إهداء إلى الأخ الأستاذ يوحنا المصري الذي أعاد لنا بموضوعه المتميز عن الأيقونات ذكرى هذه الكتابة. أعيد اليوم نشرها هنا بجزأيها، بعد تنقيحهما، مع نص التعليق الذي دفع لكتابة كل جزء منهما قبل عام تقريبا دون أي تغيير.
الجزء الأول
تعليقا على إحدى الأيقونات الفريدة للسيدة العذراء مع يسوع الطفل الأزلي (أيقونة تعزية المحزونين)، يبدو أن تعبير "الطفل الأزلي" استفز أحد الأحباء، فكتب يقول:
ـ إلى متى سيبقى يسوع طفل في حضن أمه؟ هل سيأتي يوم وسنصحى من سباتنا؟ هل يعقل بأن رب المجد بعده طفل؟
* * *
لو تصورنا أننا نقف خلف حائط أو سور عال ضخم، وليس بالسور سوى شرخ أو ثقب صغير يمكن النظر منه، ماذا نرى لو أن قطارا بالجهة الأخرى من السور كان يمضي مسرعا؟ ببساطة سوف نرى عربة الجرار، ثم العربة الأولى، ثم العربة الثانية، ثم الثالثة، فالرابعة، وهكذا. هذا بالضبط هو "وهم الزمن". الماضي والمستقبل لا وجود لهما إلا بعقولنا البشرية المحدودة فقط. "العقل" هو هذا الثقب الصغير الذي بالحائط والذي نرى من خلاله الأحداث كعربات القطار تتبع بعضها بعضا: العربات التي مضت أمامنا بالفعل هي الأحداث التي نطلق عليها اسم "الماضي"، وأما العربات التي ننتظرها فهي الأحداث القادمة التي نطلق عليها صفة "المستقبل". لكن الحقيقة أن الأحداث كلها ترتبط معا في "كل واحد" كما ترتبط عربات القطار معا في كل واحد. "الزمن" هو في الحقيقة منتج "العقل"، لأن العقل لا يستطيع إلا أن يدرك الأحداث هكذا متتابعة وراء بعضها البعض، كما لا نستطيع عبر ثقب صغير أن نرى القطار في "كل واحد" بل يمكن فقط أن نرى عربة وراء عربة.
أما حقيقة الوجود بالنسبة لله الذي لا تقيده نافذة العقل الصغيرة فهي أن الأحداث كلها ترتبط معا ببعضها "الآن" كما ترتبط عربات القطار معا. الله من ثم يصنع ويخلق ويدرك الأحداث كلها في "الآن" السرمدي الدائم، إذ هو فوق الزمان وفوق المكان وفوق كل الوجود كما نعرفه. بعبارة أخرى: نحن حين نراقب الحياة الإنسانية فنحن كبشر محدودين نخبر أولا الولادة ثم نعاين النمو ثم نرى الوفاة، أما من جهة الله فإنه يدرك "الآن" ـ وليس هناك سوى "الآن" - كل الأحداث معا: الولادة والنمو والوفاة، كلها معا. من جهة البشر "لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السماوات وقت"1، أما من جهة الله فقد "صنع الكل حسنا في وقته"2 للبشر، وتلك هي خطته وتدبيره الأزلي، لكنه إدراكا يدرك "الآن" كل ما كان وكل ما يكون وكل ما سيكون. من جهة البشر لم يعرف أحد ماذا سيحل بالرب حقا، أما من جهة الرب فقد عرف مقدما كل الأحداث وعرف زمان كل شيء، ولذلك لم يسمح بالقبض عليه حين طلبوه قبل أن "يتم الكتاب"3، ذلك أن "ساعته" كما حددها هو "لم تكن قد جاءت بعد"4. ولكن حين جاءت أخيرا هذه الساعة ـ وهو منذ البدء عالم بها مدرك لها ـ كان هو نفسه الذي قال ليهوذا: "ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة"5، وفي الحال خرج يهوذا ليسلمه!
ولأن كل شيء كائن الآن، وليس هناك سوى الآن، وما "الماضي" و"المستقبل" إلا مفاهيم عقلية إنسانية، أمكن أن تحدث "النبوءات"، ذلك أن الأنبياء والقديسين تتسع بالروح نافذة إدراكهم فيرون من الأحداث "الآن" ما ننتظر نحن لكي نراه في "المستقبل"، ونحن من ثم حين نراه في "وقته" نصفه بأنه كان "نبوءة" وأنها أخيرا تحققت. حتى الشخص البسيط قد يرى في الأحلام أحيانا بعض حوادث المستقبل، لأن العقل أثناء النوم يغيب فيكون "الإدراك" من ثم تحت سلطان "القلب" لا العقل، ولهذا القلب نافذة أوسع من نافذة العقل كثيرا، فهو "العين الداخلية" التي قد تتسع بلا حدود فتشمل حتى "الأبدية"، حسب نقاوة هذا القلب وحسب نمو صاحبه. بهذا المعنى تحديدا ربما نفهم أخيرا سر "الأبدية" التي نقرأها في سفر الجامعة ونفهم الآية فهما كاملا إذ تقول: "صنع الكل حسنا في وقته، وأيضا جعل الأبدية في قلبهم، التي بدونها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية"!6
ورغم أننا قد لا نجد في التعاليم الآبائية إشارة قاطعة الدلالة حول الزمن، رغم ذلك يلفت نظرنا بوجه خاص ذلك التحليل البديع للقديس غريغوريوس بالاماس عندما تناول "ملكوت الله" كما ورد في العهد الجديد، حيث يتميز الملكوت حسب هذا التحليل زمنيا بثلاث طرق: "الطريقة الأولى هي أن الملكوت قادم، وبالتالي تكون التوبة مطلوبة كما أعلن ذلك يوحنا (المعمدان) السابق للمسيح. الطريقة الثانية هي أن ملكوت الله قد أتى (الآن بالفعل) وخصوصا "في داخلكم"7. الطريقة الثالثة هي أن ملكوت الله سوف يأتي بكل ملئه ومجده، فالمسيح نفسه.. هو ملكوت الله". ثم يقول: "لهذين السببين، أي بسبب أن ملكوت الله قد أتى وبسبب أنه سوف يأتي في نهاية الزمان دون أن نعرف متى يحدث ذلك، تكون كل لحظة من الزمن هي "الساعة الأخيرة"8 بحسب قول يوحنا الإنجيلي".
