karas karas
Well-known member
- إنضم
- 13 مارس 2022
- المشاركات
- 353
- مستوى التفاعل
- 279
- النقاط
- 63
عيد نياحتها بالتقويم الغربي 8 اكتوبر وبالتقويم الشرقي 21 اكتوبر (+461م)
11بابه: نياحة القديسة بيلاجية (السنكسار طبعة مكتبة المحبة)
وفي هذا اليوم أيضا تنيحت القديسة بيلاجية. وقد ولدت هذه البارة بمدينة إنطاكية من أبوين وثنين وكانت قد جمعت إلى فساد معتقدها نجاسة السيرة أيضا. فصادفها أسقف قديس يسمي بولس، ووعظها كثيرا فأمنت بالسيد المسيح علي يده واعترفت له بجميع ما صنعت. فقواها وعلمها ألا تيأس. وأن تتوب بنية صادقة. ثم عمدها باسم الآب والابن والروح القدس فاستنارت بنعمة المعمودية، إلى التوبة بقلب ثابت ونية خالصة وأضنت جسمها بالعبادة الحارة. ثم تزيت بزي الرجال وذهبت إلى أورشليم وسجدت في هياكلها. واجتمعت بالأب الاسكندروس بطريرك أورشليم فأرسلها إلى بعض الأديرة التي بقرب بيت المقدس فمكثت فيها أربعين سنة وتنيحت بسلام. صلاتها تكون معنا ولربنا المجد دائما أبديا. أمين.
11بابه: القديسة بيلاجية
كتاب القديسة بيلاجية التائبة. اصدار مجلة مرقس عن السيرة التى كتبها الشماس يعقوب الذى عاصر قصتها وكان تلميذاً للأسقف نونوس الذى توبها وتلمذها للمسيح.
أسقف أنطاكية الكلى الطوبى، دعى كل الأساقفة المجاورين لإيبارشيته ليتباحثوا فى مسألة معينة. وإلى هناك أتى ثمانية أساقفة ليجتمعوا معاً وكان من بينهم قديس الله نونوس ، وكان رجلاً عجيباً عظيماً وراهباً متفوقاً فى حياته من دير يقال له "تابينا". وبسبب طريقه العالى والمبارك أُخذ من الدير وسيم أسقفاً.
وإذ أتينا معاً إلى المدينة المذكورة رتب لنا الأسقف إقامة فى بازيليكا القديس يوليان الشهيد. ثم توجهنا إلى حيث جلس الأساقفة الآخرون بجانب الباب. وإذ جلسنا اتجهت أنظار الأساقفة إلى معلمى نونوس، لعلهم يأخذون من شفتيه تعليماً. وبدأ الأسقف فى الحال يتحدث قاصداً خلاص كل من يسمعه.
وبينما نحن جالسون ومتعجبون من تعليمه المقدس، يا للعجب، فجأة مرت أمامنا ممثلة أنطاكية الأولى، راقصتها الأولى !!
كانت ممتطية جواداً، فى رشاقة كانت تمتطيه.. كانت متزينة، حتى أن شيئاً لم يكن ظاهراً منها سوى الذهب واللآلئ والحجارة الكريمة. أما أقدامها العارية فكانت مخفاة تماماً داخل الذهب واللآلئ، وكان ورائها صف طويل من الشباب والوصيفات يرفلون هم أيضاً فى أردية غالية الثمن، وحول أعناقهم قلائد ثمينة، البعض كان يسير أمامها والبعض خلفها. وإذ عبرت على جمعنا ملأت الهواء بشذى المسك والروائح العطرة، وحين رآها الأساقفة راكبة هكذا بلا احتشام وعارية الرأس والكتفين وفى هذا الموكب الحافل دون أن تضع ولا حتى برقعاً على رأسها أو كتفها، تأوهوا جميعاً وفى سكون حولوا رؤوسهم عنها كما عن خطية عظيمة مخزية.
أما المبارك نونوس فقد تعمد أن يلتفت لها. وبعد أن عبرت ظل ينظر نحوها وعيناه تلاحقانها. وإذ أدار وجهه رفع نظره إلى الأساقفة الجالسين حوله وقال لهم: "ألم يسركم جمالها العظيم؟!"
فلم يجيبوه، فأغرق وجهه بين ركبتيه والكتاب المقدس الذى كان بين يديه الطاهرتين وابتدأت دموعه تنسكب على صدره وكان يتأوه بشدة، ثم قال للأساقفة: "ألم يسركم جمالها العظيم؟!"
وأيضاً لم يجيبوه بشئ، فقال لهم: "الحق أنه قد سرنى أنا، وقد كنت مسروراً بجمالها أنا الذى سوف أمثل أمام كرسى الله العظيم المهوب، حين تكون دينونة نفوسنا وأسقفياتنا!" وأردف يقول للأساقفة: "ماذا تظنون أيها الأحباء، كم من الساعات قضتها هذه المرأة فى مخدعها تستحم وتزين نفسها بكل الاهتمام، وذهنها كله مركز على خشبة المسرح، حتى لا يصير فى جمال جسمها وملابسها أية شائبة أو عيب لكى تصير متعة لكل عيون الرجال وحتى لا تضايق هؤلاء المحبين التافهين الذين بين عشية وضحاها يختفون؟ ونحن الذين لنا فى السماء أب قادر على كل شئ ومحب أبدى، وبوعد غناه وأكاليله الأبدية التى هى فوق كل تصور، ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه، ولكن ما الحاجة إلى مثل هذا الحديث بعد؟ أمام هذا الوعد أن تكون لنا رؤية العريس، هذا الوجه العظيم الذى لا يوصف الذى لا يجرؤ الشاروبيم أن ينظره، ونحن لا نهتم ولا نحرص أن ننقى من الوسخ نفوسنا المسكينة بل نتركها باقية فى نتانتها".
