لا تخف ، بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك لا تخف يا بولس. ينبغي لك أن تقف أمام قيصر ( أع 18: 9 ؛ 27: 24)
نقرأ في سفر الأعمال هذا الوعد المشجع «لا تخف» يُقال مرتين لهذا الرجل الذي كانت طريقه كلها مملوءة بالصعوبات والاهتمامات، والاضطهاد والمقاومة أكثر من أي شخص آخر.
ويمكنك أن تقرأ تقريره عن نفسه في 2كورنثوس11.
في الأصحاح الثامن عشر من سفر الأعمال، نجد بولس في كورنثوس ونقرأ عن المقاومة التي لقيها من اليهود، الأمر الذي كان يمكن معه أن تفتر عزيمته وتضعف همته، لكن الرب يشجعه بالقول: «لا تخف، بل تكلَّم ولا تسكت» ( أع 18: 9 ).
هكذا ينبغي أن يكون خادم الرب شجاعًا يؤدي شهادته بلا خوف، عاملاً بنشاط لأجل الرب.
ثم لما جاء فيما بعد إلى أورشليم وأُودع المعسكر خوفًا من هياج الشعب عليه «وقف به الرب وقال: «ثق يا بولس! لأنك كما شهدت بما لي في أورشليم، هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضًا» ( أع 23: 11 ).
هذا الوعد «ثق» نطق به الرب مرة للتلاميذ قبيل آلامه إذ قال: «في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم» ( يو 16: 23 ).
فحياة المؤمن ليست خلوًا من الشدائد والصعوبات، لكن يسوع المسيح غالب وقد غلب، وفي صعوباتنا يقف إلى جوارنا.
لقد تشجع بولس بهذا الوعد وشهد الشهادة الحسنة أمام الشعب وأمام الحكام، ولكن الرب رأى من اللازم أن يؤيد عبده ويطمئنه مرة أخرى وهو في طريقه إلى روما.
مضى بولس من أورشليم ـ كسفير في سلاسل ـ إلى روما، على ظهر سفينة أقلقتها الرياح الزوبعية الشديدة حتى إن لوقا يكتب قائلاً: «انتُزع أخيرًا كل رجاءٍ في نجاتنا» ( أع 27: 20 ).
وكانت فترة عصيبة جدًا في ظلام وبرد وجوع وتهديد شديد. لكن في وسط هذا الظرف الضيق، نسمع بولس يقول لرفاقه: «الآن أُنذركم أن تُسَرُّوا، لأنه لا تكون خسارة نفس واحدة منكم» ( أع 27: 22 ). هذه كانت ثقة من بولس في الله الذي وقف به في تلك الليلة قائلاً له: «لا تخف يا بولس. ينبغي لك أن تقف أمام قيصر.
وهوذا قد وهبك الله جميع
المسافرين معك» ( أع 27: 24 ).
ليتنا مثل بولس، نضع كل الثقة في إلهنا، وبكل اعتزاز نقول كما قال: «الإله الذي أنا له» ( أع 27: 23 ).
في هذه النسبة ثقة تملأنا طمأنينة وسط أقصى الظروف.
فابتدأ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه! ( مر 14: 71 )
ما أقل ما عرف بطرس، ما نحن بطيئون أيضًا في معرفته، وهو أن «القلب أخدع من كل شيء وهو نجيسٌ»
( إر 17: 9 ).
لقد انخدع بثقته في ذاته ففشل في إدراك كم أن قلبه كان نجيسًا لدرجة أن ينكر سيده بحَلف ولعن لأتفه الأسباب. ولقد سجل الوحي هذه الأحداث المؤسفة بالنسبة لبطرس، لا لكي نتخذها فرصة لكي نقلل من شأن خادم مكرس للرب، لكن لكي نعرف شر قلوبنا ولكي نتحذر لأنفسنا من ذلك.
عندما حذر الرب بطرس من أنه سوف ينكره، عارض بطرس بشدة وافتخر بإخلاصه وتكريسه، ثم بعد ذلك بقليل عندما كان الرب ساهرًا ومُصليًا، نجد بطرس نائمًا، وعندما كان الرب صامتًا أمام أعدائه «كنعجة صامتةٍ أمام جازيها فلم يفتح فاه»، كان بطرس يضرب بالسيف.
وعندما كان الرب يقدم الاعتراف الحَسَن أمام رئيس الكهنة، كان بطرس ينكر الرب أمام جارية ضعيفة. ومع سقوط بطرس وإظهاره لعدم الأمانة، بقيَ الرب أمينًا كما هو.
فبالرغم من كل الآلام التي تحملها لرفض الأُمة له، وخيانة تلميذ مزيف وإنكار تلميذ حقيقي وترك الكل له، ظلت محبة قلبه ثابتة دون أن يعتريها أي تغيير.
وعندما صاح الديك للمرة الثانية، تذكَّر بطرس القول الذي قاله الرب له:
«إنك قبل أن يصيح الديك مرتين، تُنكرني ثلاث مراتٍ».
ولقد كسرت هذه الكلمات قلب بطرس المسكين، فسالت من عينيه دموع التوبة «فلما تفكَّر به بكى». نحن لا نعرف مقدار الخداع الذي في قلوبنا على حقيقته إذ إن نفس الآية التي يُذكر فيها أن «القلب أخدع من كل شيء وهو نجيسٌ» تكمل بهذا السؤال: «مَن يعرفه؟» ( إر 17: 9 )، وفي الحال يقدم النبي الجواب:
«أنا الرب فاحصُ القلوب ومُختبر الكُلى» ( إر 17: 9 ). فذاك الذي يفحص ويعرف، هو الوحيد القادر أن يحفظنا من السقوط، كما أنه القادر على ردّ نفوسنا من حالة السقوط.
