شهداء المشرق (29) "جهاد الشهداء الأربعين"
--------------------------------------------------------------------------------
الأسقفان: مار عبدا، ومار عبديشوع.
الكهنة: عبد الله – شمعون – إبراهيم – آبا – ايهبيل – عنّي – عبد يشوع – عبد الله – يوحنان – عبد يشوع – ماري – برحذبشبا – رازيقايا – عبد الله – عبد يشوع.
الشمامسة: اليهاب – عبد يشوع – عنّي – ماريهب – ماري – عبدا – برحذبشبا – شمعون – ماري.
الرهبان: فافا – أواليش – عبد يشوع – فقيدا – شموئيل – عبد يشوع.
الراهبات: مريم – طيطا – ايمه – ادراني – ماما – مريم – مارح.
(استشهدوا في السنة 36 من الاضطهاد).
كان عبد يشوع أسقفاً لمنطقة بيث كشكر، وكان رجلاً نزيهاً ومستقيماً. وكان له ابن أخ منذ صغره حسب تعليم الله وجعله بين الرهبان ورسمه شماساً، وقد حسبه صادقاً وأميناً. إلا أن هذا كان يخفي نفاقه ومكره، شأن جحزي أمام معلمه إليشاع . ولكن هذا الفاسق انفضح، كما انفضح ذاك السارق. لأن عدالة الله تكشف خفايا المنافقين. فكان هذا الشماس قد سقط في أحابيل امرأة تمرّغ في حمأة الخطيئة. ولما اطلع مربيه على الأمر، انتهره بشدة ومنعه من الخدمة المقدسة.
إلا أن هذا الأثيم كان يريد مواصلة الخدمة وهو في تلك الحالة الشقية، بالرغم من حظر الأسقف البار. فغرّه الشيطان ودفعه إلى التهلكة. وإذا به يتوجه إلى منطقة الأهواز ويمثل أمام الملك ويقول: "أن في منطقة الكشكريين رجلاً يُدعى عبد يشوع رئيس المسيحيين، ومعه كاهن اسمه عبد الله. إنهما جاسوسان يستقبلان الروم ويكشفان لهم أسرار مملكتك، ويراسلان قيصر الروم ويطلعانه على كل ما يجري في المشرق، ويحتقران أمرك ويخالفان كلامك ويكفران ويستهزئان بالشمس والقمر والماء آلهتك".
وما أن سمع هذا الكلام، حتى استشاط غيظاً وأصدر أوامره إلى أخيه أردشير ملك حدياب ليأتيه بهما وأن يسومهما شر العذابات إلى أن يعترفا بكل ما فعلا ويكفرا بإلههما. فأرسل أردشير رجاله وقبضوا عليهما وقيدوهما بالسلاسل وأتوا بهما إلى قصره الواقع خارج مدينة بيث لافاط. ولما مثلا أمامه، سألهما عن هويتهما، فأجاباه إنهما مسيحيان. فقال لهما: "إن كنتما مسيحيين فأنتما عدوان لملك الملوك." فقالا له: "إنما ملك الملوك عدونا إذ يبغض إلهنا الحق ويبيد الذين يعبدونه بالحق." حينئذ قال لهما الأثيم: "أجيباني بصدق عما أسألكما وإلا لأنزلّن بكما شر العذاب والموت." فأجاباه: "إننا صادقان ولا نكذب في كلامنا. أما أنت فامكرْ واكذبْ كعادتك وأنزل بنا الموت الذي تُمليه عليك رغبتك الشريرة، وسنقبله بفرح في سبيل الله." فقال الملك لهام: "لماذا تحتقران النار والماء ولا تسجدان للشمس والقمر، وأنتما مواليان للروم وتستقبلان جواسيسهم وتكتبان رسائل إلى قيصر وتطلعانه على أسرار ملك الملوك".
فقال له عبد يشوع: "ما هذه الأمور السخيفة التي تذكرها وتنسبها إلينا ظلماً ونحن منها براء؟ وإني لمتعجب كيف أنكم، مع حكمتكم المزعومة ومعرفتكم الواسعة لم تتوصلوا إلى معرفة صدقنا، مع أنكم قد شختم في تعذيبنا وقتلنا؟ وها أنتم تتدنون كأناس جهلة وتفترون علينا زوراً وتسرعون بشراسة إلى سفك الدماء الزكية التي تسطّر لنا النصر ولكم العار، وتظهر حقنا وتفضح كذبكم، وهي تظفر على رأسنا إكليل المجد دوماً، وتشجبكم دوماً أنتم القتلة المجرمين".
إذ ذاك ثار ثائر الملك أردشير واحتدم غيظاً وأمر بربطهما بجبال من كتان، كل منهما بثلاثة حبال، وبشد ثلاث خشبات على جسم كل منهما: واحد على جوانبهما، وأخرى على أفخاذهما وثالثة على سيقانهما. وكان أذرعهما موثقة على ظهريهما. وشرع الرجال يشدون عليهما هذه الخشبات بحضور الملك، فتتصدع عظامهما وأعصاب جسميهما ويُسمَع صوت مثل صوت حِمل حطب يابس عندما يُشَدُّ بقوة. وحينما كان الرجال يكفون عن الضغط، كان الملك يُردِّد عليهما القول عينه: "اسجدا للشمس آلهة شابور ملك الملوك، واعترفا بكشفكما أسرار الملك، فتنجوا." أما القديسان فكانا يصرخان قائلين: "إننا لصامدان في حقيقتنا ولسنا نسجد للشمس خليقة الله، ولا ننسب الكذب إلى أنفسنا، إذ لا صلة لنا بالروم".
