أما قول المعترض إن الأموات يعرفون حال أهلهم وهم في عالم البرزخ فباطل، لأن المسيحية لا تؤمن بوجود برزخ.
قال المعترض: »جاء في متى 2:19 أن هيرودس الملك مات لما كان المسيح طفلاً في مصر، بينما يؤكد لوقا 23:8 أن هيرودس كان حيّاً بعد ذلك بأكثر من 30 سنة، وأن المسيح مثُل أمامه للمحاكمة. فكيف تنكرون هذا التناقض؟«.
وللرد نقول: لو رجع المعترض إلى لوقا 3:1 لاستراح من الاعتراض! فإن هيرودس الذي مات أثناء طفولة المسيح هو هيرودس الكبير، الذي حكم فلسطين بتفويض من الرومان. ولما مات انقسمت مملكته إلى أربعة أقسام، فحكم ابنه هيرودس أنتيباس على الجليل (لوقا 3:1) وهو المعروف برئيس الرُّبع (متى 14:1). وهذا هو هيرودس الذي حاكم المسيح (لوقا 23:6 و7 - قارن لوقا 3:1). وهو نفسه هيرودس الذي يتحدث عنه سفر الأعمال 4:27.. ولكن هناك هيرودس آخر، هو هيرودس أغريباس المذكور في أعمال 12 و23، ذكره المؤرخان يوسيفوس اليهودي وتاسيتوس الروماني. ولا يصعب على المعترض أن يدرك أن عدة أشخاص يمكن أن يحملوا نفس الاسم، خصوصاً وأن الحفيد يحمل اسم جده.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 2:23 أن المسيح أتى وسكن في الناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعَى ناصرياً . وهذا غلط، ولا يوجد في كتاب من كتب الأنبياء. وينكر اليهود هذا الخبر أشد الإنكار، ويعتقدون أنه لم يقم نبي من الجليل فضلاً عن عدم قيامه من الناصرة كما في يوحنا 7:52. وقال الكاثوليك إن اليهود ضيَّعوا هذه الكتب قصداً، وقال فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتباً من غفلتهم ولعدم ديانتهم ومزقوا بعضاً وأحرقوا البعض الآخر«.
وللرد نقول: (1) لم يخصّ البشير متّى بالذكر نبياً بعينه في 1:22 و2:15 و17 بل قال »بالأنبياء« بصيغة الجمع. وقال العلامة إيرونيموس: »نقل متى البشير أقوال الأنبياء بالمعنى فقط« . فإن كلمة الناصري تفيد الاحتقار، وكان الإسرائيليون (في الجنوب) يزدرون بالجليليين (في الشمال) عموماً، وبالناصريين خصوصاً. وكانت كلمة »ناصري« كلمة احتقار تُطلق على الدنيء، وكان اليهود يسمّون اللص الشقي »ابن ناصر«. واستعمل مؤرخو اليهود هذه اللفظة في المسيح، فقال المؤرخ اليهودي» آبار بينال« إن القرن الصغير (دانيال 7:8) هو ابن ناصر، يعني يسوع الناصري. وكثيراً ما أطلق اليهود وأعداء المسيحيين لقب »ناصري« على المسيح ازدراءً به وتهكماً عليه، فكانت إقامته في الناصرة من أسباب ازدراء أهل وطنه به ورفضهم إياه. فلما قال فيلبس لنثنائيل: »وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة« أجابه نثنائيل: »أَمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟« (يوحنا 1:46). ولما دافع نيقوديموس (أحد شيوخ اليهود) عن يسوع، قال له أعضاء مجلسهم الأكبر: »فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل« (يوحنا 7:52). وبما أن الأنبياء تنبأوا في محال كثيرة (مزمور 22:6 و59:9 و10 وإشعياء 52 و53 وزكريا 11:12 و13) أن المسيا يُحتقر ويُرفض ويُزدرى به، كانت نبواتهم هذه بمثابة قولهم إنه »ناصري«. وعلى هذا لما قام المسيح في الناصرة قال إن نبوات الأنبياء قد تحقَّقت (لوقا 4:21). فكما أن النسب يكون للشرف، كذلك يكون للضِّعة، بالنسبة إلى رفعة أو ضعة البلاد التي يُنسب إليها الإنسان. وقولنا ناصري هو بمنزلة قولنا إنه محتقَر »كعِرْقٍ من أرضٍ يابسة، لا صورة له ولا جمال« (إشعياء 53:2).
