قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 2:23 أن المسيح أتى وسكن في الناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعَى ناصرياً . وهذا غلط، ولا يوجد في كتاب من كتب الأنبياء. وينكر اليهود هذا الخبر أشد الإنكار، ويعتقدون أنه لم يقم نبي من الجليل فضلاً عن عدم قيامه من الناصرة كما في يوحنا 7:52. وقال الكاثوليك إن اليهود ضيَّعوا هذه الكتب قصداً، وقال فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتباً من غفلتهم ولعدم ديانتهم ومزقوا بعضاً وأحرقوا البعض الآخر«.
وللرد نقول: (1) لم يخصّ البشير متّى بالذكر نبياً بعينه في 1:22 و2:15 و17 بل قال »بالأنبياء« بصيغة الجمع. وقال العلامة إيرونيموس: »نقل متى البشير أقوال الأنبياء بالمعنى فقط« . فإن كلمة الناصري تفيد الاحتقار، وكان الإسرائيليون (في الجنوب) يزدرون بالجليليين (في الشمال) عموماً، وبالناصريين خصوصاً. وكانت كلمة »ناصري« كلمة احتقار تُطلق على الدنيء، وكان اليهود يسمّون اللص الشقي »ابن ناصر«. واستعمل مؤرخو اليهود هذه اللفظة في المسيح، فقال المؤرخ اليهودي» آبار بينال« إن القرن الصغير (دانيال 7:8) هو ابن ناصر، يعني يسوع الناصري. وكثيراً ما أطلق اليهود وأعداء المسيحيين لقب »ناصري« على المسيح ازدراءً به وتهكماً عليه، فكانت إقامته في الناصرة من أسباب ازدراء أهل وطنه به ورفضهم إياه. فلما قال فيلبس لنثنائيل: »وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة« أجابه نثنائيل: »أَمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟« (يوحنا 1:46). ولما دافع نيقوديموس (أحد شيوخ اليهود) عن يسوع، قال له أعضاء مجلسهم الأكبر: »فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل« (يوحنا 7:52). وبما أن الأنبياء تنبأوا في محال كثيرة (مزمور 22:6 و59:9 و10 وإشعياء 52 و53 وزكريا 11:12 و13) أن المسيا يُحتقر ويُرفض ويُزدرى به، كانت نبواتهم هذه بمثابة قولهم إنه »ناصري«. وعلى هذا لما قام المسيح في الناصرة قال إن نبوات الأنبياء قد تحقَّقت (لوقا 4:21). فكما أن النسب يكون للشرف، كذلك يكون للضِّعة، بالنسبة إلى رفعة أو ضعة البلاد التي يُنسب إليها الإنسان. وقولنا ناصري هو بمنزلة قولنا إنه محتقَر »كعِرْقٍ من أرضٍ يابسة، لا صورة له ولا جمال« (إشعياء 53:2).
أما قول فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتبهم لمعاكسة المسيحيين، وإنهم مزقوا بعضها وأحرقوا بعضها فهو افتراء محض، فكتبهم التي يتعبَّدون بتلاوتها لغاية الآن تشهد للمسيح، وتوضّح صفاته وكمالاته وآلامه موته وصلبه وعمل الفداء العجيب. بل إنها أوضحت بالدقة وقت تجسّده ومكانه، بحيث لو لم يكن الإنجيل بيننا لعرفنا فحواه من التوراة. فلو مزقوا شيئاً أو أحرقوه لظهر اختلاف بين الإنجيل والتوراة، مع أنه لا يوجد أدنى اختلاف في التعاليم الجوهرية. والفرق بين اليهود والمسيحيين هو أن اليهود لا يزالون ينتظرون مجيء المسيح، أما المسيحيون فيعتقدون أنه أتى.
(2) ويجوز أن متى نقل أقوال الأنبياء بالمعنى. وقوله »ناصري«»أصول الفقه«، فيجوز نقل الأحاديث بطرق كثيرة فيجوز (أ) أن يُروى الحديث بلفظه، (ب) يجوز أن يُروى بغير لفظه، (ج) يحذف الراوي بعض لفظ الخبر، (د) أن يزيد الراوي على ما سمعه، (هـ) أن يحتمل الخبر معنيين متنافيين، فاقتصر الراوي على إحداهما، (و) أن يكون الخبر ظاهراً في شيء فيحمله الراوي على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب، أو من التحريم إلى الكراهة. فمتى نقل بالمعنى أقوال الأنبياء وهو جائز. يشتمل على معانٍ كثيرة. والنقل بالمعنى جائز كما قرروه في
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 3:1 »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية« مع أنه في آخر أصحاح 2 ذكر حكم أرخيلاوس لليهود بعد موت أبيه، وانصراف يوسف مع مريم والمسيح إلى نواحي الجليل وإقامته في ناصرة. فيكون المشار إليه بكلمة »تلك« هذه كل ما ذكرناه، ويكون معنى الآية: »لما حكم أرخيلاوس، وانصرف يوسف النجار إلى نواحي الجليل، جاء يوحنا المعمدان«. وهذا غلط لأن وعظ يوحنا كان بعد 28 سنة من الأمور المذكورة«.
وللرد نقول: (1) يعود اسم الإشارة »تلك« إلى أقرب مذكور. ولكن تعسُّف المعترض جعله يعود إلى أبعد مذكور. والمتبادر إلى الذهن هو أن مراد البشير بقوله »تلك الأيام« هو أيام سكن المسيح في الناصرة وهو أقرب مذكور، لأنه قال: »وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعى ناصرياً« ثم قال: »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان«.
(2) الكلام مُسَاق على يوسف وسكن المسيح في الناصرة، لأنه هو المقصود بالذات. وإنما ذكر أرخيلاوس ليوضح بدء إقامة المسيح في الناصرة، وأنه أقام فيها سنين عديدة.
قال المعترض: »جاء في متى 3:2 »توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات« وهي كلمات يوحنا المعمدان وكررها المسيح (متى 4:17). فما هو المقصود بملكوت السموات هذا؟« (انظر متى 13:31 و32).