وبعد ذلك وضع يده علىَّ، أنا الشماس الخاطئ، وأخذنا طريقنا إلى مكان مبيتنا حيث أعطيت لنا هناك حجرة. وإذ وصل إلى غرفته الخاصة ألقى بنفسه على الأرض العارية ووجهه على الأرض وبدأ يبكى وهو يقرع على صدره ويصرخ قائلاً: "يا سيدى المسيح ارحمنى أنا الإنسان الخاطئ غير المستحق، لأن زينة يوم واحد لامرأة واحدة تفوق كثيراً زينة نفسى لك. بأى وجه سوف أتطلع إليك؟ وبأى كلمات سوف أبرر نفسى حين رؤياك؟ لن أخفى عليك قلبى وأنت تعرف خباياه. ويل لى أنا الخاطئ غير المستحق لأنى أقف فى هيكلك ولا أهبك نفساً طاهرة أنت تطلبها. هذه قد وعدت أن تسر الرجال وحفظت كلمتها. أما أنا فقد تعهدت أن أرضيك، وفى تهاونى حنثت. عريان أنا فى السماء وعلى الأرض لأنى لم أصنع وصيتك. رجائى ليس فى شئ صالح صنعته، لكن رجائى فى رحمتك حيث أنها أضحت خلاصى!". هكذا كان يصلى وهكذا كان ينتحب، وبقوة كرسنا فى هذا النهار صوماً لله.
وفى اليوم التالى وكان يوم الأحد وبعد أن أنهينا تسبحة نصف الليل تحدث معى الأسقف الصالح نونوس قائلاً: "أيها الأخ الشماس، هلم أخبرك بحلم قد رأيته واضطربت جداً منه، لأنى لا أعرف له تفسيراً".
ثم أخذ يقص علىَّ كيف أنه رأى فى منامه حمامة سوداء واقفة على قرن المذبح وكانت ملوثة وملطخة بالقذارة: "وظلت تطير حولى، وبصعوبة كنت أطيق نتانتها ووسخها، وظلت هكذا بالقرب منى إلى أن انتهى قداس الموعوظين. وبعد ذلك، وبعد أن أعلن الشماس بدء قداس المؤمنين، اختفت عن الانظار. وبعد أن ألقيت قداس المؤمنين ثم التقدمة وصرف المجتمعين وبعد أن رسمت عتبات بيت الله بالصليب، جاءت هذه الحمامة مرة أخرى فى وسخها كله وأخذت تطير حولى، ولكنى مددت يدى وأمسكتها وغطستها فى جرن المياه المقدسة الذى عند باب الكنيسة. حينئذ تركت كل القذارة التى كانت ملتصقة بها فى المياه وخرجت من المياه بيضاء كالثلج. ثم طارت إلى فوق وحملها الهواء واختفت عن أنظارى".
وانتهى الأسقف الصالح نونوس من سرده لخبر حلمه. ثم أخذنى من يدى وجئنا إلى الكاتدرائية الكبرى حيث بقية الأساقفة، فحيا أساقفة المدينة. وإذ دخل تحدث مع كل إكليروس الكنيسة وجلس معهم فى خورسهم. وبعد الصلاة وقراءة الكتب المقدسة، سلم أسقف المدينة الإنجيل لنونوس ورجاه أن يتكلم للشعب.
وتحدث نونوس بحكمة الله التى تسكن فيه، بدون زيف أو اصطناع أو فلسفة كلام، بلياقة وبلا غرور بشرى، إنما وهو ممتلئ من الروح القدس كان يتحاجج مع الشعب وينذرهم متكلماً من قلبه عن الدينونة الآتية وعن البركات الأبدية المذخرة. وهكذا تحرك كل الشعب بكلماته التى كان الروح القدس يتحدث بها على فمه حتى أن أرض الكنيسة تبللت بدموعهم. وبتدبير الروح القدس يحدث أن هذه المرأة الزانية التى تحدثناعنها تأتى لهذه الكنيسة بالذات فى ذلك اليوم.
بأعجوبة تم هذا، فإن تلك التى لم يأتِ على فكرها ذكر خطاياها والتى لم تعبر من باب كنيسة قط، فجأة شملها خوف الله بينما كان نونوس يخاطب الشعب. وإذ قنطت من نفسها سقطت فى أسى عظيم وبدأت دموعها تتساقط كأنهار، ولم تستطع بأى حال أن توقف نحيبها. وهناك وفى هذه اللحظة أعطت الأمر لاثنين من صبيتها قائلة: "أبقيا فى هذا المكان، وحينما يخرج الأسقف الصالح نونوس اتبعاه واسألاه أين يمكث وتعاليا و أخبراني".
وصنع الصبيان كما أمرتهما سيدتهم وتبعاه إلى بازيليكا القديس يوليان الشهيد حيث كانت قلايتنا. وحينئذ رجعا إلى سيدتهما وقالا لها: "إنه يمكث فى بازيليكا القديس يوليانوس الشهيد". وحينئذ أرسلت تواً رسالة مكتوبة مع نفس الصبيين. وكان مكتوباً فيها هذه الكلمات: "إلى تلميذ المسيح القديس، من تلميذة الشيطان وامرأة خاطئة، لقد سمعت عن إلهك الذى ترك السموات ونزل إلى الأرض ليس من أجل خاطر الأبرار بل من أجل أن يخلص الخطاة، وأنه كان متواضعاً جداً حتى أنه كان يدنو من السكيرين. وهو الذى لا يجرؤ الشاروبيم أن ينظروه، صادق الخطاة. وأنت يا سيدى أنت أيها القديس العظيم، أنت الذى لم تنظر إلى ربنا يسوع المسيح بعيون جسدية، ذاك الذى أظهر ذاته للمرأة السامرية عند البئر وقد كانت زانية، إلا أنك تلميذاً حقيقياً لهذا المسيح، فلا ترذلنى إذ أنا راغبة أن أرى ـ بواسطتك ـ المخلص، إذ به أستطيع أن آتى إلى رؤية وجهه القدوس".
حينئذ رد عليه الأسقف القديس نونوس بخطاب: "مهما كنتِ فأنتِ معروفة لدى الله بذاتك، ومهما كان هدفك ورغبتك، ولكن أؤكد عليكِ لا تحاولى أن تجربى ضعفى لأنى إنسان خاطئ خادم الله، وعلى كل حال إن كان لكِ رغبة نحو الأمور المقدسة، واشتياق للصلاح والإيمان وترغبين حقاً أن ترينه، فهناك أساقفة آخرون معى، تعالى وسوف تريننى فى محضرهم لأنكِ لن ترينى وحدى".
وقرأت هذه المرأة الزانية الرسالة وامتلأت بالفرح وقامت مسرعة لتأتى إلى بازيليكا القديس يوليان وأرسلت أنها قادمة.
