19 وحز 37: 10 والرائي يعرف سفري إشعياء وحزقيال جيداً وأخذ منهما كثيراً من إشاراته واستعاراته.

(4) التفسير الحرفي يناقض شهادة الكتاب الذي يقول إنه تكون قيامة واحدة فقط عامة شاملة.

(5) قيل في آية 6 «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم». إذاً القيامة الأولى نجاة من الموت الثاني. وبما أن الموت الثاني مجازي لا يدل على موت الجسد، فنتج طبعاً أن القيامة الأولى مجازية.

(6) مما يعضد التفسير المجازي أن الآية واردة في سفر مملوء بالاستعارات التي لا تصح فيها التفسيرات الحرفية. بل في نفس هذا الأصحاح نرى السلسلة العظيمة، والحية القديمة، والختم عليها، والعروش، والموت الثاني، ومعسكر القديسين، والمدينة المحبوبة. فتفسير القيامة الأولى بمعنى روحي لا يناقض روح السِّفر بل يوافقه.

وإذا قيل: لا يصح تفسير «قيامة» في هذه العبارة بمعنى روحي، لأن في نفس هذا الأصحاح ذكر قيامة جسدية يجب فهمها حرفياً (آيات 11-15) وإنه لا يُحتمل تفسير لفظةٍ واحدةٍ في أصحاح واحد مرة بمعنى روحي وأخرى بمعنى حرفي.. فنجيب: جاء كثيراً في الكتاب المقدس الكلام المجازي والحرفي معاً، ليس فقط في أصحاح واحد بل في آيةٍ واحدةٍ. فقد جاءت فيه كلمة «ولادة» للدلالة على الولادة الروحية وعلى الولادة الجسدية، وكلمة "موت" للموت الروحي وللموت الجسدي، والكلمات «خبز وماء وزرع وحصاد» الخ بمعنى روحي ومعنى جسدي، وغير ذلك كثير. فلماذا لا يصح أن يُشار بكلمة «قيامة» أحياناً إلى قيامة روحية وأحياناً إلى قيامة جسدية؟

فتبين مما تقدم أن أشهر الآيات المعول عليها في البرهان على مجيء المسيح قبل الألف السنة لا تفيد هذا المعنى ولا تثبت هذا الرأي البتة.

وفي ختام هذا الفصل دعنا نصلي معاً: «يا يسوع المبارك، كثيراً ما بحث الناس عن مجيئك لتملك على الأرض، فلا تسمح أن ينسوا لزوم ملكك الروحي على قلوبهم. كثيرون يتعبون في الجدل عن ملكك الأرضي هنا في هذا العالم مدة ألف سنة، فأطلب إليك أن تجعل جُلّ قصدي وغاية اجتهادي أن أملِّكك على حياتي لأملك أنا شخصياً معك في السماويات إلى أبد الآبدين. في شفاعة المسيح. آمين».
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل التاسع والأربعون
القيامة العامة
1 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في القيامة؟

* هو أن أجساد جميع البشر ستقوم من التراب في اليوم الأخير عند مجيء المسيح ثانيةً، وأن تلك القيامة ستكون إمّا للمجد أو للهوان. وستشترك أجساد الذين ماتوا برجاء الخلاص بالمسيح في الفداء المجيد بواسطة القيامة، وأما الذين ماتوا في خطاياهم تحت حكم الموت الأبدي فستشترك أجسادهم أيضاً في هذا النصيب المخيف. فالقيامة إمّا للحياة وإمّا للدينونة. أما الذين يكونون أحياء عند مجيء المسيح فستتغير أجسادهم إلى كائنات روحية بلا موت ولا قيامة. ومن العبارات التي تثبت هذا الاعتقاد قول المسيح «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28، 29 قارن أع 24: 15 و1كو 15: 13-52 وفي 3: 21 و1تس 4: 14-16 ورو 8: 11 وأع 2: 25-34 و13: 34)

2- ما هي الأدلة على قيامة المسيح، ما هي العلاقة بين قيامته، وقيامة شعبه؟

* (انظر فصل 38 س 2).

(1) نبوة المسيح بقيامته (يو 2: 19-21 ولو 9: 31)

(2) شهادة الرسل بذلك صريحاً كشهادة المسيح أيضاً (لو 24: 39 ويو 20: 27 ورو 6: 4، 5 وأف 2: 6 و1كو 15: 17 ورو 8: 11)

(3) شهادة جماهير من معاصري المسيح وأهل القرون الأولى بعد العصر الرسولي (انظر فصل 19 س 12).

أما علاقة قيامة المسيح بقيامة شعبه فهي مثال وعربون، لأن المسيح فدى الجسد مع النفس (رو 8: 11، 23 و1كو 6: 13-20) ومواعيد الفداء ليست للنفس فقط بل للجسد أيضاً. وبما أن المؤمن متحد بالمسيح في موته كذلك هو بقيامته (1كو 6: 15 و15: 21، 22 و1تس 4: 14) كما أعلن الرسل العلاقة بين قيامة المسيح وقيامة شعبه (1كو 15: 13، 49 وفي 3: 21 و1تس 4: 14 و1يو 3: 2).

3- ماذا يعلمنا الكتاب عن جسد القيامة؟

* (1) إنه يكون روحانياً (1كو 15: 44) مع أنه لا بد أن يبقى على صورة الجسد البشري، لأن المسيح ظهر لتلاميذه بعد القيامة بهيئة بشرية ولم تزل في جسمه علامات تميَّز بها قبل موته. والأرجح أيضاً أن جسد القيامة يشبه الجسد الأرضي، إلا أنه مع تلك المشابهة يمتاز بأنه ممجد بمجد روحاني سماوي.

(2) إنه يكون مثل جسد المسيح (في 3: 21). (اقرأ ما قلناه في ارتفاع المسيح في فصل 38 س 4).

(3) إنه يكون مجيداً لا يقبل الفساد، منزهاً عن الهوان، خالداً، ذا قوة عظيمة (1كو 15: 42-44، 51-54).

(4) إنه يكون كالملائكة في كونه لا يقبل الزواج (مت 22: 30).

(5) إنه يتغيَّر فلا يكون بعد لحماً ودماً (1كو 15: 50).

أما قولنا إن جسد القيامة يحصل على قوة جديدة، فالمقصود به أن قواهُ تتغير تغيُّراً عظيماً حتى نستطيع بسهولة ما لا نستطيعه في هذه الحياة. فإننا نعلم جيداً ضعفنا هنا ونقص أفعالنا وقلَّة عدد حواسنا وضيق دائرتها، ولكننا لا نعلم ونحن على الأرض كيف يكون ذلك في الآخرة، ولا إلى أي حد تزيد قُوانا. ويُحتمل أننا سنرى كل سمو انتظاراتنا في هذا الأمر أقل من الحقيقة، لأنه لم يظهر بعد ماذا سنكون ولا عرفناه من الاختبار. وربما تكون لنا حواس جديدة وأسمى قدرة على إدراك الأمور الخارجية ومعرفة طبيعتها والابتهاج من عجائبها وجمالها. ولعلنا نصير هناك قادرين على الانتقال بسرعة النور أو الفكر من أول الكون إلى آخره، كما أننا نرى أبعاداً بلا حدود. وليس في هذا مبالغة، لأننا نعلم بالتأكيد أنه لم ترَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدَّه الله للذين يحبونه (1كو 2: 9)

وما قلناه في مشابهة أجسادنا المستقبلة بأجسادنا الحاضرة (لو 24: 39 ويو 20: 27 وأع 9: 5) يتضمن أننا لا نعرف أصدقاءنا ومعارفنا فقط في السماء، بل نعرف أيضاً الأنبياء والرسل والمشاهير في كل تاريخ الكنيسة الذين قرأنا أخبارهم ونحن على الأرض. ومما يؤيد هذا الاعتقاد:

(1) إن ذلك ممكن، فإن جسد المستقبل هو الجسد الحاضر، فلا مانع أن تلك الوحدة تتضمن وحدة الصفات الظاهرة مع ما تتضمنه من الأمور الأخرى.