وللرد نقول: ملكوت السموات أو ملكوت الله هو مُلك الله على قلوب البشر عندما يدخل المسيح القلب، فهو »ملك الملوك ورب الأرباب«»إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله«»المساكين بالروح« (متى 5:3) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر. ولا يقدر أحد أن يدخل هذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يوحنا 3:3 و5) والمؤمنون مدعوون ليرثوا هذا الملكوت بعد قيامتهم (متى 25:34). ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (1كورنثوس 6:9 و10 وغلاطية 5:20 و21 وأفسس 5:5). (رؤيا 19:16)، وقد خصَّص المسيح مكانةً كبرى في كرازته لملكوت الله، وكانت المعجزات المصاحبة لكرازته علامات على قيام الملكوت، كما أنها إشارات إلى مدلول الملكوت، لأن بمجيء المسيح ينقضي تسلُّط إبليس والخطية والموت على البشر، وقد قال في متى 12:28 وقال إن هذا الملكوت يبدأ في حياته، ثم يمتد بعد موته وقيامته، ويكمل بعد مجيئه ثانية ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دانيال 7:13 و14 ورؤيا 11:15). وأما في الوقت الحاضر فملكوت الله آخذ في الامتداد يومياً بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (متى 28:8-20). ويأتي ملكوت الله حينما تُوجَّه كلمة الله للبشر، فهو يشبه البذرة التي تُلقى في الأرض فتنمو, ولما كان تواجد ملكوت الله على الأرض متوقِّفٌ على قبول الناس لكلمة الله فهو حقيقة واقعة غير منظورة. ليس ملكوت السموات مثل ممالك العالم (يوحنا 18:36) وهو لا يأتي بأبَّهة عالمية (لوقا 17:20) وأعضاؤه هم
قال المعترض: »ورد في متى 3:14 أن المسيح أتى إلى يوحنا ليعتمد منه، فمنعه يوحنا قائلاً: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ!« ثم اعتمد المسيح وصعد من الماء، فنزل عليه الروح مثل حمامة. وورد في يوحنا 1:33 »وأنا لم أكن أعرفه« (وعرفتُه بنزول الروح مثل حمامةٍ ونارٍ). وفي متى 11:3 لما سمع يوحنا بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه يسألونه: »أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟«. في الأول عرف يوحنا قبل نزول الروح، وفي الثاني عرفه بعد نزول الروح، وفي الثالث لم يعرفه بعد نزول الروح«.
وللرد نقول: قول يوحنا »لم أكن أعرفه« معناه أنه لم يكن يعرفه قبل نزول الروح القدس، أي قبل سماع الصوت من السماء »هذا هو ابني الحبيب«. وكل إنسان له أحوال، فله حالة قبل المعرفة وحالة بعدها، بعد أن تكون قد ظهرت له الأدلة بصحة الدين. وكذلك للأنبياء حالات قبل الوحي والإلهام، وبعد ذلك. فالله المعلم الحقيقي أوحى إلى يوحنا بأن المسيح هو الموعود به. وشرح المعمدان لنا حاله قبل هذه المعرفة بقوله »وأنا لم أكن أعرفه«. ثم شرحها بعد معرفته، فقال: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ«.
وإذ تقرر ذلك فلا تناقض، فإنه يلزم في التناقض اتحاد الزمان والمكان. ولا اتحاد هنا في الزمان.
أما إرسال يوحنا التلميذين إلى المسيح فليريا الحقائق بنفسيهما، ليصدّقا بالعيان، ولاسيما إن يوحنا كان مسجوناً وقتئذ ولم تتيسّر له مشاهدة المعجزات الباهرة التي صنعها المسيح، فلذا قال لهما المسيح: »اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران: العُمي يبصرون، والعرج يمشون، والبُرْص يُطهَّرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون«. فيصدقون بعد رؤية المعجزات الباهرة.
قال المعترض: »جاء في متى 3:15 قول المسيح للمعمدان بخصوص معمودية المسيح »اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر«. وهذا يعني أن بعض الفرائض الدينية لا فائدة منها ولا معنى روحي لها«.
وللرد نقول: (1) كان الغرض من معمودية يوحنا المعمدان إعلان توبة قومية يشترك فيها بنو إسرائيل كلهم، للدخول في حياة جديدة، وبدء ملكوت جديد. وقد رأى المسيح أن يعتمد من يوحنا، لا لأنه خاطئ يتوب، لكن لأنه يمثّل الأمة التي يريد لها التوبة. فهو ابن الإنسان الذي يريد أن يخلّصنا، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان أطاع الفريضة.
وعند مراجعة تاريخ بني إسرائيل نرى أن الأتقياء الصالحين اشتركوا مع الخطاة الضالين في أوقات التذلل والتوبة القومية. هكذا فعل دانيال بالرغم من شدة صلاحه (دانيال 9:4). ولما رأى المسيح أن معمودية يوحنا فرضٌ يهودي في عصره لم يختلف عن قومه في هذا الواجب، ليشجع التائبين، وكأنه يقول: لا أعفي نفسي من القيام بكل ما يطلبه الله من بني إسرائيل في الواجبات العمومية.
(2) وكان الغرض من معمودية المسيح هو افتتاح خدمة المسيح رسمياً. ولم يكن قبول المسيح المعمودية على شواطئ الأردن أصعب من قبوله فداءنا على الصليب. لقد شارك المسيح الناس في ممارسة فريضة دينية هامة. والفرائض الدينية رموز لمعاني روحية، مطلوب تطبيقها.
قال المعترض: »اختلف البشيرون في رواية خبر الصوت الذي سُمع من السماء وقت نزول الروح القدس على المسيح، فقال متى 3:17 »هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت«. وقال مرقس 1:11 »أنت ابني الحبيب الذي به سُررت« وقال لوقا 3:22 »أنت ابني الحبيب الذي بك سُررت«.