أما قول فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتبهم لمعاكسة المسيحيين، وإنهم مزقوا بعضها وأحرقوا بعضها فهو افتراء محض، فكتبهم التي يتعبَّدون بتلاوتها لغاية الآن تشهد للمسيح، وتوضّح صفاته وكمالاته وآلامه موته وصلبه وعمل الفداء العجيب. بل إنها أوضحت بالدقة وقت تجسّده ومكانه، بحيث لو لم يكن الإنجيل بيننا لعرفنا فحواه من التوراة. فلو مزقوا شيئاً أو أحرقوه لظهر اختلاف بين الإنجيل والتوراة، مع أنه لا يوجد أدنى اختلاف في التعاليم الجوهرية. والفرق بين اليهود والمسيحيين هو أن اليهود لا يزالون ينتظرون مجيء المسيح، أما المسيحيون فيعتقدون أنه أتى.
(2) ويجوز أن متى نقل أقوال الأنبياء بالمعنى. وقوله »ناصري« يشتمل على معانٍ كثيرة. والنقل بالمعنى جائز كما قرروه في »أصول الفقه«، فيجوز نقل الأحاديث بطرق كثيرة فيجوز (أ) أن يُروى الحديث بلفظه، (ب) يجوز أن يُروى بغير لفظه، (ج) يحذف الراوي بعض لفظ الخبر، (د) أن يزيد الراوي على ما سمعه، (هـ) أن يحتمل الخبر معنيين متنافيين، فاقتصر الراوي على إحداهما، (و) أن يكون الخبر ظاهراً في شيء فيحمله الراوي على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب، أو من التحريم إلى الكراهة. فمتى نقل بالمعنى أقوال الأنبياء وهو جائز.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 3:1 »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية« مع أنه في آخر أصحاح 2 ذكر حكم أرخيلاوس لليهود بعد موت أبيه، وانصراف يوسف مع مريم والمسيح إلى نواحي الجليل وإقامته في ناصرة. فيكون المشار إليه بكلمة »تلك« هذه كل ما ذكرناه، ويكون معنى الآية: »لما حكم أرخيلاوس، وانصرف يوسف النجار إلى نواحي الجليل، جاء يوحنا المعمدان«. وهذا غلط لأن وعظ يوحنا كان بعد 28 سنة من الأمور المذكورة«.
وللرد نقول: (1) يعود اسم الإشارة »تلك« إلى أقرب مذكور. ولكن تعسُّف المعترض جعله يعود إلى أبعد مذكور. والمتبادر إلى الذهن هو أن مراد البشير بقوله »تلك الأيام« هو أيام سكن المسيح في الناصرة وهو أقرب مذكور، لأنه قال: »وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعى ناصرياً« ثم قال: »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان«.
(2) الكلام مُسَاق على يوسف وسكن المسيح في الناصرة، لأنه هو المقصود بالذات. وإنما ذكر أرخيلاوس ليوضح بدء إقامة المسيح في الناصرة، وأنه أقام فيها سنين عديدة.
قال المعترض: »جاء في متى 3:2 »توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات« وهي كلمات يوحنا المعمدان وكررها المسيح (متى 4:17). فما هو المقصود بملكوت السموات هذا؟« (انظر متى 13:31 و32).
وللرد نقول: ملكوت السموات أو ملكوت الله هو مُلك الله على قلوب البشر عندما يدخل المسيح القلب، فهو »ملك الملوك ورب الأرباب« (رؤيا 19:16)، وقد خصَّص المسيح مكانةً كبرى في كرازته لملكوت الله، وكانت المعجزات المصاحبة لكرازته علامات على قيام الملكوت، كما أنها إشارات إلى مدلول الملكوت، لأن بمجيء المسيح ينقضي تسلُّط إبليس والخطية والموت على البشر، وقد قال في متى 12:28 »إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله« وقال إن هذا الملكوت يبدأ في حياته، ثم يمتد بعد موته وقيامته، ويكمل بعد مجيئه ثانية ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دانيال 7:13 و14 ورؤيا 11:15). وأما في الوقت الحاضر فملكوت الله آخذ في الامتداد يومياً بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (متى 28:8-20). ويأتي ملكوت الله حينما تُوجَّه كلمة الله للبشر، فهو يشبه البذرة التي تُلقى في الأرض فتنمو, ولما كان تواجد ملكوت الله على الأرض متوقِّفٌ على قبول الناس لكلمة الله فهو حقيقة واقعة غير منظورة. ليس ملكوت السموات مثل ممالك العالم (يوحنا 18:36) وهو لا يأتي بأبَّهة عالمية (لوقا 17:20) وأعضاؤه هم »المساكين بالروح« (متى 5:3) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر. ولا يقدر أحد أن يدخل هذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يوحنا 3:3 و5) والمؤمنون مدعوون ليرثوا هذا الملكوت بعد قيامتهم (متى 25:34). ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (1كورنثوس 6:9 و10 وغلاطية 5:20 و21 وأفسس 5:5).
