علم اللاهوت النظامي

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الرابع عشر

لاهوت المسيح

1 - ما هو هدف الكتاب المقدس، وما هو أعظم موضوع فيه؟
* هدفه إعلان الفداء، وموضوعه العظيم شخص الفادي وعمله.

2 - ماذا يستلزم علم الفداء؟
* أن يكون الفادي إلهاً وإنساناً ليشترك في طبيعة الذين أتى ليفديهم، وليكون له سلطانٌ فائق ليغلب الخطية، وجلالٌ إلهي ليعطي شأناً رفيعاً لطاعته وآلامه الكفارية. ولذلك كان الفادي المقدَّم لنا في كتاب اللَّه من أول التكوين لنهاية الرؤيا، ليكون مركز عبادتنا وموضوع محبتنا وإيماننا، إلهاً وإنساناً معاً. ولما كانت علاقة هذا الموضوع بالكتاب كله كعلاقة نفس الإنسان بجسده، وبدونه يكون الكتاب مجموعة أخبار تاريخية ووصايا أخلاقية، لا تأثير لها يؤول للخلاص، كان تقديم البراهين للمسيحيين على لاهوت المسيح كتقديم البراهين على أن الشمس مصدر الحرارة والنور للعالم. ولكن بما أن البعض أنكروا الحق الواضح، آثرنا إيراد بعض الأدلة على هذا التعليم الجوهري في الكتاب المقدس، لنرشد الراغبين في معرفة الحق.

3 - ما هي أهم الأدلة على لاهوت المسيح في أسفار موسى وأسفار العهد القديم التاريخية؟
* (1) وعد اللَّه أبوينا الأوَّلين عند سقوطهما أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، وهو الوعد الأول للبشر بالفادي، بدليل شهادة الكتاب أن نسل المرأة هو المسيح، وأن سحق رأس الحية يعني انتصاره التام على الشيطان وجميع قوات الظلمة. ولذلك حُسب هذا الوعد النبوَّة الأولى، واعتُبر نظير فجر ناسوت الفادي ولاهوته للبشر، لأن اسمه «نسل المرأة» يشير إلى ناسوته، وعمله «سحق رأس الحية» يشير إلى لاهوته، بدليل أن الغلبة التامة على الشيطان في الحرب المستمرة بين القداسة والخطية، وبين ملكوت النور وملكوت الظلمة وبين اللَّه والشيطان، تستلزم قوةً إلهية.
(2) وعد اللَّه لإبراهيم أن بنسله يتبارك جميع أمم الأرض. فإن المقصود بنسل إبراهيم هنا هو المسيح نفسه، لا نسل إبراهيم بالإجمال. وعلى ذلك أدلة كافية منها قول بولس: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول: وفي الأنسال، كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحدٍ: وفي نسلك الذي هو المسيح» (غل 3: 16). والبركة التي وعد اللَّه بها أولاً آدم، ثم إبراهيم هي الفداء، بدليل قول المسيح لليهود: «أبوكم إبراهيم تهلّل أن يرى يومي فرأى وفرح». فالفادي الموعود به باسم نسل المرأة ونسل إبراهيم هو إله وإنسان بدليلين: (أ) قول المسيح عن نفسه «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائنٌ» و(ب) عظمة البركة الموعودة بها للبشر بواسطته.
(3) ما جاء من الكلام في يهوه «الرب» وملاك يهوه «ملاك الرب». فإذا راجعنا ذلك رأينا:
(أ) هناك تمييز بين «يهوه» و«ملاك يهوه» المُرسَل، وبين «يهوه» الذي أرسله. ومما يدل على أن أحدهما هو الآب والآخر هو الابن قول البشير إن المسيح وحده أعلن اللَّه (يو 1: 18 و6: 46) لأن اللَّه غير منظور فلا يقدر أحد من البشر أن يراه (1تي 1: 17 و6: 16 وعب 11: 27). فيتضح أن ملاك الرب الذي ظهر في العهد القديم على أنه اللَّه هو المسيح قبل تجسده (انظر أيضاً ملا 3: 1-4 مع مت 11: 10) وأن ملاك الرب الذي قاد بني إسرائيل في البرية هو المسيح (1كو 10: 4، 9).

(ب) إنهما متساويان في القدرة والمجد، بدليل: (1) تسمية ملاك يهوه «إيل» (اللَّه) ووعده بعمل ما لا يقدر أن يعمله إلا اللَّه وحده (تك 16: 7-13). (2) تسميته «يهوه» (الرب) وكلامه بسلطان اللَّه (تك 18: 1، 10، 14، 17 و19: 24). (3) تسميته «إلوهيم» (اللَّه) وقَسَمه بذاته، ووعده إبراهيم بنسل كثير العدد (تك 22: 3، 11، 12، 15-18) وكذلك اللَّه القدير (قارن 17: 1-7 مع 22: 15-19). (4) تسميته «اللَّه» وذلك في قصة يعقوب حيث قيل إن إنساناً صارعه ثم باركه ودعا اسمه إسرائيل قائلاً «لأنك جاهدت مع اللَّه والناس» ثم قال يعقوب عنه: «نظرت اللَّه وجهاً لوجه» (تك 24: 32-32). ولما ذكر هوشع هذه الحادثة قال عن يعقوب: «وبقوته جاهد مع اللَّه. جاهد مع الملاك وغلب» ثم قال عن ذلك الملاك: «والرب إله الجنود يهوه اسمه» (هو 12: 3-5). (5) تسميته يهوه، واللَّه، وإله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب، ونسبة صفات اللَّه وأعماله إليه (خر 3 خاصةً آيات 3، 4، 6، 14، 15). (6) القول إن يهوه يرسل ملاك يهوه، وإن لذلك الملاك سلطاناً أن يصفح عن المذنبين وسلطاناً أن ينتقم منهم (خر 23: 20-23) وأن الرب الذي سار أمامهم في البرية هو أيضاً ملاك اللَّه (خر 13: 21 و14: 19 وتث 1: 31 وإش 63: 9-14). (7) ملاك يهوه هو اللَّه، ويتضح هذا مما قاله اللَّه لموسى بعد ما أخطأ الشعب بعبادة العجل الذهبي (خر 32: 13 انظر أيضاً تك 22: 15-18). (8) تسميته رئيس جند الرب ويهوه (يش 5: 14، 15 و6: 2). (9) تسميته يهوه وملاك اللَّه ووعده بالنصرة لشعبه (قض 6: 1، 12، 14، 22-24).
وخلاصة ما تقدم أنه ذُكر في أسفار موسى وأسفار العهد القديم التاريخية شخص باسم «ملاك يهوه» و«ملاك اللَّه» و«يهوه» و«اللَّه» وتلك أسماء لم يُسمَّ بها غيره، وقيل إنه تكلَّم بسلطان إلهي، وعمل أعمالاً إلهية، وقبِل عبادة إلهية، وقاد شعبه في أحوال مختلفة، ونصرهم على أعدائهم. غير أن بينه وبين اللَّه تميُّزاً. ومن مقارنة كل ذلك بالعهد الجديد يتَّضح لنا أنه هو المسمَّى فيه ابن اللَّه وكلمة اللَّه أي المسيح ذاته.

4 - ما هي أهم الأدلة من المزامير على لاهوت المسيح؟
* (1) مز 2 حيث وعد اللَّه أن يقيم المسيح ملكاً على صهيون. وهذه إشارة إلى المسيح بدليل شهادة العهد الجديد الصريحة (أع 4: 27 و13: 33 وعب 1: 5 و5:5 ورؤ 2: 27). ويتضح أن المسيح المُشار إليه هو إله: (أ) من تسميته ابن اللَّه التي تشير إلى مساواته للَّه (آية 7). (ب) من أنه ذو سلطان عام ومطلق (آيات 8-12). (ج) من أنه هو الذي أُمر الجميع (خاصةً الملوك والقضاة) أن يعبدوه (آيتا 10، 11). (د) من تطويب جميع المتكلين عليه، مع أن الكتاب المقدس صرَّح باللعنة على كل من يتَّكل على الإنسان (آية 12).
(2) مز 45 وفيه ذُكر ملكٌ كل ما قيل فيه يدل على أنه إله: (أ) قيل إنه استحق التسبيح بسبب كماله التام. (ب) وُصفت مملكته بأنها عادلة ومستمرة إلى الأبد. (ج) نسب الرسول القول فيه «كرسيُّك يا اللَّه إلى دهر الدهور» (آية 6) إلى المسيح، واتخذه دليلاً على أنه يستحق عبادة الجميع (عب 1: 8). (د) سُميت الكنيسة عروسه إشارة إلى أنه هو موضوع محبة شعبه وثقتهم.
(3) مز 72 وفيه ذُكر ملك عظيم، صفاته وصفات ملكوته والبركات الناتجة من ملكه كلها إلهية، ونستدل من العهد الجديد أنه هو فادي العالم. ومما قيل فيه: (أ) إن ملكوته يكون إلى الدهر. (ب) إن ملكوته عام. (ج) إن ملكه يأتي بسلامٍ مع اللَّه وبخير للناس. (د) إن جميع الناس يخضعون له. (هـ) إن كل قبائل الأرض تتبارك به.
(4) مز 110 وقد اقتُبس منه كثير في الإنجيل لتفسير عمل المسيح وإثبات جلاله: (أ) بأنه رب داود. (ب) بأنه يجلس عن يمين اللَّه (أي يشاركه في المجد والسلطان) وقد بيَّن الرسول أن الجلوس المذكور لا يمكن أن يكون لمخلوقٍ (انظر عب 1: 13). (ج) بأن الشخص الذي هو ابن داود ورب داود هو أيضاً ملك وكاهن إلى الأبد (قارن عب 7: 17).

5 - ما هي أهم الأدلة على لاهوت المسيح في نبوة إشعياء؟
* (1) إش 2:4 يقول إن غصن الرب يكون بهاءً ومجداً، ومما يرجح أن ذلك يشير إلى المسيح اصطلاح الأنبياء على تلقيب المسيح بالغصن. قال إرميا: «ها أيامٌ تأتي يقول الرب وأُقيم لداود غصن بر، فيملك ملكٌ وينجح، ويُجري حقاً وعدلاً في الأرض» (إر 23: 5). و«في تلك الأيام وفي ذلك الزمان أُنبت لداود غصن البر، فيُجري عدلاً وبراً في الأرض» (إر 33: 15). وقال في زكريا 3: 8 «هئنذا آتي بعبدي الغصن» و«هوذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت ويبني هيكل الرب» (زك 6: 12). وفي كل هذه الآيات نجد الكلمة المترجمة «غصن» هي نفسها المترجمة «غصن» في إش 4: 2 وقال إشعياء أيضاً «ويخرج قضيب من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله» (إش 11: 1). و لقب «غصن» هنا تشير إلى المسيح، لأن ذلك ظاهر من القرائن. غير أنها ليست نفس الكلمة المترجمة «غصن» في الآيات الأخرى، بل مرادفة لها في المعنى. ولما كان الأنبياء قد استعملوا هذه الكلمة للمسيح حين أنبأوا بلاهوته (إش 11: 1 وإر 23: 6) نرجح أنها تدل على ذلك في الآية التي نحن في صددها الآن.
(2) إش 6 ذكر ظهور يهوه للنبي في هيكله المقدس محاطاً بجنود الملائكة يقدمون له التسبيح نهاراً وليلاً (أي أنه موضوع عبادتهم). وقال الرسول يوحنا إن يهوه المذكور في كلام النبي هنا هو المسيح نفسه الذي يعبده الآن كل المسيحيين والملائكة (يو 12: 41).
(3) إش 7: 13-16 و9: 6، 7 نبوة بمولودٍ من عذراء، هو ابن اللَّه الأزلي المساوي للآب: (أ) من تسميته عمانوئيل أي «اللَّه معنا». (ب) من تسمية أرض إسرائيل أرضه (8:8) وتسميته عجيباً مشيراً إلها قديراً أباً أبدياً رئيس السلام. (ج) من أن مملكته عامة وأبدية. (د) من أن نتائج إتيانه وملكه يختص بملك اللَّه وحده.

(4) إش 40-66 الموضوع الأهم في هذه الأصحاحات هو المسيح وملكوته، وفيها نبوات صريحة تبيّن سمو شأنه، وأنه فادي شعبه ومنقذهم ليس من سبي بابل فقط بل من كل شر، وأنه سيجهز لهم مغفرة الخطية والمصالحة مع اللَّه، ويغلب جميع أعدائه، وأن ملكوته يمتد إلى أقاصي الأرض ويبيد ملكوت الظلمة، وديانته تنتشر في كل العالم. وكل ذلك دليل كافٍ على لاهوته.

6 - ما هي أهم الأدلة على لاهوت المسيح في نبوة إرميا؟
* إر 23: 5، 6 نبوة بفداء شعب اللَّه، وفيه قيل إن ذلك الفداء يكون بواسطة شخص: (أ) من نسل داود. (ب) يُسمى الغصن، وهو اسم اصطلح عليه الأنبياء ليشير إلى المسيح (انظر إجابة السؤال السابق). (ج) يكون ملكاً. (د) ملكه ينجح وينشئ الاتحاد والسلام. (هـ) يُسمى يهوه برّنا. وفي ص 33: 15، 16 نبوة أخرى عن المسيح بنفس المعنى.

7 - ما هي أهم الأدلة على لاهوت المسيح في سفر دانيال؟
* (1) دا 2: 44 وهو نبوة بأن ملكوت المسيح يكون أبدياً وأنه يعمُّ كل ممالك الأرض.
(2) دا 7: 9-14 تقول إنه أُتي بواحد مثل ابن الإنسان إلى القديم الأيام وأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً، لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض.
(3) دا 9: 24-27 نبوة عن مجيء المسيح وأعمال إلهية يعملها.

8 - ما هي أهم الأدلة على لاهوت المسيح في نبوة ميخا؟
* مي 5: 1-5 تتنبأ بولادة شخص في بيت لحم له صفات تدل على أنه إلهٌ ومنها أنه: (أ) يكون رئيس شعبه والمتسلط عليه. (ب) يقضي بقوة وجلال اللَّه، فيُظهر صفات إلهية في رياسته. (ج) سلطانه يكون عاماً. (د) نتيجة سلطانه هي السلام التام. (هـ) مخارجه (مع أنه مولود في زمان معيَّن، ومن امرأة) هي منذ القديم منذ أيام الأزل.
9 - ما هي أهم الأدلة على لاهوت المسيح في نبوة ملاخي؟
* تنبأ ملاخي في 3: 1-4 (أ) أنه يأتي رسول (هو المعمدان) ليهيّئ طريق الرب. (ب) يأتي الرب (الذي هو السيد وملاك العهد أي المسيح) إلى هيكله. (ج) تكون نتيجة إتيانه هلاك الأشرار وخلاص الكنيسة.
10 - ماذا يتبيَّن من كل ما تقدم؟
* يعلن العهد القديم عن إتيان شخص إلهي لابساً طبيعتنا البشرية ليخلِّص العالم، ويكون «نسل المرأة» و«نسل إبراهيم» ومن سبط يهوذا ومن بيت داود، مولوداً من عذراء ويكون رجل أوجاع. وأنه يجعل نفسه تقدمةً لأجل الخطية. وأنه هو ملاك يهوه، ويهوه، وإلوهيم (اللَّه) والإله القدير، والذي يعمل كل أعمال اللَّه، ويقبل عبادة الناس والملائكة، وهذا ما يفعله اللَّه.
فيظهر مما تقدم وجود شخصين ممتازين، لكلٍّ منهما صفات اللاهوت وخصائص شخصية تميّز الواحد عن الآخر، كلٌّ منهما يشاء ويعمل ويتكلم، وأحدهما أرسل الآخر. ولنا دليل قاطع على أن ملاك العهد في العهد القديم هو الذي أتى بعد يوحنا المعمدان، أي أن ملاك العهد (وهو على الأرجح ملاك الرب) المذكور في العهد القديم هو المسيح المذكور في العهد الجديد. قال إشعياء: «صوتُ صارخ في البرية: أعدّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإلهنا .. فيُعلَن مجد الرب ويراه كل بشر جميعاً، لأن فم الرب تكلم». وقال ملاخي «هأنذا أرسل ملاكي فيهيّئ الطريق أمامي. ويأتي بغتةً إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تُسرّون به». وإذا نظرنا إلى العهد الجديد رأينا أن الذي يُعد الطريق هو يوحنا المعمدان، وأن السيد الذي يأتي إلى هيكله هو المسيح (إش 40: 2 ومل 3: 1 ومت 11: 10 ومر 1: 2 ولو 1: 76 و7: 27).
11 - ما هي آيات العهد القديم التي تتضمن ألقاباً للاهوت مستعمَلة في العهد الجديد على أنها تشير إلى المسيح؟
* من هذه الآيات:
* مز 16: 8 مع أع 2: 25 حيث دُعي المسيح رباً في الآيتين.
* إش 40: 3 مع مت 3:3 حيث قيل في متى إن يوحنا المعمدان نادى في البرية «أعِدّوا طريق الرب» حسب نبوة إشعياء، فينتج من ذلك أن المسيح هو رب.
* إش 6: 3-5 مع يو 12: 41 حيث ورد أن الذي قال عنه إشعياء إنه الملك رب الجنود هو المسيح.
* خر 17: 2 ومز 78: 56 مع 1كو 10: 9 فيها أشار موسى وداود وبولس إلى ما حدث في البرية، فموسى قال إن بني إسرائيل جرَّبوا الرب، وداود قال إنهم جرَّبوا اللَّه العلي، وبولس قال إنهم جرَّبوا المسيح. وبناءً عليه يكون المسيح هو الرب واللَّه العلي.
* مز 68: 18 مع أف 4: 7، 8 فالذي صعد إلى العلاء وسبى سبياً هو المسيح، المدعوّ في عبارة العهد القديم «الرب».
* إش 8: 13، 14 مع رو 9: 33 في آية العهد الجديد قيل إن المسيح حجر صدمة وصخرة عثرة، وفي آية العهد القديم قيل إن رب الجنود هو تلك الصخًرة. فيكون المسيح هو رب الجنود.
* إش 43: 3 مع 2بط 3: 18 فالآية الأولى هي «الرب إلهك قدوس إسرائيل مخلّصك» والآية الثانية هي «ربنا ومخلصنا يسوع المسيح».
* زك 12: 10 مع يو 19: 34، 37 ورؤ 1: 7 فحسب آية العهد القديم الذي طُعن هو يهوه (الرب) وحسب آية العهد الجديد هو المسيح.
* مي 5: 2 مع مت 2: 6 فعبارة العهد القديم تقول إن مخارج المتسلط على إسرائيل هي منذ القديم منذ أيام الأزل. وعبارة العهد الجديد تقول إن ذلك يشير إلى المسيح، فتكون مخارج المسيح هي منذ أيام الأزل. وذلك لا يصح إلا على اللَّه.
* إش 43: 11 مع أع 4: 12 فحسب الأولى لا مخلِّص غير الرب، وحسب الثانية لا مخلص غير المسيح.
* إر 23: 24 مع أف 1: 23 ففي الأولى قيل إن الرب يملأ السماوات والأرض، وفي الثانية إن المسيح يملأ الكل في الكل.
* مز 89: 8، 9 مع مر 4: 39، 40 قيل في الأولى إن رب الجنود متسلط على كبرياء البحر، وفي الثانية نُسبت تلك القوة إلى المسيح.
* أم 16: 4 مع كو 1: 16 حسب الأولى الرب صنع الكل لغرضه، وحسب الثانية الكل خُلق بالمسيح وله.
* إش 9: 6 مع لو 2: 11 وعب 1: 8 ورؤ 19: 12 و1: 8 ويو 8: 58 وأف 2: 14-17 فآية العهد القديم نبوة بالمسيح، وآيات العهد الجديد تشير إلى صدق هذه النبوة عليه، فهو الولد المولود، والرب، وله رياسة، والذي له اسمٌ عجيب ليس أحدٌ يعرفه إلا هو، والقادر على كل شيء، والذي كان قبل إبراهيم ورئيس السلام. فجميع ألقاب المسيح في آية إشعياء خاصة بيسوع في العهد الجديد.
* مز 45: 6 مع عب 1: 8 في الأولى يتوجَّه كلام داود إلى اللَّه، وفي الثانية قيل إن ذلك يصح على المسيح.
* مز 102: 24-27 مع عب 1: 10-12 ما قيل عن اللَّه في المزمور قيل عن المسيح في العبرانيين.
* مز 31: 5 مع أع 7: 59 في الأولى استودع داود روحه في يد الرب إله الحق، وفي الثانية استودع استفانوس روحه في يد المسيح.
* تك 17: 1 مع رؤ 1: 8 في الأولى دعا اللَّه نفسه «اللَّه القدير» وفي الثانية قال المسيح عن نفسه إنه القادر على كل شيء.
* 1أي 28: 9 مع رؤ 2: 23 ففي الأولى الرب يفحص جميع القلوب ويفهم كل تصوُّرات الأفكار، وحسب قول المسيح في الآية الثانية هو الفاحص الكلى والقلوب.
* أم 3: 12 مع رؤ 3: 19 قيل في الأولى إن الذي يحبه الرب يؤدبه، وقيل في الثانية عن لسان المسيح إن كل من يحبه يوبخه ويؤدبه.
* إش 40: 10 مع رؤ 22: 12 قيل في الأولى إن الرب يأتي وأجرته معه، وقيل في الثانية إن المسيح يأتي سريعاً وأجرته معه ليجازي كل واحد كما يكون عمله.
* إش 44: 6 مع رؤ 22: 13 في الأولى قيل إن الرب ملك إسرائيل رب الجنود هو الأول والآخِر ولا إله غيره، وفي الثانية قيل عن لسان المسيح إنه الألف والياء والبداية والنهاية والأول والآخِر.
* تث 10: 17 و1تي 6: 15، 16 مع رؤ 17: 14 و19: 16. نرى في هذه الآيات أن الألقاب «ملك الملوك» و«رب الأرباب» قيلت على اللَّه وعلى المسيح.
* إر 10:10 مع 1يو 5: 20 قيل في إرميا إن الرب الإله حق وإله حق وإله حي وملك أبدي، وقيل في الآية الثانية عن المسيح إنه هو الإله الحق والحياة الأبدية.

وخلاصة كل ما أوردناه من آيات العهدين القديم والجديد أن أسماء اللَّه وألقابه وصفاته تصح على المسيح باعتبار لاهوته. فيلزم أن المسيح هو اللَّه، ويلزم عن إنكار ذلك أن ليس في الكتاب المقدس اسم ولا لقبٌ يميّز اللَّه عن مخلوقاته، وهو باطل بالبداهة.

ومن ألقابه في العهد الجديد التي تدل على أنه إله «إله مبارك إلى الأبد» (رو 9: 5). و«رب المجد» (1كو 2: 8) و«معادلاً للَّه» (وفي حاشية الإنجيل بالشواهد «لم يحسب المساواة باللَّه غنيمة)» (في 2: 6). وفيه يحلّ كل ملء اللاهوت جسدياً (كو 2: 9) وإنه اللَّه (يو 1:1 وأع 20: 28) وإنه بهاء مجد اللَّه ورسم جوهره (عب 1: 3) واللَّه العظيم (تي 2: 13) وربنا ومخلصنا يسوع المسيح (2بط 3: 18) والسيد الوحيد، وربنا يسوع المسيح (يه 4).
وقد جمعنا هنا جميع ما حوته النصوص المتقدمة من الألقاب والصفات المنسوبة إلى المسيح لنبيّن قوة ما فيها من الدليل على لاهوته، وأنه لا يمكن نسبتها إليه لو كان مخلوقاً أو مجرد إنسان. وتلك الألقاب والصفات هي: الرب، واللَّه العلي، وفاحص القلوب، والملك رب الجنود، ورب الجنود، والذي مخارجه منذ أيام الأزل، والذي يملأ الكل في الكل، والأول والآخِر، وعجيب، ومشير، وإله قدير، وأب أبدي، ورئيس السلام، والكلمة الذي كان اللَّه، والذي كان قبل إبراهيم، والكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد، ورب المجد، ومعادل للَّه، وملء اللاهوت، واللَّه العظيم، وبهاء مجد اللَّه، ورسم جوهره، والسيد الوحيد اللَّه، وربنا يسوع المسيح، وإله الحق، والحياة الأبدية، والقادر على كل شيء، وملك الملوك ورب الأرباب.

ولا شك أنه لا يجوز مطلقاً نسبة ما تقدم إلى إنسان لأن ذلك تجديف فظيعٌ. قال اللَّه لإشعياء: «أنا الرب، هذا اسمي. ومجدي لا أعطيه لآخر» (إش 42: 8). فلو لم يكن المسيح إلهاً لكان مجد اللَّه قد أُعطي لغيره، ولكان كتابه غير صحيح، ولكان الذين كتبوا في المسيح بالوحي قد حرَّفوا حق اللَّه. ولكن ما يراه المؤمن باللَّه من هذه الأدلة عكس ذلك، فالرب يسوع المسيح هو اللَّه، وله كل ملء اللاهوت.
12 - ما هو الدليل الأول من العهد الجديد على لاهوت المسيح؟
* هو أنه كان موجوداً قبل ولادته من مريم العذراء، وبهذا هو مولود غير مخلوق، وأنه عمل أعمال اللَّه قبل تجسده. وقد سبق الكلام على ذلك في بيان لاهوت المسيح من العهد القديم. فقيل إنه مرسَل، وإنه أتى من السماء، وإنه دخل العالم. وقيل أيضاً إن الكلمة كان في البدء عند اللَّه ثم صار جسداً (يو 1:1-17 و3: 13 و8: 58 و17: 5 و1كو 15: 47 و2كو 8: 9 وعب 1: 10، 11 ورؤ 1: 8، 17 و2: 8 و3: 14).
13 - ما هو الدليل الثاني من العهد الجديد على لاهوت المسيح؟
* هو تلقيبه بالكلمة (يو 1:1-4). وهذا اللقب يعني ثلاثة أمور على الأقل:
(1) يعني أزلية المسيح، فلم يمضِ على اللَّه وقت كان فيه بغير كلمة.
(2) يعني أن سلطان المسيح هو سلطان اللَّه، فالكلمة تحمل كل سلطان صاحبها. ولهذا كان يأمر الطبيعة فتطيعه، والقبر فيخرج منه ساكنه.
(3) يعني تعريفنا باللَّه، فكلمة الإنسان تكشف عن شخصيته، وقد قال المسيح:»الذي رآني فقد رأى الآب« (يو 14: 9).

14 – ما هو الدليل الثالث من العهد الجديد على لاهوت المسيح؟
* تسميته فيه «الرب» و«ربنا» بمعنىً خاص، فقد وردت كلمة «رب» في العهد الجديد بمعنى مالك فربُّ الكرم هو مالكه. ووردت بمعنى متسلط، فربُّ العبيد هو المتسلط عليهم، ووردت بمعنى معلم. كما وردت لقباً لرؤساء الحكومة وذوي المناصب. وهي مستعملة للمسيح بمعنى أنه ملكنا ورئيسنا وإلهنا أيضاً وذلك بدليل:
(1) استعمالها له للدلالة على نفس المعنى الذي استُعملت به كلمة يهوه (الرب) في العهد القديم. فكان بنو إسرائيل يتكلمون مع يهوه وعنه قائلين «أحمدك يا رب. ارحمني يا رب. الرب هو إلهنا. الرب عن يميننا. طوبى للأمة التي الرب إلهها» كذلك في العهد الجديد يُقال للمسيح «أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة. الذي يدينني هو الرب. إن شاء الرب. طوبى للأموات الذين يموتون في الرب». فالمسيح هو رب المسيحيين بنفس المعنى الذي به يهوه رب بني إسرائيل. ولم يُعط هذا اللقب لغيره، لا لإبراهيم ولا لموسى ولا لإيليا ولا لداود ولا لأحدٍ من الأنبياء أو الرسل.
(2) استعمالها له بكيفية تدل على سمو مقامه ورياسته وسلطانه الفائق، فإنه لُقِّب رب الأرباب، ورب المجد، ورب الكل، ورب الأحياء والأموات، وربٌّ لمجد اللَّه الآب، والذي يجثو باسمه كل من في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض. وطُلب من كل الخلائق من أدناها إلى أسماها أن تجثو أمامه، وتعترف بسلطانه المطلق.

(3) استعمالها له بمعنى خاص لا يقدر أحد أن يميّزه إلا بإرشاد الروح القدس، حسب قول بولس «ليس أحدٌ يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس» (1كو 12: 3). فلو كان المقصود بتسميته رباً أنه رئيس بالمعنى المشهور فقط، كما يُراد برئيس الكهنة ورئيس الشعب، لما احتاج الأمر إلى إرشادٍ إلهي خاص لفهم هذا المعنى. ولكن لما كان المقصود بذلك أنه ربٌّ إلهي، له علينا سلطان الخالق والحافظ وحقوق اللَّه، نحتاج أن يُعلن لنا الروح القدس مجد اللَّه العظيم في وجهه، ليرشدنا لتمييز ألوهيته والسجود له.

(4) استعمالها له بدلاً من كلمة «يهوه» في العهد القديم. فقد اقتبس كتبة العهد الجديد من العهد القديم بعض الآيات التي تشير للمسيح بتسميته «يهوه» واستبدلوا هذا الاسم بكلمة «رب». ومن أمثلة ذلك ما قيل في ملاخي 3: 1 «هئنذا أرسل ملاكي فيهيّئ الطريق أمامي». والمتكلم هنا هو يهوه. واقتُبست هذه الآية في لو 1: 76 هكذا «يتقدم (يوحنا المعمدان) أمام وجه الرب ليعدَّ طرقه». فاستُبدل هنا لقب «يهوه» بلقب «الرب». وقال يوئيل 2: 23 «كل من يدعو باسم الرب (وفي الأصل يهوه) ينجو». فاقتبس بولس هذه الآية مشيراً إلى أنها نبوة عن المسيح، بقوله «لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص» (رو 10: 13). وقال إشعياء 45: 23 عن لسان الرب (يهوه) «إنه لي تجثو كل ركبة. يحلف كل لسان». فاقتبسها بولس على أنها نبوّة عن المسيح بقوله: «لأننا جميعاً سوف نقف أمام كرسي المسيح. لأنه مكتوب أنا حي يقول الرب إنه ستجثو لي كل ركبة وكل لسان سيحمد اللَّه» (رو 14: 10، 11).

فيتضح مما تقدم أن كتبة العهد الجديد أشاروا بكلمة «رب» إلى لاهوت المسيح. فكل آية جاءت فيها هذه الكلمة بهذا المعنى هي دليل على لاهوته.
15 - ما هو الدليل الرابع من العهد الجديد على لاهوت المسيح؟
* خلاصة هذا الدليل أن المسيح هو مركز أشواقنا الدينية، وموضوع محبتنا القلبية وعبادتنا. فنتعلم من العهد الجديد أنه هو خالقنا وحافظنا وفادينا وملكنا وله الحق الأول علينا، وأننا يجب أن نقدم له نفس العبادة والإكرام والمحبة التي نقدمها للَّه، وأن نجعل إرادته قانون حياتنا، ومجده غاية وجودنا، وأن نثق به كما نثق باللَّه، وأن نقدم له نفس ما نقدمه للَّه من الطاعة والعبادة. ونتعلم أيضاً أن المسيحيين الأولين اعتبروا المسيح مطلب أشواقهم الدينية، ونسبوا أنفسهم إليه على أنهم خاصته، وأنه يراقب كل أعمالهم ويطالبهم بها، وأنه حاضرٌ معهم على الدوام وساكنٌ فيهم، وأنه سرورهم الحاضر ونصيبهم الأبدي.
وتتضح الواجبات الدينية في العهد الجديد من علاقة النفس بالمسيح. ففيه أن الأولاد مكلَّفون أن يطيعوا والديهم والعبيد سادتهم، ويكرم النساء رجالهن، ليس ليرضوا الناس بل ليتمموا إرادة المسيح، وأن من اعتقد أن يسوع هو ابن اللَّه وأحبه وأطاعه فهو مولود من اللَّه، ومن أنكر ذلك سُمي «ضد المسيح» لأنه ينكر الآب والابن كليهما. وقال بولس: «إن كان إنجيلنا مكتوماً فإنما هو مكتومٌ في الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة اللَّه». وقال: «اللَّه أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد اللَّه في وجه يسوع المسيح». وقال أيضاً: «إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما». وخلاصة تعليم العهد الجديد في هذا الشأن هي أن إنكار لاهوت المسيح وعدم الثقة به والاستناد عليه ومحبته فوق كل شيء، وعدم تقديم العبادة الإلهية له والطاعة بناءً على أنه إلهٌ، يوجب الحكم بالدينونة الأبدية على المنكِرين.

16 - ما هو الدليل الخامس من العهد الجديد على لاهوت المسيح؟
* نسبة السلطان الإلهي والصفات الإلهية إليه. ومن ذلك أنه دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وأن كل الخلائق خدامه، وأن ملائكة السماء رسله، وكل أمور البشر تحت حكمه إلى الأبد، وأنه يجازي كل واحد حسب عمله (مت 16: 27 ورؤ 22: 12). وكل أوامره لشعبه صدرت منه بسلطان إلهي. ومما قاله المسيح عن نفسه في هذا الشأن «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرّح لهم إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (مت 7: 22، 23). «دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد. وفي وقت الحصاد أقول للحاصدين: اجمعوا أولاً الزوان واحزموه حزماً ليُحرق. وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني» (مت 13: 30). «يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم» (مت 13: 41). «وأقول لكم كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة اللَّه. ومن أنكرني قدام الناس يُنكَر قدام ملائكة اللَّه» (لو 12: 8، 9). «ومن أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني» (مت 10: 37، 38). ولا يجوز لأحدٍ أن يطلب هذه المحبة الكاملة إلا اللَّه وحده.
وسُمي في العهد الجديد «الكلمة» و«نور العالم» وهو سمَّى نفسه «الحق». وتكلَّم بما لم يتكلم به إنسانٌ قط. وعلَّم بسلطانه لا بسلطان غيره، وتكلَّم باسم نفسه لا باسم آخر، مثل موسى والأنبياء الذين قالوا «هكذا يقول الرب». ثم تكلم تلاميذه باسمه أيضاً. وقال «أنا والآب واحد«. »السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول».
ويعلمنا العهد الجديد أيضاً وجوب طاعة المسيح، وقبول كل ما صرَّح به، والثقة بصدقه، وأن إنكار كلامه هو إنكار الحق، ومخالفته هي مخالفة الحق.

17 - ما هو الدليل السادس من العهد الجديد على لاهوت المسيح؟
* وعوده لشعبه ببركاتٍ ليس لأحدٍ حق ولا سلطان ولا قدرة أن يهبها إلا اللَّه وحده:
(1) وعده بغفران الخطايا. وواضح أنه لا يقدر أن يغفر الخطايا إلا اللَّه وحده، لأنه هو الديان، وكل خاطئ يخطئ إليه، فله وحده الحق أن يعفو عنه. وعندما يقول المسيح: «مغفورة لك خطاياك» يُجري قضاءً إلهياً نظير اللَّه الأزلي.
(2) وعده بإرسال الروح القدس. أنبأ يوحنا المعمدان أن المسيح يعمد شعبه بالروح القدس ونار. وقد تم ذلك حين ألبس تلاميذه قوة من الأعالي في يوم الخمسين. وتنبأ يوئيل أن اللَّه يسكب روحه على كل بشر، وقال بطرس إن المسيح قد تمم هذه النبوة بعد ما ارتفع إلى يمين اللَّه وسكب الروح القدس على تلاميذه. وقال المسيح نفسه لتلاميذه في خطابه الأخير إنه يرسل إليهم معزياً آخر هو روح الحق الذي يسكن معهم إلى الأبد. وقد أنجز هذا الوعد لهم ولجميع المؤمنين في كل عصور الكنيسة، لأن كل ما يقدس النفس، وكل المواهب التي تمتعت بها الكنيسة أتت من عنده. قال بولس: «ولكن لكل واحد منا أُعطيت النعمة حسب قياس هبة المسيح» (أف 4: 7). أي أن المسيح أعطى كل واحدٍ من مواهب الروح حسبما شاء.

(3) وعد شعبه بأن يسمع صلواتهم في كل زمان ومكان. فقال: «مهما سألتم الآب باسمي فذلك أفعله.. حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم.. ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» ويتضمن هذا وعداً لتلاميذه بحضوره الدائم معهم في كل مكان وزمان.
(4) وعد المؤمنين بحياة أبدية، فقال: «خرافي تتبعني، وأنا أعطيها حياةً أبديةً.. مَنْ يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة.. كُنْ أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة.. أنا أذهب لأُعِدّ لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ.. تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم». ولا يقدر على إعطاء كل هذه المواعيد والعطايا إلا اللَّه وحده، فيلزم بالضرورة أن المسيح إلهٌ.

18 - ما هو الدليل السابع من العهد الجديد على لاهوت المسيح؟
* معجزاته، التي أجراها بقوته الذاتية. صحيح أن موسى والأنبياء صنعوا معجزات، ولكن ليس بقوتهم الذاتية كما أعلنوا ذلك للشعب، فقال بطرس: «لماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟!». وحين شقَّ موسى البحر الأحمر لم يكن سوى آلةٍ كالعصا التي ضرب بها المياه. وأما المسيح ففعل معجزاته بقوته، ونسبها إلى نفسه فقط، وأعطى تلك القوة للآخرين، فنسب الرسل معجزاتهم إليها. فقال: »لي سلطان أن أضعها (حياتي)، ولي سلطان أن آخذها أيضاً«.. «كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي كذلك الابن أيضاً يحيي مَنْ يشاء». وقال لتلاميذه: «ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيّات والعقارب وكل قوة العدو». ولما شفى المرضى وفتح عيون العمي وشدّد العُرج وأقام الموتى وأطعم ألوفاً بقليل من الخبز، وسكّن هيجان البحر، فعل كل ذلك بكلمة قدرته، وأظهر مجده وبيَّن لكل عين ناظرة إليه أنه إلهٌ في صورة إنسان. ولذلك قال: «إن كنتُ لستُ أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنتُ أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال، لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيَّ وأنا فيه» (يو 10: 37، 38). «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحدٌ غيري، لم تكن لهم خطية. وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي» (يو 15: 24).
19 - ما هي خلاصة شهادة العهد الجديد بلاهوت المسيح؟
* (1) تلقيب المسيح بألقاب إلهية مطلقة (انظر يو 1:1 و20: 28 وأع 10: 36 و20: 28 ورو 9: 5 و1كو 2: 8 وتي 2: 13 وعب 1: 8 و1يو 5: 20 ورؤ 1: 17 و19: 16 و22: 13).
(2) نسبة الكمالات والصفات الإلهية المطلقة إليه، ومن ذلك الوجود منذ الأزل (انظر يو 1: 2 و8: 58 و17: 5 و1يو 1:1، 2 ورؤ 1: 8، 17، 18 و22: 13). وعدم التغيُّر (عب 1: 11، 12 و13: 8). والوجود في كل مكان (يو 3: 13 ومت 18: 20 و28: 20). والمعرفة بكل شيء (مت 11: 27 و12: 25 ولو 10: 22 ويو2: 23-25 و10: 15 و21: 17 وأع 1: 24 ورؤ 2: 23). والقدرة على كل شيء (يو 5: 19، 21 وفي 3: 20، 21 وعب 1: 3 ورؤ 1: 8 و11: 17).
(3) نسبة أعمال اللاهوت إليه. ومنها الخلق (يو 1: 3، 10 وكو 1: 16، 17 وعب 1: 10). وحفظ كل الأشياء والعناية التامة بها (مت 28: 18 وكو 1: 17 وعب 1: 3). والمعجزات خاصةً إقامة الأموات (يو 2: 19، 20 و5: 21، 36 و10: 18 و11: 25 و6: 40 وفي 3: 21). والدينونة (مت 25: 31، 32 ويو 5: 22 وأع 10: 42 ورو 14: 10 و2كو 5: 10). وإعطاء الحياة الأبدية (يو 10: 28). وإرسال الروح القدس (يو 16: 7، 14).
(4) تقديم ما يختص باللَّه وحده من الكرامة للمسيح، والأمر بتقديم العبادة المطلقة له (مت 28: 17 ويو 5: 22، 23 و10: 30 و14: 1 وأع 1: 24 و7: 59، 60 و1كو 1: 2 و2كو 13: 14 وفي 2: 6، 9، 10 وعب 1: 6 ورؤ 1: 6 و5: 8-13 و7: 10).
فالذي له ألقاب اللَّه وصفات اللَّه وأعمال اللَّه وإكرام اللَّه وعبادة اللَّه وعرش الكون والقدرة والبركة والسلطان والمجد إلى أبد الدهور وهو مصدر الحياة والنور والحكمة، لا يكون غير اللَّه.

20 - هل شهد المسيح بأنه إله؟
* نعم، وذلك بتسميته نفسه «ابن اللَّه» ليس بمعنى أنه من جملة أبناء اللَّه بل بمعنى أنه الابن الوحيد. ومن أمثلة ذلك قوله: «اذهبوا وعمّدوا كل الأمم باسم الآب والابن والروح القدس». فورود لفظة «ابن» بين اسمَي الآب والروح القدس يدل على المساواة التامة بينهم. ولا يصح مطلقاً إعطاء هذا المقام لمخلوق. وقوله: «ليس أحدٌ يعرف الابن إلا الآب، ولا أحدٌ يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له». وحين سأله الجمع أمام رئيس الكهنة: «أفأنت ابن اللَّه؟» قال لهم «أنتم تقولون إني أنا هو». فقالوا «ما حاجتنا بعد إلى شهادة؟ لأننا سمعنا من فمه» (لو 22: 70، 71). ولا شك أن اليهود فهموا أنه أشار بهذا اللقب إلى أنه إلهٌ، وهو لم ينفِ ذلك، بل أراد هذا المعنى نفسه، ولذلك عزموا على صلبه. وقال للفريسيين قبل صلبه بقليل: «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن مَنْ هو؟» قالوا «ابن داود» قال لهم «فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه؟». ويدل سياق الكلام على أن المسيح أورد هذا القول لإثبات لاهوته من العهد القديم. ومن هذا القبيل كل ما نسبه المسيح لنفسه من المجد والسلطان والحق، وكل ما أمر أن يُقدم له من الكرامة والعبادة، وكل ما وعد به من البركات، وكل ما هدد به الذين أنكروه من الويلات. وكلها براهين على أنه قصد أن يعلّم الناس أنه إلهٌ.

21 - ماذا يوجب الثقة بشهادة المسيح لنفسه أنه إلهٌ؟
* إنه يستحق التصديق، لأنه قدوس طاهر مستقيم، وليس في صفاته وسيرته ما يحملنا على الشك في أمانته وحقه، خاصةً أنه أثبت شهادته بالمعجزات العظيمة وأشهرها قيامته من الأموات التي لا شك في صدقها. وهذه كلها تنفي عنه شبهة الغش والخداع، لأن اللَّه لا يصدّق على الكذب. وبالاختصار صحة شهادة المسيح لنفسه مبنيّة على صدقه المؤكد، وعلى ختم اللَّه على شهادته بإقامته من الأموات.
22 - ما هي أهم الآيات في سفر الأعمال التي تثبت لاهوت المسيح؟
* (1) أع 2: 21 حيث قيل «ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص».
(2) أع 3: 15 حيث دعاه رسوله الملهَم بطرس «رئيس الحياة» وهو اسم لا يصح أن يُلقَّب به إلا اللَّه وحده.
(3) أع 4: 12 وهو يدل على أن الخلاص في يد المسيح فقط. والخلاص المُشار إليه هو الخلاص من الخطية، ومن الشيطان، ومن حكم العدل الإلهي بهلاك الخاطئ. وهذا لا يقدر عليه إلا اللَّه وحده.
(4) أع 7: 59، 60 حيث قيل إنه بينما كان أعداء استفانوس يرجمونه وتحقق أن ساعة موته دنت، أسلم نفسه في يد المسيح متضرعاً إليه أن يقبلها، وأن يصفح عن خطية قاتليه. ولم يخطئ استفانوس في ما قال، ولا قصد الغش والخداع، لأنه كان مملوءاً من الروح القدس، ولم يقدر خصومه أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به.
(5) أع 10: 36 وهو قول بطرس «الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح. هذا هو رب الكل».
(6) أع 16: 6، 7 حيث دُعي الروح القدس «روح يسوع» (كما ما جاء في حاشية الإنجيل بالشواهد). وقد أجمع أفاضل اللاهوتيين على صحة هذه القراءة، بدليل وجودها في أقدم النسخ والترجمات. ومن النسخ التي جاء فيها «روح يسوع» الفاتيكانية والإسكندرية والسينائية، وهي من أشهر النسخ القديمة وأصحّها.
(7) أع 20: 28 حيث قال بولس لقسوس أفسس: «لترعوا كنيسة اللَّه التي اقتناها بدمه». فسُمي المسيح هنا اللَّه. فلو لم يكن اللَّه بالحقيقة لما جاز أن يُدعى بهذا الاسم. وربما استغرب البعض قول الرسول بولس هنا «كنيسة اللَّه التي اقتناها بدمه» غير أن ذلك وفق عادته في أن يدعو الكنيسة «كنيسة اللَّه» (1كو 1: 2 و10: 32 و11: 22 و15: 9 و2كو 1:1 وغل 1: 13 و1تس 2: 14 و1تي 3: 15). وهو لم يدعها «كنيسة الرب». وهذه العبارة هي في أقدم النسخ وأشهرها كالسينائية والفاتيكانية، وفي أقدم الترجمات أيضاً على نفس هذه الصورة.

23 - ما هي أهم الآيات في إنجيل يوحنا التي تثبت لاهوت المسيح؟
* (1) يو 1:1-18 وهي مقدمة إنجيل يوحنا، وتتضمن موضوع كل إنجيله ورسائله التي اجتهد أن يُقنع الناس بها أن يسوع هو اللَّه في الجسد، وأن الاعتراف به ضروري للخلاص. وقد سماه في هذه المقدمة «الكلمة» إشارةً إلى أنه مقرّ الحكمة الإلهية ومصدر تعليم الحق. وهو يعلمنا فيها: (أ) يسوع المسيح أزليّ، كان في البدء قبل وجود العالم. (ب) بين المسيح واللَّه اتحاد تام «والكلمة كان عند اللَّه». (ج) هو اللَّه «وكان الكلمة اللَّه». (د) خالق كل الأشياء «كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان». (هـ) واجب الوجود «فيه كانت الحياة» وهذا لا يصدق إلا على اللَّه، لأن له وحده الحياة في ذاته. (و) هو نور الناس «والحياة كانت نور الناس». (ز) هو النور الحقيقي الذي يضيء في وسط عالم منفصل عن اللَّه «والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه». فأهل العالم هم أولاد الظلمة الذين لا يدركون النور، لأنهم لا يعرفون أن الكلمة هو اللَّه خالق العالمين ومصدر الحياة والعلم. وأما الذين يعرفونه فيعطيهم سلطاناً أن يصيروا أولاد اللَّه، ويرفعهم إلى مقام أولاد اللَّه وسعادتهم. (ح) الكلمة هذا صار جسداً أي صار إنساناً. وفي مجد الكلمة المتجسد قال الرسول عن نفسه وعن سائر التلاميذ: «رأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمةً وحقاً» أي أن ذلك المجد لا يمكن أن يستقر إلا في مَنْ هو ابن اللَّه الأزلي المساوي للآب.

(2) يو 1: 43-51 وهي قصة نثنائيل التي يظهر منها أن المسيح يفحص قلوب الناس ويعرف أسرارهم.
(3) يو 3 حديث المسيح مع نيقوديموس الذي تكلم فيه بسلطان إلهي وأعلن أموراً سماوية، وأسند كلامه بأنه من السماء، ثم وضَّح أن مجيئه إلى العالم هو أقوى دليل على محبة اللَّه، وأن خلاص البشر يتوقف على الإيمان به.
(4) يو 5 وفيه تذمُّر اليهود على المسيح لأنه شفى أعرج في السبت، وقد برر المسيح نفسه بقوله: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل». وأنه يفعل كل ما يفعله الآب وأنه يُحيي مَنْ يشاء، وأن كل الدينونة مُسلَّمة إليه، وأنه يستحق الإكرام الذي يستحقه الآب.
(5) يو 6 وفيه وضَّح المسيح أنه هو مصدر الحياة، وقال: «أنا هو خبز الحياة. مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية».
(6) يو 8 وفيه أعلن أنه هو نور العالم، وأنه هو وحده يهب الناس الحرية الحقيقية من سلطة الخطية ودينونتها، وأنه هو المخلّص الوحيد منذ البدء، وموضوع إيمان إبراهيم، وأن إبراهيم رأى يومه وفرح، وأنه قبل أن يكون إبراهيم هو كائن.
(7) يو 10 وفيه أعلن أنه هو الراعي (أي الرئيس) لكل شعب اللَّه، وهم يسمعون صوته ويتبعون خطواته ويلجأون لحمايته، وهو يضع حياته لأجلهم ويأخذها أيضاً، ويعطيهم حياةً أبدية، ويؤكد خلاصهم فلا أحد يقدر أن يخطفهم من يده، وأنه هو والآب واحدٌ.
(8) يو 11 وفيه خبر إقامة المسيح لعازر من الموت: (أ) قوله إنه هو القيامة والحياة، أي مصدر الحياة الروحية للنفس والقيامة للجسد. (ب) إنه تثبيتاً لقوته الإلهية أقام لعازر من القبر.
(9) يو 14-16 وهذه الأصحاحات تتضمن خطاب المسيح الأخير لتلاميذه الذي لم ينطق بمثله مخلوق قط. فإنه بدأ بتوصية تلاميذه أن يؤمنوا به كما يؤمنون بالآب، وقال إنه يمضي ليُعدّ لهم مكاناً في السماء ثم يرجع ويأخذهم إليه، وإن معرفته هي نفس معرفة الآب، وإن مَنْ رآه فقد رأى الآب أيضاً. ووعدهم بإرسال الروح القدس، وبإظهار نفسه لهم. وأعلن لهم أنه هو مصدر الحياة الدائم لكنيسته، وأن الاتحاد به ضروري للمؤمنين كاتحاد الغصن والكرمة. وفي أصحاح 17 أنبأ بالمجد الذي كان له عند الآب وبمحبة الآب له قبل كون العالم.
وجاء في إنجيل يوحنا وغيره من البشيرين أنه لما صُلب أظلمت الشمس وتزلزلت الأرض، وقام كثيرون من الأموات، وانشقَّ حجاب الهيكل. ولا شك أن قيامته من الأموات تُثبت قوله إنه ابن اللَّه ومخلّص البشر.

 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

24 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسائل يوحنا؟
* هدف هذه الرسائل أن تثبِّت إيمان المسيحيين في وجه الهرطقات، وأخطرها إنكار أن ابن اللَّه قد ظهر في الجسد، فقال يوحنا في فاتحة رسالته الأولى: «الذي كان من البدء. الذي سمعناه. الذي رأيناه بعيوننا. الذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركةٌ معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح». ففي هذا المقدمة يؤكد الرسول لاهوت المسيح، وأنه متميّز أقنومياً عن الآب، وأنه والآب جوهر واحد، متساويان في القدرة والمجد. فالمسيح كان من البدء، وهو الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. فكما أن للآب حياةً أبدية في ذاته، كذلك المسيح أيضاً مصدر الحياة لغيره.
وقال يوحنا أيضاً: «كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من اللَّه». وختم رسالته الأولى بقوله «نعلم أن ابن اللَّه قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية».
25 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح في سفر الرؤيا؟
* هدف هذا السفر أن يُظهِر مجد المسيح وانتصار ملكوته، فجاء في فاتحته: «النعمة لكم والسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي، ومن السبعة الأرواح التي أمام عرشه، ومن يسوع المسيح» (1: 4). فالمسيح هو مصدر النعمة والسلام، كما أن مصدرهما الآب والروح القدس على السواء. ويقول سفر الرؤيا إن المسيح «رئيس ملوك الأرض» وإنه قد جعل شعبه مملكةً (على ما في حاشية الإنجيل بالشواهد). وكهنة اللَّه، وإن له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. واقتبس قول المسيح عن نفسه: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء» (1: 8). وظن البعض أن عبارة «القادر على كل شيء» جاءت في آياتٍ أخرى عن الآب (2كو 6: 18 ورؤ 4: 8 و11: 17 و15: 3 و16: 7 و19: 6، 15، 21: 22) فقالوا إن تلك العبارة لا تشير للمسيح. ولكن قولهم غير صحيح بدليل أن الألقاب الأخرى في هذه الآية خاصة بالمسيح (رؤ 1: 17 و2: 8 و21: 6 و22: 13). وبدليل أن تلك العبارة وردت في سياق الكلام عن المسيح، لأنه هو موضوع الآية السابقة وما يتلوها. وقد نسب المسيح لنفسه في رسائله للسبع الكنائس أسماء اللَّه وحقوقه، وأطلق على نفسه «المُمسك السبعة الكواكب في يمينه» وقيل عنه: «في يده اليمنى سيف ذو حدين، وعيناه كلهيب نار، وله سبعة أرواح اللَّه، وأنه هو القدوس الحق الذي له مفتاح داود، الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح» (أي إذا حكم لا يمكن رفع الدعوى لغيره). ووبَّخ الكنائس على خطاياهم، ومدحهم على إيمانهم بناءً على أنه هو الحاكم المطلق وأن كل خطية هي ضده، وكل طاعة هي له. وتهديداته ومواعيده هي ما يختص باللَّه وحده. وقيل إن الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرين شيخاً خرُّوا أمامه وهم يرنّمون ترنيمة جديدة، وإن الملائكة والحيوانات والشيوخ هتفوا له: «مستحق هو الحَمَل المذبوح أن يأخذ القدرة والغِنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة» وكل خليقة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، وعلى البحر، كل ما فيها قالوا: «للجالس على العرش وللحمَل (على السواء): البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين» (5: 8-13). فإذا قارنّا هذه الآيات بما جاء في التسبيحة التي قُدّمت للَّه الآب (7: 10، 12). لا نرى فرقاً بين الإكرام والقدرة والقوة والخلاص والسلطان وبين ما نُسب في رؤيا 5 للمسيح (ما عدا الغِنى). وقد ورد في سفر الرؤيا ما يدل على أن المسيح والآب معاً مصدر السعادة والأفراح السماوية على السواء، ومن ذلك القول: «لأن الحمَل الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح اللَّه كل دمعة من عيونهم» (7: 17). وأن «الرب اللَّه القادر على كل شيء هو والحمَل هيكلها. وأن المدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد اللَّه قد أنارها والحمَل سراجها» (21: 22، 23) وأن «النهر الصافي خرج من عرش اللَّه والحمَل، وأن عرش اللَّه والحمل يكون فيها» (22: 1، 3). وقيل أيضاً إن للمسيح «على ثوبه وعلى فخذه اسماً مكتوباً : ملك الملوك ورب الأرباب» (19: 16). وإن القديسين سيكونون كهنة للَّه وللمسيح (20: 6) أي يقدمون القرابين والذبائح لكليهما، وإن أورشليم الجديدة هي كرسي ملكوت المسيح وإنه هو نورها ومجدها وبهاؤها.
26 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسالة رومية؟
* ورد فيها أن المسيح هو ابن اللَّه (1: 4) وموضوع الإيمان (10: 9، 10) وديَّان العالم (2: 16) والذي يصالحنا مع اللَّه (5: 11) وواهب الحياة الأبدية (5: 21 و6: 23). وما نُسب في العهد القديم إلى يهوه نُسب في تلك الرسالة إليه. وجاء فيها أيضاً أن المسيح «الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد» (رو 9: 5) وهذه العبارة من أقوى الأدلة على لاهوت المسيح لما فيها من الصراحة التامة.

27 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسالتي كورنثوس؟
* مما أُعلن فيهما عن لاهوت المسيح:
(1) هو المعبود الحقيقي (1كو 1: 2).
(2) هو مصدر المواهب الروحية (1كو 1: 4-9، 30، 31).
(3) هو رب المجد (1كو 2: 8).
(4) به خُلق الكون (1كو 8: 6).
(5) هو يهوه العهد القديم الذي قاد بني إسرائيل في البرية (1كو 10: 4، 9).
(6) هو الرب الذي لا يقدر أحد أن يقول إنه رب إلا بالروح القدس، وهو يعطي المواهب الروحية (1كو 12).
(7) هو الذي سيُخضع لنفسه كل الكون (1كو 15: 24، 25).
(8) هو روح محيٍ (1كو 15: 45).
(9) هو الموضوع الحقيقي للمحبة الفائقة، وعدم المحبة له يوجب الأناثيما (اللعنة) (1كو 16: 22).
(10) هو أصل النعمة التي نطلبها في الصلاة (1كو 16: 23).
(11) هو الذي فيه البركة لانتشار الإنجيل، والنصرة لمن يبشرون به (2كو 2: 14).
(12) هو الذي رؤيته تغيّر نفس المؤمن إلى صورة اللَّه المجيدة (2كو 3: 17، 18).
(13) هو الذي في وجهه يضيء مجد اللَّه (2كو 4: 6).
(14) هو الذي في حضرته سماء المؤمن (2كو 5: 6-9).
(15) أمام عرشه سيُدان جميع البشر (2كو 5: 10).
(16) محبته أعظم محرّكٍ للغيرة (2كو 5: 14).
(17) إن كان أحد فيه يكون خليقة جديدة (2كو 5: 17).

28 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسالة غلاطية؟
* قول الرسول:
(1) إنه صار رسولاً ليس بمشيئة إنسان بل بمشيئة يسوع المسيح (1:1).
(2) يتوقف التبرير على الإيمان به (2: 16).
(3) تُبنى الحياة الروحية على الإيمان به (2: 20، 21).
(4) يحيا فينا (2: 20).
(5) افتدانا من لعنة الشريعة (3: 13).
(6) هو نسل إبراهيم الذي فيه تتبارك كل قبائل الأرض (3: 14، 16).
(7) الإيمان به يجعلنا أبناء اللَّه (3: 26).
(8) الروح القدس هو روحه (4: 6).
(9) مشيئته هي شريعتنا (6: 2).
(10) نعمته هي بركة عظيمة (6: 18).
29 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسالة أفسس؟
* مما يدل على لاهوت المسيح فيها:
(1) فيه يُجمع كل شيء، ما في السماوات وما على الأرض (1: 10).
(2) لنا به الحياة الأبدية (1: 11، 14).
(3) هو فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسمٍ يُسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، أي أنه فوق جميع المخلوقين (1: 21).
(4) به نقوم من موت الخطية، وبه ننال الحياة الروحية (2: 1-7).
(5) هو يملأ الكون (1: 23 و4: 10).
(6) هو رأس الكنيسة (4: 15).
(7) هو مقدِّس الكنيسة (5: 26).
(8) تُبنى واجبات الناس بعضهم لبعض على وجوب الطاعة له (6: 1-9).

30 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسالة فيلبي؟
* يتَّضح منها أن المسيح هو مصدر النعمة والسلام والبرّ (1: 2، 11). وأوضح إثبات للاهوته يُرى في 2: 6-11 حيث قيل:
(1) إنه كان في صورة اللَّه (أي كان له الصفات الخاصة باللَّه).
(2) إنه مساوٍ للَّه، أي لم يحسب المساواة باللَّه غنيمة (انظر حاشية الإنجيل بالشواهد) لكنه أخلى نفسه.
(3) إنه أخذ صورة إنسان، أي إنه ليس مجرد إنسان، بل إلهٌ متجسد اتّخذ صورة إنسان.
(4) إن هذا الإله اللابس طبيعة البشر وضع نفسه للموت.
(5) إنه لذلك ارتفع (كما هو، إلهاً وإنساناً معاً) فوق كل اسم، لكي تجثو باسمه كل ركبة ممن في السماء ومَنْ على الأرض ومَنْ تحت الأرض. وهذا يعم كل الخليقة من الأعلى إلى الأدنى، فيعرف الجميع أن المسيح هو ربهم الأعظم المطلق. وذلك لا يصدق على غير اللَّه. وبناءً على ذلك قال بولس إنه يحسب كل شيء خسارة من أجل فضل معرفة المسيح، وإن غايته الوحيدة أن يُوجد فيه ويلبس بره (3: 9، 10). ثم قال إن هذا الإله الفادي سيأتي ثانيةً، ويغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء (3: 21).
31 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسالة كولوسي؟
* فيها أدلة كثيرة على لاهوت المسيح، نقتصر على ذكر ما جاء منها في كو 1: 15-20 وفيها بيّن الرسول حقيقة لاهوت المسيح، وردَّ على الهرطقات التي انتشرت حينئذٍ في كنائس آسيا الصغرى. وقد أظهر الرسول علاقة المسيح باللَّه وبالكون وبالكنيسة. فعلاقته باللَّه أنه صورة اللَّه غير المنظور، أي أنه يُظهر اللَّه كما هو حتى أن مَنْ رآه رأى اللَّه، ومن عرفه عرف اللَّه، ومن سمعه سمع اللَّه، وأنه بكر كل خليقة، أي أنه كان قبل إيجاد شيء من المخلوقات، وهو يشير إلى أن المسيح مولود منذ الأزل لا مخلوقٌ، بدليل ما جاء في عبرانيين 1: 6 «متى أدخل (اللَّه) البكر إلى العالم». والدليل على ذلك آية 16 التي نسبت كل الخليقة إليه. فلو كان واحداً منها للزم أنه خلق نفسه، وهو محالٌ. وأيضاً ما جاء في آية 17 حيث قيل إنه قبل كل شيء.
وأما علاقته بالكون فهي:
(1) إنه فيه خُلق جميع الموجودات، ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. أي من أدنى العالم المادي إلى أعلى العالم الروحي.
(2) إنه غاية وجود الخليقة، كما أنه خالقها، لأن كل شيء خلق لأجله.
(3) إنه يحمل كل شيء، و«فيه يقوم الكل» أي الكل محفوظون به في الوجود والحياة والنظام.
وأما علاقته بالكنيسة فهي أنه هو رأسها، ومصدر حياة أعضائها وفضائلهم، لأن فيه حل كل الملء، أي كل البركات الإلهية. وأيضاً لأنه فيه مذخَّر جميع كنوز الحكمة والعلم (أي علم كل شيء) وفيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً، أي أن اللاهوت بكماله قد حل في جسده (2: 3، 9).

32 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسائل تيموثاوس وتيطس؟
* في هذه الرسائل (وخصوصاً رسالة تيطس) بيَّن الرسول لاهوت المسيح في قوله «منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد اللَّه العظيم (تُرجمت هذه العبارة أيضاً: مجد إلهنا العظيم) ومخلّصنا يسوع المسيح» (تي 2: 13). ومما يدل على أن هذه العبارة تشير إلى المسيح نسبة الظهور في الكتاب المقدس إلى المسيح لا إلى الآب، واستعمل بولس كلمة «الظهور» للمسيح خمس مرات (في 1تي 6: 14 و2تي 1: 10 و4: 1، 8 و2تس 2: 8). ولم يستعملها مطلقاً للآب بل نسب للآب عكس ذلك (أنه غير منظور). قال الذين ينكرون أن تي 2: 13 تشير إلى المسيح، إن هذا القول ليس في ظهور مجد المسيح، بل ظهور الآب، لأنه يوافق أقوالاً أخرى في الكتاب في شأن ظهور مجد الآب. وهو قول مرفوض، لأن في الكتاب أيضاً كلاماً على ظهور مجد المسيح ومن ذلك قوله: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده» (مت 25: 31). «بهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده»(لو 9: 26). ومن الأدلة أيضاً ورود هذه الكلمة في سياق كلام الرسول على المسيح كما يظهر من القرينة (آية 14). فهذه الآية من النصوص على لاهوت المسيح. نعم اعترض بعض منكري لاهوت المسيح على تسميته «اللَّه العظيم» ولكن هذا مردودٌ بأن بولس دعاه «اللَّه» تكراراً في رسائله فقال إنه «إلهٌ مباركٌ إلى الأبد» (رو 9: 5). و«إنه صورة اللَّه غير المنظور» (كو 1: 15). وقال أيضاً «وأما عن الابن: كرسيُّك يا اللَّه إلى دهر الدهور» (عب 1: 8). وفي خطابه إلى قسوس كنيسة أفسس تكلم عن «كنيسة اللَّه التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28). ووافقه في ذلك يوحنا الرسول بقوله «هذا هو الإله الحق» (1يو 5: 20).

ومن النصوص أيضاً على لاهوت المسيح في تلك الرسائل قوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى: اللَّه ظهر في الجسد، تبرَّر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أُومن به في العالم، رُفع في المجد» (1تي 3: 16). وقُرئَ «الذي ظهر» (انظر حاشية الإنجيل العربي بالشواهد). و كلمة «الذي» عوض اسم الجلالة في صدر العبارة، بدليل ورودها في أقدم النسخ اليونانية (الثلاثية الحرف) وأضبطها وأقدم الترجمات كافةً. ولا شك أن كلمة «الذي» هنا تشير للمسيح، لأنه هو وحده ظهر في الجسد وتبَرَّر في الروح وتراءى لملائكة وكُرز به بين الأمم وأومن به في العالم ورُفع في المجد. والجملة التي تبدأ بكلمة «الذي» والتي تنتهي بنهاية الآية هي جزءٌ من ترنيمة قديمة عن المسيح، اشتهرت في الكنيسة في العصر الرسولي. ومما يرجح صحة قراءة «الذي» عدم ذكر اللاهوتيين القدماء هذه الآية مع الآيات الكثيرة التي أوردوها ليثبتوا لاهوت المسيح وهم يردّون على ضلالة أريوس. أما سبب تبديل كلمة «الذي» بكلمة «اللَّه» في النسخ اليونانية الحديثة فهو ما بين اسم الجلالة (حيث كُتبت على صورتها المختصرة بحرفين فقط) وكلمة «الذي» من المشابهة في صورة كتابتها، فليس بينهما فرق إلا في خط صغير يقرب من النقطة التي تفرّق بين الجيم والحاء أو العين والغين في الكتابة العربية. والراجح أن النسّاخ زادوا ذلك الخط الصغير ليوضحوا المعنى في بعض النسخ، فتحوَّلت كلمة «الذي» إلى «اللَّه». ثم شاع استعماله له في كل نسخ القرون المتوسطة خلافاً للنسخ القديمة التي لم يُرَ فيها إلا كلمة «الذي».
وقراءة (الذي) تثبت لاهوت المسيح بدلالة الالتزام، لأن ظهوره في الجسد يستلزم وجوده السابق عند اللَّه، حسب قول البشير: «والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمةً وحقاً» (يو 1: 14). والقول «تبرر في الروح» يدل على أن ما قاله عن نفسه قد تثبَّت صدقه بالروح القدس. وكونه «تراءى لملائكة» يفيد أنهم أقرُّوا به. و«الكرازة به بين الأمم» تدل على أنه قد أتى مخلّصاً للعالم. وأنه قد «أُومن به في العالم» يدل على أن العالم قد قبله مخلّصاً واتكل عليه. وأنه «رُفع في المجد» يدل على تقلُّده السلطان المطلق وجلوسه عن يمين اللَّه الآب حيث يحيا ويملك ويشفع. وكل ذلك لا يصح إلا على المسيح ابن اللَّه الحي.
أما قول الرسول «بحسب أمر اللَّه مخلصنا» (1تي 1:1) و«بحسب أمر مخلصنا اللَّه» (تي 1: 3) فالأصح فيه أن هذه العبارة تشير إلى اللَّه الآب لا إلى المسيح، بدليل أن الآب دُعي مخلصاً في تلك الرسائل الرعوية عدة مرات (1تي 2: 3 و4: 10 وتي 2: 10 و3: 4). ولا يوجد ما يمنع وصف اللَّه الآب بأنه «مخلّصنا» فقد عمل لخلاص العالم لما أرسل ابنه، وأعدّ عمل الفداء للبشر الساقطين.

33 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من الرسالة إلى العبرانيين؟
* في العبرانيين 1 يبرهن الكاتب لاهوت المسيح، ليثبّت المسيحيين من أصلٍ عبراني في إيمان الإنجيل، فأوضح لهم فضل الإنجيل الفائق على نظام العهد القديم. والأمر الأول الذي يُظهر هذه الأفضلية أن المسيح أفضل من موسى وسائر الأنبياء، لأنه ابن اللَّه، وهو وارث كل شيء، وبه عمل اللَّه العالمين، وأنه بهاء مجد اللَّه، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. وأنه صنع كفارة للخطية، وأنه الآن في لاهوته وناسوته كليهما جالسٌ في يمين العظمة في الأعالي. وأخذ يبرهن هذه الحقائق من:
(1) تسمية المسيح «ابن اللَّه» (آية 5). وهي تسمية لم تُعطَ في الكتاب (بهذا المعنى الخاص) لأحد من المخلوقات. فالمسيح إذاً أعلى من الملائكة والإنسان، ولذلك هو أعلى من جميع الخلائق.
(2) كل الملائكة مأمورون أن يسجدوا له (آية 6).
(3) رِفعته عن الملائكة، فهم خدّام ينفذون أوامر اللَّه، وهو إله بدليل قوله «كرسيك يا اللَّه إلى دهر الدهور» (آية 8).
(4) وضع المسيح أسس الأرض والسماوات هي عمل يديه (آية 10).
(5) المخلوقات قابلةٌ للتغيُّر، وأما هو فعديم التغيُّر وأزلي (آية 12).
(6) إنه مساوٍ للَّه في المجد والحكم (آية 13).
وبناءً على كل ذلك قال الرسول إنه لا خلاص لمن يرفض هذا التعليم (2: 1-5) وقال بعد ذلك في هذه الرسالة إن الذبيحة التي قدمها المسيح كاهننا بالطبيعة البشرية التي اتّخذها لنفسه هي فعالة كافية، لا تحتاج إلى تكرار، بسبب علوّ شأنه، لأنه إلهٌ وابن اللَّه السرمدي. وقال أيضاً إنه لا يزال إلى الأبد كاهناً أعلى من السموات، قادراً أن يخلّص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى اللَّه، وإنه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، وإن الإيمان به يقدّرنا على غلبة العالم كما أن الإيمان بالمواعيد به قدَّر القدماء على الاعتراف الحسن في وسط التجارب والضيقات الشديدة.
34 - ما هي الأدلة على لاهوت المسيح من رسائل يعقوب وبطرس؟
* قال الرسولان بلاهوت المسيح، فسمّاه الرسول يعقوب «الرب» و«رب المجد» (يع 2: 1). ووضَّح بطرس في رسالته الأولى أنه يستحق أعظم المحبة، وأن الإيمان به يؤكد الخلاص، وأن روحه كان حالاً في الأنبياء القدماء، وأنه هو أساس الكنيسة (1بط 2: 6). وأنه بعد ما تألم وهو البار من أجل الأثمة ارتفع إلى يمين اللَّه، وجميع الخلائق مُخضَعة له (1بط 3: 18). ووضَّح في رسالته الثانية أن معرفة المسيح هي مصدر النعمة والسلام والقداسة (2بط 1: 2، 8) وسمّاه ربنا يسوع المسيح (2بط 1: 8). وأن المؤمنين يدخلون إلى ملكوته الأبدي عند موتهم (2بط 1: 11). وقال إنه كان شاهد عيانٍ لمجده على الجبل المقدس (2بط 1: 16-18).

35 - ما هي نتيجة رفض لاهوت المسيح؟
* (1) لو لم يكن المسيح هو اللَّه لبطلت شهادة المسيح لنفسه، فقد قال «أنا والآب واحد» «لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب». «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا بي». «لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه.. الذي رآني فقد رأى الآب.. ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ؟ صدقوني أني أنا في الآب والآب فيَّ». وتفيد كل هذه أن المسيح جعل نفسه مساوياً للَّه، بل هو اللَّه نفسه. وفهم اليهود ذلك منه وقالوا له: «لسنا نرجمك لأجل عملٍ حسنٍ بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسانٌ تجعل نفسك إلهاً». ولما كان مستحيلاً أن ينطق مخلوق بهذا، كان من الأدلة القاطعة على لاهوت المسيح لأنه كلام مَن لا يكذب. وكذلك كيفية استعمال المسيح كلمة «ابن» في قوله إنه ابن اللَّه، فإن لها معنى خاص لا يصدق على غيره. وفهم اليهود هذه التسمية بهذا المعنى فاتهموه بالتجديف. ومن هذا قوله في الحكم الأخير على الأشرار يوم الدينونة: «اذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم» وأيضاً «اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبدية» وكل ذلك لا يجوز أن ينطق به إلا اللَّه وحده. وما قلناه من جهة أقوال المسيح عن نفسه يصح أن يُقال في شأن أقوال الرسل عنه.
(2) لو لم يكن المسيح هو اللَّه لما كان هناك فرقٌ بين اللَّه ومخلوقاته، وهو ما لا يسلّم به أحد. فقد نسب الكتاب للمسيح جميع الصفات الخاصة باللَّه وحده، وصدّق المسيح على ذلك، فقال: «فتشوا الكتب.. هي التي تشهد لي». وقد شهدت له أنه منذ الأزل وإلى الأبد. وقال هو عن نفسه: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن». ونُسب إليه عدم التغيُّر، والوجود في كل مكان، والقدرة على كل شيء، والمعرفة بكل شيء، ونحو ذلك من الصفات الخاصة باللاهوت. فإن لم يكن إلهاً وجب أن نحكم أنه لا توجد صفة تميّز اللَّه عن مخلوقاته.

(3) لو لم يكن المسيح هو اللَّه لما أمكننا أن نثبت وجود اللَّه من الكتاب المقدس، فلو لم يكن المسيح إلهاً لتعذَّر علينا ذلك، لأننا نتعلم من الكتاب المقدس أن أعمال الخلق والعناية هي من أوضح الأدلة على وجود اللَّه. وقد قام المسيح بنفس هذه الأعمال، شهادةً للاهوته. ومن أمثلة ذلك قول الكتاب الذي يدل على وجود اللَّه «في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض» (تك 1:1). وقوله في المسيح «في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة اللَّه. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يو 1:1، 3). وقوله عن اللَّه «من قِدمٍ أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك. وهو نفس القول عن الابن «وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك» (عب 1: 10). وقول اللَّه «أنا الرب صانع كل شيء، ناشر السماوات وحدي، باسط الأرض» (إش 44: 24). والقول في الابن «فيه خُلق الكل، ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى.. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل» (كو 1: 16، 17). وأيضاً قوله «لنا رب واحد يسوع المسيح، الذي به جميع الأشياء ونحن به» (1كو 8: 6). وكل أعمال الخلق والعناية هذه شهادة جلية للاهوت المسيح. فلو كان مخلوقاً للزم عن ذلك أنه هو خلق نفسه (لأنه قيل «وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان») وهو محال. وإذا فحصنا الأسفار المقدسة نرى أن شهادتها للاهوت المسيح ليست أقل من شهادتها للاهوت اللَّه الآب في القوة والوضوح. وقبول الواحدة يستلزم قبول الثانية.

(4) لو لم يكن المسيح هو اللَّه لما كان للاهوت عبادة خاصة يمتاز بها عن المخلوقات، وهو باطلٌ عقلاً ونصاً. وبيان ذلك أن جميع الألقاب المنسوبة إلى اللَّه من حيث أنه الإله المعبود قد نُسبت إلى المسيح أيضاً، ولذلك أُمر كل البشر أن يعبدوه كما يعبدون الآب. فقيل «لكي تجثو باسم يسوع كل ركبةٍ ممن في السماء ومَنْ على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد اللَّه الآب» (في 2: 10، 11). ولأنه مكتوب «أنا حي يقول الرب، إنه لي ستجثو كل ركبة وكل لسان سيحمد اللَّه» (رو 14: 11). والمعبود العظيم الذي رآه يوحنا هو الحمَل المذبوح أي المسيح (رؤ 5: 8-14). وقيل أيضاً «متى أَدخل (اللَّه) البكر إلى العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة اللَّه. وأما عن الابن: كرسيُّك يا اللَّه إلى دهر الدهور». فترى من هذه النصوص أن الملائكة والبشر أُمروا أن يعبدوا المسيح كما يعبدون اللَّه. فلو لم يكن هو اللَّه لكان قد أمرنا في كتابه أن نعبد المخلوق!

(5) لو لم يكن المسيح إلهاً لكان من أشد الناس خداعاً، ويكون قد أسّس ديانته على الكذب، لأنه نادى بذلك مراراً كثيرة، وقبِل كل كرامة إلهية قُدمت له. ولكن المسيح عاش على الأرض أطهر عيشة، وكان طول حياته يهاجم الضلال والفساد، وأوصى بالمحبة والصدق والأمانة وعمل الخير والإحسان حتى إلى الأعداء. ثم ختم حياته الصالحة بموته لأجل صدقه ونقاوة سيرته، ثم قام من بين الأموات قيامة عزيز مقتدر، وأسس ديانته على مبادئ الحق والاستقامة والرحمة.

(6) لو لم يكن المسيح هو اللَّه فلا يكون هو الموعود به في العهد القديم، لأن الموعد هو أن المسيح يكون إلهاً وإنساناً معاً، وينقذ شعبه من عبودية إبليس ويبيد العبادة الوثنية ويقيم ديانة روحية. فإن لم يكن يسوع إلهاً لم يكن هو المسيح المنتظَر، وتكون الديانة التي أسسها وثنية لا روحية، والديانة اليهودية أصدق منها. ويكون المسيح الموعود به لم يأتِ بعد!

(7) لو لم يكن المسيح هو اللَّه لكان الكتاب المقدس غير معصوم، فيبطل كل ما أثبته لنا في شأن المسيح وتعاليمه وكفارته الكاملة التي قدمها، ولما كانت هناك قيمة لدمه المسفوك لأجلنا، ولوقع البشر في بالوعة اليأس. لأنه لما كان ينبغي أن الذي يكفّر عن خطايا العالم يكون إلهاً وإنساناً كان رفض لاهوت المسيح رفضاً للكتاب المقدس وتعليم الخلاص بدمه المسفوك لأجلنا.

36- هل اختلفت شهادة الكنيسة للاهوت المسيح منذ إنشائها إلى الآن؟
* لا، بل هي واحدة كما يظهر من المؤلفات الدينية المتواصلة التي لا تُحصى. وفي أقدم الكتابات المسيحية الباقية إلى الآن من الشهادات ما يستحق الاعتبار الكلي. فجاء في رسالة أكليمندس الروماني (في أواخر القرن الأول) أن المسيح هو «صولجان الجلالة الإلهية». وفي إحدى رسائل إغناطيوس (في بداية القرن الثاني) دُعي يسوع المسيح إلهاً، وقيل في دمه إنه «دم اللَّه». وفي الرسالة المنسوبة إلى برنابا (في أواخر القرن الأول) قيل في المسيح إنه «هو الذي كلّمه اللَّه حين خلق العالم قائلاً: لنعمل الإنسان على صورتنا». وفي السفر المسمى بالراعي المنسوب إلى هرماس (في نحو منتصف القرن الثاني) قيل «ابن اللَّه هو قبل كل مخلوق، وكان يعمل مع الآب في خلق العالم». وفي الرسالة إلى ديوجنيتوس قيل «كما أرسل الملك ابنه هكذا أرسل اللَّه ابنه إلهاً». والرسائل التي اقتبسنا منها كُتبت في بلدان متفرقة، فرسالة أغناطيوس من آسيا الصغرى، والرسالة المنسوبة إلى برنابا من الكنيسة المصرية، ورسالة أكليمندس من روما، والرسالة إلى ديوجنيتوس على الأرجح من بلاد اليونان.
ومن الشهادات الوثنية المعتبرة في أواخر القرن الأول أن المسيحيين يؤمنون بلاهوت المسيح ما جاء في رسالة أفلينيوس إلى الإمبراطور تراجان التي فيها يطلب منه الإفادة عن كيفية معاملة المسيحيين الساكنين في مقاطعته في آسيا الصغرى ويقول في مسيحيّي عصره «إنهم يرتلون ترنيماتٍ للمسيح على أنه إلهٌ».

37 - ما هو الرد على اعتراض البعض على لاهوت المسيح، والذي بنوه على الآيات التي تثبت ناسوته؟
* كثيراً ما اقتبس المعترضون على لاهوت المسيح آياتٍ تثبت ناسوته زاعمين أنها تبرهن أنه ليس إلهاً. فنجيب أن المسيح إلهٌ وإنسانٌ معاً، فيصح عليه قولان يظهران متناقضين. نقول «يظهران» لأن ما يدل على أنه إنسان لا ينفي أنه إله أيضاً، وكذلك ما يدل على أنه اللَّه لا ينفي أنه إنسان أيضاً.
38 - ما هو الرد على اعتراض البعض على لاهوت المسيح، والذي بنوه على الآيات التي تقول إن الآب أعظم منه؟
* كثيراً ما بنى المعترضون على لاهوت المسيح اعتراضاتهم على الآيات التي تفيد أن الآب أعظم من الابن، وأن الابن أقل الآب، زاعمين أنها تُبطل الاعتقاد بلاهوت الابن. ومن ذلك القول إن الابن مُرسَل من الآب (يو 17: 3) ولأنه «يوجد إلهٌ واحد ووسيط بين اللَّه والناس، الإنسان يسوع المسيح» (1تي 2: 5). و«أبي أعظم مني» (يو 14: 28). وأجابهم يسوع «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني» (يو 7: 16). و«الكلام الذي أكلّمكم به لست أتكلم به من نفسي» (يو 14: 10). «وأنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً» (يو 5: 30) «واللَّه جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً» (أع 2: 36). «وهذا رفعه اللَّه بيمينه رئيساً ومخلصاً» (أع 5: 31).

فنجيب: كل هذه الآيات لا تنفي علاقة المسيح بالآب في الثالوث الأقدس، بل تشير إلى أن الابن من حيث كونه إنساناً مُرسلاً من اللَّه لإتمام الفداء هو دون الآب في العلاقة التي بينهما، لأنه مُرسَل من قِبل الآب ليتمم مشيئته بالتجسُّد وتقديم نفسه كفارةً عن البشر. ثم نال منه جزاء عمله، وتقلّد سلطاناً خاصاً، وهو أنه جلس عن يمينه كملك الكون إلى أن يتمم كل ما يتعلق بالفداء، ثم يسلّم الملك إلى الآب. غير أن ذلك لا يناقض أنه إله، بل يشير إلى علاقته بالأقنوم الأول من اللاهوت في إتمامه عمل الفداء، وهي علاقة المرسَل بمرسِله. فهو دون الآب في العمل لا في الجوهر الإلهي، والآب أعظم منه ليس في جوهره ولا في طبيعته الإلهية، بل في الأعمال المتعلقة بالفداء، لأنه أُرسل منه. وعلى ذلك قيل إنه لا يتكلم من نفسه، وإنه من نفسه لا يقدر أن يعمل شيئاً.

وقد قال المسيح عن ساعة مجيئه ثانية وانقضاء العالم: »أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحدٌ، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب« (مر 13: 32). فقد كانت له طبيعتان، فهو إنسان كامل وإله كامل، وهو تارةً يتكلم باعتبار كونه إنساناً كما قال عند قبر لعازر: »أين وضعتموه؟« (يو 11: 34) وتارة يتكلم كإله: »هلمَّ خارجاً« (يو 11: 43) فيقوم الميت. فكان يمكنه إن شاء أن يجعل ناسوته لا يستفيد من لاهوته، لأنه »أخلى نفسه (بإرادته) صائراً في شبه الناس« (في 2: 6، 7).
لقد كان مجد المسيح مساوياً لمجد الآب، ولكنه تنازل عنه طوعاً لفترة محدودة ليكمل عمل الفداء بالموت عنا مصلوباً. ولما أُكمل عمل الفداء عاد إلى مجده الأول. وقد قال المسيح: «أنا مجَّدتُك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملتُه. والآن مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يو 17: 4، 5). فإن كنا نتكلم عن أن المسيح أقل من الآب، فذلك في فترة تنازله، ولأداء عمل الفداء. تنازل في اختصاصاته، وليس في شخصه.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الخامس عشر

الروح القدس


1 - ما هي أشهر معاني كلمة «روح» في الكتاب المقدس؟
* جاءت كلمة «روح» بمعنى ريح أو نسمة، وهو معناها الأصلي، فاستُعملت عن بعض القوات غير المنظورة مثل «روح العرافة» (أع 16: 16) و«روح الضلال» (1يو 4: 6 و1تي 4: 1) و«روح المسيح» (1يو 4: 3). وعُبّر بها عن اتجاهات خاصة في الإنسان فقيل «المنسحق والمتواضع الروح» (إش 57: 15) و«روح الوداعة» (1كو 4: 21) و«روح منكسرة» (مز 51: 17) و«روح الفَشَل» (2تي 1: 7) و«روح سُبات» (رو 11: 8). وسُمّي بها الملائكة الأبرار والأشرار (عب 1: 14 ومز 104: 4 ومر 3: 11 و9: 25 وأع 19: 12 وأف 6: 12). وسُمِّي بها ما هو غير مادي، كنفس الإنسان واللَّه، واستُعملت على الخصوص اسماً للأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.

ومن المهم جداً أن نعرف من هو الروح القدس. هل هو مجرد تأثير إلهي، أو قوة روحية عظيمة؟ أم هو روح اللَّه، الأقنوم الثالث في اللاهوت؟

يقول إقرار الإيمان: «نؤمن بالروح القدس، الرب الحي، المحيي، المنبثق من الآب». فإن كان الروح القدس مجرد تأثير أو قوة إلهية، يحقُّ لنا أن نحصل عليها لنستخدمها في حياتنا الإيمانية، وخدماتنا الكنسيَّة، وعملنا الروحي. لكن إن كان الروح القدس هو روح اللَّه الذي يحيي موتى الذنوب، فيجب أن نُسلِّم له نفوسنا، ليستخدمنا كما يشاء هو. وما أكبر الفرق بين استخدام الروح لنا، واستخدامنا له.

ومن المهم أن نعرف إن كان هو الأقنوم الثالث في اللاهوت، فنقدم له التعبُّد، ونؤمن به، ونُخلِص له، ونحبه.. أو إن كان مجرد قوة تساعدنا في حياتنا الروحية!
غير أن كل قارئ للكتاب المقدس يرى بوضوح أن الروح القدس شخص، ذو صفات إلهية، ويقوم بأعمال لا يقوم بها إلا اللَّه، وقد وهب بركاتٍ عظيمة لكل المؤمنين الذين عرفوه وسلَّموا نفوسهم له باعتباره الأقنوم الثالث في اللاهوت. ويُنسَب إليه كشخص: العقل والمعرفة، ومشاعر المحبة والحزن. ويقف الناس منه المواقف التي يقفونها من الأشخاص، فيثورون ويكذبون ويجدّفون عليه، ويزدرون به، ويُحزنونه. فليس الروح القدس تأثيراً ولا انفعالاً ولا مجرد قوة، بل هو شخص اللَّه ذاته. إنه روح اللَّه، وأحد الأقانيم الثلاثة «فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد» (1يو 5: 7). (كلمة «أقنوم» كلمة سريانية تدل على من يتميَّز عن سواه، بغير انفصال عنه).

2 - لماذا سُمّي الأقنوم الثالث «الروح القدس»؟
* لما كانت تسمية أقانيم الثالوث الأقدس من الأسرار الإلهية، فيجب أن يكون كلامنا فيها مبنياً على الكتاب المقدس. ومنه نرى أنه سُمّي «الروح» ليس لأن بينه وبين الأقنومين الآخرين تمييزاً في روحانية الجوهر، لأنهم متساوون في ذلك، بل إشارةً إلى عمله غير المنظور وهو إنارة أرواحنا وإرشادها وتجديدها وتقديسها، ولذلك سُمّي أيضاً «روح القداسة» و«روح الحق» و«روح الحكمة» و«روح السلام» و«روح المحبة» لأنه ينشئ كل ذلك فينا. وسُمي «المعزي» (يو 14: 26)، و«روح الحق» (يو 14: 17 و15: 26)، و«روح القداسة» (رو 1: 4)، و«روح الحياة» (رو 8: 2)، و«روح المسيح» (رو 8: 9)، و«روح التبنّي» (رو 8: 15)، و«روح الابن» (غل 4: 6)، و«روح الموعد القدوس» (أف 1: 13)، و«روح الحكمة والإعلان» (أف 1: 17)، و«روح يسوع المسيح» (في 1: 19)، و«روح المجد» (1بط 4: 14). وكلمة «القدس» تميزه عن جميع الأرواح المخلوقة التي هي دونه في القداسة بما لا يُقاس. وتسميته بالروح القدس يشير إلى عمله غير المنظور، وهو إنارة أرواحنا وتجديدها وتقديسها وإرشادها. وهو ينشئ كل الفضائل فينا.
3 - ماذا قال العهد القديم في الروح القدس؟
* سُمي فيه «الروح» و«روح اللَّه» و«روح الرب» و«الروح القدس» و«روح قدس اللَّه» «روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب» (إش 11: 2)، و«روح النعمة» (زك 12: 10). وأُضيف اسم الروح القدس إلى ضمير الجلالة في المتكلُّم والمخاطب والغائب، فقال اللَّه : «روحي» وقيل له «روحك» وقيل عنه «روحه». ومما نُسب إليه من الأعمال «روح اللَّه يرفّ على وجه المياه» (تك 1: 2) مشيراً إلى اشتراكه في خلق الكائنات. وقال اللَّه عن بصلئيل «ملأتُه من روح اللَّه بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعةٍ» (خر 31: 3) وعضد الرب موسى ورفقاءه في العمل بروحه (عد 11: 17، 25) وقول أليهو «روح اللَّه صنعني» (أي 33: 4) وقيل «هل قصُرت روح الرب؟» (مي 2: 7) إشارةً إلى قوته غير المحدودة. وقال نحميا إن اللَّه أعطى في القديم روحه الصالح لتعليمهم (نح 9: 20) وقال اللَّه إنه سكب روحه على نسل شعبه ليُرجعهم إليه (إش 44: 3) وقال «لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود» (زك 4: 6) مشيراً إلى عظمة قوته ومجد قدرته. وقيل إن بني إسرائيل «تمرَّدوا وأحزنوا روح قدسه» (إش 63: 10). وصلى داود «روحك القدوس لا تنزعه مني» (مز 51: 11).

وقد زاد تعليم العهد الجديد عن الروح القدس وضوحاً عن العهد القديم، فاستطعنا أن نفهم التفسير الصحيح لأقوال العهد القديم بمقارنتها بأقوال العهد الجديد عنه، فالكتاب يفسّر نفسه بنفسه، والتعاليم الواضحة فيه تفسّر المُبهمة، والمستوفية تفسّر المختصرة. فنرى أن روح اللَّه الذي رفَّ على وجه المياه، ودان في الإنسان قبل الطوفان، وحلَّ على موسى، وأعطى الحكمة والفهم للذين أقاموا خيمة الاجتماع، وألهم الأنبياء، ليس مجرَّد قوة إلهية، لكنه شخصٌ، لأن المسيح وعد أن يرسله معزياً وشفيعاً، ثم حلَّ على الرسل، وهو الفاعل العظيم في تعليمنا وإرشادنا وتقديسنا.
فيتضح من كل ما قيل في الروح القدس في العهد القديم أنه أقنوم، غير أنه لم يتضح لكنيسة العهد القديم أنه الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، كما انجلى لكنيسة العهد الجديد. نعم إن اللَّه ثلاثة أقانيم في جوهر واحد منذ الأزل، غير أن معرفة ذلك أُعلنت للبشر بالتدريج.

4 - ماذا قال العهد الجديد في الروح القدس؟
* الكلام عن الروح القدس في العهد الجديد كثير وصريح، غير أنه أقل من الكلام في المسيح. والسبب أن الكلام الوافي عن المسيح مطلوب، لأنه إلهٌ ظهر في الجسد حسب المواعيد والنبوات ذات الرموز الكثيرة، وقدَّم نفسه كفارةً عنا لأجل تبريرنا وخلاصنا، فكان لا بد من الإخبار بتفاصيل ما عمله لإثبات لاهوته، وتوضيح أن كل تلك المواعيد والنبوات قد تمت به، وإعلان فوائد فدائه. وأما الروح القدس فبما أنه روح فقط، وعمله فينا روحي (أي أنه يعمل في أرواحنا على كيفية غير محسوسة) كان ما جاء من إثبات وجوده وبيان عمله وضرورته لخلاصنا كافياً.
ومن أسماء الروح القدس في العهد الجديد «روح اللَّه» و«روح المسيح» و«روح الرب» و«روح الموعد» و«وروح الحياة» و«روح النعمة» و«روح الحق» و«روح المجد» و«المعزي». وكل هذه الأسماء وكل ما قيل في عمله يدل على أقنوميته ومجده الإلهي، وعلى أهمية عمله فينا، واحتياجنا الكلي إليه.
5 - ما المسألتان الجوهريتان اللتان جرت فيهما المباحثة في شأن الروح القدس؟
* (1) هل الروح أقنوم إلهي؟ أو هل هو قوة إلهية تظهر في إجراء أعمال اللَّه الروحية؟ فإذا ثبت أن له صفات ذاتية، وأنه عمل بنفسه أعمالاً إلهية، كان ذلك دليلاً كافياً على أقنوميته، لأن كل ذي عقل ومشيئة وعواطف وقدرة على العمل هو بالضرورة ذات متميّز عن غيره. وإن كان هذا غير كافٍ لإثبات أقنومية الروح القدس، فلا يمكن إثبات وجود أي ذات على الإطلاق، لا ذات إنسان ولا ذات ملاك ولا ذات إله، لأن ما يدل على الذات في كائن هو صفاته الخاصة وأعماله الاختيارية. فالذات تميّز نفسه عن غيره من الذوات، أي له الشعور بذاتيته، وله قوة الإرادة الحرة وقوى عقلية وعواطف قلبية.
(2) إن كان الروح أقنوماً، فهل هو أزلي غير محدود أو مُحدَثٌ محدود؟ أي هل هو أقنوم إلهي أو لا؟ وقد رأينا أن أقوال الكتاب المقدس في لاهوت الروح القدس أقل من أقواله في لاهوت المسيح. غير أنه بعد ما ثبت لاهوت الابن، صار إثبات لاهوت الروح القدس سهلاً. وقد آمنت الكنيسة بأقنومية الروح القدس الإلهية، ونسبت إليه صفات اللاهوت بكمالها، بسبب وضوح تعليم الكتاب فيه. وندر من أنكر أقنومية الروح القدس.

6 - ما الداعي للبحث عن تعليم الكتاب في الروح القدس؟
* الداعي لذلك علاقته بعقيدة التثليث، وأهمية عمله في العصر الإنجيلي (منذ مجيء المسيح وحتى نهاية العالم). أما علاقته بعقيدة التثليث فهي أنه أحد أقانيم الثالوث الأقدس. وأما أهمية عمله في عصر الإنجيل فتظهر من مقامه العظيم في عمل الفداء وبنيان ملكوت المسيح. فقد أعدَّ اللَّه العالم لمجيء المسيح قبل مجيئه، وبعد إرساله أخذ يخصص فوائد فدائه للبشر بواسطة الروح القدس الذي ينير الخاطئ ويجدد قلبه، ويحرّك عواطفه الدينية، ويرشده إلى المسيح ويحثه على قبوله بالإيمان، ويمنحه القدرة على العيشة الصالحة والنمو في الفضائل، ويساعده على إتمام واجباته، وعلى مقاومة التجارب، ويعزيه في الحزن ويسنده في الضيق، ويثبّته في السلوك الحسن ويبنيه في المعرفة السماوية. وقد شهد كل المؤمنين الأتقياء في كل زمان ومكان أنهم شعروا بحلول الروح القدس في قلوبهم، ونالوا منه الفوائد التي ذكرناها.

7 - ما هي أدلة أقنومية الروح القدس؟
* (1) استعمال الضمائر المختصة بالذوات العاقلة في الأصل اليوناني للروح القدس، فلو لم تكن كلمة «الروح القدس» في الإنجيل اسم ذات، لما استُعمل له في اللغة اليونانية ضمير المذكر العاقل في كلامه عن نفسه، وفي كلام الغير عليه. فجاء «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه» (أع 13: 2). وقال المسيح إنه أرسله و«هو يشهد لي» وأيضاً «متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يو 15: 26). «وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم» (يو 16: 13، 14).
(2) الأفعال المنسوبة إليه تدل على الصفات الذاتية، والذي يتّصف بها كائن عاقل ذو مشيئة وإدراك وقدرة ومحبة. ومما يدل على علمه قول الرسول «الروح يفحص كل شيء حتى أعماق اللَّه» وقوله «أمور اللَّه لا يعرفها أحدٌ إلا روح اللَّه» (1كو 2: 10، 11). وقول المسيح عنه «فهو يعلّمكم كل شيء» (يو 14: 26). ومما يدل على مشيئته قول الرسول في المواهب وأنواع الخدم «هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء» (1كو 12: 11). ومما يدل على محبته قول بولس «فأطلب إليكم أيها الإخوة بربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح أن تجاهدوا معي في الصلوات» (رو 15: 30). ومما يدل على قوته قوله «لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس» (رو 15: 13). و«بقوة آيات وعجائب بقوة الروح القدس» (رو 15: 19). ومن أمثلة ذلك ما يدل على أنه يُقاوَم ويُغاظ (مت 12: 31، 32 وأع 5: 3، 4، 9 و7: 51 وأف 4: 30).
(3) الأفعال المنسوبة إليه تدل على الأعمال الخاصة بالذوات العاقلة. وفي الكتاب كثير بهذا المعنى، فقيل في الروح إنه يدين ويشهد ويعلّم ويرشد ويمنح مواهب للبشر، ويوبخ ويمجد ويُحيي ويقنع ويختار ويتكلم ويُعِين ويشفع وينبئ ويصنع عجائب ويلهم ويقدّس ويجدد ويقاوَم ويُحزَن ويُغاظ ويرضى (تك 1: 2 ومز 104: 30 وإش 11: 2، 3 و63: 10 ومت 1: 18 ولو 1: 35 و12: 12 ويو 3: 6 و14: 26 و15: 25، 26 وأع 5: 32 و13: 2 و15: 28 و16: 6 و20: 28 ورو 8: 6، 27 و15: 16 1كو 2: 10، 13 و12: 11 و2كو 3: 6 وغل 4: 6 وأف 2: 22 و4: 3 و1تي 4: 1 وعب 2: 4 و3: 7 و1بط 1: 11 و2بط 1: 21).
(4) الأقوال التي تدل على أنه متميّز عن الآب والابن. ومن ذلك ما يدل على أنه مرسَل منهما (يو 14: 16 و16: 7) وقول المسيح «متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم» (يو 16: 13). وقول الرسول «الذي فيه (المسيح) أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس» (أف 1: 13). وقول المسيح لتلاميذه «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19). «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة اللَّه وشركة الروح القدس مع جميعكم» (2كو 13: 14). «فرأى (المسيح) روح اللَّه نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه» (متى 3: 16 انظر أيضاً أع 5 : 3 ومت 12: 32 ولو 4: 14 وعب 9: 14 وأف 1: 20 و1كو 6: 11).

