على صورة الله كشبهه

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
احبائي:
هذا الموضوع كتبه صديقي الراهب روجيه،وسانشره هنا لاول مرة لكي تعم الفائده على الجميع ، وساضعه على اجزاء لتسهل قرائته، ارجوا ان يعجبك الموضوع. وشكرا



على صورة الله كشبهه

(الجزء 1)

بقلم ر. أ. باريس في 24/4/2004

في الديانات الوثنية، يحتاج الناس لأن يروا إلههم المعبود مجسّداً أمام ناظريهم لكي يقدموا له العبادة اللائقة. أمّا الله فحين أعطى اسرائيل الوصايا العشر بواسطة عبده موسى، أمرهم قائلاً: "لا تصنعوا لكم صورةَ ولا شبهَ شيء مما في السماء من فوق ..." (خر 20/4الترجمة السريانية). وفي الوقت عينه، أوحى الله لموسى قوله "لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1/26). وبالتالي أراد الله أن يُفهم اسرائيل بعدم جدوى التفتيش عن صورته وشبهه في عناصر الطبيعة ومخلوقاتها، لأنّ هذه الصورة مرسومة في داخل الإنسان وحده. فكفى التخيلات الوثنية التي تعتقد أننا مخلوقون على صورة الله ولهذا السبب فإنّ الله له شكل مشابه لنا: عينان، وأذنان ورأس وقدمان للسير، ... ليس لله شكلٌ جسماني، فهو روح والساجدون له بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا (يو4/24). لا يُحدّ الله في أشكال مجسّمة بحسب تفكير البشر. ولسنا على صورة الله بحسب الجسد، لأنّ شكل الجسد شكل فاسد. وليس الفاسد صورة عدم الفساد. الجسد ينمو ويضعف، يشيخ ويتبدّل. في صباه هو شيء؛ وفي الكهولة شيء آخر؛ في العافية شيء، وفي المرض شيء آخر؛ في الخوف شيء وفي الفرح شيء آخر؛ في الصراع شيء وفي الراحة شيء آخر؛ في الاستيقاظ شيء وفي النوم شيء آخر؛ حالاته تتبدّل من مكان إلى آخر، من زمان إلى آخر، من عرق إلى آخر. العادات التي يمارسها، والتقاليد التي يحفظها، والوظائف التي يقوم بها، كلّ هذه تؤثّر عليه، وكلّها متبدّلة من شخص إلى آخر لأنّ كل فرد منّا فريد وخاصّ ومنفصل عن الآخرين. فإن لم تكن صورة الله فينا هي شكل الجسد، فما هي يا ترى ؟ كيف كل البشر على اختلاف أنواعهم، وأجناسهم وأعراقهم هم جميعاً مخلوقون على صورة الله؟
عندما يطرح الآباء هذا الموضوع، تكون إجاباتهم مستفيضة وغنية جدًّا. ولكنهم طوراً يلتقون في التفسير وأطواراً يفترقون. ما سنحاول القيام به في سياق بحثنا، هو إجراء مراجعة عامة لآراء آباء الكنيسة شرقاً وغرباً في موضوع صورة الله وشبهه. سنعرض وجهة نظر مار أفرام والذهبي الفم وأغسطينوس وغريغوريوس النيصي، ثمّ سنتطرق إلى الآباء الذين يفرقون بين الصورة والشبه، وبالأخص إيريناوس وباسيليوس الكبير. في مرحلة لاحقة، سنرجع إلى سفر التكوين نفسه لنرى ما هي القراءات الأخرى الممكنة للنص المقدس، وما هي في نهاية المطاف، الأبعاد الخلاصية التي يضمها مفهوم "صورة الله".
يتبع...
 
التعديل الأخير:

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
على صورة الله كشبهه


(الجزء 2)



صورة الله: الإرادة، الحرية، العقل، أم السيادة؟




مار أفرام السرياني

في البداية ننطلق من بيئة شرقية، وبالتحديد، من التقليد السرياني لنرى كيف يعالج كنارة الروح القدس مار أفرام السرياني هذا الموضوع. في تفسيره لسفر التكوين[1]، يرى الملفان أن خلق الإنسان على صورة الله قد تمّ من خلال ثلاثة أمور:
1- صورة الله هي الحرية المعطاة للإنسان بالاستماع إلى الله إذا شاء ذلك.
2- تتمثّل صورة الله أيضاً في سيادة الإنسان على الخليقة. فبهذه السلطة يشابه الإنسان الله الذي له السلطان على كل ما هو في السماء وعلى الأرض.
3- إن صورة الله قد تحققت بالكامل في ابن الله نفسه، المسيح الكلمة.
من النقاط التي يشدّد عليها مار أفرام، أن الله يستطيع أن يدخل في علاقة مع الإنسان بفضل ومن خلال الصورة التي وضعها في داخله. هذه العلاقة تتحقق بواسطة الله الكلمة الذي هو أيضاً صورة الآب والمشابه له في كل شيء. مثله، هو الله. مثله، هو فوق كل الأزمنة وبغير بداية، كما يعبر عن ذلك أفرام بقوله: "هو في فمه عندما يأمر، في يده عندما يخلق"[2]. هو إذاً في الوقت عينه صورة الآب ومثال الإنسان الأكمل. ولذلك فكل الخليقة التي أبدعتها يدا الباري تتحقق فيه، في تجسّده لأنه اتخذ الطبيعة البشرية بالكامل. والهدف النهائي من كل ذلك، هو المبدأ الشائع بين الآباء: استخراج إله من الإنسان الخاطئ. "صار مثلنا على مثالنا، لنصير نحن مثله[3]".
من ناحية أخرى، ما يجعل من الإنسان إنساناً هو أنه متكلّم، ناطق (مالُولُو). إنه وبحسب عبارة مار أفرام، "حمل ناطق" و"قيثارة" تغني التسبيح للخالق. والنطق لا ينفصل عن الحرية عند مار أفرام: "بما أنّك قيثارة حية وناطقة، فإنّ أوتارك وأقوالك تتمتع بالحرية. أيا قيثارة تسبّح إلهها من ذاتها وبمشيئتها الخاصة"[4]. يرى أفرام صورة الله في هذه الإرادة الحرة للإنسان التي تمكنه من الدخول في علاقة معه تعالى. إن الله المتعالي والسامي يتكلم وينتظر من الإنسان جواباً. والإنسان بوسعه أن يجيب بملء حريته لأنه يملك في داخله هذه الصورة الإلهية: الحرية والنطق. ولعلّ اسرائيل هو أول من فهم، بل عاش حياته كحوار بين الإنسان والله. ليس فضل اسرائيل في أنه علّم العالم الإيمان بالإله الواحد، ففلاسفة الإغريق العظام اعتقدوا هم أيضاً بمبدأ واحد خالق وغير مخلوق. وكانوا يحسبون تعدد الآلهة ضرباً من الخرافات والأساطير. غير أن فضل اسرائيل هو إظهاره إمكانية التكلم حقًّا مع الله، والوقوف أمامه والقول له: "أنتَ". كلّ ذلك بفضل الصورة التي وضعها الخالق في الإنسان.

[1] Sancti Ephraem Syri in Genesim et Exodum commentarii, edidit R.-M. Tonneau, CSCO 152/syr 71, Louvain 1955. Cf. aussi Nabil El-Khoury, « Gen 1,26 Dans l’interprétation de Saint Ephrem ou la relation de l’homme à Dieu », Orientalia Christiana Analecta, 1972, pp. 199-205.

[2] Ed. Beck (ed.), Des Hl. Ephraem des Syrers Sermones de Fide, CSCO 212/ syr 88, Louvain 1961, I, 75.

[3]الإشحيم بحسب طقس كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية (سرياني)، مطبعة المعوشي وزكريا، بيروت، 19824، ص 83.

[4] Ed. Beck, Des Hl. Ephraem des Syrers Hymnen de Fide, CSCO 154/ syr 73, Louvain, 1955, 25, 1.
 
التعديل الأخير:

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
على صورة الله كشبهه
(الجزء3)

الذهبي الفم
بعد الملفان الكبير، نرى الذهبي الفم يعتمد الخط عينه تقريباً، مع التشديد أكثر على طابع الملوكية عند الإنسان وسلطانه الذي لا يُعادل بين المخلوقات.

"إن الله يخلقنا وفي الوقت عينه يمنحنا الملوكية. فهو يقول: 'لنصنع الإنسان على صورتنا وشبهنا' (تك 1/26). فماذا يعني بقوله على صورتنا وشبهنا؟ يقصد على صورة تسلّطه. فكما أنه ليس في السماء أحد فوق الله، كذلك على الأرض لن يكون هناك أحد فوق الإنسان. إن الربّ قد وهبنا إذاً، نحن فقط، الفخر في أن يخلقنا على صورته. هذه المملكة، نلناها إياها لا استحقاقاً لأعمالنا، بل بفضل صلاحه فقط. وقد أراد أن يكون ذلك ميزة لطبيعتنا"[1].

من وجهة نظر الذهبي الفم، خُلق الإنسان ملكاً. وبهذا، هو على صورة الله لأنه يملك على الخليقة. إنه مخلوق ليتسلّط على كلّ الأرض. صُنع الإنسان على صورة الله أي على صورة سيادته، وبذلك أصبح الإنسان إمبراطوراً على إمبراطورية الخليقة. ولكن دعوته الأخيرة تفوق هذا الامتياز سموًّا: دعوته النهائية هي التأليه. ولنا عودة إلى هذا المفهوم في ما بعد.

أغسطينوس
إن اللاهوت الغربي، ولا سيما الأغسطيني، يسلك طريقاً مختلفاً اختلافاً جذرياً عن خط الآباء الشرقيين عامةً. نقطة الانطلاق في تحليل أغسطينوس هي سؤال بسيط: لماذا يخطئ الإنسان؟ والجواب: لأنه خُلق حرّاً. وسوء استخدام هذه الحرية يقود إلى الخطيئة. وهنا يميّز أغسطينوس بين معنيين للحرية: من جهة، هناك الحرية التي يدعوها (libertas) وهي طاعة الإنسان لله أي الاستماع إليه تعالى. هذا هو المعنى الأول للحرية التي تُعرف أيضاً كميثاق بين الله والإنسان. ومن جهة أخرى، هناك الحرية (libre-arbitre) التي تعرف بكونها حرية الاختيار. وأمّا الخطية فتنشأ في كل مرة تتصدّى فيها حرية اختيارنا، للحرية الأولى أي خضوعنا لله. فالإنسان، من وجهة نظر أغسطينوس، لم يُخلق خاطئاً بل قابلاً لارتكاب الخطأ؛ ثمّ يذهب أغسطينوس إلى أبعد من ذلك فيقول إنّ الإنسان قد خُلق على صورة الله كاملاً. منحه الله ذهناً ليدرك ويفهم، وبهذا يظلّ مخلوقاً محدوداً ومختلفاً عن الله. على الإنسان أن يقرّ بمحدودية فهمه أي باختلافه جوهريًّا عن الله. بيد أن الباري وهبه أيضاً إرادةً لا محدودة أي حرية اختيار تمكّنه من الثبات في كماله. ويخلص أغسطينوس إلى القول إنّ التجاذب الداخلي في الإرادة البشرية سببه الخطية، وما هذا التوتّر الداخلي سوى سوء استخدام لحرية اختيارنا. وبالتالي فالحرية مشوبة دائماً بالخطية. عندما يخطئ الإنسان، إنما بحريّته يخطئ. ولذلك يعتبر أغسطينوس أنّ الإنسان خُلق على صورة الله بالفهم والإدراك لا بالحرية. وهذه النظرة سوف تطغى في التقليد الغربي عبر العصور وسيعتمدها ركن اللاهوت الغربي في القرن الثالث عشر، توما الأكويني. في حين أننا نجد بين الآباء الشرقيين، من يعتقد فعلاً أن صورة الله في الإنسان هي الحرية كما رأينا آنفاً.

يتبع....

[1] Jean Chrysostome, Homélies sur les statues, VII, p.21.
 
التعديل الأخير:

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
سوف نتابع اقوال الآباء ومفهومهم للآية التي تتكلم عن
خلق الانسان على صورة الله كشبهه قريباً باذن المسيح

ارجو التعليق على الموضوع. وشكرا لكم
:36_33_7:​
 
التعديل الأخير:

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
اين تعليقكم على الموضوع ياشباب
هل اتابع ام اقف:smil8:

:36_33_7:​
 

ديديموس

THE SEER
عضو نشيط
إنضم
20 يناير 2006
المشاركات
632
مستوى التفاعل
6
النقاط
0
إكمل يا مور أنطونيوس

جزاك الله خيراً وجعله في ميزان حساناتك
 

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
على صورة الله كشبهه
(الجزء4)


غريغوريوس النيصي
عند غريغوريوس النيصي، تعتبر صورة الله الملكية هي النوس (الروح العاقلة). هذه الروح هي عنصر الوحدة بين أجزاء النفس الثلاثة: النفسي، الحسي والناطق. الصورة هي الرابط الوثيق بين الخالق والمخلوق. يشدّد غريغوريوس كثيراً كما نجد أيضاً لدى مار أفرام، على الارتباط بين الإنسان والله من خلال الصورة والشبه. فهذان هما العاملان الرئيسيان لكي يسكن رضا الرب في الإنسان[1]. الصورة تخلق في داخل الإنسان علاقة قرابة ورابط شخصي ورغبة شديدة تجعله يتوق دوماً إلى خالقه، ولكن لا رغماً عنه. فالإنسان خُلق على صورة الألوهة ويملك في طبيعته إرادة حرة ومستقلة لكي تكون مشاركته في الخيرات الإلهية مكافأة لفضيلته. غير أنه أساء استخدام هذه العطية الملوكية أعني الحرية، فسقط من دون أن يفقد في أعماق ذاته الختم الإلهي. فالخطيئة لا تمحو الصورة الإلهية وإنّما تلطخها فقط. ولذلك لا بدّ من أن يمرّ الإنسان في مياه المعمودية حتى تغسل الأوساخ فتستعيد الصورة والشبه بهاءهما الأصلي[2]. والجدير بالذكر أن غريغوريوس لا يجري تمييزاً بين الصورة والشبه. فالصورة تشمل الشبه الذي يُعرّف بضمّه مجمل مميزات الألوهة، من إرادة وتفكير ونطق الخ.

كذلك الأمر لدى أغسطينوس: لا تمييز بين الصورة والشبه. هما حاضران في البدء عند الخلق، ومتلازمان دائماً. يصابان معاً بسبب الخطية ويجرّحان معاً مثل مرآة وسخة. ولكن الرب يُصلح كليهما بنعمته، ويُكسيهما حلّة الكمال في الإنسان المنتصر في السعادة الأبدية. إنّ الخطية لا تقضي عليهما كليًّا، لأنّ الإنسان لا يرجع أبداً إلى حالة الطبيعة المجردة. مهما ابتعد عن الله، تبقى الرغبة في معاينة الله[3] ساكنة فيه دائماً[4].

إذا كان بعض الآباء قد صنفوا الصورة والشبه في خانة واحدة، واعتقدوا بأنها قد وُهبا معاً وأصيبا معاً بسبب الخطية، ثمّ أُصلحا وينميان سوية، إلاّ أنّ بعضهم أيضاً جعلوا فارقاً بين الاثنين. وكرّسوا هذا الفارق بطرحهم الدقيق لقراءة سفر التكوين. بالفعل، فأصل هذا التمييز هو في نص التكوين نفسه حيث وجد الآباء فارقاً بسيطاً بين تك 1/ 26 و تك 1/ 27. فالآية الأولى تتحدث عن إرادة الله أن يصنع الإنسان على صورته كشبهه، أما الثانية فتقول إنّ الإنسان قد خُلق على صورة الله فقط. وبالتالي، يرى هؤلاء الآباء في غياب "الشبه" في الخلق إشارة إلى أن مشروع الله لم يتحقّق كليًّا: يبقى على الإنسان أن ينجز العمل بالانتقال من الصورة إلى الشبه.


[1] Grégoire de Nysse, La création de l’homme, XVI ; trad. J. Laplace, SC 6, 1943, p. 151-161.

[2] Cf. Grégoire de Nysse, Catéchèse de la foi, trad. Annette Maignan, coll. PDF 6, Desclée de Brouwer 1978, §§ 5-8. 34-40 et p. 111.

[3] هذه النظرة اللاهوتية للإنسان على صورة الله وشبهه التي تترافق مع نظرة روحية وسرية (mystique معاينة الله والاتحاد به)، نجدها عند غريغوريوس النيصي وأغسطينوس. وستعالج فيما بعد بزخم وإسهاب من قبل ديونيسيوس الأريوباغي ومكسيموس المعترف، وكذلك في العصور الوسطى عند أنسلم وبرنار.
Cf. Dictionnaire de Spiritualité, art. « Divinisation », t. III, Paris, Beauchesne 1957, col. 1399-1413.

[4]Cf. P. Agaësse, L’anthropologie chrétienne selon St Augustin. Image, liberté, péché et grâce, Paris, Centre Sèvres, 1980, p. 27.

يتبع....
 
التعديل الأخير:

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
على صورة الله كشبهه
(الجزء5)


الصورة والشبه مختلفان


إيريناوس
بادئ ذي بدء، وقبل أن نفتش عن الفارق بين الصورة والشبه، علينا أن ندرك كيف يعرّف إيريناوس صورة الله. إليك ما يقول:

" إن عبارة 'كم من مرة أردت أن أجمع أبناءك فلم تريدوا' تلخّص جيداً الشريعة القديمة، شريعة حرية الإنسان. إن الله قد خلقه حرًّا، متمتّعاً منذ البداية بملكة القرار، مثل نفسه عينها، لكي يستفيد من مشورة الله إرادياً لا مرغماً من قبل الله. ليس عند الله غصبٌ، ولكن المشورة الصالحة ترافقه دائماً. ولذلك فهو من جهة، يعطي المشورة الصالحة للجميع، ومن جهة أخرى، أعطى للإنسان القدرة على الاختيار، كما سبق ففعل مع الملائكة"[1]

