ثانيا: الإجابـــة
الآن وقد أدركنا مَن هو المسيحي الحقيقي (ونكتفي فيما يلي فقط بكلمة "المسيحي" طلبا للاختصار) نستطيع أن نفهم على نحو أفضل أن المسألة ليست على الإطلاق مسألة "ديانة". هذه حساباتنا نحن البشر، ولا نملك سواها، أما السماء فلها حسابات أخرى.
هذا المسيحي باختصار ـ لكي يصير مسيحيا ـ لابد أن "
يتجدد" أولا. لابد أن يصير "
إنسانا جديدا". إن الله حرفيا يعيد "خلق" الإنسان كي يصير مسيحيا هكذا بالمعنى الذي شرحناه. وهو خلق روحي لا شكلي مادي، من ثم لا يظهر للعين ولا تراه، لكنه "تجديد" حقيقي،
حرفي لا مجازي. المسيحي ببساطة "يخلع الإنسان العتيق" حسب تعبير الكتاب ويصير إنسانا جديدا.
«إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت، هو ذا الكل قد صار جديدا».
سؤالك أو اعتراضك بالتالي منطقي تماما، على الأقل حسب منطق هذا العالم. لابد من "عقاب" المجرم الذي فعل وفعل. نعم، ولكن هذا المجرم
لم يعد موجودا بالأساس ـ مرة أخرى حرفيا لا مجازيا! لقد تجدد كليا حتى أعمق أعماقه. هذا الذي تراه ـ إن كان في المسيح حقا ـ ليس هو نفس المجرم أبدا وإن كان يشبهه. هذا "خليقة جديدة"، قطعا ويقينا وبنص الكتاب، "جدّد" الله حرفيا خلقته، أخذ عنه الإنسان العتيق وأنشأه إنسانا جديدا. فإن كان إنسانا جديدا، بل إنسانا "آخر" جملة وتفصيلا، أصبح توقيع أي عقاب عليه بالعكس
ظلما لا عدلا. هذا الإنسان لم يفعل في الحقيقة أي جريمة يًعاقب عليها ـ لأنه ببساطة "
جديد"!
ما يصعب على العقل "المادي" استيعابه حقا هنا هو فقط أن "
الإنسان العتيق" نفسه يبدو هكذا كما لو أنه "
هرب بفعلته"! ولكن هذا غير صحيح بالمرة ـ لا مسيحيا ولا حتى روحيا بوجه عام.
أما مسيحيا: فقد تلقي المسيح ذاته هذا العقاب! هذا هو ما كان أستاذنا "مصلوب لأجلي" يشرحه وقد أجاد وفيما كتبه الكفاية. يقول الكتاب نصا:
«عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُـلب معه». من ثم لم يهرب أبدا الإنسان العتيق بفعلته وإنما "صُـلب" في المسيح! أليس لأجل ذلك هو "الفادي" الذي افتدى جميع الخطاة؟
أضف إلى ذلك: إن المسيح لم يصلب منذ ألفي عام ونحن هنا اليوم نفعل ما نريد "على حسه"! لا يا أخي الحبيب هذا فهم خاطئ.
المسيح يُصلب الآن في هذه اللحظة في الجلجثة! الخطيئة التي أقترفها الآن دون مبالاة يحمل المسيح "
الآن" عقوبتها في هذه اللحظة نفسها ويتألم "الآن" بسببها وينسفك دمه الزكي لأجلها. الزمن "وهم" لا يوجد إلا بالعقل. ليس هناك بالواقع ـ ولا حتى علميا ـ ماض وحاضر ومستقبل. هذا هو فقط "الإطار" الذي يعمل فيه العقل، ولذلك لا يستطيع العقل استيعاب هذا الذي نقول أبدا أو حتى تخيّـله. ولكن تبقى الحقيقة: كل ما يحدث إنما يحدث "
الآن" وليس هناك سوى "الآن" دائما! نحن نشبه مسافرا بالقطار لا يرى الصورة الكلية وإنما فقط "تتوالى" المناظر والأشجار و"تتابع" عليه من نافذة القطار. هذه النافذة هي العقل: لا يملك إلا أن يرى الأحداث والأشياء هكذا بعضها وراء بعض. أما لو خرجنا من القطار وارتفعنا بما يكفي فسنرى أن جميع المناظر والأشجار لا تتابع حقا وتتوالى وإنما كلها موجود وقائم "الآن" بالفعل!
السيد المسيح من ثم هنا والآن يا سيدي. السيدة البتول هنا والآن يا سيدي، تعطر الأرض بالميلاد المجيد. الشفاء والفداء والأنوار والبركات وكل مجد وإعجاز وكرامة هنا والآن يا سيدي. نحن لا نذهب لكي "نتناول" من مذبح في كنيسة بل نذهب إلى جلجثة إلى الصليب ذاته إلى الجسد المبارك نفسه وعينه.
"الولادة" و"الصليب" و"القيامة" هذه كلها ليست أحداثا "تاريخية" ذهبت، أحداثا "ماضية" وانتهت، بل وقائع
"حاضرة" بالفعل قائمة ماثلة هنا والآن، في نفس هذه اللحظة، بغض النظر تماما عما تراه عيوننا أو تعتقد عقولنا أو يقول منطقنا.
وأما روحيا بوجه عام ليس فقط مسيحيا: فلا تتصور أبدا يا أخي أن من السهل على "إرهابي" أو "مجرم" أن يصير "مسيحيا حقيقيا" بالمعنى الذي ذكرناه. إن التوبة التي لابد أولا أن يقدمها والدموع التي لابد أن يذرفها والندم والمرارة والآلام التي يجب أن يكابدها قبل أن يدخل إلى حضرة القدوس ـ ناهيك عن أن يتحد معه ـ تفوق قطعا ويقينا كل عقاب. إنه يُصلب نفسيا وروحيا وحتى أعمق أعماقه وإن لم يشهد جسده الظاهر أية عقوبات. بل إن هذه الدموع والمعاناة والآلام هي نفسها ما يغسله وما يُذيب ويفكك "إنسانه العتيق"، قبل أن تشمله نعمة الله أخيرا فتقيمه من حضيض القاع "خلقا جديدا"، إنسانا يحمل بحق "جنسية السماء"!
* * *
أطلنا كثيرا ولكن لا يكتمل حديثنا دون الإشارة ولو باختصار إلى
الضحية أيضا. أخي الحبيب: كل ما ذكرناه هنا ينطبق على الجاني سيان كانت الضحية "مسيحية" أو "غير مسيحية". كيف عرفت أن هذا يصنع فرقا؟ لماذا تفترض أن "ديانة" الضحية لها أية علاقة بالأمر؟
غير أنك لابد أن تدرك أولا، بغض النظر عن الجاني والضحية كليهما، أن الله بالأساس لا "
يعاقب" أحدا على الإطلاق، آمن أو لم يؤمن، تاب أو لم يتب! هذا المفهوم "البوليسي" ليوم االدينونة مفهوم أرضي لا ينطبق على السماء. وهذا لا شك موضوع مستقل بحد ذاته، كتبنا عنه سابقا وأتينا بشواهده وبعضا من أقوال قديسينا عن الأمر فابحث عنه. نذكر
الخلاصة هنا إذاً باختصار: إن الله يا أخي الحبيب
لا "يعاقب" أحدا ولا "يعذب" أحدا ولم يصنع أبدا أي "جحيم" يتلظي باللهيب لكي يضع فيه خليقته. بل
الخليقة ذاتها هي التي تعذب نفسها بخطاياها وهي التي تصنع جحيمها وتدخل فيه عمدا بإرادتها. كما أن الشمس تشرق على الطين فيجف ويتصلب بينما على الشمع فينصهر ويسيل، رغم أنها نفس الشمس الواحدة، كذلك عندما تشرق شمس الله علينا يوم لقائه: سيجدها البار
نــورا، نعيما وفرحا يفوق كل وصف، بينما نفس الشمس سيجدها المجرمون
نــارا، جحيما وعذابا لا يُطاق!
الله المحبة من ثم واحد لا يتغير، كما أنه سبحانه يتعالى فوق كل "غضب" و"انتقام" و"كراهية". نحن الذين نتغير ونحن الذين نقترب أو نبتعد ونحن الذين نصنع مصيرنا هنا قبل أن ننتقل إلى هناك.
القضية من ثم يا أخي الحبيب ـ إجمالا في الختام ـ ليست أبدا "ديانة" الضحية أو "توبة" الجاني. كل ما نكتب هنا ويكتبه سوانا هو في النهاية فقط لأجل
الشرح والتقريب والتبسيط. أما القضية الحقيقية فهي فقط
قلوبنا: هل نأتيه في اليوم الأخير ـ جناة كنا أم ضحايا ـ
بقلب حيّ ينبض باسمه، يحتمل من ثم إشراق وجهه بل يتلألأ في نوره ويسعد ببهائه ويرفل مبتهجا فيما
لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان، أم
بقلب ميت بالخطايا وبذات صاحبه دون ذات الله، يستشعر من ثم النور نارا والبهاء بحيرات لهيب والنعيم بالعكس جحيما تتقافز فيه الشياطين؟
* * *
عذرا للإطالة، مع خالص محبتي وشكري مرة أخرى للسؤال القيم. نصلي أن يفيض الله بنعمته على قلبك وقلوبنا فينكشف عنا الحجاب لنرى ما لم نكن نراه ونعرف ما لم نكن نعرفه وندرك أخيرا أنه حقا وحده ولا سواه نور الأنوار وحقيقة الحقائق، غاية الأماني ونهاية المعاني.
* * *