(5) علاقته بنا وعلاقتنا به تدلان على أقنوميته. أما علاقته بنا فواضحةٌ مما يعمله فينا ولأجلنا، فإنه يعلّمنا ويقدّسنا ويعزّينا ويرشدنا، ويقود كل مؤمن بمفرده ويعامله معاملة شخص لآخر. وهو يدعو من شاء إلى خدمة الإنجيل، ويعيّن خدمته ومكانها، ويُقيم الرعاة حسب إرادته. وقد وعد المسيح تلاميذه إنه يطلب من الآب فيعطيهم معزياً آخر (أي متميّزاً عنه وعن الآب) ليمكث معهم إلى الأبد، وهو روح الحق. وقال لهم أيضاً إن الآب يرسل ذلك المعزي باسمه، وهو يعلمهم كل شيء ويشهد له ويمجده، ويبكّت العالم على الخطية. ونرى إنجاز هذه المواعيد في قول الروح لفيلبس «تقدَّم ورافق هذه المركبة» ولبطرس «هوذا ثلاثة رجال يطلبونك. لكن قم وانزل واذهب معهم غير مرتاب في شيء، لأني أنا قد أرسلتهم» وأيضاً قول الروح القدس «افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه» والقول في برنابا وشاول: «فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس انحدرا إلى سلوكية». وقول يعقوب «لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة». وقول لوقا إن الروح القدس منع بولس ورفقاءه أن يتكلموا بالكلمة في آسيا، وإنهم لما أتوا إلى ميسية حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية فلم يدعهم الروح. وهذا يوضح أن علاقة الروح القدس بنا هي علاقة ذاتٍ بأخرى، وهذا يدل على أقنوميته.
وتستلزم علاقتنا به أنه أقنوم، لأنه هو موضوع إيماننا، وقد اعتمدنا باسمه كما اعتمدنا باسم الآب والابن، أي أننا في المعمودية نعترف به كما نعترف بهما، ونتعهد بالخضوع له كما لهما. وهو أقنوم لأننا نُخاطبه في الصلاة، ففي البركة الرسولية مثلاً نطلب نعمة الرب يسوع المسيح، ومحبة اللَّه الآب، وشركة الروح القدس. ويحذرنا الكتاب من أن نخطئ إليه أو نغيظه أو نقاومه، وهذا يدل على أنه أقنوم، نقدر أن نرضيه أو نغيظه كما أغاظه حنانيا حين كذب عليه، وحين تمرّد بنو إسرائيل عليه تحوَّل لهم عدواً. وقيل في اليهود إنهم دائماً يقاومون الروح القدس. وقال المسيح: «من قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له» فإذا كان المسيح أقنوماً فالروح القدس كذلك.
(6) قبلت الكنيسة هذا التعليم منذ بدايتها وتمسّكت به بلا انقطاع، فإن جميع المؤمنين بالحق فهموا من نصوص كتاب اللَّه أن الروح أقنوم، ولجأوا إليه ليعلمهم ويقدسهم ويرشدهم ويعزيهم. ألا ترى أن ما في صلوات الكنيسة وتسبيحاتها من الأدعية الكثيرة والتضرعات للروح دليل على أن اعتقاد أقنوميته هو من مبادئها وعقائدها الجوهرية. فلو لم تكن واضحة في الكتاب لما أجمع عليها كل المسيحيين.

8 - ما أشهر الأدلة على لاهوت الروح القدس؟
* (1) إنه دُعي اللَّه، ونُسب إليه ما نُسب إلى اللَّه. ومن أمثلة ذلك قول إشعياء «ثم سمعتُ صوت السيد .. فقال: اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعاً ولا تفهموا، وابصروا إبصاراً ولا تعرفوا» (إش 6: 8، 9). فأشار بولس إلى ذلك بقوله «حسناً كلّم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي» (أع 28: 25). وكلام الرب في العهد القديم على قطع عهدٍ مع بيت إسرائيل (إر 31:31-34) نُسب في العهد الجديد إلى الروح القدس، فقيل «ويشهد لنا الروح القدس أيضاً أنه بعد ما قال سابقاً هذا هو العهد الذي أعهده معهم بعد تلك الأيام» (عب 10: 15، 16) وقال المرنم في بني إسرائيل إنهم جرّبوا الرب (مز 95: 8-11) وأشار استفانوس لذلك العمل بأنه مقاومة للروح القدس (أع 7: 51). وقال بطرس لحنانيا «لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس؟» ثم قال له «أنت لم تكذب على الناس بل على اللَّه» (أع 5: 3، 4). وقال بولس «أَمَا تعلمون أنكم هيكل اللَّه وروح اللَّه يسكن فيكم؟» (1كو 3: 16). ثم قال «أم لستم تعلمون أن جسدكم هيكلٌ للروح القدس الذي فيكم؟» (1كو 6: 19). «فإنكم أنتم هيكل اللَّه الحي» (2كو 6: 16). وقال أيضاً «الذي فيه أنتم مبنيون معاً مسكناً لله في الروح» (أف 2: 22). ففي هذه الآيات لا يفرّق الرسول بين اللَّه والروح القدس. وقال بولس «كل الكتاب هو موحى به من اللَّه» (2تي 3: 16). وقال بطرس «تكلّم أناس اللَّه القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط 1: 20، 21). فأولهما نسب الوحي إلى اللَّه والآخر نسبه إلى الروح القدس.

وقيل «إن اللَّه كلّم الآباء بالأنبياء» (عب 1:1) و«إن الرب إله إسرائيل تكلَّم بفم أنبيائه القديسين» (لو 1: 68-70). وقال بطرس في الأنبياء «باحثين أي وقتٍ أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم» (1بط 1: 11). وقال بولس «الذي في أجيالٍ أخرى لم يُعرَّف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح» (أف 3: 5). فإلهام الأنبياء منسوب في هذه الآيات مرات إلى اللَّه وأخرى إلى الروح. وقال بولس «فوضع اللَّه أناساً في الكنيسة، أولاً رسلاً، ثانياً أنبياء، وثالثاً معلمين، ثم قوات، وبعد ذلك مواهب شفاء أعواناً تدابير وأنواع ألسنة» (1كو 12: 28). وقال أيضاً «ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع ألسنة، ولآخر ترجمة الألسنة. ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء» (1كو 12: 9-11). وقال يوحنا «كل من هو مولود من اللَّه لا يفعل خطية» (1يو 3: 9). وقال المسيح «المولود من الروح هو روح» (يو 3: 6). ففي هذه الآيات نُسب إلى الروح القدس ما نُسب إلى اللَّه.
(2) نسبة الصفات الإلهية إليه، ومن ذلك أنه عارف بكل شيء، كما يتضح من الأقوال في إلهامه الأنبياء وإرشاده الرسل وفحصه أعمال اللَّه (إش 40: 13 ونح 9: 30 و1بط 1: 11 و2بط 1: 21 ويو 16: 13-15 و1كو 2: 9-11). وإنه قادر على كل شيء كما يتضح من الآيات التي تشير إلى اشتراكه في خلق العالم وفي الخلق الروحي، وإلى عمله أعمالاً فائقة الطبيعة، وإعطائه المواهب الروحية (تك 1: 2 وأي 33: 4 وزك 4: 6 ويوئيل 2: 28، 32 ويو 3: 5 وأع 2: 4 و16-21 ومت 12: 28 ورو 15: 19 و1كو 12: 8، 11). وإنه حاضرٌ في كل مكان. كما يتضح من الأقوال التي تدل على سكنه في كل مؤمن، ومكثه مع الكنيسة إلى الأبد (1كو 6: 19 ويو 14: 16، 17) وإنه أزلي بدليل قول الرسول «فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروحٍ أزلي قدَّم نفسه لله» (عب 9: 14). وقد دُعي «روح الحق» و«روح القداسة» و«روح الحياة» و«روح المجد» و«روح النعمة» و«روح الحكمة».

(3) نسبة أعمال اللَّه إليه، ومن ذلك الاشتراك في خلق العالم (تك 1: 2) والحلول على الأنبياء لإلهامهم (حز 11: 5 و1بط 1: 11 و2بط 1: 21) والقدرة على إقامة الأموات (رو 8: 11) وتجديد القلب (يو 3: 5) وتنظيم الكنيسة وإدارتها (أع 13: 2 و15: 28 و20: 28) والإنباء بالمستقبل (يو 16: 13) وإنارة قلوب البشر ومنحهم مواهب روحية (أف 1: 17، 18 و1كو 12: 7) وتقديس المؤمنين (2تس 2: 13).

(4) إعطاؤه الكرامة التي تحقُّ لله وحده، ومن ذلك ذكره مع الآب والابن في البركة الرسولية، ورسم المعمودية، وقول يوحنا «النعمة لكم والسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي، ومن السبعة الأرواح التي أمام عرشه (أي الروح القدس) ومن يسوع المسيح» (رؤ 1: 4، 5). وقول بولس «لأن به (المسيح) لنا كلينا قدوماً في روحٍ واحد إلى الآب» (أف 2: 18 و4:4). وكل ذلك يدل على أن الكرامة المقدَّمة للروح القدس هي نفس الكرامة المقدمة للآب والابن. وقال المسيح «كل خطية وتجديف يُغفر للناس، وأما التجديف على الروح القدس فلن يُغفر للناس. ومَنْ قال كلمةً على ابن الإنسان يُغفر له، وأما مَنْ قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا الدهر ولا في الآتي» (مت 12: 31، 32). «فكم عقاباً أشد تظنون أنه يُحسب مستحقاً مَنْ داس ابن اللَّه وحسب دم العهد الذي قُدِّس به دنساً وازدرى بروح النعمة» (عب 10: 29). فالتجديف على الروح القدس والازدراء به من أكبر الخطايا وليس له مغفرة، لأنه تعمُّد مقاومة وإهانة الروح المبارك الذي هو وحده يرشدنا لطريق الخلاص ويجددنا.
9 - هل تغيّرت عقيدة الكنيسة عبر القرون في لاهوت الروح القدس؟
* لم تتزعزع عقيدة الكنيسة في لاهوت الروح ولم يُعترض عليه في المباحثات اللاهوتية إلا قليلاً. ومنذ القرن الرابع إلى الآن ندر جداً مَنْ أنكر لاهوته. على أن منكري عقيدة التثليث اعترضوا على أقنوميته. وجعل المجمع النيقوي سنة 325م موضوع بحثه الخاص أقنومية الابن ولاهوته، ولم يتعرَّض لمسألة الروح القدس ولا لبيان أقنوميته ولاهوته. ولما أنكر مقدونيوس (مات سنة 362م) لاهوت الروح بحجة أنه قوة إلهية منتشرة في الكون، وليس أقنوماً متميّزاً عن الآب والابن قاومه أثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس النازيانزي وغيرهم، وأثبتوا لاهوت الروح القدس، إلى أن اجتمع المجمع الثاني (المسكوني) في القسطنطينية سنة 381م وصرَّح بلاهوته وأقنوميته، وأضاف إلى دستور الإيمان النيقوي عن الروح القدس «الرب المحيي المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ له وممجد الناطق بالأنبياء» (انظر فصل 8 س 4) ثم أضاف مجمع الكنيسة الغربية في توليدو سنة 589م كلمة «الابن». وقد قاوم السوسينيون هذا التعليم وتعليم لاهوت الابن في القرن السادس عشر، غير أن ذلك لم يؤثر شيئاً في إيمان الكنيسة العامة.

10 - ما هو الرد على الذين زعموا أن الروح القدس ليس أقنوماً، لكنه مجرد قوَّة؟
* ما أثبتناه في إجابة سؤال 7 بنصوص الكتاب المقدس من صفاته وأعماله وتميّزه عن الآب والابن وعلاقته بنا وعلاقتنا به وغير ذلك. فهو ليس مجرد قوة إلهية فعَّالة فينا، لأن القوة المجردة عن الأقنومية لا توصف بأنها ذات قداسة وحق وحكمة ومشيئة، وأنها تخاطِب وتُخاطَب حقيقةً. وقد جاء في الكلام على معمودية المسيح أن الروح القدس نزل عليه بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلاً «أنت ابني الحبيب، بك سُررت» (لو 3: 22) وهو يدل على تميّز الروح الذي نزل من السماء عن الآب الذي تكلَّم في السماء، وعن الابن الذي كان على الأرض. ومن أمثلة ذلك صورة المعمودية، والبركة الرسولية، ووعد المسيح لتلاميذه بمعزٍّ آخر يرسله إليهم، وقول الرسول «لأن به (المسيح) لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب». فإذا صحَّ في كل ما تقدم أن الآب والابن أقنومان فالروح القدس أيضاً أقنوم.
وفي الكتاب نصوص كثيرة ضد زعم السوسينيين أن الروح القدس مجرد قوة إلهية، منها قول الرسول إنه بالروح الواحد أُعطيت مواهب كثيرة (1كو 12: 4-11) مشيراً لإعطاء المواهب بالروح القدس، ومنها عمل القوات. فلو كان الروح القدس مجرد قوة لكان المعنى أن القوة التي هي إحدى المواهب قد منحت سائر المواهب! ومن أمثلة ذلك الآيات الآتية: «فرجع يسوع بقوة الروح» (لو 4: 14) «مسحه اللَّه بالروح القدس والقوة» (أع 10: 38) «لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس» (رو 15: 13) «بقوة آياتٍ وعجائب بقوة روح اللَّه» (رو 15: 19). «ببرهان الروح والقوة» (1كو 2: 4). فلو صحَّ مذهب السوسينيين للزم تفسير هذه الآيات هكذا: «فرجع يسوع بقوة القوة، ومسحه اللَّه بالقوة والقداسة والقوة القدوسة والقوة، ولتزدادوا في الرجاء بقوة القوة القدوسة وببرهان القوة والقوة» ولكان معنى صورة المعمودية «باسم الآب والابن والقوة القدوسة» ومعنى البركة الرسولية «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الآب وشركة القوة القدوسة معكم إلى الأبد». وكان أيضاً الذي يجدّف على اللَّه يُغفر له وأما الذي يجدف على قوته فلا يُغفر له!

ومن المحتمل أن القول «بنفخته السماوات مسفرة» (أي 26: 13) «وروح الرب صنعني، ونسمة القدير أحيتني» (أي 33: 4) و«أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟» (مز 139: 7). يُراد به نفخة اللَّه أو نسمته أو روحه بمعنى قوته، دون الإشارة إلى الأقنوم الثالث. غير أن ذلك نادرٌ ووارد في الشعر خاصةً، وليس فيه ما يُضعف قوة الأدلة التي أوردناها لإثبات أقنومية الروح القدس.

11 - كيف نوفّق بين لاهوت الروح القدس وما جاء في الكتاب من أن الآب والابن أعطياه وأرسلاه وسكباه؟
* الجوهر الإلهي واحد، والأقانيم ثلاثة متساوون في القدرة والمجد. غير أن بينهم تميُّزاً في عمل كلٍ منهم في الفداء، فالآب أرسل الابن، والآب والابن أرسلا الروح القدس، والابن أكمل مشيئة الآب وقدم نفسه ذبيحة ليوفي العدل الإلهي حقه. وعمل الروح القدس في الفداء هو إنارة البشر وتبكيتهم على الخطية وتجديدهم وتقديسهم، ولذلك دُعي نظامنا الحاضر (نظام الإنجيل) خدمة الروح (2كو 3: 8) لأهمية عمل الروح في هذا النظام. على أن هذا لا يمس شأن الأقانيم أصلاً، ولا ينفي ألوهية أحدٍ منهم، ولا اشتراكه في الجوهر الواحد الإلهي.
أما إعطاء الروح القدس وسكبه فهو مجازي، يدل على ما يُحدثه اللَّه فينا بواسطته من الأعمال الإلهية بحلوله في قلوبنا، وهو يشبه قول الرسول «البسوا الرب يسوع المسيح» (رو 13: 14) أي تشبَّهوا به، وقوله «لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح» (غل 3: 7).

12 - ما هي خلاصة الكلام في مسألة انبثاق الروح القدس؟
* انظر فصل 8 س 4 و فصل 13 س 32. وقد اكتفى المجمع النيقوي بتلخيص التعليم في الروح القدس في جملة واحدة مختصرة في دستور الإيمان الذي أصدره. وزاد عليها المجمع القسطنطيني سنة 381م «المنبثق من الآب» (دون كلمة «والابن») ووضَّح التعاليم الجوهرية عن الروح القدس. فشرع اللاهوتيون من الكنائس الغربية (مثل أغسطينوس) أن يبيّنوا لزوم ذكر انبثاق الروح من الابن أيضاً لاعتقادهم بصدق ذلك، ولما رأوه من انضمام كثيرين من الهراطقة الأريوسيين إلى الكنيسة، واعتراضهم المبني على عدم ذكر انبثاق الروح القدس من الابن كما من الآب، ظانين أن هذا يقلل من شأن الروح القدس والابن أيضاً. ولذلك قررت تلك الكنائس في مجمع عقدته في توليدو بأسبانيا سنة 589م إدراج كلمة «الابن» بعد «المنبثق من الآب» في دستور الإيمان القسطنطيني بدون استشارة الكنائس الشرقية، ثم قُبل ذلك في الكنائس الغربية قانونياً وصدق البابا عليه. وأما الكنيسة الشرقية فأصرّت على رفضه في مجمع فرنسا الذي اجتمع أولاً في فرارا سنة 1438م، ثم انتقل إلى فلورنسا سنة 1439 حيث اتفق نواب الكنيستين الغربية والشرقية على عقيدة انبثاق الروح القدس من الآب بواسطة الابن. غير أن الكنيسة الشرقية نفسها رفضت ذلك الاتفاق. وأصرَّ الفريقان كل على رأيه. ولا شك أنه استبدادٌ من الكنيسة الغربية أن تضيف شيئاً جوهرياً لدستور الإيمان من جانبها وحده، وكان يجب عليها أن تستدعي لذلك مجمعاً قانونياً مسكونياً، لأن اختلاف الكنيسة الشرقية معها على ذلك نشأ أصلاً من عدم الاكتراث بها، لا من اختلاف اعتقادها، بدليل ميل الآباء اليونانيين مثل أثناسيوس وأبيفانيوس وباسيليوس وغريغوريوس وغيرهم قبل مجمع توليدو إلى الاعتقاد بالانبثاق من الآب والابن.
وعلى ما يظهر أن اعتقاد الغربيين أقرب إلى الصواب، بدليل عدم تمييز الكتاب بين علاقة كل من الآب والابن بالروح القدس، فيسمّيه «روح الآب» وأيضاً «روح الابن» ويذكر إرساله من الآب (يو 14: 26) وأيضاً من الابن (يو 16: 7) وأنه يُظهر لنا أمور الآب وأيضاً أمور الابن، وأن المسيح قال فيه «ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب هو لي» (يو 16: 14، 15). وأسند الشرقيون اعتقادهم على قول المسيح «الذي من عند الآب ينبثق» (يو 15: 26). أما الغربيون فاستندوا على ما جاء من الآيات الدالة على العلاقة بين الابن والروح القدس مثل تسميته «روح المسيح» (رو 8: 9 و1بط 1: 11) و«روح يسوع» (أع 16: 7 انظر حاشية الإنجيل بالشواهد) و«روح يسوع المسيح» (في 1: 19) و«روح ابنه» (غل 4: 6). و«روح الرب» (أع 5: 9) ومنحه إياه لتلاميذه (يو 20: 22). وكل ما يعنينا هو اعتقادنا بأقنومية الروح ولاهوته ومساواته للآب والابن في الجوهر. أما هل الانبثاق هو من الآب وحده أو من الآب والابن معاً، فليس في طاقتنا تقديم إجابة قاطعة عنه، لأنه من الأسرار غير المُعلنة لنا بالوضوح. فيكون حكمنا في هذه المسألة من باب الترجيح.
13 - هل لكل أقنوم عملٌ خاص في إتمام الفداء، وما هو نصيب الروح القدس في ذلك؟
* نعم، لأننا نتعلم من الكتاب المقدس أن الآب أرسل الابن والروح، وأن الابن أرسل الروح. ولم يُذكر أن الروح أرسل الآب أو الابن. وقد نُسب الاختيار والقضاء إلى الآب دون الابن والروح، ونُسِبت الكفارة إلى الابن دون الآب والروح، ونُسب التجديد إلى الروح دون الآب والابن. وهذا التميّز في العمل يختص بالأقنوم ولا يمس الجوهر الإلهي الواحد. أما نصيب الروح في عمل الفداء فهو تخصيص فوائد موت المسيح للمؤمنين بإنارتهم وإرشادهم وتجديدهم وبنيانهم وإعطائهم مواهب روحية. على أن الروح القدس يشترك في أعمال أخرى كالخليقة (تك 1: 2) والعناية (1كو 12: 4-6، 11). وغيرهما. وهذه الأعمال ليست منسوبة إليه نسبة خاصة كما هي منسوبة إلى الآب والابن.

14 - كيف قسم اللاهوتيون عمل الروح القدس؟
* قسموه بطرق مختلفة:
(1) في ما يتعلَّق بالعمل بهم: (أ) عمله المختص بالمسيح، كاشتراكه في تهيئة جسده، وحلوله عليه طول حياته كما أنبأ إشعياء (إش 11: 2 و42: 1 و61: 1). وقد ذكر الإنجيل تحقيق تلك النبوات، فقد حلَّ الروح عليه عند معموديته، وأصعده الروح إلى البرية ليُجرَّب من إبليس، ورافقه طول حياته. (ب) عمله في الأنبياء وهو مساعدته لهم في الكلام والعمل، وإلهامهم وعصمتهم والوحي إليهم وإرشادهم في ما كتبوه من أسفار العهدين القديم والجديد. (ج) عمله في المؤمنين أفراداً، مثل مرافقته للكلمة في قلوبهم، وإنارتهم وتجديدهم وتعليمهم وإرشادهم وتقديسهم وتعزيتهم وتشجيعهم وتقويتهم، وشهادته لأرواحهم أنهم أولاد اللَّه. (د) عمله في الكنيسة، فقد حلَّ في المؤمنين يوم الخمسين، ثم أخذ يجمع المسيحيين الحقيقيين في كنيسة واحدة روحية يبنيها في الإيمان والتقوى، ويزيد عددها ويساعدها على الثبات أمام مقاوميها، وعلى بنيان ملكوت المسيح ببشارة الإنجيل في كل العالم، ويختار خدّامها ويعيّن لكلٍ منهم عمله، ويعطيه مواهب مخصوصة تمكنه من إتمام واجباته، ويحضر في اجتماعات الكنيسة لأجل العبادة والبحث في ما يخص بنيان ذلك الملكوت، ويبارك على مشروعات الكنيسة الخيرية لانتشار الإنجيل وتعليم الحق لجميع الأمم. وكثيراً ما يعمل بطريقة غير عادية في تحريك عواطف المسيحيين وحثّهم على الصلاة. وقد استيقظت الكنيسة بعمله هذا مراراً كثيرة من غفلتها، ونجحت في إقناع الناس بالحق، وإعادتهم إلى الإيمان المسيحي، لأن الروح رافق اجتهادها وبارك تعليمها.

(2) قسموا طبيعة عمل الروح القدس إلى: (أ) الإعلان وهو يعمُّ الوحي للأنبياء والرسل والكتبة الأطهار، وكشف الحقائق الروحية لعقول البشر وإقناعهم بها، وإرشادهم لفهم التعاليم الموحى بها. وهذا ما يُسمى غالباً بالإنارة الروحية. (ب) التجديد وهو «الولادة من فوق» وهو عمل سري في قلوبنا به نقوم من الموت الروحي ونرجع إلى اللَّه ونحيا حياةً جديدة روحية. وقد يتم التجديد بدون إدراك الحق، كتجديد الأطفال. لكنه يتم في البالغين بفعل نعمة اللَّه بواسطة التعليم والتبشير والانتباه العقلي للحق الديني. (ج) التقديس، وهو ما يعمله الروح في المؤمنين لتربيتهم في القداسة ونموهم في الفضائل والتقوى والاختبار الروحي. وهو يستعمل لذلك وسائط كثيرة فيجعل الحق مؤثراً فيهم ويرافقهم في حياتهم اليومية ويحوّل مصائبهم وأثقالهم واختباراتهم لخيرهم وبنيانهم وتقدمهم في الحياة الروحية ونموهم على الدوام في المعرفة، وفهم الحقائق الإلهية.

(3) قسموا عمل الروح القدس في بنيان الكنيسة إلى: (أ) خارجي: وهو ما عمله استعداداً لإقامة الكنيسة، و(ب) داخلي: وهو ما يعمله في قلب كل المؤمنين ليبني الكنيسة وينميها في الروحيات ويساعدها على أعدائها. ولما كان هذا التقسيم هاماً جداً، آثرنا أن ندرسه بالتفصيل.
15 - ماذا عمل الروح استعداداً لإقامة الكنيسة؟
* قام بأربعة أعمال:
(1) أعلن إرادة اللَّه للبشر وما يطلبه منهم، وكشف طريق الخلاص لهم بأن أوحى بكتابة العهد القديم. قال بطرس (مشيراً إلى العهد القديم): «تكلَّم أناس اللَّه القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط 1: 21). وأوحى بكتابة العهد الجديد بدليل قول بولس «الذي (المسيح) في أجيال أُخر لم يعرَّف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح» (أف 3: 5) وقال يوحنا «مَنْ له أذنٌ فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ 3: 6).

(2) رافق المسيح في حياته الأرضية وتمّم ما يختص بتجسده وحياته وموته كفارةً عن خطايا البشر. لقد سبق وألهم الأنبياء و«سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها» (1بط 1: 11). ولما حان ملء الزمان لمجيء المسيح وتهيئة جسده (عب 10: 5) حلَّ على مريم العذراء، ولذلك دُعي القدوس المولود منها ابن اللَّه. ثم أوحى إلى سمعان أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب، ثم أتى به إلى الهيكل عندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس، فسبّح اللَّه وباركه على ذلك المنظر. ثم حلَّ على المسيح لإعداده ليتمم خدمته، فكان له «روح الحكمة والفهم والمشورة والقوة المعرفة ومخافة الرب» (إش 11: 2-4) ومسحه ليبشر المساكين ولينادي «بسنة مقبولة للرب» (إش 61: 1، 2). ثم حلَّ عليه على هيئة منظورة وقت معموديته لما بدأ خدمته الجهارية. ثم قاده إلى البرية ليلاقي المجرِّب، ورافقه أيضاً وهو عائد من هناك منتصراً. ثم قيل إن اللَّه مسحه بالروح القدس والقوة، وإنه «جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن اللَّه كان معه» (أع 20: 38). وبعد أن رجع بقوة الروح الذي أُعطي له بغير كيل (يو 3: 34) إلى الجليل، خرج خبرٌ عنه في جميع الكورة المحيطة و«كان يعلّم في المجامع ممجداً من الجميع» (لو 4: 14، 15). ولما عمل المعجزات رأى الناس «مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 1: 14). وهو نفسه نسب تلك الأعمال إلى الروح القدس (مت 12: 18، 28). وقد أعانه ذلك الروح المبارك على إتمام عمله العظيم الذي أتى لأجله أي موته كفارةً عن الخطية كما شهد بذلك الرسول بقوله «الذي بروح أزليّ قدَّم نفسه لله بلا عيب» (عب 9: 14).
(3) ساعد الرسل ليتمموا العمل الذي كلفهم المسيح به، فأرشدهم وقوّاهم. صحيح أن المسيح دعاهم لخدمته، وكان يعلّمهم ويدرّبهم مدة إقامته معهم، ولكنه عندما فارقهم «أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم» (أع 1: 2). وثبّت الروح القدس في قلوب التلاميذ كل ما علّمه المسيح لهم. وفي خطاب المسيح الأخير لتلاميذه حدّثهم عن أهمية عمل الروح واحتياجهم إليه، فقال إنه معلم الحق ومصدر التعزية، والذي يأتي من عنده ومن الآب ليحلَّ في قلوبهم (يوحنا 14-16) ويذكّرهم بكل ما قاله المسيح لهم (يو 14: 26). ويشهد له، ويُظهِر لهم أموراً آتية، ويتكلم فيهم حتى لا يكونوا هم المتكلمين بل روح أبيهم الذي يتكلم فيهم (مت 10: 20) وأنهم وهم يبشرون بالحق يتكلّمون لا بأقوالٍ تعلّمها حكمة إنسانية، بل بما يعلّمه الروح القدس (1كو 2: 13). ولما أرسلهم المسيح بعد قيامته قال لهم «اقبلوا الروح القدس» وكلَّفهم بعمل عظيم في الكنيسة (يو 20: 22، 23). وأمرهم أن يقيموا في مدينة أورشليم إلى أن يُلبَسوا قوةً من الأعالي (لو 24: 49). وقال لهم أيضاً بهذا المعنى «وأما أنتم فستتعمّدون بالروح القدس» (أع 1: 5). «وستنالون قوةً متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض» (أع 1: 8). وحلّ عليهم الروح القدس بقوةٍ عظيمة، ونالوا موهبة التكلُّم بالألسنة، وابتدأوا يتممون خدمتهم بكل نشاط وحكمة، غير مكترثين بالاضطهاد ولا بالشيطان ولا بقوات هذا الدهر. وهكذا كان مصدر حكمة الرسل وفضائلهم.

(4) علّم مبادئ الدين المسيحي، من الصدق والاستقامة في كل قول وعمل. وفي قصة كرنيليوس القائد الروماني علّمنا أن اللَّه فتح باب الخلاص للأمم، لأن الروح أمر بطرس أن يذهب مع الرجال الثلاثة إلى كرنيليوس (أع 10: 19). ولما حضر بطرس في قيصرية وخاطب كرنيليوس وأنسباءه وأصدقاءه في شأن المسيح حلَّ الروح القدس على الجميع (أع 10: 44) وسكب عليهم مواهب مختلفة (أع 10: 46، 47). وهو الذي أرسل بولس وبرنابا ليبشرا بالإنجيل بين الأمم، بقوله للإخوة «افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتُهما إليه» ثم قيل إنهما «أُرسِلا من الروح القدس» (أع 13: 2، 4). ثم رافق التلاميذ في كل أسفارهم، وملأ قلوب المؤمنين فرحاً، وأرشدهم وساعدهم في تنظيم الكنائس وانتخاب القسوس أو المشايخ (أع 13: 9، 52 و14: 23). ولما تباحثوا في شأن قبول الأمم ناموس موسى واجتمع المجمع الرسولي للنظر في ذلك، حكم الروح القدس في المجمع في هذه المسألة فقال أعضاء المجمع «لأنه قد رأى الروح القدس ونحن..« (أع 15: 28). وهكذا عمل الروح ليقيم النظام الإنجيلي في العالم.
16 - ماذا يعمل الروح القدس لبنيان الكنيسة؟
* يقوم بسبعة أعمال:
(1) ينير: قال الرسول إن البشر «مظلمو الفكر ومتجنّبون عن حياة اللَّه لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم» (أف 4: 18). أي أنهم في حالة الجهل والابتعاد عن اللَّه. ولذلك أخذ الروح القدس على نفسه أن ينير عقولهم بكلمة الحق الإلهي المعلَن للبشر إلى أن يتمكن كل إنسانٍ من أن يرى حالته كما هي، ويرى احتياجه إلى الوسائط المعيَّنة لخلاصه. ولا وسيلة للتخلص من تلك الجهالة إلا بهذا العمل الإلهي. ولما كانت كلمة اللَّه فعَّالة وكافية لتقشع ظلمة عقل الإنسان وتنيره وتوضح الحقائق له فيقدر أن يميّز الحق من الباطل ويغلب روح الضلال سُميت تلك الكلمة «سيف الروح».
(2) يُقنع سامع رسالة الإنجيل: يقنعه بأنه خاطئ تحت طائلة العقاب بمقتضى حكم شريعة اللَّه العادلة، وأنه يحتاج لمن ينقذه من غضب اللَّه الآتي. فالإقناع يتلو الإنارة، لأنه يجعل النفس تشعر باحتياجها، وبأنها بدون رحمة اللَّه في حالة الهلاك الأبدي كما قال المسيح: «ومتى جاء ذاك (الروح) يبكّت العالم على خطيةٍ وعلى برٍّ وعلى دينونةٍ» (يو 16: 8).

(3) يجدد: وهو عمل الروح القدس الخاص الذي به نولد ثانية ونبدأ حياة جديدة روحية. وأوضح المسيح هذا العمل الخطير في حديثه مع نيقوديموس (يو 3: 1-8). وسمَّاه بولس «تجديد الروح القدس» (تي 3: 5). وسمَّى الذين تجددوا في المسيح «خليقة جديدة» (2كو 5: 17). وهذه الولادة الروحية هي من أسرار الديانة المسيحية، لأننا لا نشعر بها إلا حين نجد أنفسنا في حياة روحية جديدة وقد كرهنا الخطية وأحببنا القداسة وآمنّا بالمسيح واخترنا طريق الصلاح، فنقول إذ ذاك كالإنسان الأعمى الذي نال البصر «نعلم شيئاً واحداً: : أننا كنا عمياناً والآن نبصر» وعند ذلك نمجد اللَّه على عمله فينا.
(4) يمنح التبني: سُمّي «روح التبني» (رو 8: 15). وهو الدخول في علاقة جديدة مع اللَّه بالولادة الروحية والإيمان بالمسيح، فنصير أولاده ليس لأنه خلقنا فقط، بل لأنه فدانا أيضاً. وبذلك نصير ورثة اللَّه ووارثين مع المسيح. وبما أن الروح القدس هو الذي يُدخلنا في هذه العلاقة، والذي يشهد لأنفسنا أننا أولاد اللَّه، ويعلّمنا أن نقول «يا أبا الآب» وبه نقترب إلى الآب فيكون «لنا قدوم في روح واحد إلى الآب».

(5) يقدّس: وهو فعله فينا، الذي به يطهّرنا من نجاسة الخطية ويجعلنا ننمو في القداسة والمعرفة وجميع الفضائل الروحية «اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو 6: 11). ويتمم الروح هذا العمل فينا بسيطرته على عواطفنا، ومرافقته لنا على الدوام، وإرشادنا (رو 8: 1-15) حتى تصير أجسادنا هياكل الروح القدس، ويحل روح المجد واللَّه علينا (1بط 4: 14) وبذلك يقوينا في الداخل ويكملنا وينمي فينا أثماره المباركة (غل 5: 22، 23 وأف 5: 18-21). وقد سُمي «روح النعمة» إشارةً لعمله في قلوبنا (عب 10: 29). و«روح القداسة» لأنه يقدسنا (رو 1: 4). و«المعزي» لأنه يعزينا في أحزاننا (يو 14: 26). و«روح الموعد القدوس» لأنه هو الذي يبلغ مواعيد اللَّه إلى قلوبنا، وهو أيضاً عربون إنجازها (أف 1: 13). وسُمي أيضاً «روح الرجاء» (رو 15: 13) ونتوقع الرجاء المبارك بالصبر والثبات حسب قول بولس «فإننا بالروح من الإيمان نتوقَّع رجاء بر» (غل 5:5).

(6) يرشد وينشّط ويقوي على إتمام كل واجباتنا: فهو الذي يُعِين ضعفاتنا، ويشفع فينا بحسب مشيئة اللَّه، ويرشدنا في الصلاة. «الروح أيضاً يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّاتٍ لا يُنطق بها» (رو 8: 26). وقال يهوذا «مصلّين في الروح القدس» (آية 20).
(7) يقيم أجسادنا في القيامة المجيدة: لأنه «إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام يسوع من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم» (رو 8: 11).

الروح القدس إذاً هو مصدر الحياة الروحية في الإنسان، ومصدر نموّها المستمر، إلى أن يصل المؤمن إلى حالة الكمال عند دخوله السماء وينال النصيب الأبدي المعيَّن لأولاد اللَّه. فيستحق الروح محبتنا وعبادتنا وشكرنا مع الآب والابن إلى الأبد.
17 - لماذا اعتُبر عمل الروح القدس في قلوب البشر من أسرار المسيحية؟
* اعتُبر كذلك لسببين:
(1) لأن عمله الفعّال في البشر يتم بطريقة لا يمكننا أن ندركها بعقولنا. «الريح تهبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي وإلى أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح» (يو 3: 8). فكما أننا لا نقدر أن نرى الهواء، وإنما نستدل على وجوده من تأثيره ونتائج قوته، كذلك لا نقدر أن نرى الروح القدس، ولكن نستدل على وجوده من نتائجه وثماره في تغيير أفكارنا وإصلاح سيرتنا. ويشبه عمل الروح فينا تأثير العقل في الجسد، فالعقل يسيطر على الجسد ويحرّكه أو يستخدمه كما يشاء بطريقة لا نقدر أن ندركها. ويصدُق هذا أيضاً على تأثير أفكار إنسان على عقل إنسان آخر وحثّه وإقناعه بقوة فعالة. فكما أننا عاجزون عن إدراك هذه الأعمال، كذلك نحن عاجزون عن إدراك عمل الروح القدس فينا وتأثيره العظيم وتحويله أفكارنا متى شاء وكيفما شاء، وإظهاره الحق لنا وإقناعنا به وحثنا على اتّباعه. وإذا كان في طاقة الشيطان أن يحثنا على الشر ويغوينا ويلقي تجارب قوية في قلوبنا، أفليس في طاقة اللَّه أن يرشدنا إلى الحق ويحثنا على عمل الخير والصلاح بواسطة روحه القدوس؟ أما عجز أكثر البشر عن تعيين وقت تجديدهم وعدم شعورهم بحدوث تلك الولادة الروحية فليس دليلاً على عدم حدوثه، ولو أن المولود ثانية يقدر أن يتأكد ذلك مما يراه من ثمار الحياة الجديدة فيه، ومن تقدمه في معرفة اللَّه ومحبته، ومن الطهارة والقدرة على محاربة الخطية وغلبتها. وحالة الإنسان الجسدية تشبه ذلك، فهو لا يشعر بتكوين جسده ولا بولادته، ولكنه يتأكد أنه حي جسدياً من علامات الحياة الظاهرة فيه، ومن شعوره بشخصيته بين البشر مما يحصل عليه بالتدريج بعد ولادته. فالروح القدس ينير عقولنا ويرشدنا ويحثنا ويبنينا في المعرفة والقداسة بطريقة لا نقدر أن ندركها مطلقاً.

(2) يقترن تأثيره الإلهي ويشترك مع عمل الإرادة البشرية الحرة بطريقة تفوق إدراكنا. فالروح القدس يعمل ما يشاء في البشر ويؤثر فيهم إلى أن يختاروا ويعملوا بمشيئتهم الحرة كما يريد هو. وهو لا يجبرهم أن يعملوا ضد إرادتهم، بل بتأثيره اللطيف يجعلهم يريدون ويختارون نفس ما يريد هو، بطريقة لا تعارض حريتهم التامة، ولا تلاشي مسؤوليتهم في كل أعمالهم. وإذا قيل إن الإنسان في هذه الحالة لا يكون مسؤولاً عن إتمام واجباته الدينية، أجبنا: إن اللَّه يطلب منا أن نتمم باجتهادنا الذاتي نفس الواجبات التي نحتاج إلى مساعدة الروح القدس لإتمامها، فهو يأمر الإنسان أن يتوب ويؤمن ويعيش عيشةً صالحة، ويتحلى بالفضائل الدينية والأخلاقية، مع أنه لا يقدر على ذلك إلا بمعونة الروح القدس. ولا شك أن في ذلك سراً عظيماً نعجز عن إدراكه، فليس في طاقتنا أن نوضح اقتران فعل الروح بفعل الإرادة البشرية، وإن كنا متأكدين من وجودهما ولزومهما، ولزوم الاستناد على مساعدة الروح القدس لنقدر أن نتمم المطلوب منا. مع معرفتنا أن ذلك لا يخلّصنا من مسؤوليتنا أمام اللَّه. وقد حاول البعض التوفيق بين حرية الإنسان ومسؤوليته ولزوم فعل الروح القدس فيه، ولكن اجتهادهم لم يفِ بالمقصود، فمنهم من نبّر على قدرة الإنسان، ومنهم مَنْ نبّر على ضعفه بهدف إعفائه من كل مسؤولية. ويجب أن نحترس من الاعتقاد بقدرة الإنسان بدون معونة اللَّه، ومن الاعتقاد بضعف الإنسان إلى الحد الذي يرفع عنه التكليف والالتزام. ويعلّمنا الكتاب المقدس والعقل السليم أن الإنسان يجب أن يجتهد في إتمام أوامر اللَّه، ويشعر باحتياجه في ذلك لمساعدة الروح، ويتيقن أنه ينالها بالطلب منه بلجاجة، لأن الذي أمرنا بالإيمان والعمل قادرٌ ومستعدٌ على الدوام أن يُعِين ضعفاتنا.


18 - ما هي معمودية الروح القدس؟

* هناك سبعة شواهد في العهد الجديد ذكرت معمودية الروح القدس، جاءت أربعة منها في البشائر الأربع، وهي تقارن بين معمودية يوحنا المعمدان للتوبة ومعمودية المسيح بالروح القدس. وهذه الأربعة هي: مر 1: 8 ولو 3: 16 ومت 3: 11 ويو 1: 33. هذا بالإضافة إلى ثلاث إشارات أخرى لمعمودية الروح القدس في أعمال 1: 5 حيث يطبق ما قاله يوحنا المعمدان عن المسيح الذي يعمد بالروح القدس على ما كان متوقعاً حدوثه في القريب العاجل، أي في يوم الخمسين. والإشارة الثانية في أعمال 11: 16 حيث يربط الرسول بطرس بين ما حدث في بيت كرنيليوس وما حدث في يوم الخمسين إتماماً لوعد الآب.
وهذه الشواهد الستة تشير إلى معمودية الروح القدس باعتبارها اختباراً يمثل بداية تعامل الروح القدس مع المؤمنين. وهو ما يحدث مع كل المؤمنين عند قبولهم عمل نعمة اللَّه فتدخل حياتهم إلى مجال جديد يسود فيه الروح القدس ويحيي علاقتهم مع اللَّه.
أما الشاهد السابع فقد جاء في 1كو 12: 13 في القول: «بروح واحد اعتمدنا لجسد واحد». ويردُّ بها الرسول على دعاوى أهل كورنثوس بتمييزهم عن غيرهم بسبب مواهب الروح القدس.
وهناك ثلاث روابط ظاهرة تميز قبول الأفراد لعمل نعمة اللَّه: الرابطة الكنسية ومظهرها قبول المعمودية بالماء، والرابطة الشخصية ومظهرها التوبة والإيمان، والرابطة الإلهية ومظهرها معمودية الروح القدس.
وليس في العهد الجديد ما يؤيد أن معمودية الروح القدس هي اختبار ثانٍ بعد الخلاص يميز أو يبرهن دخول المؤمنين إلى مستوى أعلى من الإيمان. ولكن الثابت أن جميع المؤمنين يحتاجون إلى زيادة إيمانهم بحلول الروح القدس في قلوبهم عند قبولهم عمل نعمة اللَّه بالخلاص.

19 – هل تكرر اختبار يوم الخمسين؟
* هناك شواهد على أن الامتلاء بالروح القدس تكرر بعد يوم الخمسين:
(1) امتلأ بطرس من الروح القدس ليجاوب على أسئلة رئيس الكهنة (أع 4: 8).
(2) اختبره بعض المؤمنين المضطهَدين «ولما صلّوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام اللَّه بمجاهرة» (أع 4: 31). ولا يقول إنهم تكلموا بألسنة، ولو أن المكان تزعزع. وكانت نتيجة هذا الاختبار أنهم نالوا شجاعة في الكرازة، وزادت وحدتهم الروحية.
(3) اختبره بعض المؤمنين في السامرة بعد أن وضع بطرس ويوحنا الأيادي عليهم، ولم يكن الروح القدس قد حلَّ على أحد منهم (أع 8: 16). ولا يسجل لنا الوحي أية ظواهر خارقة صاحبت هذا الحلول، ولا كلاماً بألسنة.
(4) حل الروح القدس على شاول الطرسوسي بعد تجديده (أع 9: 1-9، 17) فامتلأ وعاد إليه البصر، ثم اعتمد بالماء، ولم يكن هناك كلام بألسنة.
(5) انسكبت موهبة الروح القدس على الأمم، وحلَّ الروح القدس على كل الذين كانوا يسمعون الكلمة في بيت كرنيليوس (أع 10: 44، 45) وتكلموا بألسنة وعظموا اللَّه (آية 46).
(6) امتلأ بولس من الروح القدس وهو يحدِّث باريشوع (أع 13: 9).
(7) «وأما التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس» (أع 13: 52).
(8) حل الروح القدس على نحو 12 تلميذ في أفسس، كانوا قد اعتمدوا من المعمدان، ولكنهم لم يكونوا قد سمعوا عن الروح القدس، فعمَّدهم الرسول بولس ووضع يديه عليهم فامتلأوا من الروح القدس، وتكلموا بألسنة، وتنبأوا (أع 19: 1-7).

21 – هل وُصف اختبار الامتلاء بتعبيرات أخرى؟
* نذكر منها الأوصاف التالية:
(1) ختم الروح (2كو 1: 22 وأف 1: 13).
(2) أخذ (قبول) الروح (غلاطية 3: 2).
(3) الامتلاء بالروح (أف 5: 18).
(4) تجديد الروح (تي 3: 5).
(5) نوال الموعد (عب 6: 12 و10: 36).

22 – ما هي مواهب الروح القدس؟
* يمنح الروح المؤمنين مواهب طبيعية ومواهب فوق طبيعية، كما يشاء هو، لا كما يطلبون هم. والهدف أن صاحب الموهبة يخدم إخوته بما منحه اللَّه، كما يطلب خدمة من منحه اللَّه موهبة لم ينلها هو. والمواهب تكمل القديسين، وتعمل الخدمة، وتبني جسد المسيح (أف 4: 12).
وقد وردت في العهد الجديد أربع قوائم تحوي عشرين موهبة، في رومية 12: 6-10 و1كورنثوس 12: 4-10، 28 وأفسس 4: 11، 12 و1بطرس 4: 10، 11. وقد ردت موهبة النبوة فيها كلها (4 مرات) وموهبة التعليم ثلاث مرات في القوائم الثلاث الأولى، وموهبة الخدمة مرتان في رومية وبطرس الأولى، وموهبة الرسول مرتان في كورنثوس الأولى وأفسس، وموهبة التدبير مرتان في رومية وكورنثوس الأولى، وموهبة الوعظ مرة واحدة في رومية، ووردت موهبتا الرعاية والتبشير مرة واحدة في أفسس، ووردت ثلاث مواهب مرة واحدة في رومية هي الرحمة والمحبة والعطاء، ووردت تسع مواهب مرة واحدة في كورنثوس الأولى هي: الأعوان والحكمة والعلم والإيمان والشفاء وعمل القوات وتمييز الأرواح والألسنة وترجمة الألسنة.
ويوصي الرسول بولس المؤمنين يجدّوا للمواهب الحسنى، وأراهم طريقاً أفضل، هو المحبة (1كو 12: 31). فقد يختلف أصحاب المواهب في ما بينهم، وقد يفتخرون بمواهبهم، وقد يضنّون باستخدامها لخدمة غيرهم، فتعصمهم محبتهم لله والناس من كل هذه المخاطر.
23 – ما هو ثمر الروح القدس؟
* يذكر الوحي تسع ثمرات للروح القدس، يجب أن يحصل كل مؤمن عليها كلها. وهذا بخلاف المواهب التي لا يحصل المؤمن عليها كلها. وثمر الروح في علاقة المؤمن بالرب هو محبة وفرح وسلام، وفي علاقته بإخوته من البشر هو طول أناة ولطف وصلاح، وفي علاقة المؤمن بنفسه هو إيمان ووداعة وتعفف (غلا 5: 22، 23).
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل السادس عشر

قضاء الله

1 - ما هو قضاء اللَّه؟
* قضاء اللَّه هو قصده الأزلي، غير المتغيِّر، حسب رأي مشيئته الذي به سبق فعيَّن لأجل مجده كل ما يحدث. فإن اللَّه منذ الأزل، حسب رأي مشيئته الكلية وحكمته وقداسته المطلقة، وعلمه السابق قد قضى بكل ما يحدث قضاء اختيارياً لا يتغيَّر. ولم يصبح اللَّه بذلك منشئ الخطية، ولم يغتصب إرادة خلائقه، ولم ينزع حرية الأسباب الثانوية ولا إمكان حدوثها، بل بالأحرى ثبَّتها. ويشمل قضاء اللَّه كل ما وقع وكل ما سيقع من الحوادث، مع أسبابها وشروطها ومتعلّقاتها ونتائجها، وهو يجعلها محققة الحدوث لأن اللَّه قصد أن تكون كذلك. وهو قضاءٌ واحدٌ أزلي، فإذا ورد ذكره بصيغة الجمع (أقضية) كان ذلك باعتبار مفاعيله ومتعلقاته (رو 8: 28 وأف 1: 11 و3: 11).
وهذا القضاء يختص بما هو خارج عن الطبيعة الإلهية، فاللَّه لم يقضِ مثلاً بأن يكون قدوساً، أو ثلاثة أقانيم في جوهر واحد، ولكن قضى بما عمل أو بما سيعمله، أو بما سمح أو سيسمح بحدوثه خارج نفسه. فيتعلَّق القضاء: (1) بعمل اللَّه نفسه كالخلق والعناية والفداء. و(2) بأعمال الخلائق العاقلة الحرة في دائرتهم الخاصة. وليس القضاء ما قُضي به، لأن القضاء هو القصد الأزلي، والمقضيُّ به هو إتمام المقصود به. وليس القضاء فرضاً على المخلوقات العاقلة كشريعة إلهية تجب طاعتها، لأنه ليس أمراً إلهياً موجَّهاً إلى الإرادة التي تنفِّذ. فعلاقة القضاء بالخطية ليست كعلاقة السبب بالنتيجة، وإن عمَّ قضاء اللَّه كل الحوادث من خير أو شر. فلم يقضِ اللَّه على أحدٍ من البشر أو الملائكة المسؤولين أمامه بأن يخطئ، ويوجه ذلك القضاء إليه على سبيل إعلان المشيئة الأزلية. إنما قضى بأن يسمح بحدوث الخطية باختيار الشخص المسؤول، لأن اللَّه لا ينشئ الإثم. أما القداسة فلا شك في أنه يقضي بها بقصد حث الإنسان عليها، وكذلك يقضي بالوسائط التي توصّل إلى المطلوب، لا إجباراً بل مساعدةً للإنسان، لأن الإنسان يقدر من تلقاء نفسه أن يخطئ، ولكنه لا يقدر أن يتَّقي اللَّه ويرغب في القداسة ويدركها بدون مساعدة النعمة الإلهية. ويُعرَف قضاء اللَّه بالخلاص بالانتخاب أو الاختيار أو التعيين. والقضاء عام، يشمل نصيب كل مخلوقٍ عاقلٍ.
2 - هل يحق لنا أن ننسب للَّه مقاصد ثابتة؟
* نعم. بل إن ذلك ضروري لأنه من مقتضيات الحكمة الإلهية. فإن كان الإنسان الحكيم لا يشرع في عملٍ دون قصد وغاية، فبالأَوْلى أن اللَّه أحكم الحكماء لم يشرع في أعماله العظيمة التي تحتاج على الدوام إلى عنايته، مثل الخليقة والفداء بدون قصد سابق سامٍ، ووَضْع نظام لتنفيذه. وهذا الاعتقاد يريح عقولنا أكثر جداً من نسبة كل شيء إلى الصدفة أو إلى فعل القوانين الطبيعية، لأن الكون بدون سلطان اللَّه المطلق عليه وإجرائه مقاصده بالحكمة والثبات يكون في أسوأ حال.
ومن النصوص الإلهية التي تعزّي المؤمنين «مخبِرٌ منذ البدء بالأخير، ومنذ القديم بما لم يُفعل، قائلاً: رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي. داعٍ من المشرق الكاسر. من أرضٍ بعيدة رجل مشورتي. قد تكلمتُ فأُجريه. قضيتُ فأفعله» (إش 46: 10، 11). وقول المرنم «أما مؤامرة الرب فإلى الأبد تثبت. أفكار قلبه إلى دور فدور» (مز 33: 11). وقول الحكيم «في قلب الإنسان أفكارٌ كثيرة، لكن مشورة الرب هي تثبت» (أم 19: 21). وقول دانيال «هو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده، أو يقول له ماذا تفعل؟» (دا 4: 35). والقول «ليفعلوا كل ما سبقَت فعيَّنَت يدك ومشورتك أن يكون» (أع 4: 28). «معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله» (أع 15: 18). «الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً، معيَّنين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف 1: 11). «أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقتَ كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلقت» (رؤ 4: 11). فهذه الآيات تشير إلى مشيئة الرب ومشورته وإرادته وقصده، وإلى ثباتها جميعها وعدم إمكان مقاومتها. ويؤيد هذا نبوات الوحي التي تحقَّقت بحذافيرها، مما يبرهن معرفة اللَّه السابقة بالحوادث المستقبلة بحسب مقاصده الثابتة.
ويعلّمنا الكتاب المقدس أن هذا يوافق العقل السليم لأسباب كثيرة، نذكر أربعة منها:
(1) علم اللَّه السابق: فإنه عَرف منذ الأزل كل ما يحدث في العالم، لا بالصدفة، ولا بمعرفة السبب والنتيجة، ولا بتغيير إرادة البشر، فلا شيء من هذه مستقل عن الحكمة الإلهية، ولا شيء أزلي إلا اللَّه. فلا سبب للعلم السابق إلا قصد اللَّه الأزلي. فاللَّه يعلم بوقوع الحوادث المستقبلة لأنه حقَّق حدوثها بقضائه. فإن قيل إن سبب العلم السابق هو قضاء اللَّه بخلق العالم مقيَّداً بشرائع طبيعية غير متغيرة، لا قضاؤه بالحوادث عينها، قلنا: إن علة العالم هي اللَّه نفسه لأنه الأزلي الوحيد. وعلمه السابق أن خلْق العالم على تلك القوانين يحقق الحوادث الناشئة عنها، فيكون القضاء بذلك كله هو القضاء بكل ما يحدث. فالنتيجة واحدة، والبرهان حق، سواء التفتنا إلى القضاء بالحوادث أو القضاء بالخلق وبما ينشأ عنه بالضرورة، إذ القضاء بقوانين عاملة في العالم هو القضاء بما يقع بها. وهكذا يشمل قضاء اللَّه الخلق وما ينشأ عنه، وما يفعله العقلاء باختيارهم. لكن الخالق غير مسؤول عن الشرّ الذي يرتكبه الإنسان المخيَّر. على أن قضاء اللَّه يشمل أعمال المسؤولين المخيّرين إما قصداً وإما سماحاً.
(2) الحكمة الإلهية: فإنها تقتضي قصداً سابقاً وتدبيراً موافقاً لتتمم هدفها في أعمال البشر. فاللَّه لا يتصرف بأحوال الناس بدون قصد سابق يتفق مع حكمته.
(3) عدم تغيّره: لأن ما يعمله اللَّه يستحيل أن يكون عن غير قصد سابق، لأن علمه وقدرته وكماله لا يزيد ولا ينقص. فلا بد أنه قصد منذ الأزل أن يعمل كل ما عمله وما سيعمله. وهذا هو القضاء بعينه.
(4) الصلاح الإلهي: لأنه إن لم يكن كل ما يحدث نتيجةً للقضاء الإلهي، فهو قد حدث إما بالصدفة بلا نظام، وإما بإرادة المخلوقات. ومستحيل أن يترك اللَّه سعادة الكون ونصيب العقلاء لصدفة أو للإرادة المخلوقة مستقلة عن إرادته السامية الكاملة الحكيمة الوافرة الصلاح. فمقتضيات الصلاح الإلهي توجب أن اللَّه لا يهمل مصالح العالم.
فنفي القول بقضاء اللَّه يطعن كثيراً في صفات اللَّه، كالقدرة على كل شيء، والعلم بكل شيء، والصلاح غير المتناهي، والحكمة الفائقة، ويستلزم أن اللَّه بلا ترتيب، تحيط به المشاكل وهو خالٍ من السلطان ناقص العناية. وهذا يرفع عن البشر كثيراً من وجوب الخضوع والشكر له، وينزع من قلوبهم الإيمان والاتكال والرجاء، ويجعلهم مديونين بالفضل لغيره!
3 - لماذا يصعب على العقل البشري أن يبحث هذا الموضوع؟
* لأننا قاصرون عن إدراك العلاقة بين اللَّه غير المحدود والعالم المحدود، وبين سلطان اللَّه المطلق وحرية الخلائق العاقلة، خاصةً العلاقة بين وجود الخطية وقداسة اللَّه وحكمته وصلاحه وقدرته، ونحو ذلك من الصعوبات التي تُرى في كل أنظمة علم اللاهوت التي تعلّم وجود اللَّه وحكمه الأخلاقي وحرية الإنسان كفاعلٍ أخلاقي مخيَّر. وقد شغلت هذه المسائل عقول الفلاسفة في كل عصر. ولا ننكر ما في هذا من الصعوبة، لكننا نستند في فهمها وحلها على تعليم الكتاب وإرشاد روح اللَّه القدوس.
4 - ما هي القضايا الرئيسية في تعليم القضاء؟
* (1) معرفة اللَّه السابقة بكل الحوادث، لأنه قضى بها منذ الأزل.
(2) قضاء اللَّه بكل الحوادث المستقبلة التي تصدر منه مباشرةً، أو تحدث بوسائط ثانوية طبيعية، أو التي هي من أعمال البشر والملائكة الاختيارية، شراً كانت أم خيراً.
(3) إتمام اللَّه قضاءه بطُرق مختلفة، إما بقدرته مباشرةً كما في الخلق الأصلي، أو باستخدام الأسباب الثانوية التي تعمل بموجب شرائع طبيعية، وإما بواسطة العاملين المخيَّرين الأحرار، أو على سبيل الحث والاستخدام، أو على سبيل السماح بما يشاء. ولا فرق في كل هذه الطرق من جهة تأكيد وقوع الحوادث ويقينية إتمامها.
(4) قضى اللَّه بالوسائط كما قضى بالنتائج، وقضاؤه بالسبب كما قضى بالنتيجة. وقضاؤه بأحوال إتمام الحوادث وشروطها كما قضى بالحوادث نفسها. وقضاؤه بالوسائل كما قضى بالغايات المقصودة بها.
(5) قضاء اللَّه يؤكد وقوع المقضي به، وأن يكون إتمامه ليس منه مباشرةً، بل بواسطة ما يستخدمه لذلك بعنايته في حينه.
(6) قضاء اللَّه واحد يعم كل الأمور بقصدٍ واحد أزلي.
5 - ما هو الفرق بين قضاء اللَّه السابق وعلمه السابق؟
* قضاء اللَّه السابق هو تعيينه لكل ما يحدث في كل زمان، وهو يختص بمشيئته. وعلمه السابق هو معرفته منذ الأزل بكل ما يحدث في كل زمان، وهو يختص بحكمة اللَّه غير المحدودة. فالقضاء السابق يجعل الحوادث محقَّقة الوقوع، والعلم السابق يراها محقَّقة الوقوع. والعلم السابق مبني على القضاء السابق، فيعلم اللَّه الحوادث لأنه قضى بحدوثها.
ويعلم اللَّه بسابق علمه الخلق والأسباب الطبيعية والشرائع المنظمة والحوادث الواقعة والنتائج المتوالية، لأنه قضى بها جميعاً. فهي كلها من تدبيره، وعلى ذلك يكون إنكار القضاء إنكاراً لعلم اللَّه السابق، لأن سبق العلم غير مستقل عن القضاء. فقد عرف اللَّه مثلاً بسقوط آدم لأنه قضى بسقوطه. فالعلم السابق بأمرٍ محقق الوقوع هو نتيجة القضاء به. وإلا فعلمه ليس بسابق ولا لاحق.
6 - ماذا يتضمن تعريف قضاء اللَّه الذي قدمناه في السؤال الأول من هذا الفصل؟
* يتضمن: (1) غاية قضاء اللَّه هي إظهار مجده.
(2) قضاء اللَّه كلي الحكمة والقداسة.
(3) إنه يتعلق بقصدٍ واحد أزلي.
(4) إنه حر ومستقل ومطلق، وليس له علة سوى مشيئته.
(5) إنه يشمل كل حوادث الكون.
(6) إنه غير متغير.
(7) لم يَصِر اللَّه بذلك منشئ الخطية، ولا يُجبر إرادة خلائقه، ولا ينزع حرية الأسباب الثانوية ولا إمكان حدوثها، بل يثبّتها.
7 - كيف يتضح أن القصد الأصلي في قضاء اللَّه هو إظهاره مجده؟
* يقول الكتاب المقدس إن الهدف من كل شيء هو إظهار مجد اللَّه. فهو غاية خلق السماوات والأرض، فإن كل الأشياء هي من اللَّه وبه ولأجله (رو 11: 36). والسماوات تذيع مجده والفلك يخبر بأعمال يديه (مز 19: 1). وقال اللَّه لموسى «فتُملأ كل الأرض من مجد الرب» (عد 14: 21). ومجد اللَّه هو غاية أعمال عناية اللَّه، سواءٌ كانت تأديباً للناس أم مكافأةً. وعلى ذلك قال اللَّه «من أجل نفسي أفعل، لأنه كيف يُدَنَّس اسمي؟ وكرامتي لا أعطيها لآخر» (إش 48: 11). «صنعتُ لأجل اسمي لكي لا يتنجس أمام عيون الأمم» (حز 20: 9). ومجد اللَّه أيضاً غاية عمل الفداء ومنح النعمة (1كو 1: 26-31 وأف 1: 6-12). وقد وضع الرب يسوع أمامه هذا الهدف فقط، ففعل كل شيء لمجد اللَّه، وطلب من تلاميذه أن يحيوا ويعملوا لأجل ذلك. وبما أن اللَّه غير محدود، وكل الخلائق كلا شيء أمامه، كان تمجيده بإعلان طبيعته وصفاته الكاملة أعظم الأهداف، والواسطة العظمى لنوال غايات أخرى مثل خير البشر وسعادتهم.
8 - كيف نتحقق أن قضاء اللَّه كلي الحكمة والصلاح والقداسة؟
* من قول الرسول «حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف 1: 11) أي أن كل ما جرى وما سيجري ناشئ عن رأي مشيئة اللَّه، ويدل على حكمته وصلاحه وقداسته، وعلى أن تلك الصفات غير محدودة فيه (مز 33: 11 وأي 12: 13 وأم 19: 21). وعجزنا عن فهم أعمال اللَّه فهماً كاملاً لا يدل على نقص تلك الصفات فيه، كما أن عدم إدراكنا ذاته وصفاته الطاهرة لا يدل على عدم وجود تلك الصفات فيه ولا على نقصها.
9 - ما معنى وحدة قضاء اللَّه وأزليته، وما هي الأدلة على ذلك؟
* المقصود بوحدة قضاء اللَّه هو أن كل الحوادث التي وقعت والتي ستقع كانت لدى اللَّه منذ الأزل، وأنه قضى في الأزل بما حدث منذ بدء الزمان إلى الآن، وبما هو حادث تحت النظام الحاضر بكل تغيراته، وبما سيحدث إلى الأبد، وأن سبب حدوث أمرٍ في وقتٍ ما سببه أن ذلك الوقت هو المعيَّن له في قضاء اللَّه. فيكون قضاء اللَّه واحداً لا أقضية كثيرة، ولا متجددة حسب مقتضيات الأحوال. والحوادث المختلفة التي لا تُحصى هي أقسام قصد واحد عام أزلي، لأن اللَّه غير محدود في طبيعته، ولا يكون ذا كمالٍ إذا كانت مقاصده متجددة، بمعنى أنه يقصد الآن ما لم يقصده سابقاً. وحاشا أن نقول ذلك! ولما كان هذا القضاء الوحيد يتضمن أموراً كثيرة، بعضها مرتبط ببعض، جرت العادة أن نتكلم فيه كأنه أقضية كثيرة متوالية. وذكر الكتاب أحكام اللَّه ومقاصده وأقضيته بصيغة الجمع تنازلاً لإفادة عقولنا. ولإيضاح وحدانية قصد اللَّه الذي يتضمن كل أمور الخليقة والعناية والفداء نقول: إذا رأينا قصراً واسعاً ذا أجنحة عديدة تتصل بعضها ببعض، عرفنا أنه واحدٌ وإن كثرت أجنحته، وأن المهندس قبل الشروع في بنائه صوَّر في ذهنه قصراً واحداً، مع أنه قصد أن يبنيه من أجنحة كثيرة متصلة ببعضها.
والمقصود بأزلية قضاء اللَّه هو أنه منذ الأزل، لأنه لما كان اللَّه كاملاً كان غير ممكن أن يكون له مقاصد في وقتٍ لم تكن له في وقتٍ آخر، لأنه يرى النهاية منذ البدء، فأقسام الزمان لا تأثير لها في اللَّه الأزلي الأبدي. ونتعلم من الكتاب المقدس أن جميع الحوادث هي إظهار قصد اللَّه الأزلي. قال الرسول إن خلاص البشر «حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا» (أف 3: 11). وقال إن المؤمنين اختيروا «في المسيح قبل تأسيس العالم» (أف 1: 4 و2تي 1: 9). وقال عن المسيح إنه كان معروفاً ذبيحةً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلنا (1بط 1: 20، 21). وقال المسيح إنه في يوم الدينونة يقول للذين عن يمينه «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعَدّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34). وجاء أيضاً «بل نتكلم بحكمة اللَّه في سر. الحكمة المكتومة التي سبق اللَّه فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا» (1كو 2: 7). «معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله» (أع 15: 18). «اللَّه اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق» (2تس 2: 13) «على رجاء الحياة الأبدية التي وعد بها اللَّه المنزَّه عن الكذب قبل الأزمنة الأزلية» (تي 1: 2). ولا يناقض الكتاب المقدس هذا التعليم، فقد ذكر أحياناً قصداً من مقاصد اللَّه تابعاً لقصد آخر، أو ناشئاً عن أفعال البشر. فكثيراً ما يعبّر عن الأمور حسبما تظهر لنا لا كما هي بالحقيقة، كقوله «أسس السماوات» مع أننا نعرف أن السماوات غير مرتكزة على أساس. ويوافق ذلك حكم العقل السليم الذي يرى أن اللَّه أزلي الوجود وكلي الحكمة وكامل المعرفة ومقاصده أزلية. وواضح أن الاعتقاد بعدم أزلية مقاصده يؤدي إلى أن معرفته تزيد على الدوام، وهذا لا يليق باللَّه، ولا يوافق كماله الأزلي في المعرفة والصلاح والقدرة غير المحدودة.
10 - كيف تثبت أن قضاء اللَّه حر (أي اختياري ومستقل) ومطلق (أي ليس له سبب سوى مشيئته)؟
* لما كان اللَّه عاقلاً مختاراً وكلي الحكمة والقدرة كان قضاؤه اختيارياً ناشئاً عن مجرد مشيئته، دون أن يضطره إليه سبب خارجي. مثال ذلك أنه لما اختار اللَّه أن يخلق العالم كان يمكنه لو شاء أن يختار أن لا يخلقه، أو أن يخلقه بنظام آخر. وهكذا قصد كل ما قصده باختياره لا بالاضطرار. قال الرسول إن اللَّه يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته (أف 1: 11). أي الرأي الناشئ من مشيئته لا من مشيئة غيره.
وقولنا إن قضاء اللَّه مستقل يعني أنه يقضي دون احتياج إلى شريك أو مشير في قضائه. أما نحن فقد تكون مقاصدنا مستقلة، وقد تكون بمشورة غيرنا ومشاركتهم. ولكن اللَّه متعالٍ جداً فوق ذلك «لأن مَنْ عرف فكر الرب، أو مَنْ صار له مشيراً؟» (رو 11: 34) «هوذا اللَّه يتعالى بقدرته. مَنْ مثله معلماً؟ مَنْ فرض عليه طريقه، أو مَنْ يقول له قد فعلت شراً؟» (أي 36: 22، 23). «مَنْ قاس روح الرب ومَنْ مشيره يعلّمه؟ مَنْ استشاره فأفهمه وعلَّمه في طريق الحق، وعلّمه معرفةً وعرَّفه سبيل الفهم؟» (إش 40: 13، 14).
وقصدنا بأن قضاء اللَّه مطلق هو أنه غير مقيَّد، ولا يتوقف على أمرٍ آخر، لأنه إن كان اللَّه لا يعتمد على نفسه اعتماداً مطلقاً في أموره، بل ينتظر حدوث شيء غير مقضيٍّ به أو عدم حدوثه، ما أمكن أن يكون قضاؤه أزلياً! ويقول الكتاب إنه «يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض» (دا 4: 35 ومز 135: 6) وإن «منه وبه له كل الأشياء» (رو 11: 36). ونتعلم من الكتاب أن جميع مقاصد اللَّه حتى ما كان منها في شأن خلاص البشر ناشئة عن رأي مشيئته، فإنه يرحم مَنْ يشاء، ويخلّصنا ليس بأعمالنا بل بنعمته، وقد اختارنا للخلاص حسب مشيئته المطلقة (مت 11: 26 ورو 8: 29، 30 و9: 15-18 وأف 1: 5).
11 - ما معنى أن قضاء اللَّه فعَّال ومحتوم به، وما هي الأدلة على ذلك؟
* قضاء اللَّه يجعل حدوث الأمر المقضي به مؤكداً، فما قضى به لا بد أن يحدث، سواء قضى أن يفعله هو أم قضى أن يسمح بحدوثه، لأنه قد قضى أن يفعل بعض الأمور وأن يسمح بحدوث غيرها. فالخير يفعله هو والشر يسمح بحدوثه. فقد قضى منذ الأزل أن الشيطان يجرب أبوينا الأوَّلين، وأنهما يسقطان، وأن اللَّه يرسل ابنه ليموت لأجل الخطاة. ومن الأدلة على هذا:
(1) كمال اللَّه الذي يمنع أن تكون له مقاصد يصعب تنفيذها، فالإنسان ينفذ ما يقصده ما لم يكن ناقص الحكمة أو القدرة على إجرائه، أو إن كان متقلب الآراء. ولكن اللَّه منزَّه عن هذه النقائص، وهو الحكيم القدير على كل شيء، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران (يع 1: 17).
(2) وحدة قضاء اللَّه، فلما كان قضاء اللَّه يعم كل الأمور كانت جميع مقاصده مرتبطةً ببعضها. فإذا أمكن أن واحداً منها لا يقع أمكن أن الكل لا يقع، فيبقى النظام ثابتاً.
(3) شهادة التاريخ، الذي يرينا أن الأمور متوقفة على بعضها، وأن الحوادث العظيمة تنشأ أحياناً عن أسباب جزئية، وهذا يبرهن أن كل الأمور، صغيرة وكبيرة، هي مرتبة ومعيَّنة في قضاء اللَّه.
(4) حُكم اللَّه السياسي والأخلاقي يستلزم ذلك، فلو لم يكن قضاؤه نافذاً لزال اليقين في حكمه، ووقع الشك في إتمام كل النبوات والمواعيد والتهديدات الإلهية، وتقوّض كل أساس الثقة باللَّه، وصارت الأمور موكولةً للصدفة.
(5) حكم العقل السليم الذي يدرك أن عدم إتمام أحد مقاصد اللَّه لا بد أن يكون إما لأنه قد تركه عمداً، أو لأن مانعاً قد حال دون ذلك. وكلاهما لا يليق باللَّه، لأن الأول يدل على نقص الحكمة والثاني على نقص القدرة.
(6) شهادة الكتاب المقدس : (أ) الآيات التي تشير إلى أن قضاء اللَّه مطلق لا يتغير (عد 23: 19 وحز 24: 14 وإش 46: 10 ومز 33: 11 وأي 23: 13 وأم 19: 21 ولو 22:22 وأع 4: 28). (ب) الآيات التي تقول إنه وضع حدود مساكننا، وإن أيامنا وشعور رؤوسنا محصاةٌ عنده (مت 10: 29، 30 ولو 21: 18 وأم 16: 33 وأع 27: 34). (ج) الآيات التي تدل على أن لا شيء يقدر أن يقاوم مقاصده، ومن ذلك قول النبي «رب الجنود قد قضى، فمَنْ يبطل؟ ويده هي الممدودة، فمَنْ يردُّها؟» (إش 14: 27). «من اليوم أنا هو ولا منقذ من يدي. أفعل ومَنْ يردُّ» (إش 43: 13). (د) التعاليم التي تستلزم نفوذ مقاصد اللَّه، فكل عمل الفداء مبني على هذا الأساس، فمن المحال أن اللَّه يدبّر فداءً عظيماً ولا يؤكد إجراءه، وأن يرسل ابنه إلى العالم ويترك نتائج إرساله غير محقَّقة. فللَّه قصد في إبداع الكون، وإتمام ذلك القصد لا شك فيه، وكل ما في قضاء اللَّه سيحدث لا محالة.
12 - ما هو الفرق بين ما قصد اللَّه أن يتممه وما قصد أن يسمح بحدوثه؟
* الأول هو ما قصد اللَّه إتمامه إما بنفسه أو بأسباب ثانوية، والثاني هو ما قصد أن يسمح لعاملين مخيّرين أحرار من البشر أو الملائكة أن يعملوه حسب رغبة قلوبهم. ومن أمثلة الأول حركات الأجرام السماوية، فإنه قضى أن الأرض تدور حول الشمس في نحو 365 يوماً، وهو يتمم هذا بما سنَّه لها من القوانين الطبيعية. وينسب الكتاب المقدس هذه الأسباب الثانوية لقدرة اللَّه وفعله في الكون. ومن هذا عمل روح اللَّه في أرواحنا بواسطة الحث والتعليم والإرشاد، خاصةً في تجديد قلوبنا. وكل ذلك بدون تعطيل حرية إرادتنا الأخلاقية التي هي من شرائع الحياة الروحية.
ومن أمثلة الثاني سماح اللَّه بحدوث الخطية. فإنه لا يعمل في إنسان ولا في ملاك أن يريد وأن يعمل الشر، غير أنه يسمح له به. وقضاؤه بالسماح به يجعله مؤكد الحدوث. والقضاء بالسماح يدل أولاً على أن اللَّه قصد أن لا يمنع الشر. وثانياً أنه قصد أن يجعل له حداً ويتسلط عليه، بدليل ما نراه كثيراً من تحويله إياه واسطةً للخير. ولا شك في أنه أخيراً يحوّل كل الشر إلى خيرٍ يؤول لمجده حسب قول المرنم «لأن غضب الإنسان يحمدك» (مز 76: 10).
13 - بماذا يتفق تعليم الكتاب المقدس في تأكيد قضاء اللَّه وتعليم القَدَر، وما هي أوجه الاختلاف بينهما؟
* يتفقان في القول بتأكيد حدوث الأمور، ويختلفان في كل ما عدا ذلك. فتعليم القَدَر هو أن كل الأمور مؤكدة الحدوث لأن الشرائع لا تتغيَّر، بل تجري مجراها بدون تمييز عقلي وبقوةٍ لا تُقاوم، وبدون نظر إلى النتائج.
ولكن الكتاب المقدس يعلّمنا أن تأكيد حدوث ما قضى اللَّه به مبني على وجود أب إلهي قادر قدوس محب، قضى بحكمته وسلطانه وحسب رأي مشيئته ولأجل غايات حسنة كل ما يحدث في الكون الذي خلقه، وأنه في إتمام ذلك يطلب الخير الأعظم والمجد الأسمى، ويستعمل أفضل الوسائط، ويراعي حرية خلائقه العاقلة، ولا يجبر أحداً. ويستعمل أسباباً ثانوية بدون أن يخالف طبيعتها أو ينقص من شأنها. فالفرق بين هذا وذاك كالفرق بين الإنسان وآلة ميكانيكية، أو كالفرق بين أعمال الإرادة الحرة في المخلوق العاقل وأعمال الطبيعة التي تجري حسب قوانين المادة.
14 - ما هو الفرق بين القضاء المطلق والقضاء المقيَّد، ومن أي نوع منهما قضاء اللَّه؟
* القضاء المطلق هو ما لا يتوقف على شرطٍ، والقضاء المقيد هو ما يتوقف على شرط وقوع حادثةٍ غير مقضيٍّ بها ولا مؤكدة الحدوث. فقضاء اللَّه من النوع المطلق، لأنه لا يتوقف على أعمال البشر، ولا على أسباب طبيعية، ولكنه يشملها بمعنى أنها داخلة فيه، لأنها وسائط وآلات لإتمامه. ولا يليق أن ننسب إلى اللَّه القضاء المقيد لما يأتي:
(1) قضى اللَّه بكل الشروط والوسائط والعلاقات التي تنفذ قضاءه. مثال ذلك أنه قضى بخلاص الإنسان، وقضى أيضاً بكل ما يتعلق به من إنارة قلبه وتجديده وتعليمه الحق ومساعدته على الإيمان والاتكال على المخلّص، كقول الرسول «الذين سبق فعيَّنهم فهؤلاء دعاهم أيضاً» وقِس على ذلك كل ما قضى به (2تس 2: 13 و1بط 1:1، 2 وفي 2: 13 وأف 1: 4 و2: 8 و2تي 2: 25 وخصوصاً أع 27: 22، 31).
(2) قضاء اللَّه أزلي وغير متغير، والقضاء المقيَّد قابل للتغيير وغير مؤكد الحدوث (إش 14: 24، 27 و46: 10 ومز 33: 11 وأم 19: 21 ورو 9: 11 وأف 3: 11 وأع 2: 23 و3: 18).
(3) القضاء المقيد يحط من سلطان اللَّه ويجعله في إجراء حكمه في الكون مقيداً بأعمال خلائقه التي هي خارجة عن قضائه (عند القائلين بالقضاء المقيد). وكل ذلك يخالف تعليم الكتاب أن اللَّه ذو سلطان مطلق، وليس من يقاوم إرادته (مز 115: 3 و135: 6 ودا 4: 35 ورو 9: 15-18).
(4) يعلِّم الكتاب المقدس أن قضاء اللَّه ناشئ من مجرد مسرته ورأي مشيئته، وأنه يعم أعمال البشر الحرة، ويؤكد حدوثها ونتائجها (إش 30: 13، 14 وأف 1: 5، 11 ورو 9: 11 ومت 11: 25، 26 وأف 2: 8 وأع 4: 27، 28). واعترض البعض بأنه لما كانت بعض المواعيد والتهديدات تحت شروط كان قضاء اللَّه كذلك، وينتج منه أنه غير مؤكد. فنجيب أن القضاء ليس كتلك المواعيد والتهديدات، لأنه يحيط بالسبب والنتيجة، أي بالأمر المقضي به وبشروطه معاً. وينتج من ذلك أنه لا يتوقف على شرط، بل الشرط داخل فيه.
15 - كيف تثبت أن قضاء اللَّه يشمل كل حوادث الكون بدون استثناء؟
* تقع بعض الحوادث لأسباب طبيعية، ويقع بعضها بفعل فاعل حرّ الاختيار، ومنها ما هو صالح وما هو شرير. ونتعلم من الكتاب المقدس أن اللَّه سبق فعيَّن كل ما يحدث، سواءٌ كان حدوثه اضطرارياً أو اختيارياً، وسواء كان صالحاً أم شريراً. أي أن كل الحوادث داخلة في قصد اللَّه، ولا بد من وقوعها (أي 14: 5 وأم 16: 33 وإش 46: 10، 11 ودا 4: 34، 35 ومت 10: 29، 30 وأع 2: 23 و4: 27، 28 و15: 18 و17: 26 وأف 1: 10، 11 و3: 10، 11 ورؤ 17:17). وأنه قضى بالوسائط كما قضى بالغاية المقصودة (2تس 2: 13 و1بط 1: 2 وأف 1: 4 وأع 27: 23، 24، 31). وقضى بكل ما يظهر لنا أنه حدث بالصدفة أو بدون تعيين منه (أم 16: 33 وتك 45: 8 و50: 20 وخر 12: 36 وعد 9: 12 ويو 19: 36 ومز 34: 20). وقضى بأعمال الناس الصالحة (أف 2: 10). وبأعمالهم الشريرة بمعنى أنه سمح بها (مز 76: 10 وأم 16: 4 وأع 2: 23 و4: 27، 28 ورو 9: 17 و1بط 2: 8). وقضى بموت كل إنسان (أي 14: 5 ومز 39: 4 ومت 10: 30 ويو 7: 30). ولا يناقض ذلك أن اللَّه أطال حياة حزقيا 15 سنة بعد ما أخبره أنه سيموت (إش 38: 1-5) لأن قول الرب لحزقيا «إنك تموت ولا تعيش» لا يدل بالضرورة على أن اللَّه قد قضى بموته في ذلك الوقت، لأن القرينة تُرينا أن ذلك المرض لو تُرك لذاته يُميت حزقيا. أما قضاء اللَّه فهو أنه ينقذه من ذلك المرض استجابةً لصلواته، ويطيل حياته 15 سنة.
ويتبيَّن مما يأتي أن قضاء اللَّه يشمل كل حوادث الكون بدون استثناء:
(1) من وحدة المقاصد الإلهية: فإن قضاء اللَّه الواحد الثابت الأزلي أُظهر فعلاً في أزمنة متوالية، وهو يحوي كل ما يتعلق بالخليقة والعناية والفداء. ولا يقبل العقل أن جزءاً من هذا النظام يُترك بدون قضاء اللَّه، خاصةً إذا كان له تأثير عظيم في الكل.
(2) إننا نهين كمال اللَّه إذا اعتقدنا أن اللَّه لا يضع نظاماً يشمل كل الحوادث، أو أنه لا يقدر أن يُجري قصده بدون أن ينزع الاختيار الذي وهبه لخلائقه.
(3) من عموم حكم اللَّه: فإن الكتاب يعلّمنا أن اللَّه يتسلط على كل الأمور حتى أصغرها، وهذا يستلزم أن قضاء اللَّه عام، وأن كل ما يفعله أو يسمح بحدوثه قد قضى به سابقاً، وأنه لا يمكن أن يحدث شيء لم يعلمه قبلاً. وإذا كان قد علمه فإنه كان قد قضى به أيضاً.
(4) من تأكيد إجراء حكم اللَّه: فإن كل الحوادث مرتبطة معاً، واللَّه يفعل بوسائط. فإن كانت الوسائط غير مقضي بها أيضاً ضاعت كل ثقة بوقوع الحوادث. مثال ذلك: لما قضى اللَّه بفداء الإنسان قضى أيضاً بإرسال المسيح وتجسده وآلامه وموته وقيامته، وعطية الروح القدس، وتجديد شعبه وتوبتهم وإيمانهم. والإنباء بحوادث مستقبلة، وبما يتعلق بها من الأمور التي تظهر لنا أنها عرضية أو جزئية يؤكد لنا أن قضاء اللَّه يشمل كل الأشياء كبيرة كانت أم صغيرة، فجاء في الكتاب المقدس أن اللَّه يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته. وقوله «كل شيء» غير مقيَّد، بل هو شامل. ونتعلم أيضاً أن ما يظهر لنا أنه يحدث عرضاً، مثل وقوع القرعة وإصابة السهم وسقوط العصفور وإحصاء شعور رؤوسنا هو قضاء اللَّه الأزلي.
(5) من إتمام النبوات: فإن إتمام نبوة أنبأ بها اللَّه سابقاً دليل على سبق علمه الذي يتوقف على سَبْق قضائه. وإنباؤه بأمور مستقبلة الحدوث يتوقف على أعمال البشر الحرة. وإتمام تلك الأمور دليل على أن قضاءه يشمل كل الأسباب الثانوية، لأنه لما كانت كل الحوادث تتعلق بعضها ببعض، كان القضاء بواحدة منها يوجب بالضرورة القضاء بسلسلة الحوادث التي تسبقها، مع جميع أسبابها ومتعلقاتها وشروطها. وهكذا كل ما أنبأ به من النبوات الكثيرة المشهورة الواسعة المعنى والممتدة إلى كل الدهور.
(6) من نصوص الكتاب المقدس الصريحة: مثل القول «هذا أخذتموه مسلَّماً بمشورة اللَّه المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه» (أع 2: 23). «لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع، الذي مسحتَه، هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبَقَت فعيَّنَت يدك ومشورتك أن يكون» (أع 4: 27، 28). «أليس عصفوران يُباعان بفلسٍ، وواحدٌ منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم؟ وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة» (مت 10: 29، 30). «وصنع من دم واحد كل أمةٍ من الناس يسكنون على كل وجه الأرض، وحَتَم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم» (أع 17: 26). «أنتم قصدتم لي شراً، أما اللَّه فقصد به خيراً، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً» (تك 50: 20). «وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده، أو يقول له: ماذا تفعل؟» (دا 4: 35). «الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً، معيَّنين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف 1: 11).
ويُجري اللَّه قضاءه بثلاث طرق، وهي: (أ) العمل، كما في الخليقة، و(ب) السماح، كما في السقوط والخطية، و(ج) التسلط ليحوّل الشر إلى الخير، أو يقيّده ليضبط نتائجه، كما في موت المسيح الذي حوّله إلى ينبوع خير لا يوصف للبشر، ووضّح فيه محبته، وسيتمجد به أيضاً.
16 - ما هو الدليل على أن اللَّه قضى بأعمال الناس الاختيارية منذ الأزل؟
* تعليم الكتاب المقدس، الذي يقول إن اللَّه وعد بإعطاء إيمان وقلوب جديدة، وإنه يكتب شريعته على قلوب شعبه، وإنه يعمل فيهم أن يريدوا وأن يعملوا من أجل المسرة، وإنه يُرجع الأمم إليه، ويملأ العالم من الساجدين الحقيقيين للمسيح. وذلك يستلزم أنه قضى بكل تلك الأمور، وهي جميعها تتم بأعمال الناس الاختيارية. ومن هذا القبيل أيضاً تعليم الكتاب أن أعمال الناس الشريرة داخلة في قضائه كالمقدسة، بدليل قوله «هذا أخذتموه مسلَّماً بمشورة اللَّه المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه» (أع 2: 23). «لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل ليفعلوا كل ما سبقَت فعيَّنَت يدك ومشورتك أن يكون» (أع 4: 27، 28). «وابن الإنسان ماضٍ كما هو محتوم، ولكن ويلٌ لذلك الإنسان الذي يسلّمه» (لو 22:22). فمع أنه قضى سابقاً أن يسوع يُسلَّم صرَّح اللَّه بالويل للذي أكمل ذلك القضاء. فنتعلم من هذا أن قضاء اللَّه السابق ومسؤولية الإنسان يجتمعان في أمر واحد بدون تناقض. قيل في سفر الرؤيا «لأن اللَّه وضع في قلوبهم أن يصنعوا رأيه، وأن يصنعوا رأياً واحداً، ويعطوا الوحش ملكهم حتى تكمل أقوال اللَّه» (رؤ 17:17 انظر أيضاً رو 9: 17 و1بط 2: 8).
ولا شك أن صلب المسيح هو أعظم الخطايا، ولكن اللَّه قضى به منذ الأزل. فتواريخ العالم هي مظاهر قضاء اللَّه، ولكن أكثرها أخبارٌ بخطايا الناس، فلا يقدر أحدٌ أن يقرأ قصة يوسف في سفر التكوين بدون أن يتحقق أن كل ما حدث له قد حدث بالقصد الأزلي. وأما حسد إخوته وبيعهم إياه وحبسه ظلماً في مصر، فكانت جزءاً من قضاء اللَّه. قال يوسف لإخوته «أرسلني اللَّه قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض، وليستبقي لكم نجاةً عظيمة. فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل اللَّه. وهو قد جعلني أباً لفرعون وسيداً لكل بيته ومتسلطاً على كل أرض مصر» (تك 45: 7، 8). وما يصدق على تاريخ يوسف يصدق على كل التواريخ، فكلها تُظهر القصد الأزلي. وذلك واضح في الأمة اليهودية واضطهادات الأشرار للكنيسة في قرونها الأولى التي جعلها اللَّه حسب قصده الأزلي وسيلةً لانتشار الإنجيل بأكثر سعة وسرعة. ولو ظن المؤمنون أن اللَّه لم يقضِ منذ الأزل بكل ما يحدث لزالت ثقتهم به، ولكنهم لم يزالوا ولن يزالوا في الطمأنينة في ظله وإرشاده، لأنه يملك ويعمل حسب مسرته في السماء وعلى الأرض» (دا 4: 35).
ويدرك عقل الإنسان هذه النتيجة متى تأمل هذا الموضوع، لأنه يرى أن كل الحوادث هي سلسلة، كل حلقة منها مرتبطة بما قبلها وبما بعدها، وأن للإرادة البشرية الحرة فعلاً عظيماً في مجرى الأمور. فلو لم يكن للَّه سلطان مطلق على تلك الأعمال الاختيارية لعجز عن ضبط ما يرتبط بها، وما كان حكمه إلا سلسلة وسائط جديدة وتغييرات عديدة ليتغلّب على ما يعترض إتمام مقاصده من أعمال الناس الحرة الخارجة عن دائرة قضائه، وكانت أيضاً معرفته تتجدد وتزداد كلما أحدث فاعلٌ مختار عملاً لم يكن ضمن قضائه الأزلي، فتتغير مقاصده وغاياته على الدوام. وكذلك كانت النبوة بالمستقبل مستحيلة. ولكن تحقيق النبوات الكثيرة تحقيقاً دقيقاً، في أعمال الأشرار والصالحين تؤكد قضاء اللَّه الأزلي، كما حدث مع الفراعنة ونبوخذنصر وكورش وغيرهم (انظر تك 45: 5 ويش 11: 20 و1صم 2: 25 و2صم 16: 10 و1مل 12: 15، 24 و2مل 24: 2، 3، 20 ومز 76: 10 وإش 10: 5، 15 و45: 7 ودا 4: 34، 35 وعا 3: 6 وأع 2: 23 و4: 27، 28 و15: 18 و17: 26 ورو 9: 15، 18 و11: 33 وأف 1: 10، 11 وعب 4: 13).
17 - ما هو اعتراض الأرمينيين والسوسينيين على دخول أعمال الناس الحرة في قضاء اللَّه، وما هو الرد عليه؟
* قالوا إن اللَّه لم يقضِ بأعمال الخلائق المختارين الأحرار. غير أن الأرمينيين سلّموا بسبق علم اللَّه لتلك الأعمال، ولكنهم أنكروا أنه قضى بها. وأما السوسينيون فأنكروا القضاء بها ومعرفته إياها سابقاً أيضاً. والقولان مناقضان لأقوال الكتاب المقدس، فإننا نتعلم من الكتاب أن معرفة اللَّه السابقة لكل الحوادث مؤسسة على قضائه إياها، لأن العلم السابق يتوقف على اختيار اللَّه أعماله حسب قصده، لأن بين علمه بكل ما هو ممكن الحدوث، وعلمه بكل ما يقصد إحداثه فرقاً. وهذان النوعان يشملان كل علم اللَّه. فلا صحة لما قاله مولينا اليسوعي الأسباني (مات سنة 1601م) إن هناك نوعاً ثالثاً بينهما، وهو علم اللَّه بما سيحدث وهو لم يقضِ به، وسماه العلم المتوسط، فيكون أصل هذا العلم المخلوقات لا الخالق، ويلزم عنه أن اللَّه جهل ذلك إلى أن عرفه من أعمال الخليقة، وذلك مستحيل (انظر فصل 12 س 34).
وهذا ما يقوله الكتاب المقدس في هذا الشأن:
(1) شرور البشر موضع اعتبار القضاء الإلهي، ومن أمثلة ذلك أعمال أولاد عالي (1صم 2: 25) وعمل شمعي (2صم 16: 10، 11) وأخيتوفل (2صم 17: 14) والكلدانيين (2مل 24: 2، 3، 20) ويربعام (1مل 12: 15، 24) وأمصيا (2أي 25: 20) ونبوخذنصر (إر 25: 9 و51: 20) وبيلاطس وهيرودس (أع 4: 27، 28).
(2) حين يفعل البشر باختيارهم مقاصدهم الذاتية يتممون قضاء اللَّه. ومن أمثلة ذلك هدد الأدومي ورزون بن أليداع (1مل 11: 14، 23) وداود حين أحصى بني إسرائيل (2صم 24: 1) وفول وتغلث فلاسر (1أي 5: 26) والماديون حين هاجموا بابل (إش 13: 17) والمصريون (مز 105: 25) والعشرة القرون حين أعطوا المُلك للوحش (رؤ 17:17).
(3) وقوع الناس في الخطأ لا يخالف قضاء اللَّه بل يوافقه، رغم عدم موافقة اللَّه على الخطأ (أي 12: 16-25 وحز 14: 9 و2تس 2: 11، 12).
(4) ينسب الكتاب أحياناً قساوة قلوب الأشرار إلى اللَّه، وإن كانت هذه القساوة نتيجة أفعالهم الاختيارية. ولكن المعنى لا يدل على أن هذه القساوة من عمل اللَّه مباشرةً، بل تدل على سماحه بها بوسائط ثانوية، ولذلك تُنسب النتيجة إليه ويُقال إنه قضى بها (إش 6: 9، 10 و29: 10 ورو 11: 7، 8 وخر 4: 21 و7: 3، 13، 14، 22 ورو 9: 18). وكل هذا لا يدل على أن اللَّه منشئ الخطية، بل على أن أعمال الناس سواء كانت صالحة أم شريرة غير خارجة عن قصده، وهو يحوّل كل شيء ليتمم غايته المقدسة.
18 - كيف يتضح أن قضاء اللَّه غير متغيِّر؟
* لما كان تغيُّر المقاصد ينشأ إما عن نقص الحكمة أو عن نقص القوة، ولما كان اللَّه غير محدود في هاتين الصفتين (وفي غيرهما) كان من المحال أن يحدث شيء غير منتظر عنده، يجعله يغيّر مقاصده الأصلية، أو يمنع إجراءها، لأن كمال معرفته وحكمته يجعل كل تغيير غير ضروري، كما أن كمال قدرته يجعله دائماً قادراً أن يتمم ما قصده، كما أن صدقه يجعله يتمم ما عيَّنه ووعد به (أي 23: 13 وإش 46: 10 و1صم 15: 29 و2تي 2: 13 وعب 6: 17، 18). ويقول الكتاب «ليس عنده تغيير ولا ظل دوران» (يع 1: 17). «أما مؤامرة الرب فإلى الأبد تثبت. أفكار قلبه إلى دور فدور» (مز 33: 11). «قد حلف رب الجنود قائلاً: إنه كما قصدت يصير وكما نويت يثبت» (إش 14: 24). «اذكروا الأوليات منذ القديم، لأني أنا اللَّه وليس آخر، الإله وليس مثلي. مخبرٌ منذ البدء بالأخير ومنذ القديم بما لم يُفعل، قائلاً: رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي» (إش 46: 9، 10). فالشرائع الطبيعية إعلان دائم لعدم تغير مقاصد اللَّه، وكذلك ثبوت الشرائع الأخلاقية التي تدرب عقول الناس وضمائرهم. فحكم اللَّه الطبيعي والأخلاقي ثابت كله، لأنه مؤسس على عدم تغيُّر مقاصده.
19 - هل عدم تغيُّر قضاء اللَّه ينافي حرية إرادة الإنسان ومسؤوليته؟
* لا. فقد قضى بكل ما يحدث قضاءً اختيارياً لا يتغير. إلا أنه لم يصبح اللَّه بذلك منشئ الخطية، ولم تُغتصب إرادة خلائقه، ولم تُنزع حرية الأسباب الثانوية ولا إمكان حدوثها، بل بالأحرى تتثبَّت. وقال المسيح عن يهود عصره إنهم عملوا بإيليا كل ما أرادوا، وإن ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم (مت 17: 22). على أنهم بإتمامهم تلك النبوة قد صلبوا ابن الإنسان بإرادتهم الحرة دون إجبار. وجاء في الكتاب المقدس ذكر القضاء الإلهي والعمل الحر معاً (أع 2: 23 مع مت 26: 4).
وتغيُّر قضاء اللَّه يناقض العقل السليم، فلا يمكن أن يقضي اللَّه بالويل على أحد لأجل شرٍ أُجبر عليه، لأن ذلك لا يليق بعدل اللَّه. ولا نجد في الكتاب محاولة توفيقٍ بين قضاء اللَّه ومسؤولية الإنسان، مما يدل على أن أهل الوحي لم يروا في الأمر مشكلة. والحقيقة أن القضاء بالأمر هو غير إتمامه، لأن المقضي به ربما تم بفعل اللَّه، وربما تم بفعل المخلوق المختار. فمجرد القضاء بالأمر لا يجبر الفاعل عليه. فالقضاء كالعلم السابق وتأكيد حدوث الحادث، لا يسلب الحرية. فاللَّه حر في عمل الخير، والإنسان حر في عمل الشر. والقضاء يشمل العملين. والقضاء لا يعيّن أصل الأمر، إنما يؤكد حدوثه، فهو لا يمس حرية الإنسان بمعنى أنه يسلبها، لكنه يحيط بها وبأعمالها. ولكن يجب تمييز الفرق بين تأكيد حدوث المقضي به والإجبار عليه. فقضاء اللَّه ليس سبب المقضي به، لأن سببه قد يكون إما إرادة اللَّه وإما إرادة البشر الحرة. فالقضاء وإتمامه لا يمس حرية الإرادة، ولا يجبر الفاعل، سواء تم بإرادة اللَّه أم بإرادة البشر.
وواضح أن بين معرفة اللَّه الأمور المستقبلَة ومعرفة البشر فرقٌ عظيم، فكل الأمور عند اللَّه مؤكدة، وأما عند البشر فهي غير معروفة وغير مؤكدة، وليس في طاقة العقل البشري أن يعرف المستقبل معرفةً مؤكدة لأن المستقبل خارج عن دائرة قدرته، ولكنه ضمن قدرة اللَّه. فالذي خلق قضى، وقضاؤه في إتمام كل أمر يوافق طبيعة ذلك الأمر. فما قضى به في دائرة الطبيعة المادية قضى بحدوثه بواسطة القوانين الطبيعية، وهذا اضطراري. وما قضى به في دائرة الشخصية الإنسانية العاقلة الحرة قضى بحدوثه بواسطة شرائع عقلية ووفقاً للعقل والإرادة الحرة، أي بإرادة البشر الحرة، لا باضطرار الشرائع المقيّدة. ولما كان اللَّه قد قضى أن تكون أعمال البشر اختيارية ناشئة عن إرادتهم الحرة، كان قضاؤه يثبّت حرية الإرادة. وهذا كله من أسرار حكم اللَّه. وعجزنا عن فهمه ليس دليلاً على بطلانه. ومما يثبت صدق ما قررناه:
(1) نحن نعمل بعض الأمور باختيارنا. فالوالد يعلم أنه يجب أن يساعد ولده في وقت الضيق، ولكن ذلك لا يجبر الوالد، لأنه لا يزال حراً في اختيار مساعدة ابنه أو عدم مساعدته.
(2) بعض أعمال الناس الاختيارية أُنبئ بها سابقاً، فحدوثها لا بد منه. ومن أمثلة ذلك ما أُنبئ به عن سام وحام ويافث وإسماعيل ونسلهم. والبشر أفراداً وإجمالاً يتممون النبوات باختيارهم وتمام حريتهم.
(3) قبل مجيء المسيح كان من المؤكد أن أعماله ستكون مقدسة وطاهرة، ومع ذلك كان مخيَّراً في عملها.
(4) من المؤكد أن الذين يدعوهم اللَّه بالدعوة الفعالة يتوبون ويؤمنون ثم يثبتون في القداسة إلى الأبد في السماء، ومع ذلك لا يزالون ذوي إرادة حرة في أفعالهم. إذاً لا منافاة بين قضاء اللَّه واختيار الإنسان. ومع أن قضاء اللَّه يشمل كل الأمور، وهو غير متغير، إلا أنه لا يجبر خلائقه ولا ينزع اختيارهم.
(5) يمكن أن يؤثر إنسان في إنسان آخر بواسطة الحث والإرشاد بدون تعرُّض لحرية الإرادة، فكم بالحري يقدر اللَّه على ذلك.
(6) يتضح ذلك من الكتاب المقدس كما يظهر من قصة كورش الذي تمم باختياره ما أُنبئ به في شأنه قبل ولادته بسنين كثيرة، وكذلك ملك أشور (إش 10: 5-15) والذين صلبوا المسيح.
20 - كيف تُثبِت أن عدم تغيُّر قضاء اللَّه لا يناقض حرية البشر؟
* اعترض البعض على القضاء المطلق غير المتغيِّر بأنه «يلاشي حرية الإرادة». وبنوا اعتراضهم على تعريفٍ خاطئ للحرية وشروطها، فقالوا إنه إذا قُضي بأعمال الإنسان الحر في المستقبل امتنع أن يكون حر الإرادة. والتناقض في هذه المسألة هو بين الحرية والاضطرار، لا بين الحرية والتأكيد. فالحرية هي القدرة على الاختيار بمقتضى الدوافع والميول التي لها أعظم تأثير في نفس الإنسان، فمتى كان لفاعلٍ أخلاقيّ قدرة على أن يختار بين دوافع تحركه إلى الاختيار، وقدرة على العمل بموجب اختياره فهو حر. والدوافع التي تفعل في الإنسان ليست علّة إجبارية تجبره على العمل، بل هي تأثيرات. ولكن الإنسان نفسه هو العلة الفاعلة بموجب إرادته، إجابةً للدوافع التي لها أعظم تأثير في إرادته، فهو حر في ذلك. والذي يعرف مسبّقاً الدوافع الغالبة لإرادته، يعرف مسبّقاً كيف يعمل حين تؤثر تلك فيه. فالقضاء يقوم مع حرية الإرادة لأنه ليس علة أعمال الإرادة، ولا يجبر الإنسان على أمرٍ ما.
وعلينا أن نقدم تعريفاً لحرية الإرادة. ونحن نستعمل كلمة «الحرية» لمعانٍ مختلفة منها:
(1) الحرية الجسدية لعدم وجود مانع خارجي لحركات الجسد.
(2) الحرية الوهمية، بمعنى أن الإنسان مستقل تمام الاستقلال عن كل ميل أخلاقي، كأنه بلا طبيعة أخلاقية تحكمه، فلا يميل إلى خير ولا إلى شر.
(3) الحرية الأخلاقية، وهي القدرة على الاختيار بمقتضى ميولنا وبحسب الدوافع التي لها أعظم تأثير فينا.
(4) الحرية الحقيقية التامة القائمة مع القداسة الكاملة والقدرة التامة على إتمام مطالب اللَّه، كحرية اللَّه وحرية الملائكة الأبرار والقديسين المكملين في السماء.
ولا دخل للمعنى الأول في هذا البحث، لأن القضاء لا يمس حرية أجسادنا. وأما المعنى الثاني فباطل، لأن لكل إنسان طبيعة أخلاقية راسخة فيه تميل إلى جهة دون أخرى. وأما الثالث، وهو حرية البشر الأخلاقية على هذه الأرض، وهم ساقطون في الشر، فلا تناقض بينها وبين قضاء اللَّه كما رأينا. وأما المعنى الرابع فهو الحرية المختصة بالملائكة وبالقديسين في السماء، وهي موهبة خاصة من اللَّه تقدّرهم على القيام بما أوجبه عليهم. وهي ليست ضرورية لتجعل الإنسان فاعلاً مخيَّراً. فالاعتراض على أن القضاء ينافي الحرية ينصبّ على المعنى الثاني للحرية، وهو باطل. (انظر فصل 28 س11 - 18 حيث أوضحنا الفرق بين القولين المهمين في هذه المسألة).
21 - ما هو الرد على القول إن قضاء اللَّه بكل شيء، حتى أعمال البشر الشريرة، يهين قداسته؟
* لو صحَّ هذا الاعتراض على قضاء اللَّه لصح أيضاً على بعض أعماله، فالقول إن الإله القدوس المحب للجميع لا يسمح بدخول الخطية والشقاوة إلى العالم هو قول باطل. ومثله القول إنه لا يمكن أن اللَّه الذي لا يحابي أحداً يميّز مخلوقاً عن آخر في المواهب والسعادة ووسائط النعمة، لأن هذا التمييز قائم أمام عيوننا دائماً. ومثله القول إن الإله القدوس لا يمكن أن يقضي سابقاً بأفعال الناس الشريرة، لأنه قد قضى بصلب المسيح الذي هو أفظع الخطايا. فوجود الخطية في العالم أمرٌ لا نقدر أن ننكره. وكل ما حدث لا يمكن أن يكون بدون قصدٍ، فلا بد أن سماح اللَّه بدخول الخطية في العالم جزءٌ من قصده الأزلي. واللَّه غيورٌ على قداسته، فإن كان لا يرى هذا منافياً لها، فمن هو الإنسان حتى يحكم بذلك؟!
ثم إن القول إن اللَّه القدوس لا يقدر أن يقضي بحدوث الخطية مبنيٌّ على مبدأين خاطئين: (أ) القضاء الإلهي إجبار للإنسان. (ب) الفاعل هو بالضرورة مسؤول عن كل نتائج فعله. وخطؤهما واضح من أن القضاء لا يجبر ولا يمس حرية الفاعل الأخلاقي، ومن أن الحاكم العادل يعلم أن المذنب سيكرهه ويحاول أن ينتقم منه لو أنه حكم عليه بقصاصٍ، مع أن الحاكم بريء في حكمه. والوالد الذي يطرد ولده العاصي الشرير من بيته يعرف أن ذلك ربما يزيد شر ولده، مع أن عمله هذا مستقيم. وهكذا لا نحمّل اللَّه أية مسؤولية إذا ترك الأبالسة والبشر الخطاة يمارسون حرية إرادتهم. والقول إن كل فاعلٍ مسؤول عن كل نتائج عمله هو قول عارٍ عن الصحّة. فإن كان اللَّه في حكمته الأزلية قضى أن يسمح بدخول الخطية، دون أن يُسبِّبها أو يجرّب الناس حتى يرتكبوها، فلا يكون هو أصل الخطية. وإذ رأى أن دخولها يُنتج نتائج أفضل مما لو منعها، قضى بدخولها لتَحدُث باختيار فاعليها. وهم مسؤولون عن أعمالهم.
نعم إنه لا يوافق قداسة اللَّه، ولا يليق بنا أن نقول إن اللَّه قضى أن يسمح بالشر، لأنه يُسر به. ولكن نقول إنه يسمح بوجود الشر في الكون لأنه رأى أنه يقدر أن يحوّله إلى خير عظيم، وهو ما قصده بذلك السماح. ونظراً إلى عجزنا عن إدراك هذه المسألة يجب أن نتركها إلى أن يعلن اللَّه أسرار مقاصده السامية أمام جميع خلائقه العاقلة.
22 - ما هو الرد على اعتراض الذين يقولون إن تعليم القضاء ينافي اجتهاد المسؤولين؟
* قال أصحاب هذا الاعتراض إن قضاء اللَّه بكل شيء ينفي لزوم استعمال الوسائط التي يتوصّل بها الإنسان إلى ما قضى اللَّه به، لأن ذلك واقع، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره. ونجيب على ذلك بثلاثة أمور:
(1) قضاء اللَّه لا يرفع عن الإنسان المسؤولية، ولا يسوقه إلى التغافل عنها، لأن البشر لا يعرفون المقضي به إلا بعد وقوعه. وليس هو قانوناً وُضع لإرشاد الناس دون أن يحثّهم ويأمرهم. فهذا الاعتراض غير صحيح، وما هو إلا اعتذار عن الكسل والإهمال.
(2) يحسب هذا الاعتراض القضاء قَدَراً جهلياً، مع أن القضاء هو عمل اللَّه الكامل الحكمة، ولا يجبر به إنساناً، ولا يرفع به المسؤولية عن الإنسان. أما القدَر فهو إجراء أمورٍ طبيعية لا يتحكم فيها العقل، فيلاشي الحرية وينفي سلطان العقل الإلهي، ويبطل كل غاية أخلاقية من الكون. فالقَدَر يمنع من بذل الجهد في استعمال الوسائط، بخلاف القضاء الذي يوجب لزوم استعمالها.
(3) هذا الاعتراض مبنيٌّ على زعم أن اللَّه قضى بالأمر دون الوسائط المؤدية إليه، وهذا خطأ، لأن اللَّه قصد النتيجة مع الوسائط. فإذا انتفت الوسائط انتفت النتيجة أيضاً. مثال ذلك: قضى اللَّه أن الناس يعيشون بواسطة الطعام، فإذا رفض أحدٌ أن يأكل مات. وقضى اللَّه أن الناس يخلصون بواسطة الإيمان، فإن رفض أحدٌ أن يؤمن هلك. وقضى اللَّه أن الإنسان يعيش، وقضى أيضاً أن يحفظه من حماقة الامتناع عن الأكل.
ومما قادهم إلى هذا المذهب أيضاً اعتقادهم أن تأكيد حدوث أمر مرغوب فيه يجعل الإنسان فاتراً أو مهملاً في طلبه. وفاتهم أن تأكيد خلاصنا غير معلوم عندنا، بل هو معلوم عند اللَّه وحده، وأن الاختبار يعلّمنا أن الرغبة في طلب أمر تزداد بزيادة أمل نواله، وتنقص بنقص أمل الحصول عليه. ولا اجتهاد حيث لا رجاء! فإن عرف إنسان أنه إذا فتح متجراً يربح مبلغاً كبيراً، فإنه يسرع إلى فتحه بكل اهتمام واجتهاد. وإذا عرف مشرفٌ على الغرق وسائط تنقذه، بذل كل جهده لاستخدامها، لأنه يؤمن بفائدتها.
23 - ما هو الفرق بين تعليم القضاء في الكتاب المقدس وتعليم القَدَر عند الأمم؟
* قال قوم إنه لا فرق بينهما. والحق هو أنهما يتفقان فقط في تأكيد حدوث الأمر، ويختلفان كل الاختلاف في سبب ذلك التأكيد، أو توقُّفه على استعمال الوسائط، وفي تأثير ذلك التعليم في عقول المتمسكين به وضمائرهم. فبين التعليمين من الاختلاف ما بين الآلة والإنسان، وما بين قوة الجاذبية وأفعال الحكمة، وما بين القوة والمحبة غير المحدودة. فقضاء اللَّه يعلّمنا أن اللَّه قضى بكل شيء في غاية الحكمة ليسبّب خيراً عظيماً، وأن كل الأمور جزء من نظام واحد يتمم غاية مجيدة. أما تعليم القدَر الجهلي فينسب كل الأمور إلى الاضطرار الأعمى الذي حُكم به بغضّ النظر عن فائدته. وهو ينتج التسليم الإجباري للقوة التي لا تُقاوَم. وأما القضاء فينتج خضوعاً عن رضى، وثقةً بمشيئة حاكم حكيم ومحب.
24 - كيف تدفع اعتراض القائلين إن القضاء يستلزم أن اللَّه منشئ الخطية؟
* هذا اعتراض مَنْ لا يسألون عن شأن الخالق، ويعتبرون أن العقل القاصر هو المرشد الأعظم في هذه المسألة بدلاً من نور الوحي. وهو مرفوض لسببين:
(1) لا يستلزم القضاء أن اللَّه منشئ الإثم، بل أنه منشئ المخلوقات العاقلة الحرة. فهم أنشأوا الخطية. فإذا قضى اللَّه بالحرية فهي تشمل القدرة على ارتكاب الخطية، فاللَّه لا يقضي قضاءً فعالاً بأن ينشئ الشر في الإنسان أو يسوق إرادته إلى اختيار الشر، فليس للخطية علاقة بالقضاء إلا بأن اللَّه قضى بخلق الذين في طاقتهم أن يخطئوا، وبأن يسمح لهم بذلك.
(2) تنقسم مقاصد اللَّه إلى ما يعمله هو، وإلى ما يسمح بأن مخلوقاته الحرة تعمله. والقضاء بالخطية من القسم الثاني. وليس في القضاء بالخطية صعوبة أعظم من الصعوبة في وجودها فعلاً في عالم يعتني به القادر على كل شيء. وإذا وافق قداسة اللَّه أن يسمح بحدوث الخطية وافق أيضاً أن يقضي بالسماح بها. فإن قلت إن القضاء بها يجعل اللَّه منشئها، قلنا: فالسماح بحدوثها يجعلها كذلك، وحاشا للَّه أن يفعل ذلك! فالإشكال العظيم في هذه المسألة لا يقوم بنسبة الخطية إلى قضاء اللَّه، بل بوجودها في الكون، وهو ما يعجز العقل البشري عن تعليله. ولا شك أن اللَّه عرف مسبّقاً أنها تدخل بين خلائقه العاقلة، وأنه سمح بذلك، وإلا فهو ناقص المعرفة والحكمة والقدرة. ويعلّمنا الكتاب المقدس أن اللَّه قضى بحدوث الخطية بعمل الإرادة الحرة، غير أن ذلك لا يعني أنه مُبدئها، ولا أنه اشترك مع تلك الإرادة في عملها، ولا أنه جرَّبها. فالمخلوق الحر هو أصل الخطية لا الخالق. ويتضح مما يلي أن اللَّه ليس مبدئ الخطية:
(1) الخطية هي عدم طاعة الشريعة وعدم طاعة المشترع، فلو أبدأ اللَّه الخطية لكان قد أخطأ إلى نفسه.
(2) القداسة هي طبيعة اللَّه ومن صفاته، فهو يكره الخطية ويمنع كل خلائقه عنها.
(3) الإنسان فاعل مخيّر حر، وهو مصدر ما يعمله. ولولا ذلك ما كان مسؤولاً ومذنباً.
(4) ينسب الكتاب المقدس الأعمال الصالحة إلى النعمة الإلهية وينسب الأعمال الشريرة إلى القلب الشرير، ويتضمن أقوالاً صريحة بأن اللَّه ليس منشئ الخطية (مز 92: 15 وجا 7: 29 ويع 1: 5، 13 و1يو 1: 5).
25 - ما هي الألفاظ المستعملة في الكتاب المقدس في الكلام على قضاء اللَّه، وما معانيها؟
* هي «عيَّن» ويعين والتعيين والمعينون، مقترنة بكلمة «سبق» أو سابقاً. وهي تدل على أزلية التعيين (أف 1: 5، 11). وفي اصطلاح الكتاب المقدس تشير إلى أن اللَّه قضى بالمصير الأبدي لخلائقه العاقلة، سواء كانوا ملائكة أم بشراً. غير أن أكثر استعمالها يدل على نصيب البشر في أمر الخلاص أو الهلاك.
(2) كلمة «عرف» مقترنة مع «سبق». كقول الرسول «الذين سبق فعرفهم» (رو 8: 29 و11: 2). والقول «عِلم اللَّه السابق» (أع 2: 23 و1بط 1: 2) وهذه كلها بحسب اصطلاح الكتاب المقدس تشير إلى مسرة اللَّه ومشورته الأزلية، وهي ترادف قول الرسول «حسب مسرَّة مشيئته» (أف 1: 5) وقوله «بمقتضى القصد والنعمة» (2تي 1: 9). أي أن الذين سبق فعرفهم عرفهم بمسرَّة مشيئته، وبمقتضى القصد والنعمة، لا لأجل أعمالهم التي سيعملونها. ويدل قوله «الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم» (رو 8: 29) على أن اللَّه نظر إلى كل من عيَّنه وعرفه وقصد تعيينه للدعوة والتبرير والتمجيد، أي للخلاص الأبدي. وحلقات سلسلة هذا النظام خمس: (أ) المعرفة السابقة للشخص. (ب) تعيينه. (ج) دعوته. (د) تبريره. (هـ) تمجيده. قال بولس «الذي خلّصنا ودعانا دعوةً مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية» (2تي 1: 9 انظر أيضاً رو 8: 29، 30 و1بط 1: 2). فالدعوة تسبق الأعمال. ومعرفة الشخص السابقة هي النظر إليه كشخص مختار ومعيَّن للخلاص بغضّ النظر عن أعماله، لأن اختياره هو من مسرة اللَّه (أف 1: 5 ورو 9: 11).
(3) «اختار» واختيار، ومختارون. وتُستعمل في العهد الجديد لتدل على اختيار اللَّه الأزلي للبشر للحياة الأبدية (يو 15: 16 وأف 1: 4 و2تس 2: 13 ورو 8: 28-33 و9: 10، 11 و2بط 1: 10). وقد جاءت فيه أيضاً لغير هذا المعنى (انظر 1كو 1: 27، 28 ولو 6: 13).
(4) «سبق فأعدَّ» (رو 9: 23 وأف 2: 10) وهي تدل على إعداد اللَّه السابق خلائقه العاقلة أو تعيينهم للخلاص.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

