لتوبة كخبرة وحياة (2) أساس دعوة التوبة + كيف أتوب

aymonded

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
6 أكتوبر 2009
المشاركات
16,056
مستوى التفاعل
5,370
النقاط
0
سر التوبة (الجزء الثاني)
التوبة كخبرة وحياة - كيف نعيش التوبة
ثانياً: أساس دعوة التوبة؛ ثالثاً: كيف أتوب
للرجوع للجزء السابق عن المعنى الحقيقي للتوبة أضغط هنـــــــــا

ثانياً : أساس دعوة التوبة ( محبة الله الشديدة للإنسان )
الله مُحباً للبشر، يقدم دعوته للإنسان ليُقيم علاقة شركة راسخة على قاعدة الحب وأساسه، فنجد أنه حينما سقط الإنسان من رتبته الأولى ومجده الأصلي، أشفق وتحنن وأراد أن يُعيده إليه ويسترجع قوة حياة الشركة له، والذي فقدها بالسقوط وابتعد عنه ( وأول نداء للإنسان نجده منذ البداية : آدم أين أنت )
والله يصور محبته الشديدة للإنسان في صورة أقوى من طبيعة الأمومة التي دائماً ما تظهر عظم تحننها على أولادها وتعلقها بهم تعلق شديد وهي من أقوى العلاقات ارتباطاً بقوة: [ هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنســــــاك ] ( إش 49: 15 )
والله في هوشع يصف محبته العميقة للبشر الجانحين للارتداد عنه، ويكشف عن عمق طبيعة شخصيته المُحبة جداً قائلاً: [ كنت أجذبهم بحبال البشر، برُبط المحبة ... وشعبي جانحون إلى الارتداد عني ... قد انقلب عليَّ قلبي. اضطرمت مراحمي جميعاً ] ( هوشع 11: 4و8 )

وقد ظهرت لنا محبة الله المتسعة في عمق أصالة معناها في العهد الجديد: [ ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا ] ( رو5: 8 )؛ [ الذي أحبني وأسلم ذاته من أجلي ] ( غلا 2: 20 )
ولنا أن نعلم بيقين شديد أن محبة الله ثابتة لا تتغير إطلاقاً، بل ومن المستحيل أن تتغير أو تتبدل، فلا يوجد فيه تغيير ولا ظل دوران.
ويقول العلامة ديوناسيوس الأريوباغي: [ أليس حقاً أن المسيح يتقرب بودٍ شديد من الذين يحيدون عنه، ويحاول معهم متوسلاً إليهم أن لا يستهينوا بحبه. وأن لم يُظهروا إلا النفور والتصامم عن سماع مناداته، ألا يظل هو نفسه محامياً وشفيعاً عنهم ]

أرسل شخص ( كاهن ) رسالة للعلامة ديوناسيوس قائلاً: أنه طرد إنسان أرتد عن الإيمان مع الوثني الذي رده عن الإيمان وألقاهم خارج الكنيسة عندما رآهم فيها، وأخذ يفتخر بهذا بصفته غيور على بيعة الله، وقد رد على هذه الرسالة العلامة ديوناسيوس قائلاً:
[ يسوع في وقت آلامه، كان يطلب من الآب الصفح عن أولئك الذين كانوا طغاة نحوه، ولكنه عَنَّف تلاميذه الذين كانوا يرون أنه ينبغي أن يُعاقب بدون رحمة نفاق أولئك السامريين الذي رفضا أن يقبلوه " ( لو 9 : 53 – 56 ). أما إذا كنت تكرر القول مرات عديدة في رسالتك لي، أنك لم تطلب الانتقام لنفسك شخصياً، بل لله، قُل لي بالحق : أيُنتَقم بالشرّ عن من هو الخير الكُلي ذاته ؟ " أليس لنا رئيس كهنة قادر أن يترفق بضعفاتنا " ( عبرانيين 4 : 15 )، بل يتغاضى عن كل سيئاتنا ويرأف بنا، وهو الذي جعل نفسه ضحية " كفارة لخطايانا " ( 1 يو 2:2 ) .
ربما يُمكنك أن تبرر نفسك بأن تُردد بعض الأمثلة من العهد القديم ( عن الذين غاروا غيرة للرب وانتقموا له ) مثل فينحاس ( عد 25 : 13 )، وإيليا ( 1مل 18 : 40 ). ولكن بعضاً من التلاميذ الذين لم يكن لهم شيء من روح الوداعة واللطف وأرادوا أن يتمثلوا بالسابق ذكرهم، لم يُرضي المسيح ( وهو مُعلمهم الإلهي ) بهذا أبداً ( لو 9: 54 ). وهكذا كان مخلصنا يُعلَّم بلطف الذين يُعارضون التعليم الإلهي، لأنه هكذا ينبغي: أن يُهذب الجُهال، لا أن يُعاقبوا؛ أن يؤخذ بيد الأعمى للسير به في الطريق السوي، لا أن يُلكز أو يُلكم ]

