أشكرك أستاذ محب النور على قبول النصيحة وإرجاء الحديث في هذه القضية. اكتفيت بالتقييم والشكر (حتى لأستاذنا الحبيب مصلوب لأجلي أيضا) ولم أكن أنوي العودة، ولكني اليوم ـ في انتظاره للرد عليك بالموضوع الجديد ـ حاولت أن أضع لأجلك مدخلا مختصرا من فقرتين فقط أو ثلاث ما دمتَ حسب كلماتك الأخيرة هناك مشغولا بالتسيير عموما ليس فقط بمسألة الخلاص. طبعا تجاوز ما كتبته ثلاث فقرات لكنه ما يزال إنجازا بالنظر إلى حجم المشكلة!
على أي حال فيما يلي هذا المدخل وأرجو فضلا ألا تشغل نفسك بالرد عليه ـ مرة أخرى أرجو شاكرا ألا ترد على هذه الرسالة ـ على الأقل حتى لا نخالف قوانين القسم ما دام هناك موضوع آخر باسمك ما زال نشطا وقيد الرد. هذه إذاً مجرد إشارات للتأمل ريثما تصلك ردود أخرى في موضوعك الجديد.
* * *
قضية التسيير ـ كقضية الشر ـ تنتج عن
خطأ جذري في فهمنا نفسه للوجود، أو باختصار وبتعبير بسيط:
السؤال نفسه خاطئ! تأمل: منذ ثلاثة آلاف عام على الأقل والبشر يتساءلون ويفكرون ويتناظرون حول هذا الأمر ومع ذلك لم نصل أبدا إلى إجابة حاسمة! كيف؟ هل يُعقل هذا؟ ألم يأت أبدا ولو حكيم واحد ـ على الأقل
واحد ـ في كل هذه القرون فيرى ما لم ير سواه من قبل ثم يخبرنا به وتنتهي أخيرا هذه القضية كما انتهى غيرها؟ أليس بقاء السؤال هكذا عالقا ومفتوحا دون حسم كل هذا الوقت يثبت أو على الأقل يثير الشك حول السؤال نفسه، حول منطقه وصلاحيته والأساس الذي تقوم عليه فكرة السؤال كلها؟ نعم، هذا بالضبط ما أدركه بعض الحكماء بالفعل وأخبرونا به، وهو أن السؤال نفسه خاطئ، بل أكثر من ذلك:
لا معنى له أصلا. ولنضرب مثالا: تخيل أنك وبعض الأصدقاء رأيتم
حبلا في الضوء الخافت فاختلط عليكم وتصورتم أنه
ثعبان، قفزتم بالتالي من الخوف ثم وقفتم بعيدا تنظرون إليه وتتساءلون: هل هو ثعبان سام أم غير سام؟ هل يمكن إجابة هذا السؤال؟ مستحيل! لماذا؟ لأنه لا يوجد ثعبان أصلا!
قضيتنا هذه كذلك، لا يمكن حسمها لأن
الأساس الذي يقوم عيه السؤال
وهميّ ملتبس، وهذا نفسه ـ مسيحيا ـ هو أحد أهم آثار السقوط! أنت مثلا تتخيل أن لك وجودا مستقلا عن الله، ثم بسبب هذا التصور تفترض وجود إرادتين اثنتين منفصلتين، إحداهما لك (تسميها حرية الإرادة) والأخرى لله (تسميها القضاء والقدر). هذه ببساطة هي التصورات أو الفرضيات الأولى التي
فقط بعدها يبدأ السؤال وعليها يتأسس. ولكن هل هذا التصور المبدئي نفسه صحيح؟ هل أنت منفصل حقا عن الله وهل يمكن أن توجد مستقلا عنه؟
قال بعضهم ـ على الأرجح مازحا ـ إن الكتاب في بدايات التكوين يقول: «
فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام». لكنه لم يخبرنا أبدا بعد ذلك أن آدم استيقظ من نومه هذا، أو متى استيقظ!
بعبارة أخرى: كل ما حدث منذ تلك اللحظة ـ حتى اليوم ـ هو مجرد
حلم طويل تحلمه البشرية!
لكن لدينا في الحقيقة بديلا أبسط: إن السقوط هو نفسه الذي
شطر آدم هكذا عن ربه وفصله عنه، وفقط بعد السقوط ـ وبسببه ـ ظهر العالم لآدم ولنا هكذا
وكأن به وجودان منفصلان وإرادتان متعارضتان! نحن نجد بالفعل فكرة الحلم في تراثنا، على الأقل كتشبيه في أقوال بعض القديسين الكبار، ناهيك عن فلسفة بركلي الشهيرة كلها (وبركلي هذا لم يكن فقط فيلسوفا فذا ولكنه كان أيضا أسقفا). لكن الصورة الأفضل والأقرب هنا هي صورة الشمس التي إذا أشرقت
اختفت النجوم تماما من السماء رغم أنها ما زالت
موجودة. الإنسان بالتالي ليس مجرد "وهم"، وليس الوجود مجرد "حلم"، لكن "نجم" الإنسان إذا جاز التعبير ببساطة يختفي كليا إذا أشرقت شمس الله في سمائه. لا يظهر الإنسان حقا ـ وتظهر بالتالي إرادته المنفصلة وتظهر أسئلته الشائكة حولها ـ إلا لأن الشمس غابت عنه (وهي من ناحية أخرى يستحيل أن تغيب حقا، فهذا بالتالي هو تحديدا جوهر السقوط أو شوكته! ببساطة يعيش إنسان السقوط وكأن الله غائب، رغم أن الله لا يغيب، أي كالأعمى الذي يحيا في الظلام رغم أنه حقيقة في قلب النور تغمر الشمس كل ذرة فيه وتسطع باهرة من حوله)!