(2) عرف التلاميذ موسى وإيليا لما ظهرا مع المسيح على جبل التجلي.

(3) أننا سنجلس مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وهذا يقتضي أننا سنعرفهم، وإذا عرفناهم فلا شك في أننا سنعرف غيرهم أيضاً.

(4) وعدنا الله أن كأس سرورنا تمتلئ في السماء. وفرحنا لا يتم إذا قُطعت كل صحبة في السماء بيننا وبين الذين نحبهم على الأرض، فإن الإنسان مخلوق اجتماعي، تميل نفسه إلى الأُلفة. وبما أنه سيبقى إنساناً في السماء فالأرجح أن يبقى ميّالاً للألفة هناك. والله لا يضع هذه الاشتياقات الظاهرة في قلوب شعبه لو لم يقصد أن يشبعها فيما بعد. فإن داود عندما ندب ابنه قال «أنا ذاهب إليه، وأما هو فلا يرجع إليَّ» وهكذا شعرت كل القلوب الحزينة من ذلك اليوم حتى الآن.

(5) يعلمنا الكتاب أن الإنسان يحتفظ بجميع قُواه العقلية في الحياة الآتية. والذاكرة هي من أعظم وأهم هذه القوى. فإذا لم نبقَ حاصلين عليها كان ذلك منافياً لصفات الكمال، ولا يبقى للماضي أثر عندنا، فندخل السماء وكأننا مخلوقون من جديد، لا نذكر شيئاً من أفضال فداء المسيح علينا ولا عناية الآب السماوي بنا. فلا بد أن الرب يُبقي ذاكرتنا ويمجدها ويقويها لنسبحه ونحمده.

(6) القول إننا نعرف في الحياة الآتية الذين نعرفهم ونحبهم على الأرض هو ما اعتقده جميع البشر، وهو أمر مسلَّم به في الكتاب بعهديه، فإن جميع الآباء قالوا عند موتهم إنهم يذهبون إلى آبائهم، ووعظ الرسل المؤمنين لكي لا يحزنوا على المنتقلين حزن الذين لا رجاء لهم، وأكد لهم أنهم سيتّحدون أيضاً مع جميع الذين يموتون في الرب.

4- ما هي العلاقة بين الجسد الذي يُدفن والجسد الذي يقوم؟

* يجب أن نجاوب سؤالين متميزّين، الأول: هل تعلّم الكتب المقدسة أن جسد القيامة هو ذاته الجسد الذي يوضع في القبر؟ والثاني: بماذا تقوم هذه الوحدة؟

(1) ونجيب على السؤال الأول بأن الجسد الذي سنلبسه في القيامة هو بذاته الجسد الذي لنا الآن في هذه الحياة، لأن القيامة هي إعادة حياة ما كان ميتاً وليست إعادة حياة شيء آخر يشبهه في طبيعته. وكل ما قلناه برهاناً على قيامة الجسد يبرهن أن الذي يقوم هو نفس الجسد. والجسد الذي وردت النبوة والوعد بقيامته وتغييره هو جسدنا المائت، جسد تواضعنا الفاسد. وقيامتنا تكون مشابهة لقيامة المسيح الذي قام بجسده الذي صُلب ووُضع في القبر، وفيه قام من الأموات. وإلا فلا تكون قيامته قيامة. وهذه الوحدة هي نفس الأمر الذي برهنه المسيح لتلاميذه المتشككين، فأراهم يديه ورجليه المثقوبة وجنبه المطعون. ومنذ أعلن المسيح ذلك صارت كلمات المؤمنين عند دفن أحدهم «نسلّم هذا الجسد للقبر على رجاء القيامة المباركة».

(2) وأما جواب السؤال الثاني فهو أن شروط الوحدة تختلف باختلاف المواد، ويتضح ذلك من أن الوحدة في الجماد (الحجر ونحوه) تتوقَّف على دوام المادة والصورة معاً. فإذا تحول الحجر إلى غبار وذُري فالمادة نفسها تبقى، ولكن الصورة تتغير، ولذلك تزول الوحدة. أما وحدة البزر والنبات فمستقلة تقريباً عن دوام المادة على حجمها الأصلي وصورتها، فإن مادة النبات تزيد أثناء نموه وتتغير صورته. أما الوحدة في المصنوعات البشرية (كالتمثال أو الصورة المرسومة بالزيت) فلا تقوم بمجرد وحدة المادة، فإن ذلك أمر ثانوي، لأن تمثال رمسيس الثاني كان مرة مُخفى في كتلة من الحجر، والجزء الداخلي من تلك الكتلة (الذي صار تمثالاً) لم يكن وهو ضمن الكتلة نفس التمثال، مع أنه كان يحتوي على كل دقيقة من التمثال مخفياً فيه. فلو أمكن أن ترجع إليه الدقائق التي نُحتت منه لبقيت المادة هي هي، ولكن صورة التمثال تضيع. فوحدة التمثال قبل إخراجه، وبعد أن عمل وظهر للعيون تمثالاً، هي ليست في كون المادة، هي بل في الصورة العقلية التي في ذهن الصانع قبل عمله وبعده. وكذلك الوحدة في صورة مصوَّرة بألوان الزيت لا تتوقف على دوام دقائق المادة فيها بدون أدنى تغيير، بل على رسومها وألوانها وهيئتها المنظورة والرسم العقلي الممثَّل فيها. وأما الوحدة في ذوات الحياة فهي أدق وأرفع نوعاً مما سبق، لأن الإنسان هو ذات الطفل الذي وُلد قبل ذلك بسنين ولم يزل هو هو في الشيبة والبلوغ والشيخوخة، ولكن قد تغيرت مادة الجسد تغيراً دائماً حتى أنها ربما تغيرت تماماً كل سبع سنوات ولم يبق في الجسد عند نهاية تلك السنين دقيقة من المادة الأصلية التي كانت فيه عند بدايتها. فإذا عاش إنسان سبعين سنة فكأنه صار عشرة أشخاص، لأن مادة الجسد تغيرت عشر مرات. فالوحدة في ذلك الإنسان قائمة بدون وحدة المادة.

وليس القصد من الكلام على أنواع الوحدة المختلفة أن نبين به شيئاً في حقيقة الوحدة القائمة بين أجسادنا عند الموت وفي القيامة، لأن ذلك سر لا يُعرف، ويجب أن نترك هذا الموضوع لأن الكتاب لم يذكره. وإنما القصد بذلك أن نبين إمكانية الوحدة بين أجسادنا الحاضرة والآتية. فإذا قلنا إننا لا نعلم بماذا تقوم تلك الوحدة، فقيامة أجسادنا أمر مؤكد لكنه خارج عن دائرة الاختبار البشري. وما نتعلمه من ذلك أن جسد القيامة يكون جسد الموت نفسه، كما أن جسد الموت هو جسد الولادة عينه.