وللرد نقول: لا يجرؤ أحد على القول إن جوهر العبارتين مختلف، لأن المعنى المقصود فيها كلها واحد. ولا ننكر وجود اختلاف في الأسلوب. فبحسب مرقس جاء الكلام موجَّهاً إلى المسيح. ولكن حسب متى جاءت العبارة مقولة عنه. ونرجّح أن مرقس أورد نص كلام الآب كما هو، أما متى فقد جاء بخلاصته. وللإيضاح نضرب مثلاً: فلنتصوَّر أن عدداً من الناخبين أجمعوا على انتخاب ممثل لهم، فدوَّن أحدهم في محضر الجلسة: »أجمع الناخبون على انتخاب فلان، وصاحوا مشيرين إليه: أنت هو الرجل الجدير بالثقة«. وجاء آخر بخلاصة المحضر نفسه فقال: »حاز فلان ثقة جميع الناخبين، وقالوا عنه: هذا هو الرجل الجدير بالثقة« . فهل يمكن في حال كهذه اتّهام التقريرين بالتناقض؟
قال المعترض: »ورد في متى 4:5 »ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل« وفي آية 8 ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً« وفي آية 12 » وانصرف المسيح إلى الجليل« وفي آية 13 »وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر«. وورد في لوقا 4:5 »ثم أصعده إبليس إلى جبل عال« وفي آية 9 »ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل« وفي آية 14 »ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل« وفي آية 15 »وكان يعلّم في مجامعهم« وفي آية 16 »وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربّى«. وهذه تناقضات عديدة«.
وللرد نقول: أخذ المعترض شطراً من بعض آيات، وترك باقي الكلام الذي يقول إنه توجَّه إلى كفرناحوم. ففي لوقا 4:31 ذكر أن المسيح انحدر إلى كفرناحوم، وعليه فلا يوجد أدنى تناقض ولا اختلاف، فإن متى ولوقا قالا إن المسيح توجَّه إلى الجليل، ثم ترك الناصرة لما رفضته، ثم أتى إلى كفرناحوم.
أما من جهة تجربة المسيح فهي: (1) طلب إبليس منه أن يحوِّل الحجارة إلى خبز (2) طلب منه أن يطرح نفسه من جناح الهيكل (3) طلب إبليس من المسيح أن يسجد له. وقد ذكر متى التجارب بحسب ترتيبها الزمني، أما لوقا فراعى ترتيبها المكاني، فذكر التجربتين اللتين حصلتا في البريّة أولاً، وهما طلب تحويل الحجارة خبزاً، وطلب السجود للمجرّب.
قال المعترض: »من قارن بين متى 4:18-22 ومرقس 1:16-20 ويوحنا 1:35-46 وجد ثلاثة اختلافات في دعوة التلاميذ: (1) قال متى ومرقس إن المسيح دعا بطرس وأندراوس ويوحنا عند بحر الجليل فتبعوه، أما يوحنا فقال إن المسيح رأى غير هؤلاء عند عبر الأردن، (2) ويُفهم من متى ومرقس أنه رأى أولاً بطرس وأندراوس على بحر الجليل، وبعد قليل لقي يعقوب ويوحنا على هذا البحر. وقال يوحنا إن يوحنا وأندراوس لقياه أولاً بقرب عبر الأردن، ثم قاد أندراوس أخاه بطرس للمسيح. وفي الغد لما أراد المسيح التوجُّه إلى الجليل رأى فيلبس، ثم جاء نثنائيل بهداية فيلبس، ولم يذكر يعقوب. (3) وذكر متى ومرقس أنه لما لقي المسيح التلاميذ كانوا يشتغلون بإلقاء الشبكة وبإصلاحها، ويوحنا لم يذكر الشبكة بل ذكر أن يوحنا وأندراوس سمعا وصف المسيح ليوحنا وجاءا للمسيح، ثم جاء بطرس بهداية أخيه«.
وللرد نقول: ذكر يوحنا في إنجيله أول مقابلة بين المسيح للتلاميذ، أما مرقس ولوقا فذكرا حادثة جاءت بعد ذلك هي دعوة المسيح للتلاميذ ليكونوا رسلاً. والدليل على ذلك: (1) اختلاف المكان، فيوحنا ذكر ما حدث في بيت عبرا في عبر الأردن، أما متى ومرقس فذكرا ما كان عند بحر الجليل.
(2) مما يدل على أن هذه أول مرة سمعوا فيها المسيح قول يوحنا: »وفي الغد أيضاً كان يوحنا واقفاً هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع.. فتبعا يسوع«.
(3) مما يدل على أنها غير الدعوة الرسولية قول يوحنا في آية 39 إنهما مكثا عنده ذلك اليوم، يعني أنهما عادا ثانية إلى أشغالهما الاعتيادية.
(4) الدعوة المذكورة في متى ومرقس هي الدعوة الرسولية، والدليل على ذلك قول المسيح لهما: »هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس«.
(5) يسلم المعترض أن يوحنا قال إنه لما كلمهم لم يكونوا مشتغلين بشباكهم. والذي حدث هو أن متى ومرقس ذكرا دعوة المسيح للرسل ليكونوا رسلاً لتعليم الناس، أما يوحنا فذكر أول اجتماعه ببعضهم في مكان غير المكان الذي دعاهم فيه المسيح.. فلا يوجد تناقض، لأنه يلزم من التناقض اتحاد الزمان والمكان وغيره.
قال المعترض: »يقول متى 5:1 و2 إن المسيح ألقى موعظته الأولى من على جبل، بينما يقول لوقا 6:17 و20 إنها أُلقيت في سهلٍ«.
وللرد نقول: هاتان عظتان أُلقيتا في مناسبتين مختلفتين، ولو أن بعض أفكارهما متشابهة. ولم يقُل متى إن هذه هي موعظة المسيح الأولى، ولا يمكن أن يجزم أحدٌ بأن أيّاً منهما هي العظة الأولى.
قال المعترض: »كيف يقول المسيح »طوبى للحزانى« (متى 5:4) بينما يطالب بولس المؤمنين بالفرح في فيلبي 4:4؟ «.
