سلام المسيح
لو رجعنا إلى الكتاب المقدّس نرى اللغة الآراميّة قديمة العهد جدًّا يرتقي تاريخها إلى حوالي القرن الثامن عشر قبل الميلاد، فإنّ ابراهيم أب اليهود كان آراميًّا من مدينة أور ولغته هي الآراميّة. والشاهد الأكبر على أراميّة ابراهيم هو أنّه أرسل عبده ليخطب امرأةً لابنه اسحق وقال له: "لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيّين الذين أنا ساكنٌ بينهم، بل إلى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجةً لابني اسحق" (تك 24: 2) وفعلاً ذهب هذا العبد إلى أرضه وعشيرته "إلى أرام النهرين إلى مدينة ناحور" (تك 24: 10) ولم يكن ناحور هذا إلّا آراميًّا. فاتّخذ اسحق رفقة بنت بتوئيل الآرامي زوجةً له "وكان اسحق ابن أربعين سنة لما اتّخذ لنفسه زوجةً رفقة بنت بتوئيل الآرامي أخت لابان الآرامي من فدان آرام" (تك 25: 20).
ونقرأ أيضاً في سفر التثنية متى ما قدّم الإنسان اليهودي أول أثمار أرضه للكاهن يردّد هذه العبارات: "آراميًّا تائهاً كان أبي، فانحدر إلى مصر وتغرّب هناك في نفرٍ قليل وصار هناك أمّةً كبيرة وعظيمة وكثيرة...." (تث 26: 5).
وقد ورد في سفر التكوين جملة آراميّة كاملة تركها المترجمون على صبغتها الآراميّة وهي عن قضيّة يعقوب "وقال يعقوب لإخوته التقطو حجارة، فأخذوا حجارة، وعملوا رجمة، وأكلوا هناك على الرجمة ودعاها لابان (يجر سوهدوثا) وأمّا يعقوب فدعاها جلعيد" (تك 31: 47).
وبالتالي نعرف هنا أن لغة اليهود الأصليّة كانت الآراميّة، رغم ابتعادها عن أصلها لأنّهم مع الوقت امتزجوا بالأمم الساميّة الساكنة في أرض كنعان، دخلت على لغتهم اصطلاحات جديدة فتغيّرت عن أصلها الآراميّ القديم، ولكنّهم كانوا يفهمون اللغة الآراميّة فهماً صحيحاً كما يتّضح من الكتاب المقدّس (2 مل 18: 26) بيد أنّهم لما سُبوا إلى بابل في أيّام نبوخذنصر وامتزجوا مع البابليّين رجعت الآراميّة الصحيحة إلى لسانهم واستعملوها، لأنّ الآراميّة كانت منتشرة في بلاد بابل وسائر بقاع ما بين النهرين، ولنا شواهد كثيرة تؤيّد أنّ لغة بابل وما بين النهرين كلّها كانت الآراميّة في سياق حوادث الكتاب المقدّس (عز 4: 6 و7) و (دا 2: 4) وأعظم شاهد على أنّ اليهود استعملوا اللغة الآراميّة في كتاباتهم هو دانيال النبي، وهو ابن السبي كتب قسماً عظيماً من سفره بهذه اللغة، كما أنّه كُتب فيها جزء من سفر عزرا وسفر نحميا كما يؤيّد كثيرون من المؤرّخين.
وهنا تتبدّل الأحوال السياسيّة في الشرق كلّه فتجتاحه حروب وفتن وتتدحرج تيجان وتتحطم عروش، غير أنّ هذه اللغة احتفظت بسلطانها على سكانه رغم الممالك الكثيرة الأعجميّة التي تعاقبت عليه، فكان الرومان يحكمون في سوريا وفلسطين، وكان الفرثيّون يحتلّون بقاع ما بين النهرين، والملوك الأباجرة يتبوّأون عرش الرها. وكان معظم ملوك هذه الدول في حروب مستمرّة مع بعضهم، والمدن والقرى عرضة للنهب والسلب والتقتيل.
وفي مثل هذه الأحوال المضطربة بزغ فجر المسيح في أورشليم، وفي هذه الأثناء كانت اللغة الآراميّة منتشرة في كلّ البلاد التي تحكمها الدول الثلاث الآنفة الذكر. لا سيما في أورشليم وسائر بلاد فلسطين. وقد سمّى الب عض هذه اللغة عبرانيّة، لا لأنّها العبرانيّة المعروفة عينها بل لأنّ العبرانيّين كانوا يتكلّمون بها.