5- بماذا اعترض البعض على إقامة الجسد نفسه بعد الموت؟

*اعترض البعض بأن ذلك غير معقول، لأن الجسد بعد الموت ينحل إلى عناصره الأصـلية، وربما صار بعد ذلك جزءاً من التراب يدخل في النباتات التي تأكلها الحيوانات، والحيوانات يأكلها البشر، ولذلك تدخل أجساد موتى الناس في أجساد أحيائهم، فلا يمكن أن يرجع كل جسد بدقائقه الأصلية.. فنجيب إن الكتاب المقدس لا يقول إن دقائق الجسد نفسها ترجع في القيامة، بل يقول «الذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير، بل حبة مجردة ربما من حنطة أو أحد البواقي. ولكن الله يعطيها جسماً كما أراد. ولكل واحد من البذور جسمه» (1كو 15: 37) على أنه لا بد من علاقة بين الجسدين كما قال الرسول «لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد.. ويُزرع في هوان ويُقام في مجد» (1كو 15: 53، 43) وفي هذا المشكل يجب أن نتجنب التطرُّف من وجهين: الأول: القول بإقامة الدقائق الأصلية دون غيرها. والثاني: القول بعدم وجود علاقة أبداً، أي أن الله سيخلق للنفس جسداً آخر جديداً ليس له علاقة بالأول. وعلى ما يظهر من أقوال بولس، نرى أن العلاقة ليست قائمة في نفس الدقائق المادية، بل في سرٍّ يشبه السر في خروج النبات من بزره، كما قيل: «يا غبي، الذي تزرعه، لا يحيا إن لم يمُت. والذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير بل حبة مجردة ربما من حنطةٍ أو أحد البواقي» (1كو 15: 36، 37). فالجسد المزروع عند الموت هو بزرة الجسد المقام عند القيامة حتى يصح القول إن هذا المائت قد لبس عدم موت، وإنه من الجسد العتيق خرج الجسد الجديد.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الخمسون
الدينونة الأخيرة ونهاية العالم
1 - هل يُثبت الكتاب المقدس الدينونة الأخيرة، وماذا يعلمنا عنها؟
* يعلمنا الكتاب أن الله أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل (أع 17: 31) فإن البشر في هذا العالم تحت سلطان الله الأخلاقي، ولا بد من الحكم على كل شخصٍ بحسب استحقاقه. على أن المفديين بالمسيح يخلصون من حكم الدينونة بحسبان استحقاق المسيح لهم، سواء عاشوا قبل مجيئه أم بعده. ويعلمنا الكتاب عن الدينونة الأخيرة:

(1) أنها حادثة منظورة تحدث في وقت معيّن، فإن الأشرار من الملائكة والبشر محفوظون إلى يوم الدين (2بط 2: 4، 9) وهي حادثة مستقبلية (أع 24: 25 وعب 10: 27) تأتي بعد الموت (عب 9: 27) وتسبقها القيامة (يو 5: 29) وهي من جملة الحوادث المعاصـرة لانقضاء العالم كالقيامة ومجيء المسيح مثلاً، وهي جميعاً من الحوادث الحقيقية (يو 5: 28، 29 و2بط 3: 10 و2تس 1: 7، 8).

(2) يظهر في ذلك اليوم عدل الله ظهوراً كاملاً، وتُعلن كل أسرار البشر، ويُحكم على كل واحد بحسب أعماله في هذه الحياة، فذلك اليوم هو يوم استعلان دينونة الله العادلة (رو 2: 5، 6 ولو 12: 2، 8، 9 و2كو 5: 10).

(3) تتم هذه الدينونة عند مجيء المسيح ثانية، كما يتضح من مثَل زوان الحقل (مت 13: 37-43) ومن النبوات بمجيء المسيح ثانية (مت 25: 31-46 و1كو 4: 5 و2تس 1: 7-10 و2تي 4: 1 وفي 3: 20، 21).

(4) المسيح هو الديان فقد قال «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو 5: 22، 23، 27) وقال بطرس إن المسيح هو المعين من الله دياناً للأحياء والأموات (أع 10: 34-43). وقال بولس إن الله قد أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجُلٍ قد عيَّنه إذ أقامه من الأموات (أع 17: 31 و2كو 5: 10)

(5) تجري الدينونة على كل الناس والملائكة الأشرار، لأنه يجازي كل واحد بحسب أعماله (رو 2: 6) وكذلك قيل في الملائكة الأشرار إن الله أسلمهم إلى قيود الظلام محفوظين للقضاء (2 بط 2: 4). وعند مجيء المسيح ثانيةً يُطرح الشيطان والملائكة في الهاوية.

(6) تتم الدينونة وفقاً لأحكام شريعة الله كما هي معلنة في الضمير وفي الوحي (يو 12: 488 ورو 2: 12). ولا يخلص من حكم شريعة العدل إلا مَن لهم نصيب في نعمة المسيح، الذين كُتبت أسماؤهم في سفر الحياة، لا بسبب استحقاقهم بل لأن برّ المسيح حُسب لهم، وقد اتحدوا بالمسيح بواسطة الإيمان ونالوا فوائد موته هبةً منه (رؤ 20: 12) فإن جميع الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. فجميع الذين يقبلونه إلهاً ومخلصاً لهم يخلصون، وجميع الذين لا يكرمونه ولا يتكلون عليه يهلكون. وليس سبب الهلاك مخالفتهم لشريعة الله فقط، بل لسبب خطيتهم العظيمة في رفضهم للمسيح، كما قيل «إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما» (اكو 16: 22).

(7) تتم دينونة كل إنسان بحسب النور الذي وصله «العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد، ولا يفعل بحسب إرادته، فيُضرب كثيراً. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاً. فكل من أُعطي كثيراً يُطلب منه كثيرٌ» (لو 12: 47، 48). وقال المسيح إنه تكون لصور وصيدا حالة أكثر احتمالاً في يوم الدين مما لأهل عصره (مت 11: 22) وقال بولس إن الأمم بلا عذر لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله (رو 1: 20، 21). وقال إن الذين يخطئون بدون الناموس فبدون الناموس يهلكون، ومن يخطئ في الناموس فبالناموس يُدان (رو 2: 12).

(8) في الدينونة يتعين نصيب الأبرار والأشرار تعييناً، يتغير، لأن الحكم يحدد مكانهم الأبدي، وهذا واضح من كلمات المسيح «فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار، إلى حياة أبدية» (مت 25: 46).

2- ما هو تعليم الأسفار المقدسة عن انتهاء العالم؟

* الآيات التالية تشرح هذا:

«مِن قِدَمٍ أسَّست الأرض والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تبلى. كرداءٍ تغيّرهن فتتغير» (مز 102: 25، 26). «ارفعوا إلى السموات عيونكم وانظروا إلى الأرض من تحت. فإن السموات كالدخان تضمحل، والأرض كالثوب تبلى» (إش 51: 6). «لأني هأنذا خالقٌ سماواتٍ جديدة وأرضاً جديدة، فلا تُذكر الأولى ولا تخطر على بال» (إش 65: 17). «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» (لو 21: 33). «لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله، إذ أُخضِعت الخليقة للبُطل، ليس طوعاً، بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله » (رو 8: 19-21). «العالم الكائن حينئذ فاض عليه الماء فهلك. وأما السماوات والأرض الكائنة الآن فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها، محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفجار. ولكن سيأتي كلصٍ في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحل العناصـر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. ولكننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر» (2بط 3: 6، 7، 10، 13). «ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض والجالس عليه، الذي من وجهه هربت الأرض والسماء، ولم يوجد لهما موضع» (رؤ 20: 11). «ثم رأيت سماءً جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد في ما بعد» (رؤ 21: 1).

3- ماذا تعلّمنا آيات الكتاب عن انتهاء العالم؟

* (1) تنحل السماء والأرض أخيراً، كما يقارن الرسول بطرس بين هلاك العالم بمياه الطوفان والخراب الأخير بواسطة النار (2 بط 3: 6-13). فالهلاك بالطوفان حدث حقيقة، والخراب بالنار سيحدث كذلك. ولنا أدلة كثيرة على أن الأرض كانت في أول أمرها لهيب نار، ورجوعها إلى تلك الحال سهل إذا شاء الله.

(2) الخراب الذي تتنبأ به تلك الآيات ليس هو «الملاشاة» لأن احتراق العالم، يلزم أن ينتج ملاشاة المادة، فقد سبق ووصف ذلك بأنه تجديدها (مت 19: 28) ووصفه بأنه رد كل شيء (أع 3: 21) وبالعتق من عبودية الفساد (رو 8: 21) وبسماءٍ جديدة وأرض جديدة (رؤ 21: 1).

(3) لا يكون التغيير الذي يحدث في اليوم الأخير في جميع الكون المادي بل في أرضـنا فقط، وفي ما يتعلق بها من العناصر الجوية. وليس من المرجح أن هذا الكون العظيم يزول كله عند الحكم على الجنس البشري الذي يسكن هذه الأرض التي ليست إلا مثل قطرة في بحر أعمال الله. وقد لُعنت الأرض بسبب معصية الإنسان، وهذه اللعنة تزول عندما يتم فداء الإنسان. والخليقة التي أُخضعت للبطل بسبب ذلك العصيان هي أرضنا، وهي الخليقة التي ستُعتق من عبودية الفساد، فإن العالم الذي ضرب بالماء هو نفسه سيخرب بالنار (2 بط 3: 6-13).

(4) يُنتِج هذا التغيير إيجاد سماوات جديدة وأرض جديدة. والأغلب أن هذه الأرض الجديدة هي التي ستصير مسكناً للأبرار. على أن ذلك ليس معلناً في الأسفار المقدسة بوضوح. وإذا صارت هذه الأرض المتجددة مسكناً للقديسين وكرسياً لعرش المسيح فلا يُستنتج من ذلك أن القديسين يصيرون محصورين في هذه الحدود الأرضية (يو 14: 2) بل الأرجح أن القديسين سيتمكنون من الذهاب إلى عوالم أخرى ولا يكونون محصورين في مكان واحد (أف 1: 10 وكو 1: 20).



















الفصل الحادي والخمسون
السماء وجهنم
1 - ماذا يعلمنا الكتاب المقدس عن الحالة الأخيرة للأبرار؟

* وصف الكتاب المقدس حالة الأبرار الأخيرة بأوصاف مختلفة منها: الحياة الأبدية (مت 25: 46) والمجد الأبدي (2 كو 4: 17) وراحة (عب 4: 9) والمعرفة الكاملة (1كو 13: 12) والقداسة (رؤ 21: 27) والخدمة (رؤ 22: 3) والعبادة (رؤ 19: 1) ومعاشرة أرواح أبرا ر مُكمَّلين (عب 12: 23) والسكن مع الله (رؤ 21: 3). وهذا يؤكد أن حالة الأبرار الأخيرة هي حياة مقدسة في الاتحاد بالله وأرواح مكمَّلة إلى الأبد (رؤ 3: 12 و22: 15). على أنه لا بد من التفاوت في السعادة والإكرام في السماء بحسب استعداد كل نفس للحياة السماوية وأمانتها للرب في هذه الحياة، كما ذُكر مجازاً أن البعض يكونون على عشر مدن والبعض على خمس (لو 19: 17، 19 و1كو 3: 14، 15) فسينال كل واحد المواهب الخاصة على قدر استعداده لذلك، وبموجب مقاصد الله، فكلها من إنعام الله، وهي متساوية من جهة ومتفاوتة من جهة أخرى. فكل عامل في كرم الرب يأخذ ديناراً من الرحمة واللطف الإلهي، ولكن ليس كل واحد يفرح بديناره كغيره، فالذي يحصل على فرحٍ زائد هو الذي استعمل وسائط النعمة أحسن استعمال وخدم ربه أحسن خدمة.

2- هل يعلّمنا الكتاب أن السماء مكانٌ كما أنها حال؟

* نستنتج أن السماء مكان من أن جسد المسيح البشري هو في السماء، فلا بد أن تكون السماء مكاناً، كما نستنتج ذلك من القول «في بيت أبي منازل كثيرة. أنا أمضي لأُعدّ لكم مكاناً» (يو 14: 2، 3) ومن أن السماء سُميت مدينة ووطناً أفضل أي سماوياً (عب 11: 1، 16) وسماءً جديدة وأرضاً جديدة (رؤ 21: 1).

3- بأي شيء تقوم السعادة السماوية؟

* لا يمكن تصوير السعادة السماوية لأنه لم ترَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه (اكو 2: 9). ولكننا نعلم أنه:

(1) تنشأ سعادة السماء من رؤيتنا لله، وهذا يحوّل النفس إلى صورة الله، ويجعل فيها الحياة الإلهية لتمتلئ بملء الله. ورؤية الله هي في وجه يسوع المسيح الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً، لأن الله قد ظهر في الهيئة كإنسان في المسيح. وهذا ما يبهج النفوس إلى حد لا يبلغه التصور ولا يحتمله البشر على الأرض، فإن بطرس ويعقوب ويوحنا صاروا كأمواتٍ عندما رأوا مجد المسيح لحظةً على الجبل المقدس.

(2) لا تنشأ سعادة المفديين من استعلان مجد الله فقط، بل من محبته أيضاً، تلك المحبة السرية غير المتغيرة وغير المحدودة التي من أثمارها عمل الفداء.

(3) تمتد وتتسع وتزيد قُوى القديسين في السماء، ويخلصون من كل حزن وخطية، وتكون لهم شركة واختلاط بالكائنات السماوية العاقلة والآباء والأنبياء والرسل والشهداء وجميع المفديين، ويتقدمون في المعرفة والخدمة المفيدة، ويتأكدون من حصولهم الدائم على كل خير ممكن. ويكون كل هذا من أسباب سعادتهم.

4- ماذا يعلّمنا الكتاب المقدس عن حالة الأشرار الأخيرة؟

* وصف الكتاب حالة الأشرار الأخيرة ومكان نزولهم بعبارات مجازية مخيفة جداً، منها الذهاب إلى النار الأبدية (مت 25: 41) وبئر الهاوية (رؤ 9: 2) والظلمة الخارجية (مت 8: 12) والعذاب بنار وكبريت (رؤ 14: 10-12) وعذاب أبدي (مت 25: 46) وغضب الله (رو 2: 5) والموت الثاني (رؤ 21: 8) وهلاك أبدي من وجه الرب (2تس 1: 9) ودينونة أبدية (مر 3: 29).

