رد: الروح القدس : الاقنوم الثالث (دعوة للبحث)
16 -
ماذا يعمل الروح القدس لبنيان الكنيسة؟
* يقوم بسبعة أعمال:
(1) ينير: قال الرسول إن البشر «مظلمو الفكر ومتجنّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم» (أف 4: 18). أي أنهم في حالة الجهل والابتعاد عن الله. ولذلك أخذ الروح القدس على نفسه أن ينير عقولهم بكلمة الحق الإلهي المعلَن للبشر إلى أن يتمكن كل إنسانٍ من أن يرى حالته كما هي، ويرى احتياجه إلى الوسائط المعيَّنة لخلاصه. ولا وسيلة للتخلص من تلك الجهالة إلا بهذا العمل الإلهي. ولما كانت كلمة الله فعَّالة وكافية لتقشع ظلمة عقل الإنسان وتنيره وتوضح الحقائق له فيقدر أن يميّز الحق من الباطل ويغلب روح الضلال سُميت تلك الكلمة «سيف الروح».
(2) يُقنع سامع رسالة الإنجيل: يقنعه بأنه خاطئ تحت طائلة العقاب بمقتضى حكم شريعة الله العادلة، وأنه يحتاج لمن ينقذه من غضب الله الآتي. فالإقناع يتلو الإنارة، لأنه يجعل النفس تشعر باحتياجها، وبأنها بدون رحمة الله في حالة الهلاك الأبدي كما قال المسيح: «ومتى جاء ذاك (الروح) يبكّت العالم على خطيةٍ وعلى برٍّ وعلى دينونةٍ» (يو 16: 8).
(3) يجدد: وهو عمل الروح القدس الخاص الذي به نولد ثانية ونبدأ حياة جديدة روحية. وأوضح المسيح هذا العمل الخطير في حديثه مع نيقوديموس (يو 3: 1-8). وسمَّاه بولس «تجديد الروح القدس» (تي 3: 5). وسمَّى الذين تجددوا في المسيح «خليقة جديدة» (2كو 5: 17). وهذه الولادة الروحية هي من أسرار الديانة المسيحية، لأننا لا نشعر بها إلا حين نجد أنفسنا في حياة روحية جديدة وقد كرهنا الخطية وأحببنا القداسة وآمنّا بالمسيح واخترنا طريق الصلاح، فنقول إذ ذاك كالإنسان الأعمى الذي نال البصر «نعلم شيئاً واحداً: : أننا كنا عمياناً والآن نبصر» وعند ذلك نمجد الله على عمله فينا.
(4) يمنح التبني: سُمّي «روح التبني» (رو 8: 15). وهو الدخول في علاقة جديدة مع الله بالولادة الروحية والإيمان بالمسيح، فنصير أولاده ليس لأنه خلقنا فقط، بل لأنه فدانا أيضاً. وبذلك نصير ورثة الله ووارثين مع المسيح. وبما أن الروح القدس هو الذي يُدخلنا في هذه العلاقة، والذي يشهد لأنفسنا أننا أولاد الله، ويعلّمنا أن نقول «يا أبا الآب» وبه نقترب إلى الآب فيكون «لنا قدوم في روح واحد إلى الآب».
(5) يقدّس: وهو فعله فينا، الذي به يطهّرنا من نجاسة الخطية ويجعلنا ننمو في القداسة والمعرفة وجميع الفضائل الروحية «اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم
الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو 6: 11). ويتمم الروح هذا العمل فينا بسيطرته على عواطفنا، ومرافقته لنا على الدوام، وإرشادنا (رو 8: 1-15) حتى تصير أجسادنا هياكل الروح القدس، ويحل روح المجد والله علينا (1بط 4: 14) وبذلك يقوينا في الداخل ويكملنا وينمي فينا أثماره المباركة (غل 5: 22، 23 وأف 5: 18-21). وقد سُمي «روح النعمة» إشارةً لعمله في قلوبنا (عب 10: 29). و«روح القداسة» لأنه يقدسنا (رو 1: 4). و«المعزي» لأنه يعزينا في أحزاننا (يو 14: 26). و«روح الموعد القدوس» لأنه هو الذي يبلغ مواعيد الله إلى قلوبنا، وهو أيضاً عربون إنجازها (أف 1: 13). وسُمي أيضاً «روح الرجاء» (رو 15: 13) ونتوقع الرجاء المبارك بالصبر والثبات حسب قول بولس «فإننا بالروح من الإيمان نتوقَّع رجاء بر» (غل 5:5).
(6) يرشد وينشّط ويقوي على إتمام كل واجباتنا: فهو الذي يُعِين ضعفاتنا، ويشفع فينا بحسب مشيئة الله، ويرشدنا في
الصلاة. «الروح أيضاً يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّاتٍ لا يُنطق بها» (رو 8: 26). وقال يهوذا «مصلّين في الروح القدس» (آية 20).
(7) يقيم أجسادنا في القيامة المجيدة: لأنه «إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام يسوع من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم» (رو 8: 11).