بحسب هذا القديس، من الواضح أن صورة الله في الإنسان هي الحرية. منذ البدء، خُلق الإنسان حراً كالملائكة، قادراً على أن يقرر بذاته. فخاصة الله الأولى هي أنه كائن له أن يختار ويقرر بذاته. والخلق بحد ذاته كان قراراً واختياراً. هذه الحرية أو القدرة على الاختيار قد أُعطيت للإنسان لتنصت أولاً إلى مشورة الله الصالحة لا إلى مشورة الحية. لم تُفرض قسراً. فالله لا يفرض ممنوعات، بل يعطي المشورة الصالحة. ووصيته ليست أمراً صارماً، بل أسلوب تعليمي. فإذ قال لا تأكل من هذه الشجرة، لم يفرض الله مانعاً بل وضع حداً للإنسان، على الإنسان ألا يتعداه وذلك لخيره، ذلك إن أراد أن يتقدّم على طريق الكمال.
ثم نأتي الآن إلى التمييز بين "الصورة والشبه". جلّ ما يمكن قوله هو أن إيريناوس يحيّر قارئه بسب تأرجحه في عباراته. مما يحملنا على الظن أنّ هذا التفريق لم يكن واضح المعالم تماماً في لاهوته. فهو تارة لا يميّز بين الصورة والشبه فيقول، على سبيل المثال، إن الإنسان "مخلوق على صورة الله وشبهه"[2]، وإنّه "يصير على الصورة والشبه"[3]، وإنّ ابن الله يعيد لنا ما فقدناه في آدم، أي "أن نكون على صورة الله وشبهه"[4]. وهو نفسه، يفرّق تارة أخرى، في الإطار عينه بين الصورة والشبه، سيّما عندما يتحدّث عنهما بالمقارنة مع تكوّن الإنسان من جسد ونفس وروح، بحسب المفهوم الأنثروبولوجي لدى القديس بولس في 1 تس 5/23. فيقول إنّ الإنسان المنفصل عن الله هو جسد ونفس لا غير. لا شكّ أنّه على صورة الله ولكن ليس كشبهه. أمّا الإنسان الّذي يسكنه الروح، فهو جسد ونفس وروح. وبالتالي فهو على شبه الله. هذا الشبه يمنحه عدم الفساد ويشركه بالحياة الإلهية[5]. نستشف من قوله هذا أنّ حضور الروح في الإنسان هو أصل التفرقة بين الصورة والشبه. فالشبه هو الروح بمعنى الحياة المكرّسة لله التي تنمو بالإقتداء بالمسيح. هذا النموّ يتّصل اتّصالاً وثيقاً بالإعلان عن محتوى الصورة من خلال تجسّد الكلمة:
"في السابق، كانوا يقولون إن الإنسان مصنوع على صورة الله، ولكن ذلك لم يكن منظوراً، لأن الكلمة حينها لم يكن بعد منظوراً، هو الذي على صورته خُلق الإنسان. ولهذا السبب بالذات، فُقد الشبه سريعاً. ولكن عندما تجسّد الكلمة، ثبّت الواحدة من الأخرى: أظهر الصورة على حقيقتها كاملةً، بصيرورته ما كانت عليه صورته، وأصلح شبهه بشكل ثابت، إذ جعل الإنسان مشابهاً تماماً للآب غير المنظور بواسطة الكلمة الذي أصبح منذ ذلك الحين منظوراً"[6].

وهنا ثمّة ارتباط سري بين صورة الله في الإنسان والمسيح الذي هو "صورة الله غير المنظور" بحسب الرسول بولس (قول 1/15). إذا كان الإنسان قد صُنع على صورة الله، فهذا يعني أنه صُنع على صورة المسيح. لا شكّ أن حقيقة الصورة كانت مستترة قبل التجسد. ولذلك تجسّد الكلمة على صورة الذي هو صورته بالذات، لكي يعلن له حقيقة هذه الصورة التي تكوّنه، ولكي يعيد له الشبه الذي كان مستوراً. إن التجسّد يبيّن عمق الارتباط الطبيعي بين الإنسان والله. بل إنّ عربون الروح يهيئ الإنسان لكي يحمل الله في داخله، ولكن "نعمة الروح الكاملة ... تجعلنا مشابهين له وتتمّم مشيئة الآب، لأنّها تكمّل الإنسان على صورة الله وشبهه"[7].
إنّ إيريناوس هو من الأوائل الذي وضعوا أسس لاهوت صورة الله عند آباء الكنيسة. والتمييز الذي جعله أحياناً بين الصورة والشبه، نلقاه لدى آباء آخرين من بعده؛ عند قليمنضوس الإسكندري مثلاً الذي يعرّف الخلاص بكونه "تشبّه" الإنسان التام بالله[8]، ولدى أوريجانوس أيضاً حيث يشير إلى أن صورة الله فينا هي أيضاً صورة المسيح[9]، ولكن الشبه هو عطية الكمال الأخير. وقد كتب معلّقاً على تك 1/ 26-27: "في خلقه الأوّل، نال الإنسان كرامة الصورة، ولكن كمال الشبه محفوظ له عند انقضاء الدهور"[10]. وأمّا بين آباء القرن الرابع، فإنّ أبرز من فصّل جيداً هذا التمييز بين "الصورة والشبه"، هو القديس باسيليوس الكبير أخو غريغوريوس النيصي.


باسيليوس الكبير
كما فعلنا سابقاً، لننظر أولاً ماذا يقول باسيليوس عن صورة الله[11]. نرى أنّه يعود بدقة إلى نصّ سفر التكوين حيث يقرأ: "لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا، وليتسلّط على أسماك البحر ..." (تك 1/ 26). وهنا يتساءل باسيليوس: بماذا يتسلّط الإنسان على الحيوانات، بجسده أم بعقله؟ إنّ جسدنا لأضعف من بهائم كثيرة. ثمة فارق بين جسد الإنسان وجسد الجمل أو الثور أو باقي البهائم الوحشية في البحر والبر والجو، لأن جسد الإنسان أضعف منها. فبمَ يتسلط عليها؟ لا شكّ بتفوّق العقل أو النطق. فكلّ ما ينقص قوة الجسد، يكمّله عمل العقل. وعندما يقول الكتاب "لنصنع الإنسان على صورتنا"، يتحدّث عن الإنسان الداخلي، عن العقل لا عن الجسد. وهذا الأمر صريح.
وعندما نفكر ملياً بهذا، ثمة ما يثير دهشتنا!ما إن خلق الله الإنسان حتى سلّطه على الخليقة وجعله سيداً عليها. وهذه السيادة هي التي تهب له صفته الإنسانية. ولكن كم من مرة جعل الإنسان نفسه عبداً للخليقة، فانحنى أمام صورها، أمام المال والشرير، وصار عبداً للخطية، في حين أنّه خُلق سيداً حرًّا ليتسلّط على الخليقة بطبعه ...

بعد هذه المقدمة القصيرة، نصل إلى التمييز بين الصورة والشبه لدى باسيليوس. يتابع القديس تفسير الفصل الأول من سفر التكوين، حيث يقرأ: "وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" (تك 1/ 27). ويلاحظ بدقة وعن حقّ، أن الله في تداوله الأول (آ 26)، كان قد قال: "على صورتنا كشبهنا". أما في التنفيذ، فخلق على صورته فقط. فأين أمسى الشبه؟ هل بدّل الله رأيه بين التفكير والتنفيذ؟ ربما كانت الصورة والشبه الشيء عينه، فلم يكرره. ولكن، بحسب باسيليوس، هذا غير ممكن. لأن القول إنّ الإنسان مخلوق على صورة الله لا يشمل كونه مخلوقاً على شبهه. بواسطة الخلق نحصل على صورة الله فقط، وأمّا الشبه فنناله بالإرادة. في البدء، يمنحنا الله العقل عندما يخلقنا على صورته، وبمشيئتنا الحرة، نشكّل في داخلنا الشبه الإلهي. ما نناله بالإرادة، يُعتبر بالتأكيد داخلاً في طبيعتنا، لكن بالقوة فقط. لقد خُلقنا بالقوة قادرين على أن نحصل على التشبه بالله. يشدد باسيليوس على أن الصورة هي عطية العقل، التي تفترض للتو أن يتسلّط الإنسان على الخليقة: على الحيوانات الخارجة عنه، كما على الأهواء الداخلية كالكبرياء والضغينة والحسد الخ. التي يرمز إليها بالوحوش والبهائم. أمّا الشبه، فيحصل عليه الإنسان بملء إرادته. إن الله جعلنا مشابهين له "بالقوة" فقط، تاركاً لنا أن نعمل لنحقق بالفعل هذا الشبه. يحصل الإنسان على سلطة العقل بكونه على صورة الله، أما الشبه، فيحصل عليه المرء بالأخصّ عندما يصبح مسيحيًّا: "فكونوا أنتم كاملين، كما أنّ أباكم السماوي كامل" (مت 5/48). بهذا يدعونا الرب لأن نكون على شبهه، في محبة الإخوة والأعداء، في الرحمة والمسامحة، في البر والقداسة. لقد شاء الله بمحبّته أن يترك للإنسان فسحة صغيرة[12] ليعمل فيها ويستحقّ نتيجةً لعمله إكليل البرّ في ملكوت الآب.
ولتأييد كلامه، يتابع باسيليوس تفسير سفر التكوين متوقّفاً عند ما جاء في الفصل الثاني منه: "وجبل الربّ الإله الإنسانَ تراباً من الأرض" (تك 2/7). إنّ الفعل "جبل" المستخدم هنا يشير إلى الجسد، أمّا الفعل "خلق أو صنع" في 1/27 فيدلّ على خلق النفس. وهذا الفرق بين الخلق للنفس والجبل للجسد، نجده أيضاً في المزمور 119/ 73: "يداك صنعتاني وجبلتاني" (راجع أيضاً أي 10/8). فباسيليوس، على غرار أوريجانوس من قبله[13]، يقول إن الجسد قد جُبل، ولكن النفس قد خُلقت. هذه الدقة في التحليل لدى باسيليوس بالعودة إلى النص الكتابي تحثّنا على أن نرجع نحن أيضاً إلى نص التوراة نفسه، لنتثبّت مما قال ولنضع أمام القارئ قراءات أخرى ممكنة لسفر التكوين، علماً أن النص غني ومتنوع ولا يُحدّ بتفسير واحد. فهو يبقى اليوم أيضاً، مصدر إلهام وحياة ثري بالرموز والمعاني.

[1] Irénée, op. cit., IV, 37, 1, p. 545.

[2] Irénée de Lyon, Contre les hérésies, Dénonciation et réfutation de la gnose au nom menteur, V, 6, 1 ; trad. A. Rousseau, Paris, Cerf, 1984, p.583.

[3] Ibid., IV, 38, 3 ; p. 553.

[4] Ibid., III, 18, 1 ; p. 360.

[5] Cf. Ibid., V, 6, 1. cf. Y. de Andia. Homo vivens. Incorruptibilité et divinization de l’homme selon Irénée de Lyon, Paris, Etudes augustiniennes, 1986, p. 68-72.

[6] Irénée, Ibid., V, 16, 2 ; p. 617-618.

[7] Ibid., V, 8, 1 ; p. 588.

[8] Cf. J. Gross, La divinisation du chrétien d’après les Pères grecs. Contribution historique à la doctrine de la grâce, Paris, Gabalda, 1938, p.172-174.

[9] Origène, Homélies sur la Genèse, I, 13 ; trad. L. Doutreleau, SC 7 bis, 1976, p. 61.

[10] Origène, Traité des principes, III, 6, 1 ; trad. H. Crouzel, M. Simonetti, SC 268, 1980, p. 237.

[11] Cf. Basile de Césarée, Sur l’origine de l’homme, trad. A. SMETS et M. VAN ESBROECK, SC 160, Cerf, Paris, 1970.

[12] هذه الفسحة يُرمز إليها في سفر التكوين بواسطة اليوم السابع حين استراح الله من كلّ عمله الذي عمله. وبذلك ترك للإنسان مهمة أن يتمّ بنفسه عمل الخليقة. ينتهي الله من عمله ويتمه عندما يرتاح، أي يهدأ ويتوقف عن العمل. بذلك يرفض أن يملأ الكل، تاركاً للإنسانية فسحة للحرية والاستقلالية.

[13] Cf. Origène, In Jerem., 1, 10, éd. Klostermann, GCS III, p. 8 et Contre Celse, 4, 37, GCS I, p. 307.

يتبع.....
 
التعديل الأخير:

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
قراءات أخرى ممكنة لخلق الإنسان على صورة الله كشبهه



الجزء (6)


إن الأمر الأول الذي يسترعي انتباه القارئ في عبارة "لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا" هو الجمع في الفعل "لنصنع". هذا الجمع يشير إلى وجود تداول في أمر خلق الإنسان، لا نجد له مثيلاً في خلق باقي المخلوقات. ففي حين كان الله يقول دائماً في خلق باقي البرايا: "ليكن .. فكان كذلك"، بدّل العبارة ولم يقل: "ليكن الإنسان"، "بل لنصنع الإنسان".


بحسب بعض المفسّرين، يدلّ هذا الجمع على تبادل بين الله وبلاطه السموي[1]، ذلك أنّ بعض الترجمات (اليونانية السبعينية وبعدها اللاتينية) فهمت أحياناً الجمع "إيلوهيم" بمعنى الكائنات الإلهية وبالتحديد "الملائكة" كما في مز 8/6. أمّا بالنسبة إلينا نحن الذين أوحى إلينا الله عن ذاته بكونه ثالوثاً مقدّساً، فإنّ إيلوهيم تشير إلى الله الواحد المثلث الأقانيم. وعلى هذا النحو أيضاً، قرأ الآباء القديسون في اسم الجلال "إيلوهيم" تلميحاً إلى الثالوث الأقدس. ومنهم من رفض قطعاً أن يكون التداول المذكور هنا مع الملائكة. ففي تفسير سفر التكوين المنسوب إلى مار أفرام[2]، يقول المفسّر إنّه لا يجوز أن يكون الكلام هنا موجّهاً إلى الملائكة بل إلى المساوين له في الصورة والشبه، اللذين لهما القدرة على الخلق.

وبحسب مار أفرام، إن قول الله "لنصنع" موجه تحديداً إلى الله الكلمة، الابن الوحيد الذي "به كل شيء كان وبغيره لم يكن شيء مما كُوّن" (يو 1/3)، والذي "به خُلق كل شيء مما في السماء ومما على الأرض ... كلّ شيء خُلق به وله" (كول 1/16). علاوة على ذلك، إذا كان سفر التكوين لا يتطرق إلى موضوع خلق الملائكة، فلئلا يُعتقد أنّها آلهة خالقة في قوله : لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا. واللافت أيضاً أن الكاتب بعد قوله: "وقال الله (إيلوهيم): لنصنع ..."، يتابع فوراً في الآية التالية "وخلق الله الإنسان" (تك 1/ 27) ولم يقل "خلقوا" لأنّ الله واحد في جوهره: الآب والابن والروح قدس.
فماذا يعني هذا التداول الداخلي في الله قبل خلق الإنسان؟ قبل أن يبدع الإنسان، عاد الخالق إلى أعماق ذاته ليجد في سرّه الداخلي "الصورة" التي سيصنع الإنسان على شكلها. لا يوجد بين سائر الكائنات الحية ما خلا الإنسان، من خُلق على صورة الله ومثاله. ويقول النص: "على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم". فبسبب التقابل بين أجزاء هذه الآية، يمكننا أن نعتبر أن صورة الله هي أيضاً كون الإنسان قد خُلق ذكراً وأنثى. من المؤكّد أن مخلوقات أخرى خُلقت هي الأخرى ذكوراً وإناث، ولديها اختلاف الأجناس والأبوة والأمومة، إلاّ أن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، أي الوحدة والشركة بالمحبة، أمر خاصّ بالإنسان فقط، لا تعرفه باقي المخلوقات. ولعلّ الشبه مع الله هو في علاقة المحبة الشخصية هذه، من حيث أنّ الله أيضاً ثلاثة أقانيم متحدة جوهرياً بالمحبة.
ولنذهب أبعد من ذلك. نلاحظ أنّ الفصل الأول من سفر التكوين هو سلسلة من عمليات فصل وتمييز (بين النور والظلمة، المياه العلوية والمياه السفلية، بين اليابسة والمياه، بين الليل والنهار، بين الكائنات الحية)، إلى أن يأتي اليوم السادس وفيه: "خلق الله (إيلوهيم) الإنسان على صورته، على صورة الله (إيلوهيم) خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم". يتوقف بعض المفسرين[3] عند الانتقال من المفرد إلى الجمع في الآية 27. هذا الانتقال يفترض أن الإنسان بكونه الرجل والمرأة معاً يشكّل صورة الله. وبهذا الصدد، يقول التلمود العبري: "بالرجل دون المرأة تكون صورة الله في العالم ناقصة"[4].

لا شكّ أن الآباء القديسين، ولا سيما باسيليوس في تفسيره لهذه الآية تك 1/27، لا يغرب عن بالهم التأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة من حيث أنّ الاثنين نالا الصورة الإلهية: أي العقل (اللوغيسموس) والتسلط. ولكن ما نقترحه هنا، هو أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله بكونه أيضاً ذكراً وأنثى، مع العلم أنّ الله ليس بكائن جنسيّ، بل يتعدى التذكير والتأنيث. وما يؤيّد مقالنا أكثر هو ما نقرأه في قصة التكوين الثانية، حيث نجد عملية التمييز نفسها، أي فصل الإنسان إلى رجل وامرأة. يقول الله: لا يحسن أن يكون الإنسان وحيداً (أو واحداً) (تك 2/18). ثم يوقع الرب الإله سباتاً عميقاً على الإنسان (لا على الرجل...). وبعد ذلك، يقوم الله بالفصل فيأخذ إحدى أضلاع الإنسان وينشئها امرأةً. حينذاك فقط تظهر للمرة الأولى في عبارة الإنسان الكلمتين: إيش (امرئ، رجل) وإشه (امرأة): "فقال الإنسان: هذه المرّة هي عظمٌ من عظامي ولحم من لحمي. هذه تسمّى إشه (امرأة) لأنّها من إيش (امرئ) أُخذت" (تك2/23). والملاحظ أن الاختلاف بين الإسمين (إيش وإشه) هو الحرفان "يه"، أي الحرفان الأولان من اسم الله "يهوه"، اللذان نستخدمهما في تقليدنا السرياني في اختصار اسم الجلال هذا "يهوه". إذاً، في قلب اختلاف الرجل والمرأة، نلقى الوحي باسم الله. كل هذا يقودنا إلى القول، إن الرجل والمرأة هما معاً على صورة الله باتحادهما واختلافهما في آن واحد. ونلفت الانتباه هنا إلى أن التقليد الكتابي والآبائي ينسب إلى الله الذي يتعدى المذكر والمؤنث، أوصاف كلا الجنسين: فهو أب ولكن ذو أحشاء أمومية. هو رحمن رحيم ورحمته تنبثق من "رحم" الأم. هو أمجد مجيد وحضور مجده بين شعبه يعبر عنه بالتأنيث (الشكينة: السكنى الإلهية). وكذلك روحه، تارة يوصف بالتذكير كالنسر وطوراً بالتأنيث كالحمامة، لا سيما في التقليد السرياني وذلك لغاية القرن الرابع[5] ...

بعد هذه القراءة الأولى لصورة الله، بوسعنا أن ننتقل إلى ملاحظات أخرى. إن القارئ النبيه لسفر التكوين لا يمكنه ألاّ يرى أن خلقة الإنسان لا تتبعها فوراً مثل باقي عمليات الخلق، عبارة: "ورأى الله أن ذلك حسن". والمرة الأخرى الوحيدة التي تغيب فيها هذه العبارة، هي في اليوم الثاني، عند الفصل بين المياه بواسطة الجلد (آ 8). ولكن غياب العبارة في هذه الحال مبرّر. فخلق الجلد ما كان كافياً لجعل الأرض مهيّأة للسكنى. كان لا بد من أن يُفصل اليبس عن المياه التي تحت السماء، وهذا ما أُنجز في اليوم الثالث، حينذاك ذكر الكتاب: "ورأى الله أن ذلك حسن" (آ 9-10). وبذلك نرى أنه في المرة الأولى، حُذفت العبارة عندما لم تكن عملية الخلق قد أُنجزت بعد بأكملها. فهل حدث الأمر عينه عند خلق الإنسان[6]؟ إن عدم إنجاز خلقة الإنسان في تك 1، أمر واضح، لا من غياب عبارة الاستحسان وحسب، بل ومن المقارنة بين الآيتين تك 1/26 و 27. ففي آ26، يقول: "وقال الله لنصنع الإنسان[7] على صورتنا كشبهنا" وأمّا في الآية 27، فيقول: "خلق الله (إيلوهيم) الإنسان على صورته، على صورة الله (إيلوهيم) خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم".


إن الفارق الأول بين الآيتين هو في الفعل المستخدم. فالنص يقول ثلاث مرات أن الله "خلق" (آ27)، -وربما كان هذا تلميحاً إلى العمل الثالوثي في الخلق وصدى للجمع "لنصنع" - في حين أنّه قال سابقاً "لنصنع". في العهد القديم، ينحصر استعمال الفعل "خلق" (برأ) بالله وحده. أمّا فعل "صنع" فمعناه أوسع واستخدامه أشمل. وبهذا يشير النص إلى أنّه في خلقة الإنسان، قام الله بالعمل الذي يعود إليه حصراً أي "الخلق". ولكن بقي هناك شيئاً لم "يُصنع". فمن بوسعه أن يصنعه إن لم يكن الإنسان نفسه؟ فبقوله "لنصنع"، لا يتحدّث الله إلى نفسه فقط، كما قلنا سابقاً، بل إلى البشر ليدفعهم إلى "صنع" أنفسهم، وإنجاز عمل الخلق الذي شرع به هو الخالق. وما يدعم هذه النظرية، هو أنّ الله خلقهم ذكراً وأنثى، لا رجل وامرأة مثلما ورد لاحقاً في تك 2/ 23-24. الذكر والأنثى مختلفان جنسيًّا ومدعوان لأن يلتقيا معاً، ولكي يصنعان من نفسيهما رجلاً وامرأة، ولكي يصنعان بالتقائهما معاً الإنسان على صورة الله.


الفارق الآخر بين الآيتين 26 و27 هو حذف كلمة "كشبهنا" في الآية 27. فمشروع الله الأول كان يرمي إلى صنع الإنسان على الصورة كالشبه. ولكن التنفيذ يدور فقط حول الصورة وقد ذُكرت مرتين. لا شك أن الإنسان مخلوق على صورة الله، ولكن يعود إليه أن يصنع ذاته بسعيه إلى التشبه بالصورة التي يحملها في داخله. إن الإنسان يحقق ذاته عندما يكمل الواجب الذي أعطاه الله إياه وهو أن يتسلّط على كل الحيوانات. فبقدر ما يصبح الإنسان خالقاً في هذا العالم ومتسلّطاً عليه وعلى ذاته كما ينبغي، بقدر ما يكمل في داخله صورة الله ويجعلها مشابهة له.

بعد ذلك، نقرأ أن الله منح الإنسان سلطة على أسماك البحر وطيور السماء والبهائم وجميع وحوش الأرض. ثم أعطاه العشب والشجر المثمر مأكلاً له. ومن الملاحظ أن الطعام المقدم نباتي فقط وفي هذا، تنبيه مبطّن للإنسان، وكأن الله يقول له: "لك أن تتسلط على الحيوان ولكن من دون أن تميته لتأكل لحمه". هناك إذاً حدّ لسلطة الإنسان على الحيوان، لئلاّ تتحول السلطة إلى عنف قاتل يمنع الحيوان من العيش هو الآخر على وجه اليابسة. وما يثير العجب هو أن الله أعطى أيضاً الطعام نفسه، أي العشب الأخضر مأكلاً لجميع الحيوانات. من الواضح أن فحوى الكلام موجه للإنسان لا للحيوان. فمن المعلوم، أنه في داخل كل إنسان منّا "طبعاً حيوانياً" إذا جاز التعبير، أو "جانباً لا إنسانياً". وبالتالي، فالسلطة التي على الإنسان ممارستها تشمل بالتأكيد هذا الطبع الحيواني. لسنا نقول بأنه ينبغي على الإنسان القضاء عليه، فإن هذا الجانب حيوي ونافع لنموّه، ولكن أن يسيطر عليه، ويعيد له وجهه الإنساني. وهكذا يصير هو نفسه راعياً "لطبعه الحيواني" هذا، وتصبح صورة الله التي يسعى إلى تحقيقها هي السلطة الممارسة بالوداعة لا بالعنف.

[1] كما جاء في حاشية الترجمة اليسوعية العربية للكتاب المقدس، بيروت، دار المشرق، 1991، ص 70.

[2] ذكر آنفاً.

[3] Xavier Lacroix, La différence homme-femme et sa portée spirituelle. ******** Episcopat, n°12/13, 1994, p.2.

[4] Emmanuel Lévinas, « Le judaïsme et le féminin », in Difficile Liberté (1963), Albin-Michel, 1976, p. 55.

[5]راجع الأخت كليمنص حلو، "أنوثة الله في التراث السرياني"، في التراث السرياني،أعمال المؤتمر السابع: وجه الله في التراث المشرقي، ج2، النصوص العربية، مركز الدراسات والأبحاث المشرقية، الجامعة الأنطونية، أنطلياس 2001، ص. 43-55.

[6] Cf. André Wénin, Pas seulement de pain. Violence et alliance dans la Bible, Lectio Divina 171, Cerf, Paris, 1998, pp. 26-34

[7] منهم من يترجم جمعاً : "الآدميين" تماشياً مع ما يلي "وليتسّلطوا ..."، وهذا ما تؤيده أيضاً نهاية الآية 27: "ذكراً وأنثى خلقهم".

يتبع ... الجزء الاخير
 
التعديل الأخير:

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
الأبعاد الخلاصية لمفهوم صورة الله
(التأله)

الجزء (7) والأخير


في نهاية المطاف، نودّ أن ننوه بالأبعاد الخلاصية التي يحملها مفهوم "صورة الله وشبهه" وقد سبق وألمحنا إلى بعضها في سياق حديثنا. إن خلق الله للإنسان على صورته كشبهه (تك 1/26)، يخصّص منذ البداية هذا المخلوق دون سائر المخلوقات، بدعوة سامية وإلهية، وهي أن يصير بملء حريته شريك الله الخاص. ويُعتبر خَلْق الإنسان عملاً خلاصيًّا بامتياز. لأنّ الخلاص مرادف للحياة. هذا المبدأ واضح في الترجمة السريانية الفشيطتو، التي تترجم كلمة "سوتيريا - خلاص" اليونانية بِـ "حايه -الحياة" (انظر عب11/7). إذاً خلق الإنسان هو في آن واحد دعوة للمشاركة في حياة الله، وعطية مجانية تمهّد الطريق لهذه المشاركة. ومن هنا، تأتي التجربة الجديّة بمثابة النقيض لهذه الدعوة. إذ قالت الحية للمرأة: متى أكلتما من ثمر الشجرة، "تنفتح عيونكما وتصيران كآلهة" (تك 3/ 5). ليست خطية الإنسان في توقه إلى أن يكون مثل الله، بل في سعيه إلى أن يحصل على ذلك بنفسه. أراد أن ينال بنفسه ما أراد الله أن يمنحه إيّاه بعطاء سخي ومجاني، وبهذا أفسد الإنسان دعوته إذ حوّلها إلى تجربة[1].

إلى ذلك، يرى الآباء القديسون أن دعوة الإنسان المخلوق على صورة الله، هي السعي إلى تحقيق التشبّه الإلهي على أكمل وجه ممكن.

فباسيليوس يقول:
"علينا أن نتشبّه بالله على قدر طاقة الطبيعة البشرية"[2]. وإلى جانب التشبه بالله، تظهر بكثرة في كتابات الآباء كلمة: التأليه. ماذا يعنون بها؟
في العقيدة المسيحية، ليس المقصود بالتأليه أن يقوم الإنسان بجهود فردية ليحاول أن يرجع إلى أصله الإلهي عبر سلسلة من عمليات التطهر، كما هي الحال في العديد من الفلسفات. إنما المراد بهذا التعبير، العطية التي بواسطتها يمنح الله الإنسان نعمة المشاركة بالحياة الإلهية. الإنسان مخلوق، ولا يستطيع أبداً أن يصير مثل الله من حيث الأصل والطبيعة. وليس لله سوى ابن واحد وحيد، المسيح الأزلي. ولكن الإنسان بمقدوره أن يصير إلهاً بالشركة، أي بوسعه أن ينال نصيباً في الحياة الإلهية وميزاتها، ومنها الحرية، القداسة، البر، المحبة، الخلود، عدم الفساد.

بالنسبة للقديس أثناسيوس، إن هذا التأليه مرادف لما يدعوه الكتاب ب"التبني":

"واحد هو الابن بالطبيعة، أمّا نحن، فنصير مساوين للابن، لا مثله بالطبيعة والحق، بل بنعمة الذي يدعونا. ومع كوننا أرضيين، نُدعى آلهة، لا مثلما يُدعى هو الإله الحقيقي وكلمته، وإنّما بحسب مشيئة الله الذي منحنا هذه النعمة"[3].

إن التأليه مسيرة طويلة افتتحها الله بالخلق وجددها بالفداء. في الخلق، وضع في الإنسان الصورة والشبه الإلهي ليتمكن من الدخول بعلاقة حية مع الله. وظلت هذه الذخيرة في الإنسان، على الرغم من السقوط والخطية، وتجددت بعمل المسيح الفدائي. واعتناء الإنسان بهذه الذخيرة هو الذي سيسمح له أن يلاقي الله في اليوم الأخير بطلاقة الوجه، وأن يصير شريكه المؤلّه وشبهه، بحسب عبارة القديس يوحنا: "نحن نعلم أننا نُصبح عند ظهوره أشباهه لأننا سنراه كما هو" (1 يو 3/2).

[1] Cf. SESBOÜE, Bernard. Jésus Christ l’unique médiateur. Coll. Jésus et Jésus-Christ 33, Desclée, Paris, 1988, pp. 204-207.

[2] Basile de Césarée, Sur le Saint-Esprit, I, 2 ; trad. B. Pruche, S.C. 17bis, Paris, Cerf, 1968, p. 253.

[3] Athanase, Discours sur les ariens, III, 19 ; trad. J. Gross, La divinisation du chrétien d’après les Pères grecs. Contribution historique à la doctrine de la grâce, Paris, Gabalda, 1938, p. 215.

Mor Antonios
:36_33_7:​
 
أعلى