وحينما سمع أبى الأسقف ذلك، جمع إليه كل الأساقفة الذين كانوا فى هذا المكان .. ثم أمرها أن تأتى إليه. ودخلت حيث كان الأساقفة مجتمعين وألقت بنفسها على الأرض وأمسكت بقدمى المبارك نونوس قائلة: "سيدى أتوسل إليك أن تسلك كما سلك معلمك السيد المسيح واسكب علىَّ من رحمتك واجعلنى مسيحية. سيدى أنا بحر من الشرور، أنا أرض من آثام. أسأل أن تعمدنى"
وبصعوبة استطاع أن يرغمها أن ترتفع من عند قدميه. وحينما قامت قال لها: "إن قوانين البيعة تحتم أن لا تعمد زانية ما لم تقدم تأكيداً، ليكون هناك ثقة من أنها لن تسقط مرة أخرى فى خطاياها القديمة".
وإذ سمعت هذا القرار من الأسقف ألقت بنفسها مرة ثانية على الأرض وأمسكت بقدمى القديس نونوس وأخذت تغسلهما بدموعها وتمسحهما بشعر رأسها صارخة إليه: "سوف تجاوب الله عن نفسى، وأنا سوف أدان عن أعمالى الشريرة، إن كنت تتأخر فى تعميدى من خطاياى السابقة. لن تجد نصيباً فى بيت الله بين القديسين إن لم تخلصنى من خطاياى، إنك إن لم تلدنى اليوم من جديد عروساً للمسيح وتهبنى لله، تنكر الله وتصير عابداً للأوثان".
وإذ رأى كل الأساقفة و الإكليروس الذين كانوا مجتمعين كيف كانت الخاطئة العظيمة تلفظ بهذه الكلمات قالوا فى تعجب إنهم لم يروا إيماناً بمثل هذا ولا رغبة للخلاص كما عند هذه المرأة الزانية.
و للتو أرسلونى، أنا الشماس الخاطئ، إلى أسقف المدينة لأوضح له الأمر ولألتمس من قداسته أن يبعث بشماسة معى. وحينما سمعنى تهلل فرحاً قائلاً: "الحق أيها الأب الجليل إن هذا العمل ما كنت أنتظره". وأرسل معى السيدة رومانا رئيسة الشماسات. ولما أتت وجدت المرأة ما زالت تحت قدمى الأسقف القديس نونوس، وبصعوبة كان يحاول أن يقنعها أن تقوم من على قدميه قائلاً لها: "قومى أيتها الابنة حتى يمكنك أن تقرى بخطاياكِ". ثم قال لها: "اعترفى بخطاياكِ".
فأجابت: "إن أنا عزمت أن أفحص كل أعماق قلبى فلن أستطيع أن أجد شيئاً ما صالحاً. أنا أعرف خطاياى، إنها أثقل من رمال البحر، ومياهه تتضاءل أمام هول خطاياى، ولكنى أثق فى إلهك أنه سوف يحل كل أعمالى الرديئة ويتطلع إلىَّ".
حينئذ قال لها الأسقف: "أخبرينى ما اسمك؟"
فأجابت: "اسمى الذى لقبنى به أبى وأمى هو بيلاجية، ولكن شعب أنطاكية أطلق علىَّ "مارجريتا بسبب (لآلئ ) خطاياى: لقد كنت جوهرة الشيطان ومخزناً لأسلحته".
وسألها الأسقف نونوس ثانية: "هل اسمك هو بيلاجية ؟". فأجابت: "نعم ياسيدى".
حينئذ أتم الأسقف إجراءات جحد الشيطان منها ثم عمدها ورسم عليها بعلامة الصليب وناولها من جسد المسيح ودمه. أما اشبينتها فكانت هى رومانا رئيسة الشماسات التى أخذتها وذهبت بها إلى مكان الموعوظين، هناك حيث ستتركها فترة من الزمن.
وقال لى الأسقف القديس نونوس: "اسمع أيها الأخ الشماس، هلم نتهلل مع ملائكة الله ونأخذ زيتاً فوق العادة على طعامنا ونشرب نبيذاً بابتهاج قلب من أجل خلاص هذه الفتاة. وإذ كنا جالسين على طعامنا أتانا فجأة صوت صياح كما من رجل يعذبونه وكان هو الشيطان. كان يصيح قائلاً: "ويل لى من أجل كل ما قاسيته بسبب هذا الرجل العجوز المتداعى. ألا يكفيك الثلاثة آلاف عربى الذين اغتصبتهم منى وعمدتهم لإلهك؟ ألعل هليوبوليس كلها لم تصر كافية لك. كانت لى والذين فيها كانوا يعبدوننى وأنت اغتصبتها منى ووهبتها لإلهك، والآن لقد سرقت أعظم رجائى وأنا لم أعد أحتمل دسائسك ومكائدك ضدى، ملعون هو اليوم الذى ولدت أنت فيه، أنهار من الدموع تغرق بيتى المسكين لأن رجائى قد ضاع". كل هذا صنعه الشيطان إذ كان يصيح بصوت عالِ منتحباً ونادباً خارج الباب، وكل الرجال سمعوه. ومرة أخرى أتى وصاح فى الفتاة: "كل هذا صنعتيه فىَّ يا سيدتى بيلاجية وتبعت يهوذاى ! لأنه وهو مكلل بالمجد والكرامة وقد اعتبر رسولاً خان سيده، وهكذا أنتِ فعلتِ معى"
حينئذ قال لها الأسقف نونوس: "ارسمي نفسك بصليب المسيح واجحديه". فرسمت نفسها باسم المسيح ونفخت على الشيطان و للتو اختفى.
وبعد يومين وبينما كانت نائمة مع إشبينتها السيدة رومانا التقية فى غرفتها، ظهر الشيطان ليلاً وأيقظ بيلاجية خادمة الله وقال لها: "اخبريني يا سيدتى مارجريتا، ألم تكونى غنية بالفضة والذهب؟ ألم أزينك بالذهب والحجارة الكريمة؟ اخبريني ألم ألتزم بأن أفرحك؟ اخبريني حتى أرضيكِ ولكن لا تجعلينى سخرية المسيحيين". حينئذ رسمت بيلاجية نفسها بعلامة الصليب، ونفخت فى الشيطان وقالت له: "إلهى الذى اختطفنى من بين مخالبك و أحضرنى إلى حجاله ، هو نفسه سوف يحاربك عنى". وللتو اختفى الشيطان.
ثلاثة أيام بعد أن تعمدت بيلاجية، نادت الذين كانوا يخدمون فى بيتها وقالت لهم: "اذهبوا إلى مخدعى واحصروا كل ما هناك من ذهب وفضة أو حلى أو ملابس فاخرة و أحضروها إلىَّ".