وعندما رُدت نفس بطرس عند بحر طبرية، قال: «يا رب أنت تعلم كل شيءٍ» ( يو 21: 17 )،
فهو لن يعود مرة أخرى للتكلم عن حالة قلبه، ولن يعود إلى الافتخار فيما بعد بما سوف يفعله أو سوف لا يفعله، ولكنه سيترك نفسه في يد ذاك الذي يعرف كل شيء، يعرف شر قلوبنا وكل قوة العدو، وهو الوحيد القادر أن يحفظنا من السقوط.
وأما الناموس فدخل لكي تكثُر الخطية. ولكن حيث كثُرت الخطية ازدادت النعمة جدًا ( رو 5: 20 )
إن نعمة الله أشبه بمجرى يندفع من سفح الجبل متغلبًا على المقاومات العديدة التي تعترض سيره، وتلك القوة التي في تياره إنما تنبئ عن وجود نبع ممتلئ يستمد منه ماءه.
فمع أن العوائق التي في طريقه جمة، ولكن هناك نبع لا ينضب يزوده بالفيضان الكافي للتغلب عليها، فيسير بقوة مانحًا حياة ونضارة للوادي الذي يجري فيه.
والمؤمن إذ يرفع عينيه إلى الله أبيه يستطيع أن يقول:
«كل ينابيعي فيك» لأن مجرى النعمة المانحة الحياة الذي قد وصل إلى نفسه إنما ينبع من قلب الله «الله محبة» ( 1يو 4: 8 ) و«حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا» ( رو 5: 20 )، فمجرى تلك النعمة المُزدادة إنما ينبع من محبة الله، ويسير في هذا العالم الذي أقفر بدخول الخطية، وقد فاض هذا المجرى بغزارة عند سفك دم تلك الذبيحة المقدسة، حتى إن عين الإيمان دائمًا ترى نعمة الله ممتزجة بدم المسيح «حتى كما ملكت الخطية في الموت، هكذا تملك النعمة بالبر، للحياة الأبدية، بيسوع المسيح ربنا» ( رو 5: 21 ).
ولكن ما أكبر المقاومات التي اعترضت النعمة من كل ناحية، وكم من المرات قطع مجراها فاتخذت لها مجرى آخر.
إن طبيعة نعمة الله هي على نقيض طبيعة الإنسان المُحب لذاته، فالإنسان يغضب من الله ويُبغض أخاه الإنسان إذا رأى النعمة والبركة توهَب للأشرار المساكين.
وهكذا نرى قايين يغضب ويقتل أخاه، ونرى الابن الأكبر يغضب ولا يريد دخول البيت الذي ملَكت فيه النعمة، وهكذا نرى الإنسان دائمًا يكره النعمة ويتكلم ضدها ويسعى في تحويلها والتخلص منها كما فعل إسرائيل في سيناء، بل في كل أدوار العالم قد قابل الإنسان النعمة بالمقاومة، ولكن لم يستطع شيء أن يُعيق سيرها أو يوقف تيارها لأن نبعها عميق وممتلئ، ألا وهو محبة الله الكاملة!
فالنبع لا ينضب، والمجرى لا يوقف، ولا بد أن تفيض النعمة المجانية فوق كل عقبة وتروي وتنعش هذا العالم المُجدب حتى تصل إلى أقصى الأمم البعيدة.
كان الله منذ البدء يعمل بالنعمة ويخلِّص الذين يؤمنون بكلمته، ولكن قد ظهرت النعمة بأجلى لمعانها بظهور يسوع المسيح الذي جاء «مملوءًا نعمةً وحقًا» ( يو 1: 14 ) و«كان الله في المسيح مُصالحًا العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم» ( 2كو 5: 19 ).
أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة ( يو 12: 46 )
يتفرَّد رب المجد بهذا الوصف الذي لا يرقى إليه سواه، فهو الوحيد الذي يحمل هذا اللقب مُعرَّفًا «النور». فنرى البشير يوحنا يقدمه هكذا:
«إن النور قد جاء إلى العالم» ( يو 3: 19 )، وما أحلى أن المسيح أيضًا هو الذي يُضيء للكنيسة ككوكب الصبح المُنير في أحلك ساعات الليل، ويخطفها إليه لتبقى كالعروس في نور عريسها إلى الأبد ( رؤ 22: 16 ، 17).
أما في الحاضر فإن لهذا النور وجهته الثلاثية التي نلاحظها من خلال ألقابه:
1ـ نور الناس: «فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس» ( يو 1: 4 ). يعرف الله احتياج الإنسان، وهذا النور هو الإشراقة الإلهية لإعطاء الناس (كل إنسان) حياة الله.
(2) نور الأمم «فقد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» ( إش 49: 6 ): إنها دعوة لكل البعيدين، ونور إعلان للأمم الغارقين في الظُلمات، لقد فتح المسيح باب الرحمة والخلاص لكل قبيلة ولسان وشعب وأُمة، مجدًا لاسمهِ.
(3) نور العالم: «أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» ( يو 8: 12 ). إنه النور المُقدَّم للجميع، فالعالم بأسره في أمسّ الحاجة إليه، لكن مَن يتمتع به هو الذي يفتح قلبه ليدخل نور المسيح إليه.
من ناحية أخرى، فإن للنور مميزاته الثلاثية أيضًا:
1ـ نور حقيقي: «كان النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان آتيًا إلى العالم» ( يو 1: 9 ): أي إن كل نورٍ غيره أو ليس نابعًا منه هو زائفٌ، إنه الوحيد الذي يُلقي بضوئه على كل إنسان فيكشف كل ما في داخله.
2ـ نور عجيب: «وأما أنتم فجنسٌ مختارٌ، وكهنوت ملوكي، أُمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تُخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نورهِ العجيب» ( 1بط 2: 9 ): أمامنا نور روحي مُغيِّر، جعلنا بالإيمان به جنسٌ مختارٌ، كهنوت ملوكي، أُمة مقدسة، شعب اقتناء، ما أعجبه من نور!
