*يوسف البار**صمتٌ يتكلّم*

لمسة يسوع

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
20 أغسطس 2022
المشاركات
5,521
مستوى التفاعل
2,808
النقاط
113
يوسف هو الشخصية التي تكلّم بالصمت، وكشف في هدوئه عن نور عميق وحكمة تفوق الكلمات. الإنجيل لا ينقل لنا كلمة واحدة خرجت من شفتيه، لكنه ينقل لنا حياة كاملة نطقت بالطاعة، والإيمان، والرجاء، والرجولة الروحية التي تعرف كيف تُفسح المجال لعمل الله.
في لحظات كان فيها كل شيء مُهدَّدًاخ—مستقبل زواجه، سمعته، سلام بيته—لم ينفعل يوسف، ولم يتشبّث بحقوقه، ولم يغلق قلبه. وقف أمام سرّ الله بوقار، وسمح للنور أن يدخل إلى قراراته. وهذا ما جعله “بارًا” كما يسميه الإنجيل (متى 1: 19).
البرّ هنا ليس مجرد أخلاق بشرية، بل هو انسجام كامل مع إرادة الله، وثقة بأن الله قادر أن يعمل حين يصمت الإنسان.

*صمت يوسف ليس صمت الغياب، بل صمت الحضور*
الصمت عند يوسف ليس انسحابًا من الحياة، بل هو موقف روحي عميق يُتيح لله أن يتحدّث ويقود.
الصمت الذي يعيشه المتأملون والقديسون ليس فراغًا، بل هو امتلاء من الله.
يوسف عاش هذا الصمت في عمق قلبه.
لم يسعَ إلى تفسير كل شيء، بل إلى الإصغاء.
لم يضغط على السماء لتكشف
أسرارها، بل انتظر أن يكلّمه الملاك.
وفي تلك الليلة، حين قال له الملاك:
«يا يوسف ابن داود، لا تخف» (متى 1: 20)،
أجاب يوسف—ليس بالكلام—بل بالفعل.
قام في تلك الليلة، وأخذ مريم، وحمل الرسالة بكامل تواضعه، وسار بثبات في طريق لا يعرف نهايتها.

*الطاعة الصامتة التي تغيّر التاريخ*
يوسف يعلّمنا أنّ الطاعة ليست ضعفًا، بل قوّة من يسلّم ذاته لله.
لم يناقش، لم يعترض، لم يشترط.
طاعته كانت نابعة من قلب متوازن، يعرف الله، ويثق بعنايته.
هذه الطاعة حفظت مريم.
هذه الطاعة حمت يسوع من بطش هيرودس.
هذه الطاعة قادت العائلة
المقدّسة إلى مصر، ثم أعادتها إلى الناصرة.
ومن خلال هدوء يوسف، انفتح الطريق أمام سرّ التجسد لكي يثمر في العالم.

*في زمن المجيء: ماذا يقول لنا يوسف؟*
يوسف يدعونا اليوم إلى أربعة مواقف روحية جوهرية:

أولًا: الإصغاء قبل القرار
الإنسان المعاصر يعيش وسط ضجيج يلتهم بصيرته. أفكار متشابكة، أخبار متلاحقة، توتر مستمر.
يوسف يعلّمنا أنّ القرار الصائب يولد في صمت القلب، لا في فوضى الخارج.

ثانيًا: الطاعة كفنّ روحي

الطاعة ليست انكسارًا، بل هي خروج من سجن الذات.
يوسف أطاع لأنه وثق بالله أكثر من ثقته بمنطقه.

ثالثًا: الصمت الذي يهيّئ الطريق للنعمة
حين يصمت القلب، يصبح قادرًا أن يرى.

الكلمات الكثيرة تشتّت، أما الصمت فيجمع.
يوسف برهن أن الله يعمل كثيرًا في المساحات التي نتركها له.

رابعًا: الخدمة بدون ضجيج
يوسف خدم العائلة المقدّسة دون أن يطلب تقديرًا أو تصفيقًا.
كان حضورًا ثابتًا، وقامة روحية تحمي دون صراخ، وتبني دون استعراض.

هذا النموذج يصبح اليوم مدرسة لكل أب، ولكل مسؤول، ولكل شخص يشعر بثقل المهمة الملقاة عليه.

*يوسف في حياة المؤمن اليوم*
المؤمن الذي يريد أن يتعلم من يوسف لا يحتاج إلى تغيير عالمه الخارجي بقدر ما يحتاج إلى تغيير داخله.
أن يمارس الصمت وسط العمل.

أن يستقرّ في حضرة الله وسط الضغوط.
أن يصغي لصوت الروح في قراراته الصغيرة والكبيرة.
أن يتعلّم أن الله يقود بخطوات هادئة، ويكفي أن نسير معه يومًا بعد يوم
.

يوسف يقول للمؤمن:
لا تخف من الأيام التي يبدو فيها كل شيء غامضًا.
لا تستسلم للضجيج الذي يحاول خطف سلامك.
اسمح لله أن يفسّر لك ما تعجز أنت عن فهمه.
اخرج من ذاتك، واترك لله المبادرة.
فالله قادر أن يحوّل صمتك إلى طريق خلاص، تمامًا كما فعل معه.
بهذا المعنى، يصبح يوسف قدوة حيّة، لا بالكلام بل بالفعل، ومعلمًا للجميل في الإيمان: أن نثق بالله في الظل، وأن
نكتفي بالقيام بالمهمة التي أعطاها لنا، بثبات، وهدوء، وورع.

 
التعديل الأخير:

لمسة يسوع

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
20 أغسطس 2022
المشاركات
5,521
مستوى التفاعل
2,808
النقاط
113
: الرعاة*
*قلبٌ بسيط يصبح مكانًا للوحي الإلهي*

الرعاة في إنجيل الميلاد لم يكونوا أصحاب كهنوت، ولا رجال سلطة، ولا من طبقة متعلّمة. كانوا فقراء هذا العالم، يعيشون في العراء، يقتاتون من تعب أيديهم، وتحيط بهم حياةٌ قاسية. لكن، في نظر الله، كانت قلوبهم واسعة بما يكفي لاستقبال سرٍّ عظيم. لهذا اختارهم الرب ليكونوا أوّل من يسمع نشيد الملائكة.
القديس كيرلس الكبير يقول إن الله يختار “الذين لا يملكون شيئًا إلا قلبًا متواضعًا”، لأن هذا القلب هو الهيكل الذي يطلبه المسيح ليولد فيه. أمّا القديس أمبروسيوس فيعلّق بأن الرعاة “كانوا ساهرين في الليل”، ورأى في هذا السهر صورة للمؤمن الذي لا يترك قلبه ينام عن حضور الله.

*الملاك يبدأ كلامه بعبارة جوهرية:*
»لا تخافوا» (لوقا 2: 10).
وكأنّ أول خطوة نحو الميلاد الداخلي هي التحرّر من الخوف الذي يكبّل النفس ويمنعها من سماع البشارة. الخوف هو عكس الإيمان. والخوف هو ما يترك الإنسان منغلقًا على ذاته، غير قادر على رؤية نور المغارة.
الرعاة لم يناقشوا، لم يطلبوا علامات إضافية. الإنجيل يقول:
»فأسرعوا.«
هذا الاندفاع الطفولي نحو النعمة هو ما نحتاجه نحن اليوم. فكثيرًا ما يعرف الإنسان صوت الله، ولكن يتردّد، ويؤجّل، ويقسو قلبه مع الزمن.

*ما الذي يمكننا أن نتعلّمه منهم؟*

أولًا: البساطة التي تفتح الطريق للوحي.
البسيط ليس الساذج؛ بل هو الإنسان المجرّد من التعقيد الداخلي، الذي لا يحمل أقنعة، ولا يخاف من الظهور ضعيفًا أمام الله.
البساطة هي الفضيلة التي تجعل الإيمان ممكنًا. هي التي تُسقط الادّعاء، فتصبح النفس قادرة على استقبال كلمة الله بلا مقاومة. وكما قال الرب:
«أَحمَدُكَ يا أبتِ… لأنّكَ أَخفَيْتَ هذهِ عَنِ الحُكَماءِ وِالأَذْكِياءِ، وَأَظهَرتَها لِلصِّغار» (متى 11: 25).

*ثانيًا: الإصغاء*
الرعاة سمعوا نشيد الملائكة لأنهم كانوا في البرّية، في الصمت، بعيدين عن ضجيج المدن.
الصمت الداخلي هو المكان الذي ينطق فيه الله.
في عالم اليوم، لا يُسمع صوت السماء إلا لمن لديه الشجاعة أن يصنع “برّيته” الخاصة: لحظة صلاة، قراءة هادئة، وقفة أمام المذبح.

*ثالثًا: التحرّك نحو الله*
الإيمان ليس حالة ذهنية؛ هو مسيرة.
الرعاة تركوا قطعانهم. هذا أمر ليس بسيطًا لرعاة الفقر. ومع ذلك، تحرّكوا لأن البشارة تستحق المخاطرة.
في حياتنا، كل خطوة نحو الله تتطلب تخلّيًا: عن عادة، عن خطيئة، عن قلق زائد، عن ألم قديم، عن ثقة مفرطة بالذات.

*رابعًا: الشهادة*
الإنجيل يقول إنهم بعد أن رأوا الطفل “أذاعوا ما قيل لهم”.
البساطة التي تتقبّل النعمة تصبح تلقائيًا شاهدة لها.
الشهادة ليست خطبًا؛ هي حياة متحوّلة، كلمات صادقة، ابتسامة تعكس سلامًا ليس من هذا العالم.

*الرعاة وحياتنا اليوم*
كل مؤمن مدعو أن يكون راعيًا. لا بمعنى المهنة، بل بمعنى القلب الذي يسهر، ويُصغي، ويترك الله يستخدمه.
الرعاة يُذكّروننا أن الميلاد لا يحصل في النفوس المتعالية، بل في النفوس التي تعترف بفقرها.
إنهم يعلّموننا أن نعم الله لا تُشترى بالكفاءة، ولا تُنال بالاستحقاق، بل تُعطى لمن يفتح قلبه ببساطة.
عندما نعيش بروح الرعاة، يصبح الميلاد حدثًا يوميًا، لا ذكرى سنوية. يصبح الله قريبًا، ملموسًا، حاضرًا في التفاصيل الصغيرة: في كلمة نسمعها، في حدث لا نفهمه، في فرح بسيط يبدّد خوفًا قديمًا.

الرعاة هم أيقونة الرجاء. فالذي بدأ رسالته وسط الفقر، يواصل اليوم الظهور في قلوب البسطاء. ومن يصغي، يكتشف أن الملائكة ما زالوا ينشدون… ولكن ليس على التلال، بل في عمق القلب المتواضع.

بهذا المنظور يتّسع التأمل، وتتعمّق رسالة الميلاد في حياة المؤمن، فتضيء طريقه بالصلاة والثقة والتسليم للعناية الإلهية التي تقود كل شيء نحو الخير.

 
أعلى