قال المعترض: »ورد في متى 3:14 أن المسيح أتى إلى يوحنا ليعتمد منه، فمنعه يوحنا قائلاً: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ!« ثم اعتمد المسيح وصعد من الماء، فنزل عليه الروح مثل حمامة. وورد في يوحنا 1:33 »وأنا لم أكن أعرفه« (وعرفتُه بنزول الروح مثل حمامةٍ ونارٍ). وفي متى 11:3 لما سمع يوحنا بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه يسألونه: »أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟«. في الأول عرف يوحنا قبل نزول الروح، وفي الثاني عرفه بعد نزول الروح، وفي الثالث لم يعرفه بعد نزول الروح«.
وللرد نقول: قول يوحنا »لم أكن أعرفه« معناه أنه لم يكن يعرفه قبل نزول الروح القدس، أي قبل سماع الصوت من السماء »هذا هو ابني الحبيب«. وكل إنسان له أحوال، فله حالة قبل المعرفة وحالة بعدها، بعد أن تكون قد ظهرت له الأدلة بصحة الدين. وكذلك للأنبياء حالات قبل الوحي والإلهام، وبعد ذلك. فالله المعلم الحقيقي أوحى إلى يوحنا بأن المسيح هو الموعود به. وشرح المعمدان لنا حاله قبل هذه المعرفة بقوله »وأنا لم أكن أعرفه«. ثم شرحها بعد معرفته، فقال: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ«.
وإذ تقرر ذلك فلا تناقض، فإنه يلزم في التناقض اتحاد الزمان والمكان. ولا اتحاد هنا في الزمان
قال المعترض: »جاء في متى 2:19 أن هيرودس الملك مات لما كان المسيح طفلاً في مصر، بينما يؤكد لوقا 23:8 أن هيرودس كان حيّاً بعد ذلك بأكثر من 30 سنة، وأن المسيح مثُل أمامه للمحاكمة. فكيف تنكرون هذا التناقض؟«.
وللرد نقول: لو رجع المعترض إلى لوقا 3:1 لاستراح من الاعتراض! فإن هيرودس الذي مات أثناء طفولة المسيح هو هيرودس الكبير، الذي حكم فلسطين بتفويض من الرومان. ولما مات انقسمت مملكته إلى أربعة أقسام، فحكم ابنه هيرودس أنتيباس على الجليل (لوقا 3:1) وهو المعروف برئيس الرُّبع (متى 14:1). وهذا هو هيرودس الذي حاكم المسيح (لوقا 23:6 و7 - قارن لوقا 3:1). وهو نفسه هيرودس الذي يتحدث عنه سفر الأعمال 4:27.. ولكن هناك هيرودس آخر، هو هيرودس أغريباس المذكور في أعمال 12 و23، ذكره المؤرخان يوسيفوس اليهودي وتاسيتوس الروماني. ولا يصعب على المعترض أن يدرك أن عدة أشخاص يمكن أن يحملوا نفس الاسم، خصوصاً وأن الحفيد يحمل اسم جده.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 2:23 أن المسيح أتى وسكن في الناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعَى ناصرياً . وهذا غلط، ولا يوجد في كتاب من كتب الأنبياء. وينكر اليهود هذا الخبر أشد الإنكار، ويعتقدون أنه لم يقم نبي من الجليل فضلاً عن عدم قيامه من الناصرة كما في يوحنا 7:52. وقال الكاثوليك إن اليهود ضيَّعوا هذه الكتب قصداً، وقال فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتباً من غفلتهم ولعدم ديانتهم ومزقوا بعضاً وأحرقوا البعض الآخر«.