26 - ما هو التعليم الذي بُني على أقوال الكتاب في التعيين السابق، والمعرفة السابقة، والاختيار السابق، والإعداد السابق؟
* إن اللَّه إذ كان بمجرد مسرَّته قد اختار منذ الأزل بعضاً للحياة الأبدية، عقد عهد نعمةٍ لينقذهم من حال الخطية والشقاوة، ويُدخلهم إلى حال الخلاص بواسطة فادٍ لهم. وإن الذين من البشر قد تعيَّنوا للحياة انتخبهم اللَّه قبل تأسيس العالم، حسب قصده الأزلي الذي لا يتغير ومشورة مشيئته السرية وحسن إرادتها، أي انتخبهم بالمسيح للمجد الأبدي من قِبَل مجرد نعمته ومحبته، وكل ذلك لحمد نعمته المجيدة.
وكما أن اللَّه عيَّن المنتخَبين للمجد هكذا بقصد إرادته الأزلية الكلية الحرية قد سبق فعيَّن كل الوسائط لذلك، فمن ثمَّ الذين قد انتُخبوا، إذ سقطوا في آدم، افتُدوا بالمسيح، ودُعوا دعوةً كافية إلى الإيمان بالمسيح بواسطة روحه فاعلاً في الوقت المناسب، فتبرَّروا وتُبُنَّوا وتقدَّسوا وحُرسوا بقوته بالإيمان للخلاص.
والتعيين السابق للحياة هو قصد اللَّه الأزلي الذي قضى به على الدوام بمشورته المخفيّة عنا قبل تأسيس العالم أن ينقذ من اللعنة والدينونة الذي سبق فاختارهم في المسيح من البشر، وإن يبلغهم به الخلاص الأبدي كآنية مصوغة للكرامة. ولذلك كان الذين أُنعم عليهم بمِنّةٍ جليلة كهذه من اللَّه ودُعوا على مقتضى قصده بالروح الذي يفعل في الوقت المناسب، يطيعون الدعوة بواسطة النعمة ويتبرّرون مجاناً ويُتبنّون للَّه، ويُجعَلون مماثلين لصورة ابنه الوحيد يسوع المسيح، ويسعون في الأعمال الصالحة، وفي الآخرة ينالون برحمة اللَّه سعادة خالدة.
لقد عيَّن اللَّه بعض البشر للخلاص، ومنحهم كل الوسائط، ونعمةً خاصة تؤثر فيهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا وينالوا بالمسيح نصيب الفداء. ويتضمن هذا التعليم بالضرورة أن البعض الآخرين لم يُعيَّنوا للخلاص بهذا المعنى، بل تُركوا ليرفضوا وسائل النجاة ويختاروا نصيب الأثمة غير التائبين. ويلزم من ذلك أيضاً أن نصيب كل من المفديين والمرفوضين بقضاء اللَّه. ولكن لا بد هنا من التمييز بين نوع القضاء المختص بكل من الفريقين وكيفية إتمامه في كل منهما، فالقضاء بالخلاص هو من باب الرحمة والمحبة المختصَّين بالمختارين، وهو يشمل الوسائط اللازمة لتنفيذه، والمعونة الروحية الكافية الفعَّالة. وأما القضاء بالرفض فيختلف عن ذلك فرقاً بعيداً، فهو كالقضاء بالسماح بالخطية بترك الخطاة ليختاروا نصيب غير التائبين، فلا يتضمن منع النعمة وفرص التوبة عنهم أو قطع وسائط النعمة، فإنه قد يقترن بقدر عظيم من النعمة والإرشاد والحث والدعوة وطول الأناة وأعمال الرحمة على أنواعه. على أنه لا يقترن بتلك النعمة الداخلية الفعالة التي تؤثر في الإنسان حتى تغلب كل مانع وتجذبه لإتمام شروط الخلاص. فالقضاء بالرفض لا يُجبر الإنسان على الاستمرار في الإثم، إنما يتركه لحريته ليتبع أهواء قلبه. فيجري القضاء بإهلاك الخاطئ غير التائب الذي يرفض النعمة الإلهية، ويسمح اللَّه بذلك لأسباب معروفة عنده. فالنعمة المشتركة الممنوحة للجميع تؤول لخلاص الجميع، ما لم يرفضها أهل الشر والعناد، فيكون هلاكهم على رؤوسهم.
وقد تطرف البعض في هذا الموضوع وقالوا إن القضاء بالهلاك كالقضاء بالخلاص، واللَّه هو فاعل الأمرين، أي أنه عيَّن منذ الأزل بعض الناس للَّهلاك، وتركهم بلا نعمة، ولم يرسل المسيح ليبذل نفسه عنهم، فتركهم بلا دعوة كأنهم بلا نصيب في المسيح ولا في الإنجيل. فهم مخلوقون لجهنم ومعيَّنون لها كتعيين المختارين للخلاص. ولكن تعليم الرفض على هذه الصورة لا سند له في الكتاب المقدس، الذي علّمنا أن المسيح مات عن جميع البشر، وأنهم جميعاً مدعوون للخلاص به، ولا يوجد ما يمنعهم من اتخاذ الوسائل إلى ذلك. وقد حثهم اللَّه على التوبة وأظهر لهم الرحمة والشفقة بطول أناةٍ، غير أنه سمح لهم أن يرفضوا تلك النعمة. وبرفضهم هذا نفّذوا القضاء بهلاكهم.
ولا يختص التعيين والرفض بإعداد الكفارة وتقديم نصيب الفداء للخطاة ومنحهم النعمة ودعوتهم للتوبة والإيمان، فلا أحد من البشر ممنوع من هذه البركات الروحية والمراحم الأبوية. ولكن التعيين والرفض يختصَّان بنتيجة استعمال الناس للنعمة، فالجميع معيّنون ومختارون للخلاص باعتباره بشرى سماوية حبية. والتعيين لجهة دون أخرى يختص بتمسك البعض بالوسائط وإهمال البعض الآخر لها. فالذين قضى اللَّه بخلاصهم لا بد أن يستعملوا وسائط الخلاص، والذين قضى بهلاكهم لا بد أن يهملوها، فينالون ما يترتب على إهمالهم هذا. فرفض البعض للخلاص ليس نتيجةً لمسرة اللَّه بإهلاكهم بل لتوغلهم في الخطية. وفي هذا يختلف الرفض عن الاختيار، لأن الاختيار نتيجة مسرة اللَّه، لا لفضلٍ فينا أو لصلاح في أعمالنا. أما الرفض فنتيجة المعاصي. الاختيار من الرحمة، والرفض من العدل الذي يعطي الخاطئ استحقاقه (رو 2: 6-11 و2تس 1: 5-10).
فإذا سُئل: إن كان المسيح مخلّص الجميع، فبماذا يمتاز المختارون عن المرفوضين؟ أجبنا: الاختيار لا يميز أحداً عن غيره بالنسبة لموت المسيح عنه، بل بتخصيص فوائد موت المسيح للبعض وإرساله إليهم النعمة التي لا تُرفض، ومنحه إياهم الروح القدس حتى يتجددوا ويتوبوا ويرجعوا إلى الرب بالتواضع والإيمان والاتكال على الوسائط المعينة لخلاصهم. فيكون الاختيار هو تعيين بعض الناس منذ الأزل، لمجرد مسرة اللَّه المطلقة، لا لاستحقاقٍ فيهم عرفه سابقاً، فوهبهم النعمة الروحية الخاصة وفعل الروح القدس في التجديد، حتى يقبلوا وسائط النعمة برضى وسرور، ويحصلوا بها على الفداء بدم المسيح. أما الرفض فهو أن اللَّه ترك بعض الناس لنفوسهم، فيرفضون النعمة ويستخفّون بوسائط الخلاص، فيهلكون نتيجة رفضهم خلاص اللَّه بسبب خطاياهم.
27 - ما هي الأدلة التي تثبت «التعيين السابق»؟
* قلنا إن التعيين أو الاختيار هو للخلاص، وهو خاص بالأفراد، أي أن المختارين أشخاص ميَّزهم اللَّه بهذه الرحمة العظيمة منذ الأزل، لا لصلاحٍ أو استحقاق فيهم، بل لمجرد مشيئة اللَّه المطلقة، لحكمة لا يعلمها إلا هو، محجوبة عن إدراك البشر. وهذا التعليم الخطير يحتاج لبرهان كافٍ لأنه من أعظم أسرار الدين المعلنة. ونحن نقبله بناءً على أدلة كتابية وأدلة عقلية.
والأدلة الكتابية كثيرة نقتصر على ثلاثة منها:
(1) النص الصريح فيه كقوله «وآمن جميع الذين كانوا معيَّنين للحياة الأبدية» (أع 13: 48) و«اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته» (أف 1: 4، 5) و«إن اللَّه اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق» (2تس 2: 13) و«المدعوون حسب قصده، لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه» (رو 8: 28، 29) و«بطرس رسول يسوع المسيح إلى.. المختارين بمقتضى علم اللَّه الآب السابق» (1بط 1:1، 2) و«خلَّصنا ودعانا دعوةً مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة» (2تي 1: 9).
(2) الآيات التي تفيد إعطاء الآب أشخاصاً للابن ليكونوا له بمعنى خاص كقوله «كل ما يعطيني الآب فإليَّ يُقبل» (يو 6: 37). و«أنا أظهرتُ اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم» (يو 17: 2، 6، 9 وأف 1: 14 و1بط 2: 9). و«لم يدخلها شيء دنس ولا ما يصنع رجساً وكذباً، إلا المكتوبين في سفر حياة الحَمل» (رؤ 21: 27 وفي 4: 3 ورؤ 20: 15) و«لا يقدر أحد أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني» (يو 6: 44 و10: 26 و1كو 1: 30).
(3) الآيات التي تعلّم لزوم الولادة من فوق والدعوة الإلهية، وتنسب الخلاص إلى اللَّه، معلنةً أنه هبة مجانية، ومنها «الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت اللَّه» (يو 3:3) و«الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من اللَّه» (يو 1: 13) و«مدعوون حسب قصده» (رو 8: 28). و«الذين سبق فعيَّنهم فهؤلاء دعاهم أيضاً» (رو 8: 30 و11: 29 و1كو 1: 24-28 وغل 1: 15، 16) و«لا يقدر أحدٌ أن يأتي إليَّ إن لم يُعطَ من أبي» (يو 6: 65) و«أعطى اللَّه الأمم أيضاً التوبة للحياة» (أع 11: 18). و«لأن اللَّه هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة» (في 2: 13 وأع 5: 31 و15: 8، 9 ورو 12: 3 وغل 5: 22). ومنها أيضاً كل الآيات التي تعلّمنا أن الفداء هو من مجرد الرحمة المجانية من قِبَل الآب المحب الجواد.
وأما الأدلة العقلية فهي كثيرة أيضاً، اقتصرنا على ما يأتي منها:
(1) للخالق، بمقتضى سلطانه المطلق، أن يتصرف كما يشاء في توزيع خيراته الروحية وتخصيص مراحمه المجانية حسب قوله: «أَوَما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بما لي؟» (مت 20: 12-15 ورو 9: 20، 21) و«ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمرٍ» (يو 15: 16 وأع 9: 15).
(2) ما يعمله اللَّه هو ما قصد أن يعمله منذ الأزل، وبهذا المعنى يكون التعيين للخلاص جزءاً من القضاء الإلهي مختصاً بنصيب المخلوقات العاقلة. وكل البراهين على صحة تعليم القضاء تصدق على تعليم التعيين للخلاص.
(3) يرجع هذا التعيين لمشيئة اللَّه، فلا أساس له غيرها. فاستحقاق المختارين مثلاً أو إيمانهم أو صلاحهم (على أي وجه كان) لا يمكن أن يكون سبب اختيار اللَّه إياهم، إذ ليس للمختار إيمان أو استحقاق إلا بنعمة اللَّه، فإنه قضى سابقاً بإرسالها إلى قلبه. وليس إيمانه سوى نتيجة تلك النعمة، فلا يمكن أن يكون سبب الاختيار بل إن الواقع عكس ذلك، فالذي يراه اللَّه أول الأمر في المختار هو عدم الإيمان وعدم الاستحقاق، ومع ذلك يختاره ليؤمن. فالإيمان ثمر النعمة لا سبب إرسالها. فالقول إن الاختيار والخلاص هما نتيجة أعمال الإنسان الصالحة التي سبق اللَّه فعرفها فاختاره لأجلها يجعل الاختيار والخلاص ثمرة أعمال الإنسان الصالحة. وهذا يخالف تعليم الكتاب الصريح، وهو أن الخلاص بالنعمة المجانية لا باستحقاق الأعمال.
(4) مع أن التعيين السابق يشمل النعمة الفعالة والوسائط الكافية لخلاص المختارين، إلا أنه لازم ليجعل فداء المسيح نافعاً للبشر، لأنه لو تركهم لأهوائهم لما جاء منهم أحدٌ ليطلب خلاص المسيح، ولكان موت المسيح عبثاً. فاللَّه الذي جهّز الفداء أكمل قصده واختار جمهوراً لينالوا فوائد فدائه، وأرسل إليهم النعمة الفعّالة التي ليست أقل قيمة ولزوماً من الفداء. فالاختيار هو قصد اللَّه أن الكفارة لا تذهب سدى، وأن جانباً عظيماً من البشر الساقطين لا يهلكون، بل يخلصون بواسطة الفادي. وإتماماً لذلك القصد أرسل اللَّه تلك التأثيرات الروحية التي تُرجع المختارين إلى الفادي بالإيمان الصحيح الخالص.
28 - ما هو الفرق بين معرفة اللَّه السابقة للمختارين وتعيينه السابق لهم في قول الرسول «لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم»؟
* يتوقف العِلم السابق على القضاء للعلاقة الطبيعية المنطقية بينهما، لا باعتبار الزمان. على أن في كلام الرسول ما يظهر أنه منافٍ لذلك وهو قوله «لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه» (رو 8: 27). فظاهر الكلام أن التعيين يتوقف على المعرفة السابقة.
ونجيب على ذلك بأن المعرفة في قوله «الذين سبق فعرفهم» تعني المحبة الخاصة التي أحب اللَّه بها المختارين منذ الأزل، فيكون معنى قوله «الذين سبق فأحبهم سبق فعيَّنهم» وكثيراً ما استُعملت كلمة «عرف» بهذا المعنى في الكتاب المقدس، مثل قوله «إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض» (عا 3: 2) و«إن كان أحد يحب اللَّه فهذا معروف عنده» (1كو 8: 3) و«لم يرفض اللَّه شعبه الذي سبق فعرفه» (رو 11: 2) و«ثم نسألكم أيها الإخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم ويدبرونكم في الرب» (1تس 5: 12 وتك 18: 19 ومز 1: 6 و9: 10 و36: 10 وهو 8: 2 و13: 5 وغل 4: 9). فالمعرفة في هذه العبارات ليست المعرفة البسيطة بل المعرفة الخاصة ذات اللطف والمحبة. فالذين أحبهم اللَّه محبةً خاصة سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، أي أن ينالوا التقديس والخلاص، ولذلك عيَّنهم لفوائد الفداء.
وهذه المعرفة خاصة، وهي ليست بمعنى العلم أو التمييز العقلي من جهة ما هو محقق الوقوع، فإن العلم بهذا المعنى لا ينفصل عن القضاء، لأن لا معرفة سابقة بواقع ما لم يكن محقق الوقوع، ليكون موضوع ذلك العلم السابق. وهذا التحقيق لا ينتج إلا عن القضاء به.
29 - ما هو الدليل على أن التعيين يشمل الملائكة والبشر؟
* نستنتج أنه يشمل الملائكة من قول بولس «أناشدك أمام اللَّه والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين..» (1تي 5: 21). ومن قول يهوذا «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» (يه 6). وليس المقصود بتعيين الملائكة إنقاذهم من الخطية، بل حفظ المختارين منهم في القداسة، والسماح بسقوط غير المختارين منهم في الخطية.
وأما أنه يشمل البشر فعليه نصوص صريحة كثيرة لا حاجة لإيرادها، فنكتفي بالإشارة إليها (مت 13: 11 و20: 23 و22: 14 و24: 22، 24 و25: 34 ولو 10: 20 و12: 32 ويو 6: 37، 44 و15: 16 و17: 2، 6 وأع 13: 48 ورو 8: 28، 33 و9: 23، 24 و1كو 1: 24-28 وغل 1: 15 وأف 1: 4 وكو 3: 12 و2تس 2: 13 و2تي 1: 9 و1بط 1:1، 2 ويع 2: 5 ورؤ 21: 27).
30 - ما هي القضايا الرئيسية المتضمنة في تعليم الاختيار؟
* (1) إنه يختص بالأشخاص.
(2) إنه للخلاص الأبدي.
(3) إنه فعَّال لا بد أن يتم، فهو لا يُقاوم.
(4) إنه ليس مبنياً على أعمالنا.
(5) إن مصدره مجرد مشيئة اللَّه لأسباب معروفة عنده لم يشأ أن يكشفها للبشر.
(6) إنه في المسيح.
(7) إنه غير متغير.
31 - كيف تثبت أن الاختيار للخلاص يختص بالأفراد لا بأمم أو بجماهير بجملتها؟
* (1) من الآيات التي تفيد أن اللَّه اختار أشخاصاً بالذات، مثل «آمن جميع الذين كانوا معيَّنين للحياة الأبدية» (أع 13: 48) و«لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم» (رو 8: 29) و«اللَّه اختاركم من البدء للخلاص» (2تس 2: 13) و«اختارنا فيه قبل تأسيس العالم» (أف 1: 4) «لأنه وهما لم يولدا بعد، ولا فعلا خيراً أو شراً، لكي يثبت قصد اللَّه حسب الاختيار، ليس من الأعمال بل من الذي يدعو» (رو 9: 11).
(2) من تميُّز المختارين عن جمهور الكنيسة المنظورة (رو 11: 7).
(3) من النص على أن أسماء المختارين مكتوبة في السماء وفي سفر الحياة (عب 12: 23 وفي 4: 3).
(4) من أن البركات المتضمنة في الاختيار خاصةٌ بالنفس وخلاصها، وبأفرادٍ لا بأمة ولا بقبيلة بجملتها، كالتبنّي ومشابهة صورة ابنه ونحوها (رو 8: 29 و9: 15، 16 وأف 1: 5 و1تس 5: 9 و2تس 2: 13).
(5) من معاملة اللَّه للبشر كأفراد، فيعتني بهم ويعيّن لهم مكان سكنهم ومقامهم ونصيبهم وأحوالهم ووسائطهم، بحسب ما يحتاج كل منهم بمفرده. وهكذا الأمر في اختياره البشر لبركات الحياة الأبدية.
32 - اذكر بعض آيات الكتاب التي تثبت أن القصد في الاختيار هو الخلاص الأبدي.
* قال المسيح «إذ أعطيتَه (مشيراً إلى نفسه) سلطاناً على كل جسد ليعطي حياةً أبدية لكل من أعطيته» (يو 17: 2) وقال بولس «اللَّه اختاركم من البدء للخلاص» (2تس 2: 13). و«أعطى اللَّه الأمم أيضاً التوبة للحياة» (أع 11: 18). و«آمن جميع الذين كانوا معيَّنين للحياة الأبدية» (أع 13: 48). و«كل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طُرح في بحيرة النار» (رؤ 20: 15) و«لن يدخلها .. إلا المكتوبين في سفر حياة الحمل» (رؤ 21: 27 ورو 8: 30).
33 - ما معنى أن الاختيار فعَّال، ولا بد أن يتم؟
* ليس معناه أن اللَّه يُلزمنا بقبول النعمة رغماً عن إرادتنا، بل إنه يتمم قصد رحمته في اختيارنا بإرسال النعمة الفعَّالة لقلوبنا، فيحركها بروحه القدوس لترغب في الخلاص وتطلبه بتصميم، فيجدّدها ويدرب مشيئتنا حسب إرادته بدون أن ينفي حريتنا (يو 3: 8 وفي 2: 13 وأف 2: 10). نعم يقدر الإنسان المخيَّر أن يقاوم نعمة اللَّه ويؤخر فعلها في قلبه، غير أن الغلبة في ذلك لا تكون له بل للَّه الذي اختاره، حتى أنه أخيراً يسلم نفسه لفعل النعمة ويؤمن ويتجدد ويتقدس ويخلص. فخلاص المختارين مؤكد لأن جميعهم يؤمنون (يو 6: 37-39 و10: 16، 27-29 و17: 2، 9، 24) ولأنه لا يؤمن غيرهم (يو 10: 26) ولأن الذين يؤمنون إنما يؤمنون لأنهم مختارون (أع 13: 48).
34 - ما هي الأدلة على أن الاختيار غير مبنيٍّ على ما عرفه اللَّه بسابق علمه من إيماننا وأعمالنا الصالحة؟
* (1) يعلّم الكتاب أن الاختيار هو من مسرة اللَّه ومشورة مشيئته (مت 11: 25، 26 ويو 15: 16، 19 ورو 9: 10-18 وأف 1: 5-11 و2تي 1: 9).
(2) يعلّم الكتاب أن الإيمان والتوبة والطاعة هي ثمار الاختيار، لا أسبابه. ويصح أن نجعل الأسباب ثماراً، ولكن لا يصح أن نجعل الثمار أسباباً. ومن الآيات التي تبرهن هذا قول الرسول «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة» (أف 1: 4) «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق اللَّه فأعدّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10) «ينبغي لنا أن نشكر اللَّه كل حين لأجلكم أيها الإخوة المحبوبون من الرب إن اللَّه اختاركم من البدء للخلاص، بتقديس الروح وتصديق الحق» (2تس 2: 13) «بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتغرّبين.. المختارين بمقتضى علم الآب السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح» (1بط 1:1، 2) «وآمَن جميع الذين كانوا معيَّنين للحياة الأبدية» (أع 13: 48).
(3) يعلّم الكتاب أن الإيمان والتوبة هما عطية اللَّه، وأنه يهبهما بقصده الأزلي، فلا نحسبهما شروطاً بشرية يتوقف عليها اختيار اللَّه. فقيل «هذا رفعه اللَّه بيمينه رئيساً ومخلِّصاً ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا» (أع 5: 31) «لأنه مَنْ يميّزك، وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» (1كو 4: 7) «لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطية اللَّه. ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحدٌ» (أف 2: 8، 9).
(4) يعلّم الكتاب أن الإنسان ساقط وعاجز، مولود في الخطية وليس له قدرة ذاتية على إصلاح نفسه، ولا يمكن أن يتم إصلاحه إلا بتجديد قلبه بروح اللَّه، فلا يصح جعل الأعمال الصالحة التي يعجز عنها شرطاً لاختياره. ويعلمنا الكتاب لزوم التجديد، وأنه عمل اللَّه لا عمل إنسان، فهو نتيجة الاختيار لا شرطه.
(5) يعلّم الكتاب أن المؤمنين يؤمنون لأنهم معيَّنون لذلك، فقيل «فآمن جميع الذين كانوا معيَّنين للحياة الأبدية» (أع 13: 48). والمؤمنون مختارون. قال المسيح لليهود «ولكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي، كما قلت لكم» (يو 10: 26). ويؤمن جميع المختارين. قال المسيح «كل ما يعطيني الآب فإليَّ يُقبل، ومَنْ يُقبل إليَّ لا أخرجه خارجاً. لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير» (يو 6: 37-39) «لي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة. ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحدٌ من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحدٌ أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد» (يو 10: 16، 27-29) «إذ أعطيتَه سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل مَنْ أعطيته. من أجلهم أنا أسأل. لست أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتني لأنهم لك. أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو 17: 2، 9، 24).
(6) يعلّم الكتاب أن الاختيار غير مبني على الأعمال الصالحة. فقيل «وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراً، لكي يثبت قصد اللَّه حسب الاختيار. ليس من الأعمال بل من الذي يدعو.. فإذاً ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل للَّه الذي يرحم» (رو 9: 11، 16) «لكن ماذا يقول له الوحي؟ أبقيتُ لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل. فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً، قد حصلت بقيةٌ حسب اختيار النعمة. فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال، وإلا فليست النعمة بعد نعمة. وإن كان بالأعمال فليس بعد نعمة، وإلا فالعمل لا يكون بعد عملاً. فماذا؟ ما يطلبه إسرائيل ذلك لم ينله، ولكن المختارون نالوه. وأما الباقون فتقسَّوا» (رو 11: 4-7) «الذي خلّصنا ودعانا دعوةً مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية» (2تي 1: 9).
(7) يعلّم الكتاب أن القضاء الأزلي يشمل كل ما يتعلق بقضاء اللَّه أن يؤمن المختارون ويتوبوا، كما قضى أيضاً بخلاصهم. ولذلك لم يبقَ خارجاً عن قضاء اللَّه ما يُحسب شرطاً لاختياره. فما حسبه البعض شرطاً هو واسطة قضى اللَّه بها منذ الأزل من جملة الوسائط ليتمم قصده في الاختيار للخلاص.
(8) مما يؤيد أن الاختيار غير مبنيٍّ على أعمالنا الصالحة أن المؤمنين بالحق في كل زمان ومكان على الدوام ينسبون خلاصهم في صلواتهم وشكرهم وتسبيحهم وتأملاتهم الدينية لرحمة اللَّه، ومعاملته لهم حسب مشيئته الصالحة، لأنهم جميعاً متعلمون من الكتاب المقدس ومن الروح القدس ومن اختبارهم ومن شعورهم أن ذلك عمله اللَّه، وأنه غير مبنيّ على أعمال صالحة فيهم. وكل الذين يصلّون لأجل خلاص الآخرين يطلبون منه أن يرحمهم لا أن يخلصهم بناء على أعمالهم الصالحة واستحقاقهم. وهذا الشعور المسيحي العام الدائم يطابق تعليم معلّمهم العظيم.
35 - برهن أن الاختيار هو من مجرد مشيئة اللَّه.
* من آيات الكتاب مثل «إني أرحم مَنْ أرحم وأتراءف على مَنْ أتراءف. فإذاً ليس لمَنْ يشاء ولا لمن يسعى بل للَّه الذي يرحم» (رو 9: 15، 16) «الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً، معيَّنين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف 1: 11) «بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتغرّبين.. المختارين بمقتضى علم اللَّه الآب السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح..» (1بط 1:1، 2) «الذي خلّصنا ودعانا دعوةً مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة» (2تي 1: 9 متى 11: 25، 16). ويتضح ذلك أيضاً من قول بولس إن مشيئة اللَّه هي مصدر الاختيار وأساسه. فقد اعترض البعض أنه ليس من العدل أن اللَّه يرحم واحداً ويترك الآخر، فردَّ بولس أولاً: إن اللَّه يحق له أن يفعل ذلك، حسب قوله لموسى «إني أرحم مَنْ أرحم» أي أرحم من أشاء (رو 9: 15). وثانياً إن اللَّه عمل ذلك بالفعل في فرعون (رو 9: 17، 18).
36 - ما هي الآيات التي تثبت أن اختيار اللَّه للبشر هو في المسيح؟
* منها «حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا» (أف 3: 11). «مبارك اللَّه أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لومٍ قدامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته» (أف 1: 3-5). »بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية» (2تي 1: 9). وهذا يدل على أن اختيارنا هو في ربنا يسوع المسيح.
37 - كيف توضح أن اختيارنا لا يتغيَّر؟
* من الآيات التالية «ولكن أساس اللَّه الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم : يعلم الرب الذين هم له» (2تي 2: 19) وقول المسيح «لست أقول عن جميعكم. أنا أعلم الذين اخترتهم» (يو 13: 18) «لأن هِبات اللَّه ودعوته هي بلا ندامة» (رو 8: 30، 11: 29 وأف 1: 4 و2تس 2: 13 ورؤ 13: 8). ومما يثبت ذلك أيضاً عدم تغيُّر مقاصد اللَّه الأزلية.
38 – ما هي المذاهب في الاختيار المقبولة عند البعض غير ما ذكرناه، وكيف تبيّن خطأها؟
* (1) يختص الاختيار بأمم أو أقوام أو شعوب بجملتها وهدفه التمتع بالبركات الإلهية، كما اختار اللَّه أمة اليهود لتكون شعبه الخاص، أي كنيسته المنظورة. فنجيب: بعض هذا المذهب حق وبعضه باطل. نعم إن اللَّه اختار اليهود أمة ليتمموا أهدافاً تتعلق بالأمة لا بالأفراد، لكنه لم يخترهم كأمة للخلاص، بدليل ارتداد جانب عظيم منهم في كل عصر. ومما يوضح خطأ هذا الرأي تعليم الكتاب اختيار الأفراد للخلاص، لا أمم ولا أقوام بجملتها.
(2) يختص الاختيار بشعب أو نوع من البشر بدون تمييز بين أفرادهم، فيشمل جماعةً كاملة دون أن يعيّن من يؤمن منهم ومَنْ لا يؤمن، لأن ذلك متروك لاختيار أفرادهم. فإن اختار هؤلاء الأفراد الإيمان كانوا من جملة المختارين، وإلا فلا. ولهذا المذهب وجه آخر، وهو أنه لما كان اللَّه يعطي كل إنسان نعمةً كافية لخلاصه كان الذي يستعمل تلك النعمة بالأمانة يجعل نفسه من المختارين ويخلُص. أما مَنْ يرفض تلك النعمة فإنه يجعل نفسه من المرفوضين. فخلاص الإنسان هو اختيار الإنسان نفسه، لا اختيار اللَّه إياه. فنجيب: يعلّمنا الكتاب المقدس أننا مختارون للقداسة لا لأننا قديسون، وأن التوبة والإيمان لا ينبعان من أنفسنا فقط بل من فعل روح اللَّه فينا أيضاً، حسب قول بولس «بنعمة اللَّه أنا ما أنا» وأن الإنسان لا يميل للخلاص ولا يقدر أن يناله من نفسه. ولذلك يجب أن يُضاف إلى هذا المذهب أن اللَّه قد سبق فعيَّن للخلاص كل مَنْ يتوب ويؤمن باستعمال الوسائط الكافية التي أعدّها له. وعندها يكون المذهب صحيحاً.
39 - هل يمكن أن نعرف مَنْ هم المختارون؟
* لا يعلم من هم المختارون إلا اللَّه، ولكننا نعرف المختار ترجيحاً «من ثماره» وحُسن سيرته وصلاح أعماله من بدء إيمانه إلى أن ينتقل من هذه الأرض، وليس من ظهور هذه الصفات الروحية فيه مؤقتاً. فكل مَنْ شوهدت فيه علامات المحبة نرجح أنه مختار (يو 13: 35). وكل من يواظب على حياة التقوى بمقتضى التعليم الإلهي لنهاية حياته نحكم بأنه مختار.
أما عدد المختارين فهو أكثر جداً من عدد الهالكين، كما يقول الكتاب. وعلى كل مؤمن أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن تعليم طريق الخلاص وتوصيل وسائط النعمة لجميع البشر، لأنها هي الوسائط التي يستخدمها اللَّه غالباً لضم المختارين لملكوته. فالتبشير بالإنجيل وتعليم الحقائق الدينية وجذب قلوب البشر إلى المسيح هي الوسائط للإتيان بالمختارين لنصيبهم المبارك. وعلى كل خبير بهذه الفوائد الروحية أن ينشرها بين أبناء جنسه.
فإن سُئل: هل يوجد مختارون بين الوثنيين الذين ليس لهم الوسائط التعليمية العادية ولم يعرفوا الكتاب المقدس ولم يسمعوا بطريق الخلاص بالمسيح؟ قلنا: لا أحد يقدر أن يقطع بإثبات ذلك أو نفيه. على أننا نأمل أن الذين لم يسمعوا عن المسيح، إذا رفضوا كل اتكال على أنفسهم وجعلوا ملجأهم الوحيد الرحمة الإلهية وسلكوا بإخلاص النية والتواضع القلبي بحسب ما بلغوه من النور، نالوا رحمةً من اللَّه. ومما يقوّي الأمل في ذلك أن لا أحد يتمم هذه الشروط إلا بإرشاد الروح القدس الذي يعمل متى شاء وأين شاء. فإذا اقترب ذلك الروح لقلب وثنيٍ وأناره وأرشده، كان هذا أساساً كافياً لأمل اختيار اللَّه لمن نال منه تلك المراحم الجزيلة. وجميع الأطفال على اختلاف أممهم إذا ماتوا في سن الطفولة يُجدَّدون ويخلُصون بالمسيح بواسطة الروح الذي يفعل حين يشاء وحيث يشاء وكيف يشاء. وكذا يقال في سائر المختارين الذين لا سبيل لدعوتهم ظاهراً بِخدم الكلمة. فالجملة الأخيرة تشير إلى الوثنيين الذين ليس لهم دعوة ظاهرة بواسطة خدام الإنجيل (انظر تك 12: 3 ورو 9: 6 وغل 3: 7 ومت 8: 5-10). (انظر فصل 27 س 9 وفصل 39 س 9 وفصل 45 س 16 وفصل 47 س 5 و10).
40 - ما معنى الرفض عند اللاهوتيين، وماذا يقيّد معناه؟
* الرفض في مصطلح اللاهوتيين هو أن اللَّه يترك الأثيم غير التائب في الخطية مستمراً في الشر، فيستحق الرفض بسبب آثامه. فالمرفوض هو الخاطئ الذي لا يتوب لأنه رفض نعمة اللَّه. وهو مرفوض بسبب آثامه، فهو لا يُرفَض بمعنى أنه يُحرَم من أن المسيح مخلّصه، ومن أن بركات الإنجيل مقدمة له، ومن أنه مدعوّ للخلاص، بل بمعنى أنه مرفوض من بركات الفداء لأنه معاند ومُصرّ على شره، ولذلك تركه اللَّه لأسباب معروفة عند اللَّه لينال عقوبة اختياره، ويشبع من مؤامرته (أم 1: 31). وقد عرف اللَّه هذه النتيجة منذ الأزل كسائر الحوادث. وكل من رُفض على هذا المنوال ليس من المختارين. فالرفض بهذا المعنى داخل في قضاء اللَّه ومعلوم عند اللَّه منذ الأزل. واختيار البعض دون غيرهم يتضمن ضرورة عدم اختيار الجميع، لأنه لو كان الجميع مختارين لما رفض اللَّه منهم أحداً. ويرتبط القضاء بالرفض بالخطية لأنها أساسه، وهو لا يجري بفعل اللَّه كأنه يسوق المرفوض إلى الهلاك، بل يجري بسماحه كما سمح بسقوط آدم، دون أن يكون اللَّه مسؤولاً أو ملوماً في ذلك. فقد سمح أن يرفض الإنسان النعمة التي لو قبلها لأدَّت لخلاصه، لأن دعوة الإنجيل تقترن دائماً بنعمة كافية تعين الخاطئ على نوال الخلاص إن لم يرفضها. وتُعرف هذه النعمة عند اللاهوتيين بالنعمة المشتركة (انظر فصل 39 س 13-16) ولا يختلف عنها ما سمّوه «النعمة الفعالة» إلا في أن اللَّه يجعل «النعمة الفعالة» فعالة تؤثر في قلب المختار إلى أن يسلّم ويقبل ويجيب دعوة اللَّه وينال مراحم الفداء بالتوبة والإيمان بقلبٍ متجدد بقوة الروح القدس، لأن الفاعل في النعمة المشتركة وفي النعمة الفعالة هو الروح القدس. فإذاً المرفوض لا يُترك من النعمة الكافية لخلاصه إلا برفضه قبولها، لكنه قد تُرك من النعمة الفعَّالة التي لا تُقاوَم ولا بد من إتيانها بالأثيم للخلاص، لا إجباراً بل بكمال الرضى والتسليم.
أما الأدلة على رفض الخاطئ على المنوال السابق فنجده في الآيات التالية:
«يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائماً تقاومون الروح القدس» (أع 7: 51). «أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته؟ غير عالم أن لطف اللَّه إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة اللَّه العادلة» (رو 2: 4، 5). وجاء في كلام بطرس عن «الذين يعثرون غير طائعين للكلمة، الأمر الذي جعلوا له» (1بط 2: 8) وفي كلام يهوذا عن الأشرار «لأنه دخل خلسة أناسٌ قد كُتبوا منذ القديم لهذه الدينونة» (يه 4). وفي سفر الرؤيا «الذين ليست أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم» (رؤ 17: 8 و13: 8). وقال بولس «فإذاً هو يرحم مَنْ يشاء ويقسّي مَنْ يشاء» (رو 9: 18) وقال المسيح «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيتَ هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» (مت 11: 25) «ولكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم» (يو 10: 26) «كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا، الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع» (أع 1: 16) «في بيتٍ كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط، بل من خشب وخزف أيضاً. وتلك للكرامة وهذه للَّهوان» (2تي 2: 20) «لأنه أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، وأما لأولئك فلم يعطَ» (مت 13: 11) «فماذا؟ ما يطلبه إسرائيل ذلك لم ينله، ولكن المختارون نالوه. وأما الباقون فتقسَّوا» (رو 11: 7).
فإذاً لا شك في حقيقة الرفض، ولكن يهمنا في بيان هذه الحقيقة أن نحترس مما يغاير تعليم الكتاب المقدس أو يحملنا على تحريف قصد اللَّه وإهمال العلاقة التي بين أوجه هذه المسألة. ولا وسيلة إلى الكلام عن مشورة اللَّه الأزلية وعلاقتها بالحوادث الواقعة إلا إعلان الكتاب المقدس. فلا بد من إدراك أن اللَّه قدوس وعادل ورحيم محبٌّ للبشر، وهو مصدر الفداء المقدَّم للجميع بالمسيح، وأنه منزَّه عن أن يكون مُنْشئ الخطية.
ووقع البعض في خطإٍ في التعبير عن الرفض وما يتعلق به فقالوا إن اللَّه قضى أصلاً بهلاك كثيرين من البشر قبل خلقهم، ثم قضى بخلقهم لتنفيذ قضائه بهلاكهم، ثم قضى بتركهم بدون كفارة مُعدَّة لهم، وبدون نعمة تؤثر فيهم، كأن هلاكهم غاية خلقهم. وعُرف هذا القول عند اللاهوتيين بمذهب «سابق السقوط» لأنهم قصدوا به أن القضاء بالهلاك سبق السقوط في الخطية. وليس لهذا المذهب اعتبار الآن.
وبقي قول آخر أقرب إلى الصواب وأوضح، وهو أن اللَّه قضى بخلق الناس، ثم بالسماح بسقوطهم، ثم بإعداد الفداء بواسطة كفارة المسيح العامة، وتقديم ذلك الفداء لكل البشر مصحوباً بدعوتهم جميعاً، وبنعمة مشتركة تنبيهاً للجميع على قبوله. ولكن البشر ميالون للشر، ولا يميلون إلى قبول المسيح حتى لو دُعوا إليه بلطف وطول أناة ونعمة، ولذلك قضى اللَّه برحمة الاختيار مصحوبة بنعمة فعالة غالبة في قلوب المختارين، تجذبهم وتنيرهم وتجددهم وتقدّرهم على المجيء للمسيح بالتوبة والإيمان، فينالون الخلاص على يده. أما الباقون، غير المختارين لهذه النعمة الفعالة، فيتركهم اللَّه ليرفضوا كل ما لهم من النعمة والدعوة والنصيب في المسيح ليستمرّوا في خطاياهم، فيهلكون بها، وهم المرفوضون. ودرجات الرفض ثلاث:
(1) السماح بالسقوط في الخطية كما جرى على آدم.
(2) الترك، إذ يترك اللَّه البعض بلا نعمة فعالة تؤكد إتيانهم إلى المسيح بقلوب متجددة، فبهذا فقط يمتاز المختارون عن غير المختارين.
(3) الرفض، إذ يرفض اللَّه الأشرار المعاندين المتغافلين عن النعمة المشتركة والدعوة العامة للتمتع بفوائد المسيح، بسبب عنادهم وتوغلهم في الخطية.
فإذا أردنا التعبير عن كل هذه الدرجات بكلمة واحدة قلنا: «القضاء بالرفض» أو «عدم التعيين». وإذا أردنا التعبير عن كل منهما بمفرده قلنا: القضاء بالسماح بالخطية، والقضاء بأن يهمل البعض النعمة الفعالة لا المشتركة، والقضاء بأن يرفض البعض بسبب خطاياهم. أما سبب القضاء بالسماح بالخطية فقد أعلن الكتاب المقدس أنه إظهار الصفات الإلهية بكمالها وتمجيدها، وكذا سبب القضاء بالرفض وهو الخطية. ولكننا لا نمتلك إعلاناً إلهياً عن سبب إهمال البعض النعمة الفعالة، فهو من الأسرار الإلهية المحجوبة عن إدراك البشر. ونقول الشيء نفسه عن القضاء بالرفض فسبب عدم تعيين الجميع للخلاص لا يعلمه أحد إلا اللَّه، فلا بد له من أسباب كافية وصالحة، ولا بد من اعتبار أن السبب العظيم لذلك هو الخطية. وإذا كانت هناك أسباب أخرى فهي من أسرار اللَّه.
41 - ما معنى أن اللَّه قسّى قلوب بعض البشر؟
* ليس المعنى أن اللَّه أثَّر فيهم أن يفعلوا الشر، بل أنه منع عنهم التأثيرات الروحية السماوية، وتركهم لشر قلوبهم ولتسلُّط الشيطان عليهم. وكل ذلك قصاص لهم بسبب خطاياهم، لأن اللَّه ليس هو مبدئ الشر (يع 1: 13 ورو 1: 24، 28). وإذا قيل إن اللَّه مسؤول عما يسمح به كأنه قد عمله بنفسه لأنه يقدر أن يمنعه، أجبنا: هذا باطل، لأن اللَّه سمح بدخول الشر في الكون لمقاصد حسنة ومقدسة يعجز البشر عن إدراكها، ولذلك لا يصح أن نحكم في هذه المسألة، ولا نقدر أن نقيس أفكار اللَّه وأعماله على معرفتنا القاصرة.
42 - ما الاعتراضات على التعيين السابق؟
* أعظم الاعتراضات على قضاء الاختيار والرفض أربعة:
(1) أنه لا يليق باللَّه.
(2) أنه ليس صالحاً للإنسان.
(3) أنه يمنع خلاص النفس.
(4) أنه من المحال أن يقضي اللَّه برفض أحدٍ.
43 - ما هو الرد على الاعتراض القائل إن التعيين السابق لا يليق باللَّه؟
* يقولون إن التعيين السابق لا يليق باللَّه، خاصةً إذا شمل الاختيار والرفض، لأربعة أسباب: إنه يخالف عدل اللَّه، وقداسته، ورحمته، وإنه يستلزم أن اللَّه يحابي!
ونرد على ذلك فنقول:
(1) يبنون القول بمخالفة التعيين السابق لعدل اللَّه (على زعمهم) بأن العدل يوجب على اللَّه أن يخلّص جميع الناس. ونجيب: هذا باطل، لأن العدل لا يقتضي خلاص أحدٍ من الخطاة، بل يوجب عقاب الجميع، لأن الدافع على الخلاص هو النعمة المجانية والرحمة. فيجب أن نمدح رحمة اللَّه بخلاص الكثيرين بدلاً من أن نلوم عدله.
(2) يبنون القول بمخالفة التعيين السابق لقداسة اللَّه على زعمهم أن قداسته توجب عليه أن يمنع الشر أو أن ينقذ جميع الناس منه، فينفي الشر من العالم. ونجيب: هذا القول ينافي الواقع، لأن الخطية واقعة قطعاً والخطاة كثيرون. فالقول إن اللَّه يجب أن يخلّص الخطاة جميعاً بدلاً من أن يعاقبهم باطل، لأن القداسة لا تُجبر الرحمة، كما أن العدل لا يوجب إظهارها. وهذا الاعتراض لا يصح في شأن المختارين، لأن اللَّه يختارهم للقداسة، وهو لا يصح في شأن المرفوضين لأن قداسة اللَّه تسمح بإجراء القصاص بالعدل عليهم. أما موافقة سماح اللَّه بالخطية، وهو القدوس فنرجو دراسة فصل 12 س 69-71.
(3) يبنون القول إن التعيين السابق ينافي رحمة اللَّه على زعمهم أن رحمة اللَّه توجب عليه خلاص الجميع. ونجيب: ليست الرحمة إجباراً للَّه، لكنها مسرته بإظهار لطفه وتوزيع خيراته على الذين لا يستحقونها. لقد أظهر اللَّه رحمة جزيلة لجميع الناس، مختارين ومرفوضين، بأن وهب لهم فرصة التوبة، وأطال أناته عليهم سنين كثيرة دون أن يُجري العقاب السريع، وقدَّم لهم المسيح ودعاهم لقبوله، وأرسل النعمة لقلوبهم لتحثّهم على ذلك، ومنحهم تأثيرات الروح القدس لتنبّههم وتقنعهم وترشدهم. وربما أهمل كثيرون من المرفوضين فرص نعمةٍ أعظم بكثير مما قبله كثيرون من المختارين. فكثيرون من المرفوضين يخطئون مع ما لهم من وافر النور. فاللَّه لا يلتزم أن يعمل كل ما هو في طاقته لإنقاذ كل إنسان (رو 2: 4، 5). فهل يجوز لمن رفض نعمة اللَّه أن يقول له: لماذا لم تعطني أكثر مما أعطيتني من النعمة؟ أو: يجب عليك لأنك لم تؤثر فيَّ مع كل تلك الوسائل من أول أمري إلى الآن أن تبذل كل ما في وسعك في أمر خلاصي؟ وهل يجوز للمتسوّل الذي أنعم عليه المحسِن بربع جنيه أن يرد الحسنة ويلوم المحسِن لأنه لم يعطه جنيهاً كاملاً!
(4) يبنون القول إن التعيين السابق يستلزم أن اللَّه محابٍ ومستبد بمشيئته على رأي خاطئ يقول إن اللَّه يجب أن يعامل جميع البشر معاملة واحدة في الرحمة. نعم إن ذلك يصح في ما يختص بمعاملة العدل، ولكنه لا يصح في معاملة الرحمة. فلو كان لكل إنسان حق أن يخلُص لكان اللَّه محابياً إذا لم يعط الجميع حقهم، لأن المحاباة هي انحراف الحاكم عن الحق. فلو أظهر اللَّه ذلك في إجراء عدله لصح الاعتراض، إما في إظهار رحمته فيحق له أن يُظهرها لمن يشاء (رو 9: 18 و1كو 4: 7). فلا يجوز القول إنه يجب على اللَّه أن يختار كل إنسان ويجدده، لأنه لو صحَّ ذلك لكان لكل إنسان حق أن يخلص، ولكان عدم خلاصه مخالفاً للعدل، ولكان اللَّه مجبَراً على مغفرة خطايا كل واحد. وقد تجاسر البعض على هذه الدعوى وأنكر أن للَّه حقاً أن يحرم أحداً دون آخر من رحمة الخلاص والنعمة الفعالة. وعلى ذلك كان يجب عليه أن يختار كل البشر بدون استثناء، بل كان يجب أن يخلّص الملائكة الأشرار أيضاً، وذلك ينافي تعليم الكتاب (2بط 2: 4 وعب 2: 16) ويخالف الواقع، لأن اللَّه لا يعامل البشر معاملة واحدة، لا في الأمور الدنيوية ولا في الأمور الروحية. وقد أغلق على الجميع من جهة الخلاص، إذ لا يستحقه أحدٌ استحقاقاً ذاتياً، لأن اللَّه قد حكم أن لا يدخل أحدٌ من البشر السماء إلا برحمته. فإذا رحم إنساناً دون آخر بإرساله إليه نعمةً خاصة لم يوجب ذلك لآخر حقاً شرعياً، لأن ذلك الباب مفتوح للجميع.
44 - ما هو الرد على الاعتراض الثاني للمعترضين على التعيين السابق بحجة أنه ليس صالحاً للإنسان؟
* يقولون إن التعيين السابق ليس صالحاً للإنسان لأنه يسلب حريته ويؤدي به إلى الكبرياء والتجاسر. فنجيب: على وجهٍ عام هذا بخلاف الواقع لأن اللَّه لا يختار اختياراً ظاهراً مستقلاً عن الوسائط، بل أخفى ذلك، فلا أحدٌ يعرف سر الاختيار إلا بناءً على استعماله الوسائط التي تؤدي للخلاص بروح التواضع. فالمسألة التي نبحث فيها ليست : هل نحن من المختارين أو لا؟ بل: هل نقبل المسيح ونستعمل وسائط الخلاص أو لا؟ لأننا إذا آمنا خلصنا وإذا لم نؤمن هلكنا. وليس الذي يهمنا اختيارنا بل استعمال وسائط الخلاص لنخلُص. ونلخص ردنا فنقول:
(1) القول بسلب الحرية منشأه الزعم أن اللَّه يلاشي حريتنا بإجراء قضائه، وذلك باطل (انظر إجابة س 20 في هذا الفصل). فلكل إنسان كمال الحرية المسموح بها لنا على هذه الأرض، وهي حرية العمل كما نشاء، فلا شيء في قضاء اللَّه يمنع تلك الحرية، لا في المختار ولا في المرفوض.
(2) القول إن هذا التعليم يؤدي إلى الكبرياء غير حقيقي، لأن الاختيار يقودنا إلى التواضع، والذي ينشئ الكبرياء فينا هو القول إننا ندرك خلاصنا بأعمالنا وقدرتنا. وقد قيل «لأنه مَن يميِّزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» (1كو 4: 7).
(3) القول إن التعيين السابق يجعل الإنسان يجسر على الخطية، منشأه الاعتقاد الباطل أن الإنسان يخلُص مهما عمل، وأن لا لزوم للانتباه. ولكن التعيين للخلاص يشمل الحياة المقدسة واستعمال وسائط النعمة بأمانة وتواضع. فالاختيار ينشئ الشكر والحمد بروح التواضع في قلب المؤمن الحقيقي، وإلا فالأمل في الاختيار الحقيقي ضعيف (مز 115: 1).
45 - ما هو الرد على الاعتراض أن التعيين السابق يمنع خلاص النفس؟
* يقولون إن القضاء بالتعيين السابق يمنع خلاص النفس لأنه يمنع الاجتهاد ويبطل استخدام وسائط النعمة، ويعطل تبشير العالم بالإنجيل. وهو خطأٌ منشأه الوهم لما يأتي:
(1) يبنون القول إن التعيين السابق يمنع الاجتهاد الروحي واستخدام وسائط النعمة، بزعمهم الخاطئ أن التعيين مستقل عن الوسائط. والواقع ينافي ذلك، لأن قضاء اللَّه يشمل اجتهادنا في استعمال الوسائط اللازمة، فهو يوجبها. وما قُضي به يتم باستعمال وسائط النعمة. فإن قال أحدٌ: إن كنتُ من المختارين فلا بد سأخلُص، سواء استعملتُ وسائط الخلاص أم لم أستعملها، وإذا كنتُ من المرفوضين هلكتُ على كل حال. قلنا: إن الاختيار والرفض مرتبطان بالوسائط التي تؤدي لإحدى هاتين النتيجتين دون الأخرى، ولذلك لا خلاص لمن يهمل وسائط الخلاص، ولا رفض لمن يستعملها كما ينبغي. كما أن قضاء اللَّه سر لا يعرفه إنسان، فهو لا يمنعنا من الاجتهاد بل يحثّنا عليه وعلى استعمال الوسائط، لأنه يجعل الخلاص ممكناً لكل من يسعى وراءه، فنحن لا نعرف قضاء اللَّه، ولكننا نعرف الوسائط، وإذا استعملناها خلصنا.
(2) القول إن التعيين السابق يمنع التبشير بالإنجيل في كل العالم مدفوعٌ بأن كفارة المسيح عن كل البشر، وكافية لخلاصهم جميعاً، وكل من قبلها منهم يخلص بها. وقد اختار اللَّه أن يخصّصها لبعضهم دون غيرهم. ولكن هذا لا يمنع من تبشير الجميع بها، فالكفارة هي عن الجميع، فيجب تبشير الجميع بها. وليس في البشر من يعرف من هو المختار ولا من هو المرفوض. فالتبشير بالخلاص للجميع هو أحد وسائط جذب الناس لقبول المسيح، وقد أمرنا المسيح بذلك. فليس في قضاء اللَّه ما يمنع التبشير بالإنجيل بكل غيرة لكل البشر.
46 - ما هو الرد على الاعتراض أن التعيين السابق مستحيل، لأنه يعني أن اللَّه يرفض بعض البشر؟
* للرد نقول: القضاء الإلهي ليس سبب تأكيد الهلاك، لأن الهلاك ناتج عن أن النفس التي تخطئ تموت. فإذا صحَّ هذا الاعتراض كان المعنى أنه يستحيل أن يسمح اللَّه بهلاك أحد بالخطية. ولكن إذا صح أنه يسمح بهلاك أحدٍ يصح أن يقصد بالسماح بذلك بقضائه السابق. والقضاء بالرفض ليس كالقضاء بالتعيين، لأن الرفض هو ترك الإنسان في خطيته، والاختيار هو إنقاذه منها. فالعامل في الرفض هو الخاطئ نفسه، والعامل في الاختيار هو اللَّه حسب القول «اللَّه، وهو يريد أن يُظهِر غضبه ويبيّن قوته، احتمل بأناةٍ كثيرة آنية غضب مهيأة للَّهلاك» (رو 9: 22، 23). ومعنى هذه العبارة أن اللَّه أعدّ آنية رحمة للمجد، ولكن آنية الغضب مهيأة للَّهلاك من تلقاء نفسها. فاللَّه يخلِّص المختارين، ويسمح بأن يُهلِك المرفوضون أنفسَهم. على أنه لم يترك المرفوضين بدون نصيب من النعمة، لو أنهم قبلوه لنالوا الخلاص.
47 - كيف تثبت أنه يمكن للمسيحي أن يثق في اختيار اللَّه له؟
* قال الرسول إن الذين عيَّنهم اللَّه دعاهم، والذين دعاهم بررهم، والذين بررهم قدسهم. فإذا وُجدت فينا ثمار الروح القدس التي هي القداسة والفضائل المسيحية، كان ذلك دليلاً على أننا مدعوون الدعوة الفعَّالة ولنا الثقة في اختيارنا. ومن أدلة ذلك شعور المسيحي بوجود روح اللَّه في قلبه، وشهادة الروح القدس لروح المؤمن أنه من أبناء اللَّه (رو 8: 16، 17 وأف 4: 30 و2بط 1: 5-10 و1يو 2: 3). قال بولس «لست أخجل، لأنني عالم بمَنْ آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم» (2تي 1: 12). ولكن يجب أن تخلو تلك الثقة من كل اتكال على أنفسنا أو بها، وأن لا تقترن بشيء من الكبرياء أو الخسارة، بل بروح التواضع والصلاة والاتكال على النعمة الإلهية، لأن أساس تلك الثقة ليس فينا بل في المحبة الأبوية ومواعيد اللَّه الثابتة.
48 - ما هي فوائد تعليم الاختيار؟
* تعليم الاختيار من الأطعمة القوية التي توافق المسيحي الناضج في الإيمان، وهو ليس لبناً للأطفال بل طعاماً للبالغين (عب 5: 12-14 و1كو 3: 1، 2) وهو ذو فوائد روحية للمؤمن المسيحي، لا لمن يجهل الحق ولا لغير المتجدد ولا للكافر. وقسمنا الفوائد التي يمكن استخراجها من هذا التعليم لقسمين: (1) الفوائد العلمية. (2) الفوائد العملية.
فمن الفوائد العلمية: (1) إن اللَّه ذو سلطان غير محدود.
(2) إن الخلاص هو من النعمة الإلهية فقط.
(3) لا يمكن أن تُبطل الخطية مقاصد اللَّه في الفداء، ولا يمكن أن أعداء اللَّه يغلبونه (مز 2: 4 و76: 10).
(4) قداستنا هي عمل اللَّه فينا لا من أنفسنا (أف 1: 4).
ومن الفوائد العملية:
(1) ينشئ هذا التعليم فينا الشكر للَّه على صلاحه ورحمته.
(2) ينشئ فينا الشجاعة والرجاء «إذ نثق أن الذي ابتدأ فينا عملاً صالحاً يكمّل إلى يوم يسوع المسيح» (في 1: 6).
(3) يمنحنا تعزيةً وسلاماً في أوقات الضيق وتقلبات الأحوال، إذ نعلم أن ما قصده اللَّه للمختارين ثابت لا يقدر أحد أن يغيّره.
(4) هو أساسٌ لثقة المؤمنين أن اللَّه سيتمم مواعيده ومقاصده (رو 8: 28-30 و9: 26).
(5) يقودنا للتواضع (2تي 1: 9 و1كو 4: 7).
(6) يحركنا للصلاة ليخلّص البشر ويباركهم ويمنحهم الروح القدس، لأنهم لا يقدرون أن يخلصوا بدونه.
49 - ما هي أفضل الطرق لتوصيل هذا التعليم للبشر ومساعدتهم على قبوله وتعزيتهم به؟
* (1) يجب أن نبيّن لهم أن الاختيار من مقاصد اللَّه الأزلية، فلم يقضِ فقط باختيار البشر، بل عيَّن كل الأشياء حسب رأي مشيئته. فإذا صحّ الاعتراض على الاختيار لأنه يشمل قصد اللَّه في الذين يخلصون، صحّ أيضاً على قصد اللَّه في كل ما يختص بالبشر. مثال ذلك: هو عيَّن مسكننا وما يتعلق بتعليمنا ونحن صغار، وجميع أحوالنا الدنيوية كالغِنى والفقر، وكيفية الموت، ومدة امتحاننا على الأرض وما إلى ذلك.
(2) يجب أن نبيّن لهم أن اللَّه باختياره البعض لم يظلم الذين لم يخترهم، لأن الاختيار من أعمال الرحمة، وهو غير ملزَم بها (رو 9: 15-18). فإذا شاء أن يصنع إحساناً خاصاً مع المختارين فلا يكون قد ظلم بذلك غير المختارين. كل ما في الأمر أنه تركهم لخطاياهم ولقساوة قلوبهم. نعم إن اللَّه في إجراء عدله لا يحابي، ولكنه في رحمته يحقّ له أن يختار من يشاء وأن يرفض من يشاء. ولما كان الرفض هو ترك البعض للَّهلاك، نسأل : لماذا لا يخلّص اللَّه كل واحد؟ فنجيب: إنه يتعذَّر علينا الجواب على هذا السؤال، لأننا لا نقدر أن نعلل اختيار اللَّه للبعض إلا بما جاء في كتابه من أن ذلك من أعمال إرادته المطلقة. فيجب أن نعتقد أن للَّه حقاً في هذا كما في كل الأشياء. علماً بأنه لا يرفض أحداً أبداً إلا بسبب خطاياه، ولا يمنع أحداً من قبول الفادي ومن استعمال وسائط الخلاص.
(3) نبيّن أن الاختيار يوافق العقل، لأنه تخصيص فوائد الكفارة تخصيصاً فعالاً للذين قصد اللَّه أن يخلّصهم. ولما كان الجميع في حالة الهلاك، وكان اللَّه قد شاء أن يخلّص البعض، كان لا بد من ذلك التخصيص. ولا نتصوَّر لتخصيص كفارة المسيح سوى ثلاث طرق: وهي إما تركها للصدفة، أو لاختيار الإنسان، أو لاختيار اللَّه. واختيار اللَّه هو الطريق الوحيد الفعال، لأنه لو تُركت فائدة الكفارة للصدفة أو لاختيار الإنسان لهلك الجميع. ولذلك اختار اللَّه البعض للانتفاع بالكفارة وأرسل إليهم روحه ليقبلوها.
(4) نبيّن لهم أن الاختيار لا يمنع أحداً من طلب الخلاص، ولا يُجبر أحداً على رفض الإنجيل ولا على التغافل عن دعوة اللَّه وترك الإيمان. وواضحٌ من اختبارنا أن كل من طلب الخلاص بالمسيح بالتواضع وجده. ثم أن اللَّه لم يعلن لنا من هم الذين اختارهم وقصد أن يدعوهم، وهذا يجعل كل واحدٍ منّا بمنزلة المختار الذي له نصيب في المسيح، إذا قبله بالإيمان.
(5) يجب أن نبيّن لهم أيضاً أن الاختيار لا يأتي بالخلاص بدون استعمال الوسائط اللازمة وإتمام الواجبات المطلوبة، لأن الكتاب يقول إن الاختيار هو للطاعة والقداسة، وبالتالي للخلاص (أف 2: 10 و2تس 2: 13 و1بط 1: 3). فإن قال أحدٌ: أنا مختار ولذلك يمكنني أن أعيش كما أشتهي، كان هذا برهاناً على أنه غير مختار.
(6) نبيّن لهم أن اللَّه لا يُجري قضاء الاختيار بطريقة تعارض حرية البشر، لأنه يرسل روحه لقلوبنا فيجعلنا نريد.
(7) نبيّن لهم أن رفض هذا التعليم وعدم الرضى به ليسا ضد الذين يعلّمونه أو يحامون عنه، بل ضد اللَّه الذي أعلنه. وأننا يجب أن نقبل حكم اللَّه المطلق في هذا الأمر كما نقبل أحكامه في سائر الأمور، وأن نصدق تعليم الاختيار كما نصدق غيره من تعاليم الكتاب المقدس، وأن نعتقد أن له مقاصد صالحة وحكيمة فيه كما في غيره. فلا يجوز أن نهمل هذا التعليم أو نكتمه عن الآخرين، فهو يشبه سلسلة ذهبية ذات سبع حلقات، أولها المحبة، بعدها الكفارة، فالاختيار، فالدعوة الفعالة، فالتبرير، فالتقديس. والحلقة الأخيرة هي التمجيد في الخلاص (رو 8: 28-30). فمن يجسر أن يكسر تلك السلسلة الذهبية أو يفصل حلقة منها؟! ألا يجب أن نُقنع الشعب أن يحذروا من جعل الاختيار عثرةً لأنفسهم، كما جعل اليهود المسيح نفسه عثرة لهم، خصوصاً ونحن نرى سهولة خضوع الشعب للتجربة وتحويل تعليم صعب مثل الاختيار ليكون عثرة.
(8) نبيّن لهم مقام تعليم الاختيار كما يظهر في رسالة رومية، التي تشرح نظام الخلاص بالترتيب. فبعد أن بحث الرسول في أصحاحات 1-8 مواضيع الخطية والسقوط والناموس وعهد النعمة والتوبة والإيمان والتبرير والكفارة والقداسة والرجاء وإرسال الروح القدس وعمله في قلوبنا وفساد طبيعتنا والقيامة، بدأ الكلام في الاختيار في الأصحاح التاسع، قاصداً بذلك تعزية المؤمنين بالحق، لا إرشاد غير المؤمنين.
وإذا اعترض أحدٌ أنه يلزم عن الاختيار عدم لزوم استعمال وسائط الخلاص، يجب أن نبيّن له أن هذا الاعتراض لا قوة له كما بيَّنا في إجابة س 40 من هذا الفصل.
وإليك بعض الملاحظات:
(1) لا يحقّ لأحدٍ أن يحكم بعدم اختيار شخص ويقول: لا فائدة من الاجتهاد في خلاصه. بل إذا وجدنا من اعتقد أنه غير مختار ويئس من رحمة اللَّه وجب أن نبيّن له خطأه.
(2) ليس بين الإنجيل وسلطان اللَّه خلاف، فوجب أن نبشر دائماً بالإنجيل راجين إمكان خلاص كل واحد.
(3) لا يجوز لأحد أن يجعل اعتقاده بالاختيار سبباً للتغافل عن الصلاة واستعمال وسائط النعمة. فإن ظن أحد ذلك كان ظنه تجربة له من الشيطان. وإن أثّر فيه وغلبه كان هذا علامةً على أنه غير مختار.
(4) لا يقدر أحدٌ أن يعرف سبب الاختيار إلا اللَّه وحده. ولا نعرف سبب الاختيار إلا في حادثتين فقط، هما سبب اختيار بولس، وهو إظهار أناة المسيح (1تي 1: 16). وسبب رفض فرعون، وهو إظهار قوة اللَّه وإذاعة اسمه في كل الأرض (خر 9: 16). غير أن ذلك محصور في هاتين الحادثتين، فلا يمكن أن نتَّخذهما سبباً عاماً لكل اختيار.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل السابع عشر
الخليقة