3ـ نور الحياة «أنا هو نور العالم. مَنْ يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نورُ الحياة» ( يو 8: 12 ). إنه النور الذي يُعطي الحياة الأبدية، فهل امتلكتها، قارئي العزيز؟
وحدث في ذلك الزمان أن يهوذا نزل من عند إخوته ... ونظر يهوذا هناك ابنة رجلٍ كنعاني اسمه شوع، فأخذها ودخل عليها ( تك 38: 1 ، 2)
ترك يهوذا إخوته لينضم إلى عالم الكنعانيين (التجارة) بكل فساد طابعه، وبكلمات الكتاب
«إن يهوذا نزل من عند إخوته»
مُشيرًا إلى طابع طريق الانحدار الذي بدأه، بل ومُنذرًا القارئ بحقيقة أن ما يتبع هذا لا بد أن يتسم بالشر.
فنتائج انحدار يهوذا الإرادي ستكون شديدة، وكان عليه أن يتعلَّم أنه لا يمكن أن يُشبع ملذاته دون حصاد الأحزان. وكان عليه أن يتعلَّم أيضًا أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا ( غل 6: 7 ).
ومن المؤسف حقًا أن نرى هجر يهوذا لأمان العائلة وأفراح صُحبة إخوته، كما كان قلبه قد سبق وابتعد بعيدًا عن أفراح الشركة مع أبيه ( تك 37: 26 ، 27).
والآن ها هو يأخذ خطوة جديدة بها يترك إخوته. لقد رأينا هذا الأمر مِرارًا وتكرارًا مع أولئك الذين فترت قلوبهم فتبعت أقدامهم انحدار أفكارهم مع الوقت. إن القلب التائه عن الله هو فريسة سائغة لخداع البشر وأفكارهم، ومَن يسير بلا شركة مع الله لا بد أن تكون له علاقة بأهل العالم الأشرار.
ثم نرى أن انحدار يهوذا أتى به إلى أوثق الروابط بابنة رجل كنعاني اسمه شوع، فأخذها ودخل عليها (ع2). هنا نجده يكرر خطية عيسو الذي كانت زيجاته سبب مرارة لوالديه ( تك 26: 35 ).
لم يحمل يهوذا أي تقدير للقرار القديم الذي اتخذه إبراهيم حينما قال لعبده: «لا تأخذ زوجةً لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكنٌ بينهم» ( تك 24: 3 )، كما لم يكن لديه أي وازع ندم من أن يتزوج من وثنية «بنت إلهٍ غريبٍ» ( ملا 2: 11 )، أما اليوم فإن المبدأ واضح للمؤمن حيث نجد التحريض في 2كورنثوس6: 14 «لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين».
وكان المعيار الذي اتخذه يهوذا لاختيار زوجته واضحًا من عبارة «ونظر يهوذا هناك ابنة رجلٍ كنعاني اسمه شوع، فأخذها ودخل عليها» (ع2)، تمامًا كما فعل شمشون بعد سنوات كثيرة «ونزل شمشون إلى تمنة ورأى امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فصعد وأخبر أباه وأمه وقال: قد رأيت امرأةً في تمنة من بنات الفلسطينيين، فالآن خُذاها لي امرأة» ( قض 14: 1 ، 2).
لم يكن لديه فكرة الاختيار حسب فكر الرب ( تك 2: 18 ، 24)، وهكذا تحرك يهوذا بدوافع وضيعة «لأن .. شهوة العيون .. من العالم» ( 1يو 2: 16 ).
انموا في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح ( 2بط 3: 18 )
كثيرًا ما يتردد الكلام بين المؤمنين عن النمو الروحي بهدف الوصول إلى النضوج الروحي.
ما معنى ذلك؟
بالنسبة للبعض، النمو الروحي هو ببساطة: معرفة عميقة جدًا بالتعليم المسيحي. وبالنسبة لآخرين يعني النمو الروحي: إمكانية استيعاب الحق وأن تكون أمور الله مألوفة له.
ومع أن معرفة كلمة الله هى أساسية، لكنها في الحقيقة ليست العلامة المميزة للنمو الروحي الحقيقي، لكن عندما يتعظم الرب يسوع في المؤمن بحيث ينشغل أقل فأقل بذاته ليصبح في النهاية صغيراً في عيني نفسه، حينئذ تكون هذه هي العلامة على النمو والنضوج.
يمكن أن تكون لنا معرفة أكثر من كثيرين غيرنا، ويمكن أن نُظهر فهمًا ملحوظًا للحق، ومع ذلك نظل صغارًا روحياً عديمي النضوج كما لو كنا لا نزال مثل الأطفال نوعًا ما. إن الرب يدعونا أن نكون مثل الأطفال أو أن نصير مثل الأطفال، ولكن هذا لا يعني أن نبقى في حالة الطفولة، بل يعني أن نكون في الحالة الروحية اللازمة حتى نقبل كلمة الله بالإيمان وبدون معارضة.
أما البقاء في حالة الطفولة فهو دليل على عدم النمو والنضوج.
عندما ينشغل مؤمن باختباراته أو حتى بحالته الروحية، وعندما يجذب الانتباه إلى نفسه، ويغضب بسبب نعم أو لا، فهو يُظهر بذلك عدم نضوجه.
أما إذا كانت تظهر في حياته ثمار الروح: «محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف» ( غل 5: 22 ، 23) فهو يبرهن على أن الروح القدس يُنشط حياته الجديدة.
إن النضوج الروحي الذي ينتج من العلاقة الشخصية مع الله، سيكون أكثر عمقاً بقدر ما تكون هذه العلاقة مُصانة ونامية.
إن حضور الله يشع في حياة المؤمن الناضج روحيًا، إنه يوحي بالثقة ويبعث الصفاء ويعطي الرغبة في معرفة الرب يسوع المسيح معرفة أعمق.