وللرد نقول: طوبى لمن يحزن على خطاياه، فينال الفرح الناتج عن الغفران الذي يهبه الله للتائبين. نبدأ بالحزن الذي يتبعه الفرح.
قال المعترض: »ورد في متى 5:9 »طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون« وورد في متى 10:34 »ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً«. فبين الآيتين تناقض«.
وللرد نقول: انظر تعليقنا على متى 10:34
قال المعترض: »جاء في متى 5:16 »فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات«. ولكن جاء في متى 6:1 »احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم. وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات«. وهذا يعني أن المسيح يقول في موعظة واحدة إنه يجب أن يضيء نورنا حتى يرى الناس أعمالنا الحسنة. ويقول أيضاً إنه يجب علينا أن نعمل الصالحات سراً حتى لا يرانا الناس. فكيف يمكننا التوفيق بين هذين القولين؟«.
وللرد نقول: ما جاء في متى 5:16 وما قبله تحريض لتلاميذ المسيح على الأعمال الصالحة، ليكونوا جاهزين لخدمة الله والناس، لأنهم ملح الأرض ونور العالم. فالمواهب المعطاة لهم يجب استثمارها وعدم إهمالها. فبصفتهم ملحاً كانت لهم قوة الشفاء والتطهير، وبصفتهم نوراً وجب عليهم أن يكونوا قادة ومرشدين. وفي متى 6:1 يشير المسيح إلى الباعث الذي منه يجب أن تصدر الأعمال الصالحة. فيعلِّمنا أن أعمالنا لكي تكون مرضيَّة عند الله ينبغي أن يكون الباعث عليها روح التواضع والإخلاص، لا روح العُجْب وحب الظهور. ويجب أن يكون الغرض الموضوع أمامنا مجد الله وخير الآخرين. وفي متى 5:16 يقول المسيح: اعملوا أعمالاً صالحة حتى يراها الناس فيتمجد اسم أبيكم السماوي الإله العظيم، وفي متى 6:1 يقول: لا تعملوا الأعمال الصالحة وغرض قلوبكم اكتساب مدح الناس، إذ في حالة كهذه تضيع قيمتها أمام الله.
فالمسيح في إحدى الآيتين يدلّنا على الأعمال الصالحة، وفي الأخرى يحذرنا من إتيان الأعمال الصالحة عن باعث سيء.
قال المعترض: »جاء في متى 5:17-19 »لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل«. ولكن جاء في غلاطية 4:10 و11 »أتحفظون أياماً وشهوراً وأوقاتاً وسنين؟ أخاف عليكم أن أكون قد تعبْتُ فيكم عبثاً«. فيقول بولس إن الناموس الخاص بحفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين لا علاقة له بَعْد بالمؤمنين، والمسيح يقول: »لا يسقط حرف واحد من الناموس«..
وللرد نقول: أمدَّنا الكتاب المقدس بالمعلومات اللازمة لملاشاة الصعوبة الظاهرية، فيعلّمنا أن لله ناموساً صالحاً مقدساً ثابتاً إلى الأبد، هو الناموس الأخلاقي. فقول المسيح: »لا تسقط نقطة واحدة أو حرف واحد من الناموس« قُصد به الناموس الأخلاقي. كما أن بولس نفسه يثبت في رسالة غلاطية أن ناموس الله الأخلاقي لا يُنقَض. وعلى القارئ أن يدرس غلاطية 5:19-21 ليرى أنه لا يمكن أن يُستفاد من كلام بولس بُطلان التمييز بين الخير والشر (قابل رومية 3:31). هذا الناموس يديننا لأننا لم نحفظه. وليس معنى خلاصنا أن الناموس قد أصبح ميتاً لكوننا في عهد النعمة، فإن المسيح نائبنا قد وفّى مطالب الناموس إلى التمام.. ولا يفوتنا أن بعض النواميس الواردة في العهد القديم كان المقصود بها شعب إسرائيل دون سواهم، وكانت ثابتة في تدبير العهد القديم فقط. ونجد في أسفار العهد القديم إشارات ومواعيد تثبت هذه الحقيقة (انظر إرميا 31:31-34). وقد أورد كتَبَةُ العهد الجديد فصولاً عديدة تفيد هذه الحقيقة المجيدة وهي تحريرنا من عبودية الناموس الطقسي (قابل أعمال 15:7-11 وكولوسي 2:16 و17 وأفسس 2:15).
وتتَّفق سلسلة الآيات هذه مع ما جاء في رسالة غلاطية حيث يوبخ بولس المؤمنين المتزعزعين على تمسّكهم بالفروض القديمة التي تقضي بضرورة حفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين. فما يُستفاد من تعليم بولس هو أن تلك الفرائض كان يجب حفظها طالما كان الناموس المختصّ بها سارياً، أي في العهد القديم. ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه (غلاطية 4:4) وإذ ذاك بَطُل عهد الناموس الطقسي، وتوقَّفت الفرائض الطقسية التي أعطاها الله بواسطة موسى. فالكتاب بجملته يفيد ويؤكد أن الناموس الطقسي كان سارياً إلى وقت مجيء المسيح فقط. إن الفصلين صادقان. فبولس يتكلم عن الناموس الطقسي، والمسيح يشير إلى الناموس الأخلاقي.
قال المعترض: »أعلن المسيح في متى 5:17 أنه لم يأتِ لينقض الناموس بل ليكمله. ولكن يناقض هذا قول العبرانيين 7:18 »فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها«..
وللرد نقول: تقدم الموعظة على الجبل (التي اقتبس المعترض منها متى 5:17) مثلاً بعد آخر يبرهن أن المسيح أكمل الناموس والأنبياء ولم ينقضهما. ولا زلنا نحن المسيحيين نحترمهما ونقرأهما في عبادتنا بالكنائس.
أما ما جاء في العبرانيين 7:18 فيتحدث عن أحد أجزاء الشريعة التي بطلت بعد تحقيق الغرض منها، مثل الذبائح التي طالبت شريعة موسى بها، وكانت تشير إلى حاجة البشر لذبيحة المسيح الكفارية. فلما تمَّت ذبيحة الصليب لم تعد هناك حاجة للذبائح التي طالبت شريعة موسى بها.