وتكرر الأمر سبع مرات، ولم ترتخ عزيمتهما أو تتغير إرادتهما. فتركوهما على رمق أخير من الحياة، وقد انخلعت أعظاؤهما بهذا العذاب الأليم، وتكسرت أضلاعهما وتصدعت عظامهما. ثم حملوهما وألقوهما في السجن. وأمر الطاغية بمنع المسيحيين من جلب الخبز والماء لهما، بل أن يقدموا لهما من خبز المجوس ومياههم القذرة شيئاً زهيداً يكفي لحفظهما في الحياة. إلا أنهما لم يأكلا ولم يشربا شيئاً مما قدم لهما طوال ستة أيام، ومكثا يتضوران من الألم والجوع ثابتين بقوة الله. ولما أوشكا على الموت جوعاً، أنقذتهما أرملة كانت دارها ملاصقة للسجن وفيها كوّة صغيرة تشرف على السجن. فاحتالت في الليل ووضعت خبزاً وماءً في مزودة دلتها بحبل صغير إليهما من الكوة. ولما أبصرا الطعام، لم يراودهما شك في أن اله هو الذي أرسله إليهما، فتناولاه وشربا الماء. وهكذا كان شأن المرأة طوال مكوثهما في السجن. أما الحراس فكانوا منذهلين من بقاءهما على قيد الحياة. فأخبر أردشير أخاه الملك شابور ملك الملوك إنه نكّل بهما شر تنكيل دون أن ينال من عزيمتهما.
حينئذ دعا الملك ذاك الشماس الخائن وسأله هل ثمة مسيحيون آخرون في بلاد كشكر؟ فأجابه الخائن: "هناك أسقف وكهنة وشمامسة كثيرون. إن مرت فسأمضي وأجلبهم إلى ههنا." فأعطاه الملك عشرة فرسان وعشرين راجلاً للقيام بهذه المهمة القذرة. وتوجه إلى منطقة كشكر للقبض عليهم. أما عبدا أسقف مدينة كشكر، فكان قد خرج لزيارة أبرشيته بصحبة كهنة وشمامسة من كنيسته، وهم لا يدرون شيئاً من أوامر الملك. وحضر في إحدى القرى فيها رهبان وراهبات. وبينما كان نائماً في الليل، رأى رؤيا أذهلته. فأيقظ الكهنة الذين كانوا معه وقص عليهم خائفاً ما رآه وقال: "رأيت ثعباناً أسود كبيراً وقبيحاً ورهيب المنظر، وأخذ يدب ويفحّ ويرهب الأرض. ورأى عصابة من العصافير عددها أربعون، فانفض عليها وابتلعها الواحد تلو الآخر حتى أتى على جميعها." فاعترى الجميع انذهال وعجب من هذه الرؤيا، وقاموا وصلوا ثم عادوا ثانية إلى النوم. وإذا بالأسقف عبدا يشاهد الرؤيا ذاتها مرة ثانية بوضوح، فعاد وأيقظهم وقال لهم: "بينما كنت راقداً وعيناي مفتوحتان، وأنا أرفعهما إلى السماء وأمجد الله في قلبي، وأفكر في الرؤيا الأولى، وظننت أننا قد نموت جميعنا بالشهادة، إذا برهبة اكتنفتني، ولم أعلم بعد أين أنا. ورأيت الأسقف شمعون برصباعي طائراً ومحلقاً فوق رأسي، وكان منظره شبيهاً بالبرق، وكان جليلاً ومجيداً مثل ملاك السماء. فاشتاقت نفسي إلى كلامه شوقاً مذيباً، وتقت إلى أن يدنو مني. ولما أبصرته مرتفعاً عني، صرخت وقلت له وأنا خائف: لماذا لا أستطيع أن أطير وآتي إليك؟ فأجابني قائلاً: إنك الآن لا تستطيع، ولكنك بعد قليل ستتمكن من أن تطير وتأتي إليّ وتقول لي كل ما يختلج في فكرك".
ولما أنهى قصته، تعجب الجميع مما رواه، فقاموا وصلوا صلاة الصبح. وفي تلك الساعة وصلت زمرة الأشرار وألقوا القبض على الأسقف عبدا والرجال الثمانية والعشرين الذين معه، وكذلك على سبع نساء كن هناك، كبّلوهم بالقيود، واقتادوهم بعنف وقساوة إلى مدينة كرخ ليدان في منطقة الأهواز، لأن الملك كان قد غادر بيث لافاط وأقبل إلى تلك المدينة. فأتوا بهم إلى باب القصر. وأرسل الملك إليهم حاكم المنطقة مع اثنين من أكابر المجوس لاستجوابهم. ولما مثلوا بين يدي الحاكم، قال لهم: "لماذا تتمادون في الضلال وتضلون الناس وتهلكونهم بخداع تعليمكم؟" فأجاب الأسقف عبدا وقال له: "نحن واثقون بأننا في الصراط المستقيم وأن من يتبعنا حكيم ولا يهلك ولا يضلّ لأنه يسير في النور. وهو إنما يسمعنا بدافع الرجاء العتيدة فيعود من ضلاله." فقال الحاكم: "إن الملك يأمركم بالسجود للشمس، لكي تنجو اليوم من العذابات والموت الذي أنوي إنزاله بكم. وإن لم تطيعوا أمره، فإنه قد خوّلني السلطة للتنكيل بكم كما أشاء." فقال له عبدا: "ليس بوسع ملكك وأمره ولا بوسعك أو بإمكان سلطتك أو عذاباتك أن تفصلنا عن محبة إلهنا وعن الإيمان الحق بيسوع المسيح. وإننا لن نقدم السجود للشمس المخلوقة عوض الله الخالق، ولن نستبدل الملك العظيم القدوس بملك صغير أثيم".