ونتعلم من الكتاب أن شقاء الهالكين يقوم بما يأتي:

(1) خسارة كل الخيرات الأرضية.

(2) الابتعاد عن حضرة الله ورضاه.

(3) الرفض الكلي، أو ترك الروح القدس إياهم تركاً أبدياً.

(4) ما ينتج عن ذلك من تسلط الخطية والميول الشريرة عليهم.

(5) توبيخات الضمير.

(6) قطع الرجاء.

(7) المعاشرات الردية.

(8) القصاص العادل، أي إن العذاب في الآخرة ليس مجرد ما ينتج من الخطية، بل يتضمن أيضاً القصاص الذي يطلبه الناموس.

(9) الخلود في هذه الحالة المخيفة.

أما القول إن النار المذكورة في الكتاب هي مادية فليس له سند كافٍ، كما أنه لا محل للزعم أن الدود الذي لا يموت هو دود حقيقي. فإن إبليس وملائكته الذين يُعَذَّبون بنيران أبدية (ويشاركهم في عذابهم الذين يموتون في خطاياهم) ليس لهم أجساد مادية لتؤثر فيها النار المادية، فلا بد أن تلك النار مجازية. ومثلما توجد درجات في أمجاد السماء وسعادتها (كما يعلمنا المسيح في مثل الوزنات) كذلك يكون فرق في شقاء الهالكين وعذابهم، لأن البعض يُضربون ضربات قليلة، والبعض يُضربون كثيراً.














الفصل الثاني والخمسون
أبدية حال الأبرار والأشرار
1 - ما هو تعليم الكتاب في دوام حال الأشرار بعد الموت؟

* لا نهاية لقصاص الأشرار، ولا توبة حقيقية ولا إصلاح في العالم الآتي. وتتضح صحة هذا القول مما يأتي:

(1) أعلن المسيح والرسل ذلك، فقيل إن قصاص الأشرار أبدي، وإنه بدون نهاية، وإن في العالم الأخير هوة لا تُعبَر بين الأشرار والأبرار، وإن من الخطايا ما لا يُغفَر، في هذه الحياة ولا في الحياة الآتية. وقيل إن المسيح يجمع الحنطة إلى مخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ (لو 3: 17). وقال المسيح إنه خيرٌ للإنسان أن يدخل الحياة أقطع من أن يكون له يدان ويذهب إلى جهنم، حيث الدود لا يموت والنار لا تُطفأ (مر 9: 42-48). وهذه الكلمات تكررت ثلاث مرات في إحدى مواعظ المسيح، وهذا دلالة على قوتها وأهميتها. وبكى المسيح على أورشليم ولكنه لم يرفع عنها الحكم. فكذلك يمكن أن يبكي على آخرة الأشرار غير التائبين ومع ذلك يتركهم لنصيبهم العادل. وجاء أن الديّان سيقول في اليوم الأخير للذين عن يمينه «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعّد لكم منذ تأسيس العالم» ويقول للذين عن يساره «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية» (مت 25: 41). فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي، والأبرار إلى حياة أبدية (مت 25: 46). وكلمة «أبدية» تصف حال الأبرار والأشرار، ولا بد أن معناها واحد في الموضعين. وقال المسيح «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياةً، بل يمكث عليه غضب الله» (يو 3: 36). وعلَّم بولس أنه عندما يأتي المسيح يعاقب الأشرار بهلاكٍ أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته (2تس 1: 9). وقال الرسول يهوذا إن الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم الله إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام، كما أن سدوم وعمورة جُعلت عبرة لمكابدة عقاب نار أبدية. وقال في المرتدّين إنه حفظ لهم قتام الظلام إلى الأبد (يه 6، 7، 13). وجاء في سفر الرؤيا أن الذين يسجدون للوحش وصورته ويقبلون سمته يُعذَّبون بنار وكبريت أمام الملائكة القديسين وأمام الحمل، ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين، ولا تكون لهم راحة نهاراً وليلاً (رؤ 14: 9-11) وتكررت نفس هذه الكلمات تقريباً في ذلك السفر (رؤ 19: 1-3 و20: 10).

(2) اعتقد اليهود في العهد القديم وفي عصر المسيح أن قصاص الأشرار أبدي. ولم ينفِ المسيح ولا الرسل هذا الاعتقاد. وقد وبخوا المعلمين الكذبة في عصرهم على تعاليم الضلال في أمور كثيرة، ولكنهم لم يُهاجموا اعتقادهم في هذا الشأن، ولا علّموا شيئاً مضاداً له.

(3) لا يُثبت الكتاب إلا هذا القول، ومن ذلك قول الرسول إن قصد الله هو أن يجمع في المسيح (أو أن «يصالح لنفسه» كما في كو 1: 20) كل شيء، أي ما في السموات وما على الأرض (أف 1: 10). فالسؤال هنا: من هم، أو ما هو الكل الذي سيتصالح مع الله؟ والإجابة: لا يمكن أن يكون معنى «كل شيء» كل العالمين، حيّها وجمادها كالشمس والقمر والنجوم، لأنها ليست قابلة للمصالحة مع الله. ولهذا السبب عينه لا يمكن أن يُقصد بها كل الحيوان. ولا يمكن أن يُقصد بها كل الخلائق العاقلة، لأن منهم الملائكة الأطهار، وهم لا يحتاجون إلى مصالحة. ولا يمكن أن يُقصد بها كل الخلائق العاقلة الساقطة، لأن المسيح لم يأت ليفتدي الملائكة الساقطين (عب 2: 16). ولا يُقصد بها جميع البشر، لأن الكتاب يعلّم أن ليس كل البشر يتصالحون مع الله، ولا يمكن أن يناقض الكتاب نفسه. فمعنى «كل شيء» إذاً هو ما كان الكلام عليه في القرينة، أي «كل شعب الله وجميع المفديين». ويستند أيضاً على قول الرسول «فإذاً كما بخطية واحد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا ببرٍ واحدٍ صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة» (رو 5: 18). فقالوا إن معنى هذا هو: كما أن جميع الناس يُدانون بمعصية آدم كذلك جميع الناس يتبررون ببر المسيح. وهكذا فسروا قوله «كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيُحيا الجميع» (1كو 15: 22).

وللرد نقول: لا بد من تقييد معنى «جميع» في هاتين الآيتين، فإن جميع الذين يموتون هم الذين في آدم، وجميع الذين يحيون هم الذين في المسيح. وأما أصحاب مذهب الخلاص العام فيطلقون كلمة «جميع» على كل البشر أو جميع الخلائق الساقطة، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك وفقاً لروح الكتاب وجرياً على سنن أصحاب الرأي المستقيم. ولكن الكتاب لا يعلّمنا أن كل البشر وكل الملائكة الساقطين يخلصون. فقول الرسول إن المسيح «ينبغي أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1كو 15: 25) معناه أنه ينبغي أن يملك حتى يُجري حكمه على كل الشياطين وكل الأشرار. وكذلك قوله إن الله يريد أن جميع البشر يخلصون (1تي 2: 4) فإذا كانت كلمة «يريد» هنا تعني «يقصد» فهذه الآية تعلّم أن جميع البشر يخلصون أخيراً. ولكن إذا كان معناها هنا «يُسرّ» (كما في مت 27: 43) فهي تعلّم ما يعلّمه الكتاب في مواضع أخرى، وهو أن الله محبة، وأنه لا يُسرّ بموت الخاطئ.

(4) شهادة الآيات التي فيها هذا التعليم تلميحاً لا تصريحاً، والتي ورد فيها أن ليس في الدهر الآتي توبة ولا غفران ولا تغيير حال. فقد ورد هذا في مثل «الغني ولعازر» الذي علّم استحالة العبور من جهنم إلى السماء. وكذلك نتعلم أن الذين يموتون في الخطية يبقون خطاة إلى الأبد. وقال المسيح إنه خير للإنسان لو لم يولد من أن يُعثِر أحد الصغار المؤمنين. وهذا القول برهان قاطع على نفي اعتقاد الخلاص العام، لأنه إذا كان الإنسان بعد مدة عذاب قصيرة يدخل إلى سعادة أبدية، فالولادة الجسدية تكون ذات بركة عظيمة لا توصف!

(5) اتفاق إيمان الكنيسة في كل القرون، ولا يمكن أن يتم هذا الاتفاق بغير سندٍ من الكتاب، فإن الإنسان الطبيعي يرفض هذا التعليم، ولكن الكنيسة اعتقدت به لأنه تعليم كتابي. وهكذا فعلت الكنيسة مع تعليم التثليث ولاهوت المسيح وأقنومية الروح القدس، فقد بَنَت هذه التعاليم على سلطان الكتاب المقدس وحده.

ولا يلزم عن هذا البرهان أن الكنيسة معصومة، ولا أن أساس الإيمان هو سلطان الكنيسة، وإنما يلزم عنه أنه لا بد أن يكون تعليم الكتاب الواضح البسيط الذي يفهمه جمهور الذين يدرسون من ذوي العقول السليمة هو الحَكَم الأخير في كل تعليم.

2- بماذا اعترض البعض على أبدية حال الأشرار، وما هو الرد عليهم؟

* قال البعض إن الكلمات العبرية واليونانية التي تحدثت عن دوام قصاص الأشرار لا تفيد بالضرورة أن ذلك القصاص بلا نهاية. وللرد على هذا نقول إن هذا غير صحيح، لأن تلك الكلمات اليونانية تعني أبدية حال الأشرار، فإن الكلمتين العبرية واليونانية المترجمتين «أبدي» يُراد بهما مدة لا آخر لها. فمتى وُصف بهما ما هو زائل (كالجبال) فهما تعنيان ما ليس له حد معروف. ومتى وُصف بهما ما هو في طبيعته غير قابل للفناء أو ما أُعلن عدم انتهاء وجوده (كالنفس البشرية) أو ما ليس لنا أن نعيّن له حداً لأسباب أخرى (مثل سعادة القديسين الأبدية) يجب أن نأخذهما بمعناهما الحرفي. فإذا قال أحد إن كلمة «أبدي» تعني مدة محدودة لاستعمالها بهذا المعنى في بعض القرائن، فواضح أن هذا الاستدلال ضعيف وساقط. وإذا كان الكتاب يقول إن عذاب الهالكين يبقى إلى الأبد، فواضحٌ أنه يقتضي أن نعتبر هذا العذاب أبدياً، ما لم يتبرهن أن نفس الإنسان ليست خالدة، وأن الكتاب يعلِّم في مواضع أخرى أن ذلك العذاب سينتهي يوماً. ولكن لم يبرهن أحدٌ أن سعادة الأبرار تنتهي بعد مدة، لأن كلمة «أبدي» استُعملت أحياناً لما لا يبقى إلى الأبد.

وقد علّمنا المسيح أن عقاب الأشرار أبدي بنفس المعنى الذي به سعادة القديسين أبدية. وعلى فرض أن كلمة «أبدي» تحتمل المعنيين، فقد قال الكتاب إن الدود لا يموت والنار لا تُطفأ وهذا يؤيد أن كلمة «أبدي» تعني «ما لا نهاية له». وكل العبارات المستعملة لبيان دوام خلاص المؤمنين وبقاء مملكة المسيح إلى الأبد تعني أيضاً دوام العقاب الذي سيصيب الأشرار. فإذا لم يكن هذا التعليم واضحاً في الكتاب فيستحيل توضيحه بلغة بشرية.

ويتضح ضعف القول إن ألفاظ التعبير لا تفيد أبدية حال الأشرار من مراجعة كيفية استعمال تلك الألفاظ في الأسفار المقدسة، ونقتصر على ثلاثة منها:

(1) في ست عبارات في الكتاب قيل إن قصاص الأشرار هو «إلى الأبد» أو «إلى أبد الآبدين» (مر 3: 29 و2بط 2: 17 ويه 13 ورؤ 14: 11 و19: 3 و20: 10) ولا شك أن المعنى المقصود في هذه الألفاظ في اللغة اليونانية هو «ما لا نهاية له» كما يتضح من استعمال عبارة «إلى أبد الآبدين» 21 مرة في العهد الجديد، تشير 17 منها إلى الله والمسيح أو ما يتعلق بهما، ككمالاتهما ومجدهما وسلطانهما وما شابه ذلك (غل 1: 5 وأف 3: 21 وفي 4: 20 و1تي 1: 17 و2تي 4: 18 وعب 13: 21 و1بط 4: 11 و5: 11 ورؤ 1: 6، 18 و4: 9، 10 و5: 13 و7: 12 و10: 6 و11:15 و15: 7) وتشير واحدة منها فقط إلى سعادة الأبرار (رؤ 22: 5). وثلاثٌ إلى قصاص الأشرار (رؤ 14: 11 و19: 3 و20: 10). وكذلك استعمال تعبير «إلى الأبد» في العهد الجديد 34 مرة تشير 17 منها إلى الله والمسيح والروح القدس (لو 1: 33 ويو 8: 35 و12: 34 و14: 16 ورو 1: 25 و9: 5 و11: 36 و16: 27 و2كو 11: 31 وعب 5: 6 و6: 20 و7: 17، 21، 28 و13: 8 و1بط 1: 25 و2بط 3: 18). وفي 9 منها إلى سعادة الأبرار (يو 5: 24 و6: 58 و8: 51، 52 و10: 28 و11: 26 و2كو 9:9 و1يو 2: 17). وتشير ثلاثة منها إلى أحوال الأشرار (مر 3: 29 و2بط 2: 17 ويه 13) وخمسٌ منها إلى أمور أخرى تعبّر عما لا نهاية له (مت 21: 19 ومر 11: 14 ويو 13: 8 و1كو 8: 13 و2يو 2).

والكلام في مر 3: 29 جاء بطريقة سلبية يفيد المعنى المطلق بأقوى عبارة، كما قيل «من جدّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية» (قُرئ في بعض النسخ «مجرم بخطية أبدية» بدل «مستوجب دينونة أبدية»). ولكن معنى لفظة «أبدية» هو هو في كلا الحالين.