إن هذه الحالة لا يتم الوصول إليها عن طريق وَصْفات معينة، كما أنها ليست قاصرة على نخبة من المؤمنين تعيش فوق المستوى المشترك للمؤمنين.
إن اكتشاف قيمة محبة الرب يسوع والدخول في معرفة نعمة الله الحقيقية يجب أن يكون من نصيب كل مؤمن.
اخضعوا لله. قاوموا إبليس فيهرب منكم. اِقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. نقوا أيديكم أيها الخطاة، وطهِّروا قلوبكم يا ذوي الرأيين ( يع 4: 7 ، 8)
يتحدث الرسول يعقوب، رسول الحياة العملية والإيمان العملي، عن أربعة شروط للاقتراب إلى الله، اثنان منها ذكرهما قبل أن يتحدث عن الاقتراب إلى الله، واثنان ذكرهما بعده ( يع 4: 7 ، 8)، كالآتي:
(1) اخضعوا لله: بمعنى أن نقبل كل ما يسمح لنا به دون تذمُّر أو عناد. فعندما نتمرد عليه لا يمكننا أن نكون متمتعين بابتسامة رضاه. علينا أن ندرك أن الله يمسك بالخيوط كلها، وهو صالح، ولا يخرج منه إلا الصلاح، حتى إن كنا أحيانًا كثيرة لا نفهم تمامًا معاملاته معنا.
(2) قاوموا إبليس، وهو حتمًا سيهرب منا: وهذا ينبغي أن يسبق اقترابنا إلى الله واقتراب الله إلينا. عبَّر عن ذلك أحدهم فقال: ”على القديس أن يشتاق وأن يصرّ على رؤية ظهر الشيطان، ووجه الله. ومن حق المؤمن أن يتمتع بالأمرين معًا“. وعلينا أن ندرك أنه لا يمكنني أن أقترب إلى الله، بينما أنا في الوقت ذاته أغازل الشيطان، أو أعقد معه صفقة، أو أتجاذب معه أطراف الحديث.
(3) نقوا أيديكم أيها الخطاة: إن كلمات الرسول يعقوب هنا موجهة إلى أشخاص يعترفون بأنهم يعرفون المسيح، ومع ذلك فهناك خطايا عملية في حياتهم. فهل يصلح والحال هكذا أن يقتربوا إلى الله، وأن يتوقعوا اقتراب الله منهم؟
إن هناك حتمية أدبية ينبغي أن تسبق ذلك، وهي أن ينقوا أيديهم، بمعنى أن يُصلحوا أعمالهم. فلن يتمتع بالاقتراب إلى الله شخص سالك في عدم الطاعة أو عدم القداسة. أمثال هؤلاء يدعوهم يعقوب للتوبة، حيث يستحيل الاقتراب إلى الله بخطايا غير مُعترف بها، وغير محكوم عليها.
(4) طهروا قلوبكم يا ذوي الرأيين: وهم أولئك الذين قسّموا قلبهم بين الله والعالم ( هو 10: 2 )، ولذلك فإنك تجد مثل هؤلاء منجذبين إلى النقيضين: الله القدوس، والعيشة في النجاسة!
إنها صورة لشخص لا يوَد أن يترك الاجتماعات أو الفرص الروحية، ولكنه في الوقت ذاته لا يوَد التخلي عن الشهوة الردية المسيطرة عليه. ولقد كان هيرودس الملك نموذجًا صارخًا لشخص ذي رأيين، فقد سمع يوحنا المعمدان بسرور، وفعل كثيرًا ( مر 6: 20 - 28)، دون أن يكون مستعدًا البتة لترك عشيقته هيروديا. هذا الشخص لو اقترب إلى الله وهو على هذه الحالة، فإن الله لن يقترب إليه.
مَنْ أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة .. ليُعرض عن الشر ويصنع الخير ( 1بط 3: 10 ، 11)
تضع أمامنا المسيحية حياة البركة، وهي حياة تقوم على الشركة مع الله. هذه الحياة عيشت في أكمل صورة لها بالرب يسوع، كما استُعلنت في مزمور16 باعتبارها «سبيل الحياة» (ع11)، أو كما يقول المرنم «حبالٌ وقعت لي في النُعماء (أرض المسرة)» (ع6).
فإذا عاش المؤمن هذه الحياة فإنه يرى أيامًا صالحة، وعليه أن «يكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلَّما بالمكر، ليعرِض عن الشر ويصنع الخير، ليطلب السلام ويجِّد في أثَرِهِ». وعندما يفعل ذلك سيجد أنه قد بورك بحسب أحكام الله ومبادئه الأدبية، بينما يتألم مَن يفعل الشر «لأن عيني الرب على الأبرار، وأُذنيه إلى صراخهم، ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر» ( 1بط 3: 12 ).
وبالإضافة إلى ذلك «فمَن يؤذيكم إن كنتم مُتمثلين بالخير؟» (ع13)، فإنه ـ حتى في العالم ـ هناك تقدير للرجل الذي يعمل الخير هادئًا.
ولكن قد يثور التساؤل: إذا كان عمل الخير يقود إلى الازدهار، وعمل الشر يجلب العقاب، فلماذا يحدث غالبًا أن التقي يتألم والذين يفعلون الشر يزدهرون؟ وكيف نجد في الرسالة ذاتها التي تُخبرنا بإحسان الله للبار، أنها تستحضر أمامنا آلام شعب الله بتفصيلات كثيرة جدًا؟
وكيف نرى النص الذي يَعِد بالمواعيد للأيام الصالحة كنتيجة لعمل الخير، يتبعه باحتمال الآلام لمَن يصنع البر؟ ( 1بط 3: 14 - 4: 7).
إن مثل هذه الأسئلة يُجاب عليها، إذا تذكّرنا أنه في زمان النعمة هذا تصبح أحكام الله أدبية وليست عمومًا مباشرة أو فورية. ومن الصحيح أن الحكم الأدبي بمكافأة الخير يكون بالبركة الروحية أكثر من الازدهار المادي.
وبينما يضع الرسول أمامنا إمكانية الآلام لأجل البر، فإنه يُضيف «طوباكم» ( 1بط 3: 14 ). وإذا أردنا أن نرى النتيجة النهائية لأحكام الله، سواء لبركة أولئك الذين يعملون الخير أو بالعقوبة لعاملي الشر، فعلينا أن نتطلع إلى ما وراء المشهد الحاضر، وننتظر العالم الآتي.
وبينما أحكام الله سوف تجري في صورتها الكاملة في وقت آتٍ، ولكنها الآن مُخيفة إلى حدٍ بعيد. وعلى المؤمن أن يتذكر أنه بالرغم من كل ما يبدو معاكسًا، لكن تبقى الحقيقة دائمًا أن عمل الخير سيقود إلى البركة والحزن.
ونحن نختبر بقياس محدود الآن كلاً من البركة والحزن، أما البركة فستُعرف بكمالها في العالم الآتي.
قد فنيَ لحمي وقلبي. صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر ( مز 73: 26 )
بعد أن هَامَ آساف حُبًا في الله، واحتقر كل شيء على الأرض سواه (ع25)، فإنه تحدَّث عما يمكن أن نسميه أكبر مصيبة ممكن أن تُصيب الإنسان. ليس ضياع الأموال، وهي تجربة عسيرة، ولا ضياع الأولاد وهي تجربة أمَرّ جدًا من السابقة، بل ضياع الصحة.
والشيطان الخبيث عرف أن هذا أشرّ ما يُبتلى به المرء، فأبقاه في تجربة أيوب للآخر، وقال بأسلوبه الأناني الشهير: «جلدٌ بجلد، وكل ما للإنسان يعطيه لأجل نفسه» ( أي 2: 4 ). فماذا كان ردّ فعل آساف عندما ضاعت الصحة؟ لا انزعاج ولا اضطراب، بل قال: «صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر».
بهذا القدر الرائع، فإن الشركة مع الله تكفي القديس. إنها تكفيه ليس في الظروف العادية، بل في الظروف القاسية. فآساف يقول هنا: «قد فني لحمي وقلبي»، أي لم يبقَ له شيء على الإطلاق، ومع ذلك فهو متمسك بالله وحده. فالرب ما زال كل شيء له. ولو ضاع الكل، فإن الرب يبقى دائمًا.
والمؤمن في أيام القوة، فإن قلبه ولحمه يهتفان بالإله الحي ( مز 84: 2 ). ولكن يأتي وقت فيه يفنى قلبه ولحمه، لكنه الإله الحي باقٍ لا يتغير. ولذلك فإن آساف يضيف قائلاً: «صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر».
وفناء اللحم والقلب يدل على فناء قوة الطبيعة، وهو بالنسبة لإنسان العالم أمر مزعج، إذ يقرّبه إلى النهاية المُخيفة، والتي لا يتمناها. ولكن بالنسبة لإنسان الله، يعلم أنه مع فناء الخارج، فإن الداخل يتجدد يومًا فيومًا. بل ويعلم أنه حتى ولو نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناءٌ من الله، بيتٌ غير مصنوع بيدٍ، أبدي. وهذا أمر بالنسبة له مُشجع ومُفرح، حتى إن الرسول يقول:
إننا «نئن مشتاقين» لهذا المسكن العجيب الأبدي ( 2كو 5: 1 - 3)!
لقد قال آساف: «نصيبي الله»: وما أعظمه نصيبًا! إنه يقول: إن سر فرحي ليس البشر والأصدقاء، ليس الجاه والشهرة، ليست أمور العالم على الإطلاق، بل الله.
ثم إنه نصيب «إلى الدهر»: أي إنه نصيبه في الحياة، وفي ما بعد الحياة. فهو ليس نصيب للّحظة الحاضرة فحسب، بل هو نصيب أبدي.
أخي العزيز .. إذا ضاعت القوة، فالله هو القوة التي لا تخيب، وإذا فنيَ اللحم، فالله هو النصيب الذي لا يغيب!
أَم لستم تعلمون ماذا يقول الكتاب في إيليا؟ كيف يتوسل إلى الله ضد إسرائيل ( رو 11: 2 )
لقد أدّى انشغال إيليا بنفسه إلى امتلائه بمشاعر قاسية تجاه شعب الله الضال حوله «أم لستم تعلمون ماذا يقول الكتاب في إيليا؟ كيف يتوسل إلى الله ضد إسرائيل!» .. «يتوسل ... ضد إسرائيل»! مادحًا نفسه ومُسيئًا إلى الشعب!
هل يليق هذا بشاهد أمين لله؟ وهل بكلماته هذه يعكس مشاعر قلب الله وطول أناته على شعبه، وعدم رفضه لهم بالرغم من ضلالهم وخطاياهم؟
لقد تكلم «موسى» بطريقة مُغايرة تمامًا، ولذلك من المشجع أن نستمع إلى توسله المؤثر إلى الله من أجل إسرائيل بعد عبادتهم للعجل الذهبي (خروج32، 33).
ومع أنه كان يشعر بالجُرم العظيم الذي ارتكبوه في حق «يهوه»، لكن لم تخرج من فمه في حضرة الله كلمة ردية عنهم. بل على العكس، أصرّ على تذكير «يهوه» أنهم شعبه بالرغم من جُرمهم الشنيع، وأن مجد اسمه مرتبط ببركتهم، وكان مستعدًا أن يمحو الله اسمه من الكتاب الذي كتبه، بدلاً من أن يرفضهم.