وصنع الصبى كما أمرته سيدته وأحضر لها كل متاعها. حينئذ سألت الأسقف القديس نونوس ـ بكلمة أرسلتها على يد إشبينتها السيدة رومانا ـ أن يأتى إليها. ووضعت بيلاجية كل أشيائها بين يديه قائلة لها: "هذا يا سيدى، هو كل الغنى الذى وهبنى إياه الشيطان. إنى أعطيه لك لتفعل به كما شئت وكما تراه صالحاً أن يفعل به، لأنه قد صار غنى للسيد المسيح".
حينئذ استدعى الأسقف أمين صندوق الكنيسة فوراً. وفى حضورها سلمه كل متاعها قائلاً: "أُشهدك باسم الثالوث الواحد أن شيئاً من هذا لا يذهب بتاتاً إلى صندوق الأسقفية أو الكنيسة، إنما يوزع على الأرامل والأيتام والفقراء حتى إن ما جمع بالشر يوزع فى الخير، وثروة الخاطئ تصير كنزاً للبر. وإن أنت حنثت بقسمك وسرق شئ فستدخل اللعنة بسببك أو بسبب غيرك، أياً كان، على بيته ويصير نصيبه مع أولئك الذين صرخوا، اصلبه".
أما هى فقد نادت كل صبيانها ووصيفاتها وأعطتهم حريتهم، وبيديها أعطتهم قلائد ذهبية قائلة لهم: "اسرعوا وحرروا نفوسكم من هذا العالم الخاطئ غير المستحق، حتى أنه كما كنا معاً فى تلك الحياة فلنحيا معاً فى هذه الحياة الجديدة بلا حزن".
إلا أنه فى اليوم الثامن، وحينما كان يجب أن تخلع بيلاجية عنها أرديتها البيضاء ، استيقظت ليلاً بدون معرفتنا وخلعت رداء المعمودية الأبيض وارتدت التونية والعباءة الخاصة بالأسقف نونوس. ومنذ ذلك اليوم لم يرها أحد فى مدينة أنطاكية. وأخذت رومانا تبكى عليها بدموع وحرقة، ولكن الأسقف الصالح نونوس عزاها قائلاً: "لا تبكِ، لأن بيلاجية قد اختارت النصيب الأصلح مثل مريم التى فضلها المسيح عن مرثا فى الإنجيل".
أما بيلاجية فكانت قد انطلقت إلى أورشليم وبنت لنفسها قلاية فى جبل الزيتون حيث صلى سيدنا.
بعد وقت قليل دعا أسقف المدينة كل الأساقفة معاً ليصرف كلاً منهم إلى مكانه. وبعد ثلاث أو أربع سنوات اشتاقت نفسى، أنا يعقوب الشماس، أن أسافر إلى أورشليم حتى أعيد قيامة ربنا يسوع المسيح. فسألت أسقفى إن كان يأذن لى بالانطلاق. وبينما هو يمنحنى الإذن قال لى: إسمع أيها الأخ الشماس، حينما تصل إلى أورشليم اسأل هناك عن أخ اسمه بيلاجيوس. هو راهب عاش هناك عدة سنوات مغلقاً على نفسه وفى عزلة. إن استطعت فزره فإنك سوف تنتفع منه كثيراً". وكان يتكلم كل الوقت عن خادمة الله بيلاجية ، أما أنا فلم أكن أعرف. ووصلت إلى أورشليم. وعيدت القيامة المقدسة التى لمخلصنا الصالح يسوع المسيح، وفى اليوم التالى سألت عن عابد الله هذا. وأخذت طريقى إليه فوجدته على جبل الزيتون حيث صلى الرب، مقيماً فى قلاية صغيرة مغلقة من كل ناحية. وكان لها نافذة فى الحائط. وقرعت على زجاج النافذة الصغيرة، ففتحت لى للتو وعرفتنى، أما أنا فلم أعرفها! وكيف كان لى أن أعرفها وقد شحبت وهزلت من الصوم، تلك التى رأيتها من قبل فى جمال لا يوصف! وعيناها كانتا غائرتين فى وجهها. وقالت لى: "أيها الأخ من أين أنت؟". وأجبت: "لقد أرسلت إليك بأمر من نونوس الأسقف". فقالت لى: "دعه يصلى من أجلى لأنه قديس الله".
وعدت إلى أورشليم وأخذت أتنقل هنا وهناك فيما بين الأديرة زائراً الأخوة. كان هناك لغط كثير بين الأديرة عن شهرة القديس بيلاجيوس وعزمت فى فكرى أن أعود مرة أخرى لأزوره حتى أنتعش بحديثه النافع. ولكنى حينما جئت ثانية إلى قلايته وقرعت بل حتى تجرأت أن أناديه باسمه، لم تكن هناك إجابة ما. وعدت ثانية وانتظرت يوماً ثانياً وثالثاً منادياً فى كل مرة: "يا بيلاجيوس". ولكنى لم أسمع شيئاً. حينئذ قلت لنفسى: "إما أن أحداً ليس هنا أو أن هذا الراهب الذى كان هنا قد رحل".
وتحركت بإرشاد من الله وقلت لنفسى. فلأتأكد أنه لا يكون قد مات. وفتحت شرفة النافذة ونظرت إليه ورأيته..لقد كان ميتاً!! وأغلقت النافذة وملأتها بعناية بالطين وجئت مسرعاً إلى أورشليم، وتلوت الأخبار أن الراهب التقى بيلاجيوس الذى صنع عجائب قد رقد بسلام.
حينئذ أتى الآباء الأبرار مع الأخوة من مختلف الأديرة. وفتحوا باب القلاية ونقلوا الجسد الصغير المقدس معتبرين إياه ثميناً كذهب أو كجواهر. وبينما كان الآباء يدهنون الجسد بالأطياب اكتشفوا أن الجسد لامرأة! وحاولوا عبثاً أن يخفوا العجيبة ولكنهم لم يستطيعوا، وصاحوا بصوت عالِ : "حمداً لك يا ربنا يسوع المسيح إذ لك كنوز مختفية فى كل الأرض. إذ لك ليس رجال فقط بل ونساء أيضاً".
وشاع الأمر فى خارج البلاد. وكل أديرة العذارى جئن، البعض من أريحا والبعض من الأردن حيث تعمد المسيح، بقناديل وشموع وتسابيح. وهكذا دفن الرفات المقدس، وحملها الآباء القديسون إلى قبرها.