فاستشاط الحاكم غيظاً وأمر بضرب كل منهم مائة سوط. ولكنهم عذبوا الطوباوي عبدا بضربات أشد قساوة، لكونه الناطق بلسانهم. ثم قال لهم الحاكم: "لماذا تتجرأون وتحتقرون شابور ملك الملوك؟ فإنه إله تمتد سلطته على الخليقة إلى الأبد". فأجابه مار عبدا: "إن شابور الملك ليس إلهاً، بل هو إنسان، وهو كإنسان يأكل ويشرب ويلبس ويكدّ ويتعب ويفرح ويتضايق، ويعتلّ ويشفى، ويمرض ويموت. وسلطانه العالي قد ناله من عند الله تأديباً للبلدان والشعوب المخالفة لعدالة." ولما سمع المجوس هذه الأقوال، سخطوا كلهم وأخذوا يشبعونه لطماً على فمه لئلا يواصل تجديفه هذا على الملك.
ودخل الحاكم والمجوس على الملك. فقال لهم: "كيف رأيتم هؤلاء السحرة؟ وما رأيهم؟ وماذا قولوا؟" فأجاب الحاكم وقال: "أيها الملك الصالح، لا يُسمح لفم إنسان أن ينطق أمامك بما يجدّف به هؤلاء على جلالتك. فأن ما يقولنه عنك يتعذر إعادته أمامك." فسمح الملك وقال له: "انطق بكل ما قالوه ولا تخفْ،. فلست أنت الذي تحتقرني بل أولئك هم الذين يحتقرونني أنا ومملكتي." وإذ ذاك قال له الحاكم: "عشت أيها الملك إلى الأبد، ودام تاجك على راسك أبداً. إنني امتثالاً لأمرك خرجت وعذّبتهم بقساوة لكي أدفعهم إلى السجود للشمس ولكنهم لم يرضخوا لأمرك. وقلت لهم أيضاً أن ملك الملوك إله حي إلى الأبد ومسيطر على الأرض كلها. أما هم فقالوا مجدّفين على جلالتك: إن شابور الملك ليس إلهاً، بل هو إنسان كواحد من البشر، وإنه مثلهم يمرض ويموت." فضحك الملك ضحكة عالية وقال له: "إن هؤلاء الناس لحكماء فيما قالوه عني. فأنا إنسان لا إله، وأنا مزمع أن أموت شأن واحد من البشر. وإني لأحسبك جاهلاً أيها الحاكم لأنك استأت من هذا الأمر الذي بدا لك أمراً جديداً".
وفي الحال استدعى الملك "طوسداغ" رئيس الأمناء الذي كان متولياً أمر جميع فيلة الملك، وأمره بأن يستعد لاستجواب هؤلاء الأسرى المسيحيين وأوصاه قائلاً: ""أنظر إذا رضخوا لإرادتي وسجدوا للشمس، فلن يموتوا. فقد لاحظت أن المجوس يبغضونهم بغضاً شديداً ويتذرعون بشتى الوسائل لقتلهم." فخرج هذا الأمين من المدينة وخُيَلاء بصحبة القائد الأعلى لمنطقة فارس كلها مع الحاكم والمجوسين المذكورين أعلاه وجميع غفير من أبناء المدينة. وأخرجوا الشهداء المقيّدين إلى الجهة الجنوبية من المدينة، وهم عبدا الأسقف والرجال الثمانية والعشرون الذين معه، وأوقفوهم أمامهم بهيئة تدعو إلى الخوف والرهبة. ووجّه الأمين إليهم أسئلة عنيفة وقال لهم: "من أنتم يا ترى حتى تخالفوا أمر ملك الملوك؟" فأجابه القديسون وقالوا: "نحن إنما نطيع أمر الله الخليقة كلها ولن نرضخ لإرادة ملك أثيم." فقال لهم الأمين: "إنما الملك شفقة بكم أرسلني إليكم لكي أنصحكم لتسجدوا اليوم للشمس ولا توفّروا علة للموت الذي صدر عليكم بالسيف." فأجابه القديسون: "أنت بصفتك أميناً للملك وصديقه ولا تشفق علينا موتنا ولا تأخر قتلنا. فإننا نرذل ونحتقر نصيحتك وأمر ملكك، ولا نسجد للشمس فنصبح أضحوكة مثلكم أنتم الذي تاه عقلكم وراء ضلال المجوس. فاعلم يقيناً أننا نسجد لإله واحد ولأجله نستشهد اليوم وهو سيمنحنا حياة أخرى أبدية لا موت فيها." وإذ ذاك أصدر الأمين حكم الموت عليهم. فشرع العظماء يحلون وثاقهم ويقرّبونهم مثل خراف للذبح، والشهداء فرحون. وكان ثمة أخوان هما برحذبشبا وشموئيل، وقد تبعا الشهداء طوعاً من بلادهم ليوفرا لهم احتياجاتهم. ولم يكن قد ألقي القبض عليهما. وكانا في ذلك النهار قد