فلننتبه إلى هذا المبدأ جيدًا، لأننا أحوج ما نكون إليه اليوم. إن انتفاخ الذات، وانشغالنا بأمانتنا نحن في الشهادة، يُولِّد مشاعر خطيرة في قلوبنا تجاه شعب الله حولنا، تجعلنا لا نصلح أن نتوسل إلى الله من أجلهم.
وهل يدهشنا أيضًا، إذا أثمرت مشاعرنا غير اللائقة تعليقات الناس الساخرة «صحيح أنكم أنتم شعبٌ (الشعب)، ومعكم تموت الحكمة!» ( أي 12: 2 ).
وفي حالة إيليا كان لشكواه نتائج مختلفة تمامًا عما كان يتوقع. «فقال له الرب: اذهب راجعًا في طريقك ... وامسح أليشع بن شافاط ... نبيًا عوضًا عنك». دروس خطيرة هذه، وما أسعدنا إذا تعلمناها بحق!
فتعظيمنا لأهمية أنفسنا في الشهادة يؤدي إلى الاستغناء عنا كشهود كُلية، وأن يأخذ آخرون مكاننا.
ألا نرى هذا يحدث للأسف؟ ألا نسمع البعض يقول نحن الشهود الأمناء، نحن كنيسة فيلادلفيا، كل ما عدانا تقريبًا هو في كنيسة لاودكية. والنتيجة المُحزنة هي أننا عندما نبحث عن عمل روح الله الخاص، لا نجده في الذين يمدحون أنفسهم هكذا، بل بين الآخرين الذين لديهم
معرفة أقل بكلمة الله كحروف.
وهي نتيجة حتمية لسماحنـا لأنفسنا بالتعدي على مكانة الله في عقولنا وقلوبنا «وأما مَن افتخر فليفتخر بالرب. لأنه ليس مَن مدح نفسه هو المُزكى، بل مَن يمدحه الرب» ( 2كو 10: 17 ، 18).
مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام ( أف 4: 3 )
ما أعظم غبطة جماعة القديسين!
لقد افتُدوا من الدينونة، وفُصلوا عن طريق هذا العالم الشرير بواسطة دم المسيح الثمين، وأصبح لهم أن يتمتعوا بفرح الخلاص المشترك!
إنهم إخوة في عائلة واحدة، لأنهم أبناء لآب واحد، وهم أيضًا أعضاء بعضهم لبعض لأنهم إذ ”اعتمدوا بروح واحد إلى جسد واحد“ صاروا جميعًا أعضاء في جسد المسيح على السواء، وإذ قُطعوا من محجر العالم، ونالوا الحياة بواسطة صوت ابن الله أصبحوا حجارة حية في الهيكل المقدس الواحد «مبنيين معًا مسكناً لله بالروح».
وإذ خُتموا بالروح القدس صارت لهم شركة مع الآب والابن وشركة مع بعضهم البعض أيضًا.
وقد أخذوا نعمة فوق نعمة، من الملء الذي في المسيح، فامتلأت قلوبهم بالفرح، وفاضت بالمحبة، وانطلقت بالتسبيح المشترك، بذلك تمثل شركة القديسين على الأرض سعادة السماء بصورة حقيقية مصغَّرة، وأفراحهم تتضاعف بتقاسمهم إياها، كما أن أحزانهم تُخفَف بمشاركة بعضهم لبعض فيها. وبحسب المقياس الإلهي كل ما للفرد يمتلكه لحساب الجماعة، وكل ما للجماعة هو للفرد.
لكل واحد نصيب في أفراح المجموع، وإذ صاروا جميعهم واحدًا، وأصبحوا شركاء المسيح في ميراثه، يُقال عنهم بحق «كل شيء لكم».
وإذ اندمجوا في «جسد واحد» وسُقوا «روحًا واحدًا»، فقد ارتبطوا معًا بعواطف ومشاعر ذلك الروح الحي الواحد، وبذلك صار الفرد يصلي لأجل المجموع، والمجموع يصلّون لأجل الفرد.
والجسد كله يتغذى بما يقدمه كل عضو وكل مفصل ”لبنيانه في المحبة“.
ولا مجال للتفاخر أو التنازع بين القديسين، لأني لماذا أحسد ما هو لي؟ لماذا أحتقر ما يخدم مصلحتي؟ وكيف أحاول أن أكيد لمَن أذيّته تؤذيني؟
هل يمكن أن ينشأ خصام بين أعضاء الجسد الطبيعي؟ كلا، لأن جميعها تخدم بعضها البعض، فإذا تألم عضو شاركته بقية الأعضاء وعملت على تخفيف آلامه بغير ضجر.
يا رب أَتحِد قديسيك هكذا في شركة قلبية وعاطفة رقيقة نحو بعضهم البعض، ابعد يا رب عنا كل شقاق، واربط قلوبنا بروحك القدوس بالمحبة الأخوية. لا تسمح أن يؤثر العُجب أو روح التحزب أو الروح العالمية في أعضاء جسدك.
وَإِلَهُ السَّلاَمِ الَّذِي أَقَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ رَاعِيَ الْخِرَافِ الْعَظِيمَ، رَبَّنَا يَسُوعَ، بِدَمِ الْعَهْدِ الأَبَدِيِّ ( عب 13: 20 )
إذًا يا إخوتي الأحباء، كونوا راسخين، غير متزعزعين، مُكثرين في عمل الرب كل حينٍ، عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب ( 1كو 15: 58 )
تكلم العهد الجديد عن المسيح كالراعي مستخدمًا ثلاثة ألقاب هي: الراعي الصالح، والراعي العظيم، ورئيس الرعاة.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ قول المسيح عن نفسه: «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» ( يو 10: 11 ). كما يقول الرسول بولس: «وإله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم، ربنا يسوع، بدم العهد الأبدي» ( عب 13: 20 ). ويختم الرسول بطرس هذه الثلاثية مُشيرًا إلى ظهور المسيح بالمجد والقوة، فيقول: «ومتى ظهر رئيس الرُّعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى» ( 1بط 5: 4 ).
