الصيغة صيغة تعظيم ولكن ليس بالمعنى الشائع، وبالتالي فإن ما ذهب إليه أستاذنا
عابد يهوه في رسالته صحيح أيضا: لا توجد صيغة تعظيم في العبرية. يحتاج فهم هذه المسألة ـ كما يتضح من بعض المعلقين اليهود ـ إلى دراسة لقواعد
العبرية القديمة. يقول جيرمي أرنولد مثلا إن هدف الجمع هو
تأكيد الصفة وليس تعظيم الموصوف. في العربية على سبيل المثال هناك جيد وهناك أجود، أو سيء وأسوأ، وهكذا، وهو ما يسمى صيغة التفضيل (أو
Comparative بالإنجليزية). فإذا كان شيء ما أجود من كل ما عداه فنقول عندئذ
الأجود، بإضافة "الـ"، ويدل هذا على أنه الأجود مطلقا. وبالمثل هناك سيء وأسوأ ثم هناك الأسوأ مطلقا، أي الأسوأ من كل ما عداه، وهكذا.
أما العبرية القديمة فلا توجد بها هذه الصيغة المطلقة (صيغة
superlative بالإنجليزية). بدلا من ذلك تتبع هذه اللغة طرقا وأساليب أخرى للتعبير عن هذا المعنى، أشهرها:
* التكــرار: مثال: في بابل برج طويل طويل: تكرار الصفة للتعبير عن أن البرج أطول من كل برج آخر.
* المجــاز: في بابل برج رأسه بالسماء، أو يصل إلى السماء: بالطبع لا يمكن الوصول بأي برج إلى السماء ولكن المقصود أن طول البرج لا مثيل له.
* الجـمع: في بابل أبراج طويل: الصفة نفسها مفردة ـ وكذلك الأفعال تكون مفردة ـ ولكن الموصوف جمع رغم أنه برج واحد. وعليه فالمقصود بالجمع ليس حقا تعظيم البرج نفسه وإنما تأكيد الصفة، أي الطول، بمعنى أنه البرج الأطول من كل برج آخر.
.
علاوة على ذلك ـ يضيف موشي زوشمير ـ فإن العبرية القديمة، كما نرى عبر الكتاب، تستخدم عموما صيغة الجمع مع ألقاب مثل
السيد أو
المالك أو
الرب أو كل ما شابه ذلك. على سبيل المثال في تكوين
42:30 عندما يحكي أخوة يوسف لأبيهم يعقوب كيف تعامل معهم يوسف يقولون:
تكلم معنا الرجل سيد الأرض بجفاء.
דיבר האיש אדוני הארץ את איתנו קשות
(الكلمة هنا هي الجمع "أدوني"، أي حرفيا:
"تكلم معنا الرجل سادة الأرض بجفاء"، وليس هذا بالطبع هو المقصود، بل المفرد "سيد" كما بالترجمة).
بالمثل كلمة إله ـ حتى لو لم تكن تشير إلى الله سبحانه ـ فإنها تأتي في صيغة الجمع عادة (إلوهيم)، كما في خروج
4:16 على سبيل المثال عندما قال الرب لموسى عن هارون:
هو يكون لك فما وأنت تكون له إلها.
ואתה תהיה לו לאלוהים
(أيضا بصيغة الجمع إلوهيم:
"هو يكون لك فما وأنت تكون له آلهة"، ومرة أخرى ليس هذا بالطبع هو المقصود).
فكيف يمكن التمييز إذا بين المفرد والجمع وكيف نعرف أيّهما المقصود؟ هنا يكون
الفيصل هو الفعل: إذا كان الفعل مفردا فالفاعل مفرد بالضرورة ـ حتى لو ظهر جمعا ـ والعكس صحيح. من ثم
فإلوهيم مفرد، رغم أنها بصيغة الجمع، لأن جميع الأفعال التي لحقت بها جاءت دائما أفعالا مفردة.
وعليه ـ ختاما ـ فالمسألة لغوية بحتة، تتعلق للأسف بقواعد لغة لم يعد أحد يستخدمها أو حتى يعرفها ومن ثم تنوعت الآراء حتى بين اليهود بشأنها. فإن كان معنى التعظيم محتملا فهذا كما ذكرنا ليس
تعظيم الموصوف وإنما
تأكيد الصفة التي يتصف بها هذا الموصوف. إلوهيم بالتالي ـ هكذا جمعا ـ تعني ببساطة الإله
الأعلى، أو الإله
فوق كل إله آخر.
***
أما إذا انتقلنا إلى المستوى
الأعمق في التفسير (التفسير "
صود" أو السريّ، بمعنى الصوفي أو الباطني كما تعبر عنه الكابالا وغيرها)*، فإن إلوهيم ليس أصلا اسما لله،
فالله لا اسم له، تنزّه سبحانه وتعالى عن كل اسم أو حتى إشارة. لا إلوهيم ولا يهوه ولا أي اسم على الإطلاق. كل هذه الكلمات إنما تشير فقط إلى تجليات الله وأفعاله وصفاته في العالم (وهذا بالمناسبة ما يذهب إليه اللاهوت المسيحي أيضا).