ظهر قضاء اللَّه أولاً في خلق الكائنات، سواء كانت روحاً أو مادة، وليس منها ما هو أزلي، بل لكلها بدء أنشأته مشيئة اللَّه. وكان أوَّل ما خلقه اللَّه تتميماً لما سبق أن قضى به، فخلق الكائنات والمخلوقات على درجاتها وأنواعها. وحين خلق الجنس البشري أسكنهم أرضه، وابتدأ تاريخ هذا العالم.
1 - ما معنى كلمتي «الخَلْق» و«الخليقة» في الكتاب المقدس؟
* معنى «الخَلْق» في الكتاب «الإيجاد من العدم». وليس معناه إبداع شيء من مادة موجودة بصورة جديدة. يختلف الخلق عن النشوء وعن التحوُّل وعن النمو، فالنشوء يدل على تنوُّع موجودٍ بالارتقاء، والتحوُّل يدل على انتقال موجودٍ من حال إلى حال، والنمو يدل على التقدم للكمال بموجب أسباب خُلقت في الذي تقدَّم. وكل ذلك على وفق طبيعة الناشئ أو المتحوِّل، وبموجب قوانين ثابتة. ومعنى «الخليقة» في الكتاب «ما خلقه اللَّه» أي ما أوجده من العدم. فكلمة «الخلق» مصدر، وكلمة «الخليقة» وزن فعيل بمعنى المفعول. على أن المصدر قد يُستعمل بهذا المعنى أيضاً (تك 1:1 وكو 1: 16 ورؤ 4: 11).
2 - مَنْ هو مصدر تعليم الخلق من العدم؟
* هو الخالق نفسه، ولا تصح نسبة الخلق للعقل البشري، لأن العقل لا يقدر أن يتصوَّر خلق المخلوقات من لا شيء. وقد اصطلح الفلاسفة القدماء على أنه لا يمكن أن يكون شيء من لا شيء. وشاع اعتقاد بين البشر القدماء، حتى صار عاماً، وهو أن نسبة الخلق من لا شيء إلى اللَّه يجعلنا نعتقد أنه أصل الشر. وهذا لا يليق بالإله الكامل في جميع صفاته. ولم يكن تعليم أن اللَّه هو الخالق إلا عند الذين تعلموه من الوحي وقبلوه بالإيمان. ولو كان مفهوم القدماء بقولهم «لا يمكن أن يكون شيء من لا شيء» أنه لا يمكن أن يكون شيء بدون سبب كافٍ لإبدائه، لسلَّمنا معهم بصحة هذا المبدأ. ولكن مفهومهم هو أنه لا يمكن خلق شيء من لا شيء. وهذا باطل، أولاً لأنه لا يمكن إثباته. وثانياً لأنه يعني أن قدرة اللَّه محدودة، وأن ما أعلنه لنا في شأن خلق الكائنات من العدم بكلمة قدرته غير صحيح.
وقد رأى البعض أن تعليم »الخلق من لا شيء« يعني نسبة أصل الشر إلى اللَّه، وقالوا إن المادة أزلية واجبة الوجود، وإنها هي أصل الشر، وإن اللَّه قد لطَّف فعل الشر في الكون على قدر ما أمكن. وذلك مرفوض: (أ) لعدم صدق اعتقادهم أن اللَّه هو أصل الشر، فالصواب هو أن اللَّه أوجد خلائق عاقلة ذوات إرادة حرة، كان اختيارهم الخاطئ هو أصل الشر، لأنهم تمرَّدوا على اللَّه عمداً وقاوموا مشيئته. غير أن ذلك بسماح منه لأهداف حسنة مكتومة عنا في الدهر الحاضر. وأما هو فلا يزال قدوساً مع وجود الشر بين الخلائق، وقادراً على منعه إذا شاء. و(ب) ببُطل قولهم إن المادة هي مركز الشر، بدليل ما يأتي:
(1) لا علاقة للشر بالمادة، بل علاقته بالنفس والمشيئة التي تخالِف مشيئة اللَّه.
(2) ليس في الكتاب المقدس ما يدل على أن الجسد المادي هو أصل الخطية.
(3) قول اللَّه إن ما خلقه من مواد الكون هو حسنٌ جداً.
(4) تجسُّد المسيح الذي تمَّ باتحاد اللاهوت بجسد مادي حقيقي.
(5) الوعد بأن الخليقة المادية، المُستعبدة الآن للبُطل بسبب خطية الإنسان، ستتجدد وتصير هيكلاً للمسيح يحل فيه إلى الأبد (رو 8: 19-23 وعب 12: 26، 27 و2بط 3: 10-13 ورؤ 5: 9، 10 و21: 1-5).
(6) تعليم الكتاب أن أجسادنا المادية هي أعضاء المسيح وهياكل للروح القدس، وأنها في القيامة تتغير وتصير مشابِهة لجسد المسيح الممجد، فتشترك في الفداء الذي أعدَّه لنا (1كو 6: 15، 19).
(7) بُطل مذهب القائلين إن المادة أزلية ومستقلة عن اللَّه، وإن الخطية صدرت منها على رغم إرادة اللَّه، وإنه اجتهد في تخفيفها وإبطالها، لأن هذا المذهب يهين اللَّه، ولا يمكن إثباته، بل يرفضه الكتاب المقدس وحكم العقل السليم.
3 - ما هي الأدلة على »الخلق من لا شيء«؟
* (1) نص الكتاب المقدس على هذا التعليم، فتقول فاتحة التوراة «في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض». والكلمة العبرانية المترجمة «البدء» هي في الأصل بدون «أل» التعريف، وهي تدل على زمنٍ قبل الوقت الذي شرع اللَّه فيه في إيجاد المواد. وليس في الكتاب المقدس أقل تلميح إلى وجود شيء من المخلوقات قبل ذلك الوقت المُعبَّر عنه بالبدء. ويؤيد تفسيرنا أن كلمة «البدء» هنا تدل على زمنٍ معلوم قبل إيجاد الكائنات قول المسيح «الآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يو 17: 5) وقول بولس «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم» (أف 1: 4) وقول الحكيم «منذ الأزل مُسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض» (أم 8: 23) وقول البشير يوحنا «في البدء كان الكلمة». فيتضح من ذلك أن كلمة «البدء» تُستعمل هنا لتدل على زمن في الأزل قبل إيجاد شيء من المخلوقات، وهو بمعنى قول المرنم «من قِدَمٍ أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك» (مز 102: 25). والكلمة المترجمة «خلَق» تدل على الإيجاد من العدم بكلمة اللَّه القدير.
ونجد في العهد القديم ثلاثة أفعال عبرية تصف إيجاد الكون وتنظيمه وهي «بَرَا» وتُرجمت إلى العربية «خلَقَ» و«يَتْسَر» وتُرجمت «جبَلَ» و«عَسَا» وتُرجمت تارة «عمل» وأخرى «صنع». وقد جاء الفعل برأ في الكتاب المقدس على وزني الفعلين العبريين : «قال» و«نِفْعَل» («قال» للمعلوم كفعل، و«نِفْعل» للمجهول كفُعِل) نحو 48 مرة للدلالة على عمل اللَّه، ولم يُستعمل مطلقاً على أحد هذين الوزنين للدلالة على عمل الإنسان. وأما وزن «فعَّل» منه فهو كما في العربية للتكثير والمبالغة، وقد جاء في الكتاب المقدس بمعنى «قطع» أو «صوَّر» خمس مرات منسوباً إلى البشر (يش 17: 15، 18 وحز 21: 19 و23: 14). ويتضح مما تقدم أن كتَبَة التوراة خصَّصوا الوزن المعلوم من هذا الفعل للعمل الإلهي دلالةً على الخلق المطلق من لا شيء، أو الخلق بمعنى إبداع شيء جديد من مواد موجودة. وكلاهما دائماً يفيدان إيجاد شيء بقوة اللَّه مباشرةً بدون سبب طبيعي. أما قوله: «في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض» (تك 1:1) فيدل على أن الخلق من العدم هو بقوة اللَّه، أي إيجاد المواد الأصلية من لا شيء، لأنه لم يذكر مادة صنع اللَّه منها السماوات والأرض، وهذا ما نستنتجه من كلمة «البدء». ولا يمكن أن يكون المقصود بذلك نظام الأرض على هيئتها الحاضرة، لأن آية 2 تقول إنها بقيت مدة بعد إيجادها خربة وخالية، ولورود خبر تنظيمها في بقية الأصحاح. فواضح أن تكوين 1:1 يدل على الخلق من العدم، وهو ما تقوله آيات أخرى كثيرة، وهذا ينفي القول بأزلية المواد وألوهية الكون.
(2) تدل بعض آيات الكتاب المقدس على هذا التعليم، ومنها القول «وبارك اللَّه اليوم السابع وقدَّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمله خالقاً» وهو يدل على أن العمل الذي استراح منه هو الخلق أي الإيجاد من العدم (تك 2: 3). ويؤيد ذلك نسبة الخلق إليه فقط. «بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة اللَّه، حتى لم يتكوَّن ما يُرى مما هو ظاهر» (عب 11: 3) «فإنه فيه خلق الكل، ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى سواءٌ كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق» (كو 1: 16) «بكلمة الرب صُنعت السماوات، وبنسمة فمه كل جنودها» (مز 33: 6) «لتسبح اسم الرب لأنه أمر فخُلقت» (مز 148: 5). ولم يرد في هذه الآيات وأمثالها ذكر وجود مواد قبل الخلق صنع اللَّه منها الموجودات، بل بالعكس أُشير إلى أنها وجدت بكلمة الرب أو أمره أو قوته، وأنه قال «ليكن كذا» فكان. ومما يثبت ذلك تمييز الكتاب بين أزلية الخالق وحداثة المخلوق، فقال المرنم «من قبل أن توجد الجبال أو أبدأت الأرض والمسكونة، منذ الأزل إلى الأبد أنت اللَّه» (مز 90: 2). وقال «الحكمة»: «منذ الأزل مُسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمرٌ أُبدئت، إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أُبدئت. إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة» (أم 8: 23-26). وقال المسيح «لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم. مجدني.. بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم».
(3) شهادة الشعور ولسان حال الطبيعة المادية، فكلنا يشعر بوجوده واستقلاله عن غيره وعدم أزليته، وبالنتيجة أنه مخلوق نفساً وجسداً، وله بداية. فإذا سلّمنا بخلق النفس من لا شيء سهُل علينا التسليم بإمكان إيجاد المواد من لا شيء. وإذا تبرهن من الشعور ومن شهادة الطبيعة ومن تعليم الكتاب المقدس الصريح وجود علة أصلية قادرة عاقلة واجبة الوجود حكيمة مختارة، وجب أن ننسب إليها إبداء الكون. ولا شك أن ذلك يسهّل فهم حقائق الخليقة ويعلّل حوادث الكون وغرائبه تعليلاً وافياً، فلا تبقى حاجة بعدُ إلى تكثير الافتراضات والتخمينات لاكتشاف أصلٍ آخر للخليقة.
ويشهد لسان حال الطبيعة المادية بوجود خالق للمخلوقات، ليس فقط بواسطة ما يُرى من علامات القصد في نظامها، بل بواسطة ما يُرى من ذلك في طبيعة المواد الأصلية التي تكوّنت منها، لأن وجودها في تلك تستلزم وجودها في هذه. وإذا بحثنا في المواد الأساسية الأصلية رأينا فيها أدلة قاطعة على أنها صُنعت لهدفٍ، لما بينها من العلاقة والمشابهة والموافقة. وإذا سلّمنا بذلك كان لا بد من التسليم بوجود أصل عقلي لتعليل تلك العلاقات.
4 - ما هو الفرق بين الخلق بدون واسطة والخلق بواسطة؟
* «الخلق بدون واسطة» هو إيجاد شيء من لا شيء، كخلق اللَّه مواد الكون الأصلية من العدم. و«الخلق بواسطة» هو إبداع أشياء جديدة من المواد الأصلية، كإبداع اللَّه البحر واليابسة والنباتات والحيوانات وجسد الإنسان من المادة التي أوجدها قبلاً. وتم الخلق بدون واسطة بعمل اللَّه مباشرةً، وتم الخلق بواسطة بعمل اللَّه بوسائط ثانوية وشرائع مقرّرة.
5 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في أصل الكون؟
* هو أن اللَّه أوجد مواد الكون الأصلية من العدم، ثم أبدع من تلك المواد كل الموجودات بقوته كما شاءت إرادته، ووهب الطبيعة المادية قواها وخصائصها، ووهب لبعضها الحياة، وزيَّن الإنسان بالنفس الناطقة، وكل ذلك لأهداف سامية. وأعلن لنا ذلك في كتابه، كما أعلن أيضاً أنه كائن أزلي واجب الوجود ذو مشيئة وحكمة وقدرة، لأنه لا يمكن التوصل بواسطة العلوم الطبيعية إلى هذه المعرفة. غير أن تلك العلوم ترجح وتؤيد كل ذلك. أما آيات الكتاب التي تنص على ذلك فكثيرة، إليك بعضها (تك 1:1 ومز 33: 6 و90: 2 و148: 5 وإر 10:10-12 ومر 13: 19 ويو 1: 3 ورو 11: 36 و1كو 8: 6 وكو 1: 16 وعب 1: 2 و11: 3). ولهذا التعليم أهمية عظيمة إذ يتَّضح منه وجود إله واحد مستقل عن خلائقه، له كل ما يلزم من الصفات ليكون كاملاً. وهو موجد الكون من العدم بكلمة قدرته، والمعتني به على الدوام. وهذا التعليم هو أساس الشريعة الأخلاقية وجميع التعاليم الدينية ومواعيد الإنجيل. وكل ما اكتُشف وعُلم من أسرار الطبيعة وخواصها يبيّن رفعة شأن الخالق وقدرته وغزارة حكمته وسمو مجده، وأنه هو وحده الجواب الكافي لما ينشأ من المشاكل والمسائل في البحث عن غرائب الطبيعة وأصل حياتنا وقُوانا، ولإيضاح أسرار الدين الصحيح وعجائبه التي أعظمها الخليقة الأصلية وكل ما يجريه اللَّه في الطبيعة مما يُظهِر قوته الفائقة وتدخله الحقيقي. فإذا سلّمنا بذلك في مسألة الخلق سهُل علينا التسليم به في المعجزات كما نرى في العهدين القديم والجديد. وتظهر أيضاً أهمية هذا التعليم من أنه يبرهن أن مواد الكون غير أزلية، وإن الطبيعة ليست مجموع ظهورات إلهية، أو هي نفسها اللَّه. وهو ينفي القول بالتوالد الذاتي، وبمذهب النشوء على كل صوره الإلحادية التي تقلل من شأن الخالق، لأن مذهب النشوء ينسب للطبيعة نفسها كل ما فيها من علامات الحكمة والقصد.
6 - هل يمكن تعيين الوقت الذي فيه شرع اللَّه في خلق الكون؟
* لا. لأن الكتاب المقدس الذي هو المصدر الوحيد لمعرفة ما نجهله من أمور اللَّه لا يعيّن ذلك. وأما قوله «في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض» فيشير إلى شروعه في الخلق لا إلى الوقت الذي شرع فيه. والأيام الستة التي تم فيها تكوين العالم هي حقب طويلة جداً. وليس في الكتاب المقدس ولا في الطبيعة ما يدل على مقدار طولها.
7 - ماذا يُستفاد من الطبيعة عن طول المدة التي مرت منذ شروع اللَّه في خلق الكائنات إلى أن وجد الإنسان؟
* اتَّضح من اكتشافات علم الجيولوجيا وغيره من العلوم أن تلك المدة كانت طويلة جداً. ويقول أشهر المذاهب العلمية، وهو الرأي السديمي، إن المواد الأصلية التي تكونت منها العوالم كانت أولاً على هيئة غازية ممتدة جداً كالضباب في الجو، ثم أخذت تبرد بالإشعاع وتتقلص وتنفصل أجزاؤها البعيدة عن الكتلة الأصلية الواحد بعد الآخر. ثم أن ما ينفصل يستمر في دورانه ويتحول إلى كرة مستقلة. ولما انفصل عالمنا هذا ابتدأ تكوينه بواسطة التغيُّرات المادية إلى أن صار يابسة وبحاراً، ثم أبدع اللَّه فيه الحياة النباتية والحيوانية. ولما صار بعد أدوار طويلة وكثيرة جاهزاً لسكن الإنسان خلق اللَّه آدم. وليس في هذا المذهب ما يهين شأن الخالق، فهو المبدئ لكل شيء.
وليس في سفر التكوين ما يضاد علوم الطبيعة في شأن مدة الخلق، لأن كلمة «يوم» تحتمل أربعة معانٍ :
(1) اليوم الطبيعي المعلوم على ما في الوصية الرابعة (خر 20: 8-11).
(2) توالي النور والظلمة (تك 1: 5).
(3) عدد معلوم من الأيام، ومن ذلك الكناية عن أيام الخليقة الستة بيوم واحد (تك 2: 4).
(4) حقب طويلة غير محدودة، مثل يوم الرب ويوم النقمة ويوم الدينونة ويوم الخلاص، وهو كناية عن عصر الإنجيل (إش 49: 8) الذي مضى منه عشرون قرناً «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس» (مز 90: 4). وقال بطرس «إن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد» (2بط 3: 8). وليس في عبارة التكوين «في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض» ما يحدد مدة الخلق مطلقاً.
8 - ما هي أشهر المذاهب الوثنية القديمة في أصل الكون؟
* (1) يقول المذهب الأول إن الكون أزلي، وهو على صورتين: (أ) مواد الكون الأصلية كانت منذ الأزل غير منظمة، تائهة في الفضاء، خربة وخالية، ثم انتظمت في زمن ما بالصدفة على ما هي عليه الآن. وأول من اشتهر في نشر هذا الرأي ديموقراط وليوسبّوس، وتبعهما أبيقور. وهو من أفسد المذاهب الوثنية في هذا الشأن، لأنه ينسب هذا الكون العظيم وكل ما فيه من علامات القصد والحكمة إلى الصدفة. وهو يخالف العقل السليم، بل هو مستحيل، فلو استخدمنا نفس المنطق في تأليف كتاب، لاحتجنا إلى حقب طويلة لتجتمع حروف صفحة واحدة منه من نفسها بالصدفة. ولو حلّلنا مواد منزل واحد إلى دقائقها المفردة، وفرضنا أن هذه المواد منتشرة في الجو لاقتضت الصدفة دهوراً لا تُحصى لتنتظم بيتاً! وكم نحتاج من الدهور لو فرضنا ذلك في مدينة كاملة، أو في الكون أجمع! فهذا المذهب أحد ثمار الفلسفة القديمة في زمن الجاهلية. (ب) لم يوجد الكون مطلقاً في حالة الخراب، بل كان منذ الأزل على ما نراه الآن. وفساد هذا المذهب واضح من أنه إذا كان الكون منظَّماً فلابد له من منظِّم، فمن المحال أن ينظِّم نفسه. وقد اجتهد أرسطو في نشر هذا المذهب وقال إن اللَّه أزلي وكذلك المواد أزلية مثله ومستقلة عنه، وقد عمل في تنظيمها منذ الأزل. وهذا الرأي مرفوض، فالمادة ليست أزلية حسب تعليم الكتاب المقدس. وكان اعتقاد أفلاطون شبيهاً باعتقاد أرسطو من بعض الوجوه، ولكنه يخالفه في غيرها، فقال إن اللَّه والمادة أزليان، وكلاهما واجب الوجود ومستقل عن الآخر، وقد صدرت من اللَّه أرواح الآلهة الثانوية والبشر. وخلق أحد الآلهة الثانويين (واسمه في اليونانية ديميورغوس أي العامل أو الخالق) باقي الكون من المادة الأزلية. وقال أفلاطون إن «يهوه» إله العبرانيين خرج من هذا الإله العظيم الأزلي، وقال تلاميذ أفلاطون إن المسيح أيضاً خرج منه! وهذا المذهب مرفوض لأننا لا نقدر أن نثبت أزلية المادة، لكننا نقدر أن نثبت أنها غير أزلية، لأن القول بأزلية المواد على هيئة غير منتظمة كانت واجبة الوجود ومستقلة عن الخالق، ولها ما له من الصفات الكاملة يقلل من شأن اللَّه (1) لأنه يعني وجود أزلي غيره. و(2) لأن للمواد من الصفات ما يجعل قوة اللَّه مقيّدة حتى لا يقدر أن يعمل شيئاً بالمواد بدون أن يراعي صفاتها، وذلك ما حمل أفلاطون وتابعيه (عندما رأوا في الكون نقائص وعيوباً وخطية) أن يقولوا إن اللَّه لم يقدر أن يعمل أحسن من ذلك. ونتيجة ذلك يكون اللَّه قاصراً في القدرة والحكمة. وهذا يخالف تعليم كتاب اللَّه أنه هو الإله الأزلي القدير الحكيم الذي أوجد الكون بكلمة قدرته.
(2) يقول المذهب الثاني إن الكون صدر من اللَّه كجزء منه، فكأن الموجودات على أنواعها كانت فيه أولاً خلايا، ثم نشأت وخرجت منه أو انبثقت كما ينبثق النور من الشمس. وقد اشترك أفلاطون أيضاً في هذا المذهب، غير أنه اعتقد بأزلية المواد. وممن اعتقده أيضاً الغناطسة الذين قالوا مع أفلاطون إن الأرواح صدرت من اللَّه، وإن الكائنات المادية صدرت من المادة الأزلية، وإن المادة هي مركز كل شر. وقالوا إن القصد من صدور المسيح أن يعطي للأرواح الممسكة بالمادة قدرةً على التخلص منها لترجع إلى حالة الطهارة والسعادة. وواضح أنه لا يمكن إثبات هذا المذهب، لأنه يناقض شهادة الحواس وبديهيات العقل ونور الوحي.
(3) يقول المذهب الثالث إن الكون هو اللَّه، وهو المعروف بمذهب «ألوهية الكون». واشتهر هذا المذهب في القديم ولا يزال موجوداً في الفلسفة الملحدة، مثل فلسفة سبينوزا وفِختِه وشيلنج وهيجل (انظر فصل 10 س 12-14).
9 - ما هي أشهر المذاهب الإلحادية الحديثة في أصل الكون؟
* نشأت تلك المذاهب عن آراء القدماء، بالرغم من نور الوحي الكامل عند العصريين، وبالرغم من الأدلة الطبيعية والتاريخية والروحية على وجود اللَّه وعلاقته الحقيقية بالكون. فخطؤهم في هذه المسألة أشد من خطأ القدماء الذين لم يكن لهم مثل هذا النور. والغريب أن أكثر المذاهب الوثنية القديمة لا تزال عاملة في عقول العصريين، ولو أنها اتخذت أشكالاً جديدة توافق ذوق أهل هذا العصر وما فيه من المعارف والعلوم الكثيرة. ومن المذاهب الإلحادية الحديثة ما يأتي :
(1) مذهب «ألوهية الكون» (أو وحدة الوجود) الذي جدده أهل الفلسفة الإلحادية في القرن 17 وما بعده. ومن أشهر هؤلاء سبينوزا اليهودي أصلاً والهولندي موطناً، وأيضاً فِختِه وشيلنج وهيجل (انظر فصل 10 س 12-14).
(2) مذهب الماديين، وهو أن المادة أزلية مستقلة عن اللَّه (عند من اعتقد بوجود اللَّه منهم) وأنها مركز الحياة والقوى العقلية والروحية، ومنها صدرت جميع الموجودات على أنواعها بدون استثناء ونمت وتقدمت بدون عمل الخالق. وهم يعتقدون أن المادة قادرة بنفسها على إيجاد الحياة والقوى العقلية، وأن العقل ناشئ منها ولا يختلف عنها في شيء من صفاته، وأن الأفكار تتولد بواسطة حركات مواد الدماغ كما تتولد الصفراء في الكبد، إذ لكلٍّ منهما أصل مادي. وهذا المذهب يعظم الحس الجسدي ويرفع شأن الحواس الخمس على قوى الإنسان العقلية الروحية، لأن الضمير والمشاعر الدينية والبديهيات الأخلاقية والتمييزات العقلية والشعور وأصل الكون وكل ما فيه عند أهل هذا المذهب إنما هي المادة على هيئات متنوعة. وقد أوضحنا سابقاً تعاليم الماديين وخصائصها وأضرارها (راجع فصل 10 س 6).
(3) مذهب النشوء، وهو أن أصل هذا الكون جوهر مادي له خواص التوالد والنمو والارتقاء، وأنه من فعل النواميس الطبيعية. وقد نشأ النبات والحيوان والإنسان والعالم أجمع من ذلك الجوهر. واختلف أهل هذا المذهب في ماهية ذلك الجوهر الأصلي وفي أصله. وكل آرائهم افتراضات عقلية، فجماعة منهم اعتقدت أنه مخلوق، وأقرُّوا بوجود خالق، وآخرون قالوا إنه طبيعي الأصل، فشابهوا مذهب الماديين. وسنتحدث عن هذا المذهب بالتفصيل في الفصل التالي. وأما المسيحي فيجب أن يتمسك باعتقاده أن اللَّه هو خالق هذا الكون والمعتني به، وأن يقبل كل ما يتحققه من الطبيعة في شأن كيفية إتمام ذلك.
10 - ما هي المذاهب الشائعة في كيفية خلق الكون؟
* أوردنا في إجابة السؤال السابق المذاهب المختلفة القديمة والحديثة في أصل الكون، وبينّا أن الصحيح منها نسبه لعلة واحدة مستقلة عنه، وهو اللَّه الخالق. والآن نبحث كيف أتقن اللَّه الكون بعدما أوجد المواد الأصلية، وعن علاقته بهذا الكون: هل ترك المخلوقات لنفسها أو هل اعتنى بها؟ وقسمنا الكلام في ذلك ثلاثة أقسام كبرى:
(1) مذهب النشوء الذاتي أي بدون عناية اللَّه وهو نوعان: (أ) أنه كان بدون تدخُّل اللَّه على الإطلاق، (ب) أنه كان بتدخله بخلق خلايا الحياة الأصلية فقط.
(2) مذهب النشوء بواسطة عناية اللَّه.
(3) مذهب الخلق المباشر بغير النشوء.
11 - ما هو مذهب «النشوء الذاتي»؟
* هو أن الكون بكل ما فيه من الأجناس الحية على أنواعها نشأ بالتقدم البطيء من درجة لأخرى في سلم الارتقاء، وأن جميع أنواع الحياة النباتية والحيوانية والعقلية أيضاً نشأت عن تغيرات طفيفة كانت تزداد وتتقدم من دور لآخر إلى أن بلغت حالتها الحاضرة من الكمال. أي أن كل ما في الكون نشأ من الطبيعة نفسها. وينقسم أهل هذا المذهب إلى قسمين، أحدهما ينكر لزوم تدخل الخالق في إبداع أصول الحياة، والآخر يسلم بلزوم تدخله في خلق خلايا الحياة الأصلية فقط، وينكر تدخله بعد ذلك، فيكون تاريخ الكون طبيعياً. وعلَّلوا تنوّع الأحياء بطرق مختلفة، فقال قوم إن الأنواع نشأت من عمل أسباب خارجية في الأحياء أوجبت النمو والتقدم. وهو قول لا يلقى اعتباراً الآن عند أهل العلوم الطبيعية. وقال غيرهم (وأشهرهم دارون الإنجليزي) إن تنوع الأحياء نشأ عن الجهاد بينها دفعاً لخطر الفناء بسبب ازدياد عددها أكثر مما تحتمله وسائل المعيشة، فهلك الأضعف وبقي الأقوى والأصح. ولما كان من دأب ما بقي أن يتقدم في سلم الحياة والارتقاء للسبب المذكور، كان لابد له من التقدم البطيء من درجة لأخرى في سلم الكمال، فنشأت عن ذلك أنواع مختلفة، لكلٍّ منها صفة التقدم لحالة أفضل وأقوى، إلى أن صارت النباتات والحيوانات على ما نراها من التنوع المختلف الآن. وكذلك حدث مع البشر، حتى أن دارون قال بنشوء الجنس البشري من الحيوان. غير أن بعض تابعيه اعتقدوا أن هذا الرأي يصدق على النباتات والحيوانات فقط، لا على الإنسان. وهذان الرأيان أفضل من المذهب الإلحادي، لأنهما يحتملان اعتقاد وجود خالق أبدع الحياة أصلاً وأودع فيها قوة التوالد. على أنهما لا يزالان دون إثبات، بل إن الأدلة على عدم صحتهما أقوى من الأدلة على صحتهما.
12 - ما هي الأدلة على خطأ مذهب النشوء الذاتي؟
* في هذا المذهب قولان، ونورد الأدلة على خطأ كل منهما:
(1) القول الأول: «ليس للخالق يدٌ في خلق العالم». وكل الأدلة التي تثبت وجود اللَّه وخلقه تبرهن بُطل هذا المذهب، الذي يقول إن المادة ذات قوى حيوية وعقلية. كما أن كل الأدلة على خطأ الفلسفة المادية أدلة على خطئه أيضاً. ولما كان يقول إن اللَّه لا يتدخل على الإطلاق، لا في الطبيعة ولا في البشر ولا في كل ما يتعلق بهما، كانت الأدلة على تدخل اللَّه في أمور البشر مثل العجائب والنبوات وأعمال العناية كافةً، تدل على خطأ هذا القول. ومن الأدلة على خطئه (غير ما ذُكر) ما يأتي: (أ) إنه ينسب للمادة الخالية من الحياة قوةً عظيمة أصلية وعقلاً وقصداً وأهدافاً سامية، ونحو ذلك مما لا يجوز أن يُنسب إلا إلى للخالق. (ب) ينسب للطبيعة قوة الانتقال من حالٍ لأخرى تختلف عن الأولى بخواص لا يمكن أن تنشأ إلا بقدرة الخالق، فبحسبه تتحول المادة الخالية من النظام أو الحياة (من نفسها) إلى ذات قوات طبيعية، كالقوات الميكانيكية والكيماوية، ثم تتحول هذه إلى الحياة النباتية، ثم إلى الحياة الحيوانية، ثم إلى الحياة العاقلة كحياة الإنسان! وهذا التقدم الذاتي التدريجي في الطبيعة بدون تدخل الخالق لا يقبله العقل السليم، ولا يشهد بصدقه لسان حال الطبيعة، فليس لهذا الارتقاء في هذا السلَّم ما يثبته ولا ما يرجحه ولا ما يدل على إمكانه. (ج) إنه يستلزم التسليم بإمكان التوالد الذاتي الذي تناقضه كل الأدلة العلمية، وقد فشلت كل المحاولات في إثبات صدقه. (د) إنه يستلزم عدم وجود ما يميّز المادة عن الروح، ولا الغريزيات عن العقليات، ولا الحياة الحيوانية عن الحياة الروحية، ففيه الغرائز البهيمية تساوي إحساسات البشر القلبية وعواطفهم الروحية، وعبادة البشر للَّه تشبه محبة حيوانٍ لصاحبه، والفرق بينهما في الدرجة لا في النوع.
ورفض الفلاسفة والطبيعيون مبادئ وأركان هذا المذهب لأسباب علمية، ومن مفنديه دارون وهكسلي وتندل وفِرْجو الذين لو أمكنهم التسليم به لما تأخروا عن ذلك.
(2) يقول المذهب الثاني إن اللَّه خلق أولاً خلايا الحياة، ثم تركها لنفسها، فانتظمت من ذاتها على ما هي عليه بالارتقاء، بحسب قوانين طبيعية. وهو مرفوض بأدلة قوية منها: (أ) الحقائق الطبيعية التي تأسس عليها ضعيفة، مثل أساس ضيق جداً لبناء واسع! ولما رأى دارون أن قانون الانتخاب الطبيعي لا يكفي لتعليل كثير من أسرار الحياة وغرائب التنوُّع افترض انتخاب الأنواع على أساس افتراض الانتخاب الطبيعي. ومع ذلك بقيت حقائق كثيرة غير قابلة للتعليل بموجب هذا المذهب، بل تبين خطؤه بسبب البُعد الكبير الشاسع بين الأنواع والأجناس الحية كما يقول علم الجيولوجيا، فكثيراً ما نشاهد أنواعاً كاملة تتلاشى، وأنواعاً أخرى تبدأ بكثرة دون دليل على الانتقال البطيء من نوع لآخر، وليس لذلك تفسير بموجب مذهب النشوء. كما توجد في مملكتي الحيوان والنبات أجناس وأنواع لا يمكن تعليلها بموجب مذهب النشوء. وقبول هذا المذهب يحتاج إيماناً بصحته أعظم جداً من الإيمان الذي يحتاجه الإيمان بالدين. وأهل هذا المذهب يعتنقونه بالتسليم لا باليقين، كأنهم يعيشون بالإيمان لا بالعيان!.. ونشأ عند أهل العلوم الطبيعية اعتراض آخر على المذهب الداروني له اعتبار عظيم لديهم، وهو أن هذا المذهب يستلزم بالضرورة لإتمام مطالبه مدة من الزمان أطول جداً من المدة التي يقدر أهل العلوم الطبيعية أن يسلموا بها. فحرارة الشمس ومدة دوامها يمنع اعتقاد وجود النظام الشمسي مدة بمقدار المدة التي يقتضيها المذهب الداروني. وقال علماء النبات إن مدة وجود الحياة الحيوانية على الأرض لا تزيد على خمسين مليون سنة. ومع أن هذه المدة طويلة جداً، لكنها أقل مما يقتضيه المذهب الداروني، لأنه يستلزم مدة أطول بكثير. (ب) ثبوت الأنواع المطلق على الدوام من أقوى الأدلة على خطأ هذا المذهب، فقد برهن علم الجيولوجيا أن الأنواع الحية لا تزال منذ وجود الإنسان إلى الآن على ما كانت بدون اختلاط ولا انتقال. وضاعت كل محاولات أهل العلوم الطبيعية أن يبيّنوا إمكان انتقال الأنواع. نعم بيّنوا إمكان حدوث الانتقال بين فروع نوع واحد، غير أنهم لم يقدروا أن يبرهنوه بين نوعين مختلفين، بدليل امتناع توالد مولود من نوعين. ولو صح هذا المذهب لرأينا تحوُّل نوع لآخر في طبقات الأرض الصخرية المملوءة من بقايا متحجرات الأنواع الحية في الأدوار القديمة. ولكن لم يوجد من تلك البقايا ما يكفي لإثبات هذا المذهب. فلو صحَّ أن الإنسان متسلسل من الحيوان لوجب أن تكون الأرض مملوءة من الأدلة على هذا التسلسل، مثل وجود هياكل قرود كثيرة متحجرة، لأن الجنس البشري حديث العهد، فكنّا ننتظر أن بقايا أسلافه توجد بكثرة في الطبقة العليا من الأرض، حتى لا يبقى شك في علاقة الإنسان بالقرد. وهذا ما حمل هيجل الألماني المتمسك بمذهب دارون والمشهور بإلحاده أن يفترض وجود نوعٍ يكون حلقة متوسطة بين القرود والبشر، سماه «القرد الإنسان» وزعم أن كل آثار له ضاعت! (ج) ينتج عن الاعتقاد بصحة هذا المذهب أن الحياة العقلية والروحية والضمير قد صدرت من غريزة الحيوانات. وهو يخالف شهادة الوحي في أصل الإنسان، وليس له دليل يثبته أو يرجحه، وليس في تاريخ البشر ما يثبت مذهب دارون، لأن تقدم البشر في القرون الماضية لم يكن بموجب ناموس الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، بدليل أنهم لا يزالون على ما كانوا عليه، وأن عوامل تقدمهم هي من التعليم المُنزَل والوسائط الدينية والأخلاقية. ويؤيد ذلك انحطاط بعض الأمم العظيمة في القرون الماضية وتلاشي بعضها بسبب توغلهم في الرذائل. ولا نبني رجاء البشر في التقدم على فعل القانون الداروني فينا، بل على فعل التعاليم الإلهية والمبادئ الأخلاقية والنعمة السماوية والاجتهاد في الانتصار على الميول الطبيعية والخضوع التام للَّه وطلب إرشاده.
13 - ما هو مذهب «النشوء الإلهي» المصحوب بالعناية؟
* هو أن اللَّه خلق الحياة الأولى، ثم خلق منها بعنايته أنواعاً جديدة بحسب الاقتضاء، إلى أن خلق الإنسان. وقالوا إن كيفية الخلق ربما كانت على صورة النشوء بعنايته وقوته إتماماً لمقاصده، إذ ليس ما يمنع خلقه نوعاً جديداً من نوعٍ آخر إذا شاء، لأن ذلك يتوقف على استحسانه، ولا يليق بالعقل البشري القاصر في أسرار الخليقة أن يعترض عليه. فإذا بيّن مذهب النشوء كيف تمم اللَّه مشيئته ومقاصده في الخلق، كان المذهب موافقاً لطبيعة اللَّه وحكمته وقوته ولتعاليم الوحي وكان قريباً لما نراه في نظام الكون، بل إنه يشبه في بعض الوجوه كيف يتمم اللَّه مقاصده في إخراج ثمار الأرض من بزورها وإنمائها وتوليد الأجناس الحية. فالتسليم بقدرة اللَّه أنه يتمم مقاصده بإبداع نوع حي من آخر بالطريقة التي يستحسنها لا يكون صواباً فقط بل واجباً أيضاً. ومتى تبرهن أن اللَّه أجرى عمله بهذه الطريقة، حسب مذهب «النشوء الإلهي» وجب التسليم بذلك وقبول كل ما أعلنه عن ذاته وعمله في كتاب الطبيعة، كما يجب قبول كل ما أعلنه في كتاب الوحي. وهناك كثيرون من أفاضل العلماء المسيحيين مستعدون لقبول مذهب النشوء على هذه الصورة، متى أُثبت بأدلة أقطع وأوضح مما لنا الآن. ولكن هناك صعوبات في برهنة هذا المذهب. ولكنه يسهّل فهم أمور كثيرة، ويوضح أسرار الخليقة، ويحفظ كرامة الخالق لأنه يسلّم بوجوده وتدخله على الدوام كما يشاء بقوته الفائقة في معاملة خليقته. وأما مذهب النشوء الذاتي فيخالف تعاليم الكتاب المقدس في أصل الكون لأنه لا يسلّم بأن اللَّه هو الخالق الذي خلقنا على صورته، بل ينسب البشر للحيوانات.
14 - ما هو مذهب الخلق المباشر بطريقة غير النشوء؟
* هو أن اللَّه خلق مواد الكون الأصلية من لا شيء بكلمة قدرته، ثم أعدها في أثناء أدوار طويلة لإبداع الحياة. ولما صارت مهيأة لذلك أبدع أولاً النباتات على أجناسها، ثم الحيوانات غير العاقلة على أجناسها، بالتتابع في أدوار كثيرة. ولما حان الوقت لخلق الإنسان أبدعه على صورته مميّزاً إياه بالنفس عن سائر الحيوانات، أي أن الإنسان يشبه الخالق في نفسه الناطقة، ويشبه الحيوانات في بنيته الجسدية. ثم استراح من جميع عمله الذي عمل خالقاً، واستمرّ ما أوجده من ذوات الحياة حياً يثمر ويتكاثر على الأرض. وقد قبل هذا المذهب كثيرون من المؤمنين بالوحي في جميع القرون الغابرة بناء على مفهوم الكتاب، لأنه ينسب الخلق كله لمشيئة اللَّه وقدرته، وهو كافٍ لتعليل حوادث الكون منذ إنشائه، ولا ينسب للخالق عملاً يناقض نظام الكون، بل يبيّن التوافق الكامل بين الكائنات، ويقول إن اللَّه أوجد الكائنات حسب نظام كان مقرراً سابقاً في فكره. ويتضح من الكتاب المقدس والطبيعة أن اللَّه تدرَّج في عمله من المواد البسيطة إلى المركبة، وفي الحياة من الأدنى إلى الأعلى بالترتيب، إلى أن وصل إلى الإنسان تاج الخليقة. وذلك باستعمال المواد الموجودة، واستخدام القوات الطبيعية بمقتضى قوانينها، وجعل الأنواع الجديدة مشابهة لما سبقها في أمور كثيرة، وأجرى ذلك بطرق مختلفة حسب استحسانه. وليس في هذا المذهب ما ينفي فعل الأحوال الخارجية في المخلوقات وإحداثها بعض التغييرات في طبيعة المخلوقات وعوائدها، دون مساسٍ بخواصها النوعية، فالبشر مثلاً نوع واحد، تفرّعوا صنوفاً يتميّز بعضهم عن بعض في أعراض كثيرة، بفعل أسباب خارجية وداخلية، غير أن الخواص النوعية استمرت على أصلها. وبحسب هذا المذهب يمكن تعليل كل ما أورده أهل مذهب النشوء من الحقائق لإثبات مذهبهم بغاية السهولة، كالمشابهة التي تُرى بين الأنواع الكائنة والتي كانت في الأدوار الجيولوجية، والتي تُرى بين أنواع مختصة بمكانٍ واحد، ومن علامات القصد في بنية الحيوانات، ووجود أعضاء ابتدائية غير كاملة وغير مستعملة في بعض الأنواع، والتسلسل المتتابع في الأنواع الحية. فبحسب مذهب «الخلق المباشر» نرى مقاصد الخالق الذي استحسن إبداع الكائنات على المنوال المذكور. ولا يناقض هذا المذهب ما يمكن إثباته من النشوء في الخليقة، بل ينسبه إلى فعل عقل الخالق لا إلى الطبيعة نفسها، مستقلة عنه.
وبما أن المباحثات العلمية والمجادلات العنيفة في المسائل الطبيعية قد كثرت في هذا العصر، وجب على المسيحي أن يتمسك بإيمانه بوجود اللَّه، وبأنه هو الذي خلق الكائنات من العدم، ولو أن الكتاب لم يذكرها. وعليه فإن صحة إيماننا لا تتوقَّف على صحة مذهبٍ ما، ما دام ذلك المذهب يعظم الخالق ويتفق مع الكتاب المقدس.
15 - من أين استقى موسى أخبار الخليقة المذكورة في سفر التكوين؟
* لا شك أن اللَّه أعلن ذلك لموسى بالوحي، فليس للبشر وسيلة للوصول إلى ذلك بدون الإعلان الإلهي. وقال قومٌ إنه أُعلن لموسى في رؤيا، كما أُعلن سفر الرؤيا ليوحنا. لكن ليس عندنا ما يثبت هذا، بل بالعكس، فإن سفر التكوين يخلو من أية عبارة تدل على أنه رؤيا، فلم يبدأ بالقول «الرؤيا التي رآها موسى» ولا «رفعتُ عينيَّ وهوذا كذا» بل يبدأ كتابه كما يبدأ غيره من المؤرخين. واعتبر آخرون خبر سفر التكوين بالخلق من أنواع الشِّعر وحسبوه «مزمور الخليقة» وهذا أيضاً مشكوك فيه، فليس فيه خصائص الشعر العِبري، بل هو نثرٌ بسيط، ذُكرت فيه سلسلة حوادث خلق الكون على نسقها الطبيعي. وليس لنا دليل مقنع على كيفية حصول البشر على هذا الخبر، والأرجح أن اللَّه أعلنه مباشرةً لآدم أو لغيره من رؤساء الآباء القدماء، فكُتب وحُفظ لعهد موسى الذي افتتح به هذا السفر، وكتبه فيه بإرشاد اللَّه ووحيه.
16 - ما الهدف من كتابة موسى خبر خلْق العالم؟
* ليس القصد منه بيان حوادث الخليقة بأسلوب علمي، لأن موسى لم يقصد تعليم الناس حقائق طبيعية علمية. ولا قصد ذكر تفصيلات عمل الخلق، بل اكتفى بذكر أهمّ حوادثه بالتتابع، بدون تفسير كيفية إجرائها أو تعيين زمن إبداعها ولا تحديد المدة التي اقتضاها، وأن الخالق أبدع الكون من لا شيء ونظمه وأعده لأجل أهدافه، وأن له السلطان التام على جميع الأسباب الثانوية والنواميس الطبيعية. والهدف الأهم فيه هو تعليم الإنسان صفات الخالق وأعماله، وخلقه الإنسان مباشرةً، وبيان مقام الإنسان بين المخلوقات وعلاقته بها، فإنه رأسها. ولما كان الهدف الأهم في الكلام عن الخليقة تعليم البشر أموراً دينية تتعلق بخلق العالم، جاء أسلوبه خالياً من الاصطلاحات العلمية.
17 - هل يخبرنا موسى بنظام خلق العالم؟
* التعليم الجوهري في الوحي هو أن اللَّه هو الخالق، لكننا نتعلم منه حقائق أخرى مفيدة جداً، منها أن ذلك العمل جرى بكل نظام وترتيب، وبالتقدم التدريجي من البسيط إلى المركب ومن الأدنى إلى الأعلى، وأن درجات ذلك التقدم مثل حلقات سلسلة واحدة تتصل بعضها ببعض، الحلقة الأولى منها إيجاد المواد الأصلية من لاشيء، والأخيرة إبداع الإنسان رأس الخليقة على صورة اللَّه. أما الأعمال التي جرت بعد إيجاد المواد الأصلية فهي بالتفصيل:
(1) خلق النور، والأرجح أن المقصود به موجات كهرومغناطيسية منتشرة في كل أنحاء الكون.
(2) الفصل بين مياهٍ ومياه، وتوسُّط الجلَد (القبة الزرقاء) بينهما، والجلَد في الأصل شيء مبسوط، وهو الغلاف الجوي المحيط بالأرض.
(3) فصل اليابسة عن المياه، أي الأرض عن البحر، وإبداع الحياة النباتية.
(4) إقامة أنوار في جلَد السماء للفصل بين النهار والليل ولتمييز الفصول، أي ترتيب الشمس والقمر والنجوم في النظام الشمسي وعلاقتها الحاضرة بالأرض. والمقصود بالأنوار الكواكب التي تحمل النور أو تعكسه، ومفردها في اللغة العبرية الأصلية ليس هو نفس الكلمة المستعملة عن النور الأصلي الذي أُبدع في اليوم الأول.
(5) خلق الحيوانات الأدنى التي تعيش في المياه والهواء، أي الحيتان العظام وكل متحرك في الماء، ثم الطيور.
(6) خلق الحيوانات العليا التي تعيش على وجه الأرض، أي البهائم والحيوانات التي تتحرك على الأرض، والوحوش كأجناسها، ثم خلق الإنسان على صورة اللَّه ليتسلط على جميع المخلوقات.
(7) راحة اللَّه في اليوم السابع من عمل الخلق، ودخوله في علاقة جديدة مع مخلوقاته، هي أنه يحفظها ويباركها ويتمم فيها مقاصده الأزلية الحكيمة.
ويمكن حصر جميع أعمال الأيام الستة في قسمين: (أ) إعداد الأرض لسكانها، وهو ما تم في الأيام الثلاثة الأولى، ويشمل على الغالب المواد الجامدة. (ب) ملء الأرض بالسكان، وهو ما تم في الأيام الثلاثة الثانية، وهو يشمل غالباً المواد الحية:
أولاً: إعداد الأرض وسكانها:
اليوم الأول: خلق النور.
اليوم الثاني: فصل مياه عن مياه، وظهور الكرة الأرضية.
اليوم الثالث: (أ) فصل اليابسة عن المياه. (ب) إبداع الأعشاب (وهي الأولى من المواد الحية).
ثانياً: ملء الأرض بالسكان:
اليوم الرابع: إبداع النور الشمسي.
اليوم الخامس: إبداع الحيوانات الدنيئة.
اليوم السادس: (أ) إبداع الحيوانات العليا. (ب) خلق الإنسان.
وبين عمل كل يوم من الثلاثة الأولى وما يقابله من الثلاثة الثانية مشابهة: فأول عمل في القسم الأول هو فصل النور عن الظلمة، ويقابله في القسم الثاني تنظيم النور الشمسي وجعله على بُعد معيَّن من الأرض، ثم الفصل بين الأرض وجوّها (أي بين المياه التي تحت الجلَد والتي فوق الجلد) ويقابله إبداع طيور الهواء وحيتان البحر. ثم فصل اليابسة عن البحار وإخراج العُشب، ويقابله خلق الحيوانات التي تعيش على اليابسة، والإنسان. وفي كل ذلك أدلة على إبداع اللَّه الكائنات بغاية النظام والترتيب، فإنه أولاً هيأ المسكن، ثم ملأه بالسكان، متقدماً في هذا العمل من البسيط إلى المركَّب، إلى أن وصل إلى الإنسان تاج عمله العظيم. ويتضح من هذا كمال الجمال والنظام والتوافق مع العقل السليم، بغير شرح علمي أو فلسفي. ويتضح منه وجود اللَّه وعلاقته بالكون، وسلطانه المطلق، وأنه هو وحده يستحق عبادة الجميع.
وفي سفر التكوين خبران يختصان بالخليقة، أولهما في الأصحاح الأول وهو يوضح خلق كل الكائنات ويذكر خلق الإنسان بالاختصار، ليبيّن علاقته بكل الخليقة. وثانيهما في الأصحاح الثاني، وهو تكملةٌ للأول غير مستقل عنه، وهو يذكر خلق الإنسان بالتفصيل، تمهيداً لذكر أحواله في الفردوس وسقوطه. والاسم المستعمل للخالق في الخبر الأول «إلوهيم، أي اللَّه» يوافق علاقته بالكون أجمع، ويُستعمل له في الخبر الثاني اسم «يهوه إلوهيم، أي الرب الإله» وهو يوافق علاقته بالإنسان. وجاء الاسمان معاً في افتتاح الخبر الثاني كاسم واحد للجلالة فقيل «يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات» ليبيّن أن الإله المنسوب إليه الخلق في الخبر الثاني هو نفس الإله الذي نُسب إليه الخلق في الخبر الأول.
ونتعلم من خبر الخليقة أنه يوجد إلهٌ واحدٌ خلق كل الكائنات، ذو مشيئة واختيار، متميّز عن مخلوقاته، وأن المادة ليست أزلية، وأن خلق الكون تم بالتتابع والتدرج من المادة الجامدة إلى الإنسان المخلوق على صورة اللَّه. وهذا ينقض المذاهب الإلحادية التي ظهرت بين البشر على أنواعها، كاعتقاد عدم وجود اللَّه، واعتقاد وجود آلهة كثيرة، واعتقاد أزلية الكون أو مواده، واعتقاد ألوهية الكون (وحدة الوجود) واعتقاد تسلسل الإنسان من البهائم، واعتقاد النشوء الذاتي، إلى غير ذلك مما لا يسعنا الآن ذكره.
18 - هل هناك تناقض بين ما ذكره موسى عن خلق العالم والاكتشافات العلمية الحديثة؟
* لا. لأنه لما كان هدف سفر التكوين أن يعرّف البشر بخالقهم وبعلاقته بالمخلوقات، اقتضى أن يكون كلامه بسيطاً، يقتصر على الأمور الرئيسية دون التفاصيل، وخالياً من الاصطلاحات العلمية، دون أن يكون فيه ما يخالف الحقائق العلمية. وكل ما اعتُبر خلافاً نشأ إما عن اختصار كلام سفر التكوين وعدم وضوح معناه، أو من عدم صحة المذاهب العلمية التي يُقال إنها تناقض سفر التكوين. وحُصرت الشُّبهات المنسوبة إلى سفر التكوين في ثلاثة أبواب:
(1) الشبهات الجيولوجية ومنها: (أ) يُستفاد من أقوال موسى أن نظام الكون تمّ في ستة أيام، ولكن يُستفاد من علم الجيولوجيا أن ذلك استغرق حقباً كثيرة وطويلة. فنجيب أن ليس بينهما تناقض لأن كلمة «يوم» جاءت في الكتاب المقدس بمعنى مدة طويلة (انظر إجابة س 7 في هذا الفصل). (ب) يُستفاد من أقوال موسى أن النبات أُبدع قبل الحيوان، ولكن يظهر من الاكتشافات الجيولوجية حتى الآن أن آثار الحيوانات أقدم من آثار النباتات. فنجيب: ربما كان ذلك لأن آثار النباتات الأولى فنيت لأنها لم تحتمل البقاء وقبول التحجر كآثار الحيوانات. ويؤيد احتياج الحيوانات للنباتات صدق كلام موسى، لأن النباتات غذاء الحيوان، فلا بد من وجود النباتات أولاً. ولقد برهنت الاكتشافات الحديثة هذه البديهية. (ج) على ما يظهر من كلام موسى أن كل أنواع النباتات أُبدعت معاً في اليوم الثالث، وأن الحيوانات على أنواعها خلقت دفعةً واحدة في اليومين الخامس والسادس، ولكن يظهر من علم الجيولوجيا أن أنواع كل منهما لم تظهر دفعةً واحدة بل ظهرت متفرقة على فترات طويلة. فنجيب: إن هذه الشبهة تزول تماماً إذا حسبنا كلمة «يوم» تدل عن مدة طويلة (انظر إجابة س 7 في هذا الفصل). (د) نتعلم من أقوال موسى أن الموت دخل العالم بسبب معصية الإنسان، ولكن يظهر من البقايا الجيولوجية أن الموت وجد في الأدوار الطويلة التي مرت قبل خلق الإنسان. فنجيب: جاء كلام الوحي عن موت الإنسان لا عن موت البهائم (انظر رو 5: 12).
(2) الشبهات الفلكية، ومنها: (أ) قال موسى إن اللَّه خلق النور في اليوم الأول، ثم قال إنه عمل الشمس في اليوم الرابع، وبين القولين تناقض. فنجيب: النور الذي أبدعه اللَّه في اليوم الأول كان نوراً كهرومغناطيسياً ممتداً في أرجاء الكون ناتجاً من حالة المواد الأصلية قبل تنظيمها، وهو غير نور الشمس المندفع لأرضنا على الدوام. (ب) ذكر موسى عمل النجوم في اليوم الرابع، مع أنها خُلقت قبل ذلك. فنجيب: نعم إن الشمس والقمر والنجوم خلقت قبل اليوم الرابع، ولكن موسى قصد أنها دخلت في علاقتها بأرضنا في ذلك الوقت. والمقصود بالنجوم في تك 1: 16 إما الكواكب السيارة في مجموعتنا الشمسية، أو جميع نجوم الكون.
(3) الشبهات الفسيولوجية، المتعلقة بعلم الحياة: (أ) يقول موسى إن اللَّه أوجد الحياة مباشرةً، ولكن بعض أهل الفلسفة المادية ارتابوا في ذلك وقالوا بإمكان تولدها من تلقاء نفسها. فنجيب: هذا مجرد افتراض بلا دليل، لأن كل ما عُرف من أمر الحياة يبيّن أن أصلها من اللَّه لا من نفسها. (ب) يقول موسى إن اللَّه خلق النبات والحيوان على أنواعها بعنايته الخاصة، دون توضيح كيفية ذلك، فقيل «خلق اللَّه التنانين كأجناسها، وكل طائر كجنسه». وقال اللَّه «لتُخرج الأرض ذوات أنفسٍ كجنسها». فقول الوحي «خلق اللَّه» و«قال اللَّه» يدل على قصده وعنايته دون شرح كيفية إتمامها.
وقال أصحاب مذهب النشوء الذاتي إن النباتات والحيوانات نشأت بالتدريج بعضها من بعض، بنواميس طبيعية تفعل من نفسها مستقلة عن مشيئة اللَّه وسلطانه وعنايته، وأخيراً نشأ منها الإنسان. فنجيب: لما كان هذا المذهب غير مثبت بعد، وكانت الأدلة على عدم صحته أقوى مما يوردونه من الأدلة على صحته، كانت الاعتراضات على أقوال موسى الموحى به بلا قيمة ولا تأثير في اعتقادنا أن اللَّه أبدأ كل أنواع الحياة بالكيفية التي استحسنها هو.
19 - من أي شيء نشأت الشبهات السابق ذكرها وأمثالها؟
* نشأت من:
(1) اعتبار أن كلام موسى على أسلوب علمي.
(2) سوء فهم ما كتبه موسى أو سوء تفسيره.
(3) الخطأ في فهم الحقائق العلمية وجعل ما كان منها غير ثابت بمنزلة الثابت.
وما ذكرناه الآن كافٍ لتعليل ما يظهر من التشويش والتناقض بين الوحي والعِلم. فإذا أدركنا أن ما كتبه موسى ليس مادة علمية، بل كتابة بسيطة للفائدة الدينية، لا نرى تناقضاً بين كلام الوحي والحقائق الطبيعية، بل نرى توافقاً بينهما في أمور كثيرة، كما سترى.
20 - ما هي بعض أوجه الاتفاق بين ما قاله موسى عن الخليقة والحقائق العلمية؟
* (1) قال موسى إن للكون بداية، ويتضح من البحوث العلمية الحديثة في الطبيعة أن للجنس البشري بداية، وكذلك للحيوانات والنباتات، وللمادة ونواميسها وقواتها. فيتضح من العلم (الذي يتفق مع الوحي) عدم أزلية المادة.
(2) كانت السماوات قبل الأرض، وإن كان موسى قد أطال الكلام عن الأرض. وتبيّن الحقائق العلمية أن هذه الأرض ليست مركز الكون كما توهَّم القدماء، وليست لها أهمية في نظامه إلا لأنها مسكن البشر، وذلك يوافق الرأي السديمي الذي بموجبه تكونت عوالم الأفلاك قبل نظام أرضنا.
(3) الحرارة والماء هما الوسيلتان العظيمتان لتكوين الأرض، فالنور الذي أُبدع في اليوم الأول نتج عن الحرارة النارية الناشئة من حركات المواد الأصلية في حالتها الغازية وهي مشتعلة، وكانت الحرارة والمياه تُحدثان التغيرات والانقلابات الطبيعية المتوالية أثناء مدة إعداد الأرض مسكناً للحياة. وفي الطبيعة أدلة كافية لإثبات أنه بالحرارة والمياه تكونت قشرة الأرض وأُعدت اليابسة مسكناً للحيوانات والبشر. ويتضح أيضاً من سفر التكوين ومن مز 104: 6-9 ومن طبقات الأرض أن اليابسة تكوّنت تحت المياه.
(4) تتابع إبداع المخلوقات، فيتضح من الكتاب والطبيعة أن اللَّه لم يبدع الكائنات دفعةً واحدة بل على التوالي، الواحد بعد الآخر. وقد تبيَّن من البحوث العلمية أن ذلك اقتضى حقباً طويلة جداً.
(5) التقدم من درجةٍ لأخرى في سلَّم الحياة، وأن الإنسان خلق آخر الكل. وذلك واضح من كلام موسى ومن البراهين العلمية على أن أنواع الحياة الدنيا وجدت أولاً، ثم تلاها ما هو أعلى منها، وهكذا إلى أن انتهت السلسلة بالجنس البشري. أما اعتقاد البعض أن ذلك كان بالنشوء الطبيعي والتدرج الذاتي من نوع لآخر بسلسلة متصلة فلا دليل عليه (انظر إجابة س 12 في هذا الفصل).
(6) توافق تعبيرات موسى عن الخلق مع الاكتشافات الطبيعية. ومن ذلك: (أ) الكلمتان الأصليتان اللتان تصفان النور المخلوق في اليوم الأول (كلمة نور أي نور أصلي) والنور المخلوق في اليوم الرابع (أي كلمة أنوار أي حاملات النور) تتفقان مع ما حدث فعلاً. (ب) الكلمة المترجمة «جلَد» توافق طبيعة الجو المنبسط والمتّسع. (ج) الكلمتان المترجمتان «تنانين» و«دبابات» موافقتان لصفات الحيوانات العِظام التي أُبدعت في ذلك الوقت على ما يظهر من آثارها في طبقات الأرض. (د) الكلمة المترجمة «خلَق» (بَرَا) في فاتحة سفر التكوين تناسب تمامًا التعبير عن خلق اللَّه للمواد الأصلية (آية 1) وخلق الحياة الحيوانية (آية 21) وخلق الإنسان (آية 27). وفي كل ما سواها استُعملت ألفاظ تدل غالباً على الخلق بوسائط ثانوية، ومن ذلك قوله «وقال اللَّه ليكن». «فعمل اللَّه». و«قال اللَّه لتجتمع». و«قال اللَّه لتُنبِت». «وقال اللَّه لتكن أنوار». «فعمل اللَّه النورين». ومن هذا يظهر أن سفر التكوين يقول إن الخلق الجديد مباشرةً من لا شيء لم يحدث إلا قليلاً، وإن أكثر الأعمال الإلهية تمت بإبداع أشياء جديدة بوسائط ثانوية من مواد موجودة، وذلك مطابق لما نستنتجه من الطبيعة نفسها. ومما يستحق ذكره أن العبارات التي وردت فيها كلمة «خلق» (تك 1:1، 21، 27) هي التي أعجزت أصحاب مذهب النشوء عن إثبات صحة مذهبهم وعن أن يبيّنوا كيفية النشوء من لا شيء، لأن ذلك محال، وكذلك افتراض نشوء الحياة الحيوانية من مادة خالية من الحياة، وافتراض نشوء الحياة العقلية البشرية من الحياة البهيمية مما لا يصدقه العقل السليم.
(7) للإنسان المقام الأول في الطبيعة، فقد قال موسى إن اللَّه خلق الإنسان على صورته، وإن بينه وبين الخالق علاقة لم يشاركه فيها غيره، فهو أسمى مما سواه من المخلوقات أصلاً ومقاماً. وهذا يبيّن فساد القول بتسلسل الإنسان من البهائم بالتناسل الطبيعي. ويؤيد ذلك ما جاء في إنجيل لوقا 3 في ذكر نسب المسيح، فإنه قيل في خاتمة الكلام «ابن أنوش ابن شيث ابن آدم ابن اللَّه». وكل ما ذُكر فيه من علاقة الإنسان بالخالق وخلقه في آخر اليوم السادس بعد الحيوانات العليا يطابق البحوث العلمية عن مقام الإنسان ومكانه في سلسلة الحياة.
(8) بيان وحدة النوع البشري المنسوب إلى أصلٍ واحد هو أبوانا الأولان آدم وحواء، فهو من صريح أقوال الكتاب المقدس (تك 1: 27، 28 و2: 7، 22 و3: 20 ومت 19: 4 وأع 17: 26 ورو 5: 12، 19 و1كو 15: 22) وتوافقه كل الحقائق العلمية (قارن مع فصل 22 س 1-7).
وهكذا يثبت كل ما أوردناه من الاتفاق بين أقوال موسى في خلق الكون وأحدث الاكتشافات العلمية أن موسى كتب بالوحي، وأنه لولا ذلك لوقع في أخطاء كثيرة. فيصح القول إن كل الحقائق العلمية تثبت أقوال موسى في خلق العالم.
21 - ما هي غاية اللَّه العظمى من خلق الكون؟
* يقول الكتاب المقدس إن غايته بيان مجد اللَّه وعظمته بإظهار صلاحه وقدرته وحكمته وكل صفاته الفائقة، فقد حسُن في البدء عند اللَّه الآب والابن والروح القدس، لأجل إظهار مجد قدرته السرمدية وحكمته وصلاحه، أن يخلق من لا شيء العالم وكل ما فيه. ولما كان اللَّه غير محدود في صلاحه، وكانت معرفة البشر له أعظم واسطة لخيرهم وارتقائهم، كان هذا الهدف ليس لمجرد تعظيم شأنه فقط، بل لسعادة مخلوقاته أيضاً بإظهار نفسه وبيان صفاته ليعرفوه، فيُدخلهم في شركة حياته. ويقول الوحي في ذلك «الكل به وله قد خلق» (كو 1: 16). «لأنه منه وبه وله كل الأشياء» (رو 11: 36). «أنت مستحقّ أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت يا رب خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنةٌ وخُلقت» (رؤ 11: 4).
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الثامن عشر

عناية الله


1 - ما هي عناية اللَّه؟
* اللَّه العظيم خالق كل شيء هو حافظ كل الخلائق ومدبّرها ومرتّبها وحاكم عليها وعلى كل الأفعال وكل الأشياء من الأكبر إلى الأصغر بعنايته الكلية الحكمة والقداسة، حسب معرفته السابقة المعصومة ورأي مشيئته الحرة التي لا تتغيَّر لحمد مجد حكمته وقدرته وعدله وصلاحه ورحمته.. وعناية اللَّه هي حفظه كل خلائقه وسياسته إياها وكل أفعالها بغاية القداسة والحكمة والقدرة.
فالمقصود بعناية اللَّه أنه يُجري قضاءه الأزلي في زماننا باستخدام الأسباب الثانوية التي يقيمها لذلك، وأنه بهذه العناية يحفظ كل خلائقه، ويدبّرها وكل أفعالها حتى يتمم فيها كل مقاصده الأزلية.
2 - ما معنى حفظ اللَّه لخلائقه؟
* معناه أنه بقوته الفائقة يحفظ كل خلائقه ويعتني بها على الدوام، فتستمر في الوجود، محفوظة الصفات والقُوى الخلْقيَّة والاكتسابية، التي منحها لها بإرادته الصالحة وعنايته الكريمة. ولو ترك اللَّه تلك الكائنات لذاتها لاعتراها الانحلال.
3 - كيف تبرهن حفظ اللَّه لخلائقه من الكتاب المقدس؟
* من الآيات «اللَّه حامل كل الأشياء بكلمة قدرته» (عب 1: 3) و«فيه يقوم الكل» (كو 1: 17) و«به نحيا ونتحرك ونوجد» (أع 17: 28). وفي الكتاب آيات كثيرة تنسب القوات الطبيعية لقدرة اللَّه، وتُثبت حفظه لجميع الأجناس الحية، وتعلّم أن المخلوقات الحية وغير الحية لا تدوم في الوجود من ذاتها بل من مشيئة اللَّه وقدرته، وأنها عاجزة عن استمرار الوجود بدون إرادته وعنايته، كما كانت عاجزة عن إيجاد نفسها في أول الأمر.
4 - ما هي المذاهب الثلاثة المشهورة في كيفية حفظ اللَّه خلائقه؟
* (1) مذهب العقليين، وهو أن ذلك الحفظ من فعل القوانين الطبيعية المطلقة الدائمة بدون تدخُّل اللَّه. فالطبيعة تحفظ نفسها بما سنَّ اللَّه لها من القوانين حين خلقها، فلم يبقَ داعٍ (حسب زعمهم) لعنايته وحفظه، وتركها تجري مجراها الطبيعي بحسب القوانين المذكورة. فليس للعلة الأصلية أدنى علاقة بالعلل الثانوية. وهو مذهب مرفوض لأنه يناقض تعاليم الكتاب المقدس التي تقول إن اللَّه قريب من خلائقه ويعتني بهم، وإنه على الدوام يُجري في الكون مقاصده بقدرته العظيمة.
ويخالف مذهب العقليين بديهيات طبيعتنا الدينية، مثل شعورنا بأننا دائماً محتاجون للَّه ومستندون عليه، وأنه لا يهمل أحداً. وهذا المذهب يقتل في تابعيه التأثيرات الدينية، لأنه ينكر عمل اللَّه، وينادي بإهمال جميع الواجبات من نحوه.
(2) مذهب «الخلق المستمر» بدون انقطاع، وهو عكس مذهب العقليين، فاللَّه على مذهب العقليين بعيد عن مخلوقاته ولا يبالي بهم. ولكن مذهب «الخلق المستمر» يقول إنه قريب منهم، يعمل مباشرة بقوته كل لحظة، ليس في حفظ ما خلقه سابقاً، بل في إجراء الخلق على الدوام، بمعنى ينفي عمل كل الأسباب الثانوية، ويثبت أن اللَّه هو العلة الوحيدة لكل شيء في كل حين. وعلى ذلك يكون الحفظ هو الخَلق، لأن الخَلق (في زعمهم) هو إيجاد ما لم يوجد سابقاً، والحفظ هو إبقاء الموجود. والخلق يتم بقوة اللَّه، إما بإيجاد شيء من لا شيء أو بإبداع شيء على مثالٍ جديد من شيء موجود. ويتم الحفظ بأن يستخدم اللَّه أسباباً ثانوية ليُبقي الموجود. وقالوا إن اللَّه أشار إليهما بقوله «اللَّه خلق كل الأشياء وبه يقوم الكل». وهذا المذهب مرفوض لأنه يؤدي إلى الاعتقاد بألوهية الكون (وحدة الوجود)، كما أنه يناقض حقائق المسيحية الجوهرية، ويناقض بديهيات العقل البشري التي بها يتحقق الإنسان وجوده ودوامه ووجود كل المواد ودوامها، ويناقض المشاعر الأخلاقية في الإنسان التي تشهد أنه فاعلٌ أخلاقي ذو مشيئة واختيار حر مسؤول. ويلزم عن صحة مذهب الخلق المستمر أن يضيع منا الدليل على حقيقة الأشياء، لأن جميع الموجودات (بحسبه) تكون مجرد تصورات عقلية تتلاشى وتتجدد كل دقيقة، وأننا غير مسؤولين عن أفكارنا وأعمالنا لأن ليس لنا إرادة حرة مستقلة، وأننا لسنا فعَلة أخلاقيين، بل اللَّه هو الذي يعمل فينا إجباراً على الدوام، وأن ليس لنا علاقة حقيقية بشريعة اللَّه، بل نحن مجرد آلات نفعل مشيئته بمعنى ينفي كل استقلال.
(3) مذهب قوة اللَّه الفاعلة في إبقاء كل الأشياء على حالها، وإدامتها بجميع خصائصها لإتمام غايته بكيفية تفوق إدراكنا، وهو المذهب الصحيح ومبادئه هي: (أ) للمخلوقات الروحية والمادية وجود حقيقي. (ب) جعل اللَّه لها خواص وقُوى تُمكّنها من أن تكون عللاً ثانوية. (ج) دوامها في الوجود ليس من نفسها، بل من اللَّه الذي بقدرته يحفظها ويُديم لها ما خصَّها به أصلاً من القوى والصفات. (د) كيفية حفظ اللَّه إياها من الأسرار المكتومة عنا، فليس في طاقة المحدود إدراك مقاصد غير المحدود وأعماله. ولولا عناية اللَّه بتلك المخلوقات وحفظه إياها بهذه الكيفية السرية لاختلَّ نظامها وأتت بغير المقصود من وجودها.
5 - ما معنى أن اللَّه يعتني بخلائقه وبكل أفعالهم؟
* معناه أنه يتصرف معهم بطريقة تحوّل كل أعمالهم وكل ما يحدث في الكون إلى وسائط تتمّم مقاصده، بدون معارضة لحريتهم ولخواص طبيعتهم، فيبقى كلٌّ منهم فاعلاً مختاراً حراً. وهذه العناية ضرورية لإتمام عمل عناية اللَّه، التي تشمل حفظ الخلائق وغير ذلك. وهذا يقتضي حكمة فائقة وقدرة على كل شيء وسلطاناً مطلقاً على كل الأسباب الثانوية حتى يجعلها تكمل كل ما قصده منذ الأزل في الوقت المعيَّن بدون أدنى خلل، بواسطة عنايته الإلهية الفعالة.
6 - ماذا نتعلم من الكتاب المقدس عن صفات عناية اللَّه؟
* (1) إنها عامة تشمل كل الخلائق وكل أفعالهم، فلا مكان للقدَر الوثني الجهلي الذي هو الاضطرار الأعمى الناتج عن فواعل القوات الطبيعية بدون تسلط حكيم، ولا للصدفة، لأن جميع حوادث الكون ناشئة عن عناية إلهٍ حكيم، غير محدود، حاضر في كل مكان.
(2) إنها فعالة لا يمكن مقاومتها، وذلك يؤكد حدوث كل مقاصد اللَّه.
(3) إنها حكيمة، مناسبة لطبيعة الخلائق، لأن اللَّه يدبّر عالم الجماد بقوانين ثابتة سنَّها لهذا الهدف، ويدبر الحيوانات غير العاقلة بغرائزها، ويدبر الخلائق العاقلة بطريقة توافق طبيعتهم.
(4) إنها مقدسة، فالأهداف التي يقصدها اللَّه والوسائط التي يستخدمها لإتمام تلك الأهداف توافق قداسته الكاملة.
وكثيراً ما يسأل الناس كيف يدبر اللَّه العالم، وما هي العلاقة بين فعله وفعل أسباب أخرى، وما هو التوافق بين تعليم عناية اللَّه المطلقة وتعليم اختيار الإنسان؟ ولما لم يكن لهذه المسائل إجابة قاطعة في الكتاب المقدس كان الأوْلى عدم التعرُّض للبحث عنها. ولكن لأن بعض الفلاسفة أكثروا الجدل فيها وقدموا من عندهم إجابات عليها، فيجب أن ندرس ما يقولون لنُظهر ما يناقض منها كتاب اللَّه واختبار الإنسان.
7 - ما هي الأدلة على تدبير اللَّه للكون؟
* (1) كمال شخصه، فهو غير محدود بزمان أو مكان، وغير محدود في القدرة، ويمكنه أن يدبر الكون. ولأنه غير محدود في الحكمة يؤكد لنا أنه لم يخلق الموجودات بدون أهداف، وأنه يختار لإتمام أهدافه أفضل الوسائط. ولأنه غير محدود في المحبة والصلاح يؤكد لنا أنه لا يترك خلائقه العاقلة تحت سلطان الطبيعة أو القدر الوثني الأعمى، بل يعتني بكل أمورهم. ولأنه غير محدود في العدل يؤكد لنا أنه يميّز بين أعمال الفعلة المختارين المخلوقين تحت حكمٍ أخلاقي، ويعاقب الأشرار منهم ويُثيب الأخيار.
(2) ما في الكون من الدلائل الظاهرة الكثيرة على ذلك: (أ) مجرى الأمور الطبيعية، فإن كل ما يدل على الهدف والترتيب كالقوات المادية والحياة على أنواعها وحركات الأجرام السماوية يدل أيضاً على أن اللَّه يدبرها، لأن الطبيعة التي هي نفسها خالية من القصد تجري بعناية اللَّه على ما يوافق احتياجات البشر وما يؤول لخيرهم. (ب) تاريخ الجنس البشري الذي نرى فيه ما يدل على أهداف سامية تتم بالتعليم والتربية والارتقاء والتقدم بوسائط متنوعة وعناية فائقة، ليس للبشر قدرة من تلقاء أنفسهم أن يتمموها. فهذه الأهداف وتمامها يدلان على عقل فائق وقصد شامل وقدرة أعظم من قدرة البشر المحدودة، وكلها تدل على عناية اللَّه بأمور البشر. (ج) اختباراتنا الشخصية أن يد اللَّه في كل أمورنا، وما نراه من ذلك في حياة الشخصيات الكتابية هو مثال لحياة كل إنسان، خاصةً المتكلين على اللَّه الذين يرشدهم إلى الخير والصلاح.
(3) شهادة الشعور، فإننا نشعر بضعفنا واحتياجنا لمعونة اللَّه، وأننا مسؤولون أمامه عن أخلاقنا وأعمالنا. فلولا وجوده معنا وقربه منا لما قدرنا أن نعرفه ولا أن نستمد منه الإرشاد والحماية، ولا كان في الصلاة له فائدة، ولهُدمت كل أركان الدين الحق، ولتُركنا بدون آمال ولا رجاء في شيء.
(4) النبوات والمواعيد والتهديدات الكثيرة العدد التي تحققت، ويستلزم تحقيقها عناية اللَّه بخلائقه وبأعمالهم في منحهم الصحة وطول العمر وتوالي الفصول وإرسال البركات والحروب والبلايا، وجعله كل الأمور تعمل لإتمام أقواله التي سبق ونطق بها قبل الوقت المعين لوقوعها بوقت طويل (قارن خر 12: 46 مع يو 19: 36 ومز 22: 18 مع يو 19: 24 و1مل 20: 13 مع 20: 34-38 ومي 5: 2 مع مت 2: 5 وإش 14: 23 وإر 49: 17 وحز 26: 4، 5).
(5) يعلّمنا الكتاب أن عناية اللَّه: (أ) تشمل عالم الجماد، فإن دوران الكواكب وتعاقب الفصول ونمو النبات ونزول المطر نُسبت لمشيئة اللَّه وعنايته، لا إلى الصدفة. فقيل إنه هو الذي يُخرج النجوم في أوقاتها ويجعل الشمس تشرق والعشب ينمو. قال بولس «مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد، وهو يفعل خيراً، يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة، ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً» (أع 14: 17). وقال المسيح «لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين» (مت 5: 45). «فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غداً في التنور يلبسه اللَّه هكذا، أفليس بالحري جداً يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟» (مت 6: 30). وقيل إنه يجعل الرياح رسله والبروق خدامه، ونُسبت إليه الحوادث غير العادية كالزلازل والأنواء والأوبئة ونحوها، وما يظهر أنه يحدث صدفةً، كالقُرعة وطريق السهام في طيرانها. حتى شعور رؤوسنا جميعها محصاة عنده (مت 10: 30 انظر أيضاً مز 104: 14 و135: 5-7 و147: 8-18 و148: 7، 8 وأي 9: 5، 6 و21: 9-11 و37: 6-13 وأصحاحات 38-41). (ب) تشمل عناية اللَّه العالم الحيواني، فاللَّه هو الذي كوَّن أجساد الحيوانات، ويحفظ حياتها ويقدم لها احتياجاتها، وبيده نَفَس كل حي وروح كل البشر (أي 12: 10). «الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من اللَّه طعامها. كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه. تعطيها فتلتقط. تفتح يدك فتشبع خيراً» (مز 104: 21، 27، 28). وقال المسيح «انظروا طيور السماء : إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها! ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» (مت 6: 26). وقال الرسول «إذ يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء» (أع 17: 25). وعلّم المسيح تلاميذه أن يصلوا «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم» وهذا يعني أننا مفتقرون إليه لسد حاجاتنا اليومية (انظر مز 147: 9 ومت 10: 29). (ج) تشمل عناية اللَّه كل أمم الأرض. والكتاب يقول «متسلط بقوته إلى الدهر. عيناه تراقبان الأمم» (مز 66: 7). و«حُسبت جميع سكان الأرض كلا شيء، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل؟» (دا 4: 35). وهو «يغيّر الأوقات والأزمنة. يعزل ملوكاً وينصّب ملوكاً. يعطي الحكماء حكمة ويعلّم العارفين فهماً» (دا 2: 21). «العليّ متسلط في مملكة الناس ويعطيها من يشاء» (دا 4: 25).«ويل لأشور قضيب غضبي، والعصا في يدهم هي سخطي. على أمةٍ منافقة أرسله، وعلى شعب سخطي أوصيه ليغتنم غنيمة.. أما هو فلا يفتكر هكذا ولا يحسب قلبه هكذا، بل في قلبه أن يبيد ويقرض أمماً ليست بقليلة» (إش 10: 5-7). والكتاب المقدس مملوء من الآيات التي تقول إن الأمم هم في يد اللَّه، وإنه يستخدمهم كما يستعمل الإنسان العصا، وبواسطتهم يكمل مقاصده، وإنه يحطمهم كإناء الخزاف ويرفعهم إلى أعلى حسب مسرته (1أي 16: 31 ومز 147: 7 وأم 21: 1 وأي 12: 23 وإش 10: 12-15). (د) تشمل عناية اللَّه أحوال كل إنسان، من وقت ولادته ومكان سكنه، ويعيّن وجوده بين المسيحيين أو الوثنيين، وكونه من الضعفاء أو من الأقوياء، ويخصه بالمواهب والنجاح أو عدمهما، ونحو ذلك. فقيل «الرب يميت ويحيي. يُهبِط إلى الهاوية ويصعِد. الرب يفقِر ويغني. يضع ويرفع» (1صم 2: 6، 7). «أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي. نطَّقتك وأنت لم تعرفني» (إش 45: 5). «قلب الإنسان يفكر في طريقه، والرب يهدي خطوته» (أم 16: 9). «لأنه لا من المشرق ولا من المغرب ولا من برية الجبال، ولكن اللَّه القاضي. هذا يضعه وهذا يرفعه» (مز 75: 6، 7). «في يدك آجالي. نجِّني من يد أعدائي ومن الذين يطردونني» (مز 31: 15). «وصنع من دم واحدٍ كل أمةٍ من الناس يسكنون على كل وجه الأرض، وحتم بالأوقات المعيَّنة وبحدود مسكنهم» (أع 17: 26 وأيضاً مز 18: 50 ولو 1: 53 ويع 4: 13-15). (هـ) تشمل عناية اللَّه أعمال الناس الاختيارية الصالحة والشريرة. فجاء فيه « للإنسان تدابير القلب، ومن الرب جواب اللسان» (أم 16: 1). «قلب الملك في يد الرب كجداول مياه، حيثما شاء يُميله» (أم 21: 1). «مبارك الرب إله آبائنا الذي جعل مثل هذا في قلب الملك» (عز 7: 27). «وأُعطي نعمةً لهذا الشعب في عيون المصريين، فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين» (خر 3: 21). «أمِلْ قلبي إلى شهاداتك لا إلى المكسب» (مز 119: 36). ولا يخفى أن نبوات كتاب اللَّه ومواعيده وتهديداته مبنية على أن السلطان المطلق على الخلائق العاقلة اللازم للعناية بالعالم هو في يده. وكذلك صلوات شعب اللَّه مبنية على ثقتهم بأنه يدبّر العالم، وأنه يعمل في الناس أن يريدوا وأن يعملوا حسب مسرة اللَّه (في 2: 13). ومن الآيات التي تبرهن سياسة اللَّه لأعمال الناس الشريرة ما يأتي «هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة اللَّه المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمةٍ صلبتموه وقتلتموه» (أع 2: 23). «لأن غضب الإنسان يحمدك. بقية الغضب تتمنطق بها» (مز 76: 10). «حوَّل قلوبهم ليُبغضوا شعبه، ليحتالوا على عبيده» (مز 105: 25 وأيضاً أم 16: 9 و20: 24 وإر 10: 23 ومز 33: 14، 15 وخر 12: 36 ومز 25: 9-15 و2صم 16: 10 و24: 1 و12: 11 و1مل 22: 23 وأع 4: 28 ورو 9: 18 و11: 32).
فعناية اللَّه بكل خلائقه وكل أعمالهم تحفظ الإنسان مدة غربته على الأرض من اليأس والاضطراب والخوف، كما أن رجاء الخلاص يحفظ الإنسان من اليأس من الحياة الآتية. واقتصر اللَّه على تأكيد هذه العناية دون شرح طريقة عملها، ودون تعليل فعلها، مع الاحتفاظ بحرية البشر، ومع أسباب ثانوية تعمل على الدوام في الطبيعة.
8 - ما هي العلاقة بين أعمال الناس الصالحة وعناية اللَّه؟
* هي علاقة السبب بالنتيجة، مع حفظ حريتنا. فالأعمال الصالحة نتيجة تأثير النعمة الإلهية فينا، والكتاب ينسبها على الدوام إلى فعل نعمة اللَّه فينا (إش 40: 29-31 ويو 15: 5 و2كو 12: 9، 10 وغل 5: 22-25 وأف 1: 4 و2: 10 وفي 2: 13 و4: 13 وتي 2: 14 وعب 13: 20، 21 و1بط 5: 10). غير أن اللَّه لا يجبرنا على عمل الصلاح بل يعمل فينا بنعمته ويدرّبنا بعنايته وبواسطة أحوالنا الشخصية إلى عمل ما هو لائق وواجب بكمال إرادتنا واختيارنا، وذلك بأن:
(1) يجددنا بروحه القدوس، ويحثنا على إتمام كل ما يُطلب منا.
(2) يدبّر بعنايته القادرة على كل شيء الأسباب الخارجية لتؤثر فينا وتقودنا لمحبة الخير وكراهية الشر، دون أن يعطل حريتنا.
9 - ما هي العلاقة بين أعمال الناس الشريرة وعناية اللَّه؟
* أعمال البشر الشريرة هي أعمالهم بسماحٍ من اللَّه، ولكنها مع ذلك ضمن دائرة سلطانه. إنه لا يسبّبها، ولكنه يحكم عليها ويعيّن حدودها. ولو شاء لقدر أن يمنع حدوثها (انظر 2صم 16: 10 و24: 1 ومز 76: 10 وأع 4: 27، 28 ورو 11: 23). ومن تعليم الكتاب في هذا الشأن:
(1) أعمال الناس الشريرة تحت سلطان اللَّه، فلا يمكن أن تحدث إلا بسماحه لإتمام مقاصده. فقيل إن شاول قتل نفسه، ثم قيل إن اللَّه قتله وأعطى المملكة لداود (1أي 10: 4-14). وقيل أيضاً إن الرب قسَّى قلب فرعون وروح سيحون ملك حشبون وإنه حوَّل قلوب الأمم ليبغضوا شعبه، وإنه يعمي بصائر الناس، ويرسل عليهم روح الضلال ليصدّقوا الكذب، ويهيج الشعوب للحرب. وجاء في سفر الرؤيا «لأن اللَّه وضع في قلوبهم أن يصنعوا رأيه، وأن يصنعوا رأياً واحداً، ويعطوا الوحش ملكهم حتى تكمل أقوال اللَّه» (رؤ 17:17). ومعنى كل ذلك أن اللَّه ليس سبب تلك الحوادث بالذات، بل إنها ضمن دائرة عنايته، وإن كان فاعلوها أحراراً في كل ما عملوه.
(2) لا يمكن أن تتجاوز شرور الناس الحدود التي وضعها لها اللَّه. ومن ذلك قوله «غضب الإنسان يحمدك. بقية الغضب تتمنطق بها» (مز 76: 10). «لأن هيجانك عليَّ وعجرفتك قد صعدا إلى أذنيَّ. أضع خزامتي في أنفك ولجامي في شفتيك وأردُّك في الطريق الذي جئت فيه» (2مل 19: 28).
(3) كثيراً ما ينشئ اللَّه عن أعمال الناس الشريرة نتائج صالحة، ومن أمثلة ذلك ما أحدثه من الخير من تصرُّف إخوة يوسف الرديء مع أخيهم البار، ومن عناد فرعون وعصيانه، ومن صلب اليهود للمسيح، ومن اضطهاد الكنيسة، ومن الحروب، وغير ذلك. فتلك كلها جعلها الجالس على كرسي السماء تؤدي لإتمام مقاصده الحكيمة الرحيمة.
(4) تعمُّ عناية اللَّه أعمال الناس الشريرة، حتى أنها تصدر من مرتكبها لا من اللَّه، فليس اللَّه سبب الخطية، وهو لا يُسرُّ بها «لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم» (1يو 2: 16). و«لا يقُلْ أحدٌ إذا جرّب إني أُجرَّب من قِبَل اللَّه، لأن اللَّه غير مجرَّب بالشرور، وهو لا يجرب أحداً (بالشرور)» (يع 1: 13). و«أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذباً وتبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها؟» (إر 7: 9).
10 - ما هما الاعتقادان الخاطئان في علاقة عناية اللَّه بالكون؟
* (1) اعتقاد «ترك اللَّه الأسباب الثانوية» تجري دون أن يكون لها علاقة بعنايته. ويتضح خطأ هذا الاعتقاد من أنه يصف الكون كأنه آلة ميكانيكية مستقلة عن اللَّه، وأن المعجزات مستحيلة ولا داعي لها، وهذا يخالف جوهر الدين المسيحي وتعليم الكتاب المقدس، فاللَّه يعمل في الكون على الدوام بحكمته الفائقة وحسب رأي مشيئته ليربي خلائقه ويدربهم ليتمموا مقاصده. ويلزم عن هذا المذهب أيضاً أن الصلاة بلا فائدة، وأن الإعلانات الإلهية غير صحيحة، وأن الاعتقاد بمسؤوليتنا أمام اللَّه وهمٌ، وأن الدين خرافة. وكل ذلك لا يقبله العقل السليم.
(2) الاعتقاد أن «اللَّه هو العامل الوحيد في الكون» وأن كل ما قيل في عمل الأسباب الثانوية غير صحيح. وهو يشبه مذهب ألوهية الكون (وحدة الوجود). على أن الكتاب المقدس والعقل والاختبار يقولون إن اللَّه يعمل في الكون وكذلك البشر، وإن اللَّه لا يبطل قدرة البشر على العمل بمقتضى طبيعتهم، ولا يمنع فعل الأسباب الطبيعية.
11 - ما هو المذهب الصحيح في عناية اللَّه بالكون، وعلاقتها بأعمال البشر؟
* هو مذهب الكتاب المقدس، الذي من مبادئه أن اللَّه هو العامل في الكون، سواء فعل بقوته مباشرةً أو بواسطة أسباب ثانوية، وهو المسيطر عليه الذي قضى بكل ما يحدث، وهو يعتني بجميع خلائقه بحسب مشيئته الفائقة، وأنه توجد أسباب ثانوية يستخدمها اللَّه ليتمم مقاصده، لكنها غير مستقلة عن سلطانه.
ويعلّمنا الكتاب المقدس في عناية اللَّه:
(1) أنها عامة لا تختص بأمر دون آخر، بل تشمل كل شيء (مز 22: 28، 29 و103: 17-19 ودا 4: 34، 35 ومت 10: 29-31).
(2) أنها تشمل أفكار البشر ومقاصدهم والأمور التي تظهر لنا أنها عرضية (2أي 16: 9 وأم 21: 1 و16: 9، 33 و19: 21).
(3) أنها فعالة (أي 23: 13 ومز 33: 11 ومرا 2: 17).
(4) أنها مرتبطة بقضائه، وأنها جزء منه (مز 104: 24 وإش 28: 29 أع 15: 18 وأف 1: 11).
(5) أن هدفها مجد اللَّه وخير الكنيسة وبنيان ملكوته (رو 9: 17 و8: 28 و11: 36).
(6) أنها توافق جميع صفاته، فهو لا يناقض نفسه مطلقاً (2تي 2: 13).
(7) أنها توافق حالة البشر حتى يبقى الإنسان حراً ومسؤولاً.
(8) أنها تقوّي الإنسان على عمل الصلاح (في 2: 13).
ولا دخل لها في أعمال الإنسان الشريرة إلا من حيث السماح بها، وحصرها ضمن حدودٍ لا تتجاوزها، وتحويلها حين يشاء لوسائط تتمّم مقاصده وتعمل لخير الخليقة.
12 - ما هي الاعتراضات على تعليم العناية الإلهية؟
* أهم الاعتراضات على هذا التعليم:
(1) لا يليق باللَّه أن يهتم بكل أمرٍ صغير. فنجيب: إن اللَّه أحكم منا وأدرى بما يليق بشأنه. فلتكن أقوالنا متناسبة مع إعلانه عن نفسه.
(2) يدل ما في العالم من البلايا والضيقات على أن اللَّه لا يعتني بنا ولا يحبنا كما أنه غير عادل. فنجيب: انظر فصل 12 س 66-70 ونقول أيضاً إن هذه المصائب لا تدل على نقصٍ في اللَّه، بل هي لأهداف حسنة، إما لتأديب المؤمن أو لإصلاح الخاطئ أو لعقابه.
(3) يلزم عنه عدم وجود أسباب ثانوية، كما أنه يعارض حرية الخلائق العاقلة. فنجيب: إن هذا القول يخالف تعليم الكتاب المقدس والعقل السليم.
(4) يلزم عنه أن اللَّه مسؤول عن وجود الخطية. فنجيب: إن هذه النتيجة غير صحيحة، لأن عناية اللَّه لا تقود الإنسان إلى الخطية، بل هو يخطئ بكامل اختياره. ولا شك أن ما ينشأ من الخوف الناتج عن هذا التعليم وما فيه من الأسرار والمشاكل يزول بواسطة الإيمان بكلام اللَّه والثقة بصلاحه ومحبته والتسليم لإرادته.
13 - ما هي علاقة القوانين الطبيعية بعناية اللَّه؟
* قد يُراد بالقوانين الطبيعية ما اختبرناه من توالي حوادث على نسقٍ واحد بدون نظر إلى سبب ذلك التوالي. وقد يُراد بها أيضاً القوة التي تفعل على الدوام في الخليقة على صورة واحدةٍ، كقوانين الجاذبية والنور والحرارة والمغناطيس ونحوها. والمعنيان يفيدان أن علاقة القوانين الطبيعية بعناية اللَّه، كما يعلّمنا الكتاب المقدس هي:
(1) إن اللَّه سنَّها، وأعطى تلك القوات للمواد ورتَّب أنها تفعل دائماً على صورة واحدة.
(2) إنها خاضعة للَّه، يقدر أن يغيّرها كلما شاء أو يوقفها أو يلغيها أو يعمل بها أو بدونها.
(3) يتوقّف ثبوت الكون وخير خلائقه ووجودهم على استمرار فعل عنايته، فإن اللَّه في كل أعمال عنايته العادية يفعل بواسطتها ولا يخالفها إلا لداعٍ كافٍ، فلا يفعل بلا قانون في العالم المادي، كما أنه لا يفعل بلا قانون في العالم الأخلاقي.
ونتعلم من الكتاب المقدس أن تلك القوانين مقررة ثابتة ومرتبة من اللَّه، وأن الإنسان يقدر أن يستعملها ليتمم مقاصده. ولكن إذا خالفها يضر نفسه. ويقدر اللَّه غير المحدود أن يُخضِعها دائماً لإرادته.
14 - ما هي علاقة أعمال الناس الاختيارية بعناية اللَّه؟
* تشمل عناية اللَّه خلائقه العاقلة كما تشمل عالم الجماد. ومن مبادئ عنايته بخلائقه:
(1) إنه جعل الإنسان قادراً على استعمال عقله، وعلى أداء أعماله بأمانة، وهذا واضح من الكتاب المقدس ومن مشاعرنا. ولولا ذلك لكان الإنسان غير مخيّرٍ ولا مسؤول.
(2) إنه يحفظ بعنايته حياة الخلائق العاقلة، ويمكّنهم من استعمال قواهم العقلية والجسدية بقوته، علماً بأنهم مخيّرون قادرون على إنشاء أفعالهم. ويقدر اللَّه أن يجعلهم يستعملون تلك القوى حسب إرادته، فمرات يمنع فعلهم، وأخرى يقود إرادتهم إلى طريقة دون غيرها. وبناء على ذلك نصلي له ليُميل قلوب البشر إليه ويغيّر أخلاق الأشرار، وأن يفعل فينا لنريد ونعمل ما يرضيه. وهذا يعني أن الإنسان غير مستقل عن اللَّه في استعمال القوى التي وهبها له، وأن قلوب البشر في يد اللَّه وعنايته تشمل أفعالهم كما تشمل الأمور الطبيعية، وأن فعله في أنفسهم لا يناقض قوانين العقل والاختبار، كما أن فعله في العالم المادي لا يناقض القوانين الطبيعية.
15 - ما هو الفرق بين فعل عناية اللَّه في أمور البشر وفعل الروح القدس الخاص في نفوسهم؟
* نتعلم من الكتاب المقدس أن العمل الأول طبيعي يجريه اللَّه بحسب قوانين ثابتة. والثاني فوق الطبيعة يجريه الروح القدس حسب رأي مشيئته. ومما يُظهر الفرق بينهما:
(1) ينسب الكتاب المقدس أعمال الناس العادية لقواهم الطبيعية العقلية، وينسب الإيمان والتوبة والعواطف المقدسة في المؤمنين إلى الحياة الجديدة التي وُهبت لهم بالولادة الجديدة. فأعمال الناس الحرة العادية (خصوصاً الشريرة) تصدر من ميولهم الطبيعية، لأن اللَّه لا يجبرهم عليها ولا يحركها فيهم. وأما العواطف المقدسة فتنشأ من عمل روح اللَّه فقط.
(2) تعليمه أن اللَّه يُجري عنايته العادية بخلائقه العاقلة على ما سنَّه لهم من القوانين الخاصة بهم والتي تتفق مع طبيعتهم العقلية. وأما عمل نعمته فيجريه حسب رأي مشيئته. فالعواطف المقدسة لا تصدر من مجرد فعل الحق في عقولنا بل من حلول روح اللَّه فينا وفعله الخاص، فنقول «أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ». وهذا التمييز بين الطبيعة والنعمة، أي بين عناية اللَّه العادية وتأثير روحه في قلوب شعبه أمر جوهري.
وكثيراً ما نتحيّر ونحن نرى أفكار اللَّه مختلفة عن أفكارنا، وهو لا يبيّن لنا مقاصده في كل أمرٍ. غير أن الإعلانات الإلهية تعلّمنا ما يقوي ثقتنا ورجاءنا باللَّه. ويشهد اختبار الصالحين في كل عصرٍ أن اللَّه يعاملنا باللطف والمحبة، وأن عجائب عنايته هي عجائب النعمة، وأن الذي يتكل عليه ينال الفرج في حينه. فعلى المؤمن بالحق أن يكون صبوراً متواضعاً كثير الصلاة ينتظر إرادة الرب على الدوام.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل التاسع عشر