وواضح هنا الارتباط الوثيق بين هذه الثلاثية. فمجيء المسيح بالنعمة ليفدي البشر، ذلك المجيء الذي انتهى بموت الصليب، يحدثنا عن الراعي الصالح. لكنه بعد الموت قام وصعد إلى السماء مُمجَّدًا، وهو هناك يخدمنا باعتباره راعي الخراف العظيم. وأخيرًا سيأتي إلينا مرة ثانية مُستعلنًا بالمجد والقوة، ليعطي الأجرة لعبيده الأُمناء، وذلك باعتباره رئيس الرعاة.
هذه الأفكار الثلاثة نجدها بنفس هذا الترتيب في مزامير الراعي؛ مزمور22، 23، 24.
ففي مزمور 22 نجد الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن خرافه الغالية، وفى مزمور 23 نجد الراعي العظيم المعتني بكل خروف من قطيعه العزيز، والذي يحفظهم خلال هذا العالم المليء بالمخاطر والتجارب، ويرعاهم خلال الحياة المليئة بالاحتياجات والإعوازات.
وفى مزمور 24 نجد رئيس الرعاة، الذي هو نفسه «ملك المجد» عندما يظهر ليكافئ كل الخدام الأُمناء الذين اعتنوا بقطيعه العزيز على قلبه.
هذه الثلاثية الجميلة تغطى الماضي والحاضر والمستقبل. فبالنسبة للأمس نذكر تجسد المسيح باعتباره الراعي الذي أتى من السماء إلى الأرض لكي يفتش عن الغنم، ولكي ما يذهب وراء الضال حتى يجده، ثم مضى إلى الصليب كالراعي الصالح ليبذل نفسه عن الخراف.
وهو ما يحدثنا به مزمور22.
لكن الصليب لم يكن النهاية، ونفس المزمور الذي يكلمنا أساسًا عن الصليب، يُشير أيضًا إلى القيامة. وبعد القيامة نرى خدمة أخرى للمسيح؛ كراعي الخراف العظيم المُقام من الأموات.
مَنْ فينا حتى بعد إيمانه يستغني عن هذا الراعي العظيم؟! لكن سوف تنتهي هذه الحياة الحاضرة عندما يأتي الرب، لندخل معه إلى الأبدية السعيدة.
لكي ما نبقى محفوظين أثناء ليل الارتداد المُظلم، فإننا نحتاج أربع مراسِ لكي ما تبقى نفوسنا راسية وثابتة بها. ورسالة يهوذا التي تُصوِّر لنا ظلمة الأيام الأخيرة للمسيحية، تُعطينا ما يتجاوب مع الأربع مراس في أعمال27: 29.
فبعد أن تحدَّث عن الارتداد المُريع والشر، فإن يهوذا يتحوَّل إلى المؤمنين، ويُخبرهم أن يفعلوا أربعة أمور:
فأولاً: يجب أن نبني أنفسنا على إيماننا الأقدس. ونحتاج أن نلتصق بالحق في كل قوة تقديسه وحفظه، وألا نقلل من مستوى الحق جزئية واحدة. إنها كلمة الله التي تبنينا وتجعلنا أقوياء وثابتين. ويلزمنا أن نتغذى عليها، ونعمل بها، ونبني أنفسنا على أساس إيماننا الأقدس. هذه مرساة حقيقية لنفوسنا.
وثانيًا: نحتاج إلى مرساة الصلاة «مُصَلِّين فِي الرُّوحِ القدسِ». إن الصلاة في الروح هي التوازن الضروري للتغذي على الكلمة، وحفظ النفس منتعشة أمام الله، وفي شركة معه. والصلاة في الروح تتطلب سلوكًا في الروح، وتدريبًا في الحكم على الذات. والصلاة هي المورد ومصدر القوة في كل الأوقات.
وثالثًا: نحتاج أن تُحفظ أنفسنا في محبة الله. إنه ليس هنا أننا نُحب الله، مع أن هذا ما يجب أن نفعله بالتأكيد، بل أننا نحفظ أنفسنا في التمتع بمحبته. وهذا يعني أنه يجب أن يكون لنا دائمًا إيمان بالله، وألا نشك في محبته. ولا يهم الظروف والتجارب التي نمرّ بها. فلا شيء يُمكن أن يُبدل محبته من نحونا، ولا حتى فشلنا. إن الشيطان يسعى دائمًا لكي يُشككنا في محبة الله. ولكن إذ نحفظ أنفسنا لتغوص في محبة الله التي لا تفشل ولا تتغير، فإنها تُصبح كمِرساة لنفوسنا ثابتة ضد كل عواصف الشيطان وأمواجه.
أما المرساة الرابعة، فإننا نُحرَّض لكي نكون «منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية». وهذا هو التوقع الواضح ـ رحمة ربنا طوال الطريق حتى تتحقق النهاية ـ وهو مجيئه لنا. إن مجيئه سيُصبح إنقاذًا ورحمة لخاصته من كل أشكال خراب المسيحية الاسمية، وأيضًا من الشر المُحيط بها. إن نهار مجيئه هو الرجاء والتوقع المُشرق للكنيسة الحقيقية.
إن الأربع المراسي السابقة ستحفظنا غير متزعزعين من جرّاء كل ريح زوبعية أثناء ليل غياب المسيح.
كُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ! ( مت 22: 4 )
أيها القارئ العزيز:
لقد أحاطك الله بعنايته وأدخلك بسلام إلى العام الجديد. وهو بذلك قد أتاح لك فرصة جديدة لكي تُقبل إليه بالتوبة والإيمان فتنال خلاص نفسك الثمينة.
إن الله يحبك، بالرغم من كل ما ارتكبته من الشرور والآثام، وما أهنته به من المعاصي والذنوب، وما زال يُطيل أناته عليك مترقبًا رجوعك إليه.
