سلام المسيح يا ست نعومة الجميلة، وأشكرك يا أمي كثيرا على هذه الكلمات والمشاعر الطيبة ربنا يباركك.
نعم، هذا فيما أتذكر هو السبب أنني أقول يا "أمي" أصلا. ليس لأن سنك كبير ولكن لأنك "راهبة" كما اتفقنا حسب تعبيرك، وكما اشتهى قلبك دائما. اتفقنا أيضا أن الرهبنة ليست لقبا أو زيّا خاصا أو حتى أسلوب حياة مختلف. الرهبنة بالأحرى "موقف قلبيّ". جوهرها وتعريفها، كما تذكرين بالتأكيد، هي أنها "الانحلال من الكل والارتباط بالواحد".
أصلي بالتالي وأتمنى أن نجتهد قليلا يا أمي حتى يكون "الانحلال من الكل" حقيقيا شاملا، بحيث يشفى قلبك تماما وتشفى قلوبنا من التذمر والغضب الذي يصيبك أحيانا. ساعتها ح نقولها حتى بالقبطي ونسمّيكي عن جدارة "تماف نعومة"
مثل الجميلة تماف إيريني ومن قبلها العظيمة تماف مريم وغيرهم من أمهاتنا الكبيرات في الرهبنة.
(طبعا ـ أضيف لأصدقائنا المسلمين خاصة ـ "الانحلال من الكل للارتباط بالواحد" هو جوهر الطريق، وهي كمرحلة فقط مرحلة البداية. بعد ذلك ـ إذا تحقق هذا "الارتباط بالواحد" حقا واستنار القلب بنعمة الله أخيرا ـ تبدأ مرحلة أخرى أجمل وأروع: وهي أن نرى "الواحد" في "الكل"! عندها تسقط بالتالي هذه الازدواجية فلا يبقى واحد ولا كل، ولا انحلال ولا ارتباط، ولا حتى طريق ولا غاية! تفقد كل هذه "المفاهيم" ببساطة معناها. إذا كان الله حقا "في" كل شيء، ليس نظريا ولكن فعليا وواقعيا، فيما يعاين الإنسان بنفسه وفيما يرى ويختبر، فكيف يكون الانحلال من أي شيء للارتباط بأي شيء آخر؟ تزول من ثم كل هذه الثنائيات والتناقضات أخيرا، والتي لا توجد إلا بعقولنا أصلا. تنكشف كل الألغاز والمفارقات التي قد نجدها بالكتاب أو عند الرسل والآباء عموما. لذلك فهذه المرحلة تسمى "الاستنارة" حقا، حيث يستنير العقل نفسه أخيرا ويفقه سر التناقضات الظاهرية التي ربما استعصت عليه فيما قبل.
المهم: بعد أن تزول كل الثنائيات ويتجلّى "الواحد" في "الكل" ويتساوى "الانحلال" و"الارتباط" وتسقط من ثم كل هذه المعاني العقلية، ماذا يتبقى؟ تتبقى فقط الحقيقة الإلهية الأسمى، مشرقة دون انقطاع في قلب الإنسان، رائعة مدهشة باهرة فوق كل وصف أو تعبير أو شرح! المقصود ختاما، باختصار، هو أن الراهب ـ وإن عاش وحيدا أو منعزلا ـ ليس في حالة "رفض" أو "خصومة" حقا مع العالم كما يظن البعض. على الإطلاق. إنه بالعكس في حالة "اتحاد" مع هذا العالم، اتحاد مع الخليقة كلها، لأنه في حالة اتحاد مع القدوس ذاته خالق كل ذلك ومبدأه. إذا كان المسيحي نفسه ـ كل مسيحي ـ هو نور هذا العالم، بقوة هذا الاتحاد الإلهي وسرّه وبركته، فكم بالحريّ يكون الراهب؟)
لذلك نعود لزيارتك يا أمي الغالية دائما، ولابد أن نعود. لأننا، وإن لم نبلغ بعد مرحلة الاستنارة، نعرف أن الله أيضا هنا كما في كل مكان آخر. نعرف أنه في كلماتك هذه ورسائلك، في تصميماتك وصورك، في حروفك وأنفاسك وفي مشاعرك وأفكارك وفي كل نبضة من نبضات قلبك! لذلك أقول دائما إنك في غاية الجمال والبهاء والروعة، بل إن روعتك فوق كل ما تتصورين، لكنك كالعادة طبعا لا تصدقين!
أنت تنظرين إلى هذا "الجسد" الخاطئ الضعيف المريض وهذا "العقل" المحدود المرتبك المشوّش: هكذا تحكمين، وهكذا بالتالي تتألمين وتتذمرين وتعانين. أما ضعفي فأنظر بالأحرى إلى "المسيح" الذي يقف وراء كل هذا مُحبا وديعا مبتسما، أنظر إلى قلبك حيث يسكن، وحيث تفيض فيه بسُكناه بحار الأنوار وتتلألأ دائما شموس المحبة والسلام والفرح!
نعم، إنها فقط الرؤية يا أمي، أو المنظور، أو وجهة النظر. الفرق بين السماء والأرض، بين الجنة والنار، بين الهناء والشقاء، بين ملكوت الله وجحيم الشياطين، هو فقط وجهة النظر. هو فقط هذا الفهم وهذا الوعي بحقيقة وجودنا، على صورة الله ومثاله، مع "نعمة الله" بالطبع أولا وآخرا. لأن نعمة الله هي التي بها تستنير قلوبنا ابتداء ويتحقق لها هذا الوعي وهذه الرؤية. بعد ذلك ـ بجهادنا ونعمة الرب معنا ـ لا يبقى هذا المنظور مجرد منظور أو وجهة نظر، بل ننتقل لنعيش حقا في ملكوت السماء ونحن ما زلنا على الأرض، ويصير "الرب" حقيقة وجودية نحياها في كل لحظة فعليا!
***
أطلنا على أي حال كثيرا وأكتفي من ثم بهذا القدر. أشكرك يا أمي الغالية ختاما على هذا الافتقاد الجميل، وسامحيني لأي غياب أو تقصير. أما "الراحة والمحبة والعزاء والتشديد و..." إلخ، فأنت تعلمين أن هذا كله من الله يا أمي ليس منا أبدا. نحن بالأحرى أحوج منك إلى كل هذا، ومعك نصلي دائما طلبا لمعونة الرب وعنايته وإرشاده. عاطر التحية أيضا وخالص الشكر والتقدير للغالية لمسة يسوع المباركة، برنسيستنا الجميلة التي تشارك دائما في الافتقاد والسؤال عن ضعفي. أمتن لذلك كثيرا يا أختي الغالية ربنا يباركك. تحياتي أخيرا وسلامي لكل الأحباء فردا فردا وعلى المحبة دائما نلتقي. ♥