المعجزات


1 - ما هي خلاصة التعليم المسيحي في علاقة اللَّه بالكون، وفي إعلان نفسه لخلائقه العقلاء؟
* هي أنه إله الكون وصاحب السلطان على الطبيعة، وأنه يعتني بأمور البشر على الدوام، وقد أعلن نفسه بطُرقٍ مختلفة كإظهار ذاته للآباء في الزمن القديم، وسنّ القوانين الأخلاقية والطقسية والسياسية، وإرشاد شعبه، وإلهام الأنبياء والرسل وكشف حوادث المستقبل لهم وعصمته إياهم من الخطأ في التعليم والكتابة، ومنحهم سلطان صنع المعجزات. ثم أعلن ذاته لهم بإرسال ابنه إلى العالم متجسداً، وبتأسيس الكنيسة المسيحية بواسطة الروح القدس وحفظها من أبواب الجحيم، وإسنادها في شهادتها للحق، وفي عملها لخير البشر وإصلاحهم. وكل ذلك واضح في الكتاب المقدس. وهو يخالف جميع المذاهب الإلحادية التي ينكر بعضها الوحي وإعلان اللَّه نفسه، ويقيم بعضها المادة مقامه أو يؤلّه الكون أو يكثر الآلهة. وتقول المسيحية إن من الطرق التي أظهر اللَّه بها نفسه للبشر عمل المعجزات ليُثبت ما أعلنه لهم.
2 - ما هي المعجزة؟
* هي حادثٌ محسوس خارق للطبيعة، يُصنع بقوة اللَّه الخاصة ليثبت تعليماً إلهياً، أو ليثبت صِدق رسوله صانع المعجزة. ولا بد من اجتماع الشروط الآتية في المعجزة:
(1) أن تدركها الحواس.
(2) أن تتم بقوة اللَّه فقط.
(3) أن تكون خارقة للنواميس الطبيعية.
(4) أن تُصنع لهدف ديني كإثبات رسالة صانعها، أو برهنة تعليم إلهي ونحو ذلك.
والمقصود بنسبة المعجزات أحياناً إلى المؤمنين أو الملائكة هو أنهم صنعوها بقوة اللَّه لا بقوتهم. ولا يصحّ أن ننسب المعجزة الصحيحة إلى البشر الأشرار، ولا إلى الشياطين، ولكن ما ظهر من الغرائب في أعمالهم ليس معجزاتٍ صحيحة، بل عجائب كاذبة ناشئة خداعهم أو عن قوة الشيطان. وقد ميَّز الكتاب المقدس بين المعجزات الإلهية والعجائب التي يفعلها المحتالون بالمكر، أو بواسطة علوم غامضة، أو بما يعرفونه من قوانين الطبيعة مما يجهله الآخرون من عامة البشر.
وقُسمت حوادث الكون على ما يأتي:
(1) ما يحدث بمقتضى القوانين الطبيعية التي سنَّها اللَّه، كنمو النبات والحيوان ودوران الكواكب. ومن هذا الحوادث الطبيعية قليلة الوقوع نسبياً كالزلازل والبراكين ونحوهما، مما يتوقف عملها على مشيئة اللَّه وعنايته.
(2) ما ينتج من تأثير الروح القدس وفعل النعمة الإلهية في قلوب البشر، كالإنارة والتجديد والتقديس ونحو ذلك.
(3) ما يحدث بقوة إلهية بطريقة خارقة للعادة، أو توجيه الطبيعة لهدف خاص، وهو المعجزة التي تُجرى في العالم المادي ليدركها البشر بالحواس فيتحقّقون من صدقها، كما أقام المسيح لعازر من الموت أمام أعين اليهود.
3 - ما هي تسميات المعجزات في الكتاب المقدس؟
* هي «عجائب» و«آيات» و«قوات» و«أعمال». سُميت «عجائب» لأنها تحمل على العجب والاندهاش لأن سببها خفي وخلاف العادة. وسُميت «آيات» لأنها علامات ظاهرة لحضور اللَّه بقوته، ولختمه على صدق قولٍ أو عمل. وسُميت «قوات» لأنها تدل على قوة اللَّه. وجاءت هذه الكلمات الثلاث في عبارة واحدة في ثلاث آياتٍ من الكتاب (أع 2: 22 و2كو 12:12 و2تس 2: 9) للتعبير عن حقيقة المعجزة وبيان صفاتها لا أنواعها. مثال ذلك معجزة شفاء المسيح المفلوج في كفرناحوم (مر 2: 1-12) فهي «عجيبة» لأن الجميع بُهتوا حين رأوها ولم يعرفوا سببها، ولأنها غير عادية. وهي «قوة» لأن قيام المفلوج وحمله سريره وخروجه أمام الجميع كان بقوة المسيح العظيمة. وهي «آية» لأنها علامة دلت على حضور القادر على كل شيء. وسُميت المعجزات «أعمالاً» إشارة لصنعها بقوة اللَّه الخاصة. وهذه التسمية من اصطلاح الكتاب المقدس (يو 5: 36 و10: 25، 32، 38 و14: 11 و15: 24).
4 - ما هي أشهر الاعتراضات على صدق المعجزات؟
* لما كانت المعجزات من أدلة وجود اللَّه وعنايته بالبشر ليتمم أهدافه الدينية، قام لمقاومتها وإنكارها في كل القرون الملحدون والفلاسفة الماديون، وأوردوا ضدها اعتراضات مختلفة، منها:
(1) إن حدوثها غير ممكن.
(2) إنها تخالف نواميس الطبيعة الثابتة، وبالتالي تخل بنظام الكون المحكم.
(3) إثبات حدوثها بشهادة بشرية مستحيل.
(4) إنها خالية من كل علاقة باللَّه، حتى لا يمكن إثبات حدوثها بقوته.
(5) لا لزوم لها في خليقة صنعها اللَّه الحكيم القدير، وهي لا تليق بحكمته. وقد بنى المعترضون اعتراضاتهم على مواقفهم الخاصة، وعلى نوع فلسفتهم. فالذين أنكروا وجود اللَّه قالوا إن العجيبة مستحيلة، والذين بالغوا في تعظيم قوانين الطبيعة ونظامها قالوا إن المعجزات خداعٌ، لأن حدوث التغيير في نظام الكون الثابت غير صحيح. والذين أنكروا تدخل اللَّه في أمور الكون وأحوال البشر رفضوا كل دليل على حدوث المعجزات، حتى لو كان قوياً! وقال بعضهم إن ما حملهم على رفض اعتقاد المعجزات احترام شأن الخالق والدفاع عما أظهره من الحكمة والقدرة في خلق الكون وتنظيمه، وزعموا أنه يلزم عن صدق المعجزة وقوع النقص والخلل في إتقان الكائنات، فاضطر الخالق أن يتصدى على الدوام لإصلاح شؤونها، وهذا يدل على عدم كمال حكمته وقدرته. وسنرد على هذه الاعتراضات بالتفصيل.
5 - كيف نرد على القول إن حدوث المعجزة غير ممكن؟
* نشأ هذا القول غالباً من إنكار وجود اللَّه، لأن من ينكر وجوده ينكر حدوث معجزاته. غير أنه ليس في طاقة المنكرين أن يُثبتوا ما زعموه، فاقتصروا على القول إن المعجزة مستحيلة. وأما التسليم بوجود اللَّه فيلزم عنه التسليم بإمكان حدوث المعجزات، ولذلك فليس بين المؤمنين باللَّه من ينكر ذلك، لأنهم يرون في الخليقة عمل اللَّه، ويعتقدون أن الهدف الأعظم من الخليقة أخلاقي ديني روحي، وأن تدخل اللَّه في أمورها لازم لإصلاح ما طرأ عليها من الخلل بسبب سقوط الإنسان، وأن للمعجزات داعياً كافياً وأهمية كبرى في هذا الشأن.
ولا يغيب عن بالنا أن الإنسان يستخدم كل يوم (باختياره وقدراته) أعضاء جسده كما يشاء، سواء كان لأهداف عادية أو غير عادية، دون أن يخالف قوانين جسده. والطبيب يعالج مريضه بالأدوية المناسبة بحسب معرفته وخبرته ليزيل المرض ويصلح أحوال المريض الجسدية، وهو لا يخالف بذلك خواص الجسد، بل يحاول إصلاح شأنه وإرجاعه إلى حاله الأصلي. فإذا كان للإنسان قدرة على إصلاح شؤون البشر الجسدية، فبالأولى تكون للَّه قدرة على التدخل لإصلاح شؤونهم الأخلاقية وأحوال الكون المادية إذا لزم. وهذا يثبت صدق ما أعلنه لإرشادنا وبنياننا في الروحيات بواسطة المعجزات.
قال رينان: «يُشترط في معجزة إقامة ميتٍ صنعها بمحضر جمهور من الأطباء والعلماء، وإلا فلا يمكن التسليم بها». ونسي رينان أن اللَّه لم يقصد بمعجزاته بيان قوته لأهل العلم ولا تسليتهم بالغرائب، بل قصد إثبات حقه عند الاقتضاء، أو صدق رسالة رُسُله. ولو أن أحد علماء اليهود أو غيرهم اقترح على المسيح أو على أحد الرسل معجزةً ليتسلى بذلك، لرُفض طلبه. ولما طلب شيوخ اليهود من المسيح إجراء معجزة قال «الحق أقول لكم لن يُعطى هذا الجيل آية» (مر 8: 12).
6 - كيف تبرهن بُطل القول إن المعجزة تخالف قوانين الطبيعة الثابتة، وبالتالي تخل بنظام الكون المُحكم؟
* لو كان السلطان على الكون للطبيعة لكان اللَّه مقيداً بقوانينها. ولكن لما كان للَّه سلطان مطلق على الكون، ولما كانت الطبيعة خاضعة لمشيئته، كانت المعجزات (التي يبدو أنها تخالف القوانين الطبيعة) مطابقة لقانون آخر أسمى منها هو المشيئة الإلهية التي تصنع المعجزات. فالمعجزة هي من أعمال اللَّه في دائرة حكمه الأخلاقي لإثبات سلطان إرادته على خلائقه الساقطين، لتصلح ما طرأ من الفساد والخلل على أخلاق الإنسان الذي سقط. ورفض المعجزات هو رفضٌ لكل نظام الفداء. نعم، إن مَنْ نظر إلى الطبيعة المادية فقط ولاحظ ثبات قوانينها مال لعدم تصديق المعجزات، ولكن مَنْ نظر للطبيعة الأخلاقية الساقطة أيضاً ورأى ما فيها من الفساد والخلل، مال لانتظار تدخل اللَّه بالوسائط الكافية ليصلح شؤونها، وسلَّم بإمكان وقوع المعجزات لأنها تعطي نتائج حسنة، وتتمم مقاصد اللَّه في الإصلاح المطلوب.
وهناك اعتراض يقول إن قوانين الطبيعة هي قضاء اللَّه، ولذلك فهي كاملة وغير متغيرة، فمخالفتها تكون مخالفةً لقضاء اللَّه، ويلزم عنه وجود النقص فيه. فنجيب: لو صحَّ مذهب «ألوهية الكون» لصحّ هذا الاعتراض. ولكن لما كان اللَّه كائناً عاقلاً مختاراً مستقلاً بنفسه، وهو خالق الطبيعة وصاحب السلطان المطلق عليها، كانت نواميس الطبيعة جزءاً من مقاصده في الكون، وكانت المعجزات جزءاً من مقاصده في الأخلاقيات. وإذا أدركنا ما وقع من الخلل في النظام الأخلاقي بسقوط الإنسان، نرى ضرورة تدخل اللَّه بإجراء معجزات ليصلح ذلك الخلل، حتى لو لزم نقض كل النظام الطبيعي الثابت. على أن الأمر ليس كذلك، فالمعجزات لا تُحدِث خللاً في الطبيعة المادية.
7 - كيف ترد على القول إن إثبات حدوث المعجزة بشهادة بشرية مستحيل؟
* يقول هذا الاعتراض إنه لما كانت المعجزة تخالف القوانين الطبيعية، وكان ثبات تلك القوانين مبرهناً من الاختبار الدائم، كان ذلك دليلاً اختبارياً قاطعاً على عدم إمكان حدوثها. وإثبات حدوث المعجزة بشهادة بشرية محال، ومهما كثُر عدد مشاهديها هم إما خادعون أو مخدوعون، لأن الاختبار العام لثبات القوانين الطبيعية لا يحتمل الغش كالشهادة البشرية.
وللرد على هذا الاعتراض نقول إن المعجزة لا تخالف القوانين الطبيعية، بل هي فوقها. وتنشأ المعجزة عن قدرة واختيار اللَّه المتسلط على الطبيعة وقدرته. فالقوانين الطبيعية نظام سنّه الخالق ينشأ بموجبه عن كل سبب نتيجة واحدة على الدوام. فإن نشأت عن سبب واحد نتائج متنوعة في أوقات مختلفة في دائرة الطبيعيات كان ذلك مخالفةً. ولكن إذا أُحدثت أسباب جديدة ونشأ عنها نتائج خاصة، فلا يكون في ذلك شيء من المخالفة. ولما كانت المعجزة ناشئة عن سبب خارج عن دائرة الطبيعة، لكنها تُحدث في الطبيعة نتائج خاصة مع بقاء القوانين الطبيعية على نظامها، كان ذلك غير مخالف لتلك القوانين. والحق هو أن المعجزة آية تدل على إجراء اللَّه مشيئته بقوة فائقة الطبيعة. أما القول إن ثبات تلك الشرائع مبرهنٌ من الاختبار الدائم فهو صحيح، غير أنه لا ينفي إمكان حدوث تدخل قوة أخرى أعلى من قوانين الطبيعة تتسلط عليها وتقدر أن توقف فعلها، فلا يكون ذلك دليلاً على بُطل المعجزة، وإلا فلا يمكن إثبات شيء جديد خارج عن دائرة الاختبار، مثل إثبات تجمّد الماء لساكني الأقاليم الحارة، الذين يشهد كل اختبارهم أن قوانين الطبيعة ضد ذلك. فضلاً عن أن اختبار البعض يثبت إمكان حدوث المعجزات، فللَّه أهداف تفوق الطبيعة، ومملكته أسمى شأناً من مملكة الطبيعة.
وبما أن كثيرين تحققوا صدق المعجزات بواسطة حواسهم، فيجب على المعترض أن يقيم الدليل على عدم صدق الاختبار الحسي أيضاً. غير أن ذلك يتعذّر عليه، لأن من شاهد المعجزة عياناً لا يتردد في تصديقها.
ونعلم من الاختبار أن قوانين الطبيعة ثابتة، ولكن نعلم أيضاً أن ثبوتها غير ضروري، وأن تسلُّط قوة أخرى عليها أسمى منها ممكن. فليس في اختبارنا هذا دليل على عدم إمكان حدوث المعجزات، لأنه اختبار ناقص بمقدار معرفتنا المحدودة. وعلى المعترض أن يذكر (لبيان بُطل المعجزات) الاختبار الإيجابي للذين شاهدوا حدوث المعجزة وتمكنوا من تأكيد صحتها. وهذا يستحيل عليه، لأن الذين عاينوها شهدوا بصدقها وإمكان حدوثها. ولنضرب مثلاً: يشهد الاختبار العام أن الماء يجري من فوق إلى أسفل. فإذا شهد ألوفٌ بذلك، وبأنهم لم يروا قط الماء يجري إلى أعلى، فهل تكون شهادتهم كافية لرفض شهادة الذين قالوا إنهم رأوا بعيونهم الماء يصعد إلى أعلى؟ إن أولاد المدارس الآن يعرفون أن الماء يمكن أن يصعد إن كانت هناك قوة كافية تدفعه إلى فوق، وشهادة عشرة أشخاص رأوا ذلك بعيونهم كافية لرفض شهادة ألوفٍ من البشر بأنهم لم يروا مثل هذا الفعل ولا سمعوا بإمكان حدوثه! وهكذا شهادة الذين رأوا المعجزات، لا يمكن الشك في صدقهم، لأن قوة إلهية كافية أجرت المعجزة! ولو أننا قلنا باستحالة إثبات صحة كل أمر جديد غريب، لرفضنا كل الاختراعات والاكتشافات!
لقد صنع المسيح ورسله وجميع الأفاضل معجزات، شهدوا وشهد غيرهم بصدقها، فهل كذبوا وخدعوا الناس بمكرهم؟ ولذلك كان التسليم بصدق المعجزات أسهل من التسليم برفضها. وإذا تقرر ذلك نقول إن الذين صنعوا المعجزات هم من جملة الشهود بها، ونحن مقتنعون أن شهادتهم حق، وأنها هي هي بصدقها وقوتها أمساً واليوم وغداً، لأنها مكتوبة بالوحي ومحفوظة بعناية اللَّه بكل حرص، فلا يُضعفها مرور الأيام. وهذا خلاف الشهادة المنقولة باللسان من جيل لآخر، فهي قابلة للتحريف.
8 - كيف نبرهن خطأ القول إن المعجزات خالية من كل علاقة باللَّه، ولا يمكن إثبات حدوثها بقوته؟
* يستند أصحاب هذا الاعتراض غالباً على ثلاث قضايا، هي:
(1) إن معرفتنا بالقوانين الطبيعية غير كافية لتمكننا من الحكم إن كانت الحادثة معجزة أو أمراً طبيعياً. فادّعاؤنا معرفة حادثة ما أنها معجزة هو ادعاء المعرفة الكاملة بكل قوانين الطبيعة، معرفةً تمكّننا من الحكم على ما هو ضمن دائرة تلك القوانين، وما هو خارج عنها.
(2) يقول الكتاب المقدس إن للشياطين قوة عظيمة، ويعمل كثيرون من البشر أعمالاً غريبة بشعوذتهم. فلا يمكننا تصديق المعجزات، إذ يُحتمل أنها صُنعت إما بقوة شيطانية أو بالشعوذة.
(3) يُثبَّت الكتاب المقدس بالمعجزات، والمعجزات بالكتاب! وهذا منطق خاطئ.
فنجيب على القضية الأولى بأن معرفتنا (مع أنها قاصرة) إلا أنها كافية لندرك أن بعض الحوادث هي فوق العادة، ولا يمكن أن تكون قد جرت وفق قوانين الطبيعة، مثل إقامة الأموات وشفاء العميان وتسكين العواصف بمجرد الأمر بذلك. وكذلك قتل كل أبكار البشر والبهائم في كل أرض مصر في ليلة واحدة، ونحو ذلك. وبما أننا قد تحققنا أن أكثر المعجزات خارجة عن دائرة قوانين الطبيعة، فقصور معرفتنا بتلك القوانين لا يمنعنا من تصديقها، خاصةً إذا صُنعت باسم اللَّه ولإثبات حقه وبواسطة أنبيائه أو المسيح أو رسله.
ونجيب على القضية الثانية بأن الكتاب المقدس ينبئنا بحدوث عجائب كاذبة بقصد الخداع سُميّت «عجائب» (تث 13: 1-3 ومت 7: 22، 23 و24:24 و2تس 2: 9 ورؤ 13:13 و19: 20) فلا يقدر صانعو العجائب الكاذبة أن يقيموا الموتى ولا أن يوقفوا قوانين الطبيعة. أما المعجزات الصحيحة فقد صنعها رجال اللَّه باسمه، بدون ادعاء القدرة الذاتية عليها. وصنعوها علانية أمام الملأ، وبطريقة تدركها الحواس، ولهدف لائق ومفيد كإثبات حق اللَّه وصدق رُسله. وأما الأعمال الخداعية فمغايرة لهذه في كل ما تقدم.
ونجيب على القضية الثالثة بأن هذا القول غير صحيح، لأن المعجزات قسم من الأدلة الكثيرة الخارجية والداخلية على صدق الكتاب المقدس. وليست شهادة الكتاب المقدس بصدق المعجزات هي الشهادة الوحيدة لها، فإذا ثبت صدق الكتاب بأدلة كافية من جملتها المعجزات، فيمكن إثبات المعجزات بشهادة الكتاب لها، لأنها ممزوجة بأقواله، حتى يلزم عن صدقه صدقها والعكس. وقد أورد المسيح نفسه ذكر المعجزات دليلاً على لاهوته، مع أن لاهوته يشهد بصدقها. ونحن نصدق المعجزات بشهادة الكتاب لأنها وافية بالمطلوب صحيحة لا يشوبها شك. ولكن لنا شهادات أخرى غيرها من معاصري المسيح ورسله من المؤمنين وغيرهم، حتى من ألدّ أعداء الدين المسيحي، الذين أقرّوا جميعاً بحدوثها وغرابتها، غير أنهم قالوا إنها غير مصنوعة بقوة إلهية.
وما تقدم كافٍ للرد على هذه الاعتراضات، فنقول مع نيقوديموس «يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من اللَّه معلماً، لأن ليس أحدٌ يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن اللَّه معه» (يو 3: 2).
9 - كيف نبرهن خطأ القول إن المعجزات ليس لها لزوم في خليقةٍ صدرت من يد اللَّه الحكيم القدير؟
* نشأ هذا الاعتراض من الاعتقاد أنه لا يليق باللَّه أن يتعرَّض لأمور الكون بعدما خلقه، لأنه أبدعه بغاية النظام والضبط. وللرد نقول: لو كان المقصود من المعجزات إصلاح نقائص وعيوب طبيعية في العالم المادي لصحَّ هذا الاعتراض. ولكن القصد منها إصلاح عيوب أخلاقية في دائرة الروحيات بسبب معصية الإنسان. فمن يجسر والحالة هذه أن يقول للحكيم القدير إنه لا يحقّ له أن يعمل أعمالاً غير معتادة في العالم المادي لخير خلائقه الساقطين، ولإصلاح ما أحدثته معاصيهم من الفساد والخلل في نفوسهم؟ ألا ترى أن معصية الإنسان باختياره توجب تدخل اللَّه، إما لعقابه أو لإنقاذه من عواقبها؟ لقد تصدى اللَّه ليبررنا من معصيتنا، ولينقذنا من ويلات قصاصها، فصنع المعجزات كإحدى وسائط إثبات الإعلانات الإلهية التي هي أعظم وأهم جداً من قوانين الطبيعة التي يدَّعي أعداء الدين عظمتها حتى لا يليق بالخالق نفسه أن يمسها!
وأما زعم البعض أنه يلزم عن صدق المعجزات تغيير مقاصد اللَّه، فهو غير صحيح، لأن المعجزات ليست جديدة عنده، بل هي داخلة في قضائه السابق، ومن جملة الوسائط التي قصد منذ البدء أن يُجريها ليتمم عمل الفداء.
وإذا سُئل: لماذا لم يخلق اللَّه العالم في حالة تمنع حدوث الخطية فيه؟ قلنا: إن هذا يشبه السؤال: لماذا لم يخلق اللَّه الإنسان في حالة الكمال غير القابل للسقوط؟ والجواب: إن اللَّه لم يستحسن ذلك، بل اختار أن ينال الإنسان القداسة باجتهاده بعد مقاومة تجارب كثيرة. ولا شك أن للَّه الحق التام أن يختار ما شاء من الطرق في هذه المسألة وغيرها.
10 - كيف نستدل على أن حدوث المعجزات أمرٌ واجب في نظام اللَّه الأخلاقي؟
* نعلم أن اللَّه قدوس، وأن خير البشر يتوقف على ثبات شريعته. ونعلم تسلط الخطية على طبيعة الإنسان الأخلاقية، بحيث لو تُرك لنفسه لهلك. وبسبب حنو اللَّه ومحبته للبشر تدخل لخلاصهم. ونرى من الكتاب المقدس أن ذلك تمّ بعمل الفداء العظيم، والإعلانات الإلهية، ووسائط النعمة. ولما كان للمعجزات تأثير عظيم في إثبات إعلانات اللَّه وحقه ولاهوت المسيح ورسالة الأنبياء والرسل، دبّر اللَّه حدوثها لأجل هذا الهدف. وليس في تصديقها من الصعوبة أكثر مما في تصديق التجسد والوحي وغيرهما من أعمال اللَّه الفائقة.
11 - ما هي الأدلة على حدوث المعجزات حقيقةً؟
* لما كانت المعجزات من الأدلة الهامة على صدق الديانة المسيحية، حاول البعض أن ينكرها في كل زمان ظناً أن هذا يسيء للمسيحية. على أن الأدلة على صدقها كافية لإقناع كل من أراد الوقوف على حقائق الأمور. ومن هذه الأدلة:
(1) كثرة عدد الشهود وتوافق شهادتهم، وأمانتهم حتى أنهم احتملوا المقاومات العنيفة والاضطهاد حتى الموت.
(2) صُنعت المعجزات علانيةً أمام جماهير من أصدقاءٍ وأعداء. وقد ذكر يوسيفوس هذه المعجزات في تاريخه، واعترف بها الفريسيون وبيلاطس البنطي وكلسوس، وغيرهم من أعداء المسيحية.
(3) صدق الكتاب المقدس يشهد لصدق المعجزات لما بينهما من الارتباط التام، فكل ما يثبت الوحي من سموٍّ على كل ما سواه من الكتب الدينية في آدابه وتعاليمه في اللَّه وصفاته وعنايته ومقاصده، يثبت أيضاً صدق المعجزات المذكورة فيه.
(4) العلاقة بين المعجزات والتعليم الذي قُصد إثباته بها، فقد قُصد بالتعليم ما قُصد بالمعجزات، وهو صحة أقوال اللَّه، وإنقاذ البشر من كل السيئات الناشئة من الخطية كشفاء الأمراض وإقامة الموتى.
(5) ما يلزم عن إنكار المعجزات من النتائج الفظيعة، مثل عدم صدق المسيح ورسله، وخداعهم للجماهير بالرغم من طهارة سيرتهم ونقاوة تعاليمهم وصدقهم. ومثل بطلان المسيحية لأنها تكون قد تأسست على الكذب، وتكون أشرف المبادئ التي انتشرت في العالم مقترنة بالمكر والنفاق. ألا ترى أن تصديق المعجزات أسهل للعقل السليم من تصديق هذه النتائج الغريبة؟
12 - ما هي الأدلة على صدق معجزة قيامة المسيح من الأموات؟
* إذا استطعنا أن نبيّن بالأدلة القاطعة صدق واحدة من معجزات الكتاب المقدس سهُل علينا التسليم بصدق جميعها. وقد اخترنا أعظم تلك المعجزات وهي قيامة المسيح التي يمكن أن نبرهنها إما بجمع كل ما في الكتاب المقدس وكتب القدماء من الأدلة على صدقها، أو باختيار بعض ما لها من الشهادات التي يقبلها المعترضون، فنبيّن منها صدق هذه المعجزة. وقد اخترنا الطريقة الثانية، وعيَّنا لذلك البشائر الأربع، ورسائل رومية وكورنثوس الأولى والثانية وغلاطية، التي سلَّم كل مشاهير المعترضين أن بولس كتبها بعد قيامة المسيح بنحو 25 أو 30 سنة. وعلى هذا فإن مزج خبر قيامة المسيح بالخداع مستحيل عند أهل ذلك العصر. ونرى من تلك الرسائل أن بولس والمسيحيين من أهل رومية وكورنثوس وغلاطية أجمعين اعتقدوا بصدق القيامة، وكانت عندهم أساس المسيحية وأهم أركانها. ومع أن الكنائس التي كُتبت إليها تلك الرسائل كانت منقسمة إلى أحزاب مختلفة، وحدثت فيها خصومات، إلا أنه لم تحدث بينها منازعة في القيامة، ولا وجد من شكَّ في صدقها. وجاء في أول رسالة رومية ذكر قيامة المسيح من الأموات (رو 1: 4). وتكرر ذلك مراراً في تلك الرسالة. وجاء في 1كورنثوس 15 كلامٌ مطوَّل عن القيامة، ومن ذلك أن المسيح ظهر بعد قيامته لصفا، ثم للاثني عشر، وبعد ذلك ظهر دفعةً واحدة لأكثر من 500 أخ أكثرهم كانوا أحياء أثناء كتابة الرسالة، وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين، وآخر الكل ظهر للرسول بولس (1كو 15: 5-8). ففي هذه الآيات:
أورد بولس ست شهادات بقيامة المسيح:
(1) شهادة بطرس الذي ظهر له المسيح في صباح يوم قيامته.
(2) شهادة الاثني عشر الذين ظهر المسيح لهم في مساء يوم قيامته وهم في أورشليم.
(3) شهادة 500 أخ كانوا مجتمعين معاً لما ظهر المسيح لهم على الأرجح في الجليل.
(4) شهادة يعقوب أخي الرب.
(5) شهادة الرسل أجمعين، مشيراً بذلك على الأرجح لظهوره الأخير يوم صعوده (لو 24: 50-53).
(6) شهادة الرسول بولس عن نفسه لما ظهر المسيح له وهو على طريق دمشق. فلو خامر أعداء بولس الشك في هذه الشهادات لما سكتوا.
وفي إنجيل متى ورد خبر ظهور المسيح بعد القيامة مرتين:
(1) ظهوره للنساء اللواتي جئن إلى القبر يوم قيامته.
(2) ظهوره على جبلٍ في الجليل حيث اجتمع الرسل بأمره وأوصاهم أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم (مت 28: 16-20).
وفي لوقا ورد خبر ظهوره أربع مرات:
(1) ظهوره لبطرس الذي ذكره بولس أيضاً.
(2) ظهوره لاثنين على طريق عمواس يوم قيامته.
(3) ظهوره للاثني عشر في مساء يوم قيامته.
(4) ظهوره للرسل يوم صعوده الذي ذكره أيضاً بولس.
وفي مرقس ورد ذكر ظهوره ثلاث مرات:
(1) لمريم المجدلية.
(2) للتلميذين على طريق عمواس.
(3) للاثني عشر.
وذكر يوحنا ظهور المسيح أربع مرات:
(1) لمريم المجدلية.
(2) للرسل في غياب توما.
(3) للرسل بحضور توما بعد الظهور السابق بثمانية أيام.
(4) لسبعة من التلاميذ على شاطئ بحر طبرية، وهذان الأخيران لم يذكرهما غير يوحنا.
ونتيجة ما سبق:
(1) صدَّق كل المسيحيين بقيامة المسيح من الأموات بعد أيام قليلة من حدوثها، وعلى بُعد أمتارٍ من قبر المسيح الذي خلا من جسده، وكان القبر الفارغ أساس إيمانهم المتين، وأن نحو 500 أخ كان أكثرهم أحياء حين كتب بولس رسالته قد شاهدوه عياناً بعد قيامته.
(2) لم يشك في قيامة المسيح أحد من المؤمنين، ولا جرى عليها جدال ولا اختلاف بين الأحزاب التي قامت في الكنائس، مع أن تلك الأحزاب قد جرى بينها نزاع وخصام على تعاليم أخرى. وقد اكتفينا بذكر هذه الشهادات لمعجزة القيامة لتعذُر إنكارها على ألدّ أعداء الدين المسيحي وأوسعهم علماً وأكثرهم مقاومة له واجتهاداً في نقض أسسه، ولذلك فهي ذات أهمية في هذا الشأن وقيمة عظيمة.
ومن الأدلة الكثيرة على صدق هذه المعجزة غير ما ذكرنا شهادة المسيح نفسه، وجميع كَتبة الإنجيل، وشهادات الجماهير من معاصري المسيح وأهل القرون الأولى بعد العصر الرسولي. ومن هذا إجماع الكنيسة على نقل يوم الراحة من اليوم السابع من الأسبوع إلى اليوم الأول منه، تذكاراً لقيامة المسيح. فإن كان المسيح لم يقُم فلا يمكن تعليل تأسيس الكنيسة على قيامته وثباتها إلى الآن، بل كان يُنتظر أن ديانته تتلاشى، وأن الذين آمنوا به قبل موته يقعون في اليأس وخيبة الأمل. وأما افتراض البعض أن الرسل قد خُدعوا أو خَدعوا غيرهم في ذلك فمستحيل. وكذلك القول إن البعض سرقوا جسد المسيح ونادوا كذباً أنه قد قام. فلو كان ذلك من عمل التلاميذ للزم أنهم من أخدع أهل العالم. ولو كان من عمل اليهود لأتوا به دليلاً على عدم قيامته. ولا يمكن برهنة الادعاء أن المسيح أُغمي عليه أو تظاهر بالموت ولكنه لم يمُت حقاً. مع أن الرومان صلبوه ليميتوه، وجرحوه جراحاً مميتة ليتحققوا موته، ولم يقبلوا بدفنه إلا بعد أن أعطى قائد المئة شهادته بأنه مات (وشهادته تشبه شهادة طبيب الصحة في أيامنا) ثم وضعوه في قبرٍ وختموه ووضعوا عليه حراساً. وكذلك الادعاء أن الرسل إنما رأوا المسيح في الرؤيا فقط عدة مرات، فنادوا بقيامته. ومستحيل أن جمهوراً من البشر يرى كل منهم تكراراً رؤيا واحدة مرة واحدة في وقت واحد ويتوهَّم صدقها، ثم لا يعود أحدٌ منهم يرى تلك الرؤيا. ثم يتوهمون استماع مواعظ تتضمن توبيخاً وأوامر ومواعيد من فم الذين رأوه في الرؤيا فقط، مثل قول المسيح بعد قيامته للتلميذين اللذين ظهر لهما على طريق عمواس «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان» وأمره الرسل أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم، وأن يقيموا في مدينة أورشليم إلى أن يُلبَسوا قوة من الأعالي. وأيضاً أكله وشربه معهم ليبيّن لهم أنه ليس خيالاً بل شخص حقيقي قام من الموت، وتدقيق توما في الفحص ليتحقق هل للمسيح جسد. وهل يُحتمل أن ذلك الجمهور توهموا قيامة المسيح مع أنهم لم يكونوا يتوقعونها، بل أيقنوا أنه مات دون أملٍ عندهم أنه يقوم، أو أنهم انخدعوا بتخيلات باطلة واحتملوا الاضطهاد الشديد ولم يسلّموا بخطئهم. كل ذلك بعيد التصديق وأصعب جداً من تصديق خبر القيامة، وليس له ما يثبته ولا ما يرجحه على الأقل. وإذا ثبت وقوع هذه المعجزة بالأدلة الكافية سهُل علينا تصديق كل ما سواها من المعجزات المذكورة في الكتاب المقدس، وصحّ قول الرسول بولس لأهل كورنثوس في هذا الشأن، وهو أن علامات الرسول صُنعت بينكم في كل صبر بآياتٍ وعجائب وقواتٍ (2كو 12:12).
13 - هل في الكتاب المقدس إشارة لصنع عجائب كاذبة؟
* في الكتاب كلام صريح في ذلك، ومنه نتعلم كيف نميّز بين المعجزات الإلهية الحقيقية والآيات الكاذبة، سواء كانت من أعمال الشياطين أو البشر، ومن ذلك قول موسى «إذا قام في وسطك نبيٌّ أو حالِم وأعطاك آيةً أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلّمك عنها، قائلاً: لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها. فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالِم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم» (تث 13: 1-3). وقول المسيح «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرح لهم: أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (مت 7: 22، 23). «لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يُضلّوا لو أمكن المختارين» (مت 24:24). وقول الرسول في إنسان الخطية إن مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة (2تس 2: 9 ورؤ 13: 11-15 و19: 20).
فنتعلم مما تقدم:
(1) إمكان حدوث عجائب بواسطة الأرواح النجسة أو الأشرار، ونعلم من التاريخ أن بعض البشر (خاصةً السحرة) امتازوا بموهبة خفة اليد في عمل ما هو غريب عند الآخرين.
(2) تتميز المعجزات الكاذبة عن الحقيقية بأنها صُنعت بقوة بشرية أو شيطانية لا بقوة إلهية، ولأجل إثبات تعاليم كاذبة أو ما يخالف الحق الإلهي. ويؤيد ذلك قول المسيح للفريسيين حين اتهموه أنه بقوة بعلزبول رئيس الشياطين يُخرج الشياطين، فقال لهم إن هدف عجائبه يبيّن أنها ليست من الشيطان، لأن الشيطان عدو لا يعمل ما يؤول لإثبات الحق. كما أن اللَّه لا يعمل ما يؤول لإثبات الكذب.
وبناء على ما ذكرنا من قدرة البشر والأرواح النجسة على أعمال غريبة أقام أعداء الدين الدليل على بُطل معجزات الكتاب المقدس، زاعمين أنه لا يمكن التمييز بينهما، وعليه فلا يمكن إثبات صدق المعجزات بالحجة القاطعة. فنجيب : إن معجزات الكتاب المقدس تتميز عن تلك بأن اللَّه صنعها لأهدافٍ تليق به وبعلامات أخرى سيأتي بيانها، وأن تلك غير مصنوعة بقوة اللَّه ولا لإثبات حق، فهي حسب الكتاب مصنوعة إما بقوة شيطانية أو بخداع بشري، ولذلك تُسمى آيات كاذبة.
14 - ما هي علامات تمييز المعجزات الصحيحة من الكاذبة؟
* نشكر اللَّه أن لنا في ذلك دلائل كافية، منها:
(1) تُصنع المعجزة الصحيحة بقوة اللَّه، وتوافق صفاتها أصلها الإلهي. فإذا درسنا معجزات الكتاب المقدس رأينا أنها تفوق قدرة البشر، وتليق أن تُنسب إلى اللَّه، ورأينا أن بينها وبين العجائب الكاذبة فرقاً شاسعاً. فكر في معجزات الكتاب، كالضربات العشر، وعبور البحر الأحمر، وإنزال النار على مذبح جبل الكرمل، وقتل جيوش سنحاريب، وصعود إيليا في مركبة نارية، وإقامة الأموات وإسكات العواصف والزلازل، وشفاء ألوف من أمراضهم وأسقامهم، وإشباعهم في وقت الجوع. وقارن هذه المعجزات العظيمة وأنت تفكر في العجائب الكاذبة التي ذُكرت في أبوكريفا العهد الجديد عن المسيح وهو ولد، إذ حوّل الأولاد إلى صغار الماعز لأنهم رفضوا أن يلعبوا معه، وقتل غيرهم لأنهم صدموه بدون قصد وهم يركضون، ولعن معلّمه لأنه رفض أن يعلّمه الأبجدية العبرانية على الترتيب الذي استحسنه هو، وعمل من الطين عصافير حية أطلقها في الهواء فطارت، ودخل دكان صباغ في غيابه ووجد فيه عدة قطع من النسيج يجب أن تُصبغ بألوان مختلفة، فطرحها كلها دفعةً واحدة في آنية الصبغ ثم أخرجها، وإذا كل قطعة مصبوغة باللون المطلوب صبغها به! ولما كان طفلاً يرضع من أمه كان بالقرب منها نخلة، فأمرها أن تنحني لتأكل العذراء من بلحها فصار كذلك، وبعد أن أكلت وشبعت انتصبت النخلة بأمره كما كانت.
(2) صُنعت المعجزات الصحيحة لتثبت نظاماً جديداً أو لتُجري تقدّماً في نظام قديم مما لا يحقّ لأحدٍ أن يفعله إلا اللَّه وحده، فالمعجزة في هذه الحالة ختمٌ على إعلان إلهي. وهكذا كانت جميع معجزات العهد القديم إما لإثبات إعلانات جديدة، أو لإجراء تغييرات في أحوال الشعب الدينية، أو ردّهم إلى اللَّه. وكذلك كانت معجزات العهد الجديد لإثبات تغيير عظيم في إبطال رسوم العهد القديم وإقامة نظام العهد الجديد. أما العجائب الكاذبة فلا تتعلق بشيء من ذلك.
(3) تدل المعجزة الصحيحة على عظمة صانعها الأصلي وكانت قليلة الحدوث، فلم تُصنع إلا في أوقات خاصة. وتتميّز الصحيحة عن الكاذبة في أنك ترى فيها لأول وهلة غِنى نعمة اللَّه واتساع قدرته وكثرة وسائطه، لأن الموتى يُقامون والمرضى يُشفون والجياع يُشبعون، وتخضع القوات الطبيعية لكلمته والعناصر لأمره. أما أصحاب العجائب الكاذبة فمحصورون في دائرة ضيقة جداً لا يقدرون أن يتجاوزوها، خوفاً من الوقوع في صعوبات لا يقدرون أن يتخلّصوا منها. وليس بين العجائب الكثيرة التي ادَّعوها ما يستحق أن يُقارن بواحدة من معجزات اللَّه!
أما الأزمنة الخاصة التي صُنعت فيها المعجزات الإلهية فهي أربعة: زمن موسى ويشوع، وزمن إيليا وأليشع، وزمن دانيال ورفاقه، وزمن المسيح والرسل، وذلك لشدة الحاجة إليها في تلك الأوقات. وفي غير هذه الأزمنة صنع اللَّه معجزات قليلة. أما أهل العجائب الكاذبة فيصنعونها على الدوام، كأن الديانة الإلهية محتاجة كل حين للإثبات!
(4) تُصنع المعجزة الصحيحة علانية وتقبل الامتحان بالحواس البشرية. ولما كان المقصود منها إثبات الحق للبشر صُنعت أمام عيونهم بطريقة يمكنهم بها أن يتحققوا من صدقها. وإذا نظرنا لمعجزات الكتاب المقدس رأينا أن جميعها من هذا النوع، خلافاً للعجائب الكاذبة التي لا تخلو أبداً من الشبهة، لأنها مصنوعة بخفة اليد البشرية والتدابير السابقة. وكلها إما أعمال طبيعية أو حيل خداعية لا يصنعونها إلا أمام الراغبين فيها والذين يميلون للاقتناع بها بسهولة.
(5) للمعجزات الصحيحة شهادات كافية من شهود أفاضل مخلصين، وتتميّز عن سواها بثلاثة أمور: (أ) خلو الشهود من الغرض ووجودهم في مكان صُنعها بدون اتفاق سابق بينهم، فكانت غير منتظرة منهم، وكانت تُصنع في الأسواق والبيوت والمجامع والصحاري، في النهار والليل أمام الجميع من الأحباء والأعداء، كالفريسيين والكتبة. أما العجائب الكاذبة فإن الذين يدّعونها يصنعونها غالباً على انفراد أو بمحضر أشخاص من الشعب معيّنين سابقاً وفي أوقات معلومة، وبذلك يسهل عليهم إتمام الترتيبات المسبّقة لصنعها. وهم يختارون الذين تُصنع أمامهم ليشهدوا بها لصالح صانعيها والمستعدين لتصديقها. ولأن معجزات الكتاب المقدس صحيحة لم يخش الرسل من أن يستشهدوا بها. قال بطرس «يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قِبَل اللَّه بقواتٍ وعجائب وآيات صنعها اللَّه بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون» (أع 2: 22). (ب) إخلاص الشهود وتقواهم وحسن سيرتهم واحتمالهم المشقات والأخطار لأجل تأدية شهادتهم. وهذا ما نراه في رسل المسيح الأمناء الأتقياء، الذين عيَّنهم اللَّه وأرسلهم لينادوا بالمسيحية، وكثرة ما احتملوه بسبب شهادتهم من الاضطهاد، ومع ذلك لم ينكروا شهادتهم ولا كتموها. ومما يزيد الثقة بشهادتهم الأسفار التي كتبوها، لأنه من المحال أن يخترعوا ما كتبوه من أعمال المسيح وتعاليمه لو لم يكونوا قد رأوا ذلك بعيونهم وسمعوه بآذانهم. (ج) كان بعض الذين شاهدوا المعجزات من ألدّ أعداء المسيحية، ومع ذلك لم يقدروا أن يحرّفوا حقيقة المعجزة ويثبتوا بُطلها، وقد مرت قرون دون أن يجسر أحدٌ من الملحدين أن ينكر حدوث المعجزات، بل سلموا بها، غير أنهم نسبوها إلى غير قوة اللَّه. وقد جاء في التلمود أن المسيح عمل أعمالاً غريبة، وذكر ذلك أيضاً بيلاطس البنطي في سجل أعماله الذي قدمه إلى إمبراطور روما.
(6) تحتمل المعجزة الصحيحة كل امتحان لتحقّق صدقها، وحدث ذلك في كل معجزات الكتاب. فلما شفى المسيح المولود أعمى، فحص أعداؤه هذه المعجزة بالتدقيق وتحققوا صدقها (يو 9). ولما أقام لعازر من الموت، وتحقق اليهود ذلك بالامتحان الكافي واقتنعوا به، تشاوروا ليقتلوا لعازر ليبطلوا تأثير تلك الحادثة في عقول الجمهور (يو 11). وحدث هذا في كل معجزات الكتاب، حتى لم يقدر أحدٌ ممن بحثوا عنها أن ينكروا واحدة منها.
(7) للمعجزة الصحيحة شهادة متواصلة من جيل لآخر، فلم تُفقد الأدلة عليها، فقد عيَّن اللَّه أشخاصاً أمناء ليكتبوها في أسفار قانونية قرب وقت حدوثها، واستودع تلك الأسفار للكنيسة التي حافظت عليها بكل أمانة. وهو يقيم على الدوام أمناء ينادون بها، وعيَّن ما يُذكّر دائماً بصدق حدوثها كيوم الأحد الذي هو تذكار معجزة قيامة المسيح، وعيّن المعمودية والعشاء الرباني، والكنيسة بجملتها، والديانة المسيحية. تلك كلها تذكارات غير منقطعة لا نظير لها في المجد والقوة. وليس بين الحوادث القديمة ما له من الشهادة الكافية كالمعجزات الصحيحة. وكل من قارن الأدلة على صدق معجزات الكتاب بالأدلة على صدق العجائب الكاذبة يرى في الحال ما بينهما من الفرق، مما يقنعه بصدق تلك وكذب هذه، إلا إذا كان من المكابرين!
15 - ما هي فائدة المعجزات في إثبات المسيحية؟
* تأسست المسيحية على إعلان فائق الطبيعة من عند اللَّه، فأيدها اللَّه بالمعجزات ليثبت صدقها للبشر. وليس معنى هذا أن اللَّه عاجز عن إثبات إعلانه بدون المعجزات، لكنه رأى بحكمته الأزلية أن المعجزات دليل يقنع البشر بصدق ما أعلنه. فالمعجزات إذاً مفيدة للبشر لتقنعهم بصدق دين اللَّه. ونفي المعجزات يبطل صدق الشهادات التاريخية للمسيحية، ويجعلنا نشك في صدق المسيح ورسله، ويقلل من شأن الكتاب المقدس ويجعله كالخرافات والقصص الباطلة، لأننا إذا رفضنا المعجزات نرفض صحة الحوادث التي وردت في الكتاب.
وتظهر فائدة المعجزات من لزومها لإثبات رسالة معلّميه الأوّلين، وصدق ما علَّموه من الحقائق الإلهية، بدليل أن الخالق الذي يعلم جميع احتياجاتنا أكثر مما نعلمها نحن قد أثبت كل حقيقة أعلنها للبشر بالآيات والعجائب. وتظهر أيضاً من سمو ما تتضمنه الأسفار الإلهية من إعلانات اللَّه. على أن المعجزات ليست الدليل الوحيد على صدق الديانة، بل لها أدلة أخرى كثيرة يقينية، كرفعه أخلاقياتها، وموافقة تعاليمها لاحتياجات البشر الساقطين. وفي الكتاب المقدس آيات كثيرة تعلن أهمية المعجزات لإثبات المسيحية، مثل أع 2: 22 ويو 5: 20، 36 و10: 25 وعب 2: 4.
16 - ما هي فائدة المعجزات في نظام المسيحية؟
* للمعجزات فوائد كثيرة منها:
(1) إنها برهان لمجد المسيح، الذي عاش في هذا العالم بكل اتضاعٍ، ولم يكن في أحواله الدنيوية ومعيشته الجسدية ما يدل على مجده الإلهي، ولذلك كان صنعه المعجزات بقوته الذاتية دليلاً قاطعاً على أنه قادر على كل شيء، وأن في يده كل سلطان، وأنه اللَّه. وهذا ما أقنع نيقوديموس بأن المسيح مرسَل من قِبَل اللَّه فجاء إليه يطلب الإرشاد بالرغم مما اعترضه من الموانع، وقال «يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من اللَّه معلماً، لأن ليس أحدٌ يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن اللَّه معه».
(2) إنها إعلان عن أهداف المسيح لخير البشر الروحي وإنقاذهم من شقاء الحال الذي سقطوا فيه، فكانت معجزاته شفاء أمراض البشر الجسدية ورفع بلاياهم وبركته عليهم وإصلاح أحوالهم. وأعلنت هذه أنه المنقذ العظيم من المصائب الروحية، وأنه سيطهّرهم من آثامهم ويُدخلهم الراحة السماوية. فكما وهب البصر لعيون العميان هكذا يهب البصيرة لقلوبهم. وكما أقام الموتى بالجسد هكذا يقيم موتى الخطايا ويقوي آمالهم بأنه سينزع سلطان إبليس وكل جنوده، ويخلص شعبه من عبودية ذلك العدو.
(3) إنها دليل على سمو شأن الشريعة الأخلاقية وأهميتها، لأن المعجزات ترينا أن ثبات القوانين الطبيعة أمر ثانوي عند اللَّه بالنسبة إلى ثبات الشريعة الأخلاقية، وأنه لا يتأخر عن توقيف قوانين الطبيعة لأهدافٍ أخلاقية، ولإثبات سلطته على أرواح البشر. فإن المعجزات تدل على سمو الأهداف الأخلاقية على كل الطبيعيات، كما تدل على قوة اللَّه وأمانته وحكمته ورحمته، فهو يُجري الأعمال الفائقة لخير البشر، كإعلان نفسه لهم وتحريرهم من عبودية الخطية.
(4) إنها دليل على صدق الكتاب المقدس، لأن كتَبَته أثبتوا صدق رسالتهم وتعاليمهم بصنعهم المعجزات علانية أمام أعين البشر. وبما أنهم كانوا أمناء يخافون اللَّه، مجتهدين في العيشة الطاهرة وصنع الخير والإحسان لبني جنسهم، يُستبعد أن تكون معجزاتهم أكاذيب قصدوا بها خداع البشر، خاصةً إذا نظرنا لكثرة عددها وأشكالها، ولفظاعة نسبة الخداع إلى المسيح. فالمعجزات هي ختم اللَّه على كل تعاليم رُسُله. قال القديس أغسطينوس «لولا المعجزات لما كنتُ مسيحياً». ولولا إثبات المسيح لاهوته بتلك الأعمال المقنعة لكان عدم الإيمان به من أصغر الخطايا، لأنه قال «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحدٌ غيري لم تكن لهم خطية». وله أقوال أخرى تبين فائدة المعجزات في إثبات رسالته ورسالة كل الذين اختارهم وأرسلهم ليعلّموا الناس ما كشفه لهم من الحقائق.
17 - هل تستغني المسيحية عن دليل المعجزات؟
* لما كان دليل المعجزات من أقوى الأدلة وأهمها على صدق المسيحية، كان التغاضي عنها أو نفي صحتها خللاً صريحاً، بل يلزم عن ذلك بطلان المسيحية لأنها تكون مؤسسةً على الخداع والكذب. ولإيضاح ذلك نقول إن إنكار قيامة المسيح ينقض الأساس الذي بُني عليه صدق الدين، ويلقي الشبهة على صحة كل حوادثه. وبما أن اللَّه أقام المعجزات شهادة لصدق رُسُله ليعلّموا الشعب ديانته، كان رفضها بمثابة نسبة الكذب إلى اللَّه ورُسله، وكانت المسيحية ديناً طبيعياً لخلوّها من أهم أركان الدين الجوهرية، كالتجسد والوحي والقيامة، وكانت شهادة المسيح نفسه «الشاهد الأمين الصادق» غير صحيحة، وكذلك شهادة جميع رسله، وكانت المسيحية ليس طبيعيةً فقط، بل خداعاً وكذباً أيضاً. وقد فشل كل الذين حاولوا أن يثبتوا المسيحية مع إنكارهم صحة المعجزات بل أفضى بهم ذلك إلى النتيجة الضرورية وهي إنكار الدين أيضاً.
18 - هل تُضعِف قِلّة حدوث المعجزات في الأزمنة التالية قوة دليلها على صدق الكتاب المقدس؟
* لا. لأن ما حدث في زمنٍ ما (إذا كان صحيحاً في نفسه) يبقى صحيحاً في كل زمان، لا يتأثر في صحته ولا يُنفى صدقه. غير أن إثباته لأهل القرون المتتابعة يحتاج إلى شهادات كافية قاطعة على سلامة النقل وخلوه من كل تحريف وزيادة ونقصان. وقد عيّن اللَّه وسائط ليُبقي شهادته قوية، منها:
(1) ألهم أناساً أمناء تحققوا وقوع المعجزات، فدوّنوها في الأسفار المقدسة التي أوحى إليهم بها.
(2) أقام جماعة (هي الكنيسة) بنظام ثابت دائم، واستأمنها على تلك الأسفار لتحفظها بكل عناية، ولتنادي بما حوته من التعاليم والمعجزات والحوادث.
(3) أقام تذكارات دائمة للحوادث التي قصد إبقاء ذكرها، كالعشاء الرباني الذي هو تذكار موت المسيح، ويوم الأحد الذي هو تذكار قيامته، والكنيسة التي هي تذكار كل تعاليمه ومحبته لبني البشر.
(4) ذكرت المؤلفات والتواريخ غير الدينية (التي كُتبت في العصر المسيحي الأول) الحوادث التي وردت في الكتاب المقدس، ومن ذلك سجلات الحكومات التي عاصرت الأحداث كسجلات الشعب اليهودي المدنيّة، وسجلات المملكة الرومانية التي ورد فيها ذكر بعض حوادث الدين المسيحي. فالوسائط المتقدمة كافية بنفسها، فضلاً عن عناية اللَّه الخاصة لإبقاء ذكر حقائق كالمعجزات من دورٍ إلى دور إلى انقضاء العالم على سلامتها دون أن يشوبها أدنى خلل أو فساد يضعف قوتها أو يقلل شأنها.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل العشرون

الملائكة


ذكر الكتاب المقدس درجةً من المخلوقات العاقلة أعلى من الإنسان في الطبيعة والقوة، ولهم علاقات مختلفة بالإنسان في تاريخ الخليقة وأعمال العناية الإلهية ونظام الفداء، يسمّيهم «أرواحاً» و«ملائكة» ويصفهم بسموّ القوة واختلاف الدرجات، ويقول إنهم امتُحِنوا وسقط بعضهم، فانقسموا قسمين: أخيار وأشرار. فالأخيار يخدمون العزَّة الإلهية ويقومون بأعمال العناية، خاصةً ما يتعلق منها بالمقاصد الأزلية في عمل الفداء منذ بدايته على الأرض وحتى نهايته في الدينونة.
1 - ما معنى كلمة «ملائكة» في الكتاب المقدس؟
* معناها الأول واحدٌ في اللغات العبرية واليونانية والعربية وهو «رسول». واستُعملت في الكتاب المقدس لكل ما يستخدمه اللَّه لإجراء مقاصده وإعلان ذاته وقوته، فجاءت فيه بمعنى «رسول عادي» (أي 1: 4 و1صم 11: 3 ولو 7: 24 و9: 52). وجاءت بمعنى «نبي» (إش 42: 19 وحج 1: 13 وملا 3: 1) وبمعنى «كاهن» (ملا 2: 7) وبمعنى «خادم العهد الجديد» (رؤ 1: 20). واستُعملت أيضاً لغير العاقل كعمود السحاب (خر 14: 19) والرياح (مز 104: 4). وسُمّي الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس «ملاك حضرته» و«ملاك العهد» (إش 63: 9 وملا 3: 1). وسُمّيت الأوبئة «ملائكة أشرار» (مز 78: 49) ودعا بولس الشوكة في جسده «ملاك الشيطان» (2كو 12: 7). ولكن كلمة «ملاك» اشتهرت باستعمالها للأرواح السماوية الذين يستخدمهم اللَّه ليُجروا إرادته (مت 25: 31) فعُرفوا باسم «ملائكة اللَّه».
2 - ما هي الأدلة على وجود الملائكة؟
* الاعتقاد بوجود الملائكة مؤيَّد بالدلائل العقلية، ولا يناقض العقل. وقد اعتقد فلاسفة اليونان القدماء كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو بوجود درجة أو درجات من الخلائق متوسطة بين البشر واللَّه. ورأى بعض المسيحيين عدم محدودية اللَّه، واتساع الكون بما فيه الكائنات الكثيرة العدد، متدرّجة كدرجات سُلّم، تبدأ من العدم (أي عدم وجود كائن) إلى كائن غير محدود، ولاحظوا أن المسافة بين الإنسان وأدنى المخلوقات مشغولة بدرجات مختلفة من الخلائق، فاستنتجوا من ذلك أن المسافة بين الإنسان واللَّه لا بد تكون غير محدودة، ولا تكون خالية من الخلائق. فإذا ثبت وجود خلائق على درجات مختلفة في هذه المسافة القصيرة بين أدنى المخلوقات والإنسان، فلا بد أن الخالق لم يترك المسافة بينه وبين الإنسان بدون مخلوق. وهذا القول ترجيحي فقط، لأنه لا بد يبقى بين أعلى المخلوقات واللَّه غير المحدود مسافة غير محدودة. ولذلك لابد من إيراد أدلة أقوى من الأدلة العقلية، وهي:
(1) ورود ذكر الملائكة وخدمتهم في العهد القديم وفي عصر المسيح. صحيح أن الصدوقيين أنكروا وجود الملائكة كما أنكروا وجود الأرواح، ولكنهم كانوا مخطئين، فقد ذكرت التوراة الملاكين اللذين زارا سدوم (تك 19: 1) والملائكة الذين لاقوا يعقوب (تك 32: 1) والملاك الذي ضرب أورشليم (2صم 24: 17) والذي مسَّ إيليا (1مل 19: 5) والذي ضرب جيش الأشوريين وأباد جبابرتهم (2مل 19: 35 و2أي 32: 21) والذي أُرسل إلى دانيال وهو يصلي (دا 9: 21). وقيل «إلى ملائكته نسب حماقةً» (أي 4: 18). «لأنه يوصي ملائكته بك» (مز 91: 11) «باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوةً» (مز 103: 20) «سبحوه يا جميع ملائكته» (مز 148: 2).
(2) ذكر العهد الجديد وجود ملائكة، فعلّم المسيح أن الملائكة يفرحون بالخطاة متى تابوا (لو 15: 10) وأنه متى أتى ثانية تصحبه كل الملائكة (مت 25: 31) وأن من أنكره على الأرض قدام الناس ينكره هو في السماء قدام ملائكة اللَّه (لو 12: 9). وفي أقوال الرسل عبارات كثيرة تدل على وجود هذه الطبقة السامية من الكائنات، وتشرح عملها في إجراء العناية الإلهية وفي سر الفداء.
3 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في طبيعة الملائكة وصفاتهم؟
* هم أرواح (عب 1: 14) غير ماديين، لا ندركهم بالحواس، ولا خبرة شخصية لنا بوجودهم، لا بحواسنا ولا بمشاعرنا. ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم إمكان ذلك. ولم ينكره غير الملحدين، لأنه إذا انتفى وجود الأرواح المجردة المحدودة انتفى أيضاً خلود الإنسان، فيكون موت جسده زوال وجوده نفساً وجسداً. ومن صفات الملائكة:
(1) إنهم أشخاص، لأنهم خلائق متوسطة بين الإنسان واللَّه، أعلى من الإنسان ودون اللَّه، ولهم صفات وقوى شخصية كالعقل والإرادة والعواطف ونحوها.
(2) إنهم أصحاب قوة وعظمة، يقول عنهم الكتاب «باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوةً» (مز 103: 20). «مع ملائكة قوته» (2تس 1: 7). «حيث ملائكة وهم أعظم قوةً وقدرةً» أي أعظم قوةً وقدرةً من الإنسان (2بط 2: 11). «ورأيت ملاكاً قوياً» (رؤ 5: 2) «ورفع ملاك واحد قوي» (رؤ 18: 21). غير أن قوة الملائكة ليست إلهية بل هي قوة مخلوقة محدودة مستمدة من اللَّه، وغير مستقلة عنه وخاضعة لإرادته.
(3) إنهم يفوقون البشر في القوى العقلية والمعرفة، لقرب مقامهم من اللَّه وخدمتهم له على الدوام وما يفعلونه من الأعمال الرفيعة، وهذا واضح من قول المسيح: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحدٌ، ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده» (مت 24: 36). وقول بولس «إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة» (1كو 13: 1) ومعناه: إن كنت أتكلم بأبلغ حكمة أو أبلغ فصاحة. ومع ذلك فإن معرفتهم محدودة كقوتهم لأنهم مخلوقون، والمعرفة غير المحدودة خاصة باللَّه وحده.
هناك تعاليم خاطئة بخصوص الملائكة:
(1) إنهم انبثاقات من اللاهوت، ولو أنها زائلة.
(2) إنهم انبثاقات من اللاهوت باقية، وهو مذهب الغناطسة.
(3) إنهم غير موجودين حقيقة، وإن ما جاء في الكتاب المقدس عنهم هو مجرد تخيّلات شعرية أو من خرافات العامة، نقله الكتبة القديسون مجاراةً لأهل عصرهم. وهذا هو مذهب العقليين وهو باطل، أولاً: لأن المراجع التي يستندون عليها ضعيفة. وثانياً: لأنه يلزم عنه رفض سلطان الكتاب كله، أو اتخاذ مبادئ تفسير تنقض قوته وتنفي أنه قانون الإيمان الوحيد.
ولما لم يكن في الكتاب المقدس نص على أن للملائكة أجساداً كانت أقوال العلماء في هذه المسألة مبنية على الترجيح العقلي، فقال بعضهم إن لهم أجساداً، ونفى غيرهم ذلك. والأرجح أن لهم أجساداً لطيفة جداً مثل النور والهواء لا نقدر أن نراها. فإذا أمكن وجود مادة كالهواء الذي نتنفَّسه ولا نقدر أن نراه، فلماذا لا يكون للخلائق العاقلة السامية أجسادٌ روحية غير منظورة تعمل بها كما يعمل الإنسان بجسده الحيواني الكثيف؟ وقال بولس إنه «يوجد جسمٌ حيواني وجسمٌ روحاني» وأوضح الفرق بينهما (1كو 15: 40-50). فالاعتقاد أن للملائكة أجساداً روحية أفضل من الاعتقاد أنهم جوهر بسيط أو أرواح بالمعنى المفهوم في شأن اللَّه.
وقد اعتقد كثيرون من الآباء أن للملائكة أجساداً روحانية كيوستينوس الشهيد وأثيناغورس وإيريناوس وأكليمندس الإسكندري وترتليان وأغسطينوس. وفي سنة 787م حكم مجمع نيقية الثاني أن للملائكة أجساداً لطيفة من النار أو الهواء استناداً على بعض آيات الكتاب المقدس (مثل: أي 1: 6، 7 و38: 8 ودا 10: 6 ومت 28: 3 ومر 16: 5 ولو 24: 4 وأع 1: 10 و12: 7 و2كو 11: 14 ورؤ 10: 1). وفي سنة 1215م نقض المجمع اللاتراني هذا الحكم ونادى بأن الملائكة بدون أجساد. ووافقه في ذلك بطرس اللمبردي وكثيرون من علماء اللاهوت، وقالوا إن الأجساد التي ظهروا فيها أحياناً غير حقيقية. ولا يزال الاعتقاد أن للملائكة أجساداً روحانية هو الاعتقاد المرجح عند كثيرين.
4 - استنتاجاً من الكتاب المقدس، متى خلق اللَّه الملائكة؟
* ليس في الكتاب المقدس كلام صريح في ذلك، فقال البعض إنهم خُلقوا بعد الإنسان، بدليل أن اللَّه لما أبدع الكائنات الأرضية ابتدأ من الأدنى إلى الأعلى إلى أن خلق الإنسان، ثم تقدم بعد ذلك إلى ما هو أعلى منه فخلق الملائكة. وهذا يخالف نص الكتاب على وجود ملائكة في السماء قبل وجود البشر على الأرض بدليل ما يأتي:
(1) حين خلق اللَّه الإنسان حاول كائنٌ خبيث كان قبله أن يخربه ويبيده (تك 3: 1-7). وكان هذا المخرِّب ملاكاً ساقطاً.
(2) لما أجاب الرب أيوب من العاصفة قال له «أين كنت حين أسستُ الأرض.. عندما ترنّمت كواكب الصبح معاً، وهتف جميع بني اللَّه» (أي 38: 4-7) والتفسير المشهور أن «بني اللَّه» هم الملائكة. فالملائكة كانوا موجودين حين وُضعت أسس الأرض. وأما الإنسان فهو تاج المخلوقات ليس لأنه آخرها!
5 - بحسب الكتاب المقدس، ما هو عدد الملائكة، وماذا عن أمانتهم ودرجاتهم؟
* (1) إذا استنتجنا وجود الملائكة من عدم محدودية اللَّه، ومن اتساع الكون، نستنتج أيضاً أنهم كثيرون. وقد أكد لنا الكتاب ذلك، من قول ميخا بن يملة النبي «رأيت الرب جالساً على كرسيه وكل جند السماء وقوفٌ لديه، عن يمينه وعن يساره» (1مل 22: 19). ولما نزل اللَّه على جبل سيناء ليعطي الشريعة لبني إسرائيل قيل «أتى من ربوات القدس (أي الملائكة)» (تث 33: 2). وفي جثسيماني قال المسيح لبطرس «أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة؟» (مت 26: 53). وكلمة «جيش» في اليونانية (على رأي المؤرخ جيبون) تعني اثني عشر ألفاً وخمس مئة. وقال دانيال «ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه» (دا 7: 10). وقيل أيضاً «وظهر بغتةً مع الملاك جمهور من الجند السماوي» (لو 2: 13) «بل قد أتيتم إلى جبل صهيون.. وإلى ربوات هم محفل ملائكة» (عب 12: 22). «ونظرتُ وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والحيوانات والشيوخ، وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف» (رؤ 5: 11). فالقول «ألوف ألوف» و«ربوات ربوات» يدل على أعداد لا تُحصى.
(2) أما عن أمانتهم، فقد غزت الخطية عالم الملائكة كما غزت عالم البشر، فانقسموا إلى قسمين: (أ) الذين ثبتوا على أمانتهم للَّه وللحق، ولذلك دُعوا «المختارين والمقدسين» (1تي 5: 1 ومت 25: 31). «مختارون» لأن اللَّه اختارهم منذ الأزل وحفظهم من السقوط. و«مقدسون» لأنهم في آدابهم وسيرتهم يشابهون طبيعة اللَّه، ويطيعون إرادته. ولما كان العدد الذي لا يُحصى هم القسم الأعظم من الملائكة، يكون عدد الساقطين قليلاً. (ب) الذين سقطوا ولم يثبتوا على أمانتهم للَّه وللحق. وفي العهد القديم إشارات جلية إليهم، منها ظهور الشيطان بهيئة حية في عدن ليجرب أبوينا الأوَّلين (تك 3: 1 ورؤ 12: 9) وظهوره ليجرب أيوب (أي 1: 12) ولما قام يهوشع الكاهن العظيم أمام ملاك الرب قام الشيطان عن يمينه ليقاومه (زك 3: 1). وذُكر أنه كان في أفواه الأنبياء الكذَبة أرواح كذب (2أي 18: 21). ويقول العهد الجديد إن إبليس جرَّب المسيح، آدم الثاني (مت 4: 1) وقال بطرس إن اللَّه لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا (2بط 2: 4). وتحدث يهوذا عن الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم (يه 6). وفي اليوم الأخير يقول المسيح للذين عن اليسار «اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدَّة لإبليس وملائكته» (مت 25: 41). ونستنتج من الكتاب المقدس أن عدد هؤلاء الأشقياء قليل بالنسبة إلى عدد الملائكة الأبرار.
(3) درجاتهم: هم متفاوتون في الرتب (أ) فقد قيل عن جبرائيل إنه ميَّز نفسه عن غيره من الملائكة بأنه هو «الواقف أمام اللَّه» (لو 1: 19) مشيراً بذلك لرتبته. وقيل في ميخائيل إنه واحدٌ من الرؤساء الأوَّلين (دا 10: 13) ويؤيد ذلك أيضاً الألقاب المنسوبة إليهم مثل «رئيس الملائكة» و«رؤساء» و«سلاطين» و«قوات» و«سيادات» (أف 1: 21 وكو 1: 6 ويه 6). (ب) ونستدل على ذلك من التفاوت في الدرجات بين الملائكة الساقطين الذين ذُكر أن بينهم رؤساء (مت 9: 34 وأف 2:2). (ج) نستدل على ذلك أيضاً من وجود التفاوت بين البشر وكل الخلائق، فإنه في كل أعمال اللَّه يتغلب وجود الرتب بالتدريج.
6 - ماذا ورد في الكتاب المقدس في شأن وجود رئيس للملائكة؟
* رأينا الملائكة متفاوتين في الرتب والدرجات، وقد وصفهم بولس بقوله «سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين» (كو 1: 16) وقال إنه يوجد رئيس ملائكة (1تس 4: 16) وقال يهوذا «ميخائيل رئيس الملائكة» (يه 9). وخلاصة ذلك نقول:
(1) لم يأتِ لقب «رئيس الملائكة» في العهد القديم إلا في الكلام على ميخائيل أنه واحدٌ من الرؤساء الأولين و«ميخائيل رئيسكم» (دا 10: 13، 21) وقيل أيضاً «ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك» (دا 12: 1).
(2) ورد لقب «رئيس» في العهد الجديد مرتين، في القول «لأن الرب نفسه بهتافٍ، بصوت رئيس ملائكة» (1تس 4: 16) وقال يهوذا «ميخائيل رئيس الملائكة» (يه 9). ففي هاتين الآيتين جاء بصيغة المفرد، في أولهما بالنكرة وفي الثانية معرّفاً. وقال سفر الرؤيا «وحدثت حرب في السماء: ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وملائكته» (رؤ 12: 7). فذُكر هنا ميخائيل كقائد للجنود المقدسين، كما ذكر التنين قائداً للجنود الأشرار. ولكن لا يُستفاد من هذا أن ميخائيل هو الرئيس الوحيد للملائكة، لأن جبرائيل أيضاً ذُكر أنه في مقام عال جداً (دا 8: 16 و9: 21 ولو 1: 19، 26) وقيل أيضاً في دانيال إن «ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين» وذلك دليل على وجود رؤساء بينهم.
7 - ماذا قال الكتاب المقدس في الكروبيم والسرافيم؟
* (1) الكروبيم جمع كروب في اللغة العبرية، وكلاهما مستعملان في الكتاب (تك 3: 24 وخر 25: 19، 22 و1صم 4:4 ومز 18: 10 و80: 1 و99: 1 وحز 10: 2، 14) وفي حزقيال سُمّوا حيوانات (حز 1: 5 و13: 15، 20) أي خلائق حية. ونعرف صفات الكروبيم وأعمالهم من الأحوال التي ظهروا فيها والأسباب التي ظهروا لأجلها. واستُخدمت كلمة «كروب» للصورة المؤلفة من الإنسان والأسد والثور والنسر معاً. ولما كان كل كائن من هذه مشهوراً، رجح المفسرون أن مجموعها كناية عن أسمى صور المخلوقات الحية في الكون طبيعة وعملاً، وأن الإشارة فيها إلى أن أسمى قوات الخليقة موضوعة لخدمة اللَّه على الدوام. واشتهر الرأي بين علماء اللاهوت القدماء أن لتلك الخلائق الرفيعة الشأن وجوداً حقيقياً لا وهمياً، غير أنهم أخذوا أشكالاً متنوعة بحسب الحاجة، لأهداف خاصة، كما في خيمة الاجتماع في رؤيا حزقيال (1: 10) ورؤيا يوحنا (رؤ 4) وأن لتلك الأشكال معاني رمزية تشير إلى أن الخليقة مستعدة على الدوام لتتمم إرادة اللَّه بعقل الإنسان، وشجاعة الأسد، وصبر الثور، وسرعة النسر. وقد تساءل المفسرون إن كان وجودهم وقتياً أو دائماً؟ ورجح البعض أنهم من الخلائق السماويين الدائمي الوجود كالملائكة، غير أنهم يمتازون عنهم في المقام والخدمة لأنهم قريبون جداً من عرش اللَّه. وقيل في سفر الرؤيا ما يدل على أنهم أحياء عاقلون، لأنهم يسجدون للَّه ولا يزالون نهاراً وليلاً قائلين «قدوس قدوس الرب الإله القادر على كل شيء، الذي كان والكائن والذي يأتي» (رؤ 4: 6-8). ويؤيد ذلك ذكرهم أول مرة في الكتاب على أنهم فعلة عاقلون مقدسون ذوو رتب عالية من الملائكة، وربما من أرفعهم (تك 3: 24).
(2) السرافيم. لم يرد هذا الاسم في الكتاب المقدس سوى مرتين في إش 6: 2-6. ويظن البعض أن الكروبيم والسرافيم اسمان لدرجة واحدة من الملائكة. ويؤيد هذا الرأي ما قاله الكتاب عن الفئتين، وأن الفرق بين أوصاف الكروبيم والسرافيم غير جوهري، كما أن المشابهة بينهما جوهرية، فالذين دعاهم إشعياء «سرافيم» دعاهم حزقيال «كروبيم» ودعاهم يوحنا «حيوانات» وأشاروا جميعاً إلى أنهم فعلة أحياء عاقلون، وإلى أنهم خلائق لأنهم يسجدون للَّه بدون انقطاع. والأرجح أن لهم أعلى رتب الملائكة التي ذكرها بولس في رسائله (أف 1: 21 وكو 1: 16). وعلى ما نستنتج من الكتاب المقدس أن الفرق بينهم وبين الذين يُسمون ملائكة هو في المقام والعمل لا في الطبيعة. فالملائكة يُرسَلون لخدمة ورثة الخلاص، بينما الكروبيم والسرافيم يخدمون يهوه العظيم، ولذلك يلبثون في مجد حضرته وحول عرشه.
8 - ماذا يقول الكتاب المقدس عن عمل الملائكة؟
* يعلّمنا الكتاب أن عملهم هو:
(1) السجود للَّه.
(2) تنفيذ إرادته.
(3) خدمة ورثة الخلاص.
وقيل أيضاً إنهم يحيطون بالمسيح، وإنهم مستعدون على الدوام ليتمموا كل خدمة تُطلب منهم في تقدم ملكوته. وفي زمن العهد القديم ظهروا تكراراً لخدام اللَّه ليُعلنوا لهم إرادته، وضربوا المصريين، وحضروا مع اللَّه لما أعطى الناموس على جبل سيناء، ولازموا بني إسرائيل مدة سفرهم وأبادوا أعداءهم وعسكروا حولهم، سوراً لهم في وقت الخطر، وأنبأوا بولادة المسيح واحتفلوا بها (مت 1: 20 ولو 1: 31 و2: 13). وخدموه في وقت تجربته وآلامه (مت 4: 11 ولو 22: 43) وبشَّروا بقيامته وأنبأوا بصعوده (مت 28: 5، 6 ويو 20: 12 وأع 1: 10، 11) وخلّصوا بطرس من السجن (أع 5: 19 و12: 7) وهم على الدوام يخدمون المؤمنين (عب 1: 14) ويحرسون الأولاد (مت 18: 10) ويحملون نفوس الموتى إلى حضن إبراهيم (لو 16: 22) وسيرافقون المسيح في مجيئه ثانيةً، ويجمعون شعبه إلى ملكوته (مت 13: 39 و16: 27 و24: 31).
وبالإضافة إلى ما سبق نستنتج من الكتاب المقدس أنهم:
(1) يقدرون أن يُجروا أعمالاً في العالم الطبيعي وخارجاً عنه حسب إرادة اللَّه. ولما كانت طبيعتهم أسمى من طبيعتنا، فإنهم يقدرون أن يجروا أعمالاً تفوق إدراكنا، فقد قتل ملاك واحد منهم كل أبكار المصريين في ليلة واحدة.
وقال قدماء اللاهوتيين إنهم يقومون بأعمالٍ عظيمة جداً في العالم الخارجي، وإن كل التأثيرات الطبيعية ناتجة من خدمتهم، حتى أن النجوم تدور في مداراتها بقوتهم. وهذا قول ينقصه الدليل، ولا يحقّ لنا أن ننسب للملائكة عملاً بدون برهان من الكتاب المقدس.
(2) يقدرون أن يعملوا أيضاً في عقول البشر، فيحركونها لعمل الخير بحسب نواميس طبيعتنا باستعمال الوسائط المناسبة. ويختلف تأثيرهم هذا عن تأثير اللَّه والروح القدس فينا في أنهم يعرضون الحق علينا ويرشدون فكرنا كما يؤثر إنسان في آخر. ويقول الكتاب المقدس إن اللَّه فوّض إليهم أحياناً الإرشاد العام والحماية والتقوية الداخلية والتعزية، فقام ملاك بتقوية المسيح في جثسيماني وهو في كآبته، وهو قادر أن يقوي المؤمنين به أيضاً. وإن كان الملائكة الأشرار يقدرون أن يجربوا الإنسان للخطية، فبالأولى أن الملائكة الأخيار يقدرون أن يستميلوه إلى القداسة. وهم يحفظون المؤمنين من أعدائهم، ويحرسون الأطفال (مت 18: 10) ويساعدون الكبار (مز 34: 7) وينقلون المؤمنين إلى دار الخلود (لو 16: 22). ووعدنا اللَّه بالحماية بواسطتهم «لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك» (مز 91: 11، 12) وهو كلام حقيقي لا مجازي بدليل استناد المسيح عليه (مت 26: 53).
(3) يخدمون في تقدم الكنيسة. ففي العهد القديم أُعطيت الشريعة بخدمتهم (أع 7: 53 وعب 2:2) وأوصاهم اللَّه بشعبه (مز 91: 11، 12) وفي العهد الجديد قيل إنهم يحضرون اجتماعات القديسين (1كو 11: 10) وإنهم يحاربون التنين وملائكته (رؤ 12: 7).
وتعليم الكتاب عن خدمة الملائكة يعزي المؤمنين ويفرحهم، لأنه يؤكد لهم أن الملائكة يعسكرون حولهم كجنود العلي نهاراً وليلاً، ويحمونهم من الأعداء غير المنظورين والأخطاء المحيطة بهم على الدوام. غير أننا يجب أن نحترس من الاتكال عليهم ولا يجب أن نطلب منهم المعونة، لأنهم في يدي اللَّه القدير، وهو يستخدمهم لينفذوا إرادته كما يستخدم الرياح والبروق (عب 1: 7) فهم مجرد أدوات في يد الصانع، وليس من الناس من يتكل على الأداة دون الذي يستعملها.
9 - ما هو الرأي الأقرب للصواب في شأن «الملاك الحارس»؟
* قال البعض إن لكل مؤمن ملاكاً حارساً خاصاً، اعتماداً على قول المسيح إن للصغار «ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات» (مت 18: 10) وأيضاً على قول المجتمعين في بيت مريم عن بطرس «إنه ملاكه» (أع 12: 7، 15). فنقول إن الآية الثانية لا تثبت أن لبطرس ملاكاً حارساً خاصاً، لأن ما قيل عن «ملاك بطرس» لم يُنطق به بالوحي (ولو أن ذِكْره في الكتاب كان بالوحي). فلا يصح أن نسند إليها تعليماً ما. كل ما هناك أن هذا كان الاعتقاد العام بين المجتمعين في بيت مريم. وأما الآية الأولى فيظهر منها أن للأولاد ملائكة يحرسونهم ويسهرون على مصالحهم وخيرهم، ولكنها لا تُثبت أن لكل ولدٍ أو مؤمنٍ ملاكاً حارساً خاصاً. وقال معظم المفسرين إن اللَّه كلف ملائكة مخصوصين أن يعتنوا بممالك خاصة بناءً على ما جاء في دانيال من ذكر رئيس مملكة فارس ورئيس مملكة اليونان والقول لدانيال : «ميخائيل رئيسكم» (دا 10) وقالوا: بما أن ميخائيل الذي دُعي رئيس العبرانيين لم يكن ملاك العهد غير المخلوق، ولا رئيساً بشرياً بل رئيس ملائكة، لزم أن رئيس مملكة فارس ورئيس مملكة اليونان هما أيضاً ملاكان. وهذا موضع شك بدليل ما يأتي:
(1) لم ترد في العهدين القديم والجديد إشارة في غير هذا المكان إلى أن لكل أمة وثنية في القديم أو الآن ملاكاً حارساً أو روحاً شريراً موكلاً بها.
(2) سُمّيت القوات القائمة قُبالة الملاك الذي ظهر للنبي أيضاً ملوك فارس (دا 10: 13).
(3) جاء في دانيال 11 ذكر ملوك أرضيين بطريقة يُستنتج منها أنهم هم القوات المضادة المشار إليها، وليس الملائكة الأخيار ولا الأشرار.
10- هل تجوز عبادة الملائكة؟
* ظهر اتجاه في الكنيسة لإكرام الملائكة أكثر مما يليق، حتى أن المجمع السابع المسكوني (النيقوي) سنة 787 م حكم بتقديم نوع من العبادة لهم، تكون أدنى من العبادة التي تُقدم للَّه العظيم، مع أن المجمع النيقوي الأول، وهو من أقدم المجامع وأفضلها قال إنهم مخلوقون. وينهى الكتاب المقدس عن عبادة الملائكة بأمرٍ جاء مرتين ليوحنا: «انظر! لا تفعل. أنا عبدٌ معك ومع إخوتك الذين عندهم شهادة يسوع. اسجد للَّه» (رؤ 19: 10 و22: 9).
11- ما هي أسماء رئيس الملائكة الأشرار في الكتاب المقدس؟
* الشيطان، ومعناه خصم (أي 1: 6 و1أي 21: 1 ومت 4: 10 ولو10: 18). وإبليس، ولم يرد إلا بصيغة المفرد، ومعناه قاذف ومجرِّب والمشتكي (مت 4: 1). والشرير (مت 6: 13) وأبوليون، ومعناه هلاك أي المهلك، وأبدون بنفس المعنى (رؤ 9: 11) وبعلزبول وهو في الأصل اسم إله عقرون أعظم آلهة الفلسطينيين (2مل 1: 2 ومت 12: 24) وبليعال (2كو 6: 15) و ملاك الهاوية (رؤ 9: 11) ورئيس هذا العالم (يو 12: 31) ورئيس سلطان الهواء (أف 2:2) وأسد زائر (1بط 5: 8) والذي من البدء يخطئ (1يو 3: 8) والمشتكي (رؤ 12: 10) وقتّال الناس، وكذاب (يو 8: 44) والحية (2كو 11: 3) والحية القديمة (رؤ 12: 9) والتنين العظيم (رؤ 12: 3، 9) وإله هذا العالم (2كو 4:4) والذي له سلطان الموت (عب 2: 14). غير أن الشيطان وإبليس أشهرها جميعاً، وقد دُعي بهما في الكتاب نحو تسعين مرة.
أما كلمة شيطان فهي عبرية بصيغة اسم الفاعل، مشتقة من الفعل شطن بمعنى كَمَنَ أو ناقض أو خاصم أو قاوم، فيكون معناها خصماً أو مضاداً. وقد جاءت بالنكرة بهذا المعنى في القول «أقام الرب لسليمان خصماً» (وفي العبرية شيطاناً) (1مل 11: 14) وقد ورد الفعل في الكتاب المقدس بلفظه فقيل «أراني يهوشع الكاهن العظيم قائماً قدام ملاك الرب، والشيطان (الخصم) قائم عن يمينه ليقاومه» (وفي العبرية: ليشطنه) (زك 3: ا، 3). ودعا المسيح مرة بطرس «شيطاناً» لأنه وافق مشورة الشيطان وقدمها للمسيح لصالح أهداف الشيطان. وهذا هو المثال الوحيد لاستعمال هذه الكلمة في العهد الجديد لغير رئيس الملائكة الساقطين. وأما كلمة «إبليس» فهي يونانية معربة أصلها «ديابولوس» ومعناها قاذفٌ أو مشتكٍ، وهي أكثر استعمالاً من كلمة شيطان في العهد الجديد. وقد استُعلمتا معاً في جملة واحدة، فقيل «طُرح التنين، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان» (رؤ 12: 9). ويراد بها في العهد الجديد العدو الكبير للَّه وللمسيح ولملكوته وشعبه ولكل الحق، المملوء من الكذب والخبث، الطاغي إلى الشر (مت 4: 1-11 ولو 4: 1 ويو 8: 44 وأع 13: 10 وأف 6: 11 و1بط 5: 8 و1يو 3: 8 ورؤ 12: 9).
12- ماذا يقول الكتاب المقدس في أصل الملائكة الأشرار وسبب سقوطهم؟
* جاء فيه أن بعض الملائكة لم يحفظوا رئاستهم الأولى، وهؤلاء هم الذين أخطأوا، فلُقّبوا «أشرار» و«أرواح نجسة» و«رؤساء» و«سلاطين» و«ولاة العالم.. على ظلمة هذا الدهر» و«أجناد الشر الروحية (الأرواح الشريرة) في السماويات» (لأنهم كانوا من سكان السماء أصلاً. وقيل عن إبليس إنه رئيس سلطان الهواء أف 2:2، لأن قوتهم ليست محدودة بحدود قوة أهل الأرض، وهجومهم غير قاصر على أجساد البشر، بل على نفوسهم الخالدة أيضاً). وجميع هذه الألقاب مع ما تقدم ذكره من أسمائهم وألقابهم تدل على طبيعتهم وقوتهم وصفاتهم. ونرى في الكتاب أنهم خُلقوا أولاً في حالة القداسة ثم سقطوا منها، ولكن لم يعلن لنا فيه شيء عن الوقت الذين سقطوا فيه، ولا المعصية التي سقطوا بها. غير أن علماء الكنيسة قالوا إن خطيتهم الأولى كانت الكبرياء مستندين في ذلك على قول الرسول إن الأسقف يجب أن يكون غير حديث الإيمان «لئلا يتصلَّف فيسقط في دينونة إبليس» (1تي 3: 6). وتفسير هذه الآية أن الدينونة التي استحقها إبليس كانت بسبب خطية الكبرياء كما يُستفاد من القرينة، لأن معنى الفعل تصلف هو «ادَّعى فوق ما عنده إعجاباً وتكبُّراً». وقال البعض إن ما حمل الشيطان على العصيان على اللَّه وإغواء أبوينا الأولين هو الطمع في التسلط على أرضنا وجنسنا. ولكن ليس في الكتاب المقدس ما يؤيد هذا الزعم، لأن الكتاب يذكره أول ما يذكره بصفة ملاك مرتد ساقط، ثم جاء كلام صريح على أنه ملاك ساقط أرفع من رفقائه قدراً وقدرة، وأنه عدو لدود للَّه وللإنسان، ومضاد لكل خير، ومجتهد في انتشار الشر. أما قول العقليين إن الشيطان كناية عن الشر، فيكون الشيطان أمراً معنوياً، لا شخصاً عاقلاً حقيقياً فيخالف الكتاب المقدس وإيمان الكنيسة، بدليل ما يأتي:
(1) ينسب الكتاب المقدس إليه صريحاً الصفات والأعمال الشخصية، فقد جرَّب آدم الأول وألقاه في الخطية (تك 3: 13، 14) وهجم بكل قواه وخداعه وحيله بهذا القصد الخبيث على آدم الثاني (مت 4: 1-11) وحاول أن يغربل التلاميذ مثل الحنطة (لو 22: 31) ويجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه (1بط 5: 8) ويشتكي على إخوتنا، ويضل العالم كله (رؤ 12: 9، 10) وأنه منذ البدء كذاب وقتال للناس (يو 8: 44) وله مملكه مؤلفة من فعلة عاقلين يقاومون ملكوت اللَّه (مت 12: 25، 26) وأنه سيُدان في اليوم الأخير ويُعاقب مع البشر الخطاة الهالكين (2 بط 2: 4 ويه 6 ومت 25: 41).
(2) ما جاء في التاريخ يدل على أنه شخص عاقل وله رفقاء ساقطون مثله. ومن ذلك الكلام على قيام حرب هائلة منذ السقوط بين الخير والشر، نشأت عنها طوائف وثنية وأديان خرافية وفلسفات كاذبة ملأت العالم والزمان، وكلها تدل على قوة عقل إبليس الطاغي، سبب الخطية ومصدرها. وخلاصة ما جاء في أسفار الكتاب المقدس التعليمية والتاريخية أن الشيطان شخص عاقل ذو قوة وسلطان ورُسل وأتباع، وأنه يجرب ويقاوم، وسوف يُحاسَب ويُعاقَب. وفي الكتاب المقدس أدلة كافية على شخصية الملائكة والبشر.
وقال البعض إن اعتقاد وجود الشيطان اشتهر بين العبرانيين بعد السبي من مصدر وثني. ولكن هذا يخالف الكتاب الذي يقول إنه هو الذي جرب أبوينا الأوَّلين، وحاول أن يرد أيوب عن اللَّه. وقد جرت هاتان الحادثتان قبل سبي بابل بزمان طويل. وجاء صريحاً في الكتاب أن الشيطان عدو اللَّه، ورئيس ملكوت الظلمة الذي يشمل كل الخلائق الأشرار، وأن الإنسان بارتداده عن اللَّه سقط تحت سلطانه، وأن خلاص الإنسان يقوم بنقله من ملكوت إبليس إلى ملكوت ابن محبة اللَّه.
وقال آخرون إن الذين قيل عنهم إنهم خاضعون للشيطان هم أرواح البشر الساقطون الذين خرجوا من هذا العالم، لا الملائكة الأشرار. وهذا يتضح بطله:
(1) من التمييز بينهم وبين الملائكة المختارين.
(2) من قول يهوذا إنهم لم يحفظوا رياستهم أو حالتهم الأولى.
(3) من قول بطرس «لأنه إن كان اللَّه لم يشفق على ملائكةٍ قد أخطأوا» (2بط 2: 4).
(4) من تلقيبهم بسلاطين وقوات ورؤساء ونحوها من الألقاب التي تدل على أنهم أسمى من الإنسان أصلاً وأشد منه قوة.
13- ماذا ورد في الكتاب المقدس في قوة الملائكة الأشرار وسطوتهم؟
ورد أنهم كثيرو العدد وأقوياء جداً، وأن لهم سلطاناً في عالمنا، ويقدرون أن يؤثروا في أجساد البشر وعقولهم. ومن أمثلة تأثيرهم في الجسد ما جاء من ذكر عملهم مع أيوب (أي 2: 4-7) ومع بعض المجانين والمصروعين (مر 9: 17-26). ومن أمثلة تأثيرهم في العقل ما فعلوه مع حواء (تك 3: 1-6) وأخآب لما أراد أن يصعد على راموت جلعاد (1مل 22: 20-22) وحنانيا وامرأته (أع 5: 3) والجارية التي كان فيها روح عرافة (أع 16:16) وكل المجانين المذكورين في العهد الجديد لأنهم كانوا مصابين في العقل والجسد. غير أن قوتهم محددة من اللَّه، لا يقدرون أن يغتصبوا أحداً. وينجح كل من يحاول أن يخلع نيرهم ويهزمهم بسلاح اللَّه (أف 6: 13 ويع 4: 7). أما الحدود التي تحصرهم فهي:
(1) إنهم تحت سلطان اللَّه، فلا يقدرون أن يعملوا إلا بإذنه.
(2) ينفذون أعمالهم بموجب نواميس طبيعية.
(3) لا يقدرون أن يُبطلوا حرية الإنسان ومسؤوليته. ومع ذلك فقوتهم عظيمة جداً لأنهم يقدرون أن يستأسروا من يريد من الناس أن يسلم نفسه إليهم، وأن يعملوا في أبناء المعصية. ويحذر الكتاب المسيحيين من خداعهم، ويحثُّهم على مقاومتهم بقوة الرب متسلحين بسلاح اللَّه الكامل.
وبالغ البعض في سلطان الأرواح الشريرة، فنشأت عن ذلك شرور كثيرة، إذ نسبوا إليهم كل الكوارث الطبيعية، كالعواصف والحرائق والأوبئة ونحوها، بل اعتقدوا ما هو أفظع من ذلك، وهو أنهم يقطعون عهوداً مع البشر، وأن الإنسان يقدر أن يعقد اتفاقاً مع الشيطان وينال منه قوة فائقة العادة لأجلٍ مسمّى على شرط أن يسلم الإنسان نفسه للَّهلاك. وفي القرنين 17، 18 حُكم ظلماً على كثيرين ممن اتُّهموا بالسحر والشعوذة والعرافة والكهانة ونحوها مما نُسب إلى عمل الشيطان. وخُدع كثيرون من أهل أوربا بهذه الضلالات واشتركوا في إبادة الذين اتُّهموا بالسحر، وآل ذلك إلى هلاك ألوف لا تُحصى منهم. غير أنه لا يجوز أن نتطرف في إنكار سلطان الأرواح الشريرة في الطبيعة أو في أجساد البشر وعقولهم لنتخلص من الشرور التي تنشأ عن التطرف من الجهة الأخرى. بل يكفي أن نتمسك بتعليم كتاب اللَّه الصريح أن هذه الأرواح لا تقدر أن تعمل إلا بموجب قوانين الطبيعة وحرية الإنسان، وأنه لا يمكن اكتشاف أعمالهم وبيانها بالدليل القاطع أكثر مما يمكن اكتشاف أعمال الملائكة وبيانها. فنحن لا نقدر أن ننسب بالتأكيد إلى فئة منهما تأثيراً خاصاً. فيجب أن نشكر اللَّه لأجل خدمة ملائكة النور غير المنظورة وغير المدركة، وأن نحترس من حيل أرواح الشر ونطلب إلى اللَّه أن يحمينا منها.
14- ماذا يُقال في تجربة الشيطان للمسيح في البرية؟
قال البشيرون إن المسيح بعد معموديته أُصعد إلى البرية من الروح ليُجرَّب من إبليس (مت 4: 1-11). وهناك آراء في كيفية حدوث هذه التجربة:
(1) إنها خواطر جرت على بال المسيح، نشأت في عقله، لكنه لم يخضع لها. وهذا الرأي مرفوض لما يأتي: (أ) لا يمكن أن تنشأ هذه الخواطر من عقل المسيح. (ب) لا يمكن أن هواجس الشيطان تدخل العقل القدوس البريء من الخطأ.
(2) إنها قد جرت في رؤيا. وهذا الرأي مرفوض لما يأتي: (أ) إن خبر الكتاب المقدس لا يدل على شيء من الرؤيا. (ب) إن تفصيل الخبر أكثر مما يلزم للرؤيا. (ج) تم ذلك في مدة أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وهي أكثر جداً مما يلزم للرؤيا.
(3) إنها جرت بالفعل، فخرج المسيح إلى البرية بقوة الروح القدس وتكلم الشيطان معه، وهاجم لاهوته مرتين في تجربتين، وحدد له البرهان الذي يثبت به لاهوته. ولما أفحمه المسيح بالدليل الكتابي هاجم إبليس ناسوت المسيح، وحاول أن يحرك فيه الطمع في الشهرة والمجد والقدرة، فأفحمه المسيح أيضا بقوله «مكتوب». نعم جاء الشيطان ليجرب المسيح ولو أن «ليس له فيه شيء» (يو 14: 30).
15- ما معنى سكن الأرواح النجسة في البشر، وماذا يقول الكتاب المقدس في ذلك؟
* معناه حلول روح شرير في الإنسان يُحدث فيه تأثيرات واضطرابات وآلاماً جسدية وعقلية. وكان فعل تلك الأرواح يقتصر أحياناً على العقل كما في أمر الجارية التي كان فيها روح عرافة (أع 16:16). وربما كان من هذا النوع بعض الأنبياء الكذبة والسحرة. وأحياناً يقتصر فعل الروح الشرير على الجسد فقط. وغالباً يعم الجسد والعقل معاً. ولم يكن جنون المجانين المذكورين في العهد الجديد ناشئاً عن مرضٍ، بل من سكن الشياطين فيهم. ويبرهن ذلك:
(1) إن ذلك كان اعتقاد اليهود جميعاً في ذلك العصر.
(2) صدق المسيح وتلاميذه هذا الاعتقاد بدليل قولهم عن هؤلاء المجانين إن فيهم أرواحاً نجسة، وخاطبوا تلك الأرواح كما يخاطبون الأشخاص، فأمروهم بالخروج من الناس. ولا شك أن جميع الذين سمعوا هذا الكلام من المسيح والرسل فهموا هذا المعنى، ولم ينفِ المسيح ذلك، بل أثبته بأن وعد تلاميذه أن يعطيهم سلطاناً أن يُخرجوا الأرواح النجسة، لأن له هذا السلطان، وقد فوَّضه إليهم. وبما أنه قال إنه أتى لينقض أعمال إبليس كانت غلبته عليه وعلى ملائكته تبرهن صدق قوله، وأنه الملك الموعود به والغالب الذي جاء للعالم ليؤسس ملكوت اللَّه الذي لا انقضاء له.
وقال مفسرو الأناجيل عن الذين دخلتهم الأرواح النجسة آراء مختلفة. والأرجح أن أرواحاً نجسة حقيقية سكنت أولئك الناس وفعلت فيهم بقواها كما شاءت لتتمم مقاصدها الشريرة. وقد شاعت في ذلك آراء باطلة منها:
(1) مذهب المجاز، وهو أن أولئك المجانين كانوا مصابين بأمراض مختلفة جسدية وعقلية، وقد قيل مجازاً إنهم مسكونون.
فنجيب: (أ) يميز الكتاب بين الأمراض وسكن الشياطين، فجاء فيه «فأحضروا إليه جميع السقماء المصـابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصـروعين والمفلوجين فشفاهم» (مت 4: 24). و«لما صار المساء قدموا إليه مجانين كثيرين، فأخرج الأرواح بكلمة، وجميع المرضى شفاهم» (مت 8: 16). ولما أرسل تلاميذه قال لهم «اشفوا مرضى. طهِّروا بُرصاً. أقيموا موتى. أخرِجوا شياطين» (مت 10: 8) فأعطاهم سلطاناً على عمل أربعة أشياء مختلفة يتميز كل منها عن الآخر. (ب) عرفت الأرواح أن المسيح إله حق، فقال واحدٌ منهم «أنا أعرفك من أنت: قدوس اللَّه» (مر 1: 24) والأمراض الجسدية لا تجعل صاحبها يقول هذا للمسيح. (ج) عاتبت الأرواح يسوع قائلة «ما لنا ولك يا يسوع ابن اللَّه! أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟» (مت 8: 29). (د) اختار الأرواح لأنفسهم معاملة خاصة من المسيح، وألحوا عليه أن يفعلها لهم، فطلبوا منه «إن كنت تخرجنا فائذن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير» (مت8: 31). (هـ) كانت الأرواح تتكلم مع المسيح، وكان ينتهرها «وكانت شياطين أيضا تخرج من كثيرين وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن اللَّه! فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح» (لو 4: 41). وكل هذا يدل على أن المعنى المقصود حقيقي لا مجازي.
(2) مذهب المجاراة، وهو أن يهود ذلك العصر اعتقدوا بسكن الأرواح النجسة في البشر. ولم يصدق المسيح ذلك، غير أنه جارى أهل عصـره على اعتقادهم، فتكلم وتصرف بطريقة تُثبت تلك الخرافة، فصدق الشعب ما يعرف المسيح أنه باطل.
والرد على هذا المذهب الباطل أنه يعني أن المسيح قاد الشعب ليصدقوا ما يعلم هو أنه خطأ، مع أنه البريء من الخطأ وأنه نور العالم! وكل ما سبق من الأدلة على خطأ مذهب المجاز يصدق على بطل هذا المذهب أيضاً.
ولم يُذكر في العهد القديم سوى قليلين من الذين يُظن أنهم كانوا مسكونين. ومنذ نهاية القرن المسيحي الأول إلى الآن انحسرت هذه الظاهرة، فقام السؤال: لماذا حصر اللَّه تأثير الأرواح النجسة بهذه الكيفية في أول مدة العهد الجديد، خاصة في عصر المسيح، لأنه حيثما ذهب كان يصادفهم؟ وربما كان الجواب الصحيح لذلك هو أن «نسل المرأة» وتلك «الحية القديمة» كانا في حرب شديدة منذ سقوط الإنسان. وبسماح من اللَّه اشتدت الحرب في زمان المسيح، وربح الشيطان سلطاناً واسعاً مخيفاً على البشر، وكانت المظاهر المنظورة لأعمال الشياطين في المجانين وسائل خاصة لإظهار قوة المسيح، وفرصة لبيان طبيعته الإلهية ورسالته وحقيقة نصرته الأخيرة الأبدية، وأن المسيح هو أقوى من الرجل القوي المتسلح، فقد أُظهر لينقض أعمال إبليس (لو 11: 22) ووعد أن يعطي جميع المتكلين عليه هذه النصرة على ذلك العدو.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الثاني والثلاثون
وساطة المسيح

1 - ماذا حمل المسيح على التجسد؟
* ليس تجسد ابن اللَّه الأزلي (حسب الكتاب المقدس) حادثةً اضطرارية في ذاتها، وإنما هو اتضاع اختياري، فإن اللَّه (لأجل فداء البشر) بذل ابنه الوحيد الذي أتى إلى العالم ليخلصنا من خطايانا، واشترك معنا في اللحم والدم «ليبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت (أي إبليس) ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية» (عب 2: 15). وهذا التجسد وإن[ لم يكن ضرورياً في ذاته كان ضرورياً لفداء البشر، ولم يعلن اللَّه لنا طريقةً أخرى يمكن أن نجد بها خلاصنا. وذلك يوافق تعليم الكتاب المقدس أن اسم المسيح هو الاسم الوحيد الذي يقدر به البشر أن يَخلصوا (أع 4: 12). ولو أمكن نوال البر بطريقةٍ أخرى لكان المسيح قد مات بلا سبب (غل 2: 21). ولو كان الناموس قادراً أن يحيي لكُنّا قد تبرّرنا بالناموس (غل 3: 21).

2 - لماذا دُعي المسيح وسيطاً؟
* بما أن قصد تجسد المسيح، وقصد تتميمه عمل الفداء هو مصالحتنا مع اللَّه، سُمي المسيح «وسيطنا» لأنه دخل بيننا وبين اللَّه، ليكفّر عن خطايانا ويشفع فينا. وبما أن المسيح كفّر عن الخطية، ولا يقدر غيره على ذلك، يكون هو الوسيط الوحيد بين اللَّه والناس، وصانع السلام (أف 2: 16 و1تي 2: 5).

3 - ما هي الصفات اللازمة لإتمام وساطة المسيح؟
* يعلّمنا الكتاب أن الصفات اللازمة للوسيط بين اللَّه والناس هي:
(1) أن يكون إنساناً: وقد اتّخذ المسيح طبيعتنا لا طبيعة الملائكة. لقد جاء ليفدينا، فكان ضرورياً أن يولد تحت الناموس الذي خالفناه ليكمل كل برّ، ويتألم ويموت ذبيحةً ليكفّر عن خطايانا، وليشترك في حياتنا البشرية ليشعر بضعفاتنا. فلذلك «كما تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما» (عب 2: 14).
(2) أن يكون بدون خطية: كان يجب أن الذبيحة التي تُقدّم على المذبح (حسب شريعة موسى) تكون بلا عيب. والذي يقدم نفسه إلى اللَّه ذبيحةً عن خطايا العالم يجب أن يكون هو نفسه بريئاً من الخطية. فمن المستحيل أن يكون المخلص من الخطية خاطئاً، لأنه لا يقدر أن يصل إلى اللَّه، ولا أن يكون ذبيحة عن الخطايا، ولا مصدر القداسة والحياة الأبدية لشعبه إن لم يكن هو باراً قدوساً. ولذلك يجب أن يكون رئيس كهنتنا قدوساً بلا شر ولا دنس ومنفصلاً عن الخطية (عب 7: 26). لذلك كان هو بدون خطية (عب 4: 15 و1بط 2: 22).
(3) أن يكون إلهاً: لأنه لا يقدر أن ينزع الخطية إلا دم من هو أعظم من مجرد مخلوق. ولأن المسيح هو اللَّه، فقد قدّم نفسه ذبيحةً مرةً واحدة فأكمل إلى الأبد المؤمنين (عب 7: 27 و9: 26). وكذلك لا يقدر إلا شخص إلهي أن يبيد سلطان الشيطان وينقذ الذين سباهم. ولا يقدر على تتميم عمل الفداء العظيم إلا القادر على كل شيء، صاحب الحكمة والمعرفة غير المحدودتين، ليكون رئيس كنيسته وديّاناً للجميع. ولا يقدر أن يكون مصدر الحياة الروحية لجميع المفديين إلا مَن حلّ فيه كل ملء اللاهوت.
فجميع هذه الصفات التي نص الكتاب على ضرورتها لتأهيل الوسيط للوساطة بين اللَّه والناس قد اجتمعت في المسيح.

ونتج من ثبوت تلك الصفات لوسيطنا أن وساطة المسيح التي تشمل كل ما فعل وكل ما لا يزال يفعله لخلاص البشر هي عمل شخص إلهي. فجميع أعمال المسيح وآلامه في إجراء وساطته كانت أعمال وآلام شخص إلهي، فالذي صُلب هو ربّ المجد، والذي سكب نفسه للموت هو ابن اللَّه.
ويتّضح صدق هذا التعليم مما يأتي:
(1) ينسب الكتاب المقدس كفاية عمل المسيح وسلطانه وصدق كلامه وحكمته وقيمة آلامه إلى أنه اللَّه الذي ظهر في الجسد.
(2) عدم كفاية وساطة من هو «إنسان فقط» ليتمّم لوازم تلك الوظيفة، لأنه لو كان وسيطنا إنساناً فقط لعجز عن فداء البشر الساقطين، فلا يبقى بعد للإنجيل مجد ولا قدرة ولا كفاية.
(3) لوازم العمل: فلا يقدر على فداء البشر الساقطين إلا من هو إله وإنسان معاً. فوظيفة المسيح النبوية تستلزم أن له كل كنوز الحكمة والعلم، ووظيفته الكهنوتية تستلزم شرف ابن اللَّه ليجعل عمله نافعاً. ولا يقدر سوى شخص إلهي أن يستعمل السلطان الذي دُفع للمسيح باعتبار كونه وسيطاً. والخلاصة، أنه لا يقدر إلا الابن الأزلي أن ينقذنا من عبودية الشيطان وموت الخطية، أو يقيم الأموات، أو يهب الحياة الأبدية، أو يغلب جميع أعدائه وأعدائنا، لأننا نحتاج إلى مخلِّص قدوس بلا شر ولا دنس، منفصل عن الخطاة بل أرفع من السماوات.

4 - هل يصحّ اتّخاذ غير المسيح وسيطاً بيننا وبين اللَّه؟
* كلا، لأن ذلك يخالف الكتاب المقدس. على أن بعض الكنائس تعتقد أن القديسين والملائكة ولا سيما مريم العذراء وسطاء، وكذلك الكهنة، وهم يعتقدون أنه بدون توسُّط الكهنة لا يمكن المصالحة مع اللَّه. ونشأ ذلك من مبدأين خاطئين:
(1) الاعتقاد بالوظيفة الكهنوتية، فإنها تعلّم أن الإنسان لا يحصل على فوائد الفداء إلا بواسطة الكهنة، لأن فوائد الفداء تتم بواسطة الأسرار، والأسرار لا تفيد إلا إذا مارسها المفرَزون لذلك قانونياً. وأن الكهنة يقدمون ذبائح ويمنحون الحِل من الخطايا، وأنهم وسطاء بالحقيقة، وإن كانوا أقل درجة من المسيح. وأنه لا يقدر إنسان أن يأتي إلى اللَّه إلا بواسطة الكهنة. ويعتقدون أن لكل مؤمن في كنيستهم شركة في عضوية الكنيسة، بواسطتها تكون له علاقة بالمسيح. ولذلك كان للكهنة يد السلطة والقوة والوساطة في كل ما يختص بعلاقة المؤمن بالمسيح بواسطة الكنيسة وأسرارها.
أما الإنجيليون فيعتقدون أن للمؤمن اتحاداً شخصياً بالمسيح رأساً بواسطة الإيمان به والاتكال عليه، وأن الكنيسة هي جماعة هؤلاء المؤمنين بالمسيح والمنسوبين إليه رأساً. ولذلك ليس للكنيسة ولا للمتوظفين فيها شيء من صفات الوسيط أو أعماله غير الشفاعة التوسُّلية في تضرُّع وصلاة بعضهم لأجل بعض.
(2) الاعتقاد بالاستحقاق البشري: وهو أن ما يُعمل من الأعمال الصالحة بعد التجديد له استحقاق حقيقي أمام اللَّه، وأن القديسين من شعب اللَّه يمكنهم أن يبلغوا من الاستحقاق درجةً تزيد على ما يطلبه اللَّه منهم. وهذا يمكن أن ينفع غيرهم، فيلتجئ الخطاة منهم إلى القديسين طالبين فائض استحقاقاتهم أمام عرش اللَّه العظيم. هذا بالرغم من أن الكتاب يعلّمنا أن الوساطة هي من عمل المسيح وحده، فهو وسيطنا الوحيد.

5 - ما هي الأدلة على أن المسيح هو الوسيط الوحيد؟
* الأدلة على ذلك: (1) نص الكتاب الصريح «يوجد إله واحد ووسيط واحد بين اللَّه والناس: الإنسان يسوع المسيح» (1تي 2: 5).
(2) قام المسيح بجميع ما تقتضيه الوساطة فيما يختص بالكفارة والشفاعة على الأرض وفي السماء (1يو 2: 1 وعب 7: 25 و9: 12، 24).
(3) قام المسيح بما يختص بوساطته إلى درجة الكمال، حتى لم يبقَ وجهٌ لدخول غيره في ذلك. وكمال عمل المسيح ناتج من سموّ شأنه وكمال صفاته (عب 10: 14 وكو 2: 10).
(4) الخلاص بالمسيح تام وكاملٌ لكل مؤمن حقيقي، وليس بغير المسيح خلاص، ولا يقدر أحدٌ من البشر أن يأتي إلى الآب إلا به (يو 14: 6 وأع 4: 12).
(5) لا مكان لوسيطٍ آخر بيننا وبين المسيح، لأنه صار أخاً لنا ورئيس كهنة أميناً وقادراً أن يرثي لضعفاتنا. وهو يدعو كل واحد للإتيان إليه رأساً (عب 2: 17 و4: 15 ومت 11: 28). ولأن التوسُّط بين المسيح والبشر من خواص الروح القدس الذي وحده يُقبِل بالناس إلى المسيح ويخبرهم روحياً بما للمسيح (يو 16: 14) فلا شك أن المسيح هو وسيطنا الوحيد، لأنه وحده تمّم كل ما يلزم لمصالحتنا مع اللَّه، وله وحده الصفات التي تؤهّله لذلك.
ويعلّمنا الكتاب المقدس أن للروح القدس اشتراكاً مهماً في إتمام وساطة المسيح. كما يعلّمنا أن كل ما يمكن للبشر أن يفعلوه هو التبشير بالمسيح وتعليم الحق في هذا الموضوع المهم. فالروح القدس يعمل في قلب الإنسان ويعلّمه ويحثّه ويُقنعه ويجدده ويقوده إلى المسيح بنور المعلَنات الإلهية (يو 15: 26 و16: 13، 14 وأع 5: 32 و1كو 12: 3). والروح هو معزّينا الذي يمكث معنا ويعلّمنا ما للمسيح، ويبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة (يو 14: 16، 26 و15: 26 و16: 7-9). فالمسيح هو شفيعنا (1يو 2: 1) وهو حي في كل حين ليشفع فينا في السماء (عب 7: 25 ورو 8: 34). أما الروح القدس فيعين ضعفاتنا في الصلاة هنا على الأرض، ويعلّمنا كيف نصلي، ويشفع فينا على هذا المنوال بأنّات لا يُنطق بها، وبحسب مشيئة اللَّه يشفع في القديسين (رو 8: 26، 27). وعليه فبالمسيح لنا قدوم في روحٍ واحد إلى الآب (أف 2: 18).
هذا هو تعليم الأسفار المقدسة في وساطة المسيح وعناية الروح القدس بنا لنوال فائدة تلك الوساطة. وليس في كل ذلك أدنى إشارة إلى وسيطٍ غير المسيح، أو إلى تدخُّل أحدٍ من بني جنسنا في تلك الوساطة.

6 - ما هي البراهين التي يقدمونها على صحّة تعليم شفاعة القديسين، وما هو الرد عليها؟
* أهم البراهين إسناداً لشفاعة القديسين هي:
(1) لما كان المسيحيون يصلّون بعضهم لأجل بعض في هذه الحياة (1تس 5: 25 و2تس 3: 1) فمن باب أولى أن الذين انتقلوا منهم إلى السماء يصلّون لأجل إخوتهم الذين لا يزالون عُرضة لأخطار هذه الحياة. وبالتالي يجوز طلب شفاعة القديسين في السماء، كما يجوز طلب صلاة القديسين على الأرض.. والجواب على ذلك: (أ) الخلاف في هذه المقارنة واضح، وهو أننا مأمورون بالصلاة بعضنا لأجل بعض في هذه الحياة، خلافاً لطلب شفاعة القديسين بعد الموت. (ب) إننا نطلب من إخوتنا المسيحيين على الأرض أن يصلّوا، وذلك مختلف عن الصلاة للقديسين الذين انتقلوا للسماء وطلب شفاعتهم. (ج) نعلم أن المؤمنين الأحياء يسمعون طلبنا منهم في هذه الحياة، وأما أهل السماء فلا يشاركون اللَّه في صفاته، ومنها الحضور في كل مكان واستماع الصلاة ومعرفة خفايا القلب وسرائره. وبدون هذه الصفات لا نرى كيف يسمعون صلواتنا ويشفعون فينا عند اللَّه؟ أما أن أهل السماء يفرحون بخاطئ واحد يتوب فلأن السماء تعلن لهم الخبر، لكن الصلاة لهم والاستغاثة بهم لا تبلغهم. (د) قولهم إن للقديسين المالكين مع المسيح استحقاقات يقتربون بها إلى اللَّه، وإن علاقتهم الطبيعية بنا تحملهم إلى الشفاعة فينا يخالف تعليم الكتاب والاعتقاد المسيحي العام أن استحقاقات المسيح غير متناهية، ولا تقبل عوناً بشرياً، فالمسيح يفوق الملائكة والقديسين في المحبة للبشر، ويشفق عليهم بما لا يُقاس.
(2) يقولون إن شفاعة القديسين أمر ثابت من عادة الكنيسة منذ قرونها الأولى، وإجماع آباء الكنيسة، وقوانين المجامع.. والجواب على ذلك: لم تعتقد الكنيسة الرسولية شيئاً من ذلك، بدليل خلوّ أسفار الرسل منه. فلو كانت شفاعة القديسين من تعاليمهم لذكروها في كتبهم، كما علّمونا عن شفاعة المسيح. وأما قول الآباء وقوانين المجامع، فهي لا تثبت إلا إذا كانت مبرهنةً من الوحي الإلهي. فإذا لم يكن لها هذا البرهان تصبح بلا سلطان ولا فائدة في المناقشات الدينية.
(3) يستندون على بعض آيات في الكتب المقدسة (تك 20: 7 و26: 5 و1مل 11: 12 وأي 42: 8 ولو 7: 3-6 ورؤ 5: 8). فإذا تأملنا هذه الآيات مع قرائن الكلام يظهر أنها لا تسند التعليم بشفاعة القديسين، ولا تناقض التعليم الموحَى به وهو أن الشفاعة لدى اللَّه في الخطاة أمرٌ محصور في المسيح وخاص به، باعتبار عمله الكهنوتي على الأرض وفي السماء (انظر 1تي 2: 5 ويو 14: 6 ومت 11: 28 ويو 6: 17 و1يو 2: 1 وعب 7: 25). وهذه الآيات تنفي توسُّط أحد غير المسيح لأجل الخطاة.

7 - ما هي وظائف المسيح الثلاث التي يمارسها في توسّطه بين اللَّه والناس؟
* هي وظائف النبي والكاهن والملك. وقد جرت العادة منذ زمان طويل عند اللاهوتيين أن يبيّنوا وساطة المسيح بهذه الوظائف الثلاث. ومما يثبت لياقة ذلك وموافقته وأهميته أنه مبنيٌّ على نصوص الكتاب المقدس، وأنه لقي القبول عند المسيحيين زماناً طويلاً. وقد جاءت هذه الوظائف منسوبةً للمسيح بوضوح في الكتاب المقدس، وكان أول من نسبها مجتمعة معاً إليه باعتباره وسيطنا المؤرخ «أوسابيوس». ومن تعاليم الكتاب في هذا الموضوع ما يأتي:
(1) كانت هذه الوظائف في العهد القديم متميّزة، فإن النبي باعتباره نبياً لم يكن كاهناً، وكذلك الملك أيضاً لم يكن كاهناً ولا نبياً. وكان أحياناً شخص واحد من شعب اللَّه يحتلّ وظيفتين من هذه الثلاث، مثل موسى وداود، فإن الأول كان كاهناً ونبياً، والآخر نبياً وملكاً. ومع ذلك كانت كل وظيفة متميّزة عن الأخرى.
(2) هناك نبوات بأن المسيح يكون نبياً وكاهناً وملكاً، ومن ذلك قول موسى «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي» (تث 18: 15). وكثيراً ما ذكر الكتاب أن المنقذ الآتي يمارس جميع واجبات النبي لأنه يعلِن مشيئة اللَّه، وأن يكون معلّم البر العظيم، ونور إعلان للأمم ومجداً لشعبه إسرائيل. والنص على أنه يكون كاهناً ليس أقل وضوحاً ولا أقل تكراراً من ذلك. قال المرنم «أقسم الرب ولن يندم، أنت كاهنٌ إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مز 110: 4). وقال النبي زكريا أنه يكون كاهناً على كرسيه (زك 6: 13). وقال إشعياء إنه يحمل خطايا الشعب ويشفع في المذنبين.

وأما وظيفة الملك فقد تكرر ذكرها في النبوات، حتى ظن اليهود أن المسيا يكون ملكاً فقط، لأنه ورد فيها أنه يملك على جميع الأمم، ولا يكون لمُلكه نهاية، وأنه يكون ملك الملوك ورب الأرباب.

(3) يقدم العهد الجديد لنا المسيح نبياً وكاهناً وملكاً، ويعلّمنا أيضاً أن الذين يقبلونه يقبلونه بجميع هذه الوظائف. وقال المسيح إن كل النبوات تشير إليه، فموسى تنبأ بأنه يكون نبياً، وداود تنبأ بأنه يكون كاهناً، ودانيال تنبأ بالملكوت الذي أتى ليقيمه.

(4) ليس هذا الكلام مجازياً، فقد مارس المسيح وظائف النبي والكاهن والملك، فلم تكن له هذه الألقاب فقط، بل إنه أكمل العمل الذي تضمن كل ما عمله الأنبياء والكهنة والملوك القدماء، والذي كان يرمز لعمل المسيح الأكمل.
(5) باعتبارنا بشراً ساقطين وجهلاء، مذنبين ومدنَّسين وعاجزين، نحتاج إلى مخلِّص يكون نبياً يعلّمنا، وكاهناً يكفّر عن خطايانا ويشفع فينا، وملكاً يتسلط علينا ويحمينا. ويشمل الخلاص الذي نقبله منه كل ما يقدر أن يعمله النبي والكاهن والملك بموجب المعنى الأسمى لهذه الكلمات. فإننا نستنير بمعرفة الحق، ونتصالح مع اللَّه بموت ابنه ذبيحةً عن خطايانا، وننجو من سلطان الشيطان وندخل إلى ملكوت اللَّه وكل ذلك يقتضي أن يكون فادينا نبياً وكاهناً وملكاً معاً، فهذا يوافق غاية رسالته وعمله، ويجب أن يكون هذا التعليم عقيدتنا إذا شئنا أن نقبل الحق كما هو معلَنٌ في كلمة اللَّه.
لم تكن هذه الوظائف في العهد القديم معاً لشخص واحد، فلم يكن أحدٌ في مدة النظام الموسوي نبياً وكاهناً وملكاً في وقتٍ واحدٍ. وكان متى اجتمعت اثنتان منها في شخص واحد لا يمارسهما في وقت واحد، فكان يمارس أحياناً الواحدة وأحياناً الأخرى. أما المسيح فقد اجتمعت كلها فيه في وحدة متحدة اتحاداً كلياً، لأنه كان يعلّم، ويمارس وظيفة الكاهن، ويستعمل سلطانه على النفس بتحريرها من العمى والضلال ومن قوة الخطية وسلطان إبليس. والآن يتسلط المسيح على العالم بالحق والمحبة، وصولجانه هو الإنجيل.
8 - هل هناك علاقة بين هذه الوظائف الثلاث: نبي وكاهن وملك؟
* لا يمكن أن نفصل بين هذه الوظائف الثلاث لما بينها من العلاقة الشديدة، فهي بالحقيقة ثلاثة فروع لوظيفة واحدة غير منقسمة، وهي الوساطة القائمة في المسيح بالتعليم والتكفير والسلطان. وأهمّ هذه الأعمال الثلاثة هو التكفير، وهو الغاية العظمى من تجسد المسيح بدليل قوله «ولكنه الآن قد أُظهر (أي المسيح) مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه» (عب 9: 26). ولا شك أن غاية التكفير كانت مصحوبة بغايات أخرى، منها إظهار صفات اللَّه للبشر، ومنها وجود معبود منظور يوافق احتياجاتنا، ومنها إقامة مثالٍ كامل نقتدي به يعلّمنا الحق بسلطان فائق. غير أن الأمر الجوهري في التجسد كان تقديم الذبيحة الكافية عن الخطية.
أما وصف عمل المسيح إجمالاً بأنه نبوي وكفاري وملكي معاً، فهو في غاية المناسبة، لأنه يبيّن لنا فوائد وساطته على نوع جامع مفهوم. لأننا نراه معلّماً عظيماً يعلّمنا الحق السماوي، ورئيس كهنة يكفّر عن خطايانا بموته ذبيحة، وملكاً يملك بسلطان إلهي. وقد اشتهرت هذه الفروع الثلاثة لعمل الوساطة في كل الأديان البشرية في كل عصر في تاريخ العالم، ورُسمت في العهد القديم بأجلى بيان في الوظيفة النبوية والكهنوتية والملكية، وفي العهد الجديد اجتمعت في شخص المسيح وعمله بوضوح تام. وكل من بحث في الصفات اللازمة للوسيط بين اللَّه والناس اقتنع بلزوم اجتماع هذه الأعمال الثلاثة في الوساطة، لأن الفداء من الخطية يستلزم التعليم، والتكفير، وانضمام الرعية الحاصلة على الخلاص في ملكوت ثابت أبدي. ولا نقدر أن نغفل أي واحد من هذه الأعمال الثلاثة، وإلا سلبنا من المسيح جانباً من وظيفته، ونظرنا إلى عمله نظراً محدوداً. فلا يمكننا أن نعظّم المسيح كما ينبغي إذا نظرنا إلى عمله النبوي وأهملنا أنه كاهن وملك. وهكذا من جهة كهنوته ومُلكه. ولا ننال فائدة تامة من وساطته إلا إذا كان لنا نبياً يعلّمنا، وكاهناً يكفّر عنا، وملكاً يملك علينا ويحامي عنا.
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الثالث والثلاثون
وظيفة المسيح النبويّة


1 - في لغة الكتاب المقدس، ما معنى كلمة «نبي»؟
* النبي هو من يتكلم عن آخر، كما قيل «فقال الرب لموسى: انظر! أنا جعلتك إلهاً لفرعون، وهارون أخوك يكون نبيَّك» (خر 7: 1) أي أن موسى يكون مصدر التبليغ وهارون آلته. وهذه هي نسبة النبي إلى اللَّه، فاللَّه يعلن للنبي مشيئته والنبي يبلغ ذلك للذين يرسله اللَّه إليهم. وقيل عن هارون في علاقته بموسى «هو يكون لك فماً» (خر 4: 16). وقيل في النبي «مِثل فمي تكون» (إر 15: 19). ومن جهة توظيفه أو إقامته كليماً للَّه «وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه» (تث 18:18، 19). فيتضح من هذا أن النبي هو من يتكلم باسم الرب، ويكون آلةً بيده، لأن كل من يقرأ كلمة اللَّه أو يبشر بها يتكلم باسمه، ويعلن الحقائق المبنيّة على سلطانه. وبهذا المعنى لا يكون القسوس أنبياء، لأن العهدين القديم والجديد يميّزان بين الأنبياء والمعلّمين، فالأنبياء كانوا ملهَمين أصحاب وحي، وهذا لا ينطبق على المعلمين. فكل من قبِل إعلاناً من اللَّه وأُوحي إليه بتبليغه يسمّيه الكتاب المقدس نبياً. ولذلك سُمي جميع الكتبة الأطهار أنبياء.

قسم اليهود أسفارهم إلى الناموس، والأنبياء، والمكتوبات المقدسة. أما التوراة (أي الأسفار الخمسة الأولى) فكاتبها موسى الذي لا ينكر أحد أنه كان نبياً. والقِسم الثاني الذي يشمل جميع الأسفار التاريخية والنبوية قد كتبها أيضاً الأنبياءُ والملهَمون. وهكذا يُقال عن القسم الثالث. وكانت النبوة بالمستقبل جزءاً من عمل النبي يمارسها عند الاقتضاء.

فعندما نقول إن المسيح نبي، نعني أنه المتكلم عن اللَّه، يبلغ أفكار اللَّه وإرادته للبشر. ومِن جملة أهداف ظهور المسيح على الأرض أن يتكلم بكلام اللَّه، كما قال «الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني» (يو 14: 24). وقيل أيضاً «يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول» (لو 24: 19).