لقد كانت أجزاء الشريعة التي بطلت مثل الشيك على البنك، تبطل قيمته بعد صرف المبلغ من البنك. ونحن لا نقول إن البنك ألغى الشيك، بل أكرمه بأن دفع قيمته.
ولم يكن ناموس موسى للعالم كله، ولكنه كان عهداً بين الله وبني إسرائيل. أما ما به من مبادئ فأزلي دائم. فالمبادئ دائمة، لكن تفاصيلها تناسب عصرها وظروفها.
قال المعترض: »جاء في متى 5:22 »من قال لأخيه: رقا، يكون مستوجب المجمع، ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم«. ولكن المسيح قال للفريسيين إنهم حمقى (متى 23:17) وقالها بولس لأهل كورنثوس (1كورنثوس 15:36) ولأهل غلاطية (3:1)«.
وللرد نقول: ليس المهم في الكلمة التي تُقال، بل في روح قولها. والذي ينهانا المسيح عنه هو قولة الغضب لإذلال الناس والسخرية منهم والإقلال من شأنهم. ولكن كلمة التوبيخ الذي يريد الصالح العام، بدافع الرغبة في الإصلاح، هي كلمة لازمة. كان المسيح وبولس يصفان مستمعيهما، لا بهدف تفشيلهم، بل لإبعادهم عن تصرفات الحماقة.
قال المعترض: »جاء في متى 5:39 »وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً« ولكن جاء في لوقا 22:36 »فأقول لكم الآن: من له كيس فليأخذه، ومذود كذلك. ومن ليس له فليبِع ثوبه ويشتري سيفاً«. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: من يدَّعي وجود تناقض بين هاتين الآيتين يعوزه الفهم الروحي. في متى 5:39 يقول المسيح ما معناه: »إذا وقع عليك اعتداء فتحمَّلْهُ بكل صبر، ولا تقابلْهُ بالنقمة«. هذه العبارة المقتبسة من موعظة الجبل تسبق مباشرة أمر المسيح لتلاميذه بمحبة الأعداء. فبقوله: لا تقاوموا الشر، يشير إلى إحدى الطرق التي بها نُظهر المحبة للأعداء. فإذا وقع علينا ظلم يجب أن نقابله بالمحبة لا بالنقمة. فبدلاً من أن نسيء إلى من يعتدي علينا يجب أن نخدمه بحسب حاجته، إظهاراً للمحبة.
وهنا يسأل سائل إذا سطا على بيتنا لصّ، ألا يجوز أن نستغيث برجال الشرطة، أم هل نترك أمتعتنا للنهب؟ وردّاً على هذا نقول: في مثل هذه الأحوال يجب أن ننقاد بروح المحبة والرأفة، لا بروح الحقد والانتقام. إذا أضرم عدو ناراً في بيتنا مثلاً، فمحبتنا لذوينا توجب علينا إخماد النار. وعملٌ كهذا تقضي به حتى محبتنا لأعدائنا، لأننا إن قصرنا في إخماد النار يزداد الشر الذي قصده العدو. والخلاصة أن المسيح يقصد تعليم هذا المبدأ »اغلب الشر بالخير« (رومية 12:21). وعلى هذا فإن محبتنا لِلّص تجعلنا نوقفه عن السرقة، ومحبتنا للكاذب تجعلنا نوقفه عن الكذب، ومحبتنا للدكتاتور تجعلنا نوقفه عن دكتاتوريته.. كما أن محبتنا للشخص المسروق تجعلنا نحميه من أن يسرقه اللصوص، ومحبتنا للمخدوع تجعلنا نحميه من الذي يكذب عليه، ومحبتنا للمظلوم تجعلنا نحميه من الذي يظلمه. والمحبة إيجابية فعّالة.
نحتاج إذاً إلى روح تمييز لنعرف كيف لا نقاوم الشر، وكيف نقاوم الشر. فإن الطريقة التي بها نظهر المحبة للأعداء يكون الحكم فيها بحسب الظرف الواقع.
قال المعترض: »في متى 5:48 يطالبنا المسيح أن نكون كاملين. وهكذا يطالب الرسول بولس المؤمنين في فيلبي 3:15. ولكن بولس في فيلبي 3:11 و12 يقول إنه لم يصل للكمال«.
وللرد نقول: الكمال المطلوب هو كمال النيّة في طاعة الله، إذ يريد الإنسان بكل قلبه وإرادته أن يطيع. والكمال الذي لا يبلغه الإنسان هو كمال النضوج المسيحي، فكلما بلغ درجة من الكمال وجد درجة أعلى لم يبلغها بعد. فعلينا بكل النيّة أن نسعى وراء الكمال، عالمين أننا لم نبلغ القمة بعد، فنظل طول عمرنا نتقدم للأمام.
قال المعترض: »جاء في متى 6:7 و8 »حينما تصلّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم، فإنهم يظنّون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبَّهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه«. ولكن جاء في متى 18:1 »ينبغي أن يُصلّى كل حين ولا يُملّ«. يقول أحد الفصلين صلوا بالإيجاز، ويقول الآخر: صلوا على الدوام وبلا انقطاع«.
وللرد نقول: بقليل من التأمل نكتشف أنه لا تناقض بين القولين، فمتى يتكلم عن صلاة ظاهرية قاصرة على مجرد كلام. وقد زعم الأمم أن قيمة الصلاة في عدد كلماتها وكثرتها، ولذا كانوا يكررون أقوالاً وعبارات كثيرة بطريقة ميكانيكية دون أن تعبّر أقوالهم عن معانٍ في قلوبهم، فوبَّخ المسيح مثل هذه الصلاة.