هكذا فإن قديسنا "العجائبي" كما كان لقبه ـ والذي كان فيلسوفا فذا قبل أن يصير راهبا فذا ـ هكذا يلتقط المعنى نفسه ويكاد يُسقط كلية مفهوم الماضي والمستقبل لأجل الحاضر، لأجل هذا "الآن" الأبدي الذي ليس بالحقيقة سواه، والذي فيه "كل لحظة من الزمن هي الساعة الأخيرة". (الزمن في المفهوم الأرثوذكسي: موقع التراث الأرثوذكسي، عن ييروثيوس فلاخوس: الحياة بعد الموت ـ ترجمة د. نيفين سعد، مراجعة الأب أنطوان ملكي، منشورات دير الأنبا مقار، مصر).
* * *
والخلاصة هي أن الحقيقة التي تتعلق بالسيد المسيح ليست أبدا كما تتلقاها عقولنا المحدودة: "ماض" يليه "مستقبل" وبينهما "حاضر"، بل الحقيقة هي أن السيد "الآن" ـ خارج الزمن - طفل ومعلم ومصلوب ومقبور وقائم وديان. هو "الآن" ودائما كل ذلك معا، لأن "الحادثات" وإن كانت تجري على ناسوته مثلنا، حاشا أن تجري على لاهوته أو يخضع اللاهوت للزمن. في إدراكه هو الفائق فإن كل الحادثات بالحقيقة تحدث معا، كما أن عربات القطار في كل وقت معا في وجود واحد. ولكن هكذا نصل إلى خلاصة أكثر إدهاشا: متى صلبوا السيد المسيح؟ هل حدث ذلك قبل ألفي عام؟ أكان ذلك حقا في "الماضي"؟ لا يا أخي الحبيب، لأنه ليس سوى "الآن" فإن السيد "الآن" في أورشليم، "الآن" في هذه اللحظة يتألم، "الآن" في الجلجثة يُصلب. فقط "يسجل" العقل ـ أو بالأحرى "الذاكرة" ـ كل هذه الأحداث تحت عنوان "الماضي"، لأنه لا "يعيشها" في الحاضر، حيث أن هذه "العربة" تحديدا من قطار الأحداث مرت بالفعل أمام ثقب عقله الصغير قبل ألفي عام.
بالمثل متى تأتي الساعة وتكون الدينونة؟ هل هي حدث في "المستقبل"؟ لا، بل هي أيضا "الآن" قائمة، "في كل لحظة من الزمن" بالضبط كما قال القديس غريغوريوس، وإنما نحن فقط ـ حسب "خطة الله" ـ نتلقاها ونعاينها عبر عقولنا المحدودة كأنها حدث قادم، نسميه المستقبل. بل يقولها السيد المسيح صراحة: "الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون"!9 هل "تأتي" أم هي "الآن"؟ حقا ما أعجب هذه الكلمات، وما أدلها! أمام هذا النص تحديدا وقف قديسونا الكبار أوغسطين وذهبي الفم وغيرهما وتساءلوا، ونحن معهم نقف اليوم ونتساءل: ما المقصود حقا؟ هل "تأتي" الساعة مستقبلا أم هي "الآن" قائمة؟ هل نفسر الكلمات هنا حرفيا أم مجازيا؟ هل "صوت ابن الله" هذا هو صوت المجيء الأول أم المجيء الثاني؟ في كل الحالات وبكل التفسيرات يستقيم هذا العدد وفيه سر الزمن ويبقى آية إعجازية في شمولها من أعمق وأبلغ آيات الكتاب المقدس!
فإذا كان السيد هو في الحقيقة "الآن" كل ذلك معا، طفل ومعلم ومصلوب ومقبور وقائم وديان، فلا ضير من ثم ولا خلاف إذا تأملنا أيقونته في أي حال: طفلا في أحضان أمه البتول الباهرة، أو فوق عود الصليب فاديا ومخلصا، أو فوق عرش المجد إلها ملكا في سماء السماوات.
يتبع الجزء الثاني
الإشارات
1- الجامعة 1:3
2- الجامعة 11:3
3- الإشارة إلى يوحنا 18:13
4- الإشارة إلى يوحنا 30:7 ويوحنا 20:8
5- يