وعلق الدكتور الذي حقق هذا الكتاب على هذا الحديث بقوله ( وهذا التوفيق ليس صحيحاً إذ أن بعث الملك في الحديث جاء بعد هذه المراحل وعبر عنه بلفظ " ثم" وهي تفيد الترتيب والتعقيب،، والتوفيق الصحيح هو ما ذكرناه آنفاً بحيث يكون في حديث ابن مسعود دخول الملك بعد الاربعين الثالثة وحديث حذيفة يبين دخول الملك بعد اربعين يوماً تالية للاربعين الثانية التي يكون فيها جمع الخلق في العلقة وهو ما عبر عنه بلفظ " بعد ما تستقر" حيث ان الاستقرار يعني تعلق النطفة في جدار الرحم)
ولا ادري أي ملك يتحدث عنه الدكتور إذا كنا نتحدث عن العلم. فعلم الاجنة كما درسناه لا يتحدث عن دخول ملائكة الى رحم المرأة الحامل لتنفخ الروح في جنينها. وقد تكون هذه وقفة مناسبة نسأل فيها الدكتور، من ينفخ الروح في أجنة الكلاب وهي في أرحام أمهاتها؟ فنحن نعلم من الاحاديث النبوية ان الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب. وبالتالي نستطيع ان نقول ان الملائكة لن تدخل رحم كلبة حبلى، فمن أين تأتي الروح لأجنة الكلاب؟ هل ينفخها الشيطان أم تدخل في الكلب دون ان تُنفخ. فإن كان الاخير، فلا داعي إذاً لملك ينفخ الروح في الجنين.
وحسب الاحاديث السالفة يستغرق الجنين من كونه نطفة فعلقة فمضغة مائةً وعشرين يوماً، ثم عشرة أيام لنفخ الروح، اي ما يزيد عن ثمانية عشر اسبوعاً ثم ينفخ فيه الروح ويُحدد له ان يكون ذكراً أو أنثى. وهذا الكلام أبعد ما يكون عن العلم الحديث. فدعنا ننظر ماذا يقول العلم عن تكوين الجنين.
علم ألاجنة أي أل " Embryology " كما يُدرّس في كليات الطب الحديثة يقول: أن الحيوان المنوي الذي يحمل ستةً واربعين من " الكروسومات"، واحد منها يسمى " اكس" وهو كروموسوم الانوثة، وواحد يسمى " واي" وهو كروموسوم الذكورة يدخل الرحم وقت الجماع ويسافر في فراغ الرحم حتى يدخل احد الانبوبتين اللتين توصلان بين المبيض والرحم، وإذا قابل بويضة الانثي التي تحمل ستةً واربعين من " الكروسومات"، أثنين منها تدعى " اكس" وهي كروموسومات ألانوثة، حصل التلقيح وابتدأت البويضة في الانقسام الى خليتين ثم أربعة ثم ثمانية وهكذا. وفي نفس الوقت تواصل تقدمها في الانبوب نحو الرحم. فإذا وصلت الرحم التصقت بجداره وواصلت انقسامها، وإذا لم تصل الرحم، تظل في الانبوب وتواصل انقسامها الى ان ينفجر الانبوب، وهذا ما يسمى بالحمل الانبوبي أي حمل خارج الرحم.
أما إذا دخلت الرحم والتصقت به وواصلت انقسامها، تنفصل الخلايا الى ثلاثة طبقات: أكتوديرم وميسوديرم واندوديرم. الطبقة الاولى يتكون منها المخ والاعصاب والجلد. والطبقة الثانية يتكون منها العظام والعضلات والاوعية الدموية. أما الطبقة الاخيرة فيتكون منهاالامعاء والرئتين والكبد والبنكرياس. وكل هذه الاعضاء تنموا بالتوازي وليس بالتسلسل.
بنهاية الاسبوع الرابع يكون طول الجنين سنتيمتراً واحداً ووزنه جراماً واحداً وقد ظهر منه الرأس والبدن والذنب وظهرت مواضع العينين. وبنهاية الاسبوع الثامن يكون طول الجنين ثلاثة سنتيمترات ووزنه اربعة جرامات وقد ظهرت منه الايدي والاصابع والارجل والاقدام بأصابعها. وهنا يكون قد ابتدأ في الظهور أول عظم بالجسم، وذلك عظم الترقوة. بقية العظام ما زالت مكونة من غضروف ولا بد ان ,تترسب املاح الكالسيوم في هذه الغضاريف لتصير عظاماً.[205]
وبنهاية الاسبوع الثاني عشر يكون الجنين قد اكتمل تكوينه وصار طوله حوالي تسعة سنتمترات ووزنه ستون جراماً. وتكون المشيمة قد اكتمل نموها لتمد الجنين بالغذاء اللازم لنموه وبالاكسجين. وبنهاية الاسبوع السادس عشر يبدأ القلب في ضخ الدم حول الجسم ويبدأ الطفل الحركة داخل الرحم. وينمو الجنين بعد ذلك بسرعة كبيرة وتترسب املاح الكالسيوم في الغضاريف لتكوّن العظام.
أما كون الجنين ذكر أم أنثى فهذا يتحدد في اللحظة التي يتم فيها تلقيح البويضة، فإن خالط البويضة كروموسوم واي وهو الذكر صار الجنين ذكراً وإن خالطها كرومسوم اكس وهو كروموسوم الانوثة، صار الجنين أنثى. فالحيوان المنوي هو الذي يحدد جنس الجنين إذ أن البويضة تحمل كروموسومات الانوثة فقط، بينما يحمل الحيوان المنوي كروموسومات الانوثة والذكورة
فنحن نرى هنا انه بنهاية الاسبوع السادس عشر يكون شكل الجنين قد اكتمل وبدأ قلبه يضخ الدم وبدأ هو بالحركة، فهو إذاً حيّ يتحرك ولم تتكون منه الا أجزاء من عظام ترسب فيها الكالسيوم. ويحدث كل هذا بنهاية الاسبوع السادس عشر وليس في منتصف الاسبوع الثامن عشر كما تقول الاحاديث سابقة الذكر، عندما يدخل الملك لينفخ فيه الروح.
وكما ذكرنا سالفاً أن أول عظم يبدأ بالظهور في الجنين هو عظمة الترقوة، وتبتدئ بالظهور في الاسبوع السابع من تكوين الجنين. وبقية العظام تكون مكونة من غضروف تترسب به املاح الكالسيوم بالتدريج. وبعض العظام ( كعظام الرسغ) لا يتم تكوينها النهائي الا بعد سنوات من ولادة الطفل. فاذاً فكرة خلق العظام اولاً ثم كسوتها لحماً فكرة غير صحيحة.
وتتكرر نفس الفكرة في سورة البقرة ألآية 259 عندما أمات الله رجلاً وحماره مائة عام ثم احياه وقال له كم لبثت؟ قال لبثت يوماً او بضع يوم. فقال الله له انظر الى عظام حمارك الميت: " وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً". أي انظر الى عظام الحمار الميت كيف نربطها بعضها على بعض ثم نكسوها لحماً ثم نُحي الحمار. فهو هنا مرة اخرى يخلق العظام ويربطها ببعضها ثم يكسوها لحماً.
وحتى الاحاديث المنسوبة للنبي لا تمت للعلم بشئ. فقد ذكر ابن كثير في تفسيره للآية المذكورة اعلاه أن بعض الناس يقرأها " فخلقنا المضغة عظماً " وقال ان ابن عباس قال: هو عظم الصُلب، وروى حديث ابي الزناد عن الاعرج عن ابي هريرة قال: قال رسول الله (ص): " كل جسد ابن آدم يبلى الا عجب الذنب، منه خُلق ومنه يُركّب". وطبعاً الانسان لا يُخلق من عظم العجب، وليس عظم العجب أقوي شئ فيه. فالمعروف ان اسنان الانسان هي اقوي شئ في جسمه إذ تتكون من مادة ال Enamel وهي آخر ما يبقى من جسم الانسان.
وفي حديث آخر قال الامام احمد حدثنا حسن بن الحسن، حدثنا ابو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابيه عن عبد الله قال: مر يهودي برسول الله (ص) وهو يحدث اصحابه، فقالت قريش: يا يهودي، ان هذا يزعم انه نبي. فقال اليهودي: لأسألنه عن شئ لا يعلمه الا نبي. فقال: يا محمد مم يُخلق الانسان؟ قال من كلٍ يُخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فاما نطفة الرجل فنطفةٌ غليظة منها العظم والعصب واما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم. وطبعاً هذا الكلام لا يمت للحقيقة بشئ، ولا يستحق التعليق عليه.
وأما لماذا يشبه المولود أباه أو أمه؟ فنحن الآن نعرف أن ذلك ناتج عن جينات الوراثة التي يكتسبها الطفل من ابويه وقت تلقيح البويضة، فإذا كثرت جينات الاب صار الطفل أشبه بأبيه، وإن كثرت جينات الام ، صار أشبه بأمه. ولا بد للطفل ان يرث جينات من أمه وأخرى من ابيه وبذا يكتسب بعض الصفات من الام والبعض الاخر من الاب. ولكن أنظر ماذا يقول علماء الاسلام.
في صحيح مسلم عن عائشة: أن أمرأة قالت لرسول الله (ص) هل تغتسل المرأة اذا احتلمت فأبصرت الماء؟ فقال: نعم، فقالت عائشة: تربت يداك، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: دعيها وهل يكون الشبه الا من قٍبل ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل – أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه.
هذا الحديث لا شك ألفه رجال لا يعرفون أي شئ عن الفيسيولوجي. فالمرأة إذا احتلمت لا يخرج منها مني، وإذا جامعت الرجل لا يخرج منها ماء ليعلو ماء الرجل أو ليعلوه ماء الرجل. فقد ذكرنا سابقاً ان المهبل وبعض الغدد في شفائف المهبل تفرز مادة لزجة عند التهيج وقبل بدء الجماع لتسهيل عملية الايلاج، ولكن عندما تتهيج المرأة اثناء الجماع " Orgasm " فلا يخرج منها ماء حتى يعلو ماء الرجل أو يعلوه ماء الرجل.
والدكتور عبد الغفار البنداري الذي حقق كتاب ابن قيم الجوزية يعلق على هذا الحديث فيقول: ( أخرجه مسلم، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها/ والشبه هنا غير الجنس والنوع. فالشبه شئ بقدرة الله تعالى. وهو ما فُهم سببه في الطب الحديث بغلبة الصفات الوراثية التي تحملها الجينات الوراثية التي تتكون منها الحيوانات المنوية الموجودة في ماء الرجل او الجينات الوراثية التي تتكون منها خلايا البويضة الموجودة في ماء المرأة. وهذا معنى أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه).[206]
يتبع ,,,