أن تحدث الطبيعة عن الله، فهذا إعلان صامت خفي لا يلتقطه إلا الذين يحرّك الله قلوبهم بالإيمان. ويلتقطون منه فقط ما هو ابدي ثابت. أي ما هو متعلق بالله نفسه كوجوده وبعض صفاته.
أن يتدخل الله، عبر تاريخ الإنسان الساقط المنفي من الفردوس، فيكلم إنساناً ما بطرق متنوعة، فهذا إعلان واضح عن مشيئة الله تجاه هذا الإنسان أو تجاه شعبه، ولكن هذا الإعلان يبقى محدوداً رغم هذا بقدرة المخلوق على تقبّل كشوفات الله، والتعبير عنها والعيش بمقتضاها، أي حمل حياة الله ومشيئته وقدرته.
لذلك فالإعلان الذي يفوق بما لا يُقاس إعلان الطبيعة وكذلك كشوفات الله التي تمّت بالأنبياء، هو إعلان الله المباشر عن ذاته، والذي تمّ في ابنه المتجسد، وبشّر به الرسل: "الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي..." (عبر1: 1-3)
إعلان الله بالابن إذن هو أكثر من نقل كلام الله ومشيئته، إنه مجيء "الكلمة" ذاته، نزول السماء على الأرض، إعلان ملكوت الملك السماوي ومعه التطهير والغفران لخطايا البشر، ورفع الساقطين إلى الأعالي.
الإعلان الإلهي ذاته هو إعلان عن خصوصية دقيقة من خصوصيات الثالوث القدوس، وهي أنّ الابن هو المعلن بامتياز عن الله: "الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18). "وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن. ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت11: 27).
لهذا السبب يدعى الابن كلمة الله وصورته (كولو1: 15) وبهاء مجده الخ... ولهذا السبب عينه فالابن المعلن، الذي هو المعلم والمخلص في العهد الجديد، هو ذاته الذي كلم الأنبياء في العهد القديم وخلّص شعبه وقاده في البرية، لكنّه حينها لم يكن متجسداً:
أنا في البدء ما أكلمكم أيضاً به (يو8: 25)
فإني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا أن آبائنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً وجميعهم شربوا شراباً روحياً لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح (اكو10: 1-4)
هذه الحقيقة التي عبّر عنها الكتاب بطرق مختلفة وشدد عليها الآباء، تؤكد أيضاً وحدة الإعلان الإلهي المتدرج وفق التدبير الإلهي الواحد لخلاص كل أمم الأرض. ولهذا صارت إعلانات الله بالأنبياء مراحل مهيئة لقبول الإعلان العظيم والأكمل بالابن المتجسد يسوع الذي هو الإعلان والخلاص بآن:
"أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو8: 12). "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو14: 6). "لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أنّ هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو4: 42).
إعلان الله الشخصي، بكلمته المتأنس، تبرهنه قداسة يسوع (يو8: 46، لو5: 8) وكمال تعليمه (مت5: 17، 48) وعظمة عجائبه (يو5: 36، 10: 25، 37-38). ويتميز بأنه ينطلق من الله، الحق نفسه، هو الإنسان، وبالتالي يستجيب وحده لبحث الإنسان عن الحق والحياة وحاجته العميقة لهما (لو10: 42). من هنا فكل تفتيش إنساني عن الله أو الحق خارج هذا الإعلان لن يجدي، لأنه سيبقى في نطاق محدودية أفكار الإنسان وتخيلاته.
ولأن معرفة الابن أو الحق هي معرفة شخصية، وليست فكرية أو منطقية، يستحيل الوصول إليها إلا بالتعرف شخصياً وداخلياً على الله، المعلن عنه في الكتاب المقدس، بمعونة قوى أو مواهب الله الثالوث نفسه. إذ الإعلان الإلهي كما قبوله، ككل أفعال الله، هو عمل مشترك للأقانيم الإلهية الثلاثة. من الآب: "طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحما ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات" (مت16: 17) بالابن "ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت11: 27) في الروح القدس: "ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" (اكو2: 12).
واضح أن دور الروح القدس هو المساعدة على تقبل إعلان الابن وخلاصه، وأوله الإيمان بربوبية الابن: "وليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربّ ‘إلا بالروح القدس" (1كو 12: 3). أي الإرشاد إلى جميع الحق، الذي أُعطي من الآب بالابن، وليس إعطاء إعلان أو حق جديد: "وأمّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يو16: 13-15). "المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26).
