تحياتي العاطرة للأستاذ محب النور وجميع الأحباء الحضور. مرة ثانية أزعم أن لدينا خطأ جذري في بناء هذه القضية وفي السؤال ذاته. أعتقد أن ما أرسلته بالفعل سابقا يكفي تماما، لكن الأمانة تفرض أن أشارك هنا أيضا ما دمت حاضرا ولو بتعليق بسيط.
حين تحدث الفيلسوف أبيقور عن معضلة الشر تحدث عن ثلاثي غير متسق , بمعنى ان وجود إله كلي العلم و كلي القدرة و كلي الرحمة في نفس الوقت غير ممكن عقلاً , ففي ظل الشر الموجود في عالمنا, إذا أثبتت أي صفتين مما سبق انتفت الصفة الثالثة تلقائياً , وهذه المعضلة تنطبق على الإله الإبراهيمي ولا حل عقلي لها.
نعم "لا حل عقلي لها"، هذا بالضبط ما نقول!
ولكن لماذا؟ هل لأن هذا "الإله الإبراهيمي" كما تسميه مجرد أكذوبة متناقضة، أم لأن التناقض بالأحرى في العقل ذاته وكيف يفكر؟ بكل حال دعنا نتفق أولا أن أبيقور خذلنا، لأنه ـ وهو فيلسوف ـ قال ما قال ولم يخبرنا ما هو على الأقل تعريف هذا "
الشر" الذي يتحدث عنه؟
آباؤنا في المقابل ـ ولم يكونوا فلاسفة ـ دخلوا هذا المعترك في شجاعة وتركوا لنا بعض الكلمات الثمينة: حامي الإيمان القديس الكبير
أثناسيوس الرسولي أشار إلى الشر مرتين على الأقل، وفي "الرسالة إلى الوثنيين" تحديدا يقول:
«لكن الخير كائنٌ، بينما الشر عدم. وﺑﻬذا أعني أن ما هو خير هو ما له مثال في الله الكائن، وما هو عدم هو الشر؛ لأنه ليس إلا خيالات زائفة في عقول البشر». هذا السطر الصغير يحتاج في الحقيقة كتابا كاملا لشرحه!
لكن دعنا على الأقل نلتفت إلى العبارة الأخيرة، التي لا تدلنا عن "عدمية" الشر فقط ولكن كيف أن واقع الشر أيضا مجرد "
خيالات زائفة"! يظهر هذا المعنى نفسه بوضوح أكبر عند عملاق أخر هو القديس
غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي). يقول في العظة التي ألقاها في جنازة أبيه:
«توجد حياة واحدة، علينا أن نطلب هذه الحياة. ويوجد موت واحد، هو الخطيئة أي هلاك النفس. تخلق الخطايا فينا ما يشبه الأحلام التي تحاكي الواقع، وهي تجعل الخطاة يسخرون من الواقع بينما هم في الحقيقة يعيشون خيالات كاذبة تحيا في نفوسهم». وأخيرا يتكرر أيضا نفس المعنى عند عملاق ثالث هو "فم الذهب"، واحد من ثلاثة قديسين نسميهم "أقمار الكنيسة". يقول
يوحنا ذهبي الفم في شرحه لرسالة إفسس:
«يصف الرسول مَن يحيا في الخطية كمن هو نائم وميت، يتنفس مثل النائم، ولكنه يتنفس النجاسة والنتانة التي تصدر عن جثة ميتة! وكما أن النائم لا يرى لأن عينيه مغلقة، بل يحلم ويتخيل، هكذا كل من هو ميت روحيا (لا يرى، عينيه مغلقة، يحلم ويتخيل)»!
الشر إذاُ "
عـدم" أستاذنا الحبيب، وليت أبيقور كان معنا! بل كل ما نراه ونعيشه ـ بقدر ما نحن عارقون في الخطايا "نائمون" بسببها ـ ليس إلا
كابوس السقوط وخيالاته وأوهامه الكاذبة! لا وجود أبدا للشر في ذاته، فالشر هو فقط الوصف الذي نشير به إلى غياب الخير والبرّ والصلاح، كالظلمة نصف بها غياب النور لا حضور شيء بذاته اسمه الظلمة. الشر بالمثل هو فقط غياب "الله" نتيجة الخطيئة والموت الروحي. ولكن هل يغيب الله حقا؟ أبدا، ولهذا فهو حلم! لهذا تحديدا قال أكبر قديسينا أننا ـ بقدر خطايانا ـ في حلم، أو كأننا نعيش حلما. الله لا يغيب حقا إلا في عقولنا فقط، "عقول السقوط"، بينما في الحقيقة كل شيء قائم به سبحانه، بل
«به نحيا ونتحرك ونوجد» كما قال لسان العطر! لذلك يتراجع "الشر"
بالضرورة عن حياة الإنسان ووجدانه بقدر ما يقترب من الله وتشرق النعمة في قلبه (بعض النظر كيف تبدو الأمور خارجيا لجهلاء العالم). نجد بالتالي أن
المغترب عن الله شقي يتألم، قلِق دائما ومهموم، يبحث عن السعادة دون جدوى، وقد يغضب ربما لأتفه الأسباب نظرا لهذا الألم الداخلي الدفين، ذلك كله رغم أن ظروفه عموما جيدة ولو نسبيا، لا "شر" لديه حقا، بل أفضل من ملايين غيره! ونجد في المقابل ـ كما لاحظتَ بالفعل ـ أن
رجال الله في محبة وسلام وتعزية بل ربما في فرح ومسرة أيضا، حتى في قلب "الشر" ورغم أن ظروفهم قد تكون بالعكس قاسية جدا، تعتصرهم تجارب كبيرة، أو يرزحون تحت نير فقر شديد، أو حتى في ألم فعلي بأجسادهم، وقد يكونون علاوة على ذلك أسرى أيضا لا يتحركون فوق فراش المرض!
كان أبيقور إذاً يفكر ويكتب بعد السقوط وفقط حسب
منطق السقوط، ومن ثم لا بُعتد به. أو بعبارة أخرى: أبيقور على صواب، نعم، ولكن فقط داخل "الحلم" وبقدر ما نشاركه هذا الحلم. إن ما قدمه أبيقور معضلة حقيقية، نعم، ولكن فقط لأننا جميعا "
نيام" مثله، بدرجة أو بأخرى، على الأقل نشاركه نفس المنطق المغلوط والرؤية الملتبسة. أما إذا أفقنا من نومنا هذا فبالعكس سوف نرى على الفور كم هي بالأحرى
تافهة حقا هذه "المعضلة" التي حيّرت العالمين! أصبح السؤال بالتالي:
كيف نفيق من هذا الحلم؟ هذا في تقديري هو
أهم سؤال على الإطلاق في حياة أي إنسان! نحن ببساطة نؤمن ألا إفاقة أبدا إلا بأن ندرك ابتداء أننا نيام، بل موتى، نطلب بالتالي الحياة من واهب الحياة ونعبر لأجل ذلك من باب المسيح أولا ـ
أنا هو الباب ـ الذي ما جاء إلى الأرض إلا لهذا السبب! هكذا فقط نحيا ونقوم ونتحرر ـ
تعرفون الحق والحق يحرركم! بكل حال تأكد أننا لا نستطيع الإفاقة
عقليا أو بواسطة العقل كما أشرنا وكررنا. لماذا؟ لأن مشكلتنا كما رأينا
تكمن في العقل ذاته هذه المرة، بل "
هي" العقل ذاته، والعقل ببساطة لا يستطيع أن يتجاوز نفسه! نحتاج بالتالي إلى مركبة أو أداة أو واسطة أخرى أعلى من العقل وأعمق وأشمل، وذلك هو "
القلب"! لذلك
«طوبى لأنقياء القلب» قال شمس البر
«لأنهم يعاينون الله»! غير أن القلب أيضا لا يحيا وينبض وتجلو مرآته فتعكس لنا حقائق الوجود وأنوار الأعالي إلا أن يلمسه شعاع النعمة أولا ويغسله نداها! من ثم فقط عبر القلب، وفقط بمعونة الله ونعمته، يمكننا أخيرا أن ننتبه، أن ننهض من الموت وأن نستيقظ أخيرا من ظلمة هذا الليل الطويل!
* * *
سأغيب فترة عن المنتدى أقرأ خلالها الكتاب المقدس مع التفسير مرة ثانية من موقع إنجيل . كوم .. و خلال هذه الفترة سأبحث في أعماقي بصدق و شفافية .. و عسى أن نلتقي قريباً ...
نتمنى لك التوفيق في رحلتك مع الكتاب المقدس. أيضا لا تشغل نفسك بالرد هنا إذا كان كل ما يدفعك للرد هو فقط اللياقة أو الدماثة. يعلم الله أنني ما كتبت إلا للأمانة التي أحملها، مثلما فعل الأحباء جميعا هنا فيما أعتقد، خاصة وأن بعضنا كان ذات يوم أسير هذا الشرَك أيضا، وشخصيا فقد قضيت مع أبيقور هذا وصحبته أعواما وأعواما.
نعم، عسى أن نلتقي قريبا. فقط انتبه أستاذي الحبيب لأن بعض الباحثين عن الحقيقة لا يريدون "الحقيقة" فعلا وإنما فقط "
البحث" عنها. البحث في ذاته هو غايتهم، وتلك هي
لعبة العقل الأخيرة. كما يبحث البعض عن الثروة، ويبحث البعض عن السلطة، ويبحث البعض عن المتعة، كذلك يبحث بعضنا عن الحقيقة. ذلك هو ما نقدمه لأنفسنا
كمبرر! هناك سؤال يخفق دائما في أعماق كل منا:
لماذا لم تتحرر بعد، لماذا لم تعد إلى الله، لماذا لا تلتزم الحقيقة؟ في هذه الحالة يكون الجواب:
أنا أبحث بالفعل عن الحقيقة! وهكذا يستمر البحث بلا نهاية وكلما أوشك على الانتهاء عاد فتشكل عبر أسئلة أخرى، ذلك لأن "البحث" هنا ليس طلبا للحقيقة بل بالعكس هو ذاته وسيلة الهرب منها!
* * *