المعنى الأصلي لكلمة إيل ـ مفرد إلوهيم ـ هو "
قـوة"، لا "إله"، ونحن بالتالي حين نتحدث عن إلوهيم إنما نشير ألى "
قواه" الإلهية سبحانه، التي خلق بها الكون. من ثم لا تعارض مطلقا بين هذا الجمع ووحدانية الإله الخالق.
ولكن ينتقل بعد ذلك الكاباليون إلى ما هو طريف حقا:
فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم.
أو بترجمة أدق:
فخلق إلوهيم الإنسان على صورته. على صورة إلوهيم خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم.
لكن إلوهيم ـ هذه القوى والطاقات الإلهية ـ تحمل في الحقيقة
قطبية داخلية (موجب وسالب، نشط وساكن، ظاهر وباطن، وهكذا، تماما كما هو الحال في قوى العالم من حولنا كالكهربية والمغناطيسية وغيرها). من هنا يتصف سبحانه
بالقوة ولكنه يتصف أيضا باللين أو
الرحمة. يتصف
بالجبروت ولكنه يتصف كذلك
بالجمال، وهكذا. فهذه الازدواجية أو القطبية هي بالتالي المقصود عند الكاباليين
بالذكورة والأنوثة، وهذا معنى قولهم إن
إلوهيم ـ قوى الإله سبحانه ـ
مزدوجة الجنس، أو ثنائية الجنس.
وعليه حين خُلق الإنسان على "
صورة إلوهيم" كان في الحقيقة
مزدوج الجنس أيضا، يحمل هذه القطبية الداخلية نفسها، ويجمع من ثم
الذكورة والأنوثة معا!
لذلك تكررت قصة خلق الإنسان
مرتين في الكتاب. لنتذكر: ليس في الكتاب كله حرف واحد مكرر، أو ورد هكذا عبثا دون دلالة، هكذا يؤمن الكاباليون واليهود عموما. لماذا إذاً تكرر الخبر عن خلق الإنسان؟
لأن الإنسان ببساطة ـ يقول الكاباليون ـ
ليس هو آدم! خُلق الإنسان في الحقيقة
مرتين، أو على
مرحلتين: خُلق الإنسان أولا ككائن مزدوج الجنس، لأنه على صورة إلوهيم ومثاله. كان الإنسان بالتالي ـ على خلاف الخلائق كلها ـ منفردا وحيدا بدون "معين نظيره"، لأنه كان
الرجل والمرآة معا، يحمل
الذكورة والأنوثة كليهما في نفس الكيان الواحد. ثم في الخلق الثاني أو المرحلة الثانية: انشق هذا الكيان الواحد، وهكذا ـ بانفصال الأنوثة "حواء" ـ ظهر أخيرا "آدم"، الرجل أو الذكر. فهذا ببساطة هو المعنى الباطني أو الكابالي لهذه الآية:
«فخلق إلوهيم الإنسان على صورته. على صورة إلوهيم خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم».
هذا بالطبع ـ غني عن البيان ـ مجرد غيض من فيض فيما يتعلق بقصة خلق الإنسان كما ترويها الكابالا، ناهيك عن قصة الخلق عموما!
غير أن هذا ليس موضوعنا، فقط أردت الإشارة إلى أن هذه النصوص ـ رغم بساطتها الظاهرة ـ قد تحمل أعماقا من المعنى لم تخطر حتى على بالنا. لنتمهل بالتالي قليلا أيها الأحباء في أحكامنا ونتائجنا ولنتعلم الصبر قليلا أمام هذا الكتاب المليء حقا بالأسرار! تحياتي ومحبتي.
___________________
* تفسير صود: هناك أربعة مستويات لتفسير التناخ أو الكتاب المقدس عموما: (1) مستوى بِشَاط أو البسيط Peshat (פְּשָׁט) وهو التفسير الحرفي الظاهر للنص كما يتناوله الجميع. (2) مستوى رِيمِز أو الرمز Remez (רֶמֶז) وهو التفسير الرمزي والمجازي للنص، وهذا ما برع فيه الآباء المسيحيون بوجه خاص وعرفوا من خلاله رمزيات المسيح والفداء وغيرها في العهد القديم. (3) مستوى دِرَش Derash (דְּרַשׁ) المستوى الدراسي والبحثي المفصّل، ومنه جاءت كلمة المدراش، وهذا هو ميدان الحاخامات اليهود وأحبارهم. (4) وأخيرا المستوى السري صود أو سود Sod (סוֹד) وهذا التفسير لا يعرفه سوى فئة قليلة، بين طوائف الكاباليين والحاسيديم وغيرهم من أصحاب التوجه الصوفي أو المستيكي الباطني العميق.