ذهبا إلى المدينة لجلب طعام للشهداء، ولم يعلما أن هؤلاء قد اقتيدوا من السجن في الساعة الثالثة ونفذ فيهم حكم الموت. فلما بلغهما هذا الخبر، اعتراهما الانذهال وأسرعا إلى مكان الاستشهاد وارتميا على جثة الأسقف عبدا واحتضناه وأخذا يقبلانه ويأخذان من دم الشهداء ويمسحان به جسديهما، وشرعا يلتمسان من القتلة أن يقتلوهما، وهما يقولان: إن الموت ألذّ لنا من هذه الحياة التعسة والمرة. وصارا يجدّفان على الملك في سبيل الحصول على الاستشهاد. فتشاور العظماء الثلاثة فيما بينهم بشأنهما وقرّ رأيهم على عدم قتلهما إلى أن يطلعوا الملك على أمرهما، لأن اسميهما لم يكونا مسجلين في اللائحة التي أعطيت لهم. فأرسلوا وأطلعوا الملك على ما جرى. أما هذان القديسان، فما كانا يكفّان عن الصراخ والقول: نحن أيضاً مسيحيان مثل هؤلاء الذين قتلتموهم، ونعترف بإلههم الحق ونكفر بآلهتكم الكاذبة. ونحن جميعنا أبناء إيمان واحد بالله. فصدر عليهما أيضاً حكم الموت، فأعدما في تلك الساعة وفي الموضع عينه، فاختلط دمهما بدماء رفاقهما. وتكلل الشهداء يوم الجمعة الموافق 15 أيار.
وفي اليوم التالي، تذكر الملك الأسقف عبد يشوع والكاهن عبد الله. فسأل هل أنهما ما يزالان على قيد الحياة؟ فقيل له: أجل، إنهما على قيد الحياة. فأمر بقتلهما إذا كانا ما يزالان على رأيهما. فأخرجوهما من السجن وقد بلغ منهما الهزال حداً لم يبق من جسديهما سوى الجلد والأعصاب والشعر، ولم يبق لهما صورة إنسان، إذ كانت أضلاعهما وعظامهما قد تكسرت وقامتهما منحنيتين محطمتين. فأخذوهما إلى الموضع الذي فيه استشهد رفاقهما. وخرج الحاكم إلى هناك وسألهما وقال: "إن كنتما ترضخان لأمر الملك ستعيشان وتنجوان من القتل." فأجاب المجاهدان بقوة وقالا له: "يا عديم القلب، ألا تخجل أن تدفعنا نحن الذين مات جسدانا إلى أن تقتل نفسينا أيضاً؟ ولكن لا تتوهم أيها القذر بأننا قد غيرنا رأينا الأول. فإننا صامدان في حقيقتنا، ونعترف بالإله الأوحد الحق. فلا تنظروا إلينا وتتهاونوا، بل أرسلونا لنلتحق بأخواننا الذين قتلتوهم البارحة ظلماً. فهؤلاء الذين كانوا متأخرين عنا في الجهاد قد سبقونا إلى الإكليل." إذ ذاك أصدر هذا القذر أمراً بقطع رأسيهما في الموضع الذي فيه استشهد أخوتهما. وكان في المدينة مسبيون من الروم. فبذلوا كل اهتمامهم وسرقوا جثث الشهداء كلها ودفنوها باحتراس في أماكن خفية. وكذلك حفروا الأرض التي سقتها دماؤهم واحتفظوا بهذا التراب للشفاء.
أما النساء السبع فقد أمر الملك بإرسالهن إلى مدينة بيث لافاط ليُقتَلن هناك تخويفاً للمنطقة كلها. وأمر حاكم المنطقة باستصحابهن للأشراف على قتلهن. ولما أدخلوهن إلى المدينة، حدث فيها اضطراب كبير وضجّ الناس احتجاجاً على الدم الزكي الذي يُسفَك فيها. وفي يوم الجمعة التالية لقتل الشهداء، أخرجهن الحاكم إلى شرقي المدينة وسألهن: "هل ترضخن لإرادة الملك وتتزوجن فتحيين وتخلصن من الموت الصادر عليكن؟" فأجابته القديسات: "نحن إنما نلتجئ إلى الله وله نسجد ولا إله لنا سواه. والآن افعل ما أُمِرتَ به دون تأخير. فاعلم أننا لا نطيع أمر الملك الأثيم، ولا نسجد للشمس التي هي خليقة، ولا نرضى بالزواج." إذ ذاك أوعز الملك إلى ثلاثة رجال بأن يستلوا سيوفهم ويقطعوا رؤوس سبعتهن. وهكذا استبسلن بالمسيح رجاء انبعاثهن.
استشهدت هؤلاء القديسات في الثاني والعشرين من شهر أيار، واختُطفت جثثهن في الليلة ذاتها، ودفنها أناس من المؤمنين كانوا في المدينة.
--------------------------------------------------------------------------------
الأسقفان: مار عبدا، ومار عبديشوع.
الكهنة: عبد الله – شمعون – إبراهيم – آبا – ايهبيل – عنّي – عبد يشوع – عبد الله – يوحنان – عبد يشوع – ماري – برحذبشبا – رازيقايا – عبد الله – عبد يشوع.
الشمامسة: اليهاب – عبد يشوع – عنّي – ماريهب – ماري – عبدا – برحذبشبا – شمعون – ماري.
الرهبان: فافا – أواليش – عبد يشوع – فقيدا – شموئيل – عبد يشوع.
الراهبات: مريم – طيطا – ايمه – ادراني – ماما – مريم – مارح.
(استشهدوا في السنة 36 من الاضطهاد).
كان عبد يشوع أسقفاً لمنطقة بيث كشكر، وكان رجلاً نزيهاً ومستقيماً. وكان له ابن أخ منذ صغره حسب تعليم الله وجعله بين الرهبان ورسمه شماساً، وقد حسبه صادقاً وأميناً. إلا أن هذا كان يخفي نفاقه ومكره، شأن جحزي أمام معلمه إليشاع . ولكن هذا الفاسق انفضح، كما انفضح ذاك السارق. لأن عدالة الله تكشف خفايا المنافقين. فكان هذا الشماس قد سقط في أحابيل امرأة تمرّغ في حمأة الخطيئة. ولما اطلع مربيه على الأمر، انتهره بشدة ومنعه من الخدمة المقدسة.
إلا أن هذا الأثيم كان يريد مواصلة الخدمة وهو في تلك الحالة الشقية، بالرغم من حظر الأسقف البار. فغرّه الشيطان ودفعه إلى التهلكة. وإذا به يتوجه إلى منطقة الأهواز ويمثل أمام الملك ويقول: "أن في منطقة الكشكريين رجلاً يُدعى عبد يشوع رئيس المسيحيين، ومعه كاهن اسمه عبد الله. إنهما جاسوسان يستقبلان الروم ويكشفان لهم أسرار مملكتك، ويراسلان قيصر الروم ويطلعانه على كل ما يجري في المشرق، ويحتقران أمرك ويخالفان كلامك ويكفران ويستهزئان بالشمس والقمر والماء آلهتك".
وما أن سمع هذا الكلام، حتى استشاط غيظاً وأصدر أوامره إلى أخيه أردشير ملك حدياب ليأتيه بهما وأن يسومهما شر العذابات إلى أن يعترفا بكل ما فعلا ويكفرا بإلههما. فأرسل أردشير رجاله وقبضوا عليهما وقيدوهما بالسلاسل وأتوا بهما إلى قصره الواقع خارج مدينة بيث لافاط. ولما مثلا أمامه، سألهما عن هويتهما، فأجاباه إنهما مسيحيان. فقال لهما: "إن كنتما مسيحيين فأنتما عدوان لملك الملوك." فقالا له: "إنما ملك الملوك عدونا إذ يبغض إلهنا الحق ويبيد الذين يعبدونه بالحق." حينئذ قال لهما الأثيم: "أجيباني بصدق عما أسألكما وإلا لأنزلّن بكما شر العذاب والموت." فأجاباه: "إننا صادقان ولا نكذب في كلامنا. أما أنت فامكرْ واكذبْ كعادتك وأنزل بنا الموت الذي تُمليه عليك رغبتك الشريرة، وسنقبله بفرح في سبيل الله." فقال الملك لهام: "لماذا تحتقران النار والماء ولا تسجدان للشمس والقمر، وأنتما مواليان للروم وتستقبلان جواسيسهم وتكتبان رسائل إلى قيصر وتطلعانه على أسرار ملك الملوك".
فقال له عبد يشوع: "ما هذه الأمور السخيفة التي تذكرها وتنسبها إلينا ظلماً ونحن منها براء؟ وإني لمتعجب كيف أنكم، مع حكمتكم المزعومة ومعرفتكم الواسعة لم تتوصلوا إلى معرفة صدقنا، مع أنكم قد شختم في تعذيبنا وقتلنا؟ وها أنتم تتدنون كأناس جهلة وتفترون علينا زوراً وتسرعون بشراسة إلى سفك الدماء الزكية التي تسطّر لنا النصر ولكم العار، وتظهر حقنا وتفضح كذبكم، وهي تظفر على رأسنا إكليل المجد دوماً، وتشجبكم دوماً أنتم القتلة المجرمين".
إذ ذاك ثار ثائر الملك أردشير واحتدم غيظاً وأمر بربطهما بجبال من كتان، كل منهما بثلاثة حبال، وبشد ثلاث خشبات على جسم كل منهما: واحد على جوانبهما، وأخرى على أفخاذهما وثالثة على سيقانهما. وكان أذرعهما موثقة على ظهريهما. وشرع الرجال يشدون عليهما هذه الخشبات بحضور الملك، فتتصدع عظامهما وأعصاب جسميهما ويُسمَع صوت مثل صوت حِمل حطب يابس عندما يُشَدُّ بقوة. وحينما كان الرجال يكفون عن الضغط، كان الملك يُردِّد عليهما القول عينه: "اسجدا للشمس آلهة شابور ملك الملوك، واعترفا بكشفكما أسرار الملك، فتنجوا." أما القديسان فكانا يصرخان قائلين: "إننا لصامدان في حقيقتنا ولسنا نسجد للشمس خليقة الله، ولا ننسب الكذب إلى أنفسنا، إذ لا صلة لنا بالروم".
وتكرر الأمر سبع مرات، ولم ترتخ عزيمتهما أو تتغير إرادتهما. فتركوهما على رمق أخير من الحياة، وقد انخلعت أعظاؤهما بهذا العذاب الأليم، وتكسرت أضلاعهما وتصدعت عظامهما. ثم حملوهما وألقوهما في السجن. وأمر الطاغية بمنع المسيحيين من جلب الخبز والماء لهما، بل أن يقدموا لهما من خبز المجوس ومياههم القذرة شيئاً زهيداً يكفي لحفظهما في الحياة. إلا أنهما لم يأكلا ولم يشربا شيئاً مما قدم لهما طوال ستة أيام، ومكثا يتضوران من الألم والجوع ثابتين بقوة الله. ولما أوشكا على الموت جوعاً، أنقذتهما أرملة كانت دارها ملاصقة للسجن وفيها كوّة صغيرة تشرف على السجن. فاحتالت في الليل ووضعت خبزاً وماءً في مزودة دلتها بحبل صغير إليهما من الكوة. ولما أبصرا الطعام، لم يراودهما شك في أن اله هو الذي أرسله إليهما، فتناولاه وشربا الماء. وهكذا كان شأن المرأة طوال مكوثهما في السجن. أما الحراس فكانوا منذهلين من بقاءهما على قيد الحياة. فأخبر أردشير أخاه الملك شابور ملك الملوك إنه نكّل بهما شر تنكيل دون أن ينال من عزيمتهما.
حينئذ دعا الملك ذاك الشماس الخائن وسأله هل ثمة مسيحيون آخرون في بلاد كشكر؟ فأجابه الخائن: "هناك أسقف وكهنة وشمامسة كثيرون. إن مرت فسأمضي وأجلبهم إلى ههنا." فأعطاه الملك عشرة فرسان وعشرين راجلاً للقيام بهذه المهمة القذرة. وتوجه إلى منطقة كشكر للقبض عليهم. أما عبدا أسقف مدينة كشكر، فكان قد خرج لزيارة أبرشيته بصحبة كهنة وشمامسة من كنيسته، وهم لا يدرون شيئاً من أوامر الملك. وحضر في إحدى القرى فيها رهبان وراهبات. وبينما كان نائماً في الليل، رأى رؤيا أذهلته. فأيقظ الكهنة الذين كانوا معه وقص عليهم خائفاً ما رآه وقال: "رأيت ثعباناً أسود كبيراً وقبيحاً ورهيب المنظر، وأخذ يدب ويفحّ ويرهب الأرض. ورأى عصابة من العصافير عددها أربعون، فانفض عليها وابتلعها الواحد تلو الآخر حتى أتى على جميعها." فاعترى الجميع انذهال وعجب من هذه الرؤيا، وقاموا وصلوا ثم عادوا ثانية إلى النوم. وإذا بالأسقف عبدا يشاهد الرؤيا ذاتها مرة ثانية بوضوح، فعاد وأيقظهم وقال لهم: "بينما كنت راقداً وعيناي مفتوحتان، وأنا أرفعهما إلى السماء وأمجد الله في قلبي، وأفكر في الرؤيا الأولى، وظننت أننا قد نموت جميعنا بالشهادة، إذا برهبة اكتنفتني، ولم أعلم بعد أين أنا. ورأيت الأسقف شمعون برصباعي طائراً ومحلقاً فوق رأسي، وكان منظره شبيهاً بالبرق، وكان جليلاً ومجيداً مثل ملاك السماء. فاشتاقت نفسي إلى كلامه شوقاً مذيباً، وتقت إلى أن يدنو مني. ولما أبصرته مرتفعاً عني، صرخت وقلت له وأنا خائف: لماذا لا أستطيع أن أطير وآتي إليك؟ فأجابني قائلاً: إنك الآن لا تستطيع، ولكنك بعد قليل ستتمكن من أن تطير وتأتي إليّ وتقول لي كل ما يختلج في فكرك".
ولما أنهى قصته، تعجب الجميع مما رواه، فقاموا وصلوا صلاة الصبح. وفي تلك الساعة وصلت زمرة الأشرار وألقوا القبض على الأسقف عبدا والرجال الثمانية والعشرين الذين معه، وكذلك على سبع نساء كن هناك، كبّلوهم بالقيود، واقتادوهم بعنف وقساوة إلى مدينة كرخ ليدان في منطقة الأهواز، لأن الملك كان قد غادر بيث لافاط وأقبل إلى تلك المدينة. فأتوا بهم إلى باب القصر. وأرسل الملك إليهم حاكم المنطقة مع اثنين من أكابر المجوس لاستجوابهم. ولما مثلوا بين يدي الحاكم، قال لهم: "لماذا تتمادون في الضلال وتضلون الناس وتهلكونهم بخداع تعليمكم؟" فأجاب الأسقف عبدا وقال له: "نحن واثقون بأننا في الصراط المستقيم وأن من يتبعنا حكيم ولا يهلك ولا يضلّ لأنه يسير في النور. وهو إنما يسمعنا بدافع الرجاء العتيدة فيعود من ضلاله." فقال الحاكم: "إن الملك يأمركم بالسجود للشمس، لكي تنجو اليوم من العذابات والموت الذي أنوي إنزاله بكم. وإن لم تطيعوا أمره، فإنه قد خوّلني السلطة للتنكيل بكم كما أشاء." فقال له عبدا: "ليس بوسع ملكك وأمره ولا بوسعك أو بإمكان سلطتك أو عذاباتك أن تفصلنا عن محبة إلهنا وعن الإيمان الحق بيسوع المسيح. وإننا لن نقدم السجود للشمس المخلوقة عوض الله الخالق، ولن نستبدل الملك العظيم القدوس بملك صغير أثيم".