2 - كيف يمارس المسيح وظيفة نبي؟
* (1) في أنه كلمة اللَّه الأزلي ومصدر كل معرفة الخلائق العاقلة ولاسيما البشر، وفيه كل كنوز الحكمة والعلم، ومنه يصدر كل ما ينوّر البشر في حقائق الخلاص (يو 1:1-5).
(2) في مجيئه إلى هذه الأرض معلماً، قام بوظيفته النبوية وعلّم البشر بواسطة الوعظ والأمثال، وفسّر شريعة موسى وإعلانات الأنبياء، وأعلن إرادة اللَّه وماهية ملكوته وغاية عمله. كما أنه ألهم الأنبياء والرسل بواسطة الروح القدس في العهدين القديم والجديد.
(3) في أنه لم يزل منذ صعوده إلى الآن يمارس هذه الوظيفة نفسها، فألهم الرسل الأطهار، ورسم خدمة التبشير بالمسيحية، وأرسل الروح القدس. وهكذا مارس المسيح وظيفة نبي قبل مجيئه في الجسد وبعده، فأعلن لنا مشيئة اللَّه بواسطة كلمته وروحه. وقد تمّم المسيح وظيفته النبوية لغايتين: (أ) إصلاح أحوال اليهود الروحية، و(ب) إعلان الحق للعالم أجمع. فقيل عن الغاية الأولى «لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (مت 15: 24). وبهذا المعنى كان نبياً بين أنبياء العهد القديم وخاتم السلسلة النبوية. وقال بولس إن المسيح «صار خادم الختان من أجل صِدق اللَّه، حتى يُثبِّت مواعيد الآباء» (رو 15: 8) وكان هو ذلك النبي الذي قيل إنه مثل موسى ولكن أعظم منه. وثبّت المسيح الشريعة القديمة وأكرمها وتمم مطالبها. غير أنه بذلك أبطلها وجاء بشريعةٍ جديدة (هي الإنجيل المقدس، والموعظة على الجبل متى 5-7) جمع فيها غايات الشريعة القديمة الروحية. وأعلن نبوات شتى عن مستقبل ملكوته. غير أن اليهود رفضوا تعاليمه كما رفضوا شخصه، ولم يؤمن برسوليته إلا قسم منهم.
أما من جهة الغاية الثانية (وهي إعلان الحق للأمم) فتمّت بإعلانه أنه الطريق والحق والحياة للعالم أجمع. ولا يزال هو مصدر كل نورٍ للبشر يُعلن مشيئة اللَّه ويفسرها كما قال «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني» (يو 7: 16) وقال «أتكلم بهذا كما علّمني أبي» (يو 8: 28). وأثبت تعاليمه بالمعجزات، وكان هو نفسه أعظمها. وكان دائماً يعلّم بسلطان، وتعليمه كما ورد في الإنجيل هو الإعلان الأخير للعالم، فانتهت الوظيفة النبوية فيه. وأما الرسل الذين جاءوا بعده فكانوا ملهَمين ليوضحوا الإعلان الذي أتى هو به. وكان المسيح نبياً بتعليمه وبمثاله، وبذلك علّم البشر كيف يعيشون، وبأي روح ينبغي أن يمجدوا اللَّه ويعاملوا البشر. فكان بذلك نوراً للعالم وأعظم الأنبياء، ووجب علينا أن نسمع أقواله ونطيع أوامره.
 

The Dragon Christian

مستعدين لمجاوبه
عضو مبارك
إنضم
26 مايو 2010
المشاركات
2,390
مستوى التفاعل
237
النقاط
63
الإقامة
egypt
شكرا يا مولكا علي الكتاب الرائع
الرب يباركك
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الرابع والثلاثون

وظيفة المسيح الكهنوتية


1 - من هو الكاهن، وما هي وظيفته؟
* نعرف الإجابة من ثلاثة أمور:
(1) من الاستعمال الشائع في اللغات الشرقية واصطلاحاتها في كلمة «كاهن».
(2) من نصوص الكتاب المقدس.
(3) من الأعمال الخاصة بهذه الوظيفة.
وبالنظر إلى هذه الأمور نتعلّم أن:
(1) الكاهن معيّن ليقوم بأعمال البشر أمام اللَّه،. فالبشر خطاة لا يحقّ لهم القدوم إلى اللَّه، ولذلك يجب تعيين من له ذلك الحق في نفسه أو من يُنعم اللَّه عليه بذلك. فلهذا يكون الكاهن وسيطاً بين اللَّه والناس.
(2) الكاهن معيّن ليقدم قرابين وذبائح عن الخطايا، وظيفته أن يصالح البشر مع اللَّه، ويكفّر عن خطاياهم، ويقدم أشخاصهم واعترافاتهم وقرابينهم للَّه.
(3) الكاهن يشفع في الشعب، لا بمجرد الصلاة لأجله كما يصلي إنسان لأجل آخر، بل بشفاعة خاصة بوظيفته.
وهذا التعريف ذو شأن عظيم، ويجب إثبات صحته.

2 - ما هي الأدلة على صحة هذا التعريف، وعلى أن المسيح كاهنٌ بهذا المعنى؟
* لنا الأدلة الآتية: (1) استعمال هذه الكلمة الشائع وحقيقة الكهنوت عند جميع الأمم وفي كل القرون، فقد شعر البشر بالخطية في كل مكان وزمان، وأحسّوا بالإثم والفساد، وأن لا حقّ لهم في الاقتراب إلى اللَّه. وكانت ضمائرهم دائماً تعلّمهم ضرورة التكفير عن الخطية بإيفاء العدل الإلهي حقه رغم عجزهم وعدم أهليتهم ليقدّموا كفارة كافية ليحصلوا على رضى اللَّه باجتهادهم. ولذلك ابتغوا دائماً إنساناً فريداً أو رتبةً من الناس يعملون بالنيابة عنهم ولأجلهم ما كان يجب أن يعملوه لأجل أنفسهم، ولكنهم عجزوا. ولهذا أقاموا الكهنة ليستعطفوا اللَّه بواسطة الذبائح الكفارية والتقدمات والصلوات. وعلى هذا فالقول إن الكاهن معلم ديني فقط يخالف شهادة التاريخ.
(2) استعمال كلمة «كاهن» وحقيقة وظيفته في النظام الموسوي. فالكاهن في العهد القديم إنسانٌ مختار من الشعب، معيّن للوساطة بينهم وبين اللَّه، وللاقتراب إليه عنهم، ولتقديم ذبائح كفارية، وللشفاعة في الخطاة. ولم تأذن الشريعة الموسوية للشعب أن يقتربوا من اللَّه، وسمحت بذلك للكاهن فقط، ولا سيما رئيس الكهنة الذي كان يدخل إلى داخل الحجاب بالدم الذي كان يقدمه عن نفسه، ثم عن خطايا الشعب. وكل ذلك تمثيلي ورمزي، لأن الكهنة اللاويين كانوا رموزاً والمسيح مرموزاً إليه. وكل ما كان رمزاً في وظيفتهم وأعمالهم تمّ فيه. هم كانوا الظل وهو الحقيقة، وهم علّموا الشعب الطريق التي ستُنزع بها الخطية وهو نزعها بالفعل. فإذا أنكرنا كهنوت المسيح حسب معنى هذه اللفظة في العهد القديم، نبطل معنى الكتاب المقدس، الأمر الذي يؤدي إلى مبادئ تفسيرٍ تغيّر كل تعليم الكتاب.
(3) تعريف الكاهن وبيان حقيقة وظيفته في العهد الجديد. قال الرسول «لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يُقام لأجل الناس (أي لأجل خيرهم وفي مكانهم) في ما للَّه، ليُقدّم قرابين وذبائح عن الخطايا» (عب 5: 1). فالكاهن إنسان معيّن لأجل الآخرين، يقترب إلى اللَّه ويقدم ذبائح.
(4) ما ورد في الرسالة إلى العبرانيين، فإن الرسول سمّى المسيح فيها «كاهننا» وبيّن ما يأتي: (أ) للمسيح جميع الصفات التي تؤهّله لتلك الوظيفة. (ب) تعيّن المسيح من اللَّه. (ج) المسيح كاهنٌ على رتبة أعلى من رتبة هارون. (د) كهنوت المسيح يبطل كل كهنوت آخر ويُغني عنه. (هـ) قام المسيح بكل أعمال تلك الوظيفة، وهي الوساطة والذبيحة والشفاعة. (و) فاعلية ذبيحة المسيح كاملة ودائمة، فلا احتياج إلى تكرارها. فبتقديم نفسه مرة واحدة حصل لنا على فداءٍ أبدي.
(5) فوائد ممارسة المسيح هذه الوظيفة لأجلنا وهي: (أ) التكفير عن الخطايا. (ب) استعطاف اللَّه، أي إرضاؤه. (ج) مصالحتنا معه الناتجة من التكفير والاستعطاف. ومن كل ذلك تصدر جميع البركات الداخلية الروحية، والحياة الأبدية، التي لا يمكن الحصول عليها بواسطة التعليم والآداب والقدوة، ولا بواسطة تغييرٍ داخلي فينا.
وعلى هذا فإن المسيح هو كاهنٌ بالحقيقة حسب معنى هذه الكلمة تماماً.
ومن أهم تعاليم الكتاب المقدس في الوظيفة الكهنوتية:
(1) يجب أن يقوم الكاهن من بين البشر لينوب عنهم (عب 5: 1، 2 وخر 28: 9، 12، 21، 29).
(2) يجب أن يختار اللَّه الكاهن ويفرزه لخدمته وعمله (عب 5: 4 وعدد 16: 5).
(3) يجب أن يكون الكاهن قدوساً طاهراً مكرساً لخدمة الرب (لا 21: 6، 8 ومز 106: 16 وخر 39: 30، 31).
(4) يكون للكاهن حق الاقتراب إلى اللَّه بتقديم الذبائح والشفاعة في الشعب (عد 16: 5 وخر 19: 22 ولا 16: 3، 7، 12، 15).
فالكاهن بموجب ما سبق وسيطٌ من بين البشر ليقف أمام اللَّه أولاً لأجل تقديم الذبائح (عب5: 1-3) وثانياً لأجل الشفاعة (خر 30: 8 ولو 1: 10 ورؤ 5: 8 و8: 3، 4). وقد دُعي المسيح كاهناً في الكتاب المقدس (مز 110: 4 وعب 5: 6 و6: 20 وزك 6: 13) ونُسبت إليه الأعمال الكهنوتية (إش 53: 10، 12 ودا 9: 24، 25) وكان هو المرموز إليه في الكهنوت اللاوي، ولاسيما في رئيس الكهنة وفي الذبائح. وقد أوضح كاتب الرسالة إلى العبرانيين ذلك. وكان المسيح إنساناً من بني جنسنا (عب 2: 16 و4: 15) ومختاراً من اللَّه (عب 5:5، 6) قدوساً وطاهراً (لو 1: 35 وعب 7: 26) وله حق الاقتراب إلى اللَّه والقبول لديه في النيابة عنا كرئيس كهنتنا العظيم (يو 16: 28 و11: 42 وعب 1: 3 و9: 11-14). فالقول إن المسيح كاهنٌ لينوب عنا في ما يختص باللَّه بالذبائح والشفاعة من أوضح تعاليم الكتاب المقدس.

3 - برهن من الكتاب المقدس أن المسيح تمم وظيفة الكاهن.
* وظيفة الكاهن هي أولاً الكفارة، وثانياً الشفاعة. وقد قلنا إن المسيح توسّط بين اللَّه والناس (يو 14: 6 و1تي 2: 5 وعب 8: 6 و12: 24) وإنه قدم نفسه ذبيحة كفارية (أف 5: 2 وعب 9: 26 و10: 12 و1يو 2: 1). وقد أجرى المسيح هذه الأعمال الكهنوتية حقيقةً لا مجازاً، لأنه كان المرموز إليه في العهد القديم. والرمز إشارة إلى ما هو حقيقي. ولا يكون الرمز إشارة إلى رمزٍ آخر (عب 9: 10 -12 و10: 1 وكو 2: 17). وتمم المسيح هذه الوظيفة العظيمة جزئياً على الأرض (عب 5: 7-9 و9: 26-28 ورو 5: 19) وتممها كلياً في السماء حيث قدم ذبيحته في قدس الأقداس السماوية، وهو حي إلى الأبد يشفع فينا (عب 7: 24، 25 و9: 12، 24).

4 - كيف يتكلم الكتاب المقدس عن كهنوت المسيح؟
* كلام الكتاب المقدس عن كهنوت المسيح مؤسس على الاصطلاحات والفرائض المختصة بالذبائح والخدمة الكهنوتية في النظام الموسوي. غير أنه ذكر أن المسيح كاهنٌ وذبيحةٌ معاً، أي أنه قدّم الذبيحة باعتباره كاهناً، وأن الذبيحة التي قدمها كانت نفسه. وكان باعتباره «ذبيحة بلا عيب» كافياً مقبولاً كاملاً، لأنه حمل اللَّه المذبوح لأجل خطايا العالم. وكان باعتبار كهنوته كاهناً تمّت فيه جميع شروط تلك الوظيفة وما تقتضيه، بل كان على رتبة الكهنوت اللاوي وعلى رتبة ملكي صادق أيضاً.
وفي الكتاب المقدس استعارات أخرى، غير ما أُخذ من الفرائض الموسوية لشرح عمل المسيح الكهنوتي، منها ما أُخذ من مصطلحات التجارة باعتبار الخاطئ مديوناً للعدل الإلهي سدد المسيح ديْنَه. ومنها ما أُخذ من مصطلحات المحاكم باعتبار الخاطئ مذنباً يبرره اللَّه ببرّ المسيح، وباعتباره عاصياً يحصل على العفو بواسطة توسُّط المسيح وشفاعته. والأمر الجوهري في كل هذه الاستعارات هو أن المسيح وسيط يرفع الخطية وينقذ المذنب من لعنة الشريعة بتقديم ذبيحةٍ نيابية تُعتبر وسيلةً كافية تنقذ الخاطئ من الدينونة وتفتح له باب المصالحة مع اللَّه. فبهذا المعنى كانت وساطة المسيح من أولها إلى آخرها ذبيحةً نيابية لأجل خلاص البشر.

5 - بماذا ارتفع شأن كهنوت المسيح على الكهنوت اللاوي؟
* (1) بسمو شخصه فإن الكهنة اللاويين كانوا بشراً، بينما المسيح ابن اللَّه الأزلي. وهم كانوا خطاة كان يجب أن يقدموا ذبائح أولاً عن خطاياهم وبعد ذلك يقدمون ذبائح عن خطايا الشعب، بينما المسيح قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات (عب 7: 26، 27) وكان اقترابه إلى اللَّه على سبيل الاتحاد السري الذي لا يقدر عليه أحدٌ من البشر سواه (يو 10: 30).
(2) بقيمة ذبيحة المسيح الفائقة، فإن ذبائح اللاويين عاجزة بذاتها عن التطهير من الخطية، وكانت تتكرر على الدوام، وكانت رمزاً للذبيحة المنتظرة (عب 10: 1-4). ولكن ذبيحة المسيح فعالةٌ ولم تتكرر (عب 10: 10-14).
(3) كهنوت المسيح لا يزول خلافاً لكهنوت اللاويين الذي كان ينتقل من شخص إلى آخر على توالي الأزمنة، لأن الكهنة يموتون (عب 7: 24). وأُقيم اللاويون كهنةً بلا قَسَم، ولكن المسيح بقسم (عب 7: 20-22).
(4) كهنوت المسيح مختصٌّ بالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيدٍ، أي الذي ليس من هذه الخليقة، وهو قدس الأقداس السماوي. وهناك يظهر المسيح الآن أمام وجه اللَّه لأجلنا (عب 9: 11-24). ويقدم المسيح شفاعته من العرش السماوي، ولها فعلٌ مطلَق لا يُرد (رو 8: 34 وعب 8: 1، 2).
(5) المسيح نبي وكاهن وملك معاً خلافاً لكهنة العهد القديم (زك 6: 13).
6 - بأي معنى كان المسيح كاهناً على رتبة ملكي صادق؟
* كان كهنوت نسل هارون رمزاً إلى كهنوت المسيح، غير أن ذلك الرمز كان ناقصاً في بعض الأمور، فلم يُشِر إلى حقائق ظهرت في المرموز إليه. مثلاً كان الكهنوت اللاوي كهنوت أشخاص قابلين للموت ينتقل كهنوتهم على توالي الأزمنة. ولم يكن لأحدٍ منهم امتيازٌ ملكي في كهنوته. ولكن «ملكي صادق» ظهر بغتة في تاريخ العهد القديم كاهناً وملكاً، وسُمي «ملك البر وملك السلام» (تك 14: 18). ولا نعرف من أمره سوى أنه كان ملكاً وكاهناً، وأنه في وظيفته كان بلا سابق وبدون خلف، فلا أحدٌ سبقه ولا أحد خلفه في وظيفته الخاصة، ولذلك (كما قالت رسالة العبرانيين) كان مشبَّهاً بابن اللَّه (عب 7: 1-3 ومز 110: 4). وقيل إن المسيح كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق بمعنيين: (أ) أنه يشير إلى كهنوت أبدي و(ب) أنه يشير إلى اجتماع الوظيفة الملكية والوظيفة الكهنوتية في شخص المسيح.
7 - كيف نبرهن أن المسيح كاهننا الوحيد؟
* يتبرهن هذا من حقيقة هذه الوظيفة، ومن القصد بها:
(1) ليس لأحدٍ من البشر غير المسيح حق القدوم إلى اللَّه، لأن كل البشر خطاة يحتاجون إلى من يقترب إلى اللَّه عنهم.
(2) لا تقدر ذبيحة غير ذبيحة المسيح أن تنزع الخطية.
(3) يرحم اللَّه الخطاة بواسطة المسيح فقط.
(4) تصل الفوائد الصادرة من رضى اللَّه إلى شعبه بواسطة المسيح وحده.
ولقد ذكرنا أن كهنة العهد القديم كانوا أمثلة ورموزاً للمسيح الكاهن الحقيقي، وأن ذبائحهم لا تقدر أن تطهر الضمير من الخطية بل تقتصر على التطهير الطقسي. وكانت فائدتها تكمن في أنها رموز إلى ذبيحة المسيح الحقيقية التي هي موضوع الإيمان وأساس الثقة. ومِن ثمّ (كما قال الرسول) «كانت تُقدم على الدوام» لأنها كانت بلا فاعلية في نفسها، فكان الشعب محتاجاً إلى أن يعترف دائماً بإثمه، وباحتياجه إلى ذبيحةٍ فعالة هي ذبيحة المسيح، التي تنبأت عنها الأسفار المقدسة.

8 - بيّن خطأ الاعتقاد أن وظيفة الكاهن البشري مستمرة في الكنيسة المسيحية؟
* لم يكن كهنة العهد القديم كهنةً بالحقيقة إلا من حيث وظيفتهم الرمزية، فكم يكون خدام الإنجيل! ولكن الكنائس التي تعتبر القسيس كاهناً تبني اعتقادها على:
(1) أنه يتوسط بين اللَّه والشعب.
(2) ويقولون إنه يقدِّم ذبائح كفارة.
(3) في حِلِّه للخاطئ يدَّعي الشفاعة الفعّالة، وأنه بسلطانه يجعل الذبيحة عن الخطية فعّالة في تخصيصها للأشخاص المقدَّمة عنهم. مع أن هذا هو الأمر الجوهري في شفاعة المسيح.
فهُم يزعمون أنهم وسطاء، لأنهم يقولون إن الخاطئ لا يقدر أن يقترب إلى اللَّه وينال الغفران والنعمة بواسطة المسيح إلا بواسطة عملهم، ويقولون إنهم يقدمون ذبائح لأنهم يدَّعون أنهم يقدمون (في العشاء الرباني) جسد المسيح الحقيقي ودمه إلى اللَّه كفارة عن خطايا الشعب، ويقولون إنهم شفعاء ليس كما يصلي إنسان لأجل آخر، بل كمن له سلطان أن يغفر الخطايا. ولذلك يدّعون أن لهم سلطان الحياة والموت، أو مفاتيح ملكوت السموات، فيربطون ولا يقدر أحد أن يحل، ويحلّون ولا يقدر أحد أن يربط، وهذا هو أسمى سلطان ادّعاه إنسانٌ في العالم على غيره. واعتراف الشعب لهم به يجعل الشعب يخضع لهم الخضوع المطلق. ويتضح بطلان هذه العقيدة مما يأتي:
(1) عدم استعمال كلمة «كاهن» لخدام الدين في العهد الجديد. نعم لُقّبوا بألقاب كرامة مناسبة لهم مثل «أساقفة النفوس» و«رعاة» و«معلمين» و«قسوس» و«خدام اللَّه» و«وكلاء أسرار اللَّه» و«نُظّاراً». ولكنهم لم يُسموا «كهنةً» البتة. وبما أن الكتَبة الأطهار كانوا يهوداً، كانت كلمة «كاهن» مألوفةً جداً عندهم، لأنها الاسم الذي أطلقوه على خدام ديانتهم. فعدم استعمالهم إياها ولو مرةً واحدة، وعدم استعمال شيءٍ مِن متعلّقاتها لخدام الإنجيل (سواء كانوا رسلاً أم قسوساً أم مبشّرين) يؤكد خطأ ادعاء من ينادون باستمرار وظيفة الكاهن البشري.

(2) عدم نسبة عمل كهنوتي إلى خدام الدين المسيحي في العهد الجديد، فلم يقل الإنجيل أبداً إنهم يتوسّطون بين اللَّه والناس، أو إنهم يقدمون ذبائح عن الخطايا، أو إن لهم سلطاناً على الشفاعة يتفرّدون به على غيرهم من المؤمنين.
(3) نصّ العهد الجديد على أن جميع المؤمنين بالمسيح هم بمنزلة كهنة، لهم حق القدوم بواسطة المسيح الذي جعل جميع شعبه ملوكاً وكهنة للَّه (رؤ 1: 6 و5: 10).

(4) هذا التعليم يقلل من شأن المسيح الذي جاء للعالم ليكون الوسيط بين اللَّه والناس، ويوفي ديون خطايانا، ويمنحنا الغفران والمصالحة مع اللَّه. فإذا اعتقدنا أننا لا نزال نحتاج إلى وساطة البشر الكهنوتية نكون قد اعتبرنا أن خدمة المسيح ناقصة.

(5) علّم الكتاب صريحاً عكس هذا التعليم، ومن ذلك أن للبشر في كل مكان حرية القدوم إلى المسيح وبواسطته إلى اللَّه، وأننا بالإيمان به ننال الشركة في جميع فوائد فدائه. ولذلك يكون كل تائبٍ حقيقي مثل اللص على الصليب، قريباً من اللَّه يُرجى قبوله، وله الحق أن يدعو باسم الرب. فيلزم من ذلك أن تعليم ضرورة توسّط البشر للبشر أو شفاعتهم لنوال خلاص نفوسنا يناقض أوضح تعاليم كلمة اللَّه.

(6) يناقض هذا التعليم اقتناع شعب اللَّه في جميع القرون، فقد آمنوا أن لهم بواسطة المسيح والروح القدس حرية القدوم إلى اللَّه، فهكذا نادى الكتاب والروح القدس. وهم يعرفون أن التعليم الذي يُخضعهم للكهنة الذين يقولون إن لهم سلطاناً أن يهبوا النعمة والخلاص ليس من اللَّه، وأنه ينتهي بعبودية البشر للبشر!
(7) جميع المبادئ التي يُسندون إليها تعليم كهنوت القسوس خاطئة، فلا صحّة لقولهم إن القسوس رتبة خاصة من الشعب، يمتازون عنهم بالمواهب الخارقة التي وصلتهم بواسطة سر الكهنوت، ولا أن الخبز والخمر يتحوَّلان إلى جسد المسيح ودمه بواسطتهم، ولا أن العشاء الرباني ذبيحة وكفارة نافعة لمغفرة الخطايا ونوال الفوائد الروحية عن يد الكاهن.
فيتضح مما تقدّم أن المسيح هو الوسيط الوحيد بين اللَّه والناس، وأنه وحده رئيس كهنة اعترافنا ووحده فيه كفايتنا في كل شيء (عب 2: 17 و3: 1 و4: 14 و8: 1).
ونحن نعلم أنه عند ظهور المرموز إليه ينتهي الرمز، ولاسيما إذا تم الرمز أكمل تمام. ومن المعلوم أن الكهنوت الرمزي تم في كهنوت المسيح تماماً أبدياً، فانتهى الكهنوت البشري بمجيء المسيح (عب 10: 1، 9، 18). وقد أكمل المسيح مطالب الوظيفة الكهنوتية حتى لم يبقَ أدنى احتياج للكهنوت البشري (عب 10: 14 وكو 2: 10) ولذلك علّمنا الكتاب أن نأتي رأساً إلى المسيح لأنه كاهننا الوحيد العظيم (مت 11: 28 ويو 5: 40 و7: 37 ورؤ 3: 20 و22: 17 وكل رسالة العبرانيين).


9 - ما معنى أن لجميع المؤمنين حقوقاً كهنوتية؟
* بما أن المسيحي المؤمن متحد بالمسيح اتحاداً روحياً فهو يشترك في فوائد موت المسيح وفي أمجاد نصرته. وبإنعامٍ من اللَّه تصير له حقوق خاصة مبنيّة على تلك الشركة، ومنها حق القدوم رأساً إلى اللَّه بالمسيح، حتى حق الدخول إلى الأقداس بدم يسوع (عب 10: 19-22). فإذا تقدم المؤمن بقلبٍ صادق وبنفس متجددة مقدسة، فله أن يقدم ذبائح روحية (لا كفارية) كذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه، وذبيحة فعل الخير والتوزيع باسم يسوع المسيح، وأن يشفع في غيره من الأحياء (عب 13: 15، 16 و1تي 2: 1، 2 و1بط 2: 5، 9).
وبذات المعنى يكون المؤمنون جميعاً أنبياء وشركاء في سلطان المسيح الملكي (1يو 2: 20 ويو 16: 13 ورؤ 1: 6 و5: 10).

 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الخامس والثلاثون

كفَّارة المسيح


1 - كيف تشرح الكنيسة الإنجيلية عمل المسيح الكهنوتي؟
* تقول إن المسيح يمارس وظيفة كاهن بتقديمه ذاته مرة واحدة ذبيحة ليوفي العدل الإلهي حقه، ويصالحنا مع اللَّه وبشفاعته فينا على الدوام. وإنه بطاعته الكاملة، وتقديمه نفسه ذبيحة قدمها بروح أزلي مرة للَّه، أوفى عدل أبيه إيفاءً كاملاً، واشترى المصالحة بل الميراث الأبدي في ملكوت السموات لأجل كل الذين أعطاه أبوه إياهم، فأرضى إلى التمام عدل أبيه، بمعنى أنه أوفى عدل أبيه إيفاءً كاملاً، لأن «إرضاء» و«إيفاء» بمعنى واحد، فهما تشيران إلى عمل المسيح الكفاري في رفع حكم العدل الإلهي بالدينونة على الخاطئ. غير أن «إيفاء» أصحّ في هذا المقام، ولو أن «إرضاء» تصحّ باعتبار علاقة الكفارة باللَّه في كمال صفاته. والكفارة التي قدمها المسيح هي نيابية، ناب المسيح عن الخاطئ في تقديمها، ونتج منها أن اللَّه رضي بالمؤمن وصالحه لنفسه بكفارة المسيح التي تكفّر عن خطاياه، وتبرّره من جرمه، أي ترفع عنه حكم الشريعة الذي أخذه المسيح على نفسه عنه، وتنسب للخاطئ بر المسيح الكامل النقي، وبذلك تتم المصالحة ويكمل الفداء.
2 - ما هي الكلمات المستعملة في التعبير عن وظيفة المسيح الكهنوتية، وأعمالها ونتائجها؟
* منها الخطية والجرم والقصاص والطاعة والذبيحة والكفارة والتكفير والإرضاء والإيفاء والنيابة والمصالحة والفداء.
3 - ما هو تعريف الخطية والجرم والقصاص؟
* الخطية هي التعدي على شريعة اللَّه، أو عدم طاعتها، وهي نوعان : أصلية أي ما لنا بالوراثة، وفعلية أي ما لنا بأعمالنا الاختيارية (انظر فصل 26 س 12-19). والأمر الجوهري فيها هو علاقتها بشريعة اللَّه، فهي مخالفة لها وعصيان عليها. وتتضمن الفساد والجرم، وتستحق الدينونة أمام قداسة اللَّه وأمام عدله أيضاً (انظر فصل 26 س 19). فاللَّه بالنظر إلى الخطية هو المشرّع والقاضي الذي وضع شريعة عادلة ومقدسة وعلّم بلزوم حفظها وعقاب جميع المتعدّين عليها، فيحكم كقاضٍ على كل متعدٍ حكماً عادلاً. وحفظاً لكمالاته وإكراماً لقداسة وشرف شريعته، وإثباتاً لسلطانه الأخلاقي في الكون ينبغي أن يُجري أحكام العدل على الخاطئ، إلا إذا وجد من يكرم الشريعة ويحتمل القصاص نيابة عنه، فيوفي العدل حقه، ويرفع كل ما يمنع رضى اللَّه بالخاطئ المذنب، كما عمل المسيح. غير أن اللَّه وإن كان مشرّعاً وقاضياً فهو أيضاً أب حنون يحب أولاده الخطاة. وقد غلبت محبة الآب ورحمته الصعوبات المتعلّقة بالخطية، وتنازل اللَّه لتدبير الخلاص للخطاة، لا بإجراء قصاص الشريعة عليهم، بل بإرسال ابنه لينوب عنهم بكفارته ويشتري لهم الفداء التام.
والجرم كلمة يُعبَّر بها في اصطلاح علم اللاهوت عن علاقة الخطية بالعدل، أي إلى الشريعة العادلة. وهي بهذا المعنى تحيط بأمرين: (أ) استحقاق اللوم، وبهذا المعنى لا يمكن أن يُلام إلا المجرم فعلاً، لأن الصفات الذاتية لا تُنسب إلا لصاحبها، ولا تزول بالتبرير أو الصفح. ولا يمكن أن الجرم الشخصي بهذا المعنى يُنسب أو ينتقل من شخص لآخر. و(ب) الأمر الثاني أن الجرم يستحق العقاب أو الالتزام بإيفاء العدل حقه. وبهذا المعنى يمكن إزالة الجرم بإيفاء العدل شخصياً أو نيابياً، ويمكن نقله من شخص لآخر بالحسبان الشرعي (انظر فصل 27 س 8، 9). فإذا سرق إنسان أو ارتكب ذنباً آخر له عقاب في قانون البلاد، يمكن إزالة جرمه (بالمعنى الأخير) بأن يحتمل شخص آخر عقاب ذلك الجرم، فيتحرر بذلك من قصاص القانون، ويكون هذا غاية العدل. فبهذا المعنى قيل إن جرم معصية آدم حُسب علينا، وإن المسيح احتمل جرم خطايانا، وإن ذبيحته واسطة تبريرنا من الجرم.
أما كلمة «قصاص» فيُراد بها العقاب، وهو هنا احتمال المسيح عقاب الشريعة عنا. ليس أن المسيح احتمل ذات القصاص المعيّن للإنسان الخاطئ الذي هو الموت الأبدي، ولا أنه احتمل ذات العذاب الذي يصيب الهالكين نوعاً ومقداراً، بل إنه احتمل ما عيّنه له اللَّه من القصاص النيابي للتعويض عن القصاص المفروض على البشر الخطاة. وباستعمال كلمة «قصاص» للتعبير عن آلام المسيح الكفارية نقصد ما احتمله المسيح ليوفي العدل حقه، بدون تعيين ماهية الآلام أو مقدارها، لأن لآلام المسيح قيمةً كفّارية خاصة، لسموّ مقامه وشرف شخصه. ونختار كلمة قصاص إشارة إلى تلك الآلام لنميّز غايتها عن الآلام التي تقع على سبيل البلية والتأديب. لأن غاية آلام المسيح لم تكن تأديبه، ولا لإقامته مثالاً للصبر وإنكار النفس، بل ليحتمل ما يطلبه العدل إيفاءً لمطالب العدل. لأن القصاص الذي احتمله المسيح يختلف جداً عن القصاص الذي يحتمله الخاطئ الهالك. ولكن لما رضي اللَّه بعمل المسيح الكفاري وبقيمة آلامه يُعتبر أنه كافٍ لإيفاء العدل حقه عن جميع البشر. وبهذا المعنى يليق استعمال كلمة «القصاص» للتعبير عن علاقة آلام المسيح بشريعة اللَّه، لأن الكفارة تتم باحتمال القصاص المطلوب. غير أن ما وُضع على المسيح قصاصاً يختلف كل الاختلاف عما كان يجب أن يحل بالخاطئ نفسه.

4 - ما هو تعريف الطاعة والذبيحة؟
* يُراد بطاعة المسيح كل ما يتعلق بحياته وخدمته في وقت التجسد، وما انتهت إليه من تقديم نفسه ذبيحة عن الخطاة. ولذلك كانت ذبيحة المسيح جزءاً من طاعته الكاملة كما قيل «أطاع حتى الموت موت الصليب» (في 2: 8) أي أن موت المسيح ذبيحة كان تكملة لطاعته النيابية. والمقصود بذلك أنه لأجل خلاص البشر قام مقامهم لدى الشريعة، وقدم لها طاعة كاملة عنهم. ولكن بسبب خطية البشر لم يكفِ مجرد الطاعة بدون كفارة عن الخطايا، فقدم تلك الكفارة جزءاً من خدمة الطاعة. وبتلك الطاعة التي كانت الكفارة قسماً منها لم يكفر عن الخطية فقط، بل اشترى ميراثاً أبدياً سماوياً لجميع المؤمنين به. فكلمة «طاعة» كلمة شاملة تحيط بكل عمل المسيح في وقت التجسد إلى أن انتهى بموته كفارة، كقوله «هأنذا أجيء. في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا اللَّه. فبهذه المشيئة نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب 10: 7، 10). وقوله «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبراراً» (رو 5: 19).
ويشير معنى الذبيحة إلى موت المسيح كفارة على الصليب كأنه مذبوح على مذبح لأجل خطايا العالم. على أن حياة المسيح كلها كانت ذبيحةً، لأن احتماله المشقات والآلام والأحزان والأحمال المقترنة بحياته على الأرض كان من نوع الذبيحة، كما قال هو نفسه (ليس إشارة إلى موته فقط بل إلى حياته) «أمَا كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟» (لو 24: 26). فإن كانت كلمة «ذبيحة» تشير غالباً إلى موته على الصليب، إلا أنها تشمل أيضاً كل ما احتمله ليتمم عمل الفداء على الأرض.
5 - ما هو تعريف الكفارة والتكفير والإرضاء والإيفاء والنيابة؟
* كفارة المسيح هي عمله الذي تم بطاعته الكاملة الاختيارية لمشيئة اللَّه، ليخلص البشر من لعنة الشريعة ويصالحهم مع اللَّه. ولم تكن تلك الكفارة لأجل نفسه بل لأجل جنسنا الساقط، كما قيل «فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقرّبنا إلى اللَّه» (1بط 3: 18). وتُبنى قيمة تلك الكفارة على أنه ابن اللَّه الأزلي، كما قيل «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت» (مت 17: 5). ويصح أن ننظر إلى كفارة المسيح من أوجه مختلفة، منها علاقتها بمحبة اللَّه وقداسته وعدله، أو في عملها في الإنسان ولأجله. وقد اصطلح اللاهوتيون على كلمات تعبّر عن هذه العلاقات المختلفة، فقيل مثلاً إن كفارة المسيح تكفر عن الخطية وترضي اللَّه وتوفي العدل حقه، وإن المسيح تمم عمله الكفاري نيابةً عنا.
وقيل إن كفارة المسيح تكفر عن الخطية، وهو وصفٌ لمفعول الكفارة في خلاص الخاطئ من لعنة الشريعة ورفع الدينونة عنه. وقيل كذلك إن الكفارة ترضي اللَّه، وهذا وصفٌ لمفعول الكفارة في إزالة غضب اللَّه، وعن رضاه بقبول الخاطئ للمصالحة. وقيل كذلك إن الكفارة توفي العدل حقه حتى لم يبقَ شيء من الدَّين يُطالب به العدلُ الإلهي الخاطئ الذي آمن. فالإيفاء مأخوذ من الاصطلاحات الشرعية، والتكفير من الاصطلاحات اليهودية المختصة بالنظام الموسوي وخدمة الهيكل. ويُشار بالإيفاء إلى تأدية مطالب الشريعة، ويُشار بالتكفير إلى ستر النفس المذنبة بدم الذبيحة حتى لا يُطالَب المذنب بالقصاص لأنه رُفع عنه بوضعه على الحيوان المذبوح لأجله، ويُشار بالإرضاء أو الاستعطاف إلى تحويل غضب اللَّه إلى رضى بناءً على وساطة المسيح وكفارته كما قيل «في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا اللَّه، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يو 4: 10). ولم تكن الكفارة ما حمل اللَّه على محبة البشر، ولكنها فتحت باب المصالحة بينه وبين الخطاة، بدون إهانة لشريعته المقدسة، لأنه إلهٌ محبٌّ يقبل التكفير، والمصالحة هي ذاتها ثمر محبته.

فالتكفير هو سبب رضى اللَّه، لأن ذنب الخاطئ صار مستوراً، واللَّه صار راضياً. وبما أنه لا بد من القصاص على الجرم بمقتضى عدل اللَّه (لأن القصاص هو كراهة اللَّه للخطية وحكمه العادل عليها) تمّ التكفير عن جرم الخاطئ بالإيفاء، أي بالقصاص النيابي. فرضي اللَّه بذلك، لأن مِن طبيعته أن يصفح عن الخاطئ ويباركه. وكلمة «راضٍ» و«محب» ليستا مترادفتين. نعم إن اللَّه محبة لأنه أحبنا ونحن خطاة، وقبِل الإيفاء عنا. ولكن الإيفاء أو التكفير لا يحرك المحبة في قلب اللَّه، بل يجعله راضياً على الذين عصوا شريعته، وبهذا يبيّن محبته.
وقد فشلت الفلسفة البشرية في فهم طبيعة اللَّه وعلاقته بخلائقه الخطاة. ولكن إذا التفتنا إلى تعليم الكتاب المقدس في ذلك سهُل علينا فهمها، لأنه ورد في العهدين القديم والجديد أن اللَّه عادل بمعنى أن طبيعته تطلب قصاص الخاطئ، ولا يمكن أن يكون غفران بدون تكفير نيابي أو شخصي. ومن المعلوم أن طريق الخلاص جاء بالتمثيل والرمز في النظام الموسوي، وجاء بالتفسير في كتب الأنبياء، وجاء بالإعلان الواضح في العهد الجديد. وكلها تتضمّن نيابة ابن اللَّه المتجسد عن الخطاة.
وبكلمة «إيفاء» نشير إلى كل ما فعله المسيح ليوفي مطالب ناموس اللَّه وعدله. والإيفاء نوعان متميزان بينهما فرق في حقيقتهما ونتائجهما: فالنوع الواحد مالي أو تجاري، والنوع الآخر عقابي أو قضائي. فبالمعنى المالي، متى دفع المديون كل ديونه يتحرر من الدين، لأن الإيفاء هو تأدية كل ما يُطالَب به، فلا تكون بعد ذلك رحمة ولا نعمة من الدائن الذي استوفى دينه. ولا فرق عنده سواء أوفاه المديون نفسه أم شخص آخر عوضاً عنه، لأن دعوى المداين هي على المبلغ المستحَق، لا على الشخص المديون. أما في الجنايات ففي ذلك فرق، لأن الطلب هو على المجرم، وهو نفسه المطلوب للعدالة. وفي هذه الحالة لا تقبل المحاكم البشرية أن يحل شخص محل آخر، لأن الأمر الجوهري ليس العقاب بل إجراء العقاب على المذنب الذي يكابده. قال اللَّه «النفس التي تخطئ تموت». وليس من اللازم أن يكون العقاب من نوع الجرم، بل من النادر أن يكون كذلك، لأن كل ما يُطلَب هو أن يكون جزاءً عادلاً على قدر الجرم تماماً. فعقاب التعدي على شخص ربما كان جزاءً نقدياً، وعلى السرقة القيود في السجن، وعلى خيانة الملك النفي أو الموت. ومن أهم الاختلافات بين الإيفاء المالي والعقابي هو أن المالي يتوقف على سداد الدَّين فيصير المديون حراً، ولا يجوز إبقاؤه مسجوناً، ولا وضع شروط لإطلاقه. وأما المجرم المجبَر على الإيفاء العقابي فلا يحق له أن يقيم آخر مكانه، لأن هذا ليس له مثيل في المحكمة البشرية، ولذلك لا يستفيد من البدل. أما إذا قبل القاضي بالبدل، تترتب حينئذ فائدته على ما يشترطه القاضي على البدل وما يقابله من تعهُّد له به، فربما والحالة هذه يتم إطلاق المذنب حالاً بدون شرط، أو يتأخر إلى حين على شروط معلومة، أو يتم بالتدريج لا دفعة واحدة.
وبما أن إيفاء المسيح ليس مالياً بل هو عقابي أو قصاصي، أي إيفاء عن الخطاة لا عن مديونين ديناً مالياً ينتج ما يأتي:
(1) إنه لا يقوم بتقديم شيء مساوٍ له في القيمة، فعقاب اللص ليس استرجاع المسروق، ولا تعويض قيمة المال. بل هو غالباً يختلف تماماً عن حقيقة الجرم، كالجَلْد والسجن. فإن عقوبة الهجوم على شخص بقصد ضربه لا يكون بتنفيذ نفس هذا العمل ضد المذنب، بل قصاص آخر يوازي ذنبه. وكذلك هناك فرق كبير بين قصاص تلك الجنايات وقصاص النميمة والخيانة والعصيان. فكل ما يطلبه العدل الإلهي في الإيفاء العقابي أن يكون إيفاءً حقيقياً لا مجرد ما يرضى به القاضي الأرضي. نعم قد يختلف في النوع ولكن يجب أن يكون ذا قيمة جوهرية تساويه، فغرامة إنسان بدراهم قليلة لأجل القتل عمداً نوعٌ من الاستخفاف، ولكن الموت أو السجن الطويل لأجل إعدام الحياة هو إيفاء حقيقي للعدل.
ويعلمنا الكتاب أن المسيح أوفى العدل الإلهي عن خطايا البشر، وأن ما كابده كان مجازاة حقيقية وافية بالعقاب الذي أُعفي منه المجرم وبالفوائد الموهوبة. أي إن آلامه وموته كافية لتتمم جميع الغايات المقصودة بقصاص البشر على خطاياهم. فهو أوفى العدل الإلهي حقه، وجعل تبرير الخاطئ موافقاً له. ولكنه لم يتألم بنوع وقدر الآلام المفروض أن يكابده الخطاة. غير أن قيمة آلامه تفوق ما استوجبوه إلى غير نهاية، لأن موت إنسان فريد وصالح جداً، واتِّضاع ابن اللَّه الأزلي وآلامه وموته يفوق بما لا يُقاس قيمة وقوة ما يكابده جميع الخطاة من العقاب.
(2) إيفاء المسيح هو من النعمة، لأن الآب لم يكن مضطراً أن يقدم المسيح بدلاً عن البشر الساقطين، ولا كان المسيح مضطراً أن يتخذ تلك الوظيفة. ولكن لمجرد النعمة أوقف الآب إجراء الشريعة، وقبل الآلام النيابية وموت ابنه الوحيد. والمسيح من محبته التي لا نظير لها رضي أن يأخذ طبيعتنا ويحمل خطايانا ويموت عنا، البار عن الأثمة ليقرّبنا إلى اللَّه. وكل ما يناله الخطاة من فوائد بسبب إيفاء المسيح هي عطايا مجانية وبركات لا حقَّ لهم فيها.
(3) يؤكد الإيفاء منح البركات الناتجة عنه لشعب اللَّه المؤمن بالمسيح. وهذا عدلٌ لسببين: (أ) إن اللَّه وعد المؤمنين بهذا الإيفاء جزاءً لطاعة المسيح وآلامه. وعاهد اللَّه المسيح أنه إذا تمم شروط الوساطة وأوفى خطايا شعبه، يبارك كل المؤمنين به للخلاص. و(ب) إن ذلك من خواص الإيفاء، فإذا أُوفيت مطالب العدل لا تُطلَب بعد، واللَّه لا يتقاضى أجرة الخطية مرتين. وهذه هي المشابهة بين عمل المسيح وإيفاء الدين المعتاد.
(4) إيفاء المسيح مبنيٌّ على العهد المقطوع بين الآب والابن، فتتوقف فوائده بشروط ذلك العهد. فإن شعب اللَّه يولدون في الخطية كبقية البشر، ويبقون تحت الدينونة إلى أن يؤمنوا، وحينئذ يتبررون وينالون فوائد الفداء الكاملة بالتدريج، فينال المؤمن الفوائد شيئاً فشيئاً في هذه الحياة إلى أن تُكمل له في الحياة الأبدية.
أما النيابة فتشير إلى أن المسيح قام مقام غيره في عمل الفداء. والمقصود بالقصاص النيابي ليس الآلام التي تُقاسَى لأجل خير الآخرين فقط، لأن آلام الشهداء ومحبي أوطانهم وصانعي الأعمال الخيرية تُكابَد لأجل خير الكنيسة والبلاد والجنس البشري، ولكنها ليست نيابية، لأن النيابة حسب استعمالها تشمل معنى البدل. فالآلام النيابية هي ما يكابده شخص عوضاً عن آخر، وتقتضي بالضرورة تحرير المكابَد عنه إذا تمت جميع شروط ذلك. والنائب هو البدل، أو من يأخذ مكان الآخر ويعمل عوضاً عنه. وعلى ذلك تكون آلام المسيح النيابية هي ما احتمله عن الخطاة، فقام مكانهم وعمل ما يجب ليوفي العدل الإلهي حقه. وما فعله وكابده يُغنيهم عن القيام بما يطلبه الناموس لتبريرهم. وهذا الاعتقاد بالتعويض والطاعة والآلام النيابية موجود في كل أديان العالم، ومثبَتٌ من كلمة اللَّه ومتضمَّن في تعاليمها، مما يبرهن أن العمل النيابي ليس بشرياً محضاً، بل هو ناشئ من مصدر إلهي، ويوافق ليس عقل الإنسان فقط بل عقل اللَّه أيضاً. ولا يليق أن نستعمل كلمات بمعنى يختلف عن معناها المقرر، فلا يصح أن نقول إن آلام المسيح نيابية، بمعنى أنها استُخدمت لخير الجنس البشري فقط، لأن ذلك يمكن أن يُقال عن الآلام التي يكابدها شهيد من أجل وطنه. أما المقصود بنيابة آلام المسيح فهو كالمقصود بنيابة إنسان عن آخر ليخلصه من العقاب الذي يستوجبه، وكالمقصود بنيابة موت ذبائح العهد القديم عن موت المذنب.
فممّا سبق يتضح أن علماء اللاهوت يستخدمون كلمة «كفارة» ليشرحوا عمل المسيح الذي تممه لخلاص البشر. والتكفير هو ستر الخطايا برش دم الذبيحة كما كانت العادة في ذبائح العهد القديم (لا 17: 11 ورو 3: 25 وعب 2: 17 و1يو 2:2 و4: 10). والإرضاء هو تحويل غضب اللَّه إلى الرضى عن الخاطئ بناءً على وساطة المسيح. على أن الرضى هنا يمتاز عن المحبة، لأن محبة اللَّه لا تتوقف على الكفارة، أما الرضى فهو نتيجة إيفاء العدل حقه، والنيابة تعبّر عن قيام المسيح مقامنا أمام الشريعة الإلهية (1بط 3: 18 وعب 7: 25).
6- ما هو تعريف المصالحة والفداء؟
* في الكتاب كلمتان مهمتان تشيران إلى عمل المسيح ونتيجته، وهما «كفَّر» و«صالح». فكلمة كفّر تشرح هدف عمل المسيح، ودُعي عمله كفارة ومفعوله تكفيراً (رو 3: 25 وعب 2: 17 و1يو 2:2 و4: 10 ولا 17: 11). وكلمة «صالح» تشرح نتيجة ومفعول عمل المسيح في إزالة المخالفة بين اللَّه والخطاة. ودُعيت تلك النتيجة المصالحة (رو 5: 11 و2كو 5: 18، 19 وأف 2: 16 وكو 1: 20). وقد أُضيف إلى هاتين الكلمتين المشهورتين كلمتي إرضاء وإيفاء، كما سبق الكلام. غير أن الكلمتين الأخيرتين من باب الاصطلاحات اللاهوتية أكثر مما هما من لغة الكتاب. على أنهما تشرحان تعليم الوحي في كفارة المسيح. أما من جهة نتيجة الكفارة من حيث أنها عمل قد تم، فهي على ثلاثة أوجه: (أ) علاقتها باللَّه وحده، و(ب) علاقتها باللَّه والإنسان معاً، و(ج) علاقتها بالإنسان وحده. فبالنسبة للَّه هي بيان محبته وقداسته وعدله وثبوت حكمه الأخلاقي (2كو 4: 6 و1يو 4: 10) وبالنسبة للَّه والإنسان معاً هي واسطة مصالحة الخطاة معه. وبالنسبة إلى الإنسان هي واسطة فدائه.
أما من جهة المصالحة فيعلّمنا الكتاب أن اللَّه هو طالبها كما قيل «اللَّه كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه» (2كو 5: 19) وقد عيَّن وساطة المسيح بكمالها طريقاً للوصول إلى المصالحة. وكان هذا في نيّة الآب السماوي قبل إرسال ابنه، وكانت كفارة المسيح واسطة إتمام ذلك القصد كما قيل «جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، لنصير نحن برَّ اللَّه فيه» (2كو 5: 21). وبهذا المعنى دُعيت بشارة الإنجيل «خدمة المصالحة» والمبشرين «سفراء عن المسيح» والذي قبل الإنجيل وآمن بالمسيح دخل في حال المصالحة والسلام، والذين قبلوا المسيح واتكلوا على كفارته وتبرروا بدمه نالوا السلام التام وخلصوا من الغضب (رو 5: 9-11).
أما «الفداء» فهو نتيجة كفارة المسيح بالنسبة للإنسان لأنه نال بها الفداء، أي تخلَّص من لعنة الشريعة ومن عبودية الخطية ومن القصاص الأبدي بعمل المسيح الذي دفع عنه فدية دمه الكريم، كما قيل «ابن الإنسان جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت 20: 28) وأيضاً قوله «كنيسة اللَّه التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28) وقوله «الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا» (أف 1: 7) وقوله «عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب.. بل بدم كريم» (1بط 1: 18، 19) وقوله «لأنك ذُبحت واشتريتنا للَّه بدمك» (رؤ 5: 9) وأيضاً «ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً» (عب 9: 12) فالمسيح قدم نفسه فدية عن خطايا العالم أجمع (يو 3: 16 وعب 2: 9). غير أن ذلك الفداء المعد للعالم لا يكون فعالاً ونافعاً إلا للمؤمنين بالمسيح، الذين بالتوبة والإيمان ينالون فوائد الكفارة.

7 – ما هي التفسيرات الرئيسية للكفارة في تاريخ الكنيسة؟
* كانت هناك ثلاثة تفسيرات رئيسية في تاريخ الكنيسة:
(1) رأي أوريجانوس الإسكندري (185-254م) وهو أن موت المسيح كان فدية قدَّمها المسيح للشيطان ليحرر البشر الساقطين من سجنهم. وبموت المسيح افتدى هؤلاء الساقطين وخلَّصهم. وقبل الشيطان أن يحل المسيح مكان البشر، ولكنه لم يستطع أن يبقي المسيح في قبضته، لأنه قام من الموت منتصراً. وهكذا خسر الشيطان أسراه من البشر، ولم يقدر أن يحتفظ بالمسيح الفدية.

(2) رأي أبيلارد (1079-1142م) وهو أن موت المسيح يترك أثراً جليلاً على البشر المذهولين من محبته لهم، فيتوبون ويحبونه لأنه أحبهم أولاً ، وهكذا يتغيَّرون بفضل موت المسيح.

(3) رأي أنْسِلْم (1033-1109م) وهو يقول إن الخطية إهانة لامتناهية ضد اللَّه، ولذلك تتطلَّب إرضاءً مساوياً للَّه. ولا يستطيع كائن ما، إنسان أو ملاك، أن يزيل هذه الإهانة، فلا بد أن اللَّه نفسه يأخذ مكان الإنسان، وهذا ما عمله المسيح، اللَّه الذي ظهر في الجسد، فأرضى العدل الإلهي بموته ونيابته عن البشر. وعلى هذا لا يكون موت المسيح فدية مقدَّمةً للشيطان، ولكنه دين يُسدَّد للَّه.

وقد نحا مصلحو القرن السادس عشر نحو رأي أنسلم، فقال مارتن لوثر إن المسيح قبل طوعاً أن ينوب عن البشر في تحمُّل عقابهم، وحُسب خطية ليصيروا هم بر اللَّه فيه. وقال جون كلفن إن المسيح حمل في نفسه عقاب الإنسان الخاطئ المدين.
8 - ما هي الأدلة على لزوم الكفارة؟
* يتبيّن لزوم الكفارة من:
(1) البرهان العقلي: اللَّه قدوس والإنسان خاطئ، وخطية الإنسان ضد القداسة الإلهية. والخطية تستحق الدينونة، ولا يصح مغفرة الخطية إلا بواسطةٍ تزيل تلك الدينونة وتحمل عن الخاطئ جرمه. وهذا لا يتم بمجرد توبة الخاطئ وإصلاحه، لأنه ولو صار صالحاً لا يزيل ذلك عنه دينونة الخطايا التي ارتكبها. ولو غفر اللَّه له خطاياه بدون كفارة لم يبقَ عند الخاطئ إكرام لشريعة اللَّه، وحينئذ لا يحترم قداسة اللَّه ولا يميز سموَّ حُكمه الأخلاقي ولا يعرف حقيقة رحمته ولا يمجده في كمال صفاته. ولذلك لابد من الكفارة لرفع دينونة الخطية وإظهار صفات اللَّه بأكمل بيان.

(2) توافق الكفارة احتياج الإنسان الأخلاقي: فللإنسان طبيعة أخلاقية وضمير يعلّمه سموّ العدل والقداسة. وإذا اقتنع بخطيته ولم يعرف كفارة، انزعج ضميره واضطربت طبيعته الأخلاقية. وأما المغفرة بواسطة الكفارة فتوافق مطالب ضمير الإنسان وتسد كل احتياجاته الأخلاقية.

(3) توافق الكفارة مطالب الشريعة: لأن الشريعة الإلهية والبشرية تطلب قصاص المذنب. والشريعة التي بدون قصاص ليست شريعة حقيقية، والقصاص ضروري لكرامة الشريعة وشرف لمطالبها، فلذلك تطلب قصاص الخاطئ أو كفارة ترفع عنه القصاص، لأن العفو بدون كفارة ولا قصاص إهلاك للشريعة وإهانة لها. قال المسيح «إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (مت 5: 18) وهو أتى ليكمل الشريعة ويكرمها. فالعفو بدون كفارة اعترافٌ بأن الخطية لا تستحق القصاص، ويمكن غض النظر عنها بدون إهانة للقداسة والعدل.

(4) حدوث الكفارة في تاريخ الديانة الإلهية: فلو لم يكن للكفارة لزوم لما أوجدها اللَّه. ويتضح لزومها من أقوال الكتاب. قال البشير «وابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل» (مر 8: 31) وقال المسيح «كما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان» (يو 3: 14) وقيل أيضاً «كان بولس يحاجُّهم موضحاً ومبيّناً أنه كان ينبغي أن المسيح يتألم» (أع 17: 3) «لأن كل رئيس كهنة يُقام لكي يقدم قرابين وذبائح. فمِن ثمّ يلزم أن يكون لهذا أيضاً شيء يقدمه» (عب 8: 3) وقال «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب 9: 22).
(5) يقتضي حكم اللَّه الأخلاقي الكفارة: فاللَّه حاكم أخلاقي يراعي نظام حكمه، ولا يسمح بوقوع العصيان والتشويش في أخلاقيات الكون. ولو لم يحاسب المتعدّين ويحكم عليهم بالقصاص لكان هذا إهانة له ولأوامره. على أنه قد بيّن في الكفارة كراهته للخطية، وغضبه على الخطاة، وإكرام شريعته، وفتح باب المصالحة للمذنبين.
(6) وجودها في كل الأديان البشرية: وذلك يبيّن أن ضمير الإنسان يطلبها عموماً، ولا يكتفي بمجرد التوبة عن الخطية بل يطلب كفارة. وطريق التكفير هو سفك الدم، فينوب المذبوح عن المذنب في احتمال القصاص. وكل ذلك دليل على لزوم الكفارة في الديانة.

9 - ما هي الاعتراضات على لزوم الكفارة، وما هو الرد عليها؟
* (1) الاعتراض الأول: اللَّه أب صالح فلا يطلب كفارة عن الخطية. والجواب على ذلك: أن علاقة اللَّه بالبشر ليست فقط علاقة أب صالح، بل هي علاقة حاكم أخلاقي بار أيضاً. ولا بد من اجتماع هاتين الصفتين في اللَّه، والتوافق بينهما. وإذا كان من الخطأ أن ننسب إليه العدل الواجب في الحاكم بغضّ النظر عن الرحمة الواجبة في الأب، كان من الخطأ أيضاً أن ننسب إليه المحبة الأبوية في معاملته لأولاده الخطاة بغضّ النظر عن اهتمامه بسلطان شرائعه وعدالة حكمه. ويخطئ من يظن أن في هاتين الصفتين تناقضاً، فهما متوافقتان مجتمعتان في كل أحكامه وأعماله، ولا سيما في مسألة الكفارة، لأنه لا يجوز أن نغفل أن الذي اقتضى عدله الصارم هذه الكفارة العظيمة عن خطايا البشر، هو نفسه الذي اقتضت رحمته الفائقة أن تجهزها، حتى تلاثم الحق والرحمة (مز 85: 10) وثبتت عدالة الحاكم عاملة مع محبة الأب ليخلص الخطاة.
ومن جملة هذا الاعتراض قول بعضهم إن الكفارة تظاهر سياسي، قصد اللَّه به تشييد سلطان الشريعة والنظام الأخلاقي في العالم. وهذا القول يخالف ما نعلمه من صفات اللَّه الجوهرية التي تطلب التكفير عن الخطايا لنوال المغفرة. ويقول الكتاب إن الرب بار في كل طرقه (مز 145: 17) «إله أمانة لا جور فيه. صدّيق وعادلٌ هو» (تث 32: 4) «عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا تستطيع النظر إلى الجور» (حب 1: 13) يجازي كل واحد حسب أعماله، ويرسل السخط والغضب على كل نفس إنسان يفعل الشر (رو 2: 6، 8). فهذه هي أقوال اللَّه الصادقة بشأن بعض صفاته التي لا يجوز إهمالها.

(2) الاعتراض الثاني: الكفارة غير ضرورية، لأنه لا مانع عند اللَّه من رجوع الخطاة إليه، وإنما المانع الوحيد هو عدم إيمانهم بما أعلنه من محبته ورحمته وعدم قبولهم إياها. والجواب على ذلك أنه لا يمكن أن يكون المانع عند اللَّه شيئاً من الحقد والضغينة الشخصية ضد الخاطئ، لأن هذا ضد طبيعته المليئة بالمحبة. ومن الواضح في الأسفار الإلهية أن المانع هو كراهته الشديدة للخطية، ودينونته العادلة عليها، وعزمه المعلَن بأنه إذا كان هو واضع الشريعة والديان العادل، لزم بالضرورة أنه يعاقب الخطاة. ولو لم يكن الأمر كذلك لتعذّر علينا أن نفهم أقوال الكتاب الكثيرة بهذا الشأن، ومنها قوله «اللَّه قاضٍ عادل، وإله يسخط في كل يوم» (مز 7: 11). «وجه الرب ضد عاملي الشر» (مز 34: 16). «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع» (إش 59: 2). «لأن غضب اللَّه معلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم» (رو 1: 18). وفي الكتاب أدلة واضحة على غضب اللَّه الطاهر على الخطاة، وعلى عزمه العادل أن يدينهم على خطاياهم.

(3) الاعتراض الثالث: إذا كان الإنسان يقدر أن يغفر للذين يخطئون إليه بدون أن يطلب إيفاءً أو كفارة، فلماذا لا يفعل اللَّه ذلك؟ إننا نخالف أمر اللَّه القائل «كونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم» (لو 6: 36). فكيف نقول إن اللَّه لا يغفر الخطية بدون الإيفاء عنها؟ ألا يكون ذلك إعلاناً أن الإله الذي أمرنا أن نشابهه في رحمته أقل رحمة منا؟ أوَلا ننسب بذلك إلى الإله العظيم ما نحسبه معيباً وملوماً في الإنسان؟ وللرد نقول: نشأ هذا الاعتراض من تغافل الفرق العظيم بين الحقد الشخصي والحكم الشرعي. فقد يصفح الناس عن ذنوب وإهانات الآخرين لهم، وهذا لا يستلزم أنه يجب على ديان كل الأرض أن يفعل كذلك ويصفح عن مخالفة الشرائع الخاصة بملكوته العام، والتي تتعلق بخير جميع خلائقه العاقلة. لأن الإيفاء الذي يطلبه اللَّه ليس إيفاءً شخصياً، فقد قال إنه لا يريد موت الخاطئ. ولكنه إيفاءٌ شرعي يطلبه، لا دفعاً لشعور الغضب أو الانتقام بل مراعاةً لعدله في مغفرة الخطية وحفظ استقامة حكمه وسلطان أوامره من الخلل والنقص والتقلب.
وصاحب هذا الاعتراض يتغافل أن اللَّه لا يطلب فقط، بل هو يعطي أيضاً للإيفاء عن الخطايا التي يصفح عنها، وأنه قد جهّز مجاناً ما يطلبه لأجل الصفح. ومن هذا يتضح أن اللَّه ليس أقل رحمة من البشر إذا غفر بعضهم لبعض بدون طلب شيء من التعويض، بل بالعكس إن رحمته تظهر جلياً من قيمة الكفارة التي يطلبها عدله، وقد جهزتها محبته الفائقة.
(4) الاعتراض الرابع يقول: لا يمكن إزالة عقوبات الخطية إلا بإزالة الخطية نفسها، فالسبيل الوحيد لتخليص الإنسان من عواقب الخطية هو تقديسه، فإذا حصل على ذلك خلص من عقابها. وقال المعترض أيضاً إن الكفارة ليست واسطة لتخليص الإنسان من عقاب الخطية، بل هي تعرُّضٌ لنظام حكم اللَّه الأخلاقي وسلطان شرائعه. والجواب: لما كان الإنسان مخلوقاً أخلاقياً مسؤولاً، كانت علاقته بالإله الحي الديان العادل ذي السلطان الأعلى، لا بشرائع عاملة بنفسها. وصوت الطبيعة الأخلاقية التي فينا متى كانت صحيحة يرشدنا إلى أن الخطية قد طردتنا من رضى اللَّه وعرّضتنا لعقاب غضبه العادل. والكتاب المقدس يعلّمنا أن «غضب اللَّه معلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم» (رو 1: 18)، والدينونة التي يُحضِر اللَّه كل عمل إليها، على كل خفيّ، إن كان خيراً أو شراً (جا 12: 14). ويتضح من ذلك أنه لو زالت عواقب الخطية الطبيعية وشرورها الزمنية بزوال الخطية (وهو غير الواقع) فإننا لا نزال نحتاج للخلاص من غضب اللَّه البار ودينونته العادلة، لأن الخطية ليست مرضاً روحياً فقط يحتاج إلى الشفاء، بل هي جناية يعاقب الديان العظيم عليها أو يصفح عنها. وهذا واضح من شهادة الكتاب المقدس، ومن شعور الإنسان أو شهادة ضميره بأنه أثيم، وهو شاهد صادق بوجوب الدينونة التي تستحقها الخطية التي سبق ارتكابها، وبأن مجرد الإصلاح في المستقبل لا يستطيع أن يرفع الماضي أو يمحوه.
(5) الاعتراض الخامس: التوبة كافية لنوال المغفرة، فلا حاجة إلى الكفارة، فإن للتوبة فائدة ذاتية قائمة في نفسها، فإذا كانت توبة صادقة فإنها تشمل الحزن على الخطية، والرغبة في إصلاح الحياة. وهذا كل ما يطلبه اللَّه تعويضاً عن الخطأ. فالتوبة تعترف بسلطان شريعة اللَّه، وتعترف بإثم التعدي. وبناءً على هذا يجب اعتبار التوبة بمنزلة العقاب، وأنها كافية لتوفي مطالب اللَّه صاحب الشريعة العظيم والقيام بمقاصده الحكيمة الصالحة. وللرد نقول: هذه الأقوال خاطئة مهما كان ظاهرها في أول وهلة صحيحاً، كما يظهر مما يأتي:
(أ) لا يصح اعتبار التوبة في أتم معناها أكثر من عمل ما يجب علينا في الزمن الحاضر، لأنها رجوع إلى سبيل الطاعة، يصحبها ما يجب على الخطاة من الاعتراف والحزن. فمهما كانت التوبة تامة فهي لا تكفّر عن الخطايا السابقة. كما أنها دائماً قاصرة عن الواجب، عاجزة عن التكفير عن الخطايا السابقة، وعاجزة عن منع ارتكاب الخطايا في المستقبل. ولا يصح القول إنها تقوم عند اللَّه مقام العقاب، لأنها ربما أشارت إلى حكم الخاطئ في الخطية، ولكنها لا تشير إلى حكم اللَّه فيها، أي فرط كراهته لها وشدة عقابه عليها، ومخالفتها لقداسة طبيعته وسلطان شرائعه واستقامة حكمه وخير خلائقه.

(ب) ونردّ على هذا الاعتراض بالنظر إلى الشرع البشري، فتوبة السارق عن السرقة والقاتل عن القتل والخائن عن خيانة الدولة لا تعتبر أبداً تكفيراً عن الذنب. وقد تمضي مدة طويلة بين زمن ارتكاب الجناية وزمن كشف الجاني، يحزن أثناءها الجاني ويتأسف على ما فعل، وتكون حياته حياة صلاح واستقامة. إلا أن كل ذلك لا يمنع الحكم عليه بالعقاب، لأن الحاكم ولو مال في هذه الحال إلى معاملة المذنب بالرحمة يرى أن مراعاة مقامهِ ووظيفته كحاكم، ومطالب الشريعة وخير الجمهور يقضي بأن يحكم على المذنب حسب نص القانون.

(ج) فضلاً عن أن كل توبة يستطيعها الإنسان قاصرة ناقصة لا تكفر عن الخطية، بل إن التوبة تحتاج إلى التكفير. ومن المعلوم أن التوبة لا تدّعي القبول عند اللَّه، لأن التائب الحقيقي يحكم على نفسه بالخطأ ويدين نفسه ويسلم تسليماً تاماً بصدق كل ما توجبه عليه شريعة اللَّه، وبعدل كل ما تحكم عليه من الويل، ويقر إقراراً قلبياً أنه لا يرى في نفسه شيئاً يدافع به عن نفسه أمام الحكم الصادر ضده. فكيف يصح إذاً أن ننسب للتوبة فضلاً أو عملاً للحصول على مغفرة الخطية؟

(د) في قلب الإنسان شعور طبيعي بلزوم وجود طريقة أخرى تعجز عنها التوبة لنوال الصفح عن الخطايا. وإلا بماذا نعلل انتشار الذبائح بين جمهور عظيم من البشر من الزمن القديم حتى الآن؟ لأننا نعلم من التوراة أن الذبائح فريضة إلهية وضعها اللَّه بعد سقوط الإنسان، وسلّمها أولاد نوح إلى ذريتهم، ثم تمسكت بها كل الشعوب في كل العصور. فلا بد أن لها أساساً يوافق ما يشعر به القلب الخاطئ من الاحتياج إلى الكفارة. وهذا ما نلمسه من القوة العجيبة التي تصاحب دائماً التبشير بكفارة المسيح. فإن طبيعتنا الأخلاقية تلجئنا إلى احترام ما تطلبه القداسة، ولو كانت سيرتنا تخالفها. ويظهر أن ضمائرنا لا تطمئن بالنجاة من عواقب خطايانا بغير سبيل التبرير بواسطة الكفارة.
ومما يقال في هذا المعنى إنه لا يصح أن تُحمل أقوال الكتاب بشأن غضب اللَّه على الخطية على سبيل المجاز. ولنا برهانان في ذلك، أولهما: شعور ضمائرنا بأن اللَّه يغضب على الخطية، وهذا القول حقيقة لا مجاز. وثانيهما: المسيح وهو اللَّه في جسد إنساني كان يغضب أحياناً بشأنها (مر 3: 5 و10: 14) وذلك دليل على غضب اللَّه الفعلي على الخطية، كما نغضب نحن البشر على من يسبّب لنا الضرر.

10 - هل يستريح ضمير الإنسان إلى الديانة الخالية من تعليم الكفارة كما يستريح ضميره إلى الديانة المسيحية؟
* تقنع الكفارة طبيعة الإنسان الأخلاقية بسبب الضمير، فقد بقي الضمير في الإنسان بعد سقوطه في الخطية، وهو القوة الأخلاقية التي تميّز الحلال من الحرام، وتنشئ فينا عند العمل شعوراً بالرضا أو الإحساس بالخطأ. ويتفق الضمير عادةً مع شريعة اللَّه التي نزلت على جبل سيناء، فهما شريعتان: الواحدة ظاهرة في الخارج، والأخرى باطنة في الداخل. ولهما سلطان من الإله الواحد الحقيقي الذي أعلنهما للإنسان على طريقتين متميزتين متوازيتين. وكما أن «بأعمال الناموس لا يتبرر كل ذي جسد» (رو 3: 20) فلا يقدر أحد أن يحفظ فرائض اللَّه الطاهرة، هكذا لا يخلُص أحد من الدينونة بمجرد صوت الضمير. فإن الوصايا العشر وصوت الضمير صوتا موتٍ لجميع الذين يسمعونهما فقط. وكما أن الناموس في صرامته «مؤدّبنا (الذي يقودنا) إلى المسيح» (غل 3: 24) هكذا صوت دينونة الضمير والشعور بالإثم يقوداننا للتفتيش على تعليم النعمة في الإنجيل في أمر الخلاص بالكفارة.
وتأنيب الضمير يُصحَب دائماً برجاء الغفران واليقين أن اللَّه يصفح عن الخطية كما أنه يعاقبها. وهو ما نشاهده في شريعة موسى التي أعلنت عقاب اللَّه على الخاطئ ورحمته للتائب. بل إن الفطرة الإنسانية إذا تُركت لتستنبط عبادةً من تلقاء نفسها لم تضع أبداً ديانة تعلّم القنوط واليأس. ولما كانت جميع الأديان تفترض إمكان المغفرة، وتعلّم سبيلاً لنوالها، كان ذلك دليلاً واضحاً على أن تهديدات الضمير (مهما كان حكمها صارماً) لا تمنع رجاء الغفران. على أنه يتعسّر على الإنسان التوفيق بين هذين الأمرين، كما يتعسر عليه التوفيق بين مطالب الناموس والنعمة. وقد نشأ من ذلك طريقتان مختلفتان لحل هذا المشكل العظيم في الديانة، وهو: كيف ينال الإنسان السلام مع اللَّه؟ الطريقة الأولى عجزت عن التوفيق بينهما، فأهملت حكم الضمير بالعقاب، والتجأت إلى الميل الأقوى في طبيعة الإنسان، أي رجاء الرحمة. وهذه طريقة الذين لا يؤمنون بالمسيحية، بل يرجون الغفران رجاءً مبهماً ويسدّون آذانهم عن صوت الضمير. ومنها الديانة البوذية التي توصي الإنسان بالجد في الكمال بدون ذبيحة أو كفارة أو إقرار بالذنوب. ومنها قول أصحاب مذهب سوسينيوس الذين لا يرون في العدل الإلهي ما يمنع خلاص الخطاة الذين يتوبون عن خطاياهم بدون كفارة.
وقد شهدت ضد خطأ هذه الأقوال كل ذبيحة قدّمها إنسانٌ ولو في ظلام الأديان الوثنية، كما شهدت ضدها ذبائح الديانة اليهودية المفروضة من اللَّه، والتي شهدت أنه «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة». ويفوق هذه ضياء صليب المسيح الساطع، الذي يعلن شريعة الحق الإلهي، وهي أنه لا بد من عقاب الخطية أو التكفير عنها، وأنه بالذبيحة فقط يتم التوفيق بين مطالب الناموس والنعمة وبين تأنيب الضمير ورجاء الغفران. وهذان الميلان المتضادان في طبيعتنا الروحية يجدان ما يوفّق بينهما في كفارة المسيح فقط، فهي من جانب تعترف بحقوق شريعة اللَّه التي يتعداها الخاطئ في القصاص العادل، ومن الجانب الآخر تعلن ما عند اللَّه المحب للبشر من الرحمة. وبهذا تؤيد الكفارة شهادة الضمير ضد الخطية والقصاص الهائل الذي تستحقه، ومن الجانب الآخر ننال ما نتوق إليه من السعادة والشركة مع اللَّه بفضل «غِنى نعمته الفائق» (أف 2: 7). وهكذا تجد طبيعة الإنسان الدينية ما يوافقها في كفارة المسيح، فالذين قبلوا الإيمان بالمسيح يختبرون شعور الضمير الشديد بالذنوب وعدم الاستحقاق، مجتمعاً فيهم مع اليقين التام بالخلاص كأنه فوز حاضر.
11 - ماذا يقول الكتاب المقدس في كفارة المسيح؟
* نجد في الكتاب ما يأتي:
(1) العبارات التي تفيد أن المسيح مات لأجل الخطاة (مت 20: 28 ومر 10: 45 ولو 22: 19، 20 ويو 6: 51 و10: 11، 15، 18 و15: 12، 13 ورو 5: 6-8 و8: 32 و2كو 5: 14، 15، 21 وغل 2: 20 و3: 13 وأف 5: 2، 25 و1تس 5: 9، 10 و1تي 2: 5، 6 وتي 2: 14 وعب 2: 9 و1بط 3: 18 و1يو 3: 16).
(2) العبارات التي تفيد أن المسيح مات بسبب خطايانا (رو 4: 25 و8: 3 و1كو 15: 3 وغل 1: 4 وعب 10: 12 و1بط 3: 18 وإش 53: 5، 8).

(3) العبارات التي تفيد أن المسيح حمل خطايانا (عب 9: 28 و1بط 2: 24 وإش 53: 6، 11، 12).
(4) العبارات التي تفيد أن المسيح جُعل خطية وصار لعنةً لأجلنا (2كو 5: 21 وغل 3: 13).
(5) العبارات التي تفيد أن المسيح مات ليرفع خطايانا ويغفرها (يو 1: 29 وعب 9: 26 ومت 26: 28 و1يو 1: 7، 9 ولو 24: 46، 47 وأع 10: 43 و13: 38، 39 وأف 1: 6، 7 وكو 1: 13، 14 ورؤ 1: 5، 6).

(6) العبارات التي تفيد أن موت المسيح ينقذنا من الدينونة والقصاص (يو 3: 17 ورو 8: 1، 3، 4 وغل 3: 13 و1تس 1: 10 و5: 9، 10).

(7) العبارات التي تفيد أن موت المسيح أساس التبرير (إش 53: 11 ورو 5: 8، 18، 19 و3: 24، 26 و2كو 5: 21).

(8) العبارات التي تفيد أن آلام المسيح ثمن مدفوع لأجل خلاصنا، أو فدية موضوعة لأجل فدائنا (مت 20: 28 وأع 20: 28 ورو 3: 23، 24 و1كو 6: 19 و غل 3: 13 و4:4، 5 وأف 1: 7 و كو 1: 14 و1تي 2: 5، 6 وتي 2: 14 وعب 9: 12 و1بط 1: 18، 19 ورؤ 5: 9).
(9) العبارات التي تفيد أننا ننال المصالحة مع اللَّه بواسطة آلام المسيح (رو 5 :10، 11 و2كو 5: 18-20 وأف 2: 16 وكو 1: 21، 22).
(10) العبارات التي تفيد أن موت المسيح كفارة عن الخطية (عب 2: 17 و1يو 2:2 و4: 10 ورو 3: 25).
(11) العبارات التي تنسب إلى المسيح الكهنوت (مز 110: 1، 4 وعب 3: 1 و2: 17 و5: 4-6 و9: 11، 12 و10: 11، 12، 21 و4: 14 و7: 1-17، 26).
(12) العبارات التي تفيد أن المسيح كان نائب الخطاة (رو 5: 12، 18، 19 و1كو 15: 20-22 و45-49).
(13) العبارات التي تفيد أن موت المسيح كان ذبيحة أو تقدمة لأجل الخطية (لو 22: 19، 20 ويو 1: 29 ورو 3: 25 و1كو 5: 7 وأف 5: 2 و1بط 1: 18-21 و1يو 2:2 و4: 10 ورؤ 1: 5، 6 و5: 9، 10 و7: 14، 15 وعب 2: 17 و7: 26، 27 و9: 12-14 و22-28 و10: 11-14).
(14) العبارات التي تفيد أن آلام المسيح على الأرض كانت أساساً لشفاعته في السماء (عب 4: 14-16 و7: 24، 25 و9: 23، 26).
(15) العبارات التي تفيد أن وساطة المسيح تأتينا بموهبة الروح القدس (يو 7: 39 و14: 16-26 و15: 26 و16: 7 وأع 2: 33 وغل 3: 13، و14 وتي 3: 5، 6 وأف 1: 3، 4).
(16) العبارات التي تفيد أن وساطة المسيح وآلامه ينقذاننا من قوة الشيطان وينهيان مملكته في العالم (يو 12: 31، 32 و16: 11 وعب 2: 14، 15 وكو 2: 15 ورو 8: 38، 39 و1يو 3: 8 ورؤ 11: 15).
(17) العبارات التي تفيد أن بركات الحياة الأبدية وأمجادها هي نتيجة آلام المسيح وشفاعته (يو 3: 14-16 و5: 24 و6: 40، 47، 51 و10: 27، 28 و14: 2، 3 و17: 1، 2 ورو 5: 20، 21 و6: 23 و2تي 2: 10 وعب 5: 9 و9: 15 و1بط 5: 10 و1يو 5: 11 ويه 21).
(18) العبارات التي تعبِّر عن أفكار المسيح في آلامه (يو 18: 11 ولو 12: 50 ويو 12: 27 ومت 26: 36-44 ولو 22: 44 ومت 27: 46).
(19) العبارات التي تفيد أن المسيح وعمله هما واسطة خلاصنا (يو 14: 6 وأع 4: 12 و1كو 3: 11 و1تي 2: 5 ومت 11: 28 ويو 6: 37 وأع 16: 31 و2كو 5: 20 و6: 1 وعب 2: 3 و1يو 3: 23 ورؤ 21: 6 و22: 17).
(20) العبارات التي تفيد أننا ننال فوائد الخلاص بواسطة الإيمان بالمسيح (يو 1: 12 و3: 18، 36 و6: 35 وأع 13: 38، 39 و16: 31 ورو 1: 16 و3: 28 و5: 1 و10: 4 وغل 5: 6 وأف 2: 8، 19).
(21) العبارات التي تفيد أن المسيح أتى وتألم ومات إتماماً للعهد بينه وبين الآب (عب 7: 22 و8: 6 و12: 24 و13: 20).
(22) العبارات التي تفيد أن المؤمنين متحدون بالمسيح اتحاداً سرياً (يو 15: 1-8 و17: 21، 22 ورو 6: 5 و2كو 4: 10 وغل 2: 20 وأف 2: 5، 6 و4: 15، 16 و5: 25-32 وفي 3: 10 وكو 2: 12 و3: 1).
(23) العبارات التي تفيد أن موت المسيح هو إثبات وشرحٌ لمحبة اللَّه (يو 3: 16 ورو 5: 8 و8: 32 و1يو 4: 9، 10).
مما سبق من أقوال الكتاب بياناً لشفاعة المسيح وآلامه وموته والغاية في ذلك يظهر منه ما يأتي: (1) المسيح هو المخلص. (2) آلام المسيح كانت كفارية. (3) وكانت نيابية (4) وأنها واسطة مصالحتنا مع اللَّه. (5) المسيح هو الفادي، وموته فدية عنا. (6) موت المسيح وفَّى العدل الإلهي حقه. (7) حُسبت خطايانا على المسيح. (8) آلام المسيح من نوع القصاص. (9) كفارة المسيح دليل على محبة اللَّه وثمرها. (10) الكفارة واسطة المغفرة. (11) كفارة المسيح كاملة ومنفعتها غير محدودة. (12) فوائد الكفارة مقدَّمة للجميع وينالها الإنسان بالإيمان.
ومن هذا نرى أن عبارات العهد الجديد عن الكفارة وفوائدها ثابتة واضحة في نبوات العهد القديم عن آلام المسيح، وفي الذبائح اليهودية التي كانت رموزاً إلى ذبيحة المسيح.

12 - ما هي غاية الكفارة؟
* غايتها إيفاء عدل اللَّه كاملاً لينال بها المؤمنون المصالحة مع اللَّه والميراث الأبدي في ملكوت السماء، وقد تم ذلك بقيام المسيح مقام الخطاة، وعمل كل ما يطلبه ناموس اللَّه وعدله من الخاطي، سواء كان من باب الطاعة أو من باب احتمال لعنة الشريعة وقصاصها، حتى أن الناموس لا يدين بعد ذلك من آمن بالمسيح، لأنه لم يبقَ بعد للعدل أن يطلب من الخاطئ غير ما عمله المسيح واحتمله لأجل الخطاة. وعمل المسيح هذا إيفاء كاف لسبب شخص المسيح، ولذلك كان للمؤمنين به نصيب في رحمة اللَّه ورضاه، فلا يمكن إجراء الدينونة عليهم لأنه لم يبق بعد للعدل ما يطلبه، كما أن المجرم حسب الشرع البشري إذا احتمل ما يحكم به الشرع جزاءً لذنبه لا يبقى عُرضة للدينونة ولا يُعاقب على ذلك الذنب. وهذا ما توضحه الأسفار المقدسة وكتب اللاهوتيين، فلا يبقى لصاحب الدَّين بعد الإيفاء التام طلب آخر.
وهذا الكمال في عمل المسيح الإيفائي لا يعود إلى أنه تألم في النوع أو في المقدار نفس الآلام الواجبة على الخاطئ، بل يعود إلى مقام المسيح الفائق، لأنه لم يكن إنساناً فقط بل إلهاً وإنساناً في شخص واحد، فكانت طاعته وآلامه طاعة وآلام شخص إلهي. ولا يعني هذا أن الطبيعة الإلهية نفسها تألمت، بل لأنه ذات واحد ذو طبيعتين متميزتين، يصح أن يُنسب إليه ما يُنسب إلى إحدى طبيعتيه، كما أن الإنسان إذا أُهين في جسده كانت الإهانة لذاته. فإن لم يكن هذا المبدأ صحيحاً يكون صلب المسيح مشابهاً لقتل واحدٍ من عامة الناس ظلماً. وقد جاء في الكتاب أن اللَّه اشترى الكنيسة بدمه، وأن رب المجد صُلِب. «لأنه إن كان دم ثيران وتيوس.. يُقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدَّم نفسه للَّه بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا اللَّه الحي» (عب 9: 13، 14). فنسب في هذا القول فضل فاعلية ذبيحة المسيح إلى فضل مقام شخصه الفائق.

ونشأ عن كمال عمل المسيح الإيفائي أنه أفضل كل أنواع الإيفاء عن الخطية، حتى أنه لا يُبقي لها محلاً على الإطلاق. وأما ما فُرض على المؤمنين المبررين من الآلام فليس من باب العقاب، لأن اللَّه لا يقصد به الإيفاء عن الخطية، بل هو تأديب لخير المتألم وبنيان الكنيسة ومجد اللَّه.

13 - برهن أن كفارة المسيح تكفي في ذاتها لتوفي العدل الإلهي.
* أجمعت الكنيسة كلها على أنه بسبب مقام المسيح السامي، وماهية آلامه ودرجتها، يكون إيفاؤه مطالب العدل الإلهي ذا استحقاق غير متناهٍ، وأن قيمته الذاتية في غاية الكمال، وكافية لتكفّر عن جميع خطايا البشر. ولكن البعض أنكروا ذلك لأنهم لم يميزوا بين الإيفاء المالي والإيفاء العقابي. نعم إن بينهما تشابهاً ولكن بينهما كذلك فرقاً. أما وجوه التشابه فهي إن النتيجة واحدة، وهي خلاص الموفى عنه. كما أن المدفوع في كليهما يساوي الدين بالحقيقة، وفي الحالين يطلب العدل تحرير المديون. وأما وجوه الفرق فهي أن الإيفاء العقابي لا يستلزم مقداراً خاصاً أو نوعاً خاصاً من الآلام، وأن قيمة الإيفاء العقابي تتعلق بذات الموفي خلافاً للإيفاء المالي، وأن فوائد الإيفاء العقابي توهب بشروط مقررة عند الواهب والموهوب له، بخلاف الإيفاء المالي.
ثم إن القول بأن عمل المسيح إيفائيٌ لا لسبب قيمته الذاتية، بل لمجرد إحسان اللَّه في قبوله مبني على رأي باطل، وهو أن اللَّه ينسب إلى شيء قيمة وهمية، وأن ذلك الشيء يساوي ذات القيمة الوهمية التي يقبله اللَّه بها. وهو خطأ بدليل ما يأتي:
(1) معنى هذا القول أنه ليس لشيء قيمة حقيقية، فكأن اللَّه يقبل أي شيء عوضاً عن أي شيء آخر، فيقبل الكل عوضاً عن الجزء أو الجزء عوضاً عن الكل، ويقبل الصواب عوضاً عن الخطأ أو الخطأ عوضاً عن الصواب، ويقبل دم الحمل عوضاً عن دم ابن اللَّه الأزلي. وهذا مستحيل لأن طبيعة اللَّه لا تتغير، فلا يتغير حكمه وحقه وصلاحه، ولا يمكن أن يقبل شيئاً على سبيل الإيفاء وهو أقل من الإيفاء المطلوب.
(2) هذا القول ينكر ضرورة عمل المسيح. فهل نصدّق أن اللَّه يرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليتألم ويموت لأجل خلاص العالم، بينما يمكن نوال ذلك بطريقة أخرى أسهل؟ لأنه لو أمكن أن يكفّر الإنسان عن خطاياه، أو أن يكفر أحد عن خطايا جميع العالم، لكان موت المسيح عبثاً.
(3) هذا القول يبطل قول الرسول «لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا». فإن كانت كل تقدمة من المخلوقات تساوي نفس القيمة التي يقبلها اللَّه بها (كما قال أحد القائلين بهذا المذهب) فلماذا لم تكفِ ذبائح العهد القديم لرفع الخطية؟ إن ما جعلها عديمة الكفاية والفاعلية هو عدم فائدتها الذاتية. وما يجعل إيفاء المسيح فعالاً هو فائدته الذاتية.
(4) هذا القول يناقض نصّ الكتاب، الذي يعلّم ضرورة موت المسيح تلميحاً وتصريحاً. فيقول «إن كان بالناموس برٌّ فالمسيح إذاً مات بلا سبب» (غل 2: 21). أي لو أمكن الحصول على البر اللازم لخلاص الناس بطريقة أخرى لكان موت المسيح إسرافاً لا مبرر له. وقوله «لو أُعطي ناموسٌ قادرٌ أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس» (غل 3: 21).ومعناه أنه لو وُجدت طريق أخرى لخلاص الخطاة لاختارها اللَّه. وقال المسيح «أَما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا؟» (لو 24: 26) أي كان لا بد من آلامه لخلاص الخطاة. وقال الرسول أيضاً «لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب 2: 10). أي أن آلام المسيح لازمة بسبب ما يطلبه عدل اللَّه، لا عن مجرد لزوم حكمه، ولا لأجل إيجاد قوة أخلاقية تعمل في قلب الخاطئ. ومعنى قوله «لاق به» أي كان موافقاً لكمالاته وصفاته.
(5) هذا القول يناقض تعليم الكتاب في عدل اللَّه، لأن العدل من الصفات الإلهية، ويطلب قصاص الخطية. فإذا غُفِرت لا بد أن تكون مغفرتها موافقة للعدل الإلهي، أي بناء على الإيفاء العقابي الشرعي الحقيقي. ولذلك قال الرسول إن اللَّه أرسل المسيح كفارة بالإيمان بدمه، فيكون اللَّه باراً في تبرير من هو من الإيمان بيسوع (رو 3: 25، 26).
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

(6) هذا القول يناقض تعليم الكتاب في أن هبة المسيح ومحبته ظهرتا بأعظم صورة في الكفارة. فيلزم أولاً أن الغاية المقصودة تستحق تلك الهبة، وثانياً أن الهبة كانت ضرورية لنوال تلك الغاية. فلو أمكن أن نحصل عليها بطريقة أخرى لما ظهرت المحبة الإلهية في هبة المسيح أعظم ظهور.

(7) هذا القول يناقض كل ما يعلّمه الكتاب في صدق اللَّه، وعدم تغيير الناموس وضرورة إكرامه، وعدم فائدة الذبائح لأجل الخطية إلا ذبيحة المسيح، واستحالة الخلاص إلا بواسطة عمل ابن اللَّه. إن الكتاب وقلب كل مؤمن يشهدان أن لدم المسيح فقط قيمة كافية للتكفير عن الخطايا.

14 - برهن أن كفارة المسيح توفي عدل اللَّه.
* يطلب عدل اللَّه قصاص الخاطئ، وقد أخذ المسيح على نفسه ذلك القصاص ليوفي العدل حقه نيابةً عنا. وجاءت كلمة «عدل» في الكتاب بمعنى الاستقامة في الصفات والعمل. وجاءت وصفاً للحاكم الذي يراعي حقوق شعبه ومصالحهم، وهو العدل المعروف بين الناس. وجاءت أيضاً بمعنى العدل الجزائي أو العقابي، الذي يطلب جزاءً عادلاً للثواب والعقاب، بدون التفات إلى ما ينشأ عن العقاب من النتائج الصالحة. والعدل من صفات اللَّه، فيلزم من ذلك أن عمل المسيح يوفي بالضرورة هذا النوع من العدل، وأن الكفارة تتعلق بالعدل العقابي (انظر ف 12 س 50-57).

ويعلمنا الكتاب أن اللَّه عادل، وهذا يحمله على معاقبة كل خطية، وأن إيفاء المسيح الذي يجعل مغفرة الخطية ممكنة قُدّم للعدل الإلهي، وغايته الأصلية الجوهرية ليس التأثير الأخلاقي في المذنبين أنفسهم، ولا العمل التعليمي في غيرهم من الخلائق العاقلة، بل إيفاء ما يطلبه العدل حتى يكون اللَّه عادلاً إذا برر الخاطئ.
15 - برهن أن عمل المسيح الكفاري يوفي ما يطلبه الناموس.
* ربما ظهر أن ذلك داخل في السؤال السابق، وجوابه: إذا كان عمل المسيح يوفي العدل فهو بالضرورة يوفي الناموس. غير أن كلمة «ناموس» في الاصطلاح الجاري أعم من العدل، لأن العدل يطلب عقاب الخطية، وأما الناموس فيطلب أكثر من ذلك.

ويقتضي بيان ذلك النظر في القضايا الآتية: (1) ناموس اللَّه لا يتغير، فلا يمكن إبطال وصاياه وعقابه. واللَّه قدوس طبعاً، فلا بد أن يطلب دائماً القداسة في خلائقه العاقلة، ولا بد أن يكره الخطية دائماً. ولأنه عادل لا بد أن يدين جميع الخطاة. (2) علاقتنا بالناموس على نوعين: عهدي وأخلاقي. أما العلاقة العهدية فقال الكتاب فيها «تحفظون فرائضي وأحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها» وأيضاً «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به». (3) أعتقنا الإنجيل من هذه العلاقة العهدية للناموس، فلم يبقَ علينا أن نكون خالين من كل خطية وأن نطيع الناموس طاعة تامة، وإلا لما استطاع أحد أن يخلُص. قال الرسول «لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو 6: 14). (4) هذا العتق من الناموس لا يتم بإبطاله ولا بنقض مطلوبه، بل بعمل المسيح إتماماً له عنا. قال الرسول «مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» (غل 4: 5).

ويلزم من القضايا المار ذكرها: (أ) أن عمل المسيح يوفي ما يطلبه الناموس. فالمسيح بنيابته عنا وقيامه مقامنا عمل واحتمل بطاعته وآلامه وبره كل ما يطلبه الناموس. (ب) مَن يقبل بر المسيح بالإيمان ويتكل عليه يتبرر بحسبان ذلك البر له، وينال الخلاص. ومن يرفض قبول بر اللَّه هذا وحاول إثبات بر نفسه، تُرِك للناموس أي يطلب منه أن يكون خالياً من الخطية، وإلا وجب عليه العقاب.

16- ما هي الأدلة على أن كفارة المسيح توفي عدل اللَّه عن الخطاة؟
* عرفنا مما سبق: (1) أن عمل المسيح لأجل خلاصنا هو إيفاء حقيقي لا حدود لمقامه وفائدته وقيمته في ذاته. (2) إنه يوفي العدل العقابي الذي يطلب ضرورة عقاب الخطية. (3) إنه كان إيفاءً لناموس اللَّه، قام بما يطلبه اللَّه من البر الكامل لتبرير الخطاة.
أما الأدلة على صدق هذا التعليم في هدف الكفارة فهي خمسة: (1) أن المسيح كاهننا. (2) أنه ذبيحتنا. (3) أنه فادينا. (4) شرط نوالنا الخلاص به والفوائد التي نقبلها منه. (5) اختبار المؤمنين الديني.

17 - كيف تبرهن من الكتاب أن المسيح يخلِّصنا لأنه كاهننا؟
* جاء في الكتاب أن المسيح يخلِّص الناس لأنه كاهن، وليس لأنه يستعمل السلطان ولا التعليم ولا التنوير العقلي ولا العمل الخارجي الأخلاقي، ولا بالعمل الداخلي، سواءٌ كان طبيعياً أم فوق الطبيعة، مفهوماً أم سرياً. ولكنه يخلِّص الناس لأنه ينوب عنهم ويقوم مقامهم ويستغفر لهم ويشفع فيهم، بدليل نبوات العهد القديم التي قالت إن المسيح يكون كاهناً وملكاً معاً، وإنه يكون كاهناً على رتبة ملكي صادق. وجاء في العهد الجديد لا سيما الرسالة إلى العبرانيين (التي تركز على أن المسيح كاهن وعمله كهنوتي) القضايا الآتية:
(1) ينوب الكاهن عن الخطاة لأن اللَّه أقامه مقامهم ليعمل عنهم ما لا يستطيعون أن يعملوه لأنفسهم. فإذْ عجزوا عن أن يصلوا إلى اللَّه بسبب إثمهم ونجاستهم، اقتضى الأمر إقامة شخص ذي سلطان إلهي ليظهر عنهم أمام اللَّه، ليصالحهم معه.
(2) لا تتم هذه المصالحة إلا بواسطة كفارةٍ عن الخطية، فلا يُنزع ذنب الخطية إلا بهذه الطريقة، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة. فالكاهن هو من يُقام عوضاً عن الناس لينوب عنهم في تقديم القرابين والذبائح عن الخطية.
(3) تمت هذه الكفارة بإقامة ذبيحةٍ مقام الخاطئ احتملت عنه الموت، أي حملت خطاياه حسب عبارة الكتاب المقدس. فلا يُنزع الذنب إلا بالعقاب الفعلي أي بالكفارة، فإما أن يُعاقب الخاطئ نفسه، أو يُقام شخص آخر مقامه ليحمل ذنبه وعقابه، ويُعتقه من ذنبه ويبرره منه. وهذه هي المسألة الجوهرية في الرسالة إلى العبرانيين.
(4) لما كانت حقيقة الكهنوت، والكيفية التي يخلِّص بها الكاهن من ينوب عنهم، قالت رسالة العبرانيين: (أ) خدم الكهنة في العهد القديم بهذه الطريقة التي عيّنها اللَّه، والتي بها ينال المذنب المغفرة الطقسية لخطاياه، فيتمتع بالبركات الخاصة ببني إسرائيل. و(ب) لم تستطع الذبائح أن ترفع الخطية، لأن لا فائدة ذاتية فيها (عب 9:9).
(5) بناءً على ذلك كان الكهنوت الهاروني وذبائحه أموراً مؤقتة، ومجرد رموز وظل للكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقية الموعود بهما منذ البدء.
(6) اتَّخذ المسيح ابن اللَّه الأزلي طبيعتنا، ليكون رئيس كهنةٍ رحيماً أميناً يكفّر عن خطايا الشعب.
(7) المسيح كاهن حقيقي لأن فيه كل الصفات اللازمة للكهنوت، فكان إنساناً ونائباً، وقدّم ذبيحةً، وكان قادراً أن يرثي لشعبه. وقد دعاه اللَّه للكهنوت كهارون. ولأنه قام فعلاً بكل ما يستلزمه الكهنوت. وذلك مثبت من كل الكتاب ولاسيما في العبرانيين ص5.
(8) لم تكن الذبيحة التي قدمها لنا رئيس كهنتنا العظيم دم بهائم بل دم نفسه الكريم.
(9) إنها الذبيحة الواحدة التي أكملت إلى الأبد المقدسين (عب 10: 14).
(10) إنها أبطلت كل ما سواها من الذبائح، فلم تبقَ حاجة لذبائح.
(11) الذي يرفض هذه الطريقة للخلاص يهلك، إذ لا تبقى له ذبيحة عن الخطايا (عب 10: 26).
فإن كنا نؤمن بصدق الكتاب المقدس وجب أن نؤمن أن المسيح يخلصنا، لا بمجرد قدرته، ولا بالإقناع الأخلاقي، بل لأنه كاهن، ولأنه قدم نفسه ذبيحة كفارة لأجل خطايانا.

