الرجــل الغــريق
"The Drowning Man"
كان العم طوني يعيش وحيدا في بيته البسيط بإحدى المدن الساحلية الصغيرة، وكان رجلا طيبا تقيا يرتاد الكنيسة ويحبه جميع جيرانه. ومضت الحياة هادئة حتى فوجئ الجميع ذات صباح
بإنذار يأتيهم عبر الإذاعة من سلطات الولاية، يحذرهم من إعصار قوي يقترب من مدينتهم ويطلب منهم إخلاءها فورا، فقد ترتفع الأمواج وتغرق من ثم بيوتهم جميعا. اشتعلت المدينة بالحركة، وهرع الجميع إلى سياراتهم ينقلون فيها حقائبهم ومتاعهم وكل ما استطاعوا حمله من أثاث، عدا العم طوني الذي ظل في بيته هادئا ساكنا يصلي للرب في خشوع.
وما هي إلا ساعات حتى ظهر الإعصار بالأفق، وهطلت الأمطار واشتدت الرياح والعواصف، ولكن كانت المدينة خاوية بالفعل إلا من العم طوني وبعض جيرانه الذين تأخروا في جمع حاجاتهم. خرج العم طوني أخيرا يستطلع الأمر، وسرعان ما جاءته سيارة "
جيب" كبيرة تقل إحدى الأسر، ونادوه من السيارة::
«يا عم طوني، تعال اركب معنا فالإعصار شديد، هيا أسرع ماذا تنتظر؟» ولكن العم طوني رفض الركوب معهم، فقط ابتسم في هدوء قائلا:
«الرب معي، أثق بالرب وأثق أنه سوف ينجيني ويحميني». حاولوا معه مرة أخرى ولكن دون جدوى، فسارعوا بالفرار من وجه الإعصار.
أخيرا ضرب الإعصار المدينة، وكان عاتيا مدمرا أطاح بالبيوت والأشجار ورفع موجات البحر فبدأت المدينة كلها بالفعل في الغرق. صعد العم طوني وهو ما زال يتمتم بالصلاة إلى سقف بيته الذي كان يغوص تدريجيا في المياه، ومن هناك رآه طاقم أحد
القوارب فسارعوا لنجدته:
«تعال يا عم طوني سوف ننقذك، هل تستطيع القفز إلى القارب أم نصعد نحن لنحملك؟» لكن العم طوني رفض:
«لا أحتاج قاربكم، بل الرب هو الذي ينقذني ويحميني، اذهبوا في سلام».وحاول معه طاقم القارب مرة أخرى دون جدوى فتركوه في النهاية.
ولكن سرعان ما ارتفعت المياه وسقط العم طوني بين الأمواج الهادرة، بينما كان يتمتم لا يزال بالصلاة. وصارع العم طوني الموج طويلا، حتى ظهرت أخيرا إحدى
طائرات الإنقاذ المروحية التي اقتربت منه ثم خاطبه قائدها عبر مكبر الصوت:
«أيها الرجل هل تسمعني؟ سنلقي إليك بالسلم والحبال فامسك بها وسوف نرفعك». ولكن صاح العم طوني في المقابل:
«اذهبوا لا شأن لكم بي. أنا طوني رجل الصلاة خادم الرب، الرب وحده الذي يحميني وينقذني».
أخيرا.... غرق العم طوني!
وأخيرا ـ بينما في السماء ـ شعر العم طوني بالغضب والمرارة والإحباط الشديد، فانطلق نحو عرش الرب في ثورة عارمة:
«كيف خذلتني؟ كيف تركتني؟ أبعد كل هذه الصلاوات تخليتَ عني؟» واهتزت السماء، وهاجت الملائكة في دهشة من صياح الرجل
«مَن هذا الثائر الغاضب في حضرة الرب؟!» ولكن الرب ضحك
«هذا طوني الحبيب قد جاء أخيرا!» ثم قام إليه مبتسما فعانقه ثم قال له:
«يا عم طوني كيف تخليتُ عنك؟ أرسلت إليك إنذارا فلم تتحرك! أرسلت إليك "الجيب" فلم تركب معهم! أرسلت إليك قاربا فلم تستجب لندائهم! أرسلت إليك حتى طائرة فلم تقبل مساعدتهم! يا عم طوني ماذا كنت تنتظر؟! ماذا كنت تتوقع؟!»
***
قصة "الرجل الغريق" من أشهر القصص بالغرب، يعرفها الصغار قبل الكبار، ولها من ثم أكثر من نسخة حيث تتغير بعض التفاصيل قليلا، ولكن هذه هي النسخة التي أفضلها شخصيا. أقترض بالتالي أن معظم الأحباء هنا يعرفونها بالفعل، ولكن رأيت أن نتذكرها جميعا على أي حال، وأن نعلمها أطفالنا كذلك، حتى ينتبهوا دائما لحضور الرب في حياتهم وإلى عمله المستمر عبر كل هؤلاء الذين من حولهم، يشاركونهم الحياة بالفعل، أو يظهرون هنا وهناك ولو للحظات قصيرة خلال الرحلة الطويلة.
أما على مستوى أعمق قليلا فالقصة تنطوي على نفس المعنى الذي أشرنا إليه مؤخرا في أكثر من رسالة هنا، حول ضرورة أن يخرج الإنسان من "أفكاره" عن الحياة الي "الحياة" نفسها! ضرورة أن يخرج من "مفاهيمه وآرائه وافتراضاته ونظرياته" عن الرب بالأحرى إلى "خبـرة" الرب ذاتها، الخبرة الحية المباشرة هنا والآن بالفعل، كما تتجسد واقعيا في هذا العالم نفسه، حيث تتجلى محبته سبحانه في كل لحظة وتقيض رحماته وبركاته عبر كل هذه القلوب من حولنا!
مساء الأنوار مساؤكم سعيد عاطر مبارك
وكل عام وأنتم جميعا بكل خير