الروح القدس إذاً هو مصدر الحياة الروحية في الإنسان، ومصدر نموّها المستمر، إلى أن يصل المؤمن إلى حالة الكمال عند دخوله السماء وينال النصيب الأبدي المعيَّن لأولاد الله. فيستحق الروح محبتنا وعبادتنا وشكرنا مع الآب والابن إلى الأبد.
17
- لماذا اعتُبر عمل الروح القدس في قلوب البشر من أسرار المسيحية؟
* اعتُبر كذلك لسببين:
(1) لأن عمله الفعّال في البشر يتم بطريقة لا يمكننا أن ندركها بعقولنا. «الريح تهبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي وإلى أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح» (يو 3: 8). فكما أننا لا نقدر أن نرى الهواء، وإنما نستدل على وجوده من تأثيره ونتائج قوته، كذلك لا نقدر أن نرى الروح القدس، ولكن نستدل على وجوده من نتائجه وثماره في تغيير أفكارنا وإصلاح سيرتنا. ويشبه عمل الروح فينا تأثير العقل في الجسد، فالعقل يسيطر على الجسد ويحرّكه أو يستخدمه كما يشاء بطريقة لا نقدر أن ندركها. ويصدُق هذا أيضاً على تأثير أفكار إنسان على عقل إنسان آخر وحثّه وإقناعه بقوة فعالة. فكما أننا عاجزون عن إدراك هذه الأعمال، كذلك نحن عاجزون عن إدراك عمل الروح القدس فينا وتأثيره العظيم وتحويله أفكارنا متى شاء وكيفما شاء، وإظهاره الحق لنا وإقناعنا به وحثنا على اتّباعه. وإذا كان في طاقة الشيطان أن يحثنا على الشر ويغوينا ويلقي تجارب قوية في قلوبنا، أفليس في طاقة الله أن يرشدنا إلى الحق ويحثنا على عمل الخير والصلاح بواسطة روحه القدوس؟ أما عجز أكثر البشر عن تعيين وقت تجديدهم وعدم شعورهم بحدوث تلك الولادة الروحية فليس دليلاً على عدم حدوثه، ولو أن المولود ثانية يقدر أن يتأكد ذلك مما يراه من ثمار الحياة الجديدة فيه، ومن تقدمه في معرفة الله ومحبته، ومن الطهارة والقدرة على محاربة الخطية وغلبتها. وحالة الإنسان الجسدية تشبه ذلك، فهو لا يشعر بتكوين جسده ولا بولادته، ولكنه يتأكد أنه حي جسدياً من علامات الحياة الظاهرة فيه، ومن شعوره بشخصيته بين البشر مما يحصل عليه بالتدريج بعد ولادته. فالروح القدس ينير عقولنا ويرشدنا ويحثنا ويبنينا في المعرفة والقداسة بطريقة لا نقدر أن ندركها مطلقاً.
(2) يقترن تأثيره الإلهي ويشترك مع عمل الإرادة البشرية الحرة بطريقة تفوق إدراكنا. فالروح القدس يعمل ما يشاء في البشر ويؤثر فيهم إلى أن يختاروا ويعملوا بمشيئتهم الحرة كما يريد هو. وهو لا يجبرهم أن يعملوا ضد إرادتهم، بل بتأثيره اللطيف يجعلهم يريدون ويختارون نفس ما يريد هو، بطريقة لا تعارض حريتهم التامة، ولا تلاشي مسؤوليتهم في كل أعمالهم. وإذا قيل إن الإنسان في هذه الحالة لا يكون مسؤولاً عن إتمام واجباته الدينية، أجبنا: إن الله يطلب منا أن نتمم باجتهادنا الذاتي نفس الواجبات التي نحتاج إلى مساعدة الروح القدس لإتمامها، فهو يأمر الإنسان أن يتوب ويؤمن ويعيش عيشةً صالحة، ويتحلى بالفضائل الدينية والأخلاقية، مع أنه لا يقدر على ذلك إلا بمعونة الروح القدس. ولا شك أن في ذلك سراً عظيماً نعجز عن إدراكه، فليس في طاقتنا أن نوضح اقتران فعل الروح بفعل الإرادة البشرية، وإن كنا متأكدين من وجودهما ولزومهما، ولزوم الاستناد على مساعدة الروح القدس لنقدر أن نتمم المطلوب منا. مع معرفتنا أن ذلك لا يخلّصنا من مسؤوليتنا أمام الله. وقد حاول البعض التوفيق بين حرية الإنسان ومسؤوليته ولزوم فعل الروح القدس فيه، ولكن اجتهادهم لم يفِ بالمقصود، فمنهم من نبّر على قدرة الإنسان، ومنهم مَنْ نبّر على ضعفه بهدف إعفائه من كل مسؤولية. ويجب أن نحترس من الاعتقاد بقدرة الإنسان بدون معونة الله، ومن الاعتقاد بضعف الإنسان إلى الحد الذي يرفع عنه التكليف والالتزام. ويعلّمنا الكتاب المقدس والعقل السليم أن الإنسان يجب أن يجتهد في إتمام أوامر الله، ويشعر باحتياجه في ذلك لمساعدة الروح، ويتيقن أنه ينالها بالطلب منه بلجاجة، لأن الذي أمرنا بالإيمان والعمل قادرٌ ومستعدٌ على الدوام أن يُعِين ضعفاتنا.