18 - كيف تبيّن من الكتاب أن المسيح يخلصنا لأنه ذبيحة؟
* هناك ارتباط كامل بين المسيح الكاهن، وتقديمه نفسه ذبيحة عنا. ويتضح ذلك من قرابين العهد القديم، فبعضها دموي، وبعضها غير دموي. والقصد ببعض القرابين الدموية شيء وببعضها شيء آخر، ومنها ما يتعلق بالكفارة، وهو المسمّى بقرابين الخطية، وأهمها ذبائح يوم الكفارة العظيم. والقصد منها:
(1) استعطاف اللَّه واستغفاره حتى يرضى، وتصير مغفرة الذنب التي تقدَّم الذبيحة لأجله موافقاً ولائقاً بالصفات الإلهية.
(2) الذين غُفرت خطاياهم نالوا هذا العطف الإلهي بواسطة التكفير عن الذنب، أي أنهم قدموا قرباناً يستر الخطية حتى لا يعود اللَّه يراها، فيزول القصاص.
(3) تمّ هذا التكفير بالعقاب البدلي، فالحيوان المذبوح أخذ مكان المذنب فحمل ذنبه، واحتمل القصاص الذي استوجبه.
(4) نتيجة قرابين الخطية هي العفو عن المذنب ورضى اللَّه عنه ليعود ويتمتّع بالفوائد التي خسرها. فإذا كان ما ذُكِر هو المعنى الصحيح لذبيحة الخطية حسب الكتاب، فيكون معنى قوله إن المسيح ذبيحة هو أنه ناب عن الخطاة، أي حمل ذنبهم واحتمل عقاب الناموس عوضاً عنهم، فصالحهم مع اللَّه. ليس بمعنى أن اللَّه أخذ يحبهم بناءً على الكفارة، بل أنه صار من الموافق لصفات اللَّه أن يغفر لهم ويردَّهم إلى الشركة معه وإلى رضاه.
والأدلة على صدق أن المسيح يخلِّصنا لأنه ذبيحة:
(1) كانت ذبائح العهد القديم عن الخطية للتكفير، ويتضح هذا الأمر مما يأتي: (أ) كلام الكتاب الصريح فيها، فإنها سُميت فيه «قرابين الخطية» و«قرابين الإثم» أي قرابين يقدمها الخطاة لأجل الخطية. وقيل إنها تحمل خطايا المذنب وتكفر عن الخطية، أي تسترها عن نظر العدل الإلهي، وأن القصد بها تحصيل المغفرة الذي لا يكون بالتوبة أو الإصلاح قبل تقديم القربان، بل بسفك الدم، أي بدفع نفس عن نفس وحياة عن حياة. ويقول سفر اللاويين إن سبب النهي عن استعمال الدم في الطعام هو أنه أُفرز للتكفير عن الخطية (لا 17: 10، 11). (ب) هناك أربعة شروط ليكون تقديمها مقبولاً: الأول، أن تكون الحيوانات الطاهرة المعينة لتلك الخدمة بدون عيب، وذلك رمز إلى عدم خطأ المسيح الذي صار بديلاً عن الخطاة. والثاني: أن المذنب نفسه يقدم الحيوان إلى المذبح إظهاراً لاعترافه بأنه يستحق العقاب لأجل خطيته. والثالث: أن يضع يديه على رأس الحيوان إظهاراً لمعنى الإبدال وتحويل الخطية، أي وضع خطيته على رأس الحيوان. والرابع: أن الكاهن الذي يذبح الحيوان يأخذ دمه بناءً على أنه خادم اللَّه ويرشّه على المذبح، أو يحمله رئيس الكهنة في يوم الكفارة العظيم إلى قدس الأقداس حيث كان رمز المحضر الإلهي، ويرشّه على غطاء تابوت العهد دلالة على أن الخدمة قد انتهت إلى اللَّه، وعلى أنه قُصد بها ردّ غضبه أي إيفاءُ عدله، وفتح السبيل إلى غفران الخطية المجاني. وكان وضع يدي المذنب على رأس الحيوان ضرورياً لهذه الخدمة.
والمعنى العام لوضع الأيدي هو تسليم الشيء، لذلك جرت ممارسة هذا العمل في أحوال مختلفة، منها التعيين للوظيفة، للدلالة على تسليم السلطان إلى الذي وُضعت عليه الأيدي. وكذلك في منح موهبة أو بركة روحية، وفي إقامة واحد مكان آخر للدلالة على تحويل المسؤولية منه إليه، وهو المقصود بوضع اليدين على رأس الحيوان الذي يقوم مقام من يقدمه، ليتحول إليه ذنبه على نوعٍ رمزي. وبناء على ذلك قيل إن الحيوان المذبوح يحمل خطايا الشعب، أو إن خطاياهم ُوُضعت عليه. وكان مدلول هذا العمل واضحاً على نوع خاص في خدمة يوم الكفارة العظيم، فإن اللَّه أمر بأخذ تيسين من المعز ليكون أحدهما ذبيحة خطية، وليُطلق الآخر في البرية. وكان الاثنان ذبيحة واحدة، فكان هارون يضع يديه على رأس التيس الذي يُطلق ويعترف عليه بكل ذنوب بني إسرائيل ويجعلها على رأس التيس، ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة (لا 16: 21، 22). فيتضح من ذلك أن القصد بوضع اليدين هو الدلالة على تحويل الذنب من المذنب إلى الحيوان، كما ورد في إشعياء 53 أن عبد الرب جعل نفسه ذبيحة إثم. وفسر النبي ذلك بقوله إنه حمل خطية كثيرين، وإن تأديب سلامنا عليه، وإن الرب وضع عليه إثم جميعنا. فهذه العبارات وأمثالها في الكتاب تدل على أن الخطية لا تُرفع بالإصلاح، ولا بالتجديد الروحي، بل بحمل ذنبها وعقابها.
والآيات التي تدل على أن المسيح ذبيحة لأجل الخطية كثيرة جداً، لا يسعنا أن نذكرها بالتفصيل. وخلاصة الأمر أن أسفار العهد الجديد (ولاسيما الرسالة إلى العبرانيين) تعلّم صريحاً أن كهنوت العهد القديم هو رمز لكهنوت المسيح، وأن ذبائح ذلك النظام رموز إلى ذبيحته، وأنه كما أن دم الثيران والتيوس كان يقدس تقديساً طقسياً كذلك دم المسيح يطهر النفس من الذنب. وكما كانت في مجالها الخاص كفارة تقوم بالقصاص البدلي، كذلك ذبيحة المسيح في المجال الأعلى غير المحدود الذي يتعلق به عمله. وبناءً على هذه العلاقة بين العهد القديم والجديد تكون الذبائح في الفرائض الموسوية عند المسيحيين تعليم صريح وبرهان قاطع على أن عمل المسيح هو كفارة عن خطايا العالم وإيفاء للعدل الإلهي.
(2) شهادة العهد القديم ولا سيّما إشعياء 53. فلم ينحصر هذا التعليم العظيم في نظام العهد القديم الرمزي، بل نص عليه في إش 53 حيث يقول إن المسيح يكون رجل أوجاع ويحتمل أعظم الإهانات ويُقتل ويحتمل تلك الآلام لأجل خير الآخرين، ثم قال إن ذلك نيابي بدليّ، فقد احتمل عوضاً عنا العقاب الذي استوجبناه ليخلصنا.
(3) يتضح من أقوال العهد الجديد أن عمل المسيح هو ذبيحة عن الخطية (قارن إجابة سؤال 10). وقد اخترنا منها ما يأتي: (أ) قول بولس «الذي قدمه اللَّه كفارة بالإيمان بدمه» (رو 3: 25). وفي عب 9: 14 يقارن الرسول ذبائح الناموس بذبيحة المسيح، ثم قال ما معناه إنه إذا كان دم البهائم (قوام الحياة الحيوانية) أفاد في التطهير الخارجي أو الطقسي، فكم بالحري يفيد دم المسيح الذي له روح أزلي (أي طبيعة إلهية) وقدم نفسه بلا عيب في تطهير الضمير، أي في إقامة كفارة حقيقية عن الخطية. والمقصود بالتطهير في الأمرين هو التطهير من الذنب لا التجديد الروحي، لأنه كما أن ذبائح العهد القديم كانت للكفارة لا لإصلاح السيرة، كذلك ذبيحة المسيح. والنتيجة أو الغاية في الحالين هي مصالحة اللَّه والاتحاد به. غير أن الشرط الأول الجوهري في تلك المصالحة هو التكفير عن الذنب. وعند نهاية عب 9 قال الرسول إنه لم يُطلب من المسيح أن يقدم نفسه مراراً كثيرة.. فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أُظهر مرة واحدة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه، وهدفها ونتيجتها الإيفاء عن الخطية كعمل ذبائح الكفارة في العهد القديم. ومما يؤيد ذلك قوله: إن المسيح جاء المرة الأولى ليحمل خطايا كثيرين، وسيأتي المرة الثانية بلا خطية، أي بدون ذلك الحَمْل الذي أخذه بإرادته على نفسه في مجيئه الأول ليحمل ذنب خطايانا، ليوفي عنها للعدل الإلهي. فإذا جاء المرة الثانية لا يكون ذلك على سبيل الذبيحة للإثم، بل لإكمال خلاص شعبه. ومثل هذه الآية قوله «جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً» (2كو 5: 21) ليوضح كيفية مصالحة اللَّه العالم، إذْ لم يحسب لهم خطاياهم. وعلى ذلك يحقّ له أن يغفر للخطاة ويعاملهم معاملة الأبرار وهم خالون من البرّ، لأن الذي كان بلا خطية عومل معاملة الخاطئ لأجلنا وبالنيابة عنا. (ب) قول بولس إننا «مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب 10:10). والمقصود بالتقديس حسب الأصل اليوناني هو التطهير، فإن الخطية تُعتبر دائماً في الكتاب المقدس نجاسة لسبب جُرمها وفسادها الأخلاقي. أما جُرمها فيُطهَّر بالدم بواسطة التكفير بالذبيحة، وأما فسادها فيُطهر بتجديد الروح القدس. ويتميز المقصود بالتطهير (في المعنيين) من سياق الكلام. فإذا قيل إنه يتم بالذبيحة، أي بموت المسيح أو دمه، كان المقصود به نزع الجُرم، حتى يكون كل ما قيل في شأن خلاصنا أو مصالحتنا مع اللَّه أو تطهيرنا أو تقديسنا بدم المسيح أو بموته هو نص صريح على أنه ذبيحة كفارة عن الخطية. (ج) قول يوحنا إن المسيح «كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو 2:2). والكلمة اليونانية المترجمة «كفارة» مشتقة من فعل معناه مشهور في الكتاب المقدس، وهو إيفاء العدل حقه واستعطاف اللَّه بذبيحة عن الخطية. وقال أيضاً «هذه هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا اللَّه، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارةً لخطايانا» (1يو 4: 10).
وما أوردناه من الآيات ليس إلا بعض ما جاء في العهد الجديد على أن المسيح قربان للإثم، بالمعنى الخاص بهذه الكلمة في الكتاب المقدس. على أن فيه عبارات كثيرة تتضمن هذا المعنى وتدل على أن موته من نوع الذبيحة، أو تدل على كهنوته في عمل الإيفاء عن الخطية. ومنها قول بولس إن المسيح قُدِّم «مرة لكي يحمل خطايا كثيرين» (عب 9: 28) وقول بطرس «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة» (1بط 2: 24) وهذا التعليم واضح في وظيفة رئيس الكهنة التي هي التكفير عن الخطية، وإرجاع الشعب إلى رضى اللَّه ونوالهم بركات عهده معهم. وكل ذلك رمز للمسيح وعمله، لأنه جاء ليخلِّص البشر من خطاياهم ويردَّ لهم التمتع ببركات العهد الجديد الأفضل، الذي هو وسيطه. ولذلك اتخذ طبيعتهم لا طبيعة الملائكة ليموت ويصالحهم بموته مع اللَّه. فصار شبيهاً بإخوته «في كل شيء ليكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما للَّه حتى يكفر عن خطايا الشعب» (عب 2: 17).
واضح إذاً أن العهد الجديد يعلّم أن المسيح خلَّص شعبه بممارسة وظيفة كاهن لأجلهم، وكانت فيه كل الأهلية اللازمة لتلك الوظيفة، فعُيّن لها ومارس جميع لوازمها، وأنه كان ذبيحة كفارة عن خطايا الناس، فقيل مراراً كثيرة إنه قربان عن الخطية (بالمعنى المشهور لهذه العبارة في العهد القديم) وإنه حمل خطايانا وكفّر عن خطايا الشعب، وبموته وصليبه وذبيحة نفسه صالح الذين استوجبوا الغضب الإلهي مع اللَّه. وهذه الأقوال في الكتاب كثيرة موضحة بشواهد وأمثلة عديدة. وهي الجزء الجوهري في تعليم الكتاب المقدس في كيفية الخلاص.

19 - كيف تبرهن من الكتاب أن المسيح يخلِّصنا لأنه فادينا؟
* الفداء هو الإنقاذ من الشر والبلية بتأدية الفدية. والأفعال التي تعبّر عن هذا المعنى في الأصل اليوناني معناها الأول «اشترى» ثم «اشترى بدفع الثمن فديةً» (أع 20: 28 وأف 1: 7 و1بط 1: 18، 19). فجاء في الكتاب أن الثمن أو الفدية المؤدّاة عنا هي المسيح نفسه أو دمه أو موته. ولما كانت الشرور أو البلايا الناشئة عن ارتدادنا عن اللَّه متنوعة ذُكر فيها فداء المسيح على أنواعٍ مختلفة أيضاً وهي:
(1) الفداء من عقاب الناموس: فإن أهم نتائج معصية آدم الوقوع تحت عقاب الناموس وهو أول تأثيراتها، لأن أجرة الخطية هي الموت، وكل خطية لا بدّ تعرّض الخاطئ لغضب اللَّه ولعنته. فكان الأمر الأول في خلاص الخطاة هو فداءهم من هذه اللعنة التي بها يبقون مبتعدين عن اللَّه. وابتعادهم هذا يوجب بالضرورة الشقاء والخضوع لسلطان الخطية، لأن الإنسان ما دام تحت اللعنة يكون منقطعاً عن المصدر الوحيد للقداسة والحياة. فهذا هو تعليم الكتاب، وهو واضح ولا سيما قول الرسول إن المسيح فدى شعبه من لعنة الناموس، لا بمجرد إجراء سلطان مطلق، ولا بترجيعهم إلى حال البر بواسطة عمل أخلاقي يعملونه، بل بصيرورته لعنة لأجلهم (رومية 6 و7). وقال إشعياء إن الرب «سُرَّ أن يسحقه» وإنه «مضروب من اللَّه ومذلول» وإن هذه الآلام بسبب الخطية، لا خطيته هو بل خطيتنا نحن التي حملها، وإن تأديب سلامنا عليه. فالقصد بهذه الآلام التكفير أو إيفاء العدل حقه، وفيها كل الصفات الجوهرية للقصاص، حتى أن المسيح صار لعنةً لأجلنا (غل 3: 13).

(2) الفداء من الناموس: لأن الكتاب يقول إن المسيح أنقذنا من الناموس وفدانا من عبودية الشريعة. وهذا لا ينحصر في الإنقاذ من عقابه، بل يعم أيضاً خلاصنا من الالتزام بإتمام ما يطلبه. وهذا هو المعنى الجوهري في تعليم بولس في التبرير. وتفصيل ذلك أن الناموس يطلب الطاعة التامة فيقول «اعمل هذا فتحيا» وأيضاً «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به». ومنذ سقوط آدم إلى الآن لم يستطع أحدٌ أن يقوم بهذا الطلب. على أنه لابد من ذلك، أو الهلاك! ويقول الكتاب إنه لا طريق للخلاص إلا بالطاعة التامة، وهو ما عمله المسيح عن البشر. قال الرسول إن المسيح وُلد تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس (غل 4:4، 5) وقال للمؤمنين «لستم تحت الناموس بل تحت النعمة». وقال إن هذا الإنقاذ من الناموس حصل بجسد المسيح، وإننا لذلك نتبرر لا بطاعتنا بل بطاعته (رو 6: 14 و7: 4 و5: 18، 19). والفداء المقصود ليس مجرد الإنقاذ، بل هو فداء حقيقي قائم بإتمام كل ما علينا للناموس.
(3) الفداء من سلطان الخطية: قلنا إن المسيح فدانا من عقاب الناموس ولعنته، وإن ذلك يعيد لنا رضى اللَّه. ومن نتائج عمله أيضاً تجديد قلب المؤمن بالروح القدس، وذلك يوجب أن يفدينا أيضاً من سلطان الخطية. قال المسيح «من يعمل الخطية هو عبد للخطية». ولا يستطيع أحد أن يحرر نفسه من هذه العبودية. لذلك جاء المسيح وبذل نفسه ليطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً على الأعمال الصالحة، ومات البار بدل الأثمة، ليأتي بنا إلى اللَّه. وأحب الكنيسة وبذل نفسه لأجلها ليحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من ذلك. وهذا الإنقاذ من الخطية فداءٌ حقيقي، لأن تأدية الفدية أو إيفاء العدل شرط ضروري لرد رضى اللَّه إلى الخاطئ، وهذا شرط ضروري للقداسة. وعلى ذلك قال الكتاب إن المسيح «بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير» (غل 1: 4). وقال «الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم» (تي 2: 14). وقال «إنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح» (1بط 1: 18، 19). ولأن الخلاص بالذبيحة خلاص بالفدية اجتمعت العبارتان في هذه الآية وغيرها. ومن أمثلة ذلك قول المسيح «جاء ابن الإنسان.. ليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت 20: 28 ومر 10: 45). فلا يمكن التعبير عن معنى الإبدال بكلام أصرح من هذه الأقوال التي ذكرت أن خلاصنا قائمٌ بالفدية. وقوله إن دمه يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا (مت 26: 28). فذُكر موته هنا على سبيل الذبيحة. والعبارتان المتعلقتان بنوعي الإنقاذ واحدة، لأن الفدية إيفاءٌ لحقوق العدل، والذبيحة كذلك.

(4) الفداء من سلطان إبليس: قال الكتاب إن المسيح فدانا من سلطان إبليس، وإن إبليس هو رئيس هذا العالم وإلهه، وملكوته ملكوت الظلمة، وإن جميع الناس منذ آدم يولدون ويبقون فيه إلى أن يُنقلوا إلى ملكوت ابن اللَّه، وإنهم رعية إبليس وقد اقتنصهم لإرادته (2تي 2: 26). وفيه أيضاً أن الوعد الأول هو أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، وأن المسيح جاء ليبطل أعمال الشيطان أي ليطرحه من مُلكه المغتصَب ويحرر الخاضعين له (2كو 4:4 وكو 2: 15 وعب 2: 14، 15). فالمسيح ابن اللَّه إلهٌ تعبدهُ الملائكة، وهو خالق السموات والأرض، وهو أزلي غير متغيّر (عب 1) وقد صار إنساناً ليبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية (عب 2). ففي هذا الكلام ثلاثة أمور: (أ) الناس مستعبَدون، خائفون من غضب اللَّه على الخطية. (ب) إنهم في هذا الحال خاضعون لإبليس الذي له سلطان الموت عليهم لأنهم خطاة. (ج) يتم إنقاذهم من العبودية المذكورة والخضوع لسلطان إبليس بموت المسيح الذي يعتقهم من عقاب الناموس، لأنه أوفى عدل اللَّه حقه. والعتق من لعنة الناموس يعني التحرير من سلطان إبليس الذي يُجري العقاب. وقيل إن قوة الخطية هي الناموس (1كو 15: 56). فكل ما يوفي الناموس ينزع من الخطية قوتها، فيكون الفداء من الناموس هو الفداء من اللعنة، وهو الفداء من سلطان إبليس.
20 - كيف تبرهن أن المسيح يخلصنا بالإيفاء الكفاري كشرط لنوال الخلاص به، وما هي فوائد ذلك؟
* وضع اللَّه شرطاً لنوال الفداء، فلا يكفي أن نقبل تعاليم المسيح، ولا أن نجتهد في السلوك حسب وصاياه الأخلاقية، ولا أن نثق بحمايته أو نخضع لسلطانه، ولا أن نفتح قلوبنا لجميع التأثيرات الصالحة الناشئة من شخصه أو عمله، بل يجب أيضاً أن نتكل عليه، أي أن نقبل ذبيحته ونرفض بر أنفسنا ونثق ببره لننال القبول لدى اللَّه. ونحن نعجز عن إيفاء ما يطلبه عدل اللَّه وناموسه بما نعمله أو نحتمله أو نشعر به، فنتكل اتكالاً تاماً على ما عمله المسيح واحتمله هو باعتباره نائبنا وبدلنا وضامننا. فهذا ما يطلبه الإنجيل وما يعمله كل مسيحي بالحق مهما كانت آراؤه اللاهوتية. وكل ما ذُكر من وجوب رفض البر الذاتي، ووجوب الإيمان بالمسيح على أنه علة الغفران والقبول عند اللَّه مبنيٌ على أنه البدل الذي قام مقامنا في إيفاء كل ما يطلبه منا الناموس والعدل.
أما الفوائد التي نقبلها منه فأولها التبرير، إذ نتبرر بواسطته، فهو برنا، ونحن نصير بر اللَّه فيه. ومن المعلوم أن التبرير هو نقيض الدينونة وإعلان إيفاء حقوق العدل حسب معنى كلمة التبرير الشائع دائماً في العهدين القديم والجديد، فإن اللَّه أعلن في تبرير الخطاة أن ما يطلبه العدل منهم قد أُوفي. ولكن لم يوفه الخاطئ نفسه، بل المسيح.

21 - من اختبار المؤمنين، ما هو البرهان على موت المسيح كفارةً؟
* يتبيّن صدق ما سبق من التعاليم في موت المسيح الكفاري من شهادة المؤمنين في كل القرون، لأنهم جميعاً يتكلون على المسيح في أمر خلاصهم، ويحسبونه بديلهم في الطاعة والتألُّم، حاملاً عنهم خطاياهم ولعنة الناموس، ويعتبرونه ذبيحة كفارة تمحو ذنبهم وتوفي عدل اللَّه عنهم، ويشكرونه لأنه بذل نفسه عنهم ليفديهم من عقاب الناموس ومن سلطان الشيطان وقوة الخطية وجميع نتائجها. وهذه حقائق إلهية أعلنها الروح في كلمة اللَّه، وعلّمها كل الذين يخضعون لإرشاده. فهي الاقتناعات والإحساسات الباطنة التي شعر بها شعب اللَّه من زمن الرسل إلى الآن، كما يتضح من قوانين إيمانهم وصلواتهم وترنيماتهم الروحية وكل ما كتبوه في شأن حياتهم الدينية الباطنة، مع اختلافهم في العرَضيات. فهو الرأس ونحن الأعضاء، وهو الكرمة ونحن الأغصان. ولسنا نحن الأحياء بل هو الحي فينا وهو الذي صار لنا حكمة وبراً وقداسة وفداءً، الذي دمه يطهرنا من كل خطية، والذي فدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، وحمل خطايانا في جسده على الخشبة، وهو رئيس كهنتنا العظيم الحي إلى الأبد ليشفع فينا. وما أسهل أن نذكر الأدلة من تاريخ حياة الكنيسة الروحية على أن اعتقاد المؤمنين في المسيح في كل عصرٍ هو كما سبق.

22 - ما هي الاعتراضات على تعليم الكتاب في إيفاء المسيح، وما هو الرد عليها؟
* (انظر إجابتنا على سؤال 8 من هذا الفصل) ونضيف إليها:
(1) قولهم إن المسيح البريء لا يجب أن يُعاقب، لأن القاضي يعاقب المذنب فقط، والمسيح بريء من الخطأ ولكنه حمل جُرم الخطية، وعومل معاملة الخاطئ. وهذا ظلم فظيع إن لم يكن مُحالاً، إذ بموجبه يحسب اللَّه الشيء على غير ما هو عليه، فيعتبر البريء مذنباً.. وللرد نقول: يكون هذا الاعتراض في محله لو أُجبر البريء على الاحتمال عن المذنب، ولكن المسيح احتمل القصاص عنا باختياره ورضاه التام. والعقل البشري في كل عصر لم يستغرب وضع البريء بدل المذنب، ولا الذبائح عوضاً عن الخاطئ، ولا بَذْل واحد لأجل كثيرين، للتكفير بالعقاب البدلي. وقد قبل كثيرون صحّة قول الكتاب، وبأنه الطريقة الوحيدة التي تصالح الخطاة مع الإله العادل القدوس. فلا يصح القول إن هذا التعليم يناقض بديهيات العقل أو الضمير، بل هو يوافقهما.

وزعم كثيرون أن معنى الجُرم هو استحقاق اللوم، وأن الحكم بالقصاص يكون على من يستحقه. فيكون التعليم بالإيفاء والقصاص البدلي أمراً مستحيلاً، لأن الصفات الأخلاقية لا تتحول من واحد إلى آخر. وقد أصاب الذين قالوا إن الإنسان لا يكون صالحاً بصلاح آخر، كما أنه لا يصبح أبيض ببياض آخر. وإن صحّ أن القصاص لا يقع إلا على من يستحقونه بسبب اللوم الشخصي، فالقول بجواز قصاص البريء يناقض الحق. ولكن إذا أُريد بالجُرم في هذا المقام العلاقة بين الخطية والعدل والتزام الخاطئ بإيفاء ما يطلبه العدل بغضّ النظر عن استحقاق اللوم، فليس في طبيعة الإنسان الأخلاقية ولا في طبيعة اللَّه المعلَنة في عنايته وكلمته ما يمنع القول إن هذا الالتزام قد يتحول لأسباب كافية من واحد إلى آخر، أو قد يقوم به واحد مقام آخرين.
(2) قولهم إن العدل العقابي ليس من صفات اللَّه، فهو لا يطالب بتقديم إيفاءٍ للعدل.. فنجيب: إنه إذا صح هذا الزعم كان الاعتراض قاطعاً لا يُرد. ولكن إذا كان وجوب قصاص الخطية من البديهيات، فمن المحقق أن اللَّه بمقتضى طبيعته لا بد أن يعمل ما يجب عمله. وجميع الناس يعلمون أن حكم اللَّه على الخطاة باستحقاق الموت حكم عادل، وأن الصفح عن الخطية غير ممكن إلا بإيفاء العدل حقه، وأنه وإن لم تكن ذبيحة عن الخطية فلا بد من الدينونة (قارن إجابة سؤال 7 في هذا الفصل). وذلك كله راسخ في القلب البشري، ولا بد من ظهوره في زمنٍ ما بقوةٍ عاملة في الذهن والضمير.
(3) قولهم إنه لا يمكن وجود الشيء وضده في اللَّه، فلا يمكن اجتماع ما يحمل اللَّه على القصاص (كالعدل) وما يحمله على عدم القصاص (كالمحبة والرحمة) بل كل أعمال اللَّه ناشئة عن مبدأ واحد وهو المحبة. ولأنه إله المحبة يطلب رجوع خلائقه إلى القداسة والسعادة بدون التفات إلى مطلوب العدل.. فنجيب: لا شك أن اللَّه محبة، غير أن المحبة فيه ليست ضعفاً يسوقه إلى عمل ما لا يجوز عمله. فإن كان قصاص الخطية واجباً (كما يقول الضمير وكلمة اللَّه) فليس فيه ما يحمله على تركه، لأن جميع صفاته متوافقة، وتوافقها من نوع الفضل الأخلاقي الذي يؤدي حتماً إلى أن ديان كل الأرض يصنع عدلاً، فيعاقب أو يغفر كما يطلب الفضل الأخلاقي. ثم أن محبة اللَّه لم تمنع هلاك الملائكة الساقطين، ولم تقبل خلاص البشر الساقطين بدون كفارة كافية. وقد ظهرت محبته غير المحدودة في بذل ابنه ليحمل خطايانا وعقابها ويفدينا من لعنة الناموس بشخصه. «في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا اللَّه، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يو 4: 10). فقوله «كفارة» قول صريح لا يحتمل التغيير.

(4) قولهم إن تحويل الذنب أو البر من واحد إلى آخر حسب تعليم الكنيسة في الإيفاء غير ممكن.. فنجيب: هذا القول يصح إذا أُريد به تحويل الصفات الأخلاقية من واحد إلى آخر. وأما تحويل الجُرم بمعنى المسؤولية للعدل، وتحويل البر بمعنى ما يوفي العدل حقه فأمر ممكن، كإمكان إيفاء إنسان دين إنسان آخر. والكتاب يعلّمنا أن المسيح ناب عنا في إيفاء ديننا لعدل اللَّه إيفاءً كاملاً، وأن اللَّه أبطل الصك الذي علينا بتسميره إياه بالصليب، فحررنا بذلك تحريراً كاملاً كتحرير المديون إذا أبطل الشرع الصك المكتوب عليه.
(5) قولهم إن التكفير قول وثني، وزعموا أن اعتقاد التكفير أي احتمال البار بدل المذنب لإرضاء اللَّه من أقوال الوثنيين التي ينفر منها العقل السليم.. فنجيب: إنه لا يصح للإنسان أن يجعل ذوقه أو إحساساته قياساً للحق، لأنه قد يكون التعليم غير موافق لذوقه دون أن يكون ذلك برهاناً على خطأ التعليم، كما يتضح من تسليمنا نحن الخطاة بحقائق كثيرة لا نرضى عنها. والقول بالتكفير ليس أمراً منكراً عند أكثر العقول، لأنه تعليم اليهودية والمسيحية، وهو تعليم عزيز يتوقف عليه الرجاء الوحيد للمذنب. فآلام البار بدل الأثمة من أعظم براهين المحبة «والجود بالنفس أقصى غاية الجود». لذلك تسجد السماوات والأرض أمام الصليب الذي تعلق عليه ابن اللَّه الطاهر، حامل خطايا الناس. وحاشا أن يعتبر الخطاة المفديون الصليب عثرة، فهو الوسيلة التي توفّق بين عدل اللَّه وإظهار محبته للخطاة إلى درجة غير محدودة.
(6) قولهم إنه لا حاجة إلى إيفاء العدل حقه، فزعموا أن كل ما هو لازم لمصالحة البشر مع اللَّه يتم بقوة المحبة، وأن ما ينبغي عمله هو إقناع العقل بشرّ الخطية وإصلاح الخطاة، وهذان الأمران يتمّان بدون كفارةٍ أو عقابٍ للإثم. وقالوا إن عمل المسيح لم يكن إيفاءً للعدل، ولا كفارة عن الخطية.. وفي الرد على ذلك نقول: (أ) يعلّم الكتاب المقدس أن خلاص البشر يقتضي أكثر من العوامل والتأثيرات الأخلاقية أو إعلان الحق وإثباته. وإن ما يقتضيه هو نفس ما جرى من اتخاذ ابن اللَّه طبيعتنا وقيامه مقام الخطاة وحمله عنهم لعنة الناموس، حتى أمكن بذلك أن يكون اللَّه عادلاً ويبرر الخاطئ. ولأن هذا هو تعليم الكتاب فلا محل لقبول غيره. (ب) هذه الأقوال لا تخالف الكتاب فقط، بل خالية من الفائدة، لأنها لا تسدد احتياجات الإنسان ولا تزيل الشعور بالذنب، مع أن الشعور به أمر عام لا يُستأصل من الإنسان. وكلما زادت النفس استنارة اشتد فيها الشعور بالذنب والألم منه.

23- ما هو المذهب الصحيح في غاية الكفارة وحقيقتها؟
* للكفارة غايتان عظيمتان، هما: (أ) إزالة اللعنة التي استولت على البشر بسبب الخطية لينالوا المصالحة مع اللَّه بالكفارة، و(ب) جعلهم شركاء الحياة الروحية بالروح القدس المحيي. وكلتاهما ضروريتان للخلاص، لأن علينا ذنباً ينبغي أن يُزال، ولنا أنفس ميتة بالخطية ينبغي أن تحيا حياة جديدة روحية. وقد قام عمل الفداء حسب تعليم الكتاب وإيمان الكنيسة بهاتين الغايتين. وبمقتضى عمل المسيح يتمّ إيفاء حقيقي غير محدود الاستحقاق في ذاته للعدل الإلهي، كافٍ وافٍ لخلاص شعبه، لأنه عمل لأجلهم وعوضاً عنهم ما لم يستطيعوا عمله لأجل أنفسهم، إذ أوفى عنهم ما يطلبه الناموس، وحمل عنهم العقاب الذي أوجبه عليهم. وبهذا يتصالحون مع اللَّه، ويقبلون الروح القدس، ويصيرون شركاء في حياة المسيح فينالون التجديد والتبرير والتقديس في الزمان الحاضر، ثم الخلاص الأبدي.
ونتأمل هنا الغايتين المذكورتين آنفاً، لأن لعنة الناموس تُرفع عنا بصيرورة المسيح لعنةً لأجلنا، وبناءً على مصالحتنا مع اللَّه نصير بواسطة الروح شركاء حياة المسيح، فإنه صار لنا براً وقداسة أيضاً، فنتطهر بدمه من الذنب، ونتجدد بروحه حسب صورة اللَّه. وإذا متنا فيه للخطية نحيا فيه للبر، لأن الشركة في موته تُنتج الشركة في حياته.
ونذكر الآن بالاختصار أهم المذاهب الفاسدة في حقيقة الكفارة، وهما «المذهب الأخلاقي»، و«المذهب السياسي»، تمييزاً لهما عن «المذهب الإيفائي» الذي سبق الكلام عنه.

24 - ما هو المذهب الأخلاقي في الكفارة؟
* هذا المذهب ينفي كل معنى التكفير، أي إيفاء العدل بالقصاص البدلي، وينسب كل فاعلية عمل المسيح إلى ما يحدث من التأثير الأخلاقي في قلوب الناس بواسطة صفات المسيح وتعاليمه وأعماله. ولذلك سُمي غالباً مذهب «الكفارة الأخلاقي». وهو مبني على الزعم أنه ليس في اللَّه صفة العدل العقابي، التي تقتضي بالضرورة أنه يعاقب الخطية. ولذلك لا حاجة إلى التكفير لننال، الغفران. ويزعمون أن كل ما يلزم لإعادة الخطاة إلى رضى اللَّه هو انقطاعهم عن الخطية. ولهذا المذهب عدة وجوه:
(1) ينحصر عمل المسيح في خلاص البشر في تعليمه، فقد أتى بصورة جديدة رفيعة من الديانة، خلَّص بها الناس من ظلام الديانة الوثنية وآثارها الفاسدة.
(2) فضلاً عن الخير الناشئ عن تعليم المسيح، فإن معظم الخلاص الذي عمله يعود إلى موته، لأنه لا يصحّ أن نصرف النظر عن تعليم الكتاب المقدس أننا نخلص بدم المسيح وصليبه وآلامه. ولذلك قالوا إن المسيح يخلصنا ليس لأنه ذبيحة بل لأنه شهيد. وزعموا أن القصد بموته ختم تعاليمه بدمه، فاستحق لقب «مخلص العالم» لأنه أثبت صدق الحقائق التي علّمها، ولا سيما ما يتعلّق منها بالحياة الآتية ومحبة اللَّه وإرادته أن يغفر الخطية.
(3) تعتمد قوة المسيح في خلاص الناس على ما أظهره من المحبة وإنكار الذات، لا بتعليمه، ولا بختم تعاليمه بموته. وقال أصحاب هذا الرأي إن هذا هو أعظم الأسباب العاملة في قلوب الناس، وهو أقوى تأثير يليّن قساوة القلب ويجذب الناس إلى اللَّه. فلو لم يخلص الأشرار وينجذبوا بالمحبة التي لا تقتصر على كلام اللطف وأعمال المعروف، بل تمتد إلى كمال إنكار الذات واحتمال جميع آلام هذه الحياة وآلام الموت، لكانوا بدون رجاء، لأنه ليس لهم وسيلة أخرى تؤثر فيهم. ولما كانت محبة المسيح محبة لم يسبقها ولن يعقبها محبة مثلها، كانت تسميته ب«المخلص» هي المناسبة.

24 - ما هي الاعتراضات على «المذهب الأخلاقي» في الكفارة؟
* (1) إنه يصرف النظر تماماً عن جوهر تعليم الكتاب المقدس في الكفارة الحقيقية، وإن كان فيه بعض الحق. فهو يسلّم بأن هدف عمل المسيح هو ترجيع الإنسان إلى اللَّه، والقداسة. وأن عمل المسيح أظهر أعظم ما يمكن من المحبة الإلهية، وأن إظهارها هو أعظم العوامل الروحية الفاعلة في قلوب الناس. غير أن الكتاب لا يقتصر على ذلك، بل يعلّم أن المسيح كاهنٌ قدّم نفسه ذبيحة للتكفير عن خطايانا، فحملها في جسده على الخشبة، وصار لعنة لأجلنا، وبذل نفسه فديةً لخلاصنا. ويعلّم أيضاً أن هذا التكفير عن الذنب ضروري قبل المصالحة مع اللَّه وتجديد النفس وتبريرها وتقديسها بالنعمة الإلهية، لأن الخطاة بدونه أموات روحياً، واقعون تحت عقاب الناموس. وما داموا في هذا الموت فهُم تحت اللعنة، فإن كل العوامل الأخلاقية لا تفيدهم شيئاً، كما أن ضوء الشمس في رابعة النهار لا يفيد الأعمى، ووسائط الصحة لا تقيم أحداً من الموت. فرفض هذا المذهب لتعليم الكفارة (أي إيفاء العدل الإلهي) هو رفضٌ لجوهر تعليم الكتاب في خلاص الإنسان.
(2) إنه لا يطابق ما نحتاج إليه في حال السقوط. فإننا خطاة ومذنبون ومدنَّسون، ولا نقدر أن ننكر شعورنا بالمسؤولية للعدل الإلهي وضرورة إيفائه، كما يستحيل أن ننكر شعورنا بفساد الخطية. فالتكفير عن الخطية ضروري كما أن تقديس النفس ضروري أيضاً، لأن الإنسان في أشد حاجة إلى بر أفضل من بر نفسه، وإلى من يقوم مقامه أمام اللَّه في التكفير عن الخطية وتحصيل الغفران الكامل لجميع ذنوبه وعطية الروح القدس. ولذلك كانت الديانة التي تنفي معنى التكفير، وتنادي بطريقٍ آخر لإزالة الذنب ليست وفق ما نحتاج إليه، وكان المذهب الأخلاقي في الكفارة باطلاً، لأنه يخلو من كل عمل كفاري يُسند إليه الخاطئ رجاءه.
(3) كل الأدلة السابقة على صدق تعليم الكفارة هي أدلة على فساد المذهب الأخلاقي الذي يغيّر كل طريق الخلاص، لأنه يغيّر علاقتنا بالمسيح من حيث أنه رأسنا ونائبنا. ويغيّر طريق قبولنا لدى اللَّه، فإذا اعتقدنا أن المسيح مُصلِحٌ أو مثال أو معلّم أو شهيد فإننا ننقل حقيقة الديانة المسيحية نقلاً جوهرياً من حال إلى آخر.

26 - من هو صاحب «المذهب السياسي» في الكفارة، وما هو تعليمه؟
* صاحبه هو كروشيوس، في القرن 17 وتعليمه:
(1) لم يأخذ اللَّه في مغفرة الخطية موقف من أخطأنا ضده، بل أخذ موقف الحاكم الأخلاقي. ولا بد أن يكون عمله موافقاً لخير رعيته. وعلى هذا فإنه يطلب خير شعبه، لا عقابهم.
(2) غاية القصاص هي ردع الناس عن الجرائم وحفظ النظام الأخلاقي، وتقديم أفضل مصالح للجمهور.
(3) كما أن الحاكم العادل لابد أن يعاقب على الذنوب المرتكبة، هكذا اللَّه لا يغفر خطايا الناس إلا مع إظهار كافٍ لغضبه وعزمه على عقابها. وهذا هو المقصود بآلام المسيح وموته، فإن اللَّه عاقب الخطية فيه ليظهر شرّ الخطية. وكان هذا عظيم التأثير لسبب عظمة مقام المسيح، فإنه بناءً على موته صفح اللَّه للمذنبين التائبين، ورفع العقاب الذي أوجبه الناموس عليهم، مع الموافقة التامة لما تقتضيه أفضل مصالح حكمه.
(4) العقاب ألم يُجرَى بسبب الخطية، فلا يلزم إجراؤه بسبب استحقاق المذنب الشخصي، ولا بقصد إيفاء العدل، بل يكفي أن يكون بسبب الخطية. ولما كانت آلام المسيح ناشئة عن خطايانا، وقُصد بها جعل الصفح موافقاً لمصلحة حكم اللَّه الأخلاقي، كانت داخلة في معنى العقاب حسب هذا التعريف. ولذلك أمكنه أن يقول إن المسيح احتمل قصاص خطايانا، لأن آلامه كانت مثالاً لما تستحقه الخطية.
(5) جوهر الكفارة هو إظهار غضب اللَّه على الخطية بواسطة آلام المسيح وموته، فقد قصد بها تعليمنا أن الخطية عند اللَّه تستحق العقاب، ولذلك لا ينجو المصرّون على خطاياهم من القصاص الذي يستحقونه. فحسب هذا المذهب يكون عمل المسيح تعليمياً فقط بالمثال أن اللَّه يكره الخطية. وما الصليب إلا إشارة إلى ذلك.

27 - ما هي الاعتراضات على «المذهب السياسي» في الكفارة؟
* (1) إنه مبني على سوء فهم حقيقة القصاص، لأنه يزعم أن القصد الخاص بالقصاص هو خير المجتمع، فإذا أمكن الحصول على أفضل فائدة للجمهور بدونه فلا داعي له! ولكننا نقول إن الألم لخير الآخرين أو لخير المتألم ليس قصاصاً. فإن بتر العضو المهشم ليس من باب القصاص، وكذلك آلام الشهداء (ولو كان فيها خير الكنيسة والعالم). فلم تكن آلام بولس الكثيرة الدائمة قصاصاً، وإن كانت عظيمة الفائدة. وهكذا آلام المسيح إذا لم تكن على سبيل الحكم القضائي حسب مقتضى العدل لا يكون فيها ما يظهر كره اللَّه للخطية.
والحكم على المجُرم لا يكون من باب القصاص إلا إذا أُجري ليوفي العدل حقه. قيل إن قاضياً قال مرة لمذنب: «حُكم عليك بالنفي لا لأنك سرقت المال، بل لأجل ردع الناس عن السرقة». ولا يخفى ما في هذا الحكم من ضررٍ لأخلاق الجمهور، لأن كل التأثير الأخلاقي الناشئ عن القصاص يعود إلى عدالته. ومن تألم لأجل خير الآخرين فهو شهيد، لا أثيم تحت حكم العدل. وقد بني كل المذهب السياسي في الكفارة على هذا المبدأ الفاسد، لأنه لا يجوز القصاص إلا لخير الآخرين. فإذا أمكن الحصول على هذا الخير بدون القصاص لم يبق داعٍ إليه ولا مانع عن الصفح. ومن الواضح أنه إذا كان المبدأ الأول الأساسي في المذهب فاسداً، كان كل المذهب فاسداً تبعاً لذلك.
(2) هذا المذهب يناقض أحكام الناس الأخلاقية البديهية، لأن ضمير كل إنسان يشهد عليه بأنه خاطئ يستحق القصاص، لا لأجل خير الآخرين بل جزاءً لسوء عمله. فإذا لم يكن مذنباً لم يحق عليه القصاص. وإذا كان مذنباً فليس من حقه أن نسامحه، بل أن نوفي العدل حقه. كما أن هذه هي شهادة ضمير كل إنسان بالنظر إلى خطاياه، وبالنظر إلى خطايا غيره. فإذا حدث ذنب عظيم حكم الناس في الحال بوجوب عقاب الذين ارتكبوه، فإن خير الجمهور يقتضي قصاص المذنب. لكن ذلك من الفوائد العرَضية لا الغاية الخاصة المقصودة بالقصاص الذي يعود كل تأثيره الأخلاقي إلى أنه يحكم به بناءً على سوء العمل، لا على خير المجتمع. لأنه لو كان خير المجتمع هو المقصد الأصلي لخرج القصاص عن حقيقته، وفقد بالضرورة التأثير الأخلاقي الخاص به. وعلى هذا يكون المذهب الذي يغفل البديهيات العقلية غير موافق لحالنا، ولا يستطيع أبداً أن يقنع ضمائرنا. فإن القصاص هو من ضروريات حكم اللَّه العادل لأننا نعلم أننا نستحقه. وإذا لم يحمله المسيح بدلنا وجب أن نحمله نحن. وإذا لم يكفر عن الخطية لا بد من الدينونة المخيفة.
(3) كل ما ذكرناه من أدلة على وجود صفة العدل العقابي في اللَّه، وأن عدله لا يناقض صلاحه، هي أيضاً أدلة قاطعة على فساد المذهب السياسي في الكفارة. فالقول إن السعادة هي الخير الأعظم، والفضيلة هي الرغبة في تسبيب كل ما يمكن من السعادة ضعفت منزلته في مدارس الفلسفة، ووجب نفيه من مدارس اللاهوت، لأن الفضيلة تقوم بطلب القداسة لا السعادة، والقول بعدم وجود فرق أصلي جوهري بين الحلال والحرام يخالف طبيعتنا الأخلاقية. ولا يسلم أحد بأن الحلال هو ما يوافق رغبات صاحبه، وأن الحرام هو ما لا يوافقه، بغضّ النظر عن الضمير (انظر فصل 12 س 58 و64 و65).
(4) هذا المذهب يخالف أقوال الكتاب، لأنه ورد فيه مراراً أن المسيح كاهن وذبيحة وكفارة وبَدَل ونائب عن الخطاة، أي أنه قام مقامهم في حمل لعنة الناموس أو عقابه عنهم. وأما القائلون بهذا المذهب فأنكروا تلك الأقوال أو فسروها تفسيراً فاسداً.
(5) هذا المذهب كالمذهب الأخلاقي في الكفارة، فاسد لأنه ناقص. فقد قُصد بعمل المسيح حث الخطاة على الرجوع إلى اللَّه، والتأثير في عقول كل الخلائق الناطقة لإقناعهم بشرّ الخطية وردّهم عن ارتكابها. غير أن القصد الأصلي منه هو غير ذلك، فإن هذا التأثير الأخلاقي في الخاطئ وفي جميع الخلائق العاقلة ناشئ عن أن عمل المسيح إيفاءٌ لعدل اللَّه، وأنه من أعظم الأدلة على أن الخطية لا تُغفر بلا كفارة كافية.

28 - لأجل مَن مات المسيح كفارة؟
* بحثنا هذه المسألة في فصل 29 وأثبتنا أن كفارة المسيح عامة، على أن المختارين فقط ينالون الخلاص بها. ولكن هذه النتيجة ليست من حصر الكفارة في عدد محدد من الناس، بل من تخصيص فوائدها للمؤمنين الذين يقبلونها (تي 2: 6 و4: 10 وعب 2: 9 ويو 1: 29 و3: 17 و12: 47 و2كو 5: 14، 15 و1يو 2:2). والقول بعموم كفارة المسيح يوافق كل ما يعلمنا الكتاب المقدس من صفات اللَّه، ولا سيما رحمته ونعمته، وغاية موت المسيح. وكذلك يؤثر في قلوب الناس تأثيراً حسناً حتى يجذبهم إلى اللَّه، ويجعلهم بلا عذر إذا رفضوا وسائط الخلاص لأنها معدَّة من أجلهم.
29 - ما هي أخص نتائج الكفارة في علاقتها باللَّه وبالبشر؟
* للكفارة نتائج عظيمة في إظهار صفات اللاهوت، ولا سيما كمال المحبة والقداسة والعدل في الثالوث الأقدس، وفي إثبات حكم اللَّه الأخلاقي وبيان أركانه، وفي فتح باب المصالحة بين اللَّه القدوس والإنسان الخاطئ، وفي إنقاذ الإنسان من عبودية الخطية وإعداده للحياة الأبدية في حضرة خالقه. ولذلك كان للكفارة أعظم أهمية وأرفع شأن في الديانة المسيحية، وهي موضوع الشكر والحمد وأساس الرجاء والسلام، والواسطة الوحيدة الفعالة للخلاص عند جميع المؤمنين الحقيقيين.

30 - ما هي الأدلة على أن المسيح شفيعنا؟
* (1) مشابهة عمل رئيس الكهنة في النظام القديم لعمل المسيح، فإن رئيس الكهنة في ذلك النظام كان يأخذ في يوم الكفارة (بعد ما يقدم الذبائح عن الخطية في الدار الخارجية) دم الحيوانات ومجمرة فيها بخور موقَد، ويدخل إلى ما وراء الحجاب ويرش الدم على الغطاء ويقدمه للَّه. كذلك المسيح بعدما قدم نفسه على الصليب ذبيحةً عن خطايانا، اجتاز السماوات ليظهر هناك أمام اللَّه لأجلنا. ولهذا السبب سُمي «خادم المسكن الحقيقي» الذي نصبه الرب لا الإنسان، فهو يمارس الآن وظيفة كاهن في السماء، حيث هو حيٌ إلى الأبد يشفع فينا.
(2) نصوص الكتاب الدالة على شفاعة المسيح: (أ) يظهر المسيح أمام وجه اللَّه لأجلنا (عب 9: 24) ويقدم نفسه أمام اللَّه بالنيابة عنا، بمعنى أنه وسيط تمم عمله لأجلنا يدافع عنا أمام عرش اللَّه، ولذلك كان ظهوره أمام اللَّه شفاعة دائمة فعالة في شعبه، تأتيهم بجميع بركات الفداء الذي صنعه. (ب) يشفع فينا (رو 8: 34 وعب 7: 25) ويسأل اللَّه من أجلنا (يو 17: 9). (ج) تسميته بالباراكليت، بمعنى الشفيع (ايو 2: 1) والمعزي (يو 14: 16) أي المستغاث. وعلى ذلك فمعناها العام: المغيث، بغضّ النظر عن نوع الإغاثة. ولما كان المجرمون الجهلاء المخذولون المدعوون للمحاكمة يحتاجون فوق كل شيء إلى من يحامي عنهم، ويعمل ما يمكنه ليطلقهم، كان هذا هو المعنى الخاص المقصود بتسمية المسيح بالشفيع. فهو الوكيل المدافع عنا، الذي يقف في محكمة اللَّه ليدافع عنا ويقدم عمل طاعته وآلامه لتبريرنا، ويجري وساطته المبنية على أنه ابن اللَّه الذي يُسر به الآب ويستجيب له دائماً، وعلى إكماله جميع شروط عهد الفداء، فيحصل لشعبه على كل الخير الذي يحتاجون إليه. ولذلك تظهر شفاعة المسيح على الخصوص في الآيات التي موضوعها التبرير والمحاكمة (انظر رو 8: 34 و1يو 2: 1).
31 - ما هي حقيقة شفاعة المسيح؟
* قال بعض اللاهوتيين إن المقصود في الكتاب المقدس بشفاعة المسيح هو دوام وساطته وعمله في خلاص شعبه. وقال غيرهم إن شفاعته فينا تجري في السماء بالكلام الشفاهي حقيقة. والصواب أنها تتضمن جملة أمور:
(1) إنه يظهر أمام اللَّه لأجلنا بناءً على أنه ذبيحةٌ عن خطايانا، ورئيس كهنتنا، وأننا ننال مغفرة خطايانا وعطية الروح القدس وكل خير نحتاج إليه بناءً على عمله.
(2) إنه يحمينا من حكم الناموس وشكايات إبليس.
(3) إنه قدم نفسه ضامناً لنا ليوفي ما يطلبه الناموس.
(4) إنه يقدم إلى اللَّه أشخاص المفديين بتقديس صلواتهم وكل خدمتهم، ويجعلها مقبولة عند اللَّه بواسطة استحقاقاته.
32 - مَن هم الذين يشفع المسيح فيهم؟
* قال المسيح «لست أسأل من أجل العالم.. بل من أجل الذين أعطيتني» (يو 17: 9، 20) فيظهر من ذلك أن شفاعته باعتبارها قسماً من كهنوته محصورة في الذين يقبلونه كاهناً لهم، وهو ينوب عنهم في عهد الفداء. وهذا الأمر ظاهر من حقيقة الكهنوت، ومن كلامه الصريح، ومن أن شفاعته فعالة بلا ريب لأن الآب يسمعه دائماً. فلو شفع في الجميع لخلصوا لا محالة، وهو خلاف الواقع.

33 - ما هي الأدلة على خطأ تعليم شفاعة القديسين؟
* قارن ما قلناه عن وساطة المسيح في فصل 32. ثم نقول إن الوسيط بين اللَّه والناس واحد فقط وهو المسيح، وإن الكاهن العظيم الذي لا نقدر أن نقترب إلى اللَّه إلا به هو واحد (المسيح) وإن الشفاعة هي وظيفة الكاهن. فيلزم أن المسيح شفيعنا الوحيد، وأن كل المؤمنين ملوك وكهنة للَّه على معنى يوافق أن المسيح وحده ملكنا وكاهننا، فيصحّ القول بشفاعة القديسين بعضهم لأجل بعض، بمعنى لا يناقض أن المسيح شفيعنا الوحيد، فيصلي المؤمنون بعضهم لأجل بعض ولأجل جميع الناس. فيكون المقصود بشفاعة القديسين هو الصلاة، وأما شفاعة المسيح فهي عمل قانوني لا يستطيع من يقوم به إلا من استطاع القيام بوظيفته. لأنه كما كان في العهد القديم يقدر كل إسرائيلي أن يصلي لأجل إخوته، ولكن لم يستطع أحد أن يدخل إلى ما وراء الحجاب ويتوسط قانونياً عن الشعب إلا رئيس الكهنة، هكذا في العهد الجديد يجب أن يُصلي بعضنا لأجل بعض، ولكن لا يستطيع أحد أن يظهر أمام اللَّه عنا بناءً على أنه شفيع كهنوتي لنا، ويقدم استحقاقاته لاستجابة صلواته لأجل شعبه، إلا المسيح وحده.
أما الأدلة على خطأ شفاعة القديسين فكثيرة، نكتفي بذكر خمسة منها:
(1) بناؤه على توهُّم رتبة من البشر لا وجود لها في الحقيقة، هم الذين يُقال إنهم الآن في السماء لسبب استحقاقاتهم، وفي الملائكة. وليس للكنيسة سلطان في مثل هذا الحكم، ولا يحق لها أن تكتب في سفر الأرواح الممجدة من تشاء.
(2) تأديته إلى عبادة الأصنام بالفعل، لأن عبادة الأصنام هي نسبة الصفات الإلهية إلى مخلوق، وتقديم شيء من العبادة والكرامة الخاصة باللَّه إلى مخلوقٍ. ويخطئ الذين يعتقدون أن القديسين حاضرون في كل زمان ومكان، وقادرون على استماع الصلوات المقدمة لهم واستجابتها.
(3) إنه يحط من شأن المسيح الوسيط الوحيد والشفيع الفريد الكافي بين اللَّه والناس، والمستعد دائماً لأن يسمع ويستجيب صلوات شعبه. فاتّخاذنا وسطاء أو شفعاء آخرين يقتربون إلى اللَّه عنا دليل على اعتقادنا شيئاً من النقص في المسيح، ومساواةً لعمل الشفعاء مع عمل المسيح!
(4) مناقضته لتعليم الكتاب المقدس لأنه يُبنى على أن للقديسين قدرة عند اللَّه بسبب استحقاقاتهم الشخصية. والكتاب المقدس يقول أن ليس لأحدٍ من البشر أمام اللَّه حق أو استحقاق في خلاص نفسه، وبالتالي لا يكون له حق أو استحقاق في خلاص غيره.
(5) إنه من باب الخرافات التي تحط من شأن الإنسان. فالخرافة عبارة عن التصديق بلا برهان. واستشفاع القديسين مبني على التسليم به بلا برهان من الكتاب المقدس، فهو دعاءٌ يتوهّمه المصلي نافعاً وهو ليس كذلك. وهو يحط من شأن الإنسان لأنه يحوّل نظره من الخالق إلى المخلوق، ويسوقه إلى الاتكال على ذراع بشرية عوضاً عن قوة المسيح، فيحوّل قلوب الشعب وثقتهم عن المسيح إلى الذين لا يستطيعون أن يسمعوا ولا أن يخلِّصوا.

الفصل السادس والثلاثون

وظيفة المسيح الملكية


1 - هل أقام اللَّه ملكوتاً في العالم، وما قولك فيه؟
* اللَّه هو الحاكم المطلق على جميع الخلائق، لأنه خالق الكون وحافظه، وغير محدود في ذاته وكماله، وهو يمارس سلطانه على العالم المادي بواسطة القوانين الطبيعية التي وضعها، وعلى المخلوقات التي تأتمر بشرائعه الأخلاقية. ولما عصى البشر سلطان اللَّه العادل صاروا قسماً من ملكوت الظلمة تحت رياسة إبليس، وذلك منذ سقوط آدم إلى الآن. فقصد اللَّه بنعمته ورحمته أن يخلِّصهم من عواقب السقوط، فأعلن لهم مجيء فادٍ يبيد قوة إبليس، وأقام في الحال ملكوتاً مضاداً لملكوت الشر، مؤلَّفاً من الذين اختارهم من العالم وردَّهم إلى طاعته بواسطة تجديد الروح القدس. وكان ذلك الملكوت في أول الأمر هو بيوت شعب اللَّه، كل بيتٍ تقيٍ كنيسةً رأسه كاهنها، وبقي كذلك إلى زمن إبراهيم.

وأقام اللَّه عهداً مع إبراهيم أب المؤمنين ومع نسله، ليمنع انتشار عبادة الأصنام، ويصون معرفة الحق، ويجمع مختاريه، ويجهز الطريق لمجيء الفادي الموعود به، فجعلهم ملكوته المنظور، وائتمنهم على إعلاناته. وفي هذا العهد وعد كل الذين يؤمنون بمواعيده ويطيعونه بالحياة الأبدية.
ولما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر صاروا جماعة تحت رياسة اللَّه الخاصة، وانتظمت شريعتهم وعبادتهم وخدمتهم الدينية، ليُبقوا معرفة مقاصد اللَّه في الخلاص ويبيّنوا كيفية إتمامها، ويعلنوا مجيء المسيح، نسل إبراهيم الموعود به، بركةً لشعوب الأرض، ويعلنوا صفاته ووظائفه وعمله.
كان ملكوت اللَّه إذاً في العالم منذ سقوط آدم إلى الآن، وهو مؤلَّفٌ من الذين يعترفون أن اللَّه هو الإله الواحد الحي الحقيقي، ويعبدونه ويحبونه ويطيعونه. فالملكوت دائماً نور العالم وحياته، والملح الذي يصلحه، والخميرة التي يختمر بها. وغاية اللَّه في كل معاملاته مع البشر، وتجسد ابنه الأزلي هي جمع شعبه في هذا الملكوت وإكماله إلى النهاية، فقد وُلد المسيح ليكون ملكاً، وعاش ومات وقام من الموت ليكون رباً للذين أعطاه إياهم الآب.
2 - بماذا يمتاز سلطان المسيح باعتباره وسيطاً عن سلطانه باعتباره إلهاً؟
* سلطان المسيح باعتبار لاهوته من مقتضيات طبيعته الإلهية، فلم يأخذه من أحد. وهو مطلق أبدي غير متغير. أما سلطانه باعتباره وسيطاً فأخذه من الآب جزاء طاعته وآلامه إتماماً لعمل الفداء، وهو سلطان خاص بوساطته لخلاص شعبه، وبهذا السلطان أجرى مقتضيات الفداء، وتمّم عهد النعمة. وهو سلطان خاص به باعتباره إلهاً وإنساناً معاً، ووسيطاً بين اللَّه والبشر، لا باعتبار لاهوته فقط.
3 - ما معنى أن المسيح ملك؟
* قلنا إن ملكوت اللَّه كان منذ خلق الإنسان. ولما كان كل ما يتعلق به قبل مجيء المسيح استعداداً فقط، قيل في العهد القديم إن المسيح ملك سيقيم مملكة تنتهي فيها أخيراً سائر الممالك. ولذلك كان من ألقابه «الرب» ومعناه المالك والمتسلط. فإذا استعمل هذا اللقب للَّه أو للمسيح كان المعنى المالك أو المتسلط المطلق. فالمسيح هو ربنا لأنه الإله المتجسد، علاوة على حقوقه وسلطانه علينا باعتباره إلهاً ونحن له لأنه اشترانا بدمه، وقد أقامه اللَّه ملكاً على صهيون جبل قدسه.
4 - ما هي أدلة العهد القديم على أن المسيح ملك؟
* أدلته: إنه «شيلون» الذي له يكون خضوع الشعوب (تك 49: 10) وإنه هو الذي قيل فيه «يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب (صولجان) من إسرائيل» (عد 24: 17). وأقام اللَّه عهداً مع داود بقوله «ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صم 7: 16). وإنجازاً لهذا الوعد تنبأ إشعياء بأن العذراء تلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (إش 7: 14) «تكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً، أباً أبدياً رئيس السلام. لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا» (إش 9: 6، 7). وقال اللَّه في مز 2: 6، 8، 9 مشيراً للمسيح «مسحتُ ملكي على صهيون جبل قدسي.. اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك. تحطمهم بقضيبٍ من حديد مثل إناء خزافٌ تكسرهم». وكل ما جاء في مز 45 و72 و110 هو في شأن مُلك المسيح. وقيل في دانيال «مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً، لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض» (دا 7: 13، 14). وقال ميخا «أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (مي 5: 2). وقال زكريا معزياً الشعب بعد السبي «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون. اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زك 9:9). وكما كان كهنوت النظام القديم وذبائحه وأنبياؤه رموزاً إلى وظيفتَي المسيح النبوية والكهنوتية، هكذا كان ملوك إسرائيل رموزاً إلى وظيفته الملكية وكان النظام الإلهي تحت رياسة اللَّه في العهد الموسوي رمزاً إلى النظام الروحي تحت رياسة المسيح في العهد المسيحي.
5 - ما هي أدلة العهد الجديد على أن المسيح ملك؟
* ذُكر مُلك المسيح في العهد الجديد تتميماً لما سبق من النبوات بمجيئه. قال الملاك جبرائيل لمريم العذراء لما أعلن لها قرب ميلاده «ستحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمُلكه نهاية» (لو 1: 31-33) وأعدَّ يوحنا المعمدان الشعب لمجيء المسيح بقوله «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت 3: 2). وبشر المسيح نفسهُ عند شروعه في خدمته الشخصية في كل مكان ببشارة ملكوت اللَّه (مر 1: 14) وكان كثير من تعليمه لإظهار حقيقة الملكوت الذي جاء ليقيمه (لو 32: 2 ويو 1: 49 وأع 2: 33، 36 و10: 36 وعب 1: 3 و7: 2 و12: 2 ورؤ 15: 3 و17: 14 و19: 16 وأف 1: 20-22 و1بط 3: 22 وفي 2: 9، 10). فلا شك أن المسيح حسب الكتاب ملك ويجب اعتباره كذلك.

6 - في أي وقت تولى المسيح المُلك قانونياً؟
* نؤمن أن المسيح وإن كان وسيطاً منذ سقوط الإنسان، إلا أنه لم يتولَّ المُلك علناً ويملك قانونياً إلا منذ صعوده بعد القيامة ليجلس عن يمين الآب. ومما يبرهن صحة هذا الرأي نبوات العهد القديم بأن ملكوته آتٍ (مز 2: 6 وإر 23: 5 وإش 9: 6 ودا 2: 44) وإعلان العهد الجديد أنه أتى في مجيئه الأول وأسّس ملكوته، وصعد ليأخذ المُلك، كما يتبيّن من قول المعمدان إن ملكوت السماء قد اقترب، ومن قول المسيح نفسه إن ملكوت اللَّه قد حضر. وزعم قوم من القائلين بمجيء المسيح ليملك شخصياً على الأرض مدة ألف سنة أنه لم يأخذ ملكه بعد، ولن يأخذه إلى أن يأتي منظوراً ليجلس ملكاً على كرسي المُلك في أورشليم (انظر فصل 40).
7 - ما هي المعاني المختلفة لكلمة «ملكوت» في الكتاب المقدس؟
* للكلمة اليونانية المترجمة «ملكوت» أو «مملكة» أو «مُلك» في الكتاب المقدس ثلاثة معانٍ: (1) السلطان أو السلطة الخاصة بالملوك. (2) الخاضعون لهذا السلطان. فإن المملكة عند البشر هي الجماعة أو البلاد التي يتولى الملك أمرها. ويسمّي العهد الجديد الذين يعترفون بمُلك المسيح عليهم «مملكته». (3) ما ينشأ عن إجراء السلطان الملكي من خضوع اختياري لهذا السلطان، وهذا المعنى مجازي. فالمعنى الأول هو المقصود بالقول إن المسيح أُعطي ملكوتاً أو سلطاناً، وبقوله «ليأتِ ملكوتك» وقول الملاك «لا يكون لملكه نهاية». والمعنى الثاني هو المقصود بالقول إن الناس يدخلون ملكوت المسيح أو يخرجون منه. والمعنى الثالث هو المقصود بالقول إن الناس يرثون ملكوت اللَّه أو يتمتعون به أو يطلبونه أو يفضّلونه على الكنز المخفى، ولذلك قيل إنه قائم بالبر والسلام والفرح في الروح القدس (رو 14: 17). فهذه جميعها من نتائج ملك المسيح. وجاءت كلمة ملكوت في العهد الجديد بهذا المعنى نحو 137 مرة، منها عشرٌ في الأناجيل وعشرون في الرسائل. ولم يوصف هذا الملكوت بأنه كنيسة إلا مرة واحدة في الأناجيل و88 مرة في الرسائل وسفر الرؤيا. فيتضح من ذلك أن الملكوت الذي كان المسيح مزمعاً أن يؤسسه كان الموضوع العظيم في الأناجيل، وأنه بعد تأسيسه وتنظيمه (أي جعله كنيسة) كان الموضوع العظيم في الرسائل بعد صعود المسيح وحلول الروح القدس في يوم الخمسين.

8 - ما هي أسماء الملكوت في الكتاب المقدس؟
* هي «ملكوت المسيح» و«ملكوت ابن اللَّه» لأن المسيح تولى تدبيره، وفُوِّض السلطان الملكي عليه. و«ملكوت اللَّه» لأن المسيح هو اللَّه، ولأنه الملكوت الذي أقامه اللَّه على الأرض تمييزاً له عن ممالك البشر. و«ملكوت السموات» لأن ملكه ساكن في السماء، ولأنه روحي سماوي، ولأنه سيكمل في السماء. وقد سُمي أيضاً بأسماء مختلفة بالنظر إلى ممارسة المسيح سلطانه الملكي فيه، كملكوت السلطة وملكوت النعمة وملكوت الرئاسة الكنسيّة وملكوت المجد السماوي. وهذه سنذكرها الآن بالتفصيل.
9 - ما معنى ملكوت السلطة؟
* للمسيح ما يسميه اللاهوتيون «ملكوت السلطة أو القوة» إشارة إلى سلطانه على الكون، ويريدون بذلك أنه باعتباره إلهاً وإنساناً معاً ووسيطاً بين اللَّه والناس قد دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض (مت 28: 18). قال المرنم إن اللَّه قصد أن يكون كل شيء تحت قدمي الإنسان (مز 8: 6) وقال الرسول إن اللَّه أكمل هذا القصد في ارتفاع المسيح، إذ «أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة» (أف 1: 20-22). وجاء هذا الأمر في قول الرسول إنه لما وُضع كل شيء تحت قدمي المسيح لم يستثنِ من هذا الخضوع إلا الذي أَخضع له الكل (1كو 15: 27). وإنه إذ أخضع الكل (أي الكون) له لم يترك شيئاً غير خاضعٍ له (عب 2: 8). وهذا السلطان العام يتضمنه جلوس المسيح عن يمين اللَّه. فالمسيح المعادل للَّه وقد أخذ صورة العبد رفعه اللَّه وأعطاه اسماً فوق كل اسمٍ، لتجثو باسم المسيح كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض (في 2: 9، 10) وهذا القول شامل، لأن «كل من في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض» يعم كل الخلائق الناطقة. والذي تجثو له كل ركبةٍ هو يسوع، لا باعتباره الكلمة الأزلي، بل باعتباره الإله المتأنِّس (يو 1: 14) وهم يعترفون أنه الرب، أي ربهم وملكهم. وبهذا المعنى نفسه قال الرسول إن اللَّه جعل الابن وارثاً لكل شيء (عب 1: 2). وباعتبار هذا السلطان على الكون سُمّي المسيح «رب الأرباب وملك الملوك» أي الذي له كل سلطان على قوات السماء والأرض.

10 - كيف يُجري المسيح هذا السلطان العام؟
* يُجريه بالعناية بكنيسته، فيرسل الملائكة لخدمة ورثة الخلاص، ويضبط ويقيِّد الرؤساء والسلاطين وولاة العالم وأجناد الشر الروحية (أف 6: 12) ويدبِّر جميع أمور الشعوب والأفراد، ويرتب كل الحوادث المتعلّقة بشعبه أفراداً وبكنيسته إجمالاً لأجل هذه الغاية. ويقول الرسول بولس إن عناية المسيح الضابطة تدبّره في جميع سبله.
فالمسيح الآن هو إله العناية، وهو الذي يضبط الكون. وهذا السلطان أو هذا الملكوت يدوم إلى أن تتم غايته، ويُخضِع جميع أعداء المسيح وكل أنواع الشر والموت، ثم يسلم هذا المُلك للَّه الآب. وينتهي سلطان المسيح على العالم باعتباره الوسيط بين اللَّه والناس (1كو 15: 24). ونستنتج من أف 1: 10 وكو 1: 20 عموم رئاسة المسيح على الأرضيات والسماويات معاً.
11 - ما معنى ملكوت النعمة؟
* هو ملكوت المسيح الروحي، وهو غير ملكوت السلطة. وله جانبان: (1) علاقة المسيح بشعبه الحقيقي أفراداً وإجمالاً، أي الكنيسة غير المنظورة. و(2) علاقته بالكنيسة المنظورة أي جماعة الذين يعترفون بأنهم شعبه. وبناءً على ذلك هو ملك كل نفس مؤمنة لأنه ينقلها من ملكوت الظلمة ويُخضعها لنفسه ويتسلط فيها ويملك عليها روحياً. ويعترف كل مؤمن أن المسيح هو ملكه وذو السلطان المطلَق عليه وربّ حياته الظاهرة والباطنة، ويسلم إليه عقله وضميره وقلبه تسليماً كاملاً، ويعبده ويحبه ويطيعه ويحتمي به من جميع الأعداء المنظورة وغير المنظورة، ويتكل عليه طالباً العون في زمن الحاجة راجياً منه النصرة الأخيرة. والخلاصة أن المسيحي أمين للمسيح ضابط حياته، فيتصرّف كجندي صالح للمسيح، وينفِق ويُنفَق في خدمته وفي توسيع ملكوته.

12 - ما هي شروط الدخول في هذا الملكوت الروحي؟
* هي التوبة والإيمان والتجديد الداخلي، كما يتضح من قول المسيح «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه» (يو 3: 5) وقوله «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3). ومن شروطه أيضاً طهارة الحياة. قال الرسول إن الظالمين لا يرثون ملكوت اللَّه (1كو 6: 9، 10). وأيضاً إن الذين يرتكبون الزنا والعهارة والنجاسة والدعارة وعبادة الأوثان والسحر والعداوة والخصام والغيرة والسخط والتحزب والشقاق والبدعة والحسد والقتل والسُّكر والبَطر وأمثال هذه لا يرثون ملكوت اللَّه (غل 5: 19-21).
ويعلّمنا الكتاب أيضاً أن مجرد الاعتراف الشفاهي غير كافٍ للدخول في هذا الملكوت. قال المسيح «ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب، يدخل ملكوت السموات» (مت 7: 21). ولا الصرامة في ممارسة الفرائض والطقوس، فقد قال المسيح «إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 5: 20) وقول الرسول «لأن اليهودي في الظاهر ليس يهودياً، ولا الختان الذي في اللحم ختاناً» (رو 2: 28). «لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة» (غل 5: 6). «الذي مثاله يخلِّصنا نحن الآن أي المعمودية، لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن اللَّه» (1بط 3: 21). ولا عضوية الكنيسة المنظورة حسب قول المعمدان «لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم إن لنا إبراهيم أباً» (مت 3: 9). وقول الرسول «ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون» (رو 9: 6). وعلى هذا فإن ملكوت المسيح هو جماعة روحية مؤلَّفة من الذين هم في الباطن شعبه بالحقيقة.

 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

13 - ماذا تطلبه أحكام هذا الملكوت الروحي؟
* (1) الإيمان بالمسيح. وهو الاعتقاد القلبي أنه ابن اللَّه ومخلِّص العالم، وتسليم القلب له والاتكال عليه بناءً على أنه نبيُّنا وكاهننا وملكنا، وهو الأمر الأول المطلوب والأعظم. وتتحد بهذا الإيمان المحبة الفائقة حسب قول المسيح «من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني. ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني.. من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها» (مت 10: 37، 39). «إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً» (لو 14: 26) وقول الرسول «إن كان أحد لا يحب الرب يسوع فليكن أناثيما. ماران أثا» (1كو 16: 22). وتتعلق بهذه المحبة الفائقة كل العواطف الدينية الأخرى، فيطلب من المسيحيين أن يعبدوا المسيح (1كو 1: 2) ويكرموه كما يكرمون الآب (يو 5: 23) ويؤمنوا به كما يؤمنون باللَّه (يو 14: 1). فالذي يرفض عبادة المسيح باعتباره اللَّه الذي ظهر في الجسد يذنب كمن يرفض عبادة اللَّه باعتباره الإله الواحد الحي الحقيقي. فهو في الحالين يخالف ناموس الملكوت الأساسي، ويستحق أن ُيُقطع كمذنب. ولكن إذا اعترفنا أن المسيح هو ربنا وإلهنا كما اعترف توما (يو 20: 28) وجب علينا أن نعبده ونطيعه، لأن علاقتنا به كعلاقة العبد بسيده. غير أن خضوعنا له هو بالاختيار والسرور. ونحن له، لا لأنه الخالق ونحن الخليقة فقط، بل لأنه الإله الذي اتحد بالناسوت واشترانا بدمه (1كو 6: 19، 20). فإرادته هي التي تضبط سلوكنا وتحدّد لنا ما نفعله. وكل ما نربحه من المعرفة والمال والمكانة الاجتماعية هو له، ويصبح هو غاية حياتنا، وشعارنا «لي الحياة هي المسيح» (في 1: 21) فننفق قُوانا ونبذل جهدنا في تمجيد اسمه وتوسيع ملكوته.
(2) طهارة القلب والحياة: فالمؤمنون مطالبون أن يكونوا مساكين بالروح وودعاء ورحماء وصانعي السلام وطويلي الأناة وغافرين، وأن لا يطلبوا ما لأنفسهم بل يحتملوا كل شيء ويصدقوا كل شيء ويرجوا كل شيء. وأن يحفظوا أنفسهم من الطمع ومحبة المال والكبرياء ومحبة العالم (1كو 6: 9، 10). وخلاصة كل ذلك أن يماثلوا المسيح في الأخلاق والصفات.
(3) المحبة الأخوية: على أعضاء ملكوت المسيح خصوصاً أن يحبوا بعضهم بعضاً، باعتبارهم أعضاء عائلة واحدة، مشتركون في الفوائد والبركات الأخوية التي تسوقهم لمساعدة المحتاجين منهم (2كورنثوس 8). ويجب على كل مسيحي أن يجتهد حسب طاقته لا ليسدَّ احتياجاته فقط، بل ليسد احتياجات الآخرين أيضاً، «لأنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل لا يأكل أيضاً» (2تس 3: 10). وهكذا يعطي من عنده، ويأخذ من ليس عنده. «وأما من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة اللَّه فيه؟» (1يو 3: 17). وصلاتنا «ليأتِ ملكوتك» تتضمّن الطلب أن يعترف جميع الناس بأن المسيح ملكهم صاحب العزة الإلهية والسلطان الإلهي، وأن يماثلوه في الصفات والسيرة.

14 - كيف يمارس المسيح وظيفة ملك في الملكوت الروحي؟
* (1) بالعناية، فإنه يسيّر الكون كله لحماية شعبه وبنيانهم وإعدادهم للمجد المعد لهم.
(2) بإعطاء الروح القدس، لأنه يدعو الناس إلى الخلاص ويقدسهم ويعزيهم ويرشدهم ويمجدهم أخيراً في ملكوته (يو 15: 26 وأع 2: 33-36).
(3) بتعيينه نظام كنيسته والمتوظفين فيها وما يحتاجونه ليتمموا خدمتهم (مت 28: 18-20 وأف 4: 11-13).
(4) باختياره الأشخاص الذين يتولون تلك الوظائف، فيدعوهم إليها بواسطة الروح القدس، والعناية، وأصوات الإخوة (أع 1: 23، 24 و6: 5 و13: 2، 3 و20: 28 و1تي 1: 12 و4: 14).
ويقسم ملكوت المسيح الروحي إلى قسمين: (1) الذين على الأرض، وهؤلاء يحاربون إبليس وجنوده ويجاهدون الجهاد الحسن في وسط تجارب هذه الحياة (أف 6: 11-16). و(2) الذين غلبوا ودخلوا المجد الأبدي مع المسيح واستراحوا من جميع أتعابهم (رؤ 3: 21) فالمسيح يقودهم وسط الحروب الروحية (رؤ 19: 11، 16) وهو الملك المتسلط الجالس على عرشه (رؤ 21: 5، 22، 23). وفي الكتاب أن عرش المسيح عرش النعمة (عب 4: 16) وعرش الدينونة (رؤ 20: 11-15) وعرش المجد (رؤ 4: 2-5 و5: 6) وذلك باعتبار علاقات المسيح المختلفة بشعبه وبالعالم أجمع.

15 - ما المقصود بملكوت الرئاسة الكنسية أي ملكوت المسيح المنظور؟
* لما كانت الديانة الصحيحة حالةً روحية داخلية، وكان ملكوت المسيح يتكوَّن من المتجددين الحقيقيين، يكون هذا الملكوت جماعة منظورة ليظهر صلاح المسيحيين للعالم. وقد أوصى المسيح شعبه أن يُظهروا إيمانهم كالنور (مت 5: 14) فينشأ ملكوت منظور يجتمع أفراده للعبادة الجمهورية، ويضمّون للكنيسة الذين يخلصون، ويُخرِجون من شركتهم من يخطئون، ويمارسون سرَّي المعمودية والعشاء الرباني، ويحافظون على الحق ويذيعونه، وهذا ما يُلجئهم إلى تنظيم كنائس يتألف من مجموعها ملكوت المسيح المنظور على الأرض، الذي يضم كل من يعترفون بالمسيحية مع أولادهم.

16 - ما هي صفات ملكوت المسيح المنظور؟
* (1) إنه ملكوت ديني: لأنه ليس من هذا العالم ولا يشابه سائر الممالك التي قامت أو تقوم بين الناس، بل يختلف عنها في المنشأ والغاية. لأن الممالك البشرية تُقام من البشر بالعناية الربانية لتنفع الجمهور. أما ملكوت المسيح فقد أقامه اللَّه بنفسه لأهداف دينية. وهو روحي لا دنيوي، إذ لا سلطان للكنيسة على حياة أعضائها أو حريتهم أو أموالهم، بل جميع الأمور الزمنية خارجة عن دائرة سلطانها. أما مسؤوليتها فهي إعلان الحق الموحى به في كلمة اللَّه، وإلزام كل الذين تحت سلطانها أن يعترفوا بالمسيح ويطيعوه. وليس لها أن تحكم في الأمور السياسية ولا العلمية، ما لم يكن الكتاب المقدس قد أصدر فيها حكماً.
فملكوت المسيح الآن ليس من العالم، وليس كالنظام اليهودي القديم الذي مع رئاسة اللَّه عليه كان من هذا العالم، لأنه ضمّ بني إسرائيل كأمة واحدة، وقام بتدبير جميع أمورهم السياسية والجمهورية والدينية. وأما ملكوت المسيح فهدفه أن يعم كل الممالك، ولذلك عاش تحت كل نوع من الحكم الزمني بلا معارضة لشيء منها. ولما قال المسيح إن مملكته ليست من هذا العالم قصد أن يرد على شكوى اليهود ضده أنه يقاوم سلطان الإمبراطور الروماني، معلناً أنه لا تناقض بين مملكته الروحية والسلطان الشرعي للحكم السياسي، لأن دائرة مملكته تتميّز عن دائرته، فمملكة المسيح تعالج أموراً خارجة عن السلطة الزمنية، ولا تتعرض لشيء يختص بالحكام السياسيين. ولذلك كان من الممكن أن يقر الناس بأن المسيح ملك تحق له الطاعة وكذلك يُعطوا لقيصر ما لقيصر.

فالمَلِكُ في هذا الملكوت يملك بسلطان روحي لا جسدي، وديني لا سياسي (مت 20: 28 ويو 18: 36) وعرشه على يمين اللَّه (أع 2: 33) وصولجانه روحي لا مادي (إش 53: 1 ومز 110: 2) وأعضاء ملكوته هم الأبرار الروحيون (في 3: 20 وأف 2: 19) وحكمه يجري بوسائط روحية (زك 4: 6، 7) وشرائعه روحية (يو 4: 24) وخيراته وأحكامه وعقوباته روحية (1كو 5: 4- 11 و2كو 10: 4 وأف 1: 3-8 و2تي 4: 2 وتي 2: 15).

(2) إنه جامعٌ: يضم كل الذين يعترفون بالديانة الحقيقية، وليس محصوراً في نظامٍ كنسي واحد، بل يشمل كل الأنظمة الخاضعة لسلطان المسيح وللشرائع التي وضعها في كلمته. ولأن جميع المسيحيين أعضاء ملكوت المسيح وجب عليهم أن يعترفوا أن جميعهم شعب مملكة واحدة، وأنهم خاضعون لسلطان واحد.

(3) إنه زمني: لأنه صار نظاماً خارجياً ذا أهداف معلومة، فمتى كملت تلك الأهداف يزول النظام الخارجي.

(4) سلطانه المطلق في يد المسيح: فهو ليس حكماً يديره عامة الشعب أو أكابرهم، بل هو في يد المسيح. وهذا يعني: (أ) أنه ليس للحكم السياسي سلطان أن يضع شرائع لتعيين إيمان الكنيسة أو تدبير عبادتها أو إجراء تأديبها، ولا أن يقيم موظفيها أو يعزلهم. (ب) ليس للحاكم السياسي باعتبار مقامه العالمي سلطان في ملكوت المسيح، فبالأولى ليس لأحد من أرباب السياسة أن يرأس الكنيسة. (ج) ليس للشعب ولا لرجال الدين سلطانٌ دينيٌ مطلق، بل سلطانهم للخدمة فقط، ويصدر من المسيح، فلا يمارسونه إلا باسمه، حسب الضوابط التي وضعها في كلمته.
17 - ما هي القوة المفوَّضة إلى حكم الكنيسة في ما يتعلق بنظامها؟
* اختلفوا في كميتها في جزئيات الأمور المتعلقة بعبادتها ونظامها. فأنكر بعضهم حرية الكنيسة في ذلك على الإطلاق، وقالوا إن كل ما يتعلق بنظام الكنيسة وأصحاب الوظائف فيها وكيفية عملهم مذكور بالتفصيل في العهد الجديد كما ذكر العهد القديم بالتفصيل الكلام على شقق المسكن وأوانيه.. وقال آخرون إن في الكتاب المقدس مبادئ عامة وقوانين شاملة فُوّض إلى الكنيسة إجراؤها على ما تستحسنه من الوسائط والكيفية. وهو الرأي الأرجح.
وعلى ذلك كان لجميع الكنائس في كل زمان ومكان حرية تنويع نظامها وكيفية عملها حسب الظروف، مع المحافظة على مبادئ الإنجيل. وهي تنويعات غير جوهرية لأنها لا تأسر الضمير، ولا يمكن جعلها شروطاً للشركة المسيحية.
ولما كان المسيح رأس كنيسته الوحيد وجبَت طاعتها له وحده. فإذا أراد الخارجون عنها أن يدبّروا أمورها، أو يحدّوا حريتها، وجب على أعضائها أن يستعملوا كل الوسائط الجائزة لمقاومة هذا التعرُّض، وأن يَثبُتوا في الحرية التي حررهم بها المسيح. وكذلك إذا ادّعى الذين داخل الكنيسة سلطاناً باطلاً، سواء كانوا أعضاء أم أفراداً من المتوظفين أو مجلساً كنسياً. وقد حاول البعض في القرون الأولى أن يضعوا نير الناموس اليهودي على المسيحيين، فقاومهم الرسل.

18 - ما هي الشرائع التي سنَّها المسيح في ملكوته المنظور؟
* كما أن المسيح هو رأس ملكوته الأرضي فهو الوحيد المشرّع لملكوته. ومن شرائعه:
(1) شروط الدخول في ملكوته السماوي والأرضي: فلا يجوز للكنيسة أن تطلب أكثر أو أقل من ذلك، بل تلتزم أن تقبل جميع الذين يقبلهم المسيح. ولا يشترط على أحدٍ من المعرفة الدينية أو الإقرار ليكون أخاً مسيحياً إلا ما هو ضروري للخلاص، كما عمَّد فيلبس الخصي بناء على قوله «أومن أن يسوع المسيح هو ابن اللَّه» (أع 8: 37) قيل في الكتاب «من هو ضعيف في الإيمان فاقبلوه، لا لمحاكمة الأفكار. من أنت الذي تدين عبد غيرك؟ هو لمولاه يثبت أو يسقط» (رو 14: 1، 4). «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلد من اللَّه» (1يو 5: 1). فإذا رُفض الناس الذين قبلهم اللَّه في كنيسته من شركة تلك الكنيسة، كان ذلك ادعاءً خاطئاً، لأن الشرط الذي وُضع لدخول شركة الكنيسة هو الإقرار الصادق بالإيمان القلبي بالمسيح، وما يوافقه من السيرة الخارجية. وكل ما هو خلاف ذلك هو تعدٍّ على السلطان الخاص بالمسيح.
(2) قطع المخالفين ومرتكبي الذنوب التي تسبب العثرة من شركة الكنيسة: «المبتدع (الهرطوق) بعد الإنذار مرة ومرتين أَعرِض عنه» (تي 3: 10) و«إن كان أحد مدعوٌّ أخاً زانياً أو طماعاً أو عابد وثن أو شتاماً أو سكيراً أو خاطفاً أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا» (1كو 5: 11). وقال المسيح إن مثل هذا المذنب إذا أبى أن يسمع من الكنيسة فليكن كالوثني والعشار (مت 18: 17).
(3) وضع المسيح سلطان إجراء التأديب وبقية حقوق الكنيسة في يد أناسٍ مختارين لتلك الخدمة: وهم القسوس والشيوخ أو المدبرون (وفي بعض الكنائس الشمامسة) وهؤلاء لهم صفات حسنة وأهلية خاصة، أُفرزوا لخدمتهم إفرازاً قانونياً، وهم ملتزمون في إتمام ذلك بالمحافظة على قوانين الكتاب المقدس ومبادئه.
(4) تفويض حق الحكم بأهلية طالبي الرسامة في الخدمة القسيسية بالذين قد دعاهم الروح القدس إلى تلك الخدمة، مع نوّاب الشعب مجتمعين معاً لذلك الهدف (1تي 4: 14 و2تي 2:2). غير أن إجراء تلك الرسامة يتم على أيدي القسوس.
(5) إقامة هؤلاء المتوظفين جميعاً خداماً لرعية اللَّه لا أسياداً عليها، فإن سلطانهم محدود في دائرة معروفة، وللشعب حق الاشتراك مع القسوس في حكم الكنيسة بواسطة نواب منهم، هم الشيوخ أو المدبرون (وفي بعض الكنائس الشمامسة) الذين اختارتهم الكنيسة ليكونوا وكلاء للشعب في كل ما يختص بحقوقهم (1بط 5: 3 و2كو 4: 5).
(6) ضرورة أن كل عضو من ملكوت المسيح يكرم إخوته في الرب ويحترم مشورتهم، ففي ملكوت المسيح يخضع الجزء للكل، والكل جسد واحد في الرب (مت 18: 15-17). وتفصيل هذه المسائل من مباحث علم اللاهوت المختصة بالكنيسة ونظامها وسيأتي الكلام عليها.

19 - ما هو تعليم الكنيسة الإنجيلية في العلاقة بين الكنيسة والحكم العالمي؟
* هو أن الكنيسة أُقيمت من اللَّه، وكذلك الحكم السياسي. ولكن كلاً منهما مستقل عن الآخر، أُقيم لغاية خاصة به. فإن الكنيسة وأعضاءها من رعية الحاكم السياسي، وعليهم الإكرام اللائق له وحفظ شرائعه. ويمكن أن يكون السياسيون والرعية من أعضاء الكنيسة، فيكونون مطالبين بالخضوع لأحكامها الروحية. ولكن ليس لخدام الدين سلطة في دائرة السياسة لسبب وظيفتهم الكنسية، وليس لأرباب السياسة سلطة في الكنيسة لسبب وظيفتهم السياسية، وليس للقوانين الكنسية سلطة في السياسة، ولا للشرائع المدنية سطوة في أمور الكنيسة الخاصة. فالمسيحي الحقيقي يعطي ما لقيصر لقيصر وما للَّه للَّه.
20 - ما المقصود بقولنا ملكوت المجد السماوي؟
* نقصد بذلك الملكوت السماوي، لأن الكتاب يقول إن المسيح عند مجيئه ثانيةً يجمع شعبه في ملكوته المعد لهم منذ تأسيس العالم. وصفات ذلك الملكوت هي:
(1) إنه مؤلف من المفديين فقط، فلا يدخله غير متجدد، لأن الزوان يُفصل عن الحنطة (مت 13: 3) والأشرار لا يرثون ملكوت اللَّه (غل 5: 21 و1كو 6: 9، 10) وكل نجس وكاذب لا يدخله (رؤ 21: 27).
(2) الذين هم أهلٌ له يُرفعون بعد أن يكمَّلوا إلى المقام العظيم والقوة والمجد. فيكونون ملوكاً وكهنةً للَّه، ويجلسون على عروش ويدينون ملائكة ويملكون مع المسيح ويشاركونه في سلطانه ومجده (مت 19: 28 و1كو 6: 3 و2تي 2: 12 ورؤ 1: 6).
(3) إنه أبدي لا ينتهي (لو 1: 23 ودا 7: 14 وعب 6: 20).
(4) أجساد قديسيه الطبيعية تصير روحانية، فإن هذا المائت يلبس عدم الموت، وهذا الفساد عدم الفساد، لأن اللحم والدم (أي الجسد حسب بنائه الحاضر) لا يستطيعان أن يرثا ملكوت اللَّه (1كو 15: 50).
(5) لم يُعلن مكانه بالتوضيح، فظن بعضهم أن هذه الأرض تتجدد وتُعد لهذا النظام الجديد، وقال غيرهم إن كلام الكتاب المقدس يؤكد أن السماء مكان آخر ممتاز، وهي مسكن المفديين الأخير.
(6) اختلفت الآراء في الزمان الذي يُقام فيه، فقال بعضهم إن المسيح يجيء قبل القيامة العامة والدينونة الأخيرة بألف سنة، أو بمدة طويلة، ويملك على الأرض ملكاً منظوراً، وإن هذا الملكوت هو المشار إليه على الخصوص في نبوات الكتاب المقدس ومواعيده. وهذا القول مخالف لما سبق من حقيقة هذا الملكوت لأنه يجعله ملكوتاً أرضياً يستطيع اللحم والدم أن يرثه، فيكون غير الملكوت الروحي السماوي. وأما قول أغلب المفسرين في هذا الشأن فهو أن القيامة العامة والدينونة الأخيرة وبدء ملكوت المجد تكون في زمنٍ واحد، عند انقضاء العالم (انظر فصل 40 س 11-16).
21 - بأي معنى سيُسلِّم المسيح ملكوته إلى الآب، وبأي معنى ستدوم رئاسته؟
* كل ما أُعلن لنا في هذا الموضوع أن المسيح بعد تخليص شعبه تماماً وإهلاك أعدائه، سيسلّم سلطانه على الكون باعتباره وسيطاً، ليكون ذلك خاصاً بالأقانيم الثلاثة، لا للوسيط، ويكون «اللَّه» الكل في الكل (1كو 15: 24-28). ولكن علاقة المسيح بشعبه الخاص وسيطاً ورئيساً أي نبياً وكاهناً وملكاً تدوم إلى الأبد، ولو أنه لا حاجة لممارسة تلك الوظائف في العالم السماوي. ومما يبيّن ذلك أربعة أدلة:
(1) إنه كاهن إلى الأبد، وليس لملكوته نهاية (مز 110: 4 ودا 7: 14 ولو 1: :23 وعب 6: 20 و12: 28).
(2) الاتحاد بين الطبيعة البشرية والطبيعة الإلهية لا يزول أبداً (رو 8: 29 وفي 3: 21).
(3) المسيح رأس الكنيسة إلى الأبد وهي عروسه، ويحتفل أخيراً هو وكنيسته بعرس الحمل في السماء (رؤ 19: 7 و21: 2، 9).
(4) قول صاحب الرؤيا إن المسيح (وهو الحمل الذي كان قد ذُبح) جالس على العرش، وهو إلى الأبد هيكل المدينة السماوية ونورها، وإنه يرعى شعبه ويقوده إلى ينابيع ماء حية (رؤ 5: 6 و7: 17 و21: 22، 23).