لأجل ذلك نرى شيوخنا القديسين ـ الذين أنكروا أولا أنفسهم كما علمنا الرب حتى فاضت النعمة وأشرقت أخيرا شمس الله بقلوبهم ـ يعيشون حالة عجيبة من التسليم والرضا الدائم، يقولون أمام كل حدث «
لتكن مشيئتك»، ويرفعون في سلام واطمئنان كل ما يعرض لهم كاملا
للإرادة العليا تفعل ما تريد! الجاهل بالطبع لا يفهم، بل قد يحسبهم دون إرادة، دون طموح، في حال من السلبية كأنهم أنصار الجبرية بل برهانها ومثالها. وحتى إذا أخبرهم أحد بذلك فإنهم فقط يبتسمون في العادة وقد لا يردّون! أما الحقيقة فهي أنهم ـ وإن كانوا معنا على الأرض ـ
يعيشون في عالم آخر، في بحر من أنوار لا نعرفها، في مشرق الشمس في الحضرة الإلهية ذاتها! كيف إذاً يرون النجوم وهم في قلب النهار؟ كيف يحفلون بأحد سواه حتى لو كان أنفسهم؟ كيف يفكرون بأية مشيئة سوى مشيئة مولاهم؟ كيف يطمحون لأي مجد، وهل مجدٌ أعلى من الوقوف في حضرة عظمته؟
فهل هؤلاء مُسيّرون أم مُخيّرون؟ لا هذا ولا ذاك، هم
فوق التسيير والتخيير كليهما! نحن نسأل في المسيحية:
ما هو هدف الإنسان الأخير ومنتهى غايته؟ الهدف ببساطة هو اقتناء روح الله القدوس، هو "الشركة" الإلهية، هو "التأله" حسب تعبير الشرق، أو هو "الوحدة مع الله" حسبما يفضل الغرب. ليس مهما أي تعبير تختار فكلها إشارات تقود إلى نفس المعنى، وهذه هي الغاية حقا والمنتهى. هؤلاء القديسون من ثم ـ مصابيحنا شيوخنا السادات الأكابر الذين امتلأوا بالنعمة ووصلوا لذرى القداسة ـ يرتفعون عاليا فوق ثنائية التسيير والتخيير ويتجاوزونها تماما! إذا كان "
الجميع واحدا في المسيح" كيف تحدد
مَن هو صاحب الإرادة حقا في أي حدث أو موقف؟ بل كيف يقوم السؤال أصلا إذا كنتَ ـ متحدا بالله ـ قد غاب عنك كل جبر وكل شر وبالجملة كل سوء؟ نحن نعرف الجبر والشر وسائر الضيقات والمحن والبلايا
بالضبط كما نعرف الظلام ولنفس السبب: فقط لأننا نوجد هنا على الأرض حيث يضيء دائما نصف الكوكب المواجه للشمس بينما يغرق النصف الآخر في الليل وفي الظلمة! نحن دائما نعيش هكذا بعد سقوطنا في هذا التناقض والانشطار والتمزق. أما إذا كنتَ تعيش ليس على الأرض بل
فوق الشمس ذاتها: هل يمكن أبدا أن تصادف ظلاما؟ هل يمكن أبدا ـ وقد صرتَ مصدر النهار ذاته ـ أن تعاين ليلا؟ أنتَ بالأحرى ـ متحدا بالله ـ
لا ترى سواه ولا تجد بكل الكون سوى نور الله ومحبته ورحمته وحكمته وسلامه وصلاحه وبرّه وعدله!
فهذا يا صديقي ـ وهذا فقط ـ هو المدخل لإجابة سؤال الإرادة وسائر الأسئلة الشائكة الأخرى، وكما ترى فهو مدخل
روحي لا عقلي، فالعقل لا يستطيع الإجابة أبدا ولو انتظرنا ثلاثة ألاف عام أخرى، ليس فقط لأن الوجود نفسه ملتبس عليه ابتداء، بل لأن العقل أيضا أسير لا يستطيع أن يهرب من ثنائياته: النور والظلمة، الخير والشر، التخيير والتسيير، إلخ. أما الروح فهو روح الله ولا سواه الذي يرفعنا فوق كل التناقضات، يقودنا لنبع المعرفة والحقيقة وبنا يحلق في سماوات الكشف والإدراك والحكمة!
* * *