إنّ أوّل البراهين على آراميّة فلسطين، هي أسماء الأعلام والأماكن والفرق اليهوديّة. فبالنسبة لأسماء الأعلام نجد: توما وبرنابا، وشافيرا وسالومي، مرثا وطبيثا. وأسماء الفرق اليهوديّة: الفريسيّين والصدوقيّين إلخ. وأسماء الأماكن: جثسيماني، وبيت حسدا، وشيلوحا، وجباثا، وجلجثة. ,ابلغ من ذلك جميعاً وأقرب إلى الآراميّة الفصحى اسم الحق الذي اشتراه رؤوساء اليهود بالفضة التي ردّها يهوذا الإسخريوطي وهو (حقل دما). وهناك نصوص كثيرة في العهد الجديد وردت بصيغتها الأراميّة قد ذكر الأحبّاء بعضها وأضيف تسمية الرب لسمعان بكيفا وابني زبدي ببني رغش ...إلخ.
لغة فلسطين كانت الآرامية إلّا أنّ اللهجات متعدّدة فهناك فرق بين لهجة اليهوديّة ولهجة الجليل بدليل ما ورد في الإنجيل، فإن الرسول بطرس لما أنكر أنّه من تلاميذ المسيح، أجابوه "أنّك جليلي ولهجتك تظهرك".
هنا تأكّدنا أنّ فلسطين جميعها في عهد المسيح كانت تتكلّم الآراميّة وكذلك كان الرسل الذي بشّروا بالإيمان يتكلّمون الآراميّة كما يشهد مؤرّخو القرون الأولى للمسيحيّة ولا سيما يوسابيوس المؤرخ الكنسي الشهير وكذلك معظم ملافنة الكنيسة الأوّلين، فقد ذكر نرساي الملفان عنهم قال: "تكلّم السريان (الرسل) مع اليونان بلغتهم" (ميامر نرساي، طبعة مينغانا ج1 ص78) وكذلك يذكر عن لوقا البشير في مصر يقول: "تلكم السريانيّ مع المصريّين بلغتهم" (نفس المرجع ص82).
وأعظم هذه البراهين جميعها أنّ القدّيس متّى الإنجيلي كتب إنجيله باللغة الآراميّة لليهود المتنصّرين، ونرى علماء اليهود المعروفين بالربانيّين يسمّون لغة اليهود في هذا الزمان آراميّة أو سريانيّة، لكن العهد الجديد قد اعتاد أن يسمّي هذه اللغة عبرانيّة لا لأنها عبرانية بذاتها كما قلنا، بل لأنّ العبرانيّين كانوا يتكلّمون بها.
أمّا لماذا تُسمّى هذه اللغة الآراميّة سريانيّة. فالجواب أنّها هي ذاتها اللغة الخاصةّ لشعب واحد معروف بالآراميّين. اختلفت تسميتها لتسمّي الآراميّين باسم آخر وهو السريان. والداعي لهذه التسمية فقد اختلف فيه الباحثين. فالبعض يقول أنّ الآراميّين حينما اقتبلوا الإيمان بالمسيح غيّروا اسمهم إلى سريان لتميّيزهم عن أجدادهم الأراميّين الوثنيّين. إلّا إنّي لا أميل لهذه النظرية تماماً.
والبعض يقول وهذا هو الرأي الأرجح. حينما دخل اليونان إلى الشرق أعطوا سوريا اسمها الحالي في حين كان يدعون البلاد الواقعة غرب الفرات أسيريا وذلك نسبةً إلى الإمبراطوريّة الآشوريّة. وظلت هذه التسمية لبلاد سورية حتى غدت سوريا والسريان اسماً واحداً. وهي هي عينها موطن الشعب الآرامي القديم أي الشعب السرياني.
وبالتالي نجد أنّ اللغة الأصليّة للشعب اليهودي هي الآراميّة أو السريانّية. ومع دخول اليونان للشرق صارت اللغة اليونانيّة هي لغة الثقافة نسبيًّا وذلك عند الدارسين بشكلٍ خاص، وكما نعلّم أنّ السريان كانوا ملمّين بهذه اللغة وهم من نقل تراجم هذه اللغة إلى العربية. وكلغة سياسيّة نجد اللغة اللاتينيّة التي جائت مع الرومان. وما يدلّنا إلى دروج هذه اللغات هو الكتابة التي عُلّقت على صليب ربّ المجد والتي كُتبت بهذه اللغات الثلاثة.
ومن بين هذه اللغات الثلاث ظلت اللغة الآراميّة هي السائدة والمسيطرة، فحتى القرن الثالث عشر كانت محكيّة في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق قاطبةً كما يخبرنا القديس غريغوريوس ابن العبري والذي كان متواجداً في تلك الفترة. وللأسف ظلّت الآن محدودة في بضعة أماكن بتعدّد لهجاتها.
المجد لربّنا دائماً