ليت الله يهبنا أن نجد رحمة فى يوم الدينونة لأن له المجد والكرامة والسلطان والقوة إلى الأبد آمين.
11بابه: نياحة القديسة بيلاجية (السنكسار طبعة مكتبة المحبة)
وفي هذا اليوم أيضا تنيحت القديسة بيلاجية. وقد ولدت هذه البارة بمدينة إنطاكية من أبوين وثنين وكانت قد جمعت إلى فساد معتقدها نجاسة السيرة أيضا. فصادفها أسقف قديس يسمي بولس، ووعظها كثيرا فأمنت بالسيد المسيح علي يده واعترفت له بجميع ما صنعت. فقواها وعلمها ألا تيأس. وأن تتوب بنية صادقة. ثم عمدها باسم الآب والابن والروح القدس فاستنارت بنعمة المعمودية، إلى التوبة بقلب ثابت ونية خالصة وأضنت جسمها بالعبادة الحارة. ثم تزيت بزي الرجال وذهبت إلى أورشليم وسجدت في هياكلها. واجتمعت بالأب الاسكندروس بطريرك أورشليم فأرسلها إلى بعض الأديرة التي بقرب بيت المقدس فمكثت فيها أربعين سنة وتنيحت بسلام. صلاتها تكون معنا ولربنا المجد دائما أبديا. أمين.
11بابه: القديسة بيلاجية
كتاب القديسة بيلاجية التائبة. اصدار مجلة مرقس عن السيرة التى كتبها الشماس يعقوب الذى عاصر قصتها وكان تلميذاً للأسقف نونوس الذى توبها وتلمذها للمسيح.
أسقف أنطاكية الكلى الطوبى، دعى كل الأساقفة المجاورين لإيبارشيته ليتباحثوا فى مسألة معينة. وإلى هناك أتى ثمانية أساقفة ليجتمعوا معاً وكان من بينهم قديس الله نونوس ، وكان رجلاً عجيباً عظيماً وراهباً متفوقاً فى حياته من دير يقال له "تابينا". وبسبب طريقه العالى والمبارك أُخذ من الدير وسيم أسقفاً.
وإذ أتينا معاً إلى المدينة المذكورة رتب لنا الأسقف إقامة فى بازيليكا القديس يوليان الشهيد. ثم توجهنا إلى حيث جلس الأساقفة الآخرون بجانب الباب. وإذ جلسنا اتجهت أنظار الأساقفة إلى معلمى نونوس، لعلهم يأخذون من شفتيه تعليماً. وبدأ الأسقف فى الحال يتحدث قاصداً خلاص كل من يسمعه.
وبينما نحن جالسون ومتعجبون من تعليمه المقدس، يا للعجب، فجأة مرت أمامنا ممثلة أنطاكية الأولى، راقصتها الأولى !!
كانت ممتطية جواداً، فى رشاقة كانت تمتطيه.. كانت متزينة، حتى أن شيئاً لم يكن ظاهراً منها سوى الذهب واللآلئ والحجارة الكريمة. أما أقدامها العارية فكانت مخفاة تماماً داخل الذهب واللآلئ، وكان ورائها صف طويل من الشباب والوصيفات يرفلون هم أيضاً فى أردية غالية الثمن، وحول أعناقهم قلائد ثمينة، البعض كان يسير أمامها والبعض خلفها. وإذ عبرت على جمعنا ملأت الهواء بشذى المسك والروائح العطرة، وحين رآها الأساقفة راكبة هكذا بلا احتشام وعارية الرأس والكتفين وفى هذا الموكب الحافل دون أن تضع ولا حتى برقعاً على رأسها أو كتفها، تأوهوا جميعاً وفى سكون حولوا رؤوسهم عنها كما عن خطية عظيمة مخزية.
أما المبارك نونوس فقد تعمد أن يلتفت لها. وبعد أن عبرت ظل ينظر نحوها وعيناه تلاحقانها. وإذ أدار وجهه رفع نظره إلى الأساقفة الجالسين حوله وقال لهم: "ألم يسركم جمالها العظيم؟!"
فلم يجيبوه، فأغرق وجهه بين ركبتيه والكتاب المقدس الذى كان بين يديه الطاهرتين وابتدأت دموعه تنسكب على صدره وكان يتأوه بشدة، ثم قال للأساقفة: "ألم يسركم جمالها العظيم؟!"
وأيضاً لم يجيبوه بشئ، فقال لهم: "الحق أنه قد سرنى أنا، وقد كنت مسروراً بجمالها أنا الذى سوف أمثل أمام كرسى الله العظيم المهوب، حين تكون دينونة نفوسنا وأسقفياتنا!" وأردف يقول للأساقفة: "ماذا تظنون أيها الأحباء، كم من الساعات قضتها هذه المرأة فى مخدعها تستحم وتزين نفسها بكل الاهتمام، وذهنها كله مركز على خشبة المسرح، حتى لا يصير فى جمال جسمها وملابسها أية شائبة أو عيب لكى تصير متعة لكل عيون الرجال وحتى لا تضايق هؤلاء المحبين التافهين الذين بين عشية وضحاها يختفون؟ ونحن الذين لنا فى السماء أب قادر على كل شئ ومحب أبدى، وبوعد غناه وأكاليله الأبدية التى هى فوق كل تصور، ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه، ولكن ما الحاجة إلى مثل هذا الحديث بعد؟ أمام هذا الوعد أن تكون لنا رؤية العريس، هذا الوجه العظيم الذى لا يوصف الذى لا يجرؤ الشاروبيم أن ينظره، ونحن لا نهتم ولا نحرص أن ننقى من الوسخ نفوسنا المسكينة بل نتركها باقية فى نتانتها".
وبعد ذلك وضع يده علىَّ، أنا الشماس الخاطئ، وأخذنا طريقنا إلى مكان مبيتنا حيث أعطيت لنا هناك حجرة. وإذ وصل إلى غرفته الخاصة ألقى بنفسه على الأرض العارية ووجهه على الأرض وبدأ يبكى وهو يقرع على صدره ويصرخ قائلاً: "يا سيدى المسيح ارحمنى أنا الإنسان الخاطئ غير المستحق، لأن زينة يوم واحد لامرأة واحدة تفوق كثيراً زينة نفسى لك. بأى وجه سوف أتطلع إليك؟ وبأى كلمات سوف أبرر نفسى حين رؤياك؟ لن أخفى عليك قلبى وأنت تعرف خباياه. ويل لى أنا الخاطئ غير المستحق لأنى أقف فى هيكلك ولا أهبك نفساً طاهرة أنت تطلبها. هذه قد وعدت أن تسر الرجال وحفظت كلمتها. أما أنا فقد تعهدت أن أرضيك، وفى تهاونى حنثت. عريان أنا فى السماء وعلى الأرض لأنى لم أصنع وصيتك. رجائى ليس فى شئ صالح صنعته، لكن رجائى فى رحمتك حيث أنها أضحت خلاصى!". هكذا كان يصلى وهكذا كان ينتحب، وبقوة كرسنا فى هذا النهار صوماً لله.
وفى اليوم التالى وكان يوم الأحد وبعد أن أنهينا تسبحة نصف الليل تحدث معى الأسقف الصالح نونوس قائلاً: "أيها الأخ الشماس، هلم أخبرك بحلم قد رأيته واضطربت جداً منه، لأنى لا أعرف له تفسيراً".
ثم أخذ يقص علىَّ كيف أنه رأى فى منامه حمامة سوداء واقفة على قرن المذبح وكانت ملوثة وملطخة بالقذارة: "وظلت تطير حولى، وبصعوبة كنت أطيق نتانتها ووسخها، وظلت هكذا بالقرب منى إلى أن انتهى قداس الموعوظين. وبعد ذلك، وبعد أن أعلن الشماس بدء قداس المؤمنين، اختفت عن الانظار. وبعد أن ألقيت قداس المؤمنين ثم التقدمة وصرف المجتمعين وبعد أن رسمت عتبات بيت الله بالصليب، جاءت هذه الحمامة مرة أخرى فى وسخها كله وأخذت تطير حولى، ولكنى مددت يدى وأمسكتها وغطستها فى جرن المياه المقدسة الذى عند باب الكنيسة. حينئذ تركت كل القذارة التى كانت ملتصقة بها فى المياه وخرجت من المياه بيضاء كالثلج. ثم طارت إلى فوق وحملها الهواء واختفت عن أنظارى".
وانتهى الأسقف الصالح نونوس من سرده لخبر حلمه. ثم أخذنى من يدى وجئنا إلى الكاتدرائية الكبرى حيث بقية الأساقفة، فحيا أساقفة المدينة. وإذ دخل تحدث مع كل إكليروس الكنيسة وجلس معهم فى خورسهم. وبعد الصلاة وقراءة الكتب المقدسة، سلم أسقف المدينة الإنجيل لنونوس ورجاه أن يتكلم للشعب.
وتحدث نونوس بحكمة الله التى تسكن فيه، بدون زيف أو اصطناع أو فلسفة كلام، بلياقة وبلا غرور بشرى، إنما وهو ممتلئ من الروح القدس كان يتحاجج مع الشعب وينذرهم متكلماً من قلبه عن الدينونة الآتية وعن البركات الأبدية المذخرة. وهكذا تحرك كل الشعب بكلماته التى كان الروح القدس يتحدث بها على فمه حتى أن أرض الكنيسة تبللت بدموعهم. وبتدبير الروح القدس يحدث أن هذه المرأة الزانية التى تحدثناعنها تأتى لهذه الكنيسة بالذات فى ذلك اليوم.
بأعجوبة تم هذا، فإن تلك التى لم يأتِ على فكرها ذكر خطاياها والتى لم تعبر من باب كنيسة قط، فجأة شملها خوف الله بينما كان نونوس يخاطب الشعب. وإذ قنطت من نفسها سقطت فى أسى عظيم وبدأت دموعها تتساقط كأنهار، ولم تستطع بأى حال أن توقف نحيبها. وهناك وفى هذه اللحظة أعطت الأمر لاثنين من صبيتها قائلة: "أبقيا فى هذا المكان، وحينما يخرج الأسقف الصالح نونوس اتبعاه واسألاه أين يمكث وتعاليا و أخبراني".
وصنع الصبيان كما أمرتهما سيدتهم وتبعاه إلى بازيليكا القديس يوليان الشهيد حيث كانت قلايتنا. وحينئذ رجعا إلى سيدتهما وقالا لها: "إنه يمكث فى بازيليكا القديس يوليانوس الشهيد". وحينئذ أرسلت تواً رسالة مكتوبة مع نفس الصبيين. وكان مكتوباً فيها هذه الكلمات: "إلى تلميذ المسيح القديس، من تلميذة الشيطان وامرأة خاطئة، لقد سمعت عن إلهك الذى ترك السموات ونزل إلى الأرض ليس من أجل خاطر الأبرار بل من أجل أن يخلص الخطاة، وأنه كان متواضعاً جداً حتى أنه كان يدنو من السكيرين. وهو الذى لا يجرؤ الشاروبيم أن ينظروه، صادق الخطاة. وأنت يا سيدى أنت أيها القديس العظيم، أنت الذى لم تنظر إلى ربنا يسوع المسيح بعيون جسدية، ذاك الذى أظهر ذاته للمرأة السامرية عند البئر وقد كانت زانية، إلا أنك تلميذاً حقيقياً لهذا المسيح، فلا ترذلنى إذ أنا راغبة أن أرى ـ بواسطتك ـ المخلص، إذ به أستطيع أن آتى إلى رؤية وجهه القدوس".
حينئذ رد عليه الأسقف القديس نونوس بخطاب: "مهما كنتِ فأنتِ معروفة لدى الله بذاتك، ومهما كان هدفك ورغبتك، ولكن أؤكد عليكِ لا تحاولى أن تجربى ضعفى لأنى إنسان خاطئ خادم الله، وعلى كل حال إن كان لكِ رغبة نحو الأمور المقدسة، واشتياق للصلاح والإيمان وترغبين حقاً أن ترينه، فهناك أساقفة آخرون معى، تعالى وسوف تريننى فى محضرهم لأنكِ لن ترينى وحدى".
وقرأت هذه المرأة الزانية الرسالة وامتلأت بالفرح وقامت مسرعة لتأتى إلى بازيليكا القديس يوليان وأرسلت أنها قادمة.