ولكن توجد صلاة مستمرة مقبولة عند الله ومرضيّة أمامه، هي صراخ القلب إليه باشتياق وإخلاص. وصاحب هذه الصلاة لا يفشل ولا يمل ولا يتوقَّف إذا أبطأ الرب في الإجابة. على أن المؤمن عند عدم استجابة صلاته سريعاً معرَّض لخطر الشك في استماع الله له فيكفّ عن الصلاة. ولذا يحثّنا المسيح في لوقا 18:5-7 على الاستمرار في الصلاة حتى ولو ظهر كأن أبواب السماء موصدة في وجوهنا. والخلاصة أن المسيح يوبخ صلاة الأمم المطوَّلة المجرَّدة من المعنى وما يشابهها. ويحضّ على اللجاجة في الصلاة الصادرة من قلب واثق مخلص.
وجاء في 1تسالونيكي 5:17 »صلّوا بلا انقطاع« بمعنى أن تكون حياة المؤمن كلها حياة صلاة، وأُنساً دائماً بالله. وقد يظهر هذا الأمر مناقضاً لتعليم المسيح عن بطلان كثرة الكلام (متى 6:7)، ولكن المتأمِّل يرى أن المسيح يعلّمنا أنه من الخطأ أن نظن أن كثرة الكلام تزيد الله علماً باحتياجاتنا، لأنه يعرفها كلها قبل أن نعرفها نحن. ولكن في 1تسالونيكي 5:17 يتكلم بولس عن حالة القلب، فيحضّنا أن نحيا دائماً في جوّ الصلاة، فنفتكر عن الله وننشغل به كما يفعل الطفل من جهة أبويه. فيجب أن نرغب على الدوام في بَسْط كل مسائلنا ومشاكلنا أمامه، والانقياد على الدوام بكلمته وروحه.
هذان الفصلان لا يتضمَّنان أقوالاً متناقضة، بل يؤيدان حقيقتين مهمتين: أولاهما أن الصلاة يجب أن لا تكون ميكانيكية على أساس الظن أن فاعليتها تتوقف على كثرة الكلام. والثانية أن حياة المسيحي يجب أن تكون حياة صلاة غير منقطعة وأنساً دائماً بالله.
قال المعترض: »ورد في متى 6:13 »ولا تُدْخلنا في تجربة لكن نجِّنا من الشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين«. وقد أُضيفت جملة »لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد« في ما بعد، ولا توجد في التراجم اللاتينية ولا في غيرها«.
وللرد نقول: هذه الجملة تسبيحة وتمجيد لله، وهي ثابتة في نسخ عديدة قديمة. ومما يدل على إنها أصلية وليست ملحقة: (1) كان اليهود يختمون صلواتهم بجملة تسبيحات تشبه الصلاة الربانية. قال آدم كلارك: »ثبت عندي أنها أصلية لقدمها«. (2) لأنها ثابتة في نسخ عديدة.
قال المعترض: »ورد في متى 6:18 »فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. قال آدم كلارك إن كلمة »علانية« زائدة، وإن كرسباخ ووتستين وبنجل أسقطوها من النص«.
وللرد نقول: تكلم المسيح في أول متى 6 عن الصَّدقة والصلاة والصوم، وقال: »متى صنعت صدَقةً فلا تصوِّتْ قدامك بالبوق« إلى أن قال »فلا تعرِّفْ شمالك ما تفعل يمينك«. ثم قال في آية 4 »لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. ثم تكلم عن الصلاة فقال في آية 6 »ومتى صليت فادخُل إلى مخدعك واغلق بابك وصلّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. ثم تكلم عن الصوم وقال في آيتي 17 و18 »وأما أنت فمتى صُمْت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. فترى أن الحديث كله جرى على نسق واحد. ولو حُذفت كلمة »علانية« من العبارة الثالثة لدلَّت عليها العبارتان السابقتان. فسياق الكلام يستلزم وجودها لفظاً أو تقديراً. ولا ننكر أن هذه اللفظة المذكورة في آية 18 لم تثبت في بعض النسخ، ولكنها ثبتت في غيرها، وسياق الكلام يدل عليها.
قال المعترض: »جاء في متى 6:31 »فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟« ولكن جاء في 2تسالونيكي 3:12 »فمثل هؤلاء نوصيهم ونعظهم بربنا يسوع المسيح أن يشتغلوا بهدوء ويأكلوا خبز أنفسهم«. يظهر هنا كأن المسيح يعلّم عدم التدبير، بينما بولس يلوم على هذا«.
وللرد نقول: لم يقصد المسيح في متى 6:31-34 أن يعلّمنا الكسل والإهمال والإسراف، وإنما يوصينا أن لا نشغل قلوبنا بهموم هذه الحياة. وهذا ما نستفيده من آيات كثيرة في العهدين القديم والجديد، فيقول مزمور 127:2 »باطلٌ هو لكم أن تبكروا إلى القيام، مؤخّرين الجلوس، آكلين خبز الأتعاب. لكنه يعطي حبيبه نوماً«. ويقول مزمور 55:22 »ألقِ على الرب همّك فهو يعولك. لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد«. ونقرأ في فيلبي 4:6 »لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى الله«.
ثم إن 2تسالونيكي 3:12 لا يعلّم الطمع أو البُخل أو اشتهاء الأشياء الأرضية، بل يحرّض المؤمنين على الاجتهاد في العمل حتى لا يفتقروا فيصبحون عالةً على الآخرين. فنرى أن هاتين الآيتين تتكلمان عن وجهين لموضوع واحد. فالمسيح ينهى عن اشتهاء الأشياء الأرضية والسعي وراءها، وبولس ينهى عن التقاعد والكسل.
ونجد توحيداً لهاتين الوجهتين في تعليم بولس في 1كورنثوس 7:29-31. فعلى المؤمنين أن يعملوا باجتهاد دون أن يكونوا مستعبَدين لأشغالهم. وعلى كل مؤمن أن يتمم عمله بحسب الدعوة التي تلقّاها من الله، ذاكراً أن وطنه في السموات (انظر فيلبي 3:20 و21). فعلينا إذن أن نعمل لاكتساب معيشتنا، وأن نتذكر في الوقت نفسه أن الله يمدّنا بكل ما نحتاج إليه.