ولنا أن نختم هذه الفقرة بما قيل في حزقيال: " هل مسرة أُسر بموت الشرير يقول السيد الرب إلا برجوعه عن طرقه فيحيا " ( حز 18 : 23 )
_________________________

ثالثاً : كيف أتوب
[ أجرة الخطية هي موت ] ( رو 5 : 23 )
بمعنى أن طبيعة الخطية وثمرتها هي موت، فالخطية من تلقاء ذاتها تحمل قوة الموت في داخلها، أي ثمرتها أو نتيجتها الطبيعية هي الموت والانعزال عن الحياة، فالموت دخل إلى العالم بغواية العدو وقبول الخطية والسقوط فيها، واستحالة السقوط يقوم، أو الموت يُقلب لحياة من تلقاء ذاته، لأن الموت يتبعه الفساد، والإنسان الذي يحيا في جسد الخطايا أي الإنسان العتيق المكبل بقيود الخطايا والذنوب مستحيل أن يصبح روحاني من ذاته أو يقدر أن يُثمر ثمر يليق بالروح " هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً " ( مت 7 : 16 ) :

" .. لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا لكي نُثمر للموت " ( رو7 : 5 ) ؛ " أنا جسدي مبيع تحت الخطية " ( رومية 7 : 14 ) .
" فإن الذين هم حسب الجسد فيما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح. لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع. فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ( المقصود جسد الخطية أو الإنسان العتيق الذي يعمل فينا بروح الشر والفساد، وليس المقصود الجسد المادي، لأن الجسد ذاته ليس فيه شر إنما القلب من الداخل – حسب الطبع الغير متجدد بالنعمة ) " ( رو8 : 5 – 8 )

ولكي أقدر أن أصل للتوبة الحقيقية لابد أن أعرف أن سقوطي بحريتي وإرادتي أدخلني في عذاب الجحيم وآلام النفس المجروحة بسبب انعزالي عن المحبوب وكسري لوصيته: [ الله ليس مسبباً لعذابات الجحيم، بل نحن أنفسنا، لأن أصل الخطية وجذرها في حُريتنا وإرادتنا ] ( القديس باسليوس الكبير )

ويقول الأب صفرونيوس عن الموت الروحي الذي أصاب الإنسان بسبب الخطية والعزلة عن الله المحب : [ الموت الروحي هو الجحيم، والجحيم هو حياة إنسانية أُسِرت لغايات متباينة ومتفرقة، لا تنمو، ولا ترى، ولا تذوق ما هو أبعد من الجسد، أو أبعد من هذه الغايات المتفرقة التي تُمزق الكيان الإنساني ] ( عن رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيؤدوروس – عن نص المخطوطة القبطية – الناشر أبناء القديس البابا أثناسيوس الرسولي – صفحة 10و11 )