وحينما سمع أبى الأسقف ذلك، جمع إليه كل الأساقفة الذين كانوا فى هذا المكان .. ثم أمرها أن تأتى إليه. ودخلت حيث كان الأساقفة مجتمعين وألقت بنفسها على الأرض وأمسكت بقدمى المبارك نونوس قائلة: "سيدى أتوسل إليك أن تسلك كما سلك معلمك السيد المسيح واسكب علىَّ من رحمتك واجعلنى مسيحية. سيدى أنا بحر من الشرور، أنا أرض من آثام. أسأل أن تعمدنى"
وبصعوبة استطاع أن يرغمها أن ترتفع من عند قدميه. وحينما قامت قال لها: "إن قوانين البيعة تحتم أن لا تعمد زانية ما لم تقدم تأكيداً، ليكون هناك ثقة من أنها لن تسقط مرة أخرى فى خطاياها القديمة".
وإذ سمعت هذا القرار من الأسقف ألقت بنفسها مرة ثانية على الأرض وأمسكت بقدمى القديس نونوس وأخذت تغسلهما بدموعها وتمسحهما بشعر رأسها صارخة إليه: "سوف تجاوب الله عن نفسى، وأنا سوف أدان عن أعمالى الشريرة، إن كنت تتأخر فى تعميدى من خطاياى السابقة. لن تجد نصيباً فى بيت الله بين القديسين إن لم تخلصنى من خطاياى، إنك إن لم تلدنى اليوم من جديد عروساً للمسيح وتهبنى لله، تنكر الله وتصير عابداً للأوثان".
وإذ رأى كل الأساقفة و الإكليروس الذين كانوا مجتمعين كيف كانت الخاطئة العظيمة تلفظ بهذه الكلمات قالوا فى تعجب إنهم لم يروا إيماناً بمثل هذا ولا رغبة للخلاص كما عند هذه المرأة الزانية.
و للتو أرسلونى، أنا الشماس الخاطئ، إلى أسقف المدينة لأوضح له الأمر ولألتمس من قداسته أن يبعث بشماسة معى. وحينما سمعنى تهلل فرحاً قائلاً: "الحق أيها الأب الجليل إن هذا العمل ما كنت أنتظره". وأرسل معى السيدة رومانا رئيسة الشماسات. ولما أتت وجدت المرأة ما زالت تحت قدمى الأسقف القديس نونوس، وبصعوبة كان يحاول أن يقنعها أن تقوم من على قدميه قائلاً لها: "قومى أيتها الابنة حتى يمكنك أن تقرى بخطاياكِ". ثم قال لها: "اعترفى بخطاياكِ".
فأجابت: "إن أنا عزمت أن أفحص كل أعماق قلبى فلن أستطيع أن أجد شيئاً ما صالحاً. أنا أعرف خطاياى، إنها أثقل من رمال البحر، ومياهه تتضاءل أمام هول خطاياى، ولكنى أثق فى إلهك أنه سوف يحل كل أعمالى الرديئة ويتطلع إلىَّ".
حينئذ قال لها الأسقف: "أخبرينى ما اسمك؟"
فأجابت: "اسمى الذى لقبنى به أبى وأمى هو بيلاجية، ولكن شعب أنطاكية أطلق علىَّ "مارجريتا بسبب (لآلئ ) خطاياى: لقد كنت جوهرة الشيطان ومخزناً لأسلحته".
وسألها الأسقف نونوس ثانية: "هل اسمك هو بيلاجية ؟". فأجابت: "نعم ياسيدى".
حينئذ أتم الأسقف إجراءات جحد الشيطان منها ثم عمدها ورسم عليها بعلامة الصليب وناولها من جسد المسيح ودمه. أما اشبينتها فكانت هى رومانا رئيسة الشماسات التى أخذتها وذهبت بها إلى مكان الموعوظين، هناك حيث ستتركها فترة من الزمن.
وقال لى الأسقف القديس نونوس: "اسمع أيها الأخ الشماس، هلم نتهلل مع ملائكة الله ونأخذ زيتاً فوق العادة على طعامنا ونشرب نبيذاً بابتهاج قلب من أجل خلاص هذه الفتاة. وإذ كنا جالسين على طعامنا أتانا فجأة صوت صياح كما من رجل يعذبونه وكان هو الشيطان. كان يصيح قائلاً: "ويل لى من أجل كل ما قاسيته بسبب هذا الرجل العجوز المتداعى. ألا يكفيك الثلاثة آلاف عربى الذين اغتصبتهم منى وعمدتهم لإلهك؟ ألعل هليوبوليس كلها لم تصر كافية لك. كانت لى والذين فيها كانوا يعبدوننى وأنت اغتصبتها منى ووهبتها لإلهك، والآن لقد سرقت أعظم رجائى وأنا لم أعد أحتمل دسائسك ومكائدك ضدى، ملعون هو اليوم الذى ولدت أنت فيه، أنهار من الدموع تغرق بيتى المسكين لأن رجائى قد ضاع". كل هذا صنعه الشيطان إذ كان يصيح بصوت عالِ منتحباً ونادباً خارج الباب، وكل الرجال سمعوه. ومرة أخرى أتى وصاح فى الفتاة: "كل هذا صنعتيه فىَّ يا سيدتى بيلاجية وتبعت يهوذاى ! لأنه وهو مكلل بالمجد والكرامة وقد اعتبر رسولاً خان سيده، وهكذا أنتِ فعلتِ معى"
حينئذ قال لها الأسقف نونوس: "ارسمي نفسك بصليب المسيح واجحديه". فرسمت نفسها باسم المسيح ونفخت على الشيطان و للتو اختفى.
وبعد يومين وبينما كانت نائمة مع إشبينتها السيدة رومانا التقية فى غرفتها، ظهر الشيطان ليلاً وأيقظ بيلاجية خادمة الله وقال لها: "اخبريني يا سيدتى مارجريتا، ألم تكونى غنية بالفضة والذهب؟ ألم أزينك بالذهب والحجارة الكريمة؟ اخبريني ألم ألتزم بأن أفرحك؟ اخبريني حتى أرضيكِ ولكن لا تجعلينى سخرية المسيحيين". حينئذ رسمت بيلاجية نفسها بعلامة الصليب، ونفخت فى الشيطان وقالت له: "إلهى الذى اختطفنى من بين مخالبك و أحضرنى إلى حجاله ، هو نفسه سوف يحاربك عنى". وللتو اختفى الشيطان.
ثلاثة أيام بعد أن تعمدت بيلاجية، نادت الذين كانوا يخدمون فى بيتها وقالت لهم: "اذهبوا إلى مخدعى واحصروا كل ما هناك من ذهب وفضة أو حلى أو ملابس فاخرة و أحضروها إلىَّ".
وصنع الصبى كما أمرته سيدته وأحضر لها كل متاعها. حينئذ سألت الأسقف القديس نونوس ـ بكلمة أرسلتها على يد إشبينتها السيدة رومانا ـ أن يأتى إليها. ووضعت بيلاجية كل أشيائها بين يديه قائلة لها: "هذا يا سيدى، هو كل الغنى الذى وهبنى إياه الشيطان. إنى أعطيه لك لتفعل به كما شئت وكما تراه صالحاً أن يفعل به، لأنه قد صار غنى للسيد المسيح".
حينئذ استدعى الأسقف أمين صندوق الكنيسة فوراً. وفى حضورها سلمه كل متاعها قائلاً: "أُشهدك باسم الثالوث الواحد أن شيئاً من هذا لا يذهب بتاتاً إلى صندوق الأسقفية أو الكنيسة، إنما يوزع على الأرامل والأيتام والفقراء حتى إن ما جمع بالشر يوزع فى الخير، وثروة الخاطئ تصير كنزاً للبر. وإن أنت حنثت بقسمك وسرق شئ فستدخل اللعنة بسببك أو بسبب غيرك، أياً كان، على بيته ويصير نصيبه مع أولئك الذين صرخوا، اصلبه".
أما هى فقد نادت كل صبيانها ووصيفاتها وأعطتهم حريتهم، وبيديها أعطتهم قلائد ذهبية قائلة لهم: "اسرعوا وحرروا نفوسكم من هذا العالم الخاطئ غير المستحق، حتى أنه كما كنا معاً فى تلك الحياة فلنحيا معاً فى هذه الحياة الجديدة بلا حزن".
إلا أنه فى اليوم الثامن، وحينما كان يجب أن تخلع بيلاجية عنها أرديتها البيضاء ، استيقظت ليلاً بدون معرفتنا وخلعت رداء المعمودية الأبيض وارتدت التونية والعباءة الخاصة بالأسقف نونوس. ومنذ ذلك اليوم لم يرها أحد فى مدينة أنطاكية. وأخذت رومانا تبكى عليها بدموع وحرقة، ولكن الأسقف الصالح نونوس عزاها قائلاً: "لا تبكِ، لأن بيلاجية قد اختارت النصيب الأصلح مثل مريم التى فضلها المسيح عن مرثا فى الإنجيل".
أما بيلاجية فكانت قد انطلقت إلى أورشليم وبنت لنفسها قلاية فى جبل الزيتون حيث صلى سيدنا.
بعد وقت قليل دعا أسقف المدينة كل الأساقفة معاً ليصرف كلاً منهم إلى مكانه. وبعد ثلاث أو أربع سنوات اشتاقت نفسى، أنا يعقوب الشماس، أن أسافر إلى أورشليم حتى أعيد قيامة ربنا يسوع المسيح. فسألت أسقفى إن كان يأذن لى بالانطلاق. وبينما هو يمنحنى الإذن قال لى: إسمع أيها الأخ الشماس، حينما تصل إلى أورشليم اسأل هناك عن أخ اسمه بيلاجيوس. هو راهب عاش هناك عدة سنوات مغلقاً على نفسه وفى عزلة. إن استطعت فزره فإنك سوف تنتفع منه كثيراً". وكان يتكلم كل الوقت عن خادمة الله بيلاجية ، أما أنا فلم أكن أعرف. ووصلت إلى أورشليم. وعيدت القيامة المقدسة التى لمخلصنا الصالح يسوع المسيح، وفى اليوم التالى سألت عن عابد الله هذا. وأخذت طريقى إليه فوجدته على جبل الزيتون حيث صلى الرب، مقيماً فى قلاية صغيرة مغلقة من كل ناحية. وكان لها نافذة فى الحائط. وقرعت على زجاج النافذة الصغيرة، ففتحت لى للتو وعرفتنى، أما أنا فلم أعرفها! وكيف كان لى أن أعرفها وقد شحبت وهزلت من الصوم، تلك التى رأيتها من قبل فى جمال لا يوصف! وعيناها كانتا غائرتين فى وجهها. وقالت لى: "أيها الأخ من أين أنت؟". وأجبت: "لقد أرسلت إليك بأمر من نونوس الأسقف". فقالت لى: "دعه يصلى من أجلى لأنه قديس الله".
وعدت إلى أورشليم وأخذت أتنقل هنا وهناك فيما بين الأديرة زائراً الأخوة. كان هناك لغط كثير بين الأديرة عن شهرة القديس بيلاجيوس وعزمت فى فكرى أن أعود مرة أخرى لأزوره حتى أنتعش بحديثه النافع. ولكنى حينما جئت ثانية إلى قلايته وقرعت بل حتى تجرأت أن أناديه باسمه، لم تكن هناك إجابة ما. وعدت ثانية وانتظرت يوماً ثانياً وثالثاً منادياً فى كل مرة: "يا بيلاجيوس". ولكنى لم أسمع شيئاً. حينئذ قلت لنفسى: "إما أن أحداً ليس هنا أو أن هذا الراهب الذى كان هنا قد رحل".
وتحركت بإرشاد من الله وقلت لنفسى. فلأتأكد أنه لا يكون قد مات. وفتحت شرفة النافذة ونظرت إليه ورأيته..لقد كان ميتاً!! وأغلقت النافذة وملأتها بعناية بالطين وجئت مسرعاً إلى أورشليم، وتلوت الأخبار أن الراهب التقى بيلاجيوس الذى صنع عجائب قد رقد بسلام.
حينئذ أتى الآباء الأبرار مع الأخوة من مختلف الأديرة. وفتحوا باب القلاية ونقلوا الجسد الصغير المقدس معتبرين إياه ثميناً كذهب أو كجواهر. وبينما كان الآباء يدهنون الجسد بالأطياب اكتشفوا أن الجسد لامرأة! وحاولوا عبثاً أن يخفوا العجيبة ولكنهم لم يستطيعوا، وصاحوا بصوت عالِ : "حمداً لك يا ربنا يسوع المسيح إذ لك كنوز مختفية فى كل الأرض. إذ لك ليس رجال فقط بل ونساء أيضاً".
وشاع الأمر فى خارج البلاد. وكل أديرة العذارى جئن، البعض من أريحا والبعض من الأردن حيث تعمد المسيح، بقناديل وشموع وتسابيح. وهكذا دفن الرفات المقدس، وحملها الآباء القديسون إلى قبرها.
ليت الله يهبنا أن نجد رحمة فى يوم الدينونة لأن له المجد والكرامة والسلطان والقوة إلى الأبد آمين.