لقد أعد لك خلاصًا أبديًا بموت الرب يسوع المسيح على الصليب لأجلك، وهو يريد من كل قلبه أنك تمد يد الإيمان لتنال هذا الخلاص الثمين لنفسك الآن.
فقف لحظة أيها العزيز في مُستهل هذا العام الجديد، وتفكّر في نفسك الخالدة ومصيرها الأبدي. كيف تهتم بمستقبلك الأرضي الزائل، وتغفل أمر أبديتك التي لا تنتهي؟ «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسِرَ نفسه؟» ( مت 16: 26 ).
نرجو أن تصغي بكل انتباه إلى قول الكتاب المقدس «وُضِعَ للناس أن يموتوا مرةً ثم بعد ذلك الدينونة» ( عب 9: 27 ) وأيضًا «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» ( يو 3: 36 ) ويا لهول الدينونة!
ويا لشدة غضب الله!
ولكن اسمع قول المسيح المُفرح: «إن مَن يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة» ( يو 5: 24 ).
فالله قد أعدّ خلاصًا كاملاً مجانيًا لكل الخطاة، وهو ينادي قائلاً: «كل شيءٍ مُعدٌّ. تعالوا إلى العُرس!» ( مت 22: 4 ). فهلا تسمع صوته وتقبل دعوته الآن؟
أيها القارئ العزيز، إننا نناشدك بمحبة الله العظيمة لك، وبصليب المسيح وآلامه لأجلك، وبنداء الروح القدس لقلبك، وبقيمة نفسك الثمينة الخالدة، وبجميع أفراح السماء، وبجميع أهوال بحيرة النار المتقدة ـ بهذه كلها نناشدك أن تسلِّم قلبك للمسيح بالتوبة والإيمان الآن في هذه اللحظة.
لا تؤجل ولا تناقش، بل تعالَ كما أنت بكل خطاياك وأحمالك الثقيلة، تجد قلبه مُحبًا مُرحبًا لأنه قال: «مَن يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجًا» ( يو 6: 37 ).
إنه يغفر لك خطاياك ويطهرك من كل آثامك، ويمنحك سلامًا كاملاً وفرحًا أبديًا.
أيها العزيز، لا تتردد.
لا تهمل هذا الخلاص العظيم. لا ترفض هذه الهبة المجانية الثمينة «هوذا الآن وقتٌ مقبول. هوذا الآن يومُ خلاص» ( 2كو 6: 2 )، وبعد قليل جدًا سيأتي المسيح حسب وعده، ويأخذ مفدييه إلى أمجاد السماء ليكونوا معه إلى الأبد. وستكون معهم إذا قبلته بالإيمان القلبي الآن.
فكَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ و َأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟ ( تك 39: 9 )
إن الأسلوب الرائع الذي استخدمه يوسف للتعبير عن استنكاره لعمل الخطية، والوارد في قوله:
«كيف أصنع هذا الشر العظيم وأُخطئ إلى الله؟»، ليسترعي انتباهنا ويأخذ بمجامع قلوبنا، فهو يدل على:
أولاً: وجود يوسف في حالة الإدراك الحقيقي لمركزه كأحد قديسي العلي، فهؤلاء يترفعون عن عمل الخطية، لأنها لا تتناسب مع مركزهم السماوي. فلسان حالهم دائمًا أبدًا: «نحن الذين مُتنا عن الخطية، كيف نعيش بعدُ فيها؟» ( رو 6: 2 ).
ثانيًا: عدم تفكيره في النجاسة من قبل: لو كان يوسف يفكر في النجاسة أو يشتهيها من قبل لكان قد ضعف أمام امرأة فوطيفار واستجاب لرغبتها الأثيمة. ولكن ما أبدَاه من شمم وإباء من جهة عمل الفحشاء، دليل قاطع على أنه كان يعيش في كل حين في جو القداسة. وهكذا يكون الحال معنا، إذا عشنا في هذا الجو مثله.
ثالثًا: فداحة النجاسة: إن كثيرين يلهون بالنجاسة دون وعي أو إدراك، ولكن الذين يعيشون في حضرة الله ينظرون إليها بذات النظرة التي ينظر بها الله إليها، فيرونها كما رآها يوسف؛ شرًا عظيمًا. فعندما تراءى الله لإشعياء النبي قديمًا، صرخ هذا لساعته قائلاً: «ويلٌ لي! إني هلكت، لأني إنسانٌ نجسُ الشفتين» ( إش 6: 5 ). فنجاسة الشفتين (أو مجرد استخدامهما في نطق كلام لا يليق بجلال الله وقداسته)، التي كان يراها إشعياء فيما سبق شيئًا عاديًا، رآها في نور الله شيئًا خطيرًا يستحق عقابًا أبديًا. وهكذا الحال معنا، فعندما ندرِّب نفوسنا على الوجود في حضرة الله، نفزع من الخطية، ولا نفكر في إتيانها.
رابعًا: عظمة يوسف: نعلم من التاريخ أن يوسف لم يُتوَّج حاكمًا في مصر إلا بعد 14 سنة تقريبًا من انتصاره على الأهواء الجسدية في بيت فوطيفار. لكن ألا ترى معي أن يوسف عندما قال لهذه المرأة: «كيف أصنع هذا الشر العظيم؟»، كان يلبس تاجًا روحيًا أبهى من التاج الذهبي الذي لبسه فيما بعد، عندما اعتلى عرش مصر!
نعم فالتاج الروحي أبهى من التاج الذهبي بما لا يُقاس. فالأول مجد سماوي يضعه الله على هامة القديسين، ويظل عليها إلى الأبد.
بينما الثاني مصنوع من معدن من الأرض، ويضعه الناس على شخص معيّن إلى حين، مع أن هذا الشخص قد يكون في باطنه دنيئًا، لا يستحق سوى الاحتقار والازدراء.