(2) في ست عبارات قيل إن ذلك القصاص «أبدي» (مت 18: 8 و25: 41، 46 ومر 3: 29 و2تس 1: 9 ويه 6). ولا شك أن الإشارة في العبارة «الحياة الأبدية» أو «الهلاك الأبدي» أو «القصاص الأبدي» هي إلى «ما لا نهاية له» كما يتضح من استعمال لفظة أبدي نحو 66 مرة في العهد الجديد تشير 51 منها إلى حياة الأبرار وغبطتهم (مت 19: 16، 29 و25: 46 ومر 10: 17، 30 ولو 10: 25 و16: 9 و18:18، 30 ويو 3: 15، 16، 36 و4: 14، 36 و5: 24، 39 و6: 27، 40، 47، 54، 68 و10: 28 و12: 25، 50 و17: 2، 3 وأعمال 13: 26، 48 ورو 2: 7 و5: 21 و6: 22، 23 و2كو 4: 17 وغل 6: 8 و2تس 2: 16 و1تي 1: 16 و6: 12 و2تي 2: 10 وتي 1: 2 و3: 7 وعب 5: 9 و9: 12، 15 و1بط 5: 10 و2بط 1: 11 و1يو 2: 25 و3: 15 و5: 11، 13، 20 ويه 21).

وتشير ست منها إلى قصاص الأشرار (مت 18: 8 و25: 41، 46 ومر 3: 29 و2تس 1: 9 ويه 6). وتشير سبع منها إلى أمور أخرى تعبر عن أبديتها (2كو 4: 18 و5: 1 وعب 6: 2 و9: 14 و13: 20 و1يو 1: 2 ورؤ 14: 6) ومما يستحق الالتفات أنه في آية واحدة (مت 25: 46) استُعملت هذه العبارة مرتين، الأولى تشير إلى عذاب الأشرار، والثانية إلى حياة الأبرار.

فإذا قلنا إن المقصود هو أن حياة الأبرار بلا نهاية، فيكون المقصود من الإشارة فيها إلى عذاب الأشرار أنه أيضاً بلا نهاية. والكلمة اليونانية المستعملة في يهوذا 6 والمترجمة «أبدية» هي كلمة نادرة الاستعمال في العهد الجديد، وتُرجمت في مرة أخرى في الإنجيل للإشارة إلى قدرة الله ولاهوته باستعمال كلمة «السرمدية» (رو 1: 20). وفي عبارات أخرى نجدها تعني «أبدي» ومن أمثلتها النار التي لا تُطفأ (مر 9: 43، 48) وأيضاً «لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يو 3: 36).

(3) قيل كثيراً في الكتاب إن الأشرار لا يرثون ملكوت الله (1كو 6: 9، 10 وغل 5: 19-21 ورؤ 21: 27). وقيل أيضاً إن حال الأشرار لا يتغير، كما في مثل الغني ولعازر (لو 16). وأن لا رجاء للهالكين «كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد» (مت 26: 24 وقارن عب 10: 26، 27). ومثل ذلك غلق الباب (مت 25: 10) وطرح العبد البطال إلى الظلمة الخارجية (مت 25: 33) والأمر للأشرار بالذهاب عن المسيح (لو 13: 27) وانفصال الخراف عن الجداء (مت 25: 33) والزوان عن الحنطة (مت 13: 30) والسمك الجيد عن الرديء (مت 13: 48) والأشرار عن الأبرار (مت 13: 49، 50) وطلب كثيرين الدخول وعدم مقدرتهم (لو 13: 24). وليس في كل ذلك أدنى تلميح إلى أن ذلك الانفصال مؤقت، فقد قصد الروح القدس به أن يعبّر عن أبدية حال الهالكين.

3- ما هي الاعتراضات على هذا التعليم باعتبار عدل الله وصلاحه؟

* (1) الاعتراض الأول: إنه لا يتناسب مع عدل الله أن يضع قصاصاً غير محدود على الإنسان.. وللرد على ذلك نقول: (أ) نحن لسنا أهلاً لأن نحدد القصاص الذي تستحقه الخطية، فنحن لا ندرك جرمها الذاتي، ولا شرف من أخطأنا إليه، ولا مقدار امتداد الشر الذي ينتج عنها. والهدف من القصاص هو المجازاة بحسب العدل، والله وحده يعلم ما هو ضروري لذلك. فيكون القصاص الذي يحدده للخطية هو المقياس الوحيد العادل الذي يدل على استحقاقها وعظم رداءتها. (ب) إذا كان لا يوافق عدل الله أن يهلك البشر بسبب خطاياهم، لا يكون الفداء ناتجاً عن النعمة أو الرحمة المطلقة، لأن الخلاص من قصاص غير عادل هو عين العدل وليس فيه صفة النعمة. وكذلك يكون خلاص الله لنا بفداء ابنه لا من قصاص عادل بل من الظلم المفرط. على أن أوضح تعليم في الكتاب هو أن تدبير الفداء بموت المسيح لأجل خلاص الخطاة دليل عظيم على محبة الله التي تفوق العقول، وعلى رحمته للذين وقعوا تحت دينونة عادلة. ولكن إذا كان العدل يقتضي أن جميع البشر يخلصون كان الخلاص من قبيل العدل، ووجب أن تتوقَّف كل ترانيم الشكر والتسبيح من المفديين في السماء وعلى الأرض. (ج) الخطية شر غير محدود لأنها ضد الله غير المحدود في شرفه وعدله وصلاحه، ولذلك تستحق قصاصاً لا نقدر نحن بحكمتنا المحدودة أن نحدده، فيجب أن نترك ذلك إلى حكمة الله. فإذا كان شر خطية واحدة (ولو كانت أصغر خطية) يبقى إلى الأبد، فذلك الشر هو غير محدود ولو ظهر صغيراً جدا بالنسبة إلى خطايا أخرى، أو بالنسبة إلى مجموع كل الخطايا المرتكبة. ولما كان شر الخطية غير محدود فإننا لا نستطيع أن نضع حداً لكراهتها أو للشر الذي ينتج عنها.

ونذكر في هذا المقام ثلاثة أمور: (أ) الخطية في طبيعتها هي الابتعاد والانفصال عن الله، والله هو ينبوع كل سعادة وقداسة، فالانفصال عنه هو ضد كل خير. (ب) هذا الانفصال لا نهاية له، وينتج من ذلك أن الخطأ والشقاء بلا نهاية إلا بشفاعة المسيح الفائقة الطبيعة التي لا يستحقها إنسان، كما قلنا في أمر الفداء. (ج) اهتمام العالم هو موت، والانحطاط والشقاء مرتبطان دائماً بالخطية. فما دام البشر خطائون فلا بد أن يكونوا ساقطين أشقياء، وهذه شريعة أخلاقية لا تتغير. وإذا كان البشر لا ينتظرون أن الله يقلب نواميس الطبيعة ليخلصهم من نتيجة تعدي تلك الشرائع، فلماذا ينتظرون أنه يغير النواميس الأخلاقية، وهي الأثبت؟

تعلمنا دينونة الملائكة الساقطين أن عملاً واحداً ضد الله هو مميت، سواء قلنا إن كل عذاباتهم الماضية والمستقبلة إلى الأبد هي قصاص ذلك الديان الواحد، أم إنها نتيجة لازمة عن الحالة التي أوصلهم إليها ذلك العصيان الواحد.