فاستشاط الحاكم غيظاً وأمر بضرب كل منهم مائة سوط. ولكنهم عذبوا الطوباوي عبدا بضربات أشد قساوة، لكونه الناطق بلسانهم. ثم قال لهم الحاكم: "لماذا تتجرأون وتحتقرون شابور ملك الملوك؟ فإنه إله تمتد سلطته على الخليقة إلى الأبد". فأجابه مار عبدا: "إن شابور الملك ليس إلهاً، بل هو إنسان، وهو كإنسان يأكل ويشرب ويلبس ويكدّ ويتعب ويفرح ويتضايق، ويعتلّ ويشفى، ويمرض ويموت. وسلطانه العالي قد ناله من عند الله تأديباً للبلدان والشعوب المخالفة لعدالة." ولما سمع المجوس هذه الأقوال، سخطوا كلهم وأخذوا يشبعونه لطماً على فمه لئلا يواصل تجديفه هذا على الملك.
ودخل الحاكم والمجوس على الملك. فقال لهم: "كيف رأيتم هؤلاء السحرة؟ وما رأيهم؟ وماذا قولوا؟" فأجاب الحاكم وقال: "أيها الملك الصالح، لا يُسمح لفم إنسان أن ينطق أمامك بما يجدّف به هؤلاء على جلالتك. فأن ما يقولنه عنك يتعذر إعادته أمامك." فسمح الملك وقال له: "انطق بكل ما قالوه ولا تخفْ،. فلست أنت الذي تحتقرني بل أولئك هم الذين يحتقرونني أنا ومملكتي." وإذ ذاك قال له الحاكم: "عشت أيها الملك إلى الأبد، ودام تاجك على راسك أبداً. إنني امتثالاً لأمرك خرجت وعذّبتهم بقساوة لكي أدفعهم إلى السجود للشمس ولكنهم لم يرضخوا لأمرك. وقلت لهم أيضاً أن ملك الملوك إله حي إلى الأبد ومسيطر على الأرض كلها. أما هم فقالوا مجدّفين على جلالتك: إن شابور الملك ليس إلهاً، بل هو إنسان كواحد من البشر، وإنه مثلهم يمرض ويموت." فضحك الملك ضحكة عالية وقال له: "إن هؤلاء الناس لحكماء فيما قالوه عني. فأنا إنسان لا إله، وأنا مزمع أن أموت شأن واحد من البشر. وإني لأحسبك جاهلاً أيها الحاكم لأنك استأت من هذا الأمر الذي بدا لك أمراً جديداً".
وفي الحال استدعى الملك "طوسداغ" رئيس الأمناء الذي كان متولياً أمر جميع فيلة الملك، وأمره بأن يستعد لاستجواب هؤلاء الأسرى المسيحيين وأوصاه قائلاً: ""أنظر إذا رضخوا لإرادتي وسجدوا للشمس، فلن يموتوا. فقد لاحظت أن المجوس يبغضونهم بغضاً شديداً ويتذرعون بشتى الوسائل لقتلهم." فخرج هذا الأمين من المدينة وخُيَلاء بصحبة القائد الأعلى لمنطقة فارس كلها مع الحاكم والمجوسين المذكورين أعلاه وجميع غفير من أبناء المدينة. وأخرجوا الشهداء المقيّدين إلى الجهة الجنوبية من المدينة، وهم عبدا الأسقف والرجال الثمانية والعشرون الذين معه، وأوقفوهم أمامهم بهيئة تدعو إلى الخوف والرهبة. ووجّه الأمين إليهم أسئلة عنيفة وقال لهم: "من أنتم يا ترى حتى تخالفوا أمر ملك الملوك؟" فأجابه القديسون وقالوا: "نحن إنما نطيع أمر الله الخليقة كلها ولن نرضخ لإرادة ملك أثيم." فقال لهم الأمين: "إنما الملك شفقة بكم أرسلني إليكم لكي أنصحكم لتسجدوا اليوم للشمس ولا توفّروا علة للموت الذي صدر عليكم بالسيف." فأجابه القديسون: "أنت بصفتك أميناً للملك وصديقه ولا تشفق علينا موتنا ولا تأخر قتلنا. فإننا نرذل ونحتقر نصيحتك وأمر ملكك، ولا نسجد للشمس فنصبح أضحوكة مثلكم أنتم الذي تاه عقلكم وراء ضلال المجوس. فاعلم يقيناً أننا نسجد لإله واحد ولأجله نستشهد اليوم وهو سيمنحنا حياة أخرى أبدية لا موت فيها." وإذ ذاك أصدر الأمين حكم الموت عليهم. فشرع العظماء يحلون وثاقهم ويقرّبونهم مثل خراف للذبح، والشهداء فرحون. وكان ثمة أخوان هما برحذبشبا وشموئيل، وقد تبعا الشهداء طوعاً من بلادهم ليوفرا لهم احتياجاتهم. ولم يكن قد ألقي القبض عليهما. وكانا في ذلك النهار قد