قال المعترض: »ورد في متى 7:14 »ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه«. وورد في 11:29 و30 »احملوا نيري عليكم وتعلَّموا منّي، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف«. وفي هذا تناقض«.
وللرد نقول: المسيحية منزَّهة عن الفرائض الثقيلة لأنها ديانة روحية لا تقوم بالأعمال الخارجية، غير أنها تعلِّم المؤمن أن يترك الخطية والشرور، التي هي سبب البلايا. فهي صعبة بالنظر إلى قداستها التي تطالب المؤمن بها أن يصلب الجسد وشهواته. ومع ذلك فهي سهلة لأن الباعث الأصلي والعامل الحقيقي فيها هو المحبة. فإذا وُجدت المحبة في المسيحي رأى لذةً في طاعة الأوامر وترك الخطايا بسهولة، وهان على المحب كل شيء . فنير المسيح هيّن وخفيف، وهذا لا ينافي أن الطريق المؤدي إلى الحياة هو صعب وكرب، ولاسيما على الذين فضّلوا محبة العالم وانغمسوا في الرذائل.
اعتراض على متى 8 - متى هاج البحر؟
انظر تعليقنا على مرقس 4:35-41
قال المعترض: »جاء في متى 8:4 أن المسيح قال لأبرصٍ شفاه »انظر أن لا تقول لأحد« وجاء في متى 16:20 عن المسيح »حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحدٍ إنه يسوع المسيح«. وتكرر الأمر بإخفاء الحديث في متى 17:9 ومرقس 7:36 و8:30 و9:9 ولوقا 5:14 و8:56 و9:21. وهذا يتناقض مع وصية المسيح الأخيرة في متى 28:19 » اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم«.
وللرد نقول: الأمر النهائي للمسيح كان إعلان رسالة الإنجيل للعالم كله. وقبل الصليب أمر المسيح أحياناً بإعلان أخبار معجزاته وتعاليمه، كما قال للمجنون الذي شفاه: »اذهب إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك« (مرقس 5:19). ولكنه في مرات أخرى، أمر بعدم الإعلان أو أمر بتأجيله لحكمة عنده، كما قال مرة لبعض تلاميذه عن حادثة التجلي: »لا تُعلِموا أحداً بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات« (متى 17:9 - قارن مرقس 9:9). لقد كان الناس يتبعونه بحماس كقائد سياسي، فطلب منهم مرات عدم الإعلان حتى يتمم خدمته في هدوء، كما يشرح لنا البشير في مرقس 7:36 »فأوصاهم أن لا يقولوا لأحد، ولكن على قدر ما أوصاهم كانوا ينادون أكثر كثيراً«. وقد اضطرته حماسة الجماهير أن يعتزل في البراري (لوقا 5:14-16)، لأنه لم يكن المحرر السياسي لليهود، بل المخلِّص الروحي للعالم كله.
قال المعترض: »يقول متى 8:5-13 إن قائد المئة جاء إلى المسيح بنفسه، بينما يذكر لوقا 7:1-10 أنه أرسل شيوخ اليهود يحملون رسالته للمسيح. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: لا تناقض، فقد طلب قائد المئة طلبته من المسيح بواسطة شيوخ اليهود. وقد يكون أنه جاء للمسيح بنفسه بعد أن أرسل شيوخ اليهود، فلما أبطأوا عليه توجَّه بذاته. واقتصر البشير متى على ذكر طلب قائد المئة لأنه الطالب الحقيقي، أما لوقا فذكر مساعي أئمة اليهود، لأنهم أول من فاتح المسيح في شفاء الغلام. ومن الأمور القانونية المقرّرة أن ما يفعله الإنسان بواسطة غيره يُنسب إليه فعله، لأنه يكون السبب فيه، وما يعمله الوكيل يُنسب إلى موكله. كما أن تلاميذ المسيح عمَّدوا الناس، وعُزي العماد للمسيح (يوحنا 4:1).
قال المعترض: قال المسيح: »للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه« (متى 8:20)، فوصف نفسه بأنه »ابن الإنسان«. وقد جاء هذا اللقب عنه في إنجيل متى 30 مرة، وفي مرقس 15 مرة، وفي لوقا 25 مرة، وفي يوحنا 12 مرة.. وهذا يعني أنه كان إنساناً عادياً، وليس هو الله«.
وللرد نقول: وصف المسيح نفسه بأنه ابن الإنسان، ليس لأنه كان إنساناً عادياً، لكن لأنه اتَّخذ جسد إنسان لما وُلد من العذراء القديسة مريم. وكان في هذا الجسد رفيقاً للإنسان ومحباً ومعلّماً له، كما سيكون فيما بعد ملكاً على الإنسان. ومما يدل على أن ابن الإنسان هو ابن الله الأزلي، أنه عُرف بهذا اللقب من قبل ميلاده. فقد ظهر لدانيال النبي في هيئة ابن الإنسان سنة 500 ق.م. فقال دانيال: »كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سُحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى قديم الأيام، فقرَّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض« (دانيال 7:13 و14).