وللرد نقول: (1) لم يخصّ البشير متّى بالذكر نبياً بعينه في 1:22 و2:15 و17 بل قال »بالأنبياء« بصيغة الجمع. وقال العلامة إيرونيموس: »نقل متى البشير أقوال الأنبياء بالمعنى فقط« . فإن كلمة الناصري تفيد الاحتقار، وكان الإسرائيليون (في الجنوب) يزدرون بالجليليين (في الشمال) عموماً، وبالناصريين خصوصاً. وكانت كلمة »ناصري« كلمة احتقار تُطلق على الدنيء، وكان اليهود يسمّون اللص الشقي »ابن ناصر«. واستعمل مؤرخو اليهود هذه اللفظة في المسيح، فقال المؤرخ اليهودي» آبار بينال« إن القرن الصغير (دانيال 7:8) هو ابن ناصر، يعني يسوع الناصري. وكثيراً ما أطلق اليهود وأعداء المسيحيين لقب »ناصري« على المسيح ازدراءً به وتهكماً عليه، فكانت إقامته في الناصرة من أسباب ازدراء أهل وطنه به ورفضهم إياه. فلما قال فيلبس لنثنائيل: »وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة« أجابه نثنائيل: »أَمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟« (يوحنا 1:46). ولما دافع نيقوديموس (أحد شيوخ اليهود) عن يسوع، قال له أعضاء مجلسهم الأكبر: »فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل« (يوحنا 7:52). وبما أن الأنبياء تنبأوا في محال كثيرة (مزمور 22:6 و59:9 و10 وإشعياء 52 و53 وزكريا 11:12 و13) أن المسيا يُحتقر ويُرفض ويُزدرى به، كانت نبواتهم هذه بمثابة قولهم إنه »ناصري«. وعلى هذا لما قام المسيح في الناصرة قال إن نبوات الأنبياء قد تحقَّقت (لوقا 4:21). فكما أن النسب يكون للشرف، كذلك يكون للضِّعة، بالنسبة إلى رفعة أو ضعة البلاد التي يُنسب إليها الإنسان. وقولنا ناصري هو بمنزلة قولنا إنه محتقَر »كعِرْقٍ من أرضٍ يابسة، لا صورة له ولا جمال« (إشعياء 53:2).
أما قول فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتبهم لمعاكسة المسيحيين، وإنهم مزقوا بعضها وأحرقوا بعضها فهو افتراء محض، فكتبهم التي يتعبَّدون بتلاوتها لغاية الآن تشهد للمسيح، وتوضّح صفاته وكمالاته وآلامه موته وصلبه وعمل الفداء العجيب. بل إنها أوضحت بالدقة وقت تجسّده ومكانه، بحيث لو لم يكن الإنجيل بيننا لعرفنا فحواه من التوراة. فلو مزقوا شيئاً أو أحرقوه لظهر اختلاف بين الإنجيل والتوراة، مع أنه لا يوجد أدنى اختلاف في التعاليم الجوهرية. والفرق بين اليهود والمسيحيين هو أن اليهود لا يزالون ينتظرون مجيء المسيح، أما المسيحيون فيعتقدون أنه أتى.
(2) ويجوز أن متى نقل أقوال الأنبياء بالمعنى. وقوله »ناصري« يشتمل على معانٍ كثيرة. والنقل بالمعنى جائز كما قرروه في »أصول الفقه«، فيجوز نقل الأحاديث بطرق كثيرة فيجوز (أ) أن يُروى الحديث بلفظه، (ب) يجوز أن يُروى بغير لفظه، (ج) يحذف الراوي بعض لفظ الخبر، (د) أن يزيد الراوي على ما سمعه، (هـ) أن يحتمل الخبر معنيين متنافيين، فاقتصر الراوي على إحداهما، (و) أن يكون الخبر ظاهراً في شيء فيحمله الراوي على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب، أو من التحريم إلى الكراهة. فمتى نقل بالمعنى أقوال الأنبياء وهو جائز.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 3:1 »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية« مع أنه في آخر أصحاح 2 ذكر حكم أرخيلاوس لليهود بعد موت أبيه، وانصراف يوسف مع مريم والمسيح إلى نواحي الجليل وإقامته في ناصرة. فيكون المشار إليه بكلمة »تلك« هذه كل ما ذكرناه، ويكون معنى الآية: »لما حكم أرخيلاوس، وانصرف يوسف النجار إلى نواحي الجليل، جاء يوحنا المعمدان«. وهذا غلط لأن وعظ يوحنا كان بعد 28 سنة من الأمور المذكورة«.