 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
[FONT=&quot]الفصل السابع والثلاثون

[FONT=&quot]اتّضاع المسيح[/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]1 - ما هو التعليم الإنجيلي في اتضاع المسيح؟[/FONT]
*[FONT=&quot] قال الرسول إن المسيح وضع نفسه (في 2: 8) فقد تقلَّد وظيفة الوساطة بأتمّ الرضى. ولكي يؤدي واجباتها وُلِد تحت الناموس، وأكمله كل التكميل، واحتمل أشد العذاب في ذات نفسه، وأشد الأوجاع في جسده، فصُلِب ومات وقُبر، وبقي تحت سلطان الموت، ولكنه لم يرَ فساداً. ويقوم اتضاع المسيح بولادته في حالٍ متواضع، وتحت الناموس وبحمله مشقات هذه الحياة، وغضب اللَّه ولعنة موت الصليب، وبدفنه ومكثه تحت سلطان الموت إلى حين.[/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]2 - كيف يتّضح اتضاع المسيح في ولادته؟[/FONT]
*[FONT=&quot] يتضح ذلك من أنه وهو ابن اللَّه الأزلي وُلد من امرأة. قال الرسول إنه كان معادلاً للَّه، فجُعل في شِبه الناس، ووُجد في الهيئة كإنسان (في 2: 7، 8) وكان تحت الناموس (غل 4:4). وورد في العهد القديم أن عذراء تحبل وتلد ابناً يُدعى اسمه عمانوئيل الإله القدير. وغاية ما نعلمه من هذا أن في الحبَل يُضَم مبدأ غير مادي (أي النفس البشرية) إلى خلية جسد بشري لإيجاد الحياة. وعند كمال العمل التكويني يولد طفل تام. وأما الحبَل بالمسيح فقد أعلن الكتاب المقدس أن جسده ونفسه كانا بقوة الروح القدس الفائقة الطبيعة من أول الأمر متحدين بالكلمة اتحاداً شخصياً، حتى أن المولود من العذراء كان بالحقيقة ابن اللَّه.[/FONT]
[FONT=&quot]3 - لماذا يُعتبر التجسد جزءاً من اتضاع المسيح؟[/FONT]
*[FONT=&quot] لأن تجسد ابن اللَّه واتخاذه طبيعة أدنى من طبيعته بما لا يُقاس على نوع الاتحاد الشخصي الدائم، هو تنازل فائق الوصف يصح ذكره بين الأمور التي يقوم بها اتضاعه. وهذا ما ذكره الكتاب المقدس.[/FONT]
[FONT=&quot]4 - لماذا تُحسب أحوال ولادة المسيح اتضاعاً؟[/FONT]
*[FONT=&quot] لأن اتضاع المسيح في تجسده حسب تعليم الكتاب لا يقتصر على مجرد اتّخاذه الطبيعة البشرية، بل يشمل أيضاً كل ما يتعلق بحياته على أرضنا. ولما صار عبداً كان مهده مذوداً وصار فقيراً حتى لم يكن له أين يسند رأسه، وظهر بلا صورة ولا جمال، محتقراً ومخذولاً من الناس، كان ذلك من التنازل الذي يفوق كل إدراك. وله في العقل والقلب قوة أعظم جداً مما لو ظهر في صورة ملك أرضي، ثوبه من أرجوان وتاجه من ذهب. فنسجد عند قدمي الجليلي المتَّضع باحترام ومحبة أكثر جداً مما لو ظهر كسليمان في كل مجده.[/FONT]
[FONT=&quot]قيل في رسالة فيلبي «وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8) وقد أخطأ البعض في تفسير قول الرسول «وضع نفسه» وقالوا إن المسيح أخلى نفسه من اللاهوت وصار إنساناً فقط مدة بقائه في حال الاتضاع. والصحيح أن فيلبي‌ 2: 8 تقول إن ابن اللَّه صار في حال الاتضاع مدة حياته على الأرض، أي أن تجسده كان من باب الاتضاع. على أن لاهوت المسيح لم يزل كما هو بدون تغيير في جوهره، لكنه اقترن بطبيعةٍ بشرية في حال الاتضاع. فيكون المسيح وضع نفسه باعتبار ناسوته، لا لاهوته. فإن لاهوته لم يخسر شيئاً من مجده وقدرته، لكن شخصه المتجسد اتضع للطاعة والموت.[/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]5 - لماذا يُحسَب وضع المسيح تحت الناموس جزءاً من اتضاعه؟[/FONT]
*[FONT=&quot] لأن ذلك مما يُنزله منزلة الناس، فإن الناموس يشتمل على ثلاثة أمور:[/FONT]
[FONT=&quot](1) عهد الأعمال الذي أعطاه اللَّه لآدم، وجعل شرط الحياة فيه الطاعة التامة.[/FONT]
[FONT=&quot](2) شريعة موسى التي فُرضت على بني إسرائيل.[/FONT]
[FONT=&quot](3) الشريعة الأخلاقية، وهي قانون الواجبات على الإنسان. وقد خضع المسيح لهذه الثلاثة، لأنه تعهد بإكمال كل البر، أي بعمل كل ما يطلبه الناموس على أنواعه المختلفة.[/FONT]
[FONT=&quot]وكان هذا الخضوع اختيارياً بدلياً. فهو اختياري لأن المسيح تجسد باختياره وتعهد بكل ما يقتضيه تجسده من تلقاء إرادته. ولم يكن بسبب اتخاذ طبيعتنا مطالَباً بالخضوع للناموس، لأن الناموس فُرض على الناس، والمسيح لم يكن إنساناً فقط بل بقي بعد التجسد إلهاً كما كان منذ الأزل، فعلاقته بالناموس تشبه علاقة اللَّه به، إلا من حيث تعهده الطوعي، لأن واضع كل النواميس غير مطالَب بالخضوع لها، بمعنى أنه ليس تحت سلطتها، ولا يمكن أن يكون خضوعه لها إلا على سبيل الاتضاع. فإن ملوك الأرض ذوي السلطان المطلق هم أعلى من النواميس التي يسنّونها، بل إنها تكتسب سلطانها منهم فيطلبونها أو يغيّرونها كما يشاؤون، ولا يخضعون لشيء من حيث علاقتهم بالناس إلا لما يريدونه. ولما قبل المسيح أن يقوم بشروط العهد المصنوع مع آدم، وحفظ جميع أوامر الناموس الموسوي، وخضع للناموس الأخلاقي مع مواعيده وعقابه، كان ذلك اتضاعاً اختيارياً.[/FONT]
[FONT=&quot]وكان خضوع المسيح للناموس بدلياً أيضاً، لأنه قام مقامنا نائباً عنا ولأجل فائدتنا. فجُعل تحت الناموس ليفدي الذين هم تحت الناموس (غل 4:4، 5) وقبِل هذا الخضوع لأنه الفادي، لا لأنه كان ملتزماً به، لأنه كما كان رب السبت كان أيضاً رب الناموس بجملته وأنواعه، فكانت كل حياة المسيح على الأرض حياة الطاعة الاختيارية، إذ جاء ليعمل إرادة أبيه، ودُعي في نبوات العهد القديم باسم «العبد» وهو نفسه قال «نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني» (يو 6: 38) وقال الرسول :[FONT=&quot] «مع كونه ابناً تعلم الطاعة» (عب 5: 8) وقال «إذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8). فكان كل ذلك اختيارياً بدلياً لأجل البشر ولأجل خلاصهم.[/FONT][/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]6 - لماذا تُحسب آلام المسيح وموته اتضاعاً؟[/FONT]
*[FONT=&quot] لأنه الطبيب الشافي وقد تألم، ورب الحياة وقد مات! فآلامه ولا سيما موته المهين على الصليب من الأمور الجوهرية في اتضاعه. ودامت تلك الآلام من بداية حياته الأرضية إلى نهايتها. فبعضها نشأ عن ضعف الطبيعة التي اتخذها، وبعضها عن حالة الفقر التي عاش فيها، وبعضها عن قربه الدائم إلى الخطاة الذي سبَّب لنفسه حزناً متصلاً، وحمله أن يقول «إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟» وبعضها عن الإهانة والعار والمقاومة التي عومل بها، وبعضها عن فظاعة الشتم والهزء وآلام الصلب التي لا يفوقها شيءٌ من الوجع والعار! وبعضها عن الألم الناشئ عن المعرفة السابقة بالحكم الهائل الآتي على كل الشعب اليهودي، وبعضها عن الحزن الصادر من حمل خطايا شعبه وانحجاب وجه أبيه عنه حتى صار عرقه كالدم في البستان، وصرخ صرخة الويل على الصليب.[/FONT]
[FONT=&quot]فهذه هي عجائب المحبة وإنكار الذات والاتضاع التي حاول الملائكة أن يطلعوا عليها، والتي لا يدركها العقل البشري ولا يعرف مقدارها. فالحق أنه لم يكن قط حزن مثل حزنه ولا يكون أبداً.[/FONT]
[FONT=&quot]7 - ما معنى غضب اللَّه الذي احتمله المسيح، وكيف يُحسَب ذلك من الاتضاع؟[/FONT]
*[FONT=&quot] معناه في الكتاب المقدس إظهار كل أنواع غضبه على الخطية، فقيل إن المسيح حمل خطايانا. على أن قداسته تامة وقيل إن اللَّه جعله خطية، أي عامله معاملة الخاطئ (2كو 5: 21) وإنه أُحصي مع أثمة (إش 53: 12) ولم يكن ذلك في حكم البشر فقط بل في معاملة اللَّه إياه، لأنه قام مقام الخطاة. وذُكر في مزمور 16 و22 و40 (التي موضوعها آلام المسيح) أنه اختبر كل عقاب الخطية. ويدل صراخ المسيح على الصليب «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» على احتجاب وجه أبيه عنه. على أننا لا نقدر أن ندرك ما اختبره من هذا القبيل، فغاية ما نعلمه أنه كما قاسى الهمّ والخوف والاضطراب وغيرها مما هو طبيعي للإنسان في الأحوال التي كان فيها، قاسى كل ما يمكن أن يقاسيه في احتمال عقاب الخطية لأجل شعبه. ونعجز عن أن نفهم علاقة طبيعته الإلهية بطبيعته البشرية (على ما ظهر في هذه الاختبارات) ولا يفيدنا البحث فيها شيئاً. غير أنه لا يوجد تناقض في هذه العلاقة باعتبار طبيعته البشرية قاصرة في المعرفة متقدمة في العلم، ذات عواطف طبيعية شاعرة بالخوف عند وقوع الخطر وقرب الموت. كذلك لم يكن فيها شيء من التناقض لما حزن وتألم عند احتجاب الرضا الإلهي عنه.[/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]8 - ما معنى بقاء المسيح تحت سلطان الموت إلى حين؟[/FONT]
*[FONT=&quot] وضع المسيح نفسه حتى الموت، وبقي زماناً تحت سلطانه. وهذا هو المقصود بما قيل في قوانين الإيمان القديمة من أنه «نزل إلى الهاوية» (أو الجحيم) أي اتضاع المسيح بدفنه ومكثه في حال الأموات وتحت سلطة الموت إلى اليوم الثالث. وعبارة «نزل إلى الهاوية» لم توجد أصلاً في القوانين القديمة للإيمان، ولكن أُدخلت فيها نحو القرن الخامس الميلادي. وقد اشتهر لها أربعة معان: (انظر فصل 8 س 4) (1) نزوله إلى القبر: ولكن هذا مردود لأن نفسه لم تنزل إلى القبر. (2) إنه هبط إلى حيث كان قديسو العهد القديم: باقين تحت الحفظ بعد موتهم في مكان خاص ينتظرون أن ينقذهم المسيح عند مجيئه وإتمامه عمل الفداء على الصليب. فتكون الغاية من نزول المسيح إلى الهاوية إنقاذ أولئك الأفاضل من ذلك السجن الذي طال عليهم سكنه. وهذا تعليم لا برهان عليه في الإعلانات الإلهية، لأن الذبيحة التي قدمها المسيح وفائدتها في الخلاص كانت لقديسي العهد القديم كما للمؤمنين في العهد الجديد. (3) إن المسيح ذهب إلى جهنم محل العذاب: ليُظهر سلطته على الهالكين ويُظهر انتصاره أمام عيونهم. فعلى ذلك يكون النزول إلى الهاوية جزءاً من ارتفاع المسيح، لا اتضاعه. ولكن هذا التعليم منقوض بما جاء في لوقا 23: 43. (4) إنها إشارة إلى عالم الأرواح غير المنظور الذي دخلته نفوس الموتى، بغضّ النظر عن جهنم أو السماء: فالمقصود بهذه العبارة أنه «مكث تحت سلطان الموت إلى حين» أو أنه ذهب إلى عالم النفوس المنتقلة. والمعنى أن المسيح بعد موته دُفن جسده في القبر ومكثت نفسه في عالم الأرواح حتى قيامته. [/FONT]
[FONT=&quot]ونرجح صحة هذا التعليم الرابع من ثلاثة أمور: (أ) الهاوية هي العالم غير المنظور، وأصلها في العبرانية شأول، ومعناها دار الموتى أو حالهم، فإن جميع الموتى الأبرار والأشرار ينتقلون جميعاً إلى العالم غير المنظور. وعلى هذا يكون النزول إلى القبر والنزول إلى الهاوية عبارتين مترادفتين في الكتاب المقدس. قال يعقوب «إني أنزل إلى الهاوية» (تك 37: 35) وقال داود «أصعدتَ من الهاوية نفسي» وفسّر معناها بقوله «أحييتني من بين الهابطين في الجب» (مز 30: 3). فالنزول إلى الهاوية في الكتاب هو النزول إلى مكان الأموات، أي العبور من العالم المنظور إلى العالم غير المنظور. وهو ما يحدث لجميع البشر متى ماتوا ودُفنوا. (ب) لم تكن تلك العبارة في قانون الإيمان الرسولي من أول الأمر، وإنما أُضيفت إليه في نحو القرن الخامس، كتفسيرٍ لما سبقها من كلمتي «مات ودُفن». فالعبارتان مترادفتان. ومن ورود إحداهما في بعض النسخ، والأخرى في غيرها، والاثنتين معاً في غيرهما، يتضح لنا أن المعنى المقصود منهما واحد. (ج) الآيات التي يوردونها لإثبات نزول المسيح إلى الهاوية لا تعني أنه نزل إلى جهنم، وهي أربع آيات: [/FONT]
[FONT=&quot]الآية الأولى:[FONT=&quot] «لأنك لم تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيَّك يرى فساداً» (مز 16: 10) ومعناها ثقة المرنم بأن اللَّه لا يتركه تحت سلطان الموت. فكأنه قال: إنك لا تسلّمني إلى سلطة الهاوية ولا تتركني أرى فساداً. وهكذا فسّر بطرس وبولس هذه العبارة (أع 2: 27-31 و13: 34، 35) فقد اقتبساها كبرهانٍ على قيامة الأموات، بمعنى أن داود تُرِك في حال الموتى ورأى جسده الفساد، وأما المسيح فأُنقِذ من القبر قبل حلول الفساد في جسده الطاهر.[/FONT][/FONT]
[FONT=&quot]والآية الثانية:[FONT=&quot] «وأما أنه صعد، فما هو إلا أنه نزل أيضاً (أولاً) إلى أقسام الأرض السفلى» (أف 4: 9). فقالوا إن أقسام الأرض السفلى أقسام أسفل الأرض. ونرد على ذلك بثلاثة ردود. (أ) لا موجب لهذا التفسير، لاحتمال أنه لا يُقصَد بتلك الأقسام سوى الأرض نفسها كما ورد في آيات كثيرة، ومنها قول النبي «ترنّمي أيتها السموات. اهتفي يا أسافل الأرض» (إش 44: 23). و(ب) لا يظهر من قرينة الكلام في هذه الآية ولا في مزمور 68 الذي اقتبسها الرسول منه شيءٌ من المقابلة إلا بين السماء والأرض، فكأنه قال إن الذي صعد إلى السماء هو الذي نزل أولاً إلى الأرض. و(ج) كلام الرسول لا يستلزم ولا يرجح شيئاً من الإشارة إلى ما حدث بعد موت المسيح، بل كل ما قاله هو أن موضوع المزمور المذكور هو الانتصار الضروري للمسيح، لأنه ذكر الصعود إلى السماء الذي يُستفاد منه النزول إلى الأرض أولاً. [/FONT][/FONT]
[FONT=&quot]والآية الثالثة:[FONT=&quot] «اللَّه ظهر في الجسد.. تراءى لملائكةٍ» (1تي 3: 16). فقالوا إن هذا يدل على أن المسيح ظهر في العالم السفلي بمحضر إبليس وملائكته. وللرد نقول إن كلمة ملائكة (حسب الأصل) إذا أُطلقت لا يُقصد بها الملائكة الساقطين أبداً. فضلاً على أن كلام الرسول لا يناقش هذا الأمر، بل يبرهن لاهوت المسيح، فيقول إنه تبرر في الروح وتراءى لملائكة وكُرز به بين الأمم وأُومن به في العالم ورُفع في المجد، أي أن جميع أنواع الخلائق صارت شهوداً بظهور اللَّه في الجسد. [/FONT][/FONT]
[FONT=&quot]والآية الرابعة:[FONT=&quot] «مماتاً في الجسد ولكن محيىً في الروح، الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن» (1بط 3: 18، 19). وللرد نقول: تفسير هذه الآية متعلّق بمعنى قوله «محيىً في الروح» في القسم الأخير من آية 18. فقال معظم المفسرين إنه يشير إلى طبيعة المسيح الإلهية، وإن قوله «مماتاً في الجسد» يشير إلى طبيعته البشرية. وقد أوضح بولس هذا التمييز بقوله «الذي صار من نسل داود من جهة الجسد وتعيّن ابن اللَّه بقوة من جهة روح القداسة..» (رو 1: 3، 4). إذاً ذهب المسيح وكرز للأرواح التي في السجن وهو في طبيعته الإلهية، وليس بالضرورة أنه فعل هذا بعد موته، فعبارة الرسول لا تؤكد أن المسيح ذهب بعد موته وكرز للأرواح التي هلكت في الطوفان. فيكون المعنى أن المسيح ذهب في الطبيعة الإلهية وكرز للأشرار في أيام نوح. وأما القول إن هذه الأرواح كانت في السجن فلا يُلزمنا أن نؤمن أن المسيح ذهب إلى السجن وكرز للأرواح هناك، وإنما هو وصفٌ للحالة التي كانوا فيها في زمن موت المسيح، والزمن الذي كتب بطرس رسالته فيه.[/FONT][/FONT]
[/FONT]
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل الثامن والثلاثون

ارتفاع المسيح


1 - بماذا يقوم ارتفاع المسيح؟
* في اليوم الثالث قام المسيح من بين الأموات بنفس الجسد الذي تألم فيه، وبه أيضاً صعد إلى السماء، وهناك جلس عن يمين أبيه يشفع. وسوف يعود ليدين الناس والملائكة عند انقضاء العالم. وارتفاع المسيح يقوم بقيامته من الأموات في اليوم الثالث، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين اللَّه الآب، وإتيانه أيضاً ليدين العالم في اليوم الأخير. فيشمل ارتفاع المسيح حسب هذا النص أربعة أمور هي: قيامته، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين اللَّه، ومجيئه ليدين العالم في اليوم الأخير.
2 - ما هي الأدلة على قيامة المسيح؟
* لم يذكر الكتاب المقدس قيامة المسيح على أنها مجرد خبر حادثة، بل على أنها حقيقة أساسية في الإنجيل. قال الرسول «إن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا، وباطلٌ أيضاً إيمانكم» (1كو 15: 14) «وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلٌ أيضاً إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم» (آية 17). ولا شك أن إقامة المسيح هي أهم الحوادث في تاريخ العالم وأصدقها.
أما الأدلة عليها فهي:
(1) إنباء المسيح نفسه بها.
(2) كفاية البراهين التي ظهرت حينئذٍ على حدوثها، وأنها من الأمور التي يمكن تحقيقها بسهولة.
(3) كثرة الشهود الذين عاينوا المسيح حياً بعد موته على الصليب، وأهليتهم لتأدية الشهادة، وأنهم من الذين يُركَن إليهم من كل جهة.
(4) إخلاص اقتناعهم الثابت، فقد خسروا من الدنيا حتى الحياة بسبب شهادتهم لصحة حادثة القيامة.
(5) أثبت اللَّه شهادتهم بالآيات والعجائب والمعجزات ومواهب الروح القدس (عب 2: 4).
(6) حفظ المسيحيون اليوم الأول من الأسبوع كيوم العبادة، لأن القيامة تمت فيه.
(7) عدم إمكان تعليل ما أحدثه الإنجيل في العالم من النتائج والتغييرات تعليلاً يقبله العقل إلا بحقيقة موت المسيح ثم قيامته (انظر فصل 19 عن ماهية المعجزة).
3 - كيف تظهر أهمية قيامة المسيح؟
* (1) كل ما قاله المسيح، وكل نجاح عمله، مبنيٌ على قيامته من الموت. فإن كان قد قام فإنجيله صادق، وإلا فهو باطل. وإن كان قد قام فهو ابن اللَّه ظهر في الجسد مخلص الناس، وهو المسيح الذي أنبأ به الأنبياء، نبي شعبه وكاهنهم وملكهم، الذي قبِل الآب ذبيحته إيفاءً للعدل الإلهي، ودمه فديةً عن كثيرين، وبُنيت رسالة الروح (التي بدونها يكون عمل الناموس باطلاً) على قيامته.
(2) قيامة المسيح ضمان وتحقيق لقيامة شعبه الذي مات عنه باعتباره مخلصاً ونائباً له. فكما أنه حي سيحيون هم أيضاً. ولو بقي تحت سلطان الموت ما كان مصدراً للحياة الروحية في البشر، لأنه الكرمة ونحن الأغصان. فإذا كانت الكرمة ميتة كانت الأغصان بالضرورة ميتة أيضاً.
(3) لو لم يكن المسيح قد قام لفشل كل مسعى الفداء، ولثبت أن كل ما سبق من النبوات والآمال بشأن نتائجه المجيدة في الدنيا والآخرة إنما هو أوهام. «أما الآن فقد قام المسيح من الموت وصار باكورة الراقدين». ولذلك يكون الكتاب صحيحاً من سفر التكوين إلى الرؤيا، وانتصر الحق على الضلال والخير على الشر والسعادة على الشقاء إلى الأبد.
4 - ماذا تُعلّمنا الأسفار المقدسة عن الجسد الذي قام فيه المسيح؟
* (1) الجسد الذي قام فيه المسيح هو نفس الجسد الذي مات على الصليب. ومن الأدلة على ذلك بقاء أثر المسامير في يديه وقدميه. غير أنه حصل فيه شيءٌ من التغيير، لا نعرف ما هو بالتحقيق. وتقول الأناجيل عن جسده في المدة بين قيامته وصعوده: (أ) إنه لم يُعرف في أول الأمر أنه هو، لأن مريم المجدلية توهَّمته البستاني (يو 20: 15) ولم يعرفه تلميذا عمواس لما سار معهما إلى أن أظهر ذاته لهما عند كسر الخبز (لو 24: 31). ولما ظهر للتلاميذ على بحر طبرية لم يعرفوه، إلى أن صادوا بأمره سمكاً كثيراً فعرفوا أن ذلك معجزة إلهية (يو 21: 7). (ب) ظهر بغتة وسط التلاميذ في غرفةٍ مغلقة الأبواب (يو 20: 19 ولو 24: 36). (ج) إنه كان نفس الجسد المادي بلحمه وعظامه. وواضح أن ظهوره للتلاميذ المذكور في لو 24: 36 كان فوق الطبيعي، لأنه قيل إنهم جزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً، فطمأنهم المسيح قائلاً «انظروا يديَّ ورجليَّ. إني أنا هو. جسّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي». ويظهر من تجلي المسيح أنه لما كان على الأرض كان جسده قابلاً للانتقال من حال إلى أخرى، مع دوام كونه هو هو.
(2) بقي ذلك الجسد في الحال المذكور مدة 40 يوماً بعد قيامته، ثم انتقل إلى الحال الممجدة. وكل ما نعلمه عن ذلك هو ما ذكره الرسول بشأن الأجساد التي يلبسها المؤمنون بعد القيامة، إنها ستكون على صورة جسد مجد المسيح (في 3: 21) ولذلك يصدق وصف الواحد على الآخر. وقد أوضح ذلك في مقارنة الجسد الحاضر بجسد المؤمن عند القيامة، فقال إن الواحد جسم حيواني والآخر جسم روحاني، وإن الأول يناسب الحال الحاضرة والثاني الحال الآتية. ووصف الرسول انتقال الجسد من إحدى الحالين إلى الأخرى بقوله «يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد. يُزرع في هوان ويُقام في مجد. يُزرع في ضعف ويُقام في قوة». والمعنى أنه يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً (1كو 15: 42-44). غير أنه لا يزال جسداً مادياً بقيت فيه جميع الصفات المادية الجوهرية، لأنه ذو أبعاد ثلاثة وهي الطول والعرض والعمق، ويشغل حيزاً (أي مكاناً)، وله صورة بشرية. وقد رآه بولس مرةً في طريقه إلى دمشق ومرات أخرى، ورآه أيضاً يوحنا والشهيد استفانوس. ومع ذلك لا يبقى لحماً ولا دماً، لأن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت اللَّه، ومن طبيعتهما الفساد. ولذلك قال الرسول «لا يرث الفساد عدم الفساد». وقال أيضاً على سبيل النتيجة «هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت عدم موت» (1كو 15: 50-53). ولا يكون الجسد الآتي عُرضة للاحتياجات والضعفات وميول الحالة الحاضرة، بدليل قول المسيح «في القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة اللَّه في السماء» (مت 22: 30).
فيتضح مما تقدم أن جسد المسيح بعد قيامته وبعد جلوسه عن يمين اللَّه في السماء مجيد غير قابل للفساد ولا الموت، روحاني. لكنه هو نفس جسده الذي كان على الأرض.

5 - ما معنى صعود المسيح، وكيف يُحسب ذلك من باب الارتفاع؟
* بعد ما كلم يسوع تلاميذه ارتفع إلى السماء (مر 16: 19). وقال لوقا «وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء» (لو 24: 50، 51). وقال أيضاً «ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق، إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض وقالا: أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ أن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء» (أع 1: 9-11). وكان صعوده: (1) بشخصه الكامل، فالذي صعد هو ابن اللَّه اللابس طبيعتنا، ذو الجسد الحقيقي والنفس العاقلة. (2) كان منظوراً، لأن التلاميذ رأوه صاعداً عن الأرض إلى أن حجبته سحابةٌ عن أعينهم. (3) كان انتقالاً من مكان إلى آخر، من الأرض إلى السماء. وعلى هذا تكون السماء مكاناً، لا نعلم في أي قسم من الكون هي. إلا أنه يظهر من تعليم الكتاب أنها قسم محدّد المكان، حيث يعلن اللَّه حضوره الخاص، تحيط به ملائكته الذين لا يمكن أن يكونوا في كل مكان في وقت واحد، لأنهم محدودون. وتحيط بهم أيضاً أرواح الأبرار المكمّلين.
وقد وردت كلمة «سماء» في العهد القديم والجديد بمعانٍ مختلفة. غير أن المعنى المقصود هنا هو المكان الذي يسكنه اللَّه، وتجتمع فيه الملائكة وأرواح الأبرار. وجاءت في الكتاب بهذا المعنى حيث قيل إن اللَّه أبونا الذي في السماء، وإن السماء كرسيه وهيكله ومسكنه، وهي المكان الذي جاء المسيح منه ورجع إليه، كما قال لتلاميذه إنه ذاهب ليُعدّ لهم مكاناً فيه (يو 14: 2).. إذاً كان للمسيح جسد حقيقي يشغل مكاناً محدوداً. وحيث يكون المسيح فهناك سماء المسيحي.

6 - ما هي أسباب صعود المسيح؟
* (1) إنه جاء من السماء: فهي وطنه والمحل اللائق به بل المكان الذي يحل فيه. ولذلك لا تصلح هذه الأرض أن تكون مسكنه في حال ارتفاعه، ما لم تتطهر من كل شر وتتجدد وتصير سماءً جديدة وأرضاً جديدة.
(2) إنه رئيس كهنتنا: ولذلك وجب بعد تقديم نفسه ذبيحة أن يجتاز السموات ليظهر أمام اللَّه عنا، ويقوم هناك بقسم جوهري دائم من وظيفة الكاهن، وهو الشفاعة الدائمة في شعبه. فكما مات لأجل خطايانا قام لأجل تبريرنا. وقد أشارت إلى ذلك رموز العهد القديم، فقد كان الحيوان يُذبح خارجاً في دار الهيكل، ثم يحمل رئيس الكهنة الدم مع بخور كثير إلى داخل الحجاب ويرشه على الغطاء. فكان من الضروري أن ما عمله رئيس الكهنة في الهيكل الأرضي يعمله رئيس كهنة إيماننا في الهيكل غير المصنوع بأيدٍ، الأبدي في السموات. وقد أوضحت رسالة العبرانيين هذا الأمر.
(3) إرسال الروح: قال المسيح «خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم» (يو 16: 7). فإن تخصيص الفداء بعمل الروح ضروري، لأنه لو ترك المسيح الناس لأنفسهم لبقوا في خطاياهم، ويكون المسيح قد مات عبثاً. والبركة العظيمة المميزة للعصر المسيحي حسب الأنبياء هي فيض الروح القدس الذي لا تناله الكنيسة إلا بصعود المسيح إلى السماء.
(4) إعداد مكان لتلاميذه: فقد قال لهم «أنا أمضي لأُعِدَّ لكم مكاناً. وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وأخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو 14: 2، 3). وهو دليل واضح على أن صعود المسيح للسماء كان ضرورياً لإكمال عمله.

7 - ما معنى جلوس المسيح عن يمين اللَّه؟
* بعد صعود المسيح إلى السماء شارك الآب في المجد والسلطان، ولم يكن هذا الارتفاع خاصاً بالكلمة الإلهي ولا بالطبيعة البشرية وحدها، بل بالإله المتأنس. كما أنه إذا رُفع مقام إنسان لا تُرفع نفسه منفصلة عن الجسد، ولا الجسد دون النفس، وإنما يُرفع الشخص بجملته.
ولارتفاع المسيح سببان: (أ) صفاته الإلهية التي يحق لها الإكرام الإلهي وإجراء السلطان المطلق العام، و(ب) وساطته في خلاص البشر. وقد ذكرهما الرسول في عب 1: 3 حيث ذكر أن المسيح جلس عن يمين العظمة في الأعالي، لسببين: أولهما لأنه بهاء مجد الآب ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بقدرته. وثانيهما لأنه صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا. ومثل ذلك قوله إن الذي كان في صورة اللَّه ومعادلاً له وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه اللَّه (أي بناءً على هذين السببين) وأعطاه اسماً فوق كل اسمٍ، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض (في 2: 6-11). وقوله إن اللَّه «أقام المسيح من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسمٍ يُسمى ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيءٍ تحت قدميه» (أف 1: 20-22) وكثيراً ما ورد ذكر هذه العبارة الأخيرة المنقولة عن المزمور الثامن شاهداً بالسلطان المطلق العام المفوض إلى المخلِّص الذي قام من الموت. ومن ذلك قول الرسول «إذ أخضع الكل له لم يترك شيئاً غير خاضعٍ له» (عب 2: 8) وقوله أيضاً «حينما يقول إن كل شيء قد أُخضع فواضح أنه غير الذي أَخضع له الكل» (1كو 15: 27) ولذلك لا يُستثنى من هذا الخضوع شيء من المخلوقات. ومن ذلك أيضاً قول المسيح «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18). والمقصود بالسماء والأرض في الكتاب المقدس جميع الكون كما قال بطرس الرسول «الذي هو في يمين اللَّه، إذ قد مضى إلى السماء وملائكةٌ وسلاطين وقوات (أي كل الخلائق الناطقة) مُخضَعة له» (1بط 3: 22). وجاء في أسفار العهد القديم النبوية أن كل هذا السلطان العام يفوَّض إلى المسيح (انظر مز 2 و45 و72 و110 وإش 9: 6، 7 ودا 7: 14). ومن المعلوم أن مثل هذه القوة لا تسلم إلى المخلوق، لأن الكمالات الإلهية، كالعلم بكل شيء، والقدرة على كل شيء، والحضور في كل مكان، وما لا يحد من الحكمة والصلاح ضرورية لإجراء هذا السلطان العام على كل طبقات المخلوقات العاقلة وغير العاقلة، الذي يمتد إلى العقل والضمير والعالم الخارجي إجراءً فعالاً عادلاً. وهذا هو تعليم الكتاب الصريح، فقيل إن اللَّه «لم يقُل قط لأحدٍ من الملائكة (أي لأحد من المخلوقات العاقلة) اِجلِس عن يميني» (عب 1: 13). وإن كل الملائكة والمخلوقات العاقلة أُمروا بأن يخضعوا له (1بط 3: 22).

8 - ما هي العلاقة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في أثناء إجراء المسيح سلطانه؟
* بين لاهوت المسيح وناسوته علاقة في إجراء السلطان لا يمكننا إدراكها، كما لا نقدر أن ندرك علاقة النفس والجسد في الأعمال الاختيارية المشتركة بينهما كالكتابة والتكلم. وغاية ما نعلمه من ذلك هو أن صفات العقل لا تتحول إلى الجسد، ولا صفات الجسد إلى العقل. وكذلك صفات لاهوت المسيح لا تتحول إلى ناسوته، ولا صفات ناسوته إلى لاهوته. فهذا الملك العظيم على الكون هو إنسان تام وإله تام، ولا يزال يحس كالبشر ويترفَّق بهم ويرثي لضعفاتهم. وشعب المسيح يفرح بسرور لا يوصف لأن كل سلطان في السماء وعلى الأرض قد دُفع للمسيح، وهو ليس بعيداً عن أحدٍ منا، وهو الذي يحل فيه كل ملء اللاهوت جسدياً، ولا يزال ممتلئاً بكل المحبة والرقة والحنو والوداعة والأناة التي أظهرها وهو على الأرض.
9 - ما هي النبوة الشهيرة التي تمت بارتفاع المسيح إلى سلطانه المطلق؟
* هي قول المرنم إن كل الأشياء تخضع للإنسان حسب تفسير الرسول بولس (في عب 2: 8 و1كو 15: 27). وحجَّة الرسول في عب 2: 8 هي أن العهد الإنجيلي، أو العالم مدة العصر المسيحي، لم يُخضَع للملائكة، لأن الكتاب يقول إن كل الأشياء تخضع للإنسان بدون استثناء. ولكننا الآن لا نرى كل الأشياء مخضعة للإنسان من حيث الإنسانية، ولكننا نرى الإنسان يسوع المسيح بسبب آلام الموت مكللاً بهذا السلطان العام المطلق. ولذلك لم تجثُ الرياسات والسلاطين بالخضوع والتسليم والمحبة إلا عند قدمي الإنسان الذي حل فيه كل ملء اللاهوت، ويطرح جميع المفديين أكاليلهم عند قدمي المصلوب.
وقد فُوض هذا السلطان المطلق إلى المسيح لأنه الوسيط بين اللَّه والناس أي الفادي الإلهي، فإن الذي صار فوق الكل هو رأس الكنيسة، وقد رُفع فوق كل الخلائق باعتباره الإله والإنسان معاً لأجل الكنيسة، ولأجل إكمال عمل الفداء (أف 1: 22 وكو 1: 17، 18 و1كو 15: 25-28). ولأن هذا السلطان العام دُفع إليه باعتباره وسيطاً ولأجل غاية خاصة، سوف يتركه متى تمت الغاية المذكورة، فإنه يملك إلى أن يضع جميع أعدائه تحت قدميه. ومتى أُخضع العدو الأخير يُسلم ذلك الملكوت الخاص إلى اللَّه. ولكن المسيح سيملك إلى الأبد كملك المفديين ورأس كنيسته.

10 - ماذا يعلّمنا الكتاب عن مجيء المسيح الأخير؟
* هو أن الذي حوكم كمذنب أمام بيلاطس وحُكم عليه ظلماً وسُخر به وصُلب مع الأثمة، سيأتي بقوة ومجد عظيمين، ويجتمع أمامه كل البشر بكل أجيالهم ليسمعوا من فمه القضاء الأخير عليهم، فيرتفع لدى كل الخلائق العاقلة ويكون قاضيهم المطلق المنظور.
وهاك تعليم الكتاب المقدس في هذا الشأن:
(1) يأتي المسيح ثانيةً.
(2) يكون ذلك المجيء شخصياً منظوراً مجيداً.
(3) غاية هذا المجيء الثاني هو دينونة العالم.
(4) الذين يُدانون هم الأحياء عند ظهوره والذين ماتوا قبل ذلك.
(5) تكون شريعة الدينونة هي شريعة اللَّه، المكتوبة في القلب أو المعلَنة في الكتاب. فالذين كان عندهم الكتاب يُدانون بحسب الإعلان المكتوب، والذين لم يكن عندهم إعلان خارجي يدانون حسب النور الذي كان لهم.
(6) تُبنى الدينونة علي ما عمله الإنسان في حياته في الجسد.
(7) الحكم الذي يُقضى به نهائي لا يتغير إلى الأبد (انظر فصلي 48، 50).
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر
الفصل التاسع والثلاثون
الدعوة

1 - ما هو عمل كل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس في الفداء؟
* يعلّمنا الكتاب أن لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس قسم من عمل الفداء، فينسب إلى الآب تدبير الفداء، واختيار المخلَّصين، وإرسال الابن لإجراء الفداء. وينسب إلى الابن إكمال كل ما هو ضروري ليجعل خلاص البشر الخطاة مطابقاً لناموس اللَّه وكماله ، ومنح الفداء النهائي للذين أعطاهم الآب للابن. وينسب إلى الروح القدس تخصيص الفداء الذي اشتراه المسيح، لأنه لو تُرك الناس لأنفسهم بعد السقوط لداموا في عصيانهم ورفضوا المصالحة التي يعرضها اللَّه عليهم، فيكون المسيح قد مات عبثاً. فإنجازاً للوعد الإلهي أنه يرى من تعب نفسه ويشبع، يعمل الروح القدس في شعب اللَّه المختارين، فيأتي بهم إلى التوبة والإيمان، فيصيرون ورثة الحياة الأبدية بيسوع المسيح مخلِّصهم.

2 - ما هو عمل الروح القدس في مختاري اللَّه ليأتي بهم إلى التوبة والإيمان؟
* عمل الروح القدس هو «الدعوة» كما يظهر من قوله «شركاء الدعوة السماوية» (عب 3: 1) وقوله «رجاء دعوته» (أف 1: 18) وقوله «أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم بها» (أف 4: 1) وقوله «رجاء دعوتكم الواحد» (أف 4:4) وقوله «دعانا دعوة مقدسة» (2تي 1: 9) وقوله «أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين» (2بط 1: 10). والفعل الوارد في الأصل اليوناني للتعبير عن عمل الروح القدس المذكور معناه «دعا». ومن أمثلة ذلك قوله «الذين سبق فعيّنهم فهؤلاء دعاهم أيضاً، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً» (رو 8: 30 انظر أيضاً 9: 11، 24). وقوله «الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه» (1كو 1: 9). وقوله «الذي دعاكم». وقوله «الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته» (غل 1: 6، 15). وقوله «الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده. أمين هو الذي يدعوكم» (1تس 2: 12 و5: 24). وقوله «الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح» (2تس 2: 14). وقوله «الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب». وقوله «الذي دعانا إلى مجده الأبدي في يسوع المسيح» (1بط 2: 9 و5: 10). وقوله «بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة» (2بط 1: 3).
3 - من هم الذين يعمل فيهم الروح القدس ذلك العمل العظيم؟
* هم «المدعوون» كما يظهر من قول الرسول «مدعوو يسوع المسيح» وقوله «الذين هم مدعوون حسب قصده» (رو 1: 6 و8: 28). وقوله إن الكرازة بالمسيح للبعض عثرة وللبعض جهالة، وأما «للمدعوين، يهوداً ويونانيين، فبالمسيح قوة اللَّه وحكمة اللَّه» (1كو 1: 23، 24). وقول يهوذا في رسالته «إلى المدعوين والمحفوظين ليسوع المسيح» (آية 1).
والمدعوون والمختارون بمعنى واحد، كما يظهر من قول صاحب الرؤيا إن الحمل هو «رب الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون» (رؤ 17: 14). وكذلك قول بولس «ليس كثيرون حكماء، بل اختار اللَّه جهّال العالم ليُخزي الحكماء» (1كو 1: 26، 27). وقوله إن المسيح وسيط عهدٍ «لكي يكون المدعوون.. ينالون وعد الميراث الأبدي» (عب 9: 15).
فالخطاة يصيرون شركاء في فوائد الفداء بدعوة إلهية فعالة، هي عمل الروح القدس الذي به يفعل فيهم إلى أن ينقلهم من ملكوت الظلمة إلى ملكوت ابن اللَّه الحبيب.

4 - لماذا يُسمى عمل الروح القدس «دعوة» وماذا نتعلم من ذلك؟
* نشأ هذا التعبير مما جاء في الكتاب المقدس عن اللَّه وعلاقته بالعالم، فهو الذي يقول فيصير، ويدعو الأشياء غير الموجودة فتوجد. فكل ما يحدث من أعمال قدرته يحدث بكلمته. وكما أنه خلق كل الأشياء في العالم الظاهر بكلمة قدرته، كذلك كل ما يحدث في العالم الروحي يجري بمجرد إرادته أو أمره. ومعنى الدعوة في الكتاب الإحداث أو الإيجاد. ويترتب على ذلك أمران: (1) إن اللَّه هو علة ما يحدث بدعوته أو أمره. و(2) إن القوة الفاعلة في دائرة الروحيات ليست من الأسباب الثانوية أو الطبيعية. فالخاطئ يصير خليقة جديدة بدعوة اللَّه. وهذا لا يحدث عن أسباب طبيعية أو روحية، ولا عن عمل الإنسان نفسه، بل عن مجرد قدرة روح اللَّه. ولذلك كثيراً ما أتت «الدعوة» في الكتاب بمعنى الإحداث أو الإيجاد، فإن الشعب أو الفرد ينتقل بدعوة اللَّه إلى ما يُدعى إليه، فلما دعا اللَّه العبرانيين ليكونوا شعبه صاروا شعبه، ولما يُدعى شخص ليكون نبياً يصبح نبياً، ولما دُعي بولس ليكون رسولاً صار رسولاً. والذين دُعوا بدعوة فعالة ليكونوا قديسين صاروا قديسين.
5 - ما هو الفرق بين الدعوة الخارجية والدعوة الداخلية؟
* يميّز الكتاب المقدس بين الدعوة الخارجية الظاهرة التي يخاطب اللَّه بها الجميع بكلمته المقدسة، وبين الدعوة الداخلية الفعالة، بدليل قوله «لأن كثيرين يُدعَون، وقليلين يُنتخبون» (مت 22: 14 و20: 16) وقوله «دعوت فلم تُجيبوا» (إش 65: 12) وقوله «لأني دعوتُ فأبيتم» (أم 1: 24) وقوله «دعوتكم فلم تجيبوا» (إر 35: 17 و35: 17 وإش 66: 4).
6 - ماذا تتضمن الدعوة الخارجية؟
* (1) إعلان طريق الخلاص.
(2) وعد اللَّه بتخليص كل الذين يقبلون شروط هذه الطريق.
(3) أمر اللَّه ونصحه ودعوته للجميع بأن يقبلوا الرحمة التي يعرضها عليهم.
(4) إظهار الأسباب التي من شأنها أن تشجع الناس على التوبة والإيمان ليخلصوا من الغضب الآتي.
وجميع هذه الأمور واضحة في الإنجيل لأنه إعلان طريق اللَّه لخلاص الخطاة. ومن أقواله «كل من يدعو باسم الرب يخلص» (أع 2: 21). وقوله «من يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجاً» (يو 6: 37). وأمره جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا ويؤمنوا بالرب يسوع المسيح (أع 2: 38 و16: 31). والإنذار بعد الأمر كقوله «ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئة، فلماذا تموتون؟» (حز 33: 11). «ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، وليتُب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران» (إش 55: 7). «التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض» (إش 45: 22). وفضلاً عن ذلك يخاطب الإنجيل عقول البشر وضمائرهم وعواطفهم وكل ما يحملهم على قبول دعوته الكريمة.
7 - ما معنى أن هذه الدعوة الخارجية عامة، وممَّ نشأت عموميتها؟
* معناه أنها موجَّهة إلى جميع الذين يصلهم الإنجيل بلا تمييز، فلا تنحصر في جيل ولا أمة ولا طبقة من البشر، بل تمتد إلى الجميع. ونشأت عموميتها عن موضوعها، لأنها تعلن الشروط التي يخلص اللَّه بها الخطاة، وواجبات البشر الساقطين لينالوا الخلاص، فكانت بالضرورة عامة لكل البشر الخطاة. وهي من هذا القبيل شبيهةٌ بالناموس الأخلاقي الذي يعلن لجميع البشر واجباتهم في علاقتهم باللَّه خالقهم وحاكمهم الأخلاقي الذي يعِد الطائعين برضاه الإلهي، ويهدد العصاة بالغضب. فهو يمتد بالضرورة إلى كل الخلائق العاقلة. فدعوة الإنجيل هي لكل طبقة من البشر الساقطين لأنه يأمرهم أن يقبلوا المسيح ويتصالحوا مع اللَّه باعتباره «مصالحاً العالم لنفسه».
ويعلن الكتاب المقدس أن دعوة الإنجيل هذه موجَّهة إلى كل الناس، فقد أمر المسيح الكنيسة أن تكرز بالإنجيل للخليقة كلها، ولا يُستثنى من ذلك إلا الخلائق غير العاقلة والملائكة الساقطون. ولذلك يجب أن يُعرض خلاص المسيح على كل مخلوق من البشر على وجه الأرض. ولا يجوز لنا أن نُخرج أحداً من هذه الدعوة، ولا يجوز لأحدٍ أن يُخرج نفسه منها «لأنه هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). وقد تكرر في العهد الجديد الوعد المذكور في يوئيل بقوله «كل من يدعو باسم الرب ينجو» (يوئيل 2: 32 انظر أع 2: 21 ورو 10: 13) وقال داود «لأنك أنت يا رب صالح وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين إليك» (مز 86: 5). وقال إشعياء «أيها العطاش جميعاً هلموا إلى المياه، والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا. هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمراً ولبناً» (إش 55: 1). ودعا المسيح الخطاة بدون قيدٍ قائلاً «تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 11: 28) وخُتمت الأسفار المقدسة بالقول «الروح والعروس يقولان تعال. ومن يسمع فليقل تعال. ومن يعطش فليأتِ. ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجاناً» (رؤ 22: 17). وبناءً على ذلك ذهب الرسل وكرزوا بالإنجيل لكل طبقات الناس مؤكدين أن كل من يتوب ويؤمن بالرب يسوع المسيح يخلص.
8 - هل توافق الدعوة الخارجية صدق اللَّه؟
* اعترض قومٌ على الدعوة الخارجية التي تعرض الخلاص على الذين قصَد اللَّه بسابق حكمه أن يتركهم لجزاء خطاياهم العادل، وقالوا إنها مغايرة لصدق اللَّه.. فنجيب: سبق أن اعتُرض بمثل ذلك على سابق علم اللَّه بالقول: كيف يعرض اللَّه الخلاص على الذين عرف بسابق علمه أنهم يحتقرونه ويرفضونه؟ فإنه بذلك يعظم ذنبهم ويشدد دينونتهم. والاعتراضان خاطئان، وهما ناشئان عن قِصر فهمنا، فنحن لا نستطيع أن ندرك طرق اللَّه التي لا تُستقصى، ولا نفهم كيفية سياسته للعالم وإتمام مقاصده الفائقة الحكمة. فيجب أن نقتنع بأنه لا يحدث إلا ما يسمح اللَّه بوقوعه. وكل ما يسمح به يليق أن يسمح به. ويكفي في هذا الأمر أن نعرف أن خلاص المسيح معروضٌ على كل إنسان، وأن كل من يقبله يخلص، وأن ما أعده اللَّه من الخلاص كافٍ لجميع البشر. وأما مسألة مقاصد اللَّه في الاختيار وعدمه فليست من شأن خدّام الإنجيل الذين يجب عليهم التبشير به. ولا هو من شأن الخطاة الذين يجب عليهم أن يقبلوه بالشكر. وإذا كان أمر اللَّه للناس بأن يحبوه لا يناقض صدقه، فلا يناقض صدقه أمره لجميع الناس أن يتوبوا ويؤمنوا بالإنجيل.

9 - ما البرهان على أن الدعوة الخارجية إلى الخلاص لم تأتِ للبشر إلا في الإنجيل؟
* يدعو اللَّه البشر للخلاص بواسطة سماع كلمته وقرائتها، فاللَّه لم يعلن طريق الخلاص بواسطة أعماله أو عنايته، ولا بنظام طبيعتنا الأخلاقي، ولا بالبداهة أو التبصُّر العقلي، ولا بالإعلان لجميع الناس مباشرةً في كل مكان وزمان، بل في كلمته المكتوبة. وبعد ما أعلن طريق الخلاص في الكتاب المقدس، وأمر الكنيسة أن تكرز به لجميع الأمم، لم يبقَ لنا دليل من الكتاب أو العقل أن اللَّه يعلن شروط الخلاص بطريقٍ آخر. والكتاب يعلّم أن معرفة الخلاص محصورة فيه. فمن لم يعرف طريق الخلاص هلك. والأدلة على ذلك كثيرة، نكتفي بذكر أربعة منها:
(1) تعلّم أسفار العهد القديم والجديد دائماً أن الوثنيين في حال الجهل المهلك. فقد وصفهم الأنبياء أنهم بعيدون عن اللَّه، يعبدون الأصنام، ويغوصون في الخطية. وفصل اللَّه بني إسرائيل عن بقية الشعوب ليحافظ على معرفة الدين الحق الذي اؤتُمنوا على أقواله الإلهية. وقيل في العهد الجديد إن الوثنيين لا يعرفون اللَّه، فصاروا جميعاً تحت الدينونة (رومية 1) وأمر بولس أهل أفسس أن يذكروا حالهم قبل وصول الإنجيل إليهم، لما كانوا بلا مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، غرباء عن عهود الموعد، بلا رجاء وبلا إله في العالم (أف 2: 12). فهذا هو تعليم الكتاب الذي يؤكد أن معرفة اللَّه لم تصل للوثنيين بالتقليد أو بالوحي الباطن، فلم يكن عندهم ما يسوقهم إلى القداسة وإلى اللَّه.
(2) يقول الإنجيل إن المسيح، الكلمة المتجسد، هو الطريق الوحيد للخلاص، وإن البشر في حال الخطية والدينونة التي لا يستطيعون أن يخلصوا أنفسهم منها. والإنجيل يعلّم أن ابن اللَّه الأزلي أخذ طبيعتنا وأطاع وتألم عوضاً عنا لأجل خلاصنا، وأنه بعد ما مات لأجل خطايانا قام أيضاً لأجل تبريرنا، وإن الشرط العظيم الجوهري للخلاص هو قبول المسيح إلهاً ومخلصاً، قبولاً مصحوباً بالفهم والاختيار، وإنه ليس اسم آخر تحت السماء سوى اسم المسيح يخلُص الناس به. ولذلك أعد اللَّه كنيسةً وخداماً للدين ليعلنوا هذا الخلاص العظيم للبشر. فالبشر جاهلون بهذه المعرفة، مع أنهم في غاية الاحتياج إليها، وهم في خطر عظيم أن يهلكوا في خطاياهم.
(3) عيّن اللَّه خداماً للإنجيل أمرهم أن يذهبوا إلى كل العالم ويقولوا لكل إنسان «آمِن بالرب يسوع المسيح فتخلص. من آمن بالابن فله حياة أبدية، ومن لا يؤمن بالابن لن يرى حياةً، بل يمكث عليه غضب اللَّه». فلو أمكن أن يخلُص الناس بلا معرفة المسيح وبلا إيمان به لكانت هذه الرسالة بلا معنى.
(4) نص الكتاب على ضرورة معرفة الإنجيل، فقال المسيح «ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا بي». وإنه لا يعرف أحد الآب إلا الابن ومن يعلنه الابن له. وقال أيضاً «من لم يؤمن يُدَن» (مر 16:16 ويو 3: 18). ولا يمكن أن يؤمن أحدٌ بلا معرفة. وقال يوحنا «من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن اللَّه فليست له الحياة» (1يو 5: 12) أي أن معرفة المسيح شرط لنوال الحياة الأبدية، بل هي الحياة نفسها، إذ لا توجد بدونها، ولذلك قال بولس «إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي» (في 3: 8). ثم أن الأشواق الروحية الباطنة تنتهي إلى المسيح، ولذلك قال بطرس إنه بواسطة معرفة المسيح دعانا اللَّه إلى المجد والفضيلة (2بط 1: 3). وقال بولس إن من كان بلا المسيح كان بلا رجاء وبلا إله (أف 2: 12) و نادى بضرورة دعوة البشر للخلاص بقوله «فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟» (رو 10: 14) فالدعاء يستلزم الإيمان، والإيمان يستلزم المعرفة، والمعرفة تستلزم التعليم الخارجي، لأن الإيمان بالخبر والخبر بكلمة اللَّه (آية 17). فلا إيمان حيث لا يُسمع الإنجيل، وحيث لا إيمان لا خلاص.

وما أرهب القول «واسعٌ الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه» (مت 7: 13، 14). وما أرهب أن نعرف أن معظم الذين يسمعون الإنجيل يرفضونه، مع أنه الرحمة المهداة لهم! لقد علّمنا المسيح أن نذكر حكمة اللَّه الفائقة وبره غير المحدود إذا رأينا ما يزعزع إيماننا في ما يجري حولنا، أو في تعاليم الديانة، وأن نقول «نعم أيها الآب، لأنه هكذا صارت المسرة أمامك» (مت 11: 26). فيجب أن ينشأ عن أن معرفة الإنجيل ضرورية لإعلان طريق الخلاص مزيدٌ من الجهد في إعلان الإنجيل للَّهالكين في خطاياهم، ووَقْف كل مقاومة لكلمة اللَّه أو اعتراض على طريق الخلاص.
وإن سأل سائل: ألا يمكن أن يرسل اللَّه النعمة الروحية إلى قلوب المختارين من الوثنيين (إن وُجد بينهم مختارون) لتُعِين ضعفاتهم وتساعدهم على العيشة بالأمانة بما عندهم من النور، حتى لو لم يعرفوا الإنجيل؟ قلنا: لا نقدر أن نقطع بعدم إمكان ذلك، ولو أن الأسفار المقدسة لا تعلّم هذا التعليم بصراحة. فالذي يريد أن يأمل في ذلك ليس له إلا مجرد الأمل فقط، لأنه لا يوجد تعليم قاطع صريح بذلك. وإذا خلص أحد بدون معرفة الإنجيل كان ذلك باتكاله على مجرد رحمة اللَّه، واستعماله ما عنده من النور أحسن استعمال، فيكون خلاصه من رحمة اللَّه بالمسيح، وبتخصيص فوائد كفارته له على سبيل النعمة المجانية. ولكن هذا لا يسند القول الباطل إن للوثنيين فرصة أخرى بعد الموت لسماع الإنجيل ونوال الخلاص بالمسيح في العالم الآتي، لأن امتحان جميع البشر، سواء كان بواسطة معرفتهم الإنجيل أم بواسطة نور الطبيعة والضمير، ينتهي في هذا العالم، والموت هو نهاية الامتحان.

10 - لماذا وُجهت دعوة الإنجيل إلى كل الناس إذا كانوا لا يخلصون جميعاً؟
* (1) دعوة الإنجيل هي أمر اللَّه للبشر أن يتوبوا ويؤمنوا بالرب يسوع المسيح، ووعده أن الذين يؤمنون يخلصون. فهي إعلان ما يجب على جميع البشر وجوباً لازماً. فوجوب الإيمان بالمسيح كوجوب المحبة للَّه، وقد أمر اللَّه الناس بالأمرين.
(2) دعوة الإنجيل العامة هي الواسطة التي وضعها اللَّه لجميع مختاريه المختلطين ببقية البشر الذين لا يعرفهم أحد غيره. وقد أعلن للجميع ما يجب على الجميع، وعرضت البركة على الجميع بلا تمييز. وإعانة اللَّه للبعض ليقوموا بما يجب عليهم لا يخالف صحة تعميم الدعوة للجميع.
(3) دعوة الإنجيل العامة، مع الوعد العام أن كل من يؤمن يخلص، يُظهِر شر من يرفضون الدعوة عمداً ويصرّون على آثامهم، مما يُظهِر لهم ولكل الخلائق العاقلة عدل دينونتهم، كما قال المسيح «الذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن اللَّه الوحيد. وهذه هي الدينونة: أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة» (يو 3: 18، 19). ولا شك أن رفض ابن اللَّه مخلصاً هو من أعجب الخطايا التي يرتكبها البشر.
11 - ما هي الدعوة الداخلية بموجب تعليم الكتاب المقدس؟
* الدعوة الداخلية هي قوة إلهية تؤثر مباشرةً في النفس بواسطة الروح القدس الذي يمنحها حياة جديدة روحية تقوم بها بأعمال روحية كالتوبة والإيمان والاتكال والرجاء والمحبة، التي كانت عاجزةً عنها قبل بلوغ الدعوة الداخلية إليها، فإن كل الذين قد سبق اللَّه فعيّنهم للحياة، وهؤلاء فقط شاء أن يدعوهم بكلمته وروحه في وقته المعيَّن المختار، من حال الخطية والموت التي هم فيها طبعاً، إلى النعمة والخلاص بالمسيح، فينير أذهانهم إنارة روحية للخلاص حتى يفهموا أمور اللَّه، فينزع قلبهم الحجري ويعطيهم قلباً لحمياً، ويجدد إرادتهم بقوته الضابطة الكل، ليُميلهم إلى ما هو صالح ويجذبهم إلى المسيح جذباً كافياً حتى يأتوا إليه بكامل حريتهم إذ جعلوا منتدَبين بنعمته. فربما تؤثر الدعوة الخارجية في الإنسان إلى حين، ولكنها تُقاوَم وتُرفَض غالباً. أما الدعوة الداخلية فتؤثر تأثيراً فعالاً في قوى النفس، وتُرغّب الإنسان رغبة شديدة في التدين وقبول المسيح والشروع في حياة التقوى. على أن هذه الدعوة الداخلية المسماة أيضاً «الدعوة الفعالة» و«الدعوة الكافية» قد يقاومها البعض أيضاً إلى حين. لكن مقاومتها لا تُبطِل قصد اللَّه، لأنها تدوم فعالة في القلب وتجذب النفس إلى التقوى الحقيقة. فهي واسطة لتوجيه الإنسان إلى حياة التقوى الحقيقية بتغيير أفكاره ومقاصده ليجتهد بمعونة النعمة في القيام بمطالب الإنجيل.

ولنا على إثبات هذه الدعوة الداخلية الكافية الفعالة، وامتيازها عن الدعوة الخارجية، أدلة كتابية كثيرة، نقتصر على خمسة منها:

(1) العبارات التي تميّز تأثير الروح عن تأثير الكلمة (يو 3: 5-8 و6: 45، 64، 65 و1تس 1: 5، 6 و1بط 1: 23 و1يو 5: 1).

(2) العبارات التي توضح لزوم تأثير الروح لقبول الحق (يو 1: 13 و16: 13-15 و1كو 2: 10-16 و12: 3 و2كو 3:3 وأف 1: 17).
(3) العبارات التي تنسب كل خير في الإنسان، حتى الإيمان والتوبة، إلى اللَّه (مت 16: 17) وغل 1: 15، 16 و2كو 3: 18 و4: 6 وفي 2: 13 وأف 2: 5-10 و2تي 2: 25 وتي 3: 4).
(4) العبارات التي تصرح بالتمييز بين الدعوتين، فقد أُشير إلى الدعوة الخارجية بقوله «لأن كثيرين يُدعَون وقليلين يُنتخبون» (مت 22: 14) وإلى الدعوة الداخلية بالقول «الذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً» (رو 8: 30) وقوله «فكل من سمع من الآب وتعلَّم يُقبل إليَّ» (يو 6: 45).
(5) العبارات التي تعلن عجز الناس الأخلاقي وتنسب إليهم العمى والموت الروحي، حتى لا ينقذهم شيء من تلك الحال إلا الدعوة الإلهية الكافية (1كو 2: 14 و2كو 4:4 وأف 2: 1).
12 - كيف لم يفهم البعض الدعوة الداخلية؟
* أنكر البيلاجيون الخطية الأصلية، وقالوا إن الخطية تقوم بأفعال الإرادة، ولا تختص بأحوال النفس الباطنة. ولذلك نسبوا إلى الإنسان القدرة الكاملة على ترك الخطية متى شاء بمجرد التوبة، وأنكروا لزوم التجديد وتأثير الروح القدس الفعال لإرجاع الإنسان عن شره، فلم يسلّموا بلزوم الدعوة الفعالة (انظر فصل 24 س 6-10 وفصل 26 س 3-6).
وسلّم النصف بيلاجيين بلزوم النعمة لتُعِين الإنسان ليرجع إلى اللَّه، لكنهم قالوا إن الرغبة في الرجوع والعزم عليه هما من اختيار الإنسان، وإنه يشرع في ذلك من تلقاء نفسه. فيحقّ له بناءً على تلك الرغبة أن ينتظر معونة اللَّه في إدراك غايته. وهذا يوضح أن التعليم النصف بيلاجي ينكر لزوم الدعوة الداخلية الفعالة وضرورة سبقها لرجوع الإنسان إلى اللَّه، ولكنه يسلّم أن اللَّه يعين كل من يقصد التقوى من تلقاء نفسه.
وسلم الأرمينيون بالخطية الأصلية وعجز الإنسان عن القيام بواجباته الروحية من تلقاء نفسه، ولكنهم قالوا إن اللَّه أرسل النعمة الكافية لجميع البشر ودعا الجميع بدون استثناء دعوة كافية، وإن الفرق بين المدعوين الدعوة الداخلية والمدعوين الدعوة الخارجية يقوم بأن البعض يسمع الدعوة والآخر يرفضها. فالسامعون مدعوون دعوة فعالة، والرافضون مدعوون دعوة غير فعالة، مع عدم التمييز في موضوع الدعوة وغايتها وقوتها. فعندهم أن خلاص كل إنسان يتوقف على سماعه الدعوة العامة المشتركة، بلا احتياجٍ إلى أن تجعل قوة اللَّه تلك الدعوة فعالةً في المختارين للخلاص.
وقال اللوثريون إن البشر أموات بالخطايا، وإنهم عاجزون قبل التجديد عن عمل روحي مقبول لدى اللَّه، وإن حياة النفس الروحية تأتيها من الروح القدس المحيي المنير، ولذلك سلّموا بتعليم الاختيار، ونسبوا خلاص جميع المخلَّصين إلى إرادة اللَّه. لكنهم قالوا إن سبب ترك اللَّه للإنسان ليس عدم اختيار اللَّه إياه، بل مقاومة الإنسان للنعمة الكافية، التي (على قولهم) وُهبت من أول الأمر للجميع على السواء.
ولنوضح ما سبق في الدعوة الداخلية نقدم المثل التالي: »س« و»ص« كلاهما خاطئ. أما »س« فآمن وخلص بينما »ص« رفض وهلك. فيقول البيلاجيون إن س أراد أن يؤمن وص لم يرد، ولكلٍّ منهما قدرة تامة على عمل كل ما هو مطلوب منهما روحياً. ويقول النصف بيلاجيين إن س بدأ من تلقاء نفسه يطلب الخلاص، وأعانه اللَّه في ذلك. ولكن ص لم يسعَ في الخلاص مطلقاً. ويقول الأرمينيون إن س استعمل النعمة التي وُهبت لسائر البشر ولكن ص تغافلها ولم يستعملها. ويقول اللوثريون إن س وص كليهما كانا عاجزين ومحتاجين إلى نعمة من فوق. أما س فقبل النعمة بالشكر وسلم نفسه إلى إرشادها، وأما ص فقاوم النعمة ورفضها. ويقول الكلفينيون إن س اختاره اللَّه وأرسل إليه الروح القدس فجدده ودعاه دعوة داخلية فعالة، فأجاب تلك الدعوة بالتوبة والإيمان. ولكن ص لم يُدع تلك الدعوة الفعالة بل تُرك يتصرف كما يشاء. على أنه لم يتخلص من المسؤولية بحجة عدم دعوته دعوة فعالة، لأنه سمع الدعوة الخارجية، ولم يكن هناك ما يمنعه من اختيار الخلاص إلا عدم إرادته الاستماع والإجابة للدعوة وميله إلى الشر، ولذلك فهو علة هلاك نفسه لا اللَّه. ولم ينكر الكلفينيون صحة أقوال جميع هؤلاء في إيضاح نجاة س وهلاك ص، وإنما أنكروا إحاطة أقوالهم بكامل علة نجاة الواحد وهلاك الآخر. وزادوا سبباً أصلياً أعلى وأرفع وأفعل من تلك، وهو اختيار اللَّه للأول وتمكينه من الوسائط الفعالة، وعدم اختياره للآخر، بل تركه بدون الوسائط الفعالة. على أن هذا السبب الأصلي عند ص ليس على سبيل التأثير الإيجابي أو المنع الإجباري من خلاصه، بل هو قائم على عدم إرسال اللَّه إليه القدر الكافي من النعمة السماوية الفعالة، وبتركه لأهوائه ليقيم لنفسه الموانع في سبيل الخلاص، ويهلكها باختياره طريق الهلاك طوعاً لا كرهاً، وذلك لأسباب لا يعرفها إلا اللَّه، وهي فوق إدراك البشر. ولا ينكر الكلفينيون أن اللَّه يرسل قدراً عظيماً من النعمة العامة لكل إنسان، فيدعو الخاطئ دعوة خارجية عظيمة الشأن ويُسمعه الإنجيل، ويعرّفه الحق معرفة عقلية. وهذه الدعوة الخارجية تجعل كل إنسان مسؤولاً لأنه رفضها. ولا شك أن كل إنسان دُعي الدعوة الخارجية نال شيئاً من الرحمة الإلهية. ولو أنه قبلها لاستفاد ولم يُترك بلا دعوة فعالة. ولكن إهماله لها قطع رجاءه وزاد مسؤوليته.
13 - ما هي النعمة، وما أنواعها؟
* النعمة في اصطلاح الكتاب المقدس هي التعطُّف والميل إلى عمل المعروف، ولا سيما المحبة للأدنى أو المحتقر أو غير المستحق. وقد ورد أنها رأس الصفات الطبيعية الإلهية، وأن إظهارها هو الغاية العظمى من عمل الفداء. فالغرض من الاختيار والتعيين للتبني والخلاص هو مدح مجد نعمة اللَّه التي يُنعم علينا بها في المسيح يسوع (أف 1: 3-6). فإنه يقيم الناس من الموت الروحي ويُجلسهم معه في المسيح، ليُظهر في الدهور الآتية غِنى نعمته الفائق (أف 2: 6، 7). وكثيراً ما قيل إن الخلاص هو من النعمة، بمعنى أن نظام الإنجيل هو نظام النعمة، لأن كل بركاته تُعطى مجاناً. وتظهر نعمة اللَّه في كل قسم من عمل الفداء، لأنها محبته التي لا يستحقها أحد من الناس. فلا يُمنح شيء ولا يوعد به إلا على سبيل النعمة لا على سبيل الاستحقاق. وعلى ذلك يكون تدبير الخلاص من أول الأمر إلى نهايته من النعمة وحدها بدون إلزامٍ للَّه. فإذا خلص أحد دون آخر كان ذلك من النعمة، حتى أن كل فضائله المسيحية تُسمى نِعماً أو مواهب. ولذلك سُميت موهبة الروح القدس، وهي أعظم مواهب الإنجيل، موهبة النعمة الإلهية. فإن عمل النعمة هو عمل الروح القدس، ووسائط النعمة هي الوسائط التي يُجري الروح القدس بها عمله. وبناءً على ذلك تكون أنواع النعمة ثلاثة، وهي: (أ) النعمة المشتركة أو العامة وهي فعل الروح الممنوح لجميع الذين يسمعون الحق. و(ب) النعمة الكافية أو الفعالة وهي ما كان كافياً من عمل الروح ليأتي بالناس إلى التوبة والإيمان بالحياة الطاهرة، وهي فعل الروح القدس الخاص الذي ينشأ عنه بالتحقيق التجديد والرجوع إلى اللَّه. و(ج) النعمة الحالة، وهي حلول الروح القدس في المؤمنين بالقوة الدائمة المتمكنة الناشئة عن حضوره واستقراره وقدرته.
وهذه الأنواع الثلاثة من النعمة تنحصر في نوعين فقط، وهما عام وخاص. ويسمى العام بالنعمة المشتركة، والخاص بالنعمة الكافية أو الفعالة. فالنعمة المشتركة هي فعل الروح القدس العام بواسطة الأسفار المقدسة ونور الطبيعة وإرشاد الضمير، وهي ترشد الإنسان في الأخلاق والمعرفة الدينية، غير أن قلبه لا يتجدد، ولا يتمكن بها من التقوى الحقيقية (أع 7: 51 وعب 10: 29). والنعمة الفعالة هي فعل الروح القدس الخاص الفعال الذي يجدد القلب ويقوده إلى التوبة الحقيقية والإيمان الحي، ويحثه على التقوى الحقيقية، ويساعده في كل مساعي الحياة الروحية، ويحل في القديسين ويجعلهم هياكل الروح القدس (رو 8: 30 و11: 7 و2تس 2: 13).
14 - ما هو الدليل على أن النعمة المشتركة تُوهَب للبشر جميعاً؟
* الدليل هو آيات الكتاب المقدس الكثيرة التي تقول إن اللَّه يمنح كل الناس بعض أعمال الروح. ومنها «لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد» (تك 6: 3) والمعنى أن الروح القدس هو أصل الحياة الروحية، كما أنه أصل الحياة الطبيعية. فلما رأى اللَّه أن شر الناس قد كثر قال إنه يسترد منهم روحه الذي كان إلى ذلك الوقت يعمل في قلوبهم، دون أن يتوبوا. وقول استفانوس الشهيد لليهود «أنتم تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم» (أع 7: 51) وقول إشعياء في أهل جيله إنهم أحزنوا روح اللَّه القدوس (إش 63: 10). ومثل ذلك أقوال كثيرة في الكتاب يظهَر منها أن الروح يجاهد في الأشرار وفي كل البشر، وأنهم يقاومونه ويُحزنونه ويطفئون أعماله. فكما أنه في كل مكان في العالم المادي يسوس أعماله حسب قوانين الطبيعة، كذلك هو في كل مكان في عقول الناس بصفته روح الحق والصلاح، يعمل فيهم حسب قوانين حريتهم الأخلاقية، فيستميلهم للخير ويحجزهم عن الشر. ويتضح أيضاً عمل الروح القدس العام بين كل الناس مما ذُكر في الكتاب في شأن المرفوضين، فإن من البشر من ينزع اللَّه عنهم حواجز روحه (التي تحجز الإثم) بسبب خطاياهم ويسلّمهم لأنفسهم ولسلطان الشر. وذُكر أن هذا عقاب عظيم أصاب العالم الوثني لسبب فجورهم، فإنهم لما استبدلوا حق اللَّه بالكذب، واتّقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق، أسلمهم اللَّه إلى أهواء الهوان. وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا اللَّه في معرفتهم أسلمهم اللَّه إلى ذهنٍ مرفوض (رو 1: 25-28). وقيل أيضاً «لم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرض بي. فسلّمتُهم إلى قساوة قلوبهم ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم» (مز 81: 11، 12).

فبناءً على أن الكتاب يحذر الناس من أن يُحزِنوا الروح، ويوصيهم أن يصلّوا إلى اللَّه أن لا ينزع روحه القدوس منهم، ويعلّمهم أن نزع الروح من شخص أو شعب هو دينونة هائلة، يتّضح لنا أن روح اللَّه يعمل في عقول الناس كثيراً أو قليلاً. ولذلك قيل إن غير المتجددين الذين لا ينالون الحياة الأبدية هم «شركاء الروح». وقد ذكر الرسول أناساً منهم تابوا وآمنوا زماناً وقبلوا كلمة اللَّه بفرح واستناروا وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح، ثم سقطوا وهلكوا (عب 6: 4-6).
15 - هل هناك أهمية لنتائج النعمة المشترَكة (أي عمل الروح العام)؟
* نتائج النعمة المشتركة من أهم الأمور لكل إنسان بمفرده وللعالم كله، لأن ما يحدث للعالم المادي إذا تُرك للعوامل الطبيعية بدون العناية الربانية، هو نفس ما يحدث للعالم الروحي في جميع ظواهره الأخلاقية والدينية بدون قوة وإرشاد الروح القدس الحاجزة (التي تحجز الإثم). ولنا على أهمية نتائج النعمة المشتركة دليلان:
(1) ما ينشأ عن حجز الروح عن عقول البشر، ويتضح ذلك من أمرين: (أ) يعلّمنا الكتاب المقدس والاختبار أن الذين يرفضون عمل اللَّه فيهم تموت ضمائرهم أو تضعف، فلا يبالون بالروحيات، ويخضعون لسلطة شهوات طبيعتهم الرديئة. وقد وصف بولس ذلك في رومية 1. ولا يقتصر هذا الرفض على الأفراد بل قد يعم أمماً وكنائس بجملتها، فتكون النتيجة الموت الروحي الدائم. (ب) من التأمل في ما ورد في الكتاب المقدس عن نزع سلطة الروح القدس على الخلائق العاقلة، فتصبح حالتها جهنمية، بعكس السماء، وهي الحالة أو المكان الذي يملك فيها الروح بسلطة مطلقة. أما جهنم فهي مكان أو حال لا يتسلّط فيها الروح ولا يحجز فيها الإثم. فيكون وجود الروح وعدم وجوده هو السبب العظيم في الفرق بين السماء وجهنم.
(2) النظر إلى نتائج النعمة المشتركة وهي: (أ) ما نراه بين البشر من اللياقة والترتيب واللطف والفضل هو نتيجة قوة الروح القدس العامة العظيمة، حتى لو لم يشعر بها الإنسان. فإن مجرد الخوف من العقاب الآتي، والشعور الطبيعي بما يجب، وحواجز النواميس البشرية لا تمنع الشر إلا قليلاً. (ب) ما يُشاهَد في عامة الناس من مخافة اللَّه والشعور الديني، وهو ما يسوقهم إلى احترام طقوس الدين بأنواعها المختلفة وما تستحقه من الوقار والانتباه. (ج) ما نراه مراراً كثيرة من التأثير الوقتي من الكرازة بالحق، أو من التأديب الإلهي. ولو أنه يزول بعد حين دون أن يعطي ثمراً للبر، فإن كثيرين من البشر يصدقون الحق ويقتنعون تماماً بصحة التعاليم الإلهية، ولكن ذلك لا يؤثر فيهم تأثيراً يؤدي إلى حياة التقوى. وربما يشعر الإنسان بذنبه أمام شريعة اللَّه، وبنجاسته أمام قداسته، ويعلم أنه محكوم عليه أمام شريعة العدل. لكن لعدم اهتمامه لا ينتج عن ذلك نتائج إيجابية. وإن نتجت فهي تؤدي إلى الإصلاح الخارجي بدون تغيير القلب. وقد قال المسيح في مَثَل الزارع إن البذار تسقط على أماكن لم تأتِ بثمر، أو كان ثمرها وقتياً. ولكن البرهان الوحيد على وقوع زرع الإنجيل في أرض جيدة هو وجود الأثمار ودوامها. وقد حدث في كل تاريخ الكنيسة أن ارتدّ بعض الذين حُسبوا متديّنين حقيقيين، ووقع بعضهم في فتور مهلك. ونحن لا نقدر أن نميز المتجددين الحقيقيين من غير المتجددين، إلا بقول المسيح «من ثمارهم تعرفونهم».
 

Molka Molkan

لستم المتكلمين
مشرف سابق
إنضم
31 أغسطس 2009
المشاركات
25,036
مستوى التفاعل
839
النقاط
113
الإقامة
ويل لي إن كنتُ لا اُبشر

16 - ماذا يعلّمنا الكتاب عن النعمة المشترَكة، أي تأثير الروح العام؟
* نحن لا نعرف كيف يعمل الروح في التجديد أو الإقناع، فقد قال المسيح «الريح تهبّ حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من وُلِد من الروح» (يو 3: 8). فإن كنا لا نفهم كيف تعمل أنفسنا في أجسادنا، ولا كيف تعمل الأرواح الشريرة في عقول البشر، فكيف نفهم طرق عمل الروح القدس في عقول الناس؟ ولكننا نعلم ما يأتي:
(1) يخاطب اللَّه عقول الناس ويعلّمهم بروحه ويرشدهم ويبكّتهم ويقنعهم إقناعاً أخلاقياً يؤثر في عقولهم فيُظهِر لهم الحق، ويدفعهم ليقوموا بالعمل الصالح.
(2) يستخدم الروح القدس كلمة الحق.
(3) لا تتجاوز النتائج الأخلاقية والدينية المنسوبة إليه دائرة أعمال العقل الطبيعية، لأن المعرفة والإيمان والشعور بالخطية وتأنيب الضمير والحزن والفرح التي يُحدثها الروح في النفس جميعها ليست معجزاتٍ، بل أعمال طبيعية قد يحرك مثلها إنسان في عقل إنسانٍ آخر.
(4) قد تُقابَل أعمال الروح المذكورة بمقاومة قاطعة.
وتتميز هذه النعمة المشتركة في كل ما ذُكر عن عمل الروح الفعال الذي ينسب إليه الكتاب المقدس تجديد النفس. والحقيقة العظيمة هي أن روح اللَّه الحاضر في كل عقل بشري يردّ الإنسان عن الشر، ويسوقه إلى الخير. ويرجع كل ما في العالم من حُسن الترتيب واللياقة والفضيلة واحترام الديانة وفرائضها إلى حضور الروح وعمله. ولذلك فإن أعظم كارثة تحل بالفرد أو الكنيسة أو الأمة هي نتيجة نزع اللَّه روحه منهم. فلنحذر من أن نُحزن الروح أو نطفئ أعماله بمقاومته وارتكاب الخطية، ولاسيما رفض عمله بروح الاحتقار والتجديف عليه. «لأن من قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا الدهر ولا في الآتي» (مت 12: 32).
17 - ما المقصود بالنعمة الفعالة، أي فعل الروح الخاص؟
* «الدعوة الفعالة هي فعل روح اللَّه، الذي به يبكتنا على خطيتنا وينير أذهاننا في معرفة المسيح ويجدد إرادتنا، ويقنعنا بل يقوينا على قبول المسيح المقدم لنا مجاناً في الإنجيل الطاهر. هي قوة اللَّه الضابطة الكل الصادرة عن نعمة اللَّه المجانية. وقد ذكرنا أن جميع الحوادث التي يمكننا أن نعرف شيئاً منها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: (1) ما يحدث من عمل الأسباب الثانوية العادي، مع إرشاد عمل العناية الربانية وضبطها. (2) ما يحدث في العالم من مجرد الإرادة الإلهية بعمل اللَّه مباشرةً بدون مشاركة عمل الأسباب الثانوية. أو باستعماله تلك الأسباب الثانوية مباشرةً بقوة غير عادية، كالمعجزات بأنواعها. (3) ما يحدث في عقل الإنسان وقلبه ونفسه من فعل روح اللَّه، أو عمل قدرته مباشرةً. ومن هذا القسم الأخير الإعلان الباطن والإلهام والتجديد وقوة المعجزات، كموهبة الألسنة وموهبة الشفاء وما شابهها.
وإذا ثبت أن النعمة الفعالة هي قوة اللَّه القادرة على كل شيء كان ذلك حلاً لجميع المسائل المختلَف عليها في هذا الشأن، كما يظهر من إجابة السؤال التالي.
18 - ماذا يُقال في حقيقة النعمة الفعالة؟
* (1) أعمال هذه النعمة سرية، لا تُسبِّبها النواميس التي تحكم أعمالنا العقلية والأخلاقية. قال المسيح «الريح تهبّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح» (يو 3: 8).
(2) بين النعمة الفعالة وعمل العناية الربانية المعتاد فرق جوهري، لا في الدرجة أو الكيفية أو العلاقة، بل في النوع. فلا يمكن أن نقارن بين ما يسبِّب التقدم العقلي في جانب وما يُصلح الصفات الأخلاقية، والقوة التي تُقيم الموتى في جانب آخر.
(3) ليست النعمة الفعالة إقناعاً أخلاقياً فقط، لأن الإقناع الأخلاقي ينتج من تأثير عقل واحد في عقل آخر بإظهار الحق، أو بالترغيب، أو بالإنذار وغير ذلك. فإذا حدث مثل هذا النوع من القوة الأخلاقية قد يقبل العقل وقد لا يقبل، ويكون حكمه خاصاً به وضمن دائرة قوته. ولكن النعمة الفعالة غير ذلك، لأن شفاء المريض بكلمة يختلف اختلافاً جوهرياً عن شفائه بالدواء. وقد يقتنع الرجل الحي بأن لا يقتل نفسه، وأما الميت فلا يمكن إحياؤه بواسطة الإقناع. فإذا كان التجديد يتم بإرادة اللَّه وأمره وقدرته العظمى، فمن المؤكد أنه لا ينشأ عن حُجّة الكلام أو الإقناع، بل بفعل الروح القدس الذي يرافقه.
(4) عمل الروح هو في النفس مباشرةً، وهذا يختلف عما تُحدثه عناية اللَّه بالمخلوقات. نعم قد ترافق معرفةُ الحق عملَ الروح، ولكن ليس لمعرفة الحق دورٌ في تجديد النفس إلا كواسطةٍ يستخدمها الروح لإنارة العقل وإرشاده (مت 13: 18-23).

(5) عمل النعمة الفعالة لا يمكن أن يُقاوَم لأنه عمل القوة الإلهية. أما النعمة المشترَكة (أي فعل الروح الممنوح كثيراً أو قليلاً لكل إنسان) فكثيراً ما يلقَى المقاومة، وكثيراً ما يُحزِن المؤمن الروح القدس ويطفئ عمله، لأن الإنسان حرّ وقادر على مقاومة كل الأفعال الأخلاقية التي يجريها الروح فيه. وهذا يختلف عن عمل التجديد الذي تُجريه القوة الإلهية غير المحدودة، فلا يقدر أحدٌ أن يقاومه كما لا يقدر أحدٌ أن يقاوم عمل الخليقة. فإن هذه النتيجة تنشأ عن إرادة اللَّه في الحال، كما ظهر النور فوراً لما قال «ليكن نور». وليس في هذا سلبٌ لحرية الإنسان بل هو يحفظها.

(6) الإنسان ليس الفاعل في تجديد نفسه، بل التغيير مفعول فيه. صحيح أن الإنسان يعمل في ما يسبق التغيير وفي ما يعقبه. أما التغيير نفسه فأمرٌ يختبره دون أن يعمله. فالإنسان مثل العُمي والعُرج الذين جاءوا إلى المسيح، فقد كابدوا المشقة في الحضور إليه، ولما نالوا الشفاء فرحوا بالقوة الجديدة الممنوحة لهم. وأما الشفاء نفسه فلم يكن لهم فيه عملٌ. هكذا التجديد، هو نتيجة القوة الإلهية، كفتح أعين العمي وآذان الصم عند صدور الأمر الإلهي.

(7) لا بد أن التجديد عمل سريع فجائي. فإذا كان التجديد هو إحياء الذين كانوا موتى، فلا بد أنه سريع كإحياء لعازر. وعندما يأمر اللَّه بالحياة للخاطئ، يحيا في الحال، وتظهر فيه صفات الحياة الجديدة الإلهية.

(8) التجديد من عمل النعمة المطلقة، فلا بد من جعل الشجرة جيدة لتصير ثمارها جيدة. ولا يمكن أن تغيّر الشجرة الرديئة نفسها، فهي تحتاج إلى من يغيّرها. وكذلك الحال مع الأعمال الصالحة الروحية. إنها ثمر التجديد الذي يُجريه اللَّه في القلب. والتجديد هبة مجانية لا تُمنح بناءً على ما يكون أو سيكون من الصلاح في الإنسان الذي يتغير، كما لم يقُل أحد من الذين شفاهم المسيح إنه طلب عمل القوة الإلهية لتعمل فيه بناءً على صلاحٍ خاص سيقوم به، كما لم يدخله أدنى ظن أنه اشترك مع اللَّه في استرجاع بصره أو عافيته.
19 - ما هي الأدلة على تميُّز عمل الروح عن تأثير كلمة حق الإنجيل؟
* يقول الكتاب إن عمل الروح في العقل متميز عن قوة الحق الإلهي، وإن كان يصاحبه. ولنا على ذلك أدلة كثيرة هي:
(1) يميز الكتاب المقدس تمييزاً واضحاً بين الذين يسمعون الكلمة فقط والذين يعلّمهم اللَّه الكلمة في قلوبهم. قال المسيح «لا يقدر أحد أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب» (يو 6: 44) وقد أشار بهذا إلى اجتذابٍ في باطن الإنسان، غير ما يعمله الحق الآتي إلى العقل من الخارج، لأن قوة الحق في عقول الذين يسمعونه وضمائرهم لا يكفي، فلابد من تعليم الروح الباطني ليتمكن الحق من العمل. قال الرسول إن الكرازة بالإنجيل مهما كانت صريحة وشديدة، إلا أنها بدون تأييد الروح القدس في الإقناع تصبح ضعيفة وغير فعالة، ولو كان الكارز بولس أو أبلوس (1كو 1: 23-26 و2: 14، 15 و1تس 1: 5، 6) فالمدعوون بالدعوة الفعالة حسب الكتاب هم الذين ينالون دعوة باطنة من الروح القدس، لا الذين يسمعون الكلمة فقط. فإن الذين يدعوهم اللَّه يبررهم، والذين يبرّرهم يمجّدهم (رو 8: 30).
(2) يذكر الكتاب أن حالة الإنسان بعد السقوط تجعل الحق غير فعالٍ فيه، فيلزم أن يعمل الروح القدس فيه. الإنسان ميت روحياً، فلا يسمع ولا يبصر ولا يقبل أمور الروح، ولا يستطيع أن يعرفها لأنه يحكم فيها روحياً. فلا يقبل حقائق الإنجيل إلا الروحيون الذين يحل فيهم الروح ويملك على عقولهم وقلوبهم (1كو 2: 10-15).
(3) يعلّم الكتاب أن عمل الروح القدس ضروري ليهيّئ عقول الناس ليقبلوا الحق. فالحق هو النور الضروري للرؤية، ولكن إذا كانت العين مغمضة أو عمياء فلا بد من فتحها أو ردّ البصر إليها قبل أن يُحدِث النور فيها تأثيره، كما فتح الرب قلب ليدية لتُصغي إلى ما كان يقوله بولس (أع 16: 14 قارن مز 119: 18 وأف 1: 17-19 و4: 30).
(4) الوعد العظيم في الكتاب هو حلول الروح القدس، كما قيل «ويكون بعد ذلك أني أسكب من روحي على كل بشرٍ» (يوء 2: 28). ويظهر من النتائج التي ذكرها النبي أن انسكاب الروح ليس هو قوة الحق، لأن الحق مهما كان واضحاً ومصحوباً بقوة فائقة لا يكون سبباً لإحداث النبوات والأحلام والرؤى. والعهد القديم مشحون بالنبوات والمواعيد المتعلقة بموهبة الروح القدس التي تُنتِج زيادةً في إعلان الأمور الإلهية التي يأتي بها المسيح وتجعلها فعالة. ومن أمثلة ذلك قول اللَّه بفم إشعياء أن يُسكَب علينا روحٌ من العلاء فتصير البرية بستاناً (إش 32: 15) وقوله «أسكب ماءً على العطشان وسيولاً على اليابسة. أسكب روحي على نسلك وبركتي على ذريتك» (إش 44: 3). وقوله بفم حزقيال «سكبت روحي على بيت إسرائيل» (حز 39: 29) وقوله بفم زكريا «أفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذين طعنوه، وينوحون عليه كنائح على وحيدٍ له» (زك 12: 10).

وقد أمر المسيح بعد قيامته تلاميذه أن يبقوا في أورشليم إلى أن يعطيهم قوةً من العلاء، أي إلى أن ينالوا موهبة الروح القدس، فحل الروح على التلاميذ في يوم الخمسين تحقيقاً لنبوات العهد القديم. وكانت النتيجة أن استنارت عقول الرسل ونالوا موهبة المعجزات، واهتدى خمسة آلاف نفس دفعة واحدة. وقد نشأت هذه النتائج عن قوة الروح المتميزة عن قوة الحق، كما يظهر من قول بطرس في حوادث يوم الخمسين «فيسوع هذا أقامه اللَّه، ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين اللَّه وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه» (أع 2: 32، 33 قارن في 2: 13 و2تس 1: 11 وعب 13: 21). وكان ما حدث يوم الخمسين تحقيقاً لوعد المسيح لتلاميذه أنه يرسل إليهم «معزياً آخر ليمكث معهم إلى الأبد، روح الحق» (يو 14: 16، 17) ليعلّمهم ويذكّرهم بكل ما قاله المسيح لهم، وليشهد للمسيح، وليبكت العالم على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة، ويعطي الرسل فماً وحكمةً لا يستطيع المقاومون الرد عليه. ولذلك قال إن المؤمنين ينالون الروح القدس، وإن لهم مسحة من القدوس تمكث معهم وتعلّمهم كل شيء (1يو 2: 20، 27). وقصد المسيح «عطية الروح» في قوله إن الآب السماوي أسخى في إعطاء الروح القدس للذين يسألونه من إعطاء الأب الأرضي أولاده عطايا جيدة (لو 11: 13) وهو شيء آخر يفوق معرفة كلمته، لأن كثيرين يسمعون ولا يفهمون ولا يؤمنون، ولذلك وعد اللَّه بإرسال الروح ليصاحب تعليم الكلمة ويجعله فعالاً. فهو الهبة الثمينة التي يهبها للذين يطلبونها. وقال الرسول «بهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا» (1يو 3: 24). وعلى هذا يكون الروح القدس هبةً للذين وصلتهم كلمة اللَّه، وهي متميزة عنها.
(5) أمر اللَّه العارفين بالكلمة أن يصلّوا لأجل عطية الروح لتصير فعّالة، وهذا يدل على أن عمل الروح في عقول البشر يمتاز عن عمل الحق. ولنا أمثلة كثيرة في الكتاب على هذه الصلوات، منها صلاة داود «روحك القدوس لا تنزعه منّي» (مز 51: 11) وصلاة الرسول لأجل أهل أفسس الذين كرز لهم بالإنجيل أكثر من سنتين أن اللَّه يعطيهم الروح القدس ليعرفوا اللَّه وتنفتح عيونهم ليعرفوا رجاء دعوتهم، وغِنى مجد ميراث القديسين، وعظمة قدرته الفائقة نحو المؤمنين (أف 1: 17-19) ومثلها صلاته لأجل أهل كولوسي. ومن الجهة الأخرى يُنذر الناس بأن لا يُحزنوا الروح ولا يطفئوه لئلا ينصرف عنهم. والدينونة العظيمة التي تهدد دائماً الذين يسمعون الإنجيل ويُصرّون على عدم التوبة هي أن اللَّه يحجز عنهم الروح القدس، ويتركهم لأنفسهم وللقوة المستقرة في الحق. فهم المرفوضون الذين كفَّ الروح عن العمل فيهم.
(6) ينسب الكتاب دائماً التجديد والتوبة والإيمان والأفكار الطاهرة إلى عمل الروح القدس رأساً. ومن ذلك أنه يحل في المؤمنين ويضبط حياتهم الباطنة والظاهرة، وينيرهم ويرشدهم ويقدسهم ويقويهم ويعزيهم، ويمنح كل واحد بمفرده من المواهب ما يشاء (1كو 12: 11). ولا يميز الكتاب بين مواهب الألسنة والشفاء والمعجزات والحكمة ومواهب الفضائل المسيحية كالإيمان والمحبة والرجاء، بل ينسبها جميعاً إلى عمله. فكما أن النوع الأول من المواهب ليس قوة تمنحها كلمة حق الإنجيل، كذلك النوع الثاني. ولم يعتمد الرسول في نجاح تبشيره على توضيح الحق أو الإلحاح على قبوله، بل على ما يرافقه من برهان الروح (1كو 2: 4). وشكر اللَّه على أن الإنجيل لم يأتِ بالكلام فقط، بل بالقوة أيضاً وبالروح القدس (1تس 1: 5). وقال إن اللَّه هو العامل فيهم أن يريدوا وأن يعملوا من أجل المسرة (في 2: 13) وطلب إلى اللَّه أن يكمل شعبه، عاملاً فيهم ما يُرضي أمامه (عب 13: 21). والحق أن كل صلاة وردت في الكتاب لأجل هداية الناس وتقديسهم وتعزيتهم تتضمن معنى أن اللَّه يعمل في عقول الناس بروحه القدوس. ويصدُق هذا القول خصوصاً على البركة الرسولية حيث يُراد بشركة الروح القدس ما يعمله الروح في النفس من التقديس والخلاص.
(7) آمنت الكنيسة عبر عصورها أن الروح يرافق الكلمة والفرائض الإلهية بقوة عليا ليست في نفس الكلمة والفرائض، بل معطاة حسب ما يشاء اللَّه. فإن خدمة الصلاة المستعملة في كل الكنائس مشحونة بطلبات مرافقة الروح للكلمة وللأسرار. وتاريخ الكنيسة عامرٌ بأخبار الحوادث التي تشهد بهذا، وإلا فكيف اهتدى ألوف في يوم الخمسين ولم يؤمن إلا قليلون بواسطة كرازة المسيح نفسه؟ ولماذا تقدمت الكنيسة تقدماً سريعاً في كل أقطار العالم مدة العصر الرسولي، وتجدد الأمر في زمن الإصلاح وبعده مراراً كثيرة؟ فهذه شواهد ظاهرة لقوة الروح القدس التي ترافق قوة الحق.
وليس القصد أن نقلّل أهمية الحق، لأن الروح يستخدم الحق واسطةً لإنارة القلب. وليس لنا دليل على تجديد الناس أو خلاصهم بدون معرفة الحق، فتكون علاقة الحق بعمل الروح هي أن الروح يجدِّد الإنسان ويقدّره على فهم الحق وقبوله، بأن يعطي قوة البصر، والحق يُظهر ما نراه بواسطة تلك القوة (رو 10: 14، 17 ويع 1: 18 ويو 17:17).

20 - ما هو الدليل على تميُّز عمل الروح عن عمل العناية؟
* كما يتميّز عمل الروح عن تأثير كلمة حق الإنجيل، كذلك يتميّز عن عمل العناية الربانية. وفي موضوع العناية يعلّمنا الكتاب:
(1) أن اللَّه حاضر في كل مكان وحافظ كل المخلوقات في الوجود والحياة.
(2) أنه يعمل على الدوام مع الأسباب الثانوية في إحداث ما ينشأ عنها.
(3) إن القوى الطبيعية التي أبدعها تعمل عملاً منتظماً حسب النواميس المعينة، ولكن لأن اللَّه خارج عن دائرة المخلوقات وفعال لما يريد، فإنه يضبط أعمال النواميس المذكورة (أي عمل الأسباب الثانوية) ويُجريها كما يشاء، فيرسل المطر تارةً ويحجزه أخرى، ويأمر بالخصب أو القحط كما يريد. مثال ذلك أن إيليا صلى أن لا تمطر على الأرض، فلم تمطر ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلى أيضاً فأعطت السماء مطراً وأخرجت الأرض ثمرها (يع 5: 17، 18).
(4) أن اللَّه يضبط كل البشر كما يضبط النواميس الطبيعية. ومن أمثلة ما ورد في الكتاب المقدس بياناً لسلطة عناية اللَّه وأنه يعمل كل شيء حسب مشورة إرادته، قوله «قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يُمِيله» (أم 21: 1) وقوله «هذا يضعه، وهذا يرفعه» (مز 75: 7). وقوله «قلب الإنسان يفكر في طريقه، والرب يهدي خطوته» (أم 16: 9). وقوله «بي تملك الملوك وتقضي العظماء عدلاً» (أم 8: 15).
21 - ما هي الأعمال الخاصة بالروح؟
* أربعة وهي:
(1) إعلان الحق، فمن الواضح أن البشر لم يتوصّلوا إلى تعاليم الكتاب العظيمة نتيجة تقدمهم العلمي، بل أعلنها اللَّه بطرقٍ فائقة الطبيعة، بواسطة الروح القدس.
(2) ألهم الروح القدس رجال اللَّه القديسين وساقهم ليكتبوا الأسفار المقدسة (2بط 1: 21).
(3) وزَّع الروح المواهب العقلية والأخلاقية والطبيعية على البشر ليؤهّلهم لخدمته. وكانت بعض هذه المواهب خارقةً للعادة، كما كان الأمر في الرسل وغيرهم، وكان بعضها مواهب طبيعية كحذق الصُّناع، وشجاعة الأبطال وقوتهم، وحكمة أهل السياسة وما شابهها. ومن ذلك قوله في بصلئيل «ملأتُه من روح اللَّه بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة لاختراع مخترعات، ليعمل في الذهب والفضة والنحاس» (خر 31: 3، 4). وقوله في الشيوخ الذين انتخبهم موسى «آخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم» (عد 11: 17). وقيل في يشوع إنه أُقيم ليخلف موسى «لأنه كان فيه الروح» (عد 27: 18). وقيل في عثنيئيل إنه «كان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل» (قض 3: 10) وهكذا قيل في جدعون ويفتاح وشمشون، وما قيل يوم دعوة شاول ليكون ملكاً على إسرائيل من أنه «حل عليه روح الرب» ولما رُفض بسبب عصيانه انصرف الروح عنه (1صم 16: 14) وما قيل يوم مسح صموئيل داود من أنه «حل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعداً» (1صم 16: 13) وكذلك قول العهد الجديد «أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد» (1كو 12: 4) فصار «البعض رسلاً، والبعض أنبياء، والبعض معلّمين، والبعض أصحاب قوات» (1كو 12: 29). ولهذا السبب شجع بولس شيوخ أفسس أن «يرعوا الرعية التي أقامهم الروح القدس فيها أساقفة» (أع 20: 28).
(4) التأثيرات الروحية على أنواعها، ومنها الإقناع بالخطية والبر والدينونة، ومقاومة الشر في القلب، والجهاد والإنذار وإنارة الضمير والإقناع بالحق، والحواجز الشديدة عن ارتكاب الخطية، والإيمان والتجديد والتقديس والتعزية والقوة والثبات في القداسة، وتمجيد النفس والجسد أخيراً.
22 - ما هي الأدلة على فعل الروح الخاص، أي النعمة الفعالة؟
* ذكرنا البراهين على إثبات دعوة داخلية فعالة ممتازة عن الدعوة الخارجية (قارن ما قلناه في هذا الفصل إجابةً لأسئلة 5-10). ونضيف:
(1) يعلّمنا الكتاب أن التجديد من عمل الروح القدس القادر على كل شيء، ولا يمكن أن يجريه إلا الروح الأزلي نفسه، فهو مما لا يقدر عليه إلا قوة اللَّه العظيمة، وقد وُصف بأنه «إحياء» ولا ينشئ الحياة إلا اللَّه. وقيل أيضاً إنه من عمل قوة اللَّه رأساً، فهو كعمل الخليقة الأصلية لا دَخل للأسباب الثانوية فيه. فكما أُقيم المسيح من الأموات بقوة اللَّه، هكذا أُقيم لعازر وهكذا يُقام المتجددون من قبور خطاياهم. فالقيامة الروحية إحياء حقيقي كإحياء الجسد الميت. ولا خلاف بينهما إلا في حدوث الواحد في العالم الظاهر والآخر في العالم الروحي، ولكن اللَّه يهب الحياة في الحالتين. فالتجديد ليس من الإنسان، ولا من مجرد الإقناع الأخلاقي، بل من قدرة اللَّه العظيمة مباشرةً. ومن عبارات الكتاب التي تؤدي إلى هذه الحقيقة نفسها قوله إن المؤمنين خلائق جديدة، وإنهم خُلقوا جديداً في المسيح.
ومن عباراته أيضاً في هذا المعنى أن المؤمنين أبناء اللَّه، لا لمجرد أنه خلقهم، بل لأنهم مولودون ولادة جديدة من اللَّه، ومولودون من الروح (1يو 5: 1-18). والمعنى في كل ذلك أن الحياة هبةٌ، يأتينا نوع منها من والدينا الأرضيين الفاسدين، ويأتينا نوع آخر من الروح، كما قال المسيح «المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح» (يو 3: 6) فيصير من أولاد اللَّه، الذين يولدون «ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من اللَّه» (يو 1: 13).
(2) علاقة هذا التعليم بغيره من تعاليم الكتاب. فلو علّم الكتاب (كما يزعم البعض) أن البشر بعد السقوط لم يفقدوا كل القدرة على الصلاح الروحي، ولم يموتوا في الذنوب والخطايا، وأنهم لا يزالون قادرين على الرجوع إلى اللَّه، لصحّ القول إن التجديد محصور في الإقناع الأخلاقي. غير أن الكتاب يعلّم في الدعوة الفعالة أن هذه الدعوة الكافية هي من نعمة اللَّه المجانية، وليست من شيءٍ سبق اللَّه فرآه في الإنسان، حتى بعد ما يحيا ويتجدد بالروح القدس، وبه يستطيع أن يجيب هذه الدعوة وأن يقبل النعمة المعروضة والمحمولة فيها. فإذا كان الإنسان في حالته الطبيعية بعد السقوط ميتاً روحياً كما كان لعازر ميتاً جسدياً، كانت القيامة الروحية من عمل القدرة الإلهية وحدها، كالقيامة الجسدية. ولذلك لم تنفصل هذه التعاليم المتصلة قط، لأن كل الذين يعتقدون أن الخطية الأصلية توجب الموت الروحي وتسلب الإنسان كل قدرة على عمل الصلاح الروحي يعتقدون أيضاً أنه لا يتخلص من هذه الحال بالإقناع الأخلاقي، بل بعمل قوة اللَّه العظيمة مباشرةً. وقد أشار المسيح إلى هذين النوعين من الموتى بقوله «كما أن الآب يُقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء. الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن اللَّه، والسامعون يحيون» (يو 5: 21، 25).
وهناك علاقة قوية بين تعليم سلطان اللَّه المطلق في الاختيار وتعليم النعمة الفعالة. فلو صحَّ القول إن بعض الناس يميِّزون أنفسهم عن غيرهم، وإن الاختيار مبني على سابق علم اللَّه بالأعمال الصالحة، وإن بعض الذين يسمعون الإنجيل ويشعرون بعمل الروح يقتنعون والبعض يرفضون، وإن الأوَّلين يُنتخبون والآخرين يُرفضون، لصحَّ أيضاً أن النعمة التي يجريها اللَّه في دعوة الناس أمر يقبله الإنسان أو يرفضه. ولكن إذا كان اللَّه يرحم من يرحم، والأمر ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل للَّه الذي يرحم، وكوننا في المسيح هو من اللَّه لا من أنفسنا، وكان اللَّه يخفي هذه عن الحكماء والفهماء ويعلنها للأطفال حسب مسرته- كان العمل الذي يتم بواسطة مقصده بالضرورة فعالاً في ذاته، لا يتوقف نجاحه على عزم الذين يجريه اللَّه فيهم.
وتظهر هذه النتيجة أيضاً مما قاله الكتاب في شأن عهد الفداء، فلما أعطى اللَّه في هذا العهد ابنه شعباً جزاءً لطاعته وموته، كان لا بد أنهم يأتون إليه، وكان العمل الذي يوجب إتيانهم فعالاً كذلك.
وهذا التعليم مرتبط بسائر التعاليم الأخرى العظيمة في شأن النعمة الإلهية، وهو قسم جوهري، أو على الأقل قسم لا ينفصل عن النظام الذي أعلنه اللَّه لخلاص البشر وقصد به إعلان غِنى النعمة الإلهية أي محبته العجيبة لغير المستحقين، حتى أن الذي يفتخر إنما يفتخر بالرب ويهتف مع المرنم «ليس لنا يا رب ليس لنا، لكن لاسمك أعطِ مجداً» (مز 115: 1).
(3) شهادة الاختبار. فخبرة المؤمن وتاريخ الكنيسة يشهدان بذلك، لأن كل ظواهر الحياة المسيحية تطابق التعليم الأغسطيني في النعمة الفعالة، فلم ينسب مؤمنٌ التجديد إلى نفسه، ولا رأى أنه هو صانع العمل، أو أن صلاحه النسبي أو زيادة قبوله للتأثير الصالح وللاقتناع سببٌ لتفضيله على غيره في نوال هذا التغيير. ولكنهم جميعاً يعلمون أنه من عمل نعمة اللَّه المجانية، كما قال الرسول «لا بأعمالٍ في برٍ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس» (تي 3: 5). وقوله إن اللَّه «أفرزه من بطن أمه ودعاه بنعمته» (غل 1: 15) لأنه كان مضطهِداً متلِفاً، فلم يكن فيه ما يستحق عناية اللَّه به. فلم ينسب بولس دعوته إلى نفسه، ولا إلى رغبته في الخضوع لعمل الحق، بل قال إنه شاهدٌ لتنازل اللَّه العجيب ونعمته.
ومن أمثلة ذلك اهتداء ثلاثة آلاف في يوم الخمسين، أكثرهم شاهدوا المسيح وأعماله وسمعوا تعاليمه، وقاوموا (إلى ذلك الوقت) التأثيرات الناشئة عن إظهار صفاته وصدق أقواله، وبقوا مصرّين على عدم الإيمان رغم مجاهرة الروح الذي لا يكف أبداً عن تقديم الحق إلى عقول الناس وضمائرهم، فكان رجوعهم إلى اللَّه سريعاً وبحسب الظاهر فجائياً، ولكنه كان صادقاً غيّر جميع صفاتهم وحياتهم بعد ذلك. ولم يكن ما حدث في يوم الخمسين أمراً فريداً في تاريخ الكنيسة، فكثيراً ما ظهر مثل ذلك من قوة الروح ولا يزال يظهر في كل قسم من أقسام العالم حيث انتشرت معرفة الإنجيل. وفي جميع ما حدث من هذا القبيل تظهر علامات العمل الإلهي، كالمعجزات التي جرت في العصر الرسولي. فكل شهادة الاختبار في المؤمنين أفراداً وإجمالاً تؤيد ما سبق أن قلناه في النعمة الفعالة، ولا توافق مذهباً آخر في هذا الشأن.
23 - ما هي الاعتراضات على تعليم النعمة الفعالة والرد عليها؟
* الاعتراضات على تعليم النعمة الفعالة لا تختص بهذا الموضوع فقط، بل تعم كل التعاليم التي من هذا القبيل وقد سبق الكلام عليها. فلا نذكر هنا إلا ثلاثة منها:
(1) هذا التعليم ينافي المسؤولية. فإذا كنا نحتاج إلى تغيير لا يمكن إحداثه إلا بالقوة الإلهية، وبدونه لا نستطيع أن نخلُص، فإننا نكون غير مسؤولين. وهذا الاعتراض قديم مبنيٌ على أن العجز والمسؤولية ضدان لا يجتمعان. وللرد على هذا الاعتراض انظر فصل 27 س 30.
(2) إن كنا لا نقدر أن نتوب ونؤمن إلا بواسطة قوة اللَّه الفائقة، وجب أن ننتظر وقت إجراء هذه القوة. وهذا اعتراض الذين يحبون الخطية ولا يريدون أن ينجوا منها. فمثلهم مَثَل رجلٍ أبرص في عهد المسيح، يقول «لا أستطيع أن أشفي نفسي، وعليَّ أن أصبر حتى يجيء المسيح ويشفيني». ونحن نرى أن الشعور بالعجز التام هو الذي يدفع الإنسان للبحث عن المعونة وطلبها من مصدرها الوحيد. وقد وعد المسيح أن يخلِّص كل الذين يشعرون بخطاياهم وعجزهم عن تخليص أنفسهم، بقوله «تعالوا إليَّ وأنا أريحكم. اسألوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم». فلا يحقُّ لأحدٍ أن يشكو الخيبة من نوال قوة المسيح الشافية إلا بعد ما يطلبها بكل ما تقتضيه أهمية الأمر من التأني والاجتهاد، واتّباع ما ترشده إليه كلمة اللَّه (انظر فصل 27).
(3) يستلزم هذا التعليم تدخل اللَّه رأساً في تاريخ البشر الديني، وهذا (على زعمهم) يناقض الفلسفة وشهادة العلم، ويخالف علاقة اللَّه بالعالم. وللرد نقول: إن في هذا الأمر خلافاً بين الفلسفة الكاذبة والكتاب المقدس، لأن الكتاب يُعلّم أن الخلق والعناية وإنزال الوحي والتجسد والمعجزات والقيامة أمور خارقة للطبيعة لا يقدر أن يقوم بها إلا اللَّه وحده. فإن كان الكتاب صادقاً كانت الفلسفة التي تنكر إمكان هذا العمل الرباني كاذبة. وهو نهاية المسألة عند كل مسيحي.
 
أعلى