قال دانيال النبي عن المسيح إنه »ابن إنسان«، ولم يقل إنه »ابن الإنسان« (بأل التعريف)، لأنه لم ينظر إلى المسيح في علاقته مع الناس، بل من حيث المظهر العام الذي كان يبدو به في الرؤيا، والذي كان عتيداً أن يبدو به بالتجسد، في يوم من الأيام.. أما »قديم الأيام«»قديم الأيام« للتمييز بين »الابن« في ناسوته الحادث، والله أو اللاهوت في أزليته التي لا بدء لها. وهذه نبوَّة عن مجيء المسيح في آخر الدهور، لتسلُّم زمام المُلك في العالم. ومن البديهي أنه وحده هو الذي يحقّ له أن يقوم بهذه المهمّة، لأن الذي خلق البشر وصنع لهم خلاصاً من خطاياهم، هو الذي يتولى المُلك عليهم ومحاسبتهم على أعمالهم. ومن البديهي أيضاً أنه سيقوم بهذه المهمّة، بوصفه ابن الإنسان الظاهر في الجسد، لأنه بهذا الوصف هو القائم بإتمام مشيئة الله بين الناس، ولأن محاسبة الله (في جوهره غير المدرَك) للناس، تكون موضع اعتراض منهم، لأنه سبحانه (من هذه الناحية) لم يشاركهم في طبيعتهم البشرية التي يتعرضون بسببها للخطأ، لكن لا يكون هناك اعتراض إذا قام بهذه المهمة الله المتأنس أو ابن الإنسان. وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة فقال: »لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان« (يوحنا 5:22 و27). فهو الله في أزليته، وابن الإنسان هو أقنوم الابن في المركز الناسوتي الذي كان عتيداً أن يأخذه، وهذا هو مركزه أن يُقال عنه إنه اقترب إلى
وقد أطلق المسيح على نفسه لقب »ابن الإنسان« بمعنى »ابن الله« مرات متعددة أمام رؤساء اليهود الذين اجتمعوا لمحاكمته، فقال لهم: »مِنَ الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء« (متى 26:64) مشيراً بذلك إلى أنه المقصود بابن الإنسان الذي تتعبد له كل الشعوب، والذي تنبأ عنه دانيال النبي من قبل. ومما يدل على أن رؤساء الكهنة فهموا قَصْد المسيح من إطلاق لقب »ابن الإنسان« على نفسه، أنهم عندما سمعوا قوله هذا، مزَّق رئيس الكهنة ثيابه قائلاً: »قد جدّف«. وهذا دليل واضح على أن المراد بـ »ابن الإنسان« هو »ابن الله« بعينه.
ويُقصد بالاصطلاح »ابن الله« الله مُعَلناً في كمال ذاته وصفاته. والاصطلاح »ابن الإنسان« يراد به الإنسان معلَناً في كمال الصفات التي خلقه الله بها أولاً. وبما أن الإنسان خُلق في أول الأمر على صورة الله، لذلك فإن »ابن الإنسان« أو »الإنسان الكامل« أو »المسيح« يكون هو صورة الله في الإنسان، أو هو الله ظاهراً في الإنسان، لأن صورة الله ليست في الواقع سوى ذاته، إذ أنه ليست له صورة بعيداً عنها. وقد تبدو هذه الحقيقة غريبة في نظر بعض الناس، لكنها تتفق مع الحق الإلهي كل الاتفاق. ويُراد بالاصطلاح »ابن الله«»أقنوم الابن« في علاقته مع الله أو اللاهوت، كما يُراد بالاصطلاح »ابن الإنسان« »أقنوم الابن« في علاقته مع الإنسان. فإذا ذكرنا أن الإنسان في نظرنا ليس هو الهيكل البشري الخارجي، بل هو مجموعة صفات الإنسانية السامية (لأننا نقول عمَّن تتوافر فيه هذه الصفات إنه »إنسان« أو »الإنسان«، وعمَّن لا تتوافر فيه هذه الصفات إنه »ليس إنساناً«)، اتضح لنا أن الشخص الجدير بأن يُدعى »الإنسان« أو الإنسان الكامل، أو »ابن الإنسان« ، هو المسيح وحده، وذلك للأسباب الآتية:
(1) لم يُولد المسيح بالتناسل الطبيعي مثل الناس، بل وُلد من عذراء، فلا يصحّ أن يُقال عنه إنه »ابن آدم« مثل أحد الناس. فإذا أردنا أن نسند شخصه من جهة الناسوت إلى بشر كابن، فإنه لا يُدعى »ابن آدم« بل »ابن مريم« أو »نسل المرأة« (تكوين 3:15).
( 2) لا يُقصد بكلمة »الإنسان« الرجل وحده، بل يُقصد بها الرجل والمرأة على السواء، لأنها تدل على الإنسان عامة. فتسمية المسيح بـ »ابن الإنسان« لا يُفهم منها أنه »ابن آدم« بل أنه ابن الإنسان عامة، أو ابن الإنسانية وممثّلها، بوصفه المتأنس منها لكي يأخذ بناصرها.
(3) كما أن هناك أبناء كثيرين لله، ولكن المسيح وحده هو »ابن الله«، هناك أبناء كثيرون للناس، لكن المسيح وحده هو »ابن الإنسان«. ولذلك هو وحده أطلق هذا اللقب على نفسه. وتدل كل القرائن على أنه قصد به »المعلِن لله« أو »الله معلَناً«. لأنه أعلن أنه بوصفه ابن الإنسان يغفر الخطايا (مرقس 2:7) ويمنح الخلاص والسلام (لوقا 7:50) ويعطي الأموات بالخطية حياة روحية أبدية (يوحنا 5:25) ويجازي كل واحد حسب أعماله (متى 16:27) وغير ذلك من الأعمال التي لا يقوم بها إلا الله. ومما يثبت صدق هذه الحقيقة أن اليهود استنتجوا من كلام المسيح أن للقب »ابن الإنسان« معنى غير المعنى الذي يتبادر إلى الذهن، فسألوه مرة في حيرة: »من هو هذا ابن الإنسان ؟« (يوحنا 12:34). وما كان للحيرة أن تجد مجالاً إلى نفوسهم، لو كانوا قد علموا أن »ابن الإنسان« هو بعينه »ابن الله«. فهو رب السبت أيضاً (مرقس 2:28).
قال المعترض: »في إنجيل متى 8:18-22 طلب كاتبٌ أن يتبع المسيح، واستأذن رجل آخر لدفن أبيه، ثم جاء ذكر معجزات باهرة أخرى، ثم قصة التجلي في أصحاح 17. أما لوقا فذكر الطلب والاستئذان في أصحاح 9 بعد قصة التجلي«.
وللرد نقول: راعى كل من متى ولوقا ترتيباً في ذكر معجزات المسيح وتعليمه حسب ما ساقه إليهما الروح القدس، فراعى أحدهما الزمان، وراعى الآخر المكان كما يُعلم من سياق الكلام. ولو أن أحدهما أثبت شيئاً ونفاه الآخر لقلنا إن هناك تناقضاً.