وللرد نقول: (1) يعود اسم الإشارة »تلك« إلى أقرب مذكور. ولكن تعسُّف المعترض جعله يعود إلى أبعد مذكور. والمتبادر إلى الذهن هو أن مراد البشير بقوله »تلك الأيام« هو أيام سكن المسيح في الناصرة وهو أقرب مذكور، لأنه قال: »وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعى ناصرياً« ثم قال: »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان«.
(2) الكلام مُسَاق على يوسف وسكن المسيح في الناصرة، لأنه هو المقصود بالذات. وإنما ذكر أرخيلاوس ليوضح بدء إقامة المسيح في الناصرة، وأنه أقام فيها سنين عديدة.
قال المعترض: »جاء في متى 3:2 »توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات« وهي كلمات يوحنا المعمدان وكررها المسيح (متى 4:17). فما هو المقصود بملكوت السموات هذا؟« (انظر متى 13:31 و32).
وللرد نقول: ملكوت السموات أو ملكوت الله هو مُلك الله على قلوب البشر عندما يدخل المسيح القلب، فهو »ملك الملوك ورب الأرباب« (رؤيا 19:16)، وقد خصَّص المسيح مكانةً كبرى في كرازته لملكوت الله، وكانت المعجزات المصاحبة لكرازته علامات على قيام الملكوت، كما أنها إشارات إلى مدلول الملكوت، لأن بمجيء المسيح ينقضي تسلُّط إبليس والخطية والموت على البشر، وقد قال في متى 12:28 »إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله« وقال إن هذا الملكوت يبدأ في حياته، ثم يمتد بعد موته وقيامته، ويكمل بعد مجيئه ثانية ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دانيال 7:13 و14 ورؤيا 11:15). وأما في الوقت الحاضر فملكوت الله آخذ في الامتداد يومياً بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (متى 28:8-20). ويأتي ملكوت الله حينما تُوجَّه كلمة الله للبشر، فهو يشبه البذرة التي تُلقى في الأرض فتنمو, ولما كان تواجد ملكوت الله على الأرض متوقِّفٌ على قبول الناس لكلمة الله فهو حقيقة واقعة غير منظورة. ليس ملكوت السموات مثل ممالك العالم (يوحنا 18:36) وهو لا يأتي بأبَّهة عالمية (لوقا 17:20) وأعضاؤه هم »المساكين بالروح« (متى 5:3) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر. ولا يقدر أحد أن يدخل هذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يوحنا 3:3 و5) والمؤمنون مدعوون ليرثوا هذا الملكوت بعد قيامتهم (متى 25:34). ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (1كورنثوس 6:9 و10 وغلاطية 5:20 و21 وأفسس 5:5).
قال المعترض: »ورد في متى 3:14 أن المسيح أتى إلى يوحنا ليعتمد منه، فمنعه يوحنا قائلاً: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ!« ثم اعتمد المسيح وصعد من الماء، فنزل عليه الروح مثل حمامة. وورد في يوحنا 1:33 »وأنا لم أكن أعرفه« (وعرفتُه بنزول الروح مثل حمامةٍ ونارٍ). وفي متى 11:3 لما سمع يوحنا بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه يسألونه: »أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟«. في الأول عرف يوحنا قبل نزول الروح، وفي الثاني عرفه بعد نزول الروح، وفي الثالث لم يعرفه بعد نزول الروح«.
وللرد نقول: قول يوحنا »لم أكن أعرفه« معناه أنه لم يكن يعرفه قبل نزول الروح القدس، أي قبل سماع الصوت من السماء »هذا هو ابني الحبيب«. وكل إنسان له أحوال، فله حالة قبل المعرفة وحالة بعدها، بعد أن تكون قد ظهرت له الأدلة بصحة الدين. وكذلك للأنبياء حالات قبل الوحي والإلهام، وبعد ذلك. فالله المعلم الحقيقي أوحى إلى يوحنا بأن المسيح هو الموعود به. وشرح المعمدان لنا حاله قبل هذه المعرفة بقوله »وأنا لم أكن أعرفه«. ثم شرحها بعد معرفته، فقال: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ«.
وإذ تقرر ذلك فلا تناقض، فإنه يلزم في التناقض اتحاد الزمان والمكان. ولا اتحاد هنا في الزمان