ومن هنا ندرك لماذا معظم الناس يهتمون بالجسديات والحسيات ويطلبوا كل ما على الأرض، حتى طلبهم للمعجزات الحسية والجسدية هي إشارة بليغة بالاهتمام بالأرضيات والافتخار لحساب مجد الذات وليس لحساب مجد المسيح الرب، وذلك لأن أقصى رؤية لهم هي في حدود الجسد والأرض، لأنهم لم يتذوقوا بعد قوة قيامة يسوع من الأموات: " إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله ، اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد متم و حياتكم مستترة مع المسيح في الله " ( كولوسي 3 : 1 – 3 )
عموماً مستحيل أن يبدأ الإنسان في التوبة إلا لو اكتشف شقاؤه وتيقن من ضعفه وتعرف على عار الخطية المشين ونخس قلبه الروح القدس حتى يستفيق من غفلته ، ولنا أن نتعرف على حالتنا من خلال كلمات الرسول :
" فأننا نعلم إن الناموس روحي و أما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية (عبداً تحت سلطان الخطية )، لأني لست أعرف ما أنا افعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه افعل، فأن كنت أفعل ما لست أريده فاني أصادق الناموس أنه حسن، فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة في، فإني أعلم انه ليس ساكن في، أي في جسدي شيء صالح لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن افعل الحسنى فلست أجد، لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه افعل، فأن كنت ما لست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة في، إذاً أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي ( الشر هو الذي بإمكاني أو هذه هي إمكانياتي )، فإني أُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، و لكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني و يسبيني ( يأسرني ويشدني ) إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي" (رو7: 14-24)
ولا يبدأ الإنسان في عمق أصالة التوبة إلا إذا صرخ من الألم : " ويحي أنا الإنسان الشقي : من يُنقذني من جسد هذا الموت !!! " ( رو7 : 24 )
وفي تلك الساعة فقط يشق ظلمة قلبه نور المسيح الحلو فينطق من كل قلبه : " أشكر الله بيسوع المسيح ربنا " ( رو7 : 25)

يقول القديس مقاريوس الكبير: [ أن من يأتي إلى الله، ويرغب أن يكون بالحق شريكاً للمسيح ينبغي أن يأتي واضعاً في نفسه هذا الغرض: ألا وهو أن يتغير ويتحول من حالته القديمة وسلوكه السابق، ويُصير إنساناً صالحاً جديداً، ولا يتمسك بشيء من الإنسان العتيق. لأن الرسول يقول: " إن كان أحد في المسيح فهو خلقية جديدة " ( 2كو 5 : 17 )، وهذا هو نفس الغرض الذي من أجله جاء ربنا يسوع، أن يُغير الطبيعة البشرية ويُحولها ويُجددها، ويخلق النفس خلقة جديدة، النفس التي كانت قد انتكست بالشهوات بواسطة التعدي. وقد جاء المسيح لكي يوّحد الطبيعة البشرية بروحه الخاص، أي روح الله، وهو قد أتى ليصنع عقلاً جديداً، ونفساً جديدة، وعيوناً جديدة، وآذاناً جديدة، ولساناً جديداً روحانياً، وبالاختصار أناساً جدداً كلية – هذا هو ما جاء لكي يعمله في أولئك الذين يؤمنون به. إنه يُصيرهم أواني جديدة، إذ يمسحهم بنور معرفته الإلهي، لكي يصب فيهم الخمر الجديد، الذي هي روحه، لأنه يقول إن " الخمر الجديدة ينبغي أن تُضع في زقاق جديدة " ( مت 9 : 17 ) ] ( عظات القديس مقاريوس الكبير عظة 44 فقرة 1 ص 332 ، الطبعة الرابعة – ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد يناير 2005 ؛ مؤسسة القديس أنطونيوس – المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية - نصوص آبائية 85 )

" إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الزنى النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذي هو عبادة الأوثان، الأمور التي من أجلها يأتي غضب الله على أبناء المعصية، الذين بينهم أنتم أيضاً سلكتم قبلاً حين كنتم تعيشون فيه، وأما الآن فاطرحوا عنكم أنتم أيضاً الكل الغضب السخط الخبث التجديف الكلام القبيح من أفواهكم، لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، و لبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه. " ( أنظر كولوسي 3 )

__________________________________________________ ___________

وفي الجزء القادم سنتكلم عن
معوقات التوبة وجهاد الإنسان
 
أعلى