وبكل تأكيد فالروح القدس يعطي ويعرف لا في العالم بل في الكنيسة جسد المسيح، التي تحمل الإعلان الإلهي وتتناقله جيلاً بعد جيل، وتعيشه بالروح القدس الماكث فيها إلى الأبد: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحقّ الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. أمّا أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم لا أترككم يتامى إني آتي إليكم" (يو14: 16-18).
على هذه الصورة وحدها يمكن أن يبقى إعلان الله بالابن حياً متجدداً، "أمساً واليوم وإلى الأبد" (عبر13: 8)، "له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور آمين" (أفسس3: 21).
المواقف الفلسفية الرافضة لإعلان الله الشخصي والرد عليها: أنكر إمكانية الإعلان الإلهي الشخصي عبر العصور عدد من الأنظمة الفلسفية، ذات الفروع المتعددة. من أشهر القائلين بها:
الطبيعيون (Naturalism): اعتبروا العالم كوحدة مكتفية بذاتها، تخضع فقط لنواميسها الطبيعية. وبالتالي فهي ليست بحاجة ولا يمكن أن تقبل أي تدخل أو تأثير يتجاوز هذه النواميس. من هؤلاء الماديون أي الذين يرفضون وجود الله ويفسرون العالم من خلال حتمية ميكانيكية مادية.
الحلوليون (Panthesim): قالوا إن الكل هو الله ولا يوجد شيء غير إلهي، وبالتالي فلا يمكن أن يعلن الله لكائنات عاقلة لأن هذه هي أيضاً الله. إذ لا يوجد فرق جوهر بين الفكر الإلهي والفكر البشري. ولذلك يجب البحث عن الله أو عن الحقيقة في داخل الإنسان.
التطوّريون (Evolutionism): أشهرهم الهيجيليون. لا يرفضون الإعلان الإلهي ولكنهم يجردونه من معناه المسيحي، معتبرين إياه مجرد محطة في تطور الفكر الذي هو في تقدم مستمر.
الربوبيون (Desim): يقبلون بإله شخصي لكنه غير مبال ولا يتدخل بشؤون العالم، إذ تركه وابتعد عنه بعد أن خلق له النواميس الطبيعية التي تحكمه. وقد تأثر بالربوبيون العقلانيون (Rationalism) البروتستانت الذي أخضعوا مثلهم العالم إلى حكم النواميس الطبيعية الصارمة، فأنزلوا الإعلان الإلهي إلى مستوى الفكر والخبرة الطبيعيين، رافضين كل ما لا يمكن أن يقبله العقل البشري.
اللاأدريون (Agnoticism): ينكرون كل ما يفوق الحواس ويتجاوز الظواهر الطبيعية المألوفة. وبالتالي هم يرفضون وجود الله وأصل الكون والقضايا المشابهة كالإعلان الإلهي لأنها أمور لا سبيل إلى معرفتها.
والغريب كل الغرابة في هذه الأنظمة وأمثالها أنها تنزل الخالق إلى مستوى أخفض بكثير من خليقته. كأن تصبح المصنوعات موجودة والصانع غير موجود، أو أن تتعالى النواميس الطبيعية على مبدعها فتكتفي بذاتها وترفض أي تدخل أو تأثير خارج عنها. أو أن تؤله الخليقة الحاملة طابع النسبية والتقلب والفساد فتصبح هي الأصل والغاية، البداية والنهاية. أو أن يصبح الإله مجرد قوة مبهمة لا شخصية غير عاقلة بينما تتمتع مخلوقاته بالعقل والشخصانية والحكمة. أو أن يتهم الله بالعبث وقساوة القلب، إذ يتخلى عن العالم الذي خلقه تاركاً إياه يتخبط في كوارثه ومآسيه، وهو ما يتناقض مع المحبة والحكمة اللتين تشهد له بهما خليقته. أو حتى أن يصل الأمر لأن يُقال عن الله أن مات بعد أن خلق العالم، فيعطى بهذا للمخلوق الخلود ويرجع السرمدي إلى العدم!
نضيف أن تناقض هذه الأنظمة فيما بينها، هو بحد ذاته دليل وافٍ على التخبط والظلمة التي يعاني منها الإنسان بدون الإعلان الإلهي. "من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو8: 12).