(2) الاعتراض الثاني: إن قصاص الأشرار الأبدي لا يتفق مع صلاح الله، فليس مناسباً أن يترك الله أحداً من خلائقه مديناً إلى الأبد.. وللرد على ذلك نقول: (أ) يستحيل أن يرتكب الله خطأً صغيراً كان أم كبيراً. فإذا كان الله قد سمح أن يستمر هذا المقدار العظيم من الخطية والشقاء الذي نشاهده في العالم من سقوط آدم إلى هذا الوقت، فكيف نقول إنه لا يوافق صلاحه أن يتركهما في الوجود إلى الأبد؟ ومن أين نعلم أن الأسباب التي جعلت الله يسمح لأولاده أن يكونوا خطاة وأشقياء لألوف السنين لا تجعله يسمح أن يبقي بعضاً منهم في حال الدينونة والشقاء إلى الأبد، بعد أن عصوا عليه عمداً بكل عناد، فأهانوا سلطانه ورفضوا رحمته. (ب) سيكون عدد الهالكين أخيراً قليلاً جداً بالنسبة إلى عدد الخالصين. وعندما يحيط جمهور المفديين الذي لا يُحصى بالمسيح فاديهم، سيتمجّد لأنه المخلّص الذي رفع خطايا العالم. أما عقاب الهالكين فسببه أنهم رفضوا الرحمة وأصروا على إهانة سلطانه، فلا مكان لهم في سمائه. (ج) كان المسيح معادلاً لله، ولكنه وُجد في الهيئة كإنسان، ووضع نفسه حتى الموت موت الصليب من أجل خلاصنا. فما هو العقاب الذي يستحقه من رفضه وأهانه؟

إن الملجأ العظيم لنا في هذا المشكل المخيف ليس محبة الله وصلاحه فقط بل عدله أيضاً، لأننا نعرف أن كل أحكامه بالحق والعدل. ولو صحَّ أن القصاص الأبدي ظُلم، فأول من يقاوم ذلك هو الله نفسه، لأنه العادل الكامل. ونتحقق كذلك أن الخالق القدير والأب الرحيم يعامل جميع خلائقه بكل ما يليق به من الرحمة والحنو. غير أن الله لا ينكر نفسه، ولا يغير أقواله الصريحة، ولا يناقض أحكامه الثابتة.

4- هل يجب على الكارز بالإنجيل أن يعظ عن أبدية قصاص الأشرار؟

* شك البعض في منفعة ذلك، لأن الوعظ به ينفر الناس من الله، فيصح السكوت عنه في المنبر.. وللرد نقول: إذا كان هذا التعليم صحيحاً ومُعلناً صريحاً في الكتاب ومهماً جداً للبشر، فلا يجوز للكارز بالحق الإلهي الكامل أن يتركه خوفاً من النتيجة. بل عليه أن يعظ بكل مشورة الله، ويترك النتائج لله، كما قيل «وتتكلم معهم بكلامي إن سمعوا وإن امتنعوا» (حز 2: 7 قارن بذلك ص 3: 10، 11، 18، 19). فالكرازة التي تهمل الإنذار بخطر الهلاك الأبدي تحط من شأن قداسة الله، التي يبرهنها القصاص الأبدي، وتحط من شأن عمل الفداء الذي كان ضرورياً لخلاص البشر من ذلك القصاص. وهذه الكرازة الناقصة تحرم الشعب من معرفة كمال إرادة الله، وحُكمه على الخطية واستحقاقها. وكثيراً ما ابتدأ الارتداد عن الإيمان بالإنجيل برفض قبول الإنذار بالهلاك الأبدي. ولولا خطر القصاص الأبدي وهول الهلاك العظيم لما كان هناك لزوم لموت المسيح وتقديم تلك الكفارة غير المحدودة.

فلنعظ منذرين الناس بالقصاص الأبدي، راجين أن يؤثر ذلك في قلوب البعض لإيقاظهم وتنبيههم من خطر تأخير التوبة وتأخير نوال المصالحة مع الله بالمسيح، كما قال «يا أحبائي، لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعد ما يقتل له سلطان أن يُلقى في جهنم. نعم أقول لكم من هذا خافوا» (لو 12: 4، 5).

على أن هذه الكرازة يجب أن تكون بشعور المحبة والوداعة والغيرة القلبية على إيقاظ البشر ليعرفوا أنهم خطاة غير تائبين. ولا يلزم أن يكثُر ذكر القصاص الأبدي في الكرازة، بل ينبغي أن يأخذ مقامه اللائق، فلا يتأخر الكارز عن إيضاحه، ولا يلزم السكوت عنه. قال بولس الرسول «متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهاراً لم أفتر عن أن أنذر بدموعٍ كل واحد» (أع 20: 31 قارن بهذا 2كو 2: 14-17 و5: 11 و1تي 4: 16).

5- ما هو تعليم الكتاب من جهة حال الأبرار السماوية؟

* أعلن الكتاب أبدية تلك الحال بغاية الوضوح (قارن الشواهد في إجابة السؤال الثاني من هذا الفصل) فقيل «والأبرار إلى حياة أبدية» (مت 25: 46) و«لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 15، 16، 36 و4: 14، 36). و«من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24). و«لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية» (يو 6: 40، 47، 51، 54، 58، 68). و«أنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (يو 10: 28) و«كل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 26 و12: 25، 50) و«إذ أعطيته سلطاناً على كل الجسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته» (يو 17: 2) و«آمن جميع الذي كانوا معينين للحياة الأبدية» (أع 13: 48). و«حتى كما ملكت الخطية في الموت هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا» (رو 5: 21) و«لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا» (رو 6: 23). و«لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية» (غل 6: 8). و«الخلاص الذي في المسيح مع مجد أبدي» (2تي 2: 10). و«إذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي» (عب 5: 9). و«دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً» (عب 9: 12، 25) و«إله كل نعمة، الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع» (1بط 5: 1). و«هذا هو الوعد الذي وعدنا هو به في الحياة الأبدية» (1يو 2: 25 و3: 15 و5: 11، 13، 20 ويه 21). و«هم سيملكون إلى أبد الآبدين» (رؤ 22: 5). فما أعظم هذا التعليم الواضح المبارك من كلام السيد والرسل الأطهار.

6- ماذا يجب أن يكون تأثير تعليم الكتاب في هذا الموضوع في قلوب الأشرار والأبرار؟

* يجب أن يشعر الأشرار بالخطر الذي يهددهم، وأن يروا لزوم الرجوع إلى الرب حالاً ما دام نهار، لئلا يأتي الليل الذي ليس فيه توبة ولا رجاءٌ.

وعلى الأبرار أن يتعزوا كل التعزية، ويتمسكوا بالرجاء الموضوع أمامهم بفرح وسرور، وأن يواظبوا على حياة التقوى متأكدين أنه متى أُظهر المسيح حياتهم فحينئذ يُظهرون معه في المجد. ويجب عليهم أن يواظبوا على الاجتهاد والسهر، منتظرين ذلك الإكليل الذي وُضع لهم، راجين إتمام تلك المواعيد المجيدة لكل من يغلب، متأنين إلى مجيء الرب، «منتظرين ذلك الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح» (في 2: 13).



إنتهى
 

Star Online

مجرّد حيّ
عضو مبارك
إنضم
23 فبراير 2009
المشاركات
634
مستوى التفاعل
86
النقاط
28
الإقامة
Egypt
هذا الكتاب مهم جدا جدا

اشكرك علي هذا المجهود

تحياتي لك والرب يباركك
 
أعلى