ولد القديس فى ممفيس سنة 355 ميلادية من أبوين تقيين وبارين ، وكانا غنيين فى النعمة والثروة ، فمنذ طفولته استقى الكتب المقدسة وتعاليم الكنيسة تعلم القديس حياة الصلاة والصوم والعطف على الفقراء ولما بلغ سن الشباب لم يكن مثل اقرانه فى القرية ، اذ كان يقضى وقته فى الصلاة والتسبيح وعاش حياة الطهارة وأحبها ، وكان يوماً بعد يومتتزايد أشواقه بمحبة شديدة لطريق الرهبنة.
اشتياقه للرهبنة
كان عليه ان يتردد على سكان المغاير والشيوخ يتعلم منهم طريق الكمال حياتهم النسكية ويتدرب على محبة الوحدة ، وكان كلما مرت الأيام يزداد اصراراً وعزماً فى أن يقتدى بهؤلاء النساك ويقتنى الكنز المخفى ، فتدرب على حياة السهر والصلاة وعلى تعب الجسد والنسك فى الأصوام وحفظ المزامير ، وكان فى وقت راحته يعمل بيديه فى ضفر الخوص وصنع الليف وكان يبيعه ويشترى بثمنه ما يحتاجه من ضرورات المعيشة ثم يتصدق بالباقى على المحتاجين .
حياة الوحدة
كانت الاشواق المتزايدة فى قلب ابو فانا فى الجبل تاركاً خلف ظهره العالم واضعاً أمجاده وشهواته تحت قدميه، وفى الجبل الغربى خارج قرية أبو صير ( بالقرب من قصر هور فى الأشمونين ) وجد مغارة مظلمة لا يدخلها نور النهار ففرح بها وكأنه وجد ضالته المنشودة ، ولم يكن الماء متوافراً فى المكان ، وكان الرهبان يقطعون مسافات طويلة ليحصلوا على الماء من بعض الآبار المتناثرة ، لكن القديس ابو فانا حينما سكن المغارة وقد وضع رجاءه على الله الذى أحبه من كل قلبه مشتاقاً ان يعبده ويلتصق به فى هذا المكان بعيداً عن العالم ، حدثت أعجوبة عظيمة اذ أنبع الله ينبوع ماء عذب عند مدخل مغارته ، وكم كانت دهشة القديس لهذه المعجزة العظيمة، وامتلأت نفسة بتعزية كثيرة بسبب تلك العناية الالهية وهذه العلامة التى صارت من السماء ، فسكن القديس المغارة كل سنوات جهاده
وعندما اجتمع حوله المئات من الرهبان ابتدأ ينظم لهم حياة جهادهم فى الصوم والصلاة وشغل اليدين ، وكان لا يفتر عن تعليمهم وارشادهم وتشجيعهم على تلك الحياة الملائكية ويدربهم على سكنى القلاية ومحبة الوحدة والصلوات الكثيرة سواء فى وحدتهم او فى حياة الشركة مع الأخوة وكان كلما وجد منهم من يتقدم فى النعمة يلبسه اسكيم الرهبنة المقدس
اقامته صبياً من الموت
كان الجبل يزدحم بالزائرين الذين يريدون نوال بركة القديس أبو فانا وطالبين صلاته عنهم، وبينما كان صبى يصعد على الجبل زلت قدمه وتدحرج من فوق الجبل الى اسفل سفحه فمات ، لكن اباه لم ينزعج بل كان له ثقة فى القديس ابو فانا ، فحمل ابنه وارقده امام باب المغارة التى يسكنها القديس ، وبينما كان القديس خارجاً من مغارته ليبارك الزائرين ، اذ به يرى الصبى مطروحاً ميتاً أمام مغارته ، فرفع عينيه الى السماء فى صلاة حارة ورفع يده ورشم الصبى بعلامة الصليب المقدس ودعاه ان يقوم ففى الحال قام الصبى وذهب الى أبيه .
نياحة القديس
بعد سنوات مملؤة بالجهاد ، وحياة مزدهرة بالثمر المتكاثر تزايد شدة المرض على الجسد الضعيف وفى صبيحة يوم السبت 25 أمشير ، وقبل أن يشرق نور الشمس أتاه المسيح يدعوه ليختم جهاده وينتقل من هذا العالم ، فوقف قائماً ودعا أولاده وأخبرهم بأن المسيح يدعوه اليه وأعلن لهم أن الله أراد أن يريحه وأشار باقامة القداس الالهى .
وبعد صلاة القداس تقرب القديس من الاسرار المقدسة ، وبالرغم من ضعفه وشيخوخته كان واقفاً على قدميه ولم يجلس قط ، وودعه الرهبان وتقدم حوله أولاده الذين كان يرشدهم وتباركوا منه وفى تواضع طلب منهم القديس أبو فانا ان يباركوا هم عليه ، وودعوه ببكاء وتباركوا منه وبعد أن رفع القديس قلبه فى صلاته الأخيرة أمال رأسه الى جانب المكان الذى كان ينام فيه واسلم روحه بيد الرب القدوس لتصعد وسط جوقة من الملائكة وارواح القديسين .
وللوقت فاحت من جسده المقدس رائحة طيب زكية ملأت المكان ، فقام الأخوة وكفنوه بأكفان غالية من الكتان الثمين ودفنوا جسده الكريم باكرام عظيم ، وكان الجميع يأتون الى مكانه وأظهر الرب من جسده الطاهر ايات كثيرة وعظيمةبركة صلواته تكون معنا آمين .
شمل القرن الرابع نشاط فى الدعوة الرهبانية فى الصعيد ، وكانت هذه الحركات متزامنة مع رهبنة القديس أنطونيوس التى أسسها فى الوجه البحرى ، فانتشرت الجماعات الرهبانية وتناثرت الاديرة فى أنحاء مصر العليا حيث كانت الارض خصبة والروحانية عالية .
وكان القديس باخوميوس الذى عاش بين عامى ( 286 -346م) قد أسس نظام الشركة فى الحياة الرهبانية الجماعية ، فكان كل من يضع فى قلبه اختيار طريق البتولية والصلاة والحياة فى البرية كان يقصد أحد الآباء الروحيين المختبرين ليلقنه قوانين الرهبنة ، وكان عليه أن يحضر العظات الأسبوعية التى يتلوها الرئيس ويستمع اليها المبتدئين ، وكان يظل يتردد فترة على الشيوخ يتدرب منهم على تعاليم الفضيلة وطريق الجهاد الروحى قبل ان يسمح له بأن يأتى وينضم الى الشركة مع الأخوة ويخوض فى تلك الحياة ، وقد انتشرت جماعات القديس باخوميوس وشملت أجزاء كثيرة من الصعيد حتى بلغ عدد الأديرة التى أسسها تسعة أديرة وضمت 5000 راهباً عدا العذارى .
ومن أهم الجماعات الرهبانية التى ازدهرت فى الصعيد فى القرنين الرابع والخامس وضمت اليها 4000 راهباً عدا الراهبات ، كانت تلك الجماعات الرهبانية التى عاشت تحت ارشاد القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين والذى عمر طويلاً ( 333 - 451م ) ، ويعتبر القائد الاعلى لحركة دينية وضع لها قوانينه الخاصة فى نظام صارم من النسك فى حياتهم الديرية .
والقديس ابو فانا عاش فى النصف الثانى من القرن الرابع ، ولو افترضنا أن حياته استمرت بين عامى ( 355 - 415م ) فيكون بذلك عاصر الأنبا شنودة رئيس المتوحدين وعظماء القديسين والمرشدين الاوائل فى رهبنة الصعيد ، ومما لاشك فيه أن القديس أبو فانا قد تأثر بهؤلاء القادة وأسس جماعته الرهبانية على منوالهم ، فتأثر بحياة الشركة التى وضعها القديس باخوميوس ، كما تأثر بطريقة الأنبا شنودة فى الاهتمام بالارشاد وضرورة التعليم للجماعة الرهبانية التى جمعت حوله، ويذكر التاريخ ان دير القديس أبو فانا قد ضم اليه اكثر من 1000 راهب وكان من اوائل الاديرة فى الصعيد ، وعاش اولئك الرهبان فى ما يعرف بنظام المشوبيات وهو نظام يجمع بين حياتى الشركة والوحدة فى آن واحد، فكان كل جماعة من الرهبان من حرفة واحدة او من قرية واحدة يسكنون فى منشوبية ، والمنشوبية عبارة عن عدة قلالى متجاورة كل راهب يسكن منفرداً فى واحدة منها ، فتكون كل منشوبية جماعة متناسقة، وكانت تنتشر هذه المنشوبيات حول المبنى الكبير وهو الكنسة التى كانوا يجتمعون فيها للصلاة ، وكانت بجوارها مبنى المائدة التى كانوا يتناولون فيه الطعام فى شركة معاً ، والملحقات الأخرى مثل الفرن وآبار المياه ، وصالة الاٍجتماعات وحجرات مخازن الدير والبئر والفرن وملحقات أخرى خاصة بالزائرين.
القديس أبو فانا
يسمى بالقبطية الصعيدية ( آفا فانا ) ، وبالقبطية البحرية (آفا قينى) وهى تعنى نخلة ، وحسب رأى عالم الآثار هملوت بوشهاوزن ان اسم قينى أى نخلة كان كثير الاستعمال وشائعاً فى منطقة هرموبوليس (الاشمونين حالياً ) ، واذا كان القديس مسقط رأسه فى ممفيس ( جنوب القاهرة ) فاٍنه يكون قد اطلق عليه هذا الاسم فينى فيما بعد، وأنه كان قبلا يحمل اسماً آخر ولكن بعد اٍنفراده فى قرية ابو صير القريبة من الاشمونين سمى قينى اى النخلة ، وبالحقيقة كان هذا القديس مثل نخلة مثمرة ومرتفعة بسبب قامته الروحية العالية وثماره الكثيره.
نشأته وحياته
ولد القديـــس فى ممفيس سنة 355 ميلادية من أبــــــوين تقيين وبارين ، وكانا غنيين فى النعمة والثروة فكانا يمتلكان امــــوالاً كثيرة ، فقد نشأ فى بيت شريف واسرته تقية ، فنشأ فى حياة القداسة وصلابة الايمان ودفء الحيـــــــاة المسيحية ، مما كان له أعظم الأثر فى حياته المبكرة فمنذ طفولته استقى الكتب المقدسة وتعــــاليم الكنيسة(2تى3 :15) تعلم القديس حياة الصــلاة والصــوم والعطف على الفقراء فقد كان والداه يصنعان صدقـــات كثيرة ، فأحب الرب ووصاياه منذ طفـــولته ، ولما بلغ سن الشباب لم يكن مثل اقرانه فى القرية ، اذ كان يقضى وقته فى الصـــلاة والتسبيح وعاش حياة الطهــــارة وأحبها ، وكان بالحقيقة اناء نقياً مقدساً لسكنى الـــــــروح القدس فيه ، وكان طويل القامة هادىء الوجه وكانت نعمة الله حالة عليه ، وكان كل من يــــراه يحس بالراحة فى نفسه ويدخل السلام الى قلبـه ، وكان يوماً بعد يوم ينمو فى النعمة والقامة وتتزايد أشواقه بمحبة شديدة لطريق الرهبنة.
اشتياقه للرهبنة
سطعت أنوار الكاملين فى الصعيد فقد ازدهرت الحياة الرهبانية وتزايدت جماعات الرهبان والمتوحدين ، وصارت كأشجار خضراء مثمرة امتلأ بها بستان الرهبنة فى مصر العليا ، وانتشرت فضائلهم وتناقلتها الأخبار خاصة هؤلاء الرهبان القديسون الذين سكنوا المغارات خارج القرى وفى الجبال والقفار .
وكان القديس أبو فانا فى سن الشباب فاشتاق ان يسلك هذا الطريق الروحانى ، وكان عليه ان يتردد على سكان المغاير والشيوخ يتعلم منهم طريق الكمال ويرتشف من رحيق حياتهم النسكية ويتدرب على محبة الوحدة ، وكان كلما مرت الأيام يزداد اصراراً وعزماً فى أن يقتدى بهؤلاء النساك ويقتنى الكنز المخفى ، فكان يدرب ذاته أن يقتنى كل فضيلة يسمع عنها او يراها فيمن كان يزورهم من الآباء ، وفى حياة جادة كان يجاهد فى الفضائل ويجهد ذاته فى عبادات شاقة ، فتدرب على حياة السهر والصلاة وعلى تعب الجسد والنسك فى الأصوام وحفظ المزامير ، وكان فى وقت راحته يعمل بيديه فى ضفر الخوص وصنع الليف وكان يبيعه ويشترى بثمنه ما يحتاجه من ضرورات المعيشة ثم يتصدق بالباقى على المحتاجين الذين كانوا دائماً يقصدونه لسد اعوازهم .
فقد كان القديس يحمل فى داخله قلباً عطوفاً رقيقاً يسرع لكى يغيث المتضايقين ويحمل الملابس لمن يحتاج اليها ويطعم كل فم جائع ، وكان يداوم على زيارة المرضى ، وافتقاد المحبوسين فى السجون ويسرع لكى يسد احتياجاتهم.
انطلاقه الى الجبل
" كل من ترك بيوتاً أو أخوة أو أخوات أوأبا أو أماً أو أمراة أو اولاد أو حقولاً من أجل اسمى يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الابدية " ( مت 19 : 29 )
تزايدت أشواق أبو فانا لحياة الوحدة والانفراد فى البرية بعيداً عن ضجيج العالم وأهوائه ليلتصق بالمسيح الذى أحبته نفسه ، وبعد ان كان قد تردد لسنوات كثيرة يتعلم ويتدرب على يد ساكنى الجبل من الرهبان والمتوحدين وتتلمذ على يد الشيوخ والمرشدين ، وقد نما الغرس الحسن واشتد عوده ، وحان الزمان ان ينقل من حياته وسط الناس الى الارض الخصبة ليأتى بثمر أكثر ، فعزم على أن يترك مسكنه فوزع ما كان يمتلكه وقصد الجبل ليحيا وسط هؤلاء النساك ليشاركهم فى حياتهم الخشنة عزوفاً عن كل تعزية أو صداقة بشرية ، لكنهم مملؤون من التعزيات الروحية والفرح السمائى والسلام الذى يفوق كل عقل ، فقد أحب حياتهم ووضع فى قلبه ان يتشبه بجهادهم وزهدهم ، وسرعان ما أحضر الميراث الوفير لعائلته المرموقه من ممفيس ووزعه على الفقراء حينما ترك ممفيس الى هيرموبوليس.
حياة التقشف والزهد
فى سنوات شبابه لم يكن القديس يمتلك شيئاً لنفسه اٍذ تدرب على حياة التقشف والزهد ، وبعد ان وزع امواله على الفقراء كان عظماء تلك الجهات القريبة يأتون اليه وهم يخضعون له فى مهابة عظيمة ، وجاء اليه كثيرون وقدموا اليه اموالاً كثيرة اما هو فلم يأخذها منهم ولكن حينما الحوا عليه ان يقوم بتوزيعها على الفقراء كان يسير فى المدن والقرى وقد تطول فترة تجوله الى عشرة ايام وهذه كان يقضيها القديس فى صوم اٍنقطاعى دون طعام او شراب.
حياة الوحدة
النفس التى امتلأت بمحبة المسيح وفاضت فيها تلك المحبة تحس أن السيد المسيح هو الذى يرجع اليه الفضل اذ هو الذى أحبها وسكب هذه المحبة فيها ، هذه النار التى قال عنها " جئت لألقى ناراً على الأرض ، ماذا اريد لو اضطرمت " ( لو 12 : 49 ) ، وحينما تشتعل هذه المحبة فى النفس تندفع باخلاص وحب شديد ، تجلس تحت أقدام من أحبها وتقدم له أغلى ما تملكه حتى لو هاجمها الآخرون وسخروا منها واتهموها بالاتلاف ( مت 26 : 8 ) . ليس أمام هذه النفس الا شىء واحد هو التعبير عن محبتها للمسيح مشتاقة ان تصير كلها ملكاً له بعيداً عن كل الناس وعن كل شىء فى العالم.
هكذا كانت الاشواق المتزايدة فى قلب ابو فانا فى الجبل تاركاً خلف ظهره العالم واضعاً أمجاده وشهواته تحت قدميه، وفى الجبل الغربى خارج قرية أبو صير ( بالقرب من قصر هور فى الأشمونين ) وجد مغارة مظلمة لا يدخلها نور النهار ففرح بها وكأنه وجد ضالته المنشودة (المغارة مازالت قائمة الى اليوم وهى تبعد 80 متراً يمين مبانى الدير وهى مختبئة تحت الارض ولم تكشف بعد) ، ولم يكن الماء متوافراً فى المكان ، وكان الرهبان يقطعون مسافات طويلة ليحصلوا على الماء من بعض الآبار المتناثرة ، لكن القديس ابو فانا حينما سكن المغارة وقد وضع رجاءه على الله الذى أحبه من كل قلبه مشتاقاً ان يعبده ويلتصق به فى هذا المكان بعيداً عن العالم ، حدثت أعجوبة عظيمة اذ أنبع الله ينبوع ماء عذب عند مدخل مغارته ، وكم كانت دهشة القديس لهذه المعجزة العظيمة، وامتلأت نفسة بتعزية كثيرة بسبب تلك العناية الالهية وهذه العلامة التى صارت من السماء والتى اطمأنت لها نفسه فى أن الله أراد له أن يقيم فى هذا المكان، فسكن القديس المغارة كل سنوات جهاده.
جهاده الروحى
فى الوحدة المقدسة بالمغارة حالكة الظلام حيث انفرد القديس أبو فانا وكان يبلغ من العمر 22 عاماً ، سلك طريق الجهاد الروحى الذى كان قد تدرب عليه قبل ان يجىء الى الجبل ، وكان كل يوم يزداد فى جهاده حتى أضنك جسده بالصوم الكثير ، فكان يحدد لنفسه مقدار ما يأكل كل يوم من الخبز ، وتدرب أن ينقص منه بالتدريج حتى صار مقدار ما يأكله كل يوم يسيراً جداً ، ما كان فقط ضرورياً لقوت الجسد ومن شدة نسكه أنه لم يذق طعاماً مطهياً ، فما من مرة احتفظ لنفسه بطعام مطهى أحضره له انسان ، كما تدرج فى صوم الانقطاع حتى صار يصوم فى الشتاء يومين يومين وفى الصيف كان يتناول القليل من الخبز والماء والبلح الجاف عشية كل يوم ، وكان يصوم الاربعين المقدسة طياً بكاملها عدا الثلاثة الايام الاخيرة فكان يأكل فيها شيئاً يسيراً، وذات مرة سأله تلميذه افرآم عن سبب افطاره الثلاثة ايام فأجاب القديس باتضاع عظيم: ان السيد المسيح صام أربعين يوماً ولم يكن فى حاجة الى الصوم ، هؤلاء الذين صاموا على مثال السيد المسيح ، وأكملوا أربعين يوماً كانوا قديسين كاملين ، لكن من أنا المسكين حتى أتساوى مع الذين اختارهم المخلص كموسى وايليا ، وأنا ياابنى انسان ضعيف ، وهكذا كان القديس ابو فانا يحب الاتضاع ويكره الافتخار ويهرب من الكبرياء.
وكان قانونه ثلثمائة مطانية أثناء الليل ومثلها فى النهار، وأحب حياة السهر فكان يقضى الليل كله فى الصلاة واذا ما غلبه نعاس النوم كان يرقد على الارض الخشنة ، ولم يكف القديس عن تزايده فى التعب حتى أنه كان دائم الوقوف على رجليه فى المغارة ، وعندما كان يتناول الطعام كان يتناوله وهو واقف على رجليه حتى تورمت رجلاه من كثرة الوقوف ولصق جلده بعظمه من شدة النسك وصار مثل خشبة محروقة، ومع ذلك لم يخفف من كثرة أتعابه .
وظل مداوماً فى الجهاد والنسك حتى صار جسده محنياً ومقوس الظهر ، ولم يعد يمكنه ان يرقد ممدداً جسده على الارض ، فكان كلما غلبه النعاس ينام وهو يستند متكئاً بصدره على جدار مقام له خصيصاً وبنى لهذا الغرض ، وبالتأكيد كان نوم غير مريح ، فكان يغمض عينيه ويميل برأسه مستنداً على الحائط وظلت هذه هى طريقة نومه ، وهكذا قضى ثمانية عشر سنة حتى يوم نياحته ، وبسبب هذا العيب الجسدى سمى القديس بالنخلة بسبب تقوس ظهره من النسك الشديد الذى كان يمارسه فى حياته .
محبته لأولاده
أراد الله أن يخرج النور من المغارة المظلمة فأخذ السراج المخفى فيها ووضعه مرتفعاً ليضىء ليس لجيله فقط بل ليظل مضيئاً عبر أجيال كثيرة بعده ، فقد فاحت رائحة قداسة رجل الله وانتشر أريجها فجذبت اليه الكثيرين من الشبان محبى الطهارة والتسبيح ، وأشرقت من المغارة انوار صلاته لأولاده فأتوا بأعداد كثيرة يستضيئون بتعاليمه ويحيون بدفء محبته ومتمثلين باتضاعه ووداعته ، فكانت روحانية القديس لها اعمق الأثر فى نفوس أولاده ، وكانت دموعه التى سكبها غزيرة أثناء صلاته تروى تلك الغروس من تلاميذه الجدد وأولاده الروحيين الذين التصقوا به وأرادوا التشبه بحياته.
ولم تمر سوى سنوات قليلة حتى تكاثر أولاده جداً ، لأن كل من كان يأتى اليه يحبه من أجل محبته واتضاعه ، وكانت قداسته الفائقة تخترق أعماق نفوسهم وتشعل فيها الأشواق للحياة الرهبانية ، وعندما اجتمع حوله المئات من الرهبان ابتدأ ينظم لهم حياة جهادهم فى الصوم والصلاة وشغل اليدين ، وكان لا يفتر عن تعليمهم وارشادهم وتشجيعهم على تلك الحياة الملائكية ويدربهم على سكنى القلاية ومحبة الوحدة والصلوات الكثيرة سواء فى وحدتهم او فى حياة الشركة مع الأخوة وكان كلما وجد منهم من يتقدم فى النعمة يلبسه اسكيم الرهبنة المقدس ، فالبس كثيرين منهم هذا الاسكيم ، وكان تلميذه افرآم يلازمه دائماً ، وكبرت شجرة القديس وكثرت ثمارها فقد امتلأ الجبل بالرهبان القديسين حتى صار أشبه بخلية نحل تعمل فى صمت ونظام هادىء فامتلأت المغارات بشهد من عسل صلاتهم وطهارتهم ، او أشبه ببرج حمام تنطلق منه أصوات هدير الحمـــــام هكذا كانت أصوات التسبيح تنطلق من تلك القــــلالى (لمنشوبيات ).
محبته واتضاعه
تدرب القديس منذ حياته الاولى على محبة الجميع وامتلأ قلبه بهذه المحبة ، فكان يطوف على قلالى ومغاير الرهبان الذين يسكنون الجبل يقدم لهم أعمال المحبة بأى شىء يحتاجونه او يطلبونه حتى أنه يحمل اليهم مايجده فى مغارتهمن خبز أو فاكهة اتى بها اليه احد زائريه ، وكان يهتم بمن يصيبه ضعف او مرض ، وظل القديس طوال حياته لم ينقطع عن خدمة أخوته ، فكان عمله هذا موضع دهشة الجميع بسبب محبته وتواضعه واهتمامه بالرهبان ، وبسبب ما اشتهر به القديس من قلب عطوف ممتلىء بالحب كان يقصد مغارته كل من كان فى احتياج او ضيق وهو فى ثقة من استجابة سؤاله ، وكان القديس لا يرد واحداً منهم بل أنه كان يقوم بنفسه لخدمتهم.
تعاليمه ووصاياه
كان من أنظمة الرهبنة فى ذلك الوقت ان يجمع الأب الروحى أولاده الرهبان عشية يوم الأحد ، يعظهم ويوضح لهم محاربات الطريق ويرشدهم الى الجهاد الروحى وخبرات القديسين، وكانوا يقضون الليل كله فى شركة روحية وتختم بصلاة القداس الذى يشتركون فيه ثم يتناولون طعاماً معاً على مائدة واحدة ثم ينصرفون الى قلاليهم . وكان القديس يجلس بين أولاده يرشدهم بتعاليمه وعظاته عن محبة الله وحفظ وصاياه ، وكان يحثهم على الجهاد فى الطريق الروحى، ويدربهم على الوصايا والجهاد ليشتد عودهم وكانوا يسمعون تعاليمه بفرح ويتبارون فى تنفيذ التداريب الروحية فكانوا يمتلئون من كل نعمة ، وكان يأتى اليه الشيوخ الذين يسكنون فى مغارات أخرى بالجبل يسمعون منه كلمات المنفعة ، وذات مرة سأله بعض الشيوخ أن يسمعوا منه كلمات لبنيان نفوسهم فأجابهم القديس : " يا آبائى القديسون ان سيدنا يسوع المسيح تمجد اسمه لم يترك شيئاً من التعليم الا وقد أوضحه لنا فى انجيله المقدس، وقد اوصانا ان نحبه فوق كل شىء اذ قال " ان الذى يحب نفسه يبغضها ويهلكها فى هذا العالم ، اى انه يبغض كل ما يشتهيه جسده او ما تحبه نفسه من محبة الذات ، وان كل من يبغض نفسه فى هذا العالم الزائل فانه يحييها الى حياة أبدية ( يو 12 : 25 ) ، لأن ترك اللذات المظلمة والذهد فى سائر الأشياء هو حياة ، ومن أتعب جسده واماته فى مرضاة الله هو قوت يحى الروح وهو يأخذ نعمة من الله ، اذ أمرنا بالمحبة الروحية لأن فى هذا كمال الناموس والأنبياء ، ولتكن صلواتنا رائحة طيبة كما قال داود النبى فى المزمور " ليكن رفع يدى كقربان المساء ، واجعل لفمى حافظاً وعلى شفتى ستراً حصيناً "( مز 141: 2،3 ) فيكون الانسان فمه دائم التسبيح ، ولا نكون مثل الاشرار الذين يسمعون كلام الله لكنهم لا يحفظوه او يسلكوا فيه " فمضى من عنده الشيوخ منتفعين بكلامه وارشاده وانتعشت روحهم اذ وجد بينهم قديس كهذا يرشدهم ويصلى عنهم.
قيل عن القديس ابو فانا أن الآباء الأخوة كانوا يفرحون عند سماعهم كلام القديس وكان عندهم أحلى من العسل ، وكان ينصح زائريه بالاٍستنارة بتعاليم واٍرشاد الشيوخ.
سأل الأخوة القديس ذات مرة عن فائدة نسكه وأتعابه الأولى الكثيرة ، فأجابهم أن الجهاد فى بداية الطريق والذى يكون بنشاط وغير ملل أو فتور من كثرة التعب فى الصوم والصلاة وخدمة المساكين وحياة العفة والطهارة هى أشبه بالخمير الذى يخمر العجين كله ، لأنها هى الأساس الذى يبنى عليه حياة الراهب ، وحينما سمع الأخوة هذا الكلام مضوا وهم فرحين وممتلئين بالتعزية فى نفوسهم.
كان القديس يحث اولاده على أعمال المحبة ويقول لهم يجب علينا أن نعمل الحسنات فى الخفاء ( مت 6 : 2 - 4 ) لأن التظاهر بها يفقدها أجرها ، وإن عملناها فى الخفاء نصتع لنا أصدقاء روحانيين وهم يكملون عملنا.
وفى الحديث مع الشيوخ كان تقييم القديس أبو فانا للذهد والنسك أنه أعلى من أعمال الرحمة التى كان يعملها أثناء حياته الأولى فى تجوله وتوزيعه الأموال على المحتاجين قبل أن يدخل حياة التوحد ، وذات مرة سأل الشيوخ افرآم تلميذ القديس عن سبب تحول أبو فانا من خدمة توزيع الصدقات اٍلى حياة النسك ، فأجابهم أن القديس باستطاعته الآن وهو فى حياة النسك والجهاد أن يطلب بركة الرب لهذا الجيل كله عن طريق يديه المرفوعتين فى الصلاة.
ومن وصاياه للرهبان على قهر الشهوات أنه قال لهم : " حينما سأل التلاميذ السيد المسيح لماذا لم نقدر أن نخرج الشيطان الردىء ؟ أجابهم ان هذا الجنس لا يخرج الا بالصلاة والصوم ( مت 17 : 21 ) " فعلينا أن نكثر من الصلاة والصوم ، وسأل الأخوة أبو فانا قائلين " ياأبانا أنه عندنا قوم يكثرون الصلاة وهم لا يقدرون على اخراج الشياطين فأجابهم القديس " هؤلاء لم يقدروا على اخراج الشياطين لأنهم لم يقهروا بعد جميع الشهوات الجسدية والنجاسات الشيطانية ولم يغلبوا الذات ، لذلك يا أولادى علينا أن نتقدم نحن الرهبان فى حفظ قوانيننا ووصايانا ، وان الراهب اذا نزل الى العالم لقضاء أمر ، يجعل نفسه غريباً عن هذا العالم فلا يتأمل فى شىء ولا يشتهى منه شىء ، ولا يتهاون أو يحل قانون صلاته أو صومه حتى لا يجد العدو الشرير سبيلاً يمسكه به ، فتعزى الرهبان بهذا الكلام ومضوا منتفعين بكلامه.
وتحدث القديس عن الطريق الى الله فقال: " ان الله خلق آدم ليس فيه شىء من الفساد وكان يحيا مع اٍمرأته فى الفردوس كأولاد الله نيراً بسيطاً مثل طفل برىء ، فكان يأكل من أشجار الجنة وكان يملأه نور الحياة اذ كان يسير فى طاعة الله ولم يدخل فى قلبه خوف أو ألم وكانت بتوليته سبباً لحياته الأبدية وحينما عرف الشر وكسر الوصية الالهية بعد ان غلبته الحية وقويت عليه وصار يعرف الخير والشر وانجذب الى شهوته ، وفقد طهارته وهربت منه روح طفولته البريئة ، فان رجع الى طهارته الأولى فان روح الله يحل فيه والرب يعيده الى ملكوته، لأن الذين يسعون الى الطهارة ويثبتون فيها يصلون الى المكان الذى سمى مدينة الأبكار لأنهم لم يتنجسوا بأهواء الجسد لكنهم حفظوا طهارتهم ( رؤ 14: 4 ).
وفى تعاليمه عن الصلاة قال: " ان الصلاة التى تخرج من العقل فقط تولد الكبرياء ".
ومن تعاليمه لأولاده أنه قال لهم : " ان سيدنا قال لنا تعلموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم ( مت 11: 29 ). " اذن فالراحة فى التواضع ، كن متواضعاً لأخيك من كل قلبك ويكون باطنك كما هو فى الظاهر ".
ومن تعاليمه ان الذى ترضاه لنفسك هو الذى ترضاه لأخيك والذى تحبه لنفسك تحبه أيضاً لأخيك .
نياحته
بعد سنوات مملؤة بالجهاد ، وحياة مزدهرة بالثمر المتكاثر تزايد شدة المرض على الجسد الضعيف حتى اصبح ملازماً للفراش ، لقد جذب القديس ابو فانا الكثيرين بشبكته الروحانية ، فأتوا اليه يحيون قداسته وطريقه .
وفى صبيحة يوم السبت 25 أمشير ، وقبل أن يشرق نور الشمس أتاه المسيح يدعوه ليختم جهاده وينتقل من هذا العالم ، فوقف قائماً ودعا أولاده وأخبرهم بأن المسيح يدعوه اليه وأعلن لهم أن الله أراد أن يريحه وأشار باقامة القداس الالهى ، وبسرعة تطايرت الأخبار وانتشرت فى الجبل وهرعت جماعات الرهبان مسرعين الى مغارة القديس حتى اجتمع حوله جماعة كبيرة من الرهبان والشيوخ ، وبعد صلاة القداس تقرب القديس من الاسرار المقدسة ، وبالرغم من ضعفه وشيخوخته كان واقفاً على قدميه ولم يجلس قط ، وودعه الرهبان وتقدم حوله أولاده الذين كان يرشدهم وتباركوا منه وفى تواضع طلب منهم القديس أبو فانا ان يباركوا هم عليه ، وودعوه ببكاء وتباركوا منه وبعد أن رفع القديس قلبه فى صلاته الأخيرة أمال رأسه الى جانب المكان الذى كان ينام فيه واسلم روحه بيد الرب القدوس لتصعد وسط جوقة من الملائكة وارواح القديسين وللوقت فاحت من جسده المقدس رائحة طيب زكية ملأت المكان ، فقام الأخوة وكفنوه بأكفان غالية من الكتان الثمين ودفنوا جسده الكريم باكرام عظيم ، وكان الجميع يأتون الى مكانه وأظهر الرب من جسده الطاهر ايات كثيرة وعظيمة