ذهبا إلى المدينة لجلب طعام للشهداء، ولم يعلما أن هؤلاء قد اقتيدوا من السجن في الساعة الثالثة ونفذ فيهم حكم الموت. فلما بلغهما هذا الخبر، اعتراهما الانذهال وأسرعا إلى مكان الاستشهاد وارتميا على جثة الأسقف عبدا واحتضناه وأخذا يقبلانه ويأخذان من دم الشهداء ويمسحان به جسديهما، وشرعا يلتمسان من القتلة أن يقتلوهما، وهما يقولان: إن الموت ألذّ لنا من هذه الحياة التعسة والمرة. وصارا يجدّفان على الملك في سبيل الحصول على الاستشهاد. فتشاور العظماء الثلاثة فيما بينهم بشأنهما وقرّ رأيهم على عدم قتلهما إلى أن يطلعوا الملك على أمرهما، لأن اسميهما لم يكونا مسجلين في اللائحة التي أعطيت لهم. فأرسلوا وأطلعوا الملك على ما جرى. أما هذان القديسان، فما كانا يكفّان عن الصراخ والقول: نحن أيضاً مسيحيان مثل هؤلاء الذين قتلتموهم، ونعترف بإلههم الحق ونكفر بآلهتكم الكاذبة. ونحن جميعنا أبناء إيمان واحد بالله. فصدر عليهما أيضاً حكم الموت، فأعدما في تلك الساعة وفي الموضع عينه، فاختلط دمهما بدماء رفاقهما. وتكلل الشهداء يوم الجمعة الموافق 15 أيار.
وفي اليوم التالي، تذكر الملك الأسقف عبد يشوع والكاهن عبد الله. فسأل هل أنهما ما يزالان على قيد الحياة؟ فقيل له: أجل، إنهما على قيد الحياة. فأمر بقتلهما إذا كانا ما يزالان على رأيهما. فأخرجوهما من السجن وقد بلغ منهما الهزال حداً لم يبق من جسديهما سوى الجلد والأعصاب والشعر، ولم يبق لهما صورة إنسان، إذ كانت أضلاعهما وعظامهما قد تكسرت وقامتهما منحنيتين محطمتين. فأخذوهما إلى الموضع الذي فيه استشهد رفاقهما. وخرج الحاكم إلى هناك وسألهما وقال: "إن كنتما ترضخان لأمر الملك ستعيشان وتنجوان من القتل." فأجاب المجاهدان بقوة وقالا له: "يا عديم القلب، ألا تخجل أن تدفعنا نحن الذين مات جسدانا إلى أن تقتل نفسينا أيضاً؟ ولكن لا تتوهم أيها القذر بأننا قد غيرنا رأينا الأول. فإننا صامدان في حقيقتنا، ونعترف بالإله الأوحد الحق. فلا تنظروا إلينا وتتهاونوا، بل أرسلونا لنلتحق بأخواننا الذين قتلتوهم البارحة ظلماً. فهؤلاء الذين كانوا متأخرين عنا في الجهاد قد سبقونا إلى الإكليل." إذ ذاك أصدر هذا القذر أمراً بقطع رأسيهما في الموضع الذي فيه استشهد أخوتهما. وكان في المدينة مسبيون من الروم. فبذلوا كل اهتمامهم وسرقوا جثث الشهداء كلها ودفنوها باحتراس في أماكن خفية. وكذلك حفروا الأرض التي سقتها دماؤهم واحتفظوا بهذا التراب للشفاء.
أما النساء السبع فقد أمر الملك بإرسالهن إلى مدينة بيث لافاط ليُقتَلن هناك تخويفاً للمنطقة كلها. وأمر حاكم المنطقة باستصحابهن للأشراف على قتلهن. ولما أدخلوهن إلى المدينة، حدث فيها اضطراب كبير وضجّ الناس احتجاجاً على الدم الزكي الذي يُسفَك فيها. وفي يوم الجمعة التالية لقتل الشهداء، أخرجهن الحاكم إلى شرقي المدينة وسألهن: "هل ترضخن لإرادة الملك وتتزوجن فتحيين وتخلصن من الموت الصادر عليكن؟" فأجابته القديسات: "نحن إنما نلتجئ إلى الله وله نسجد ولا إله لنا سواه. والآن افعل ما أُمِرتَ به دون تأخير. فاعلم أننا لا نطيع أمر الملك الأثيم، ولا نسجد للشمس التي هي خليقة، ولا نرضى بالزواج." إذ ذاك أوعز الملك إلى ثلاثة رجال بأن يستلوا سيوفهم ويقطعوا رؤوس سبعتهن. وهكذا استبسلن بالمسيح رجاء انبعاثهن.
استشهدت هؤلاء القديسات في الثاني والعشرين من شهر أيار، واختُطفت جثثهن في الليلة ذاتها، ودفنها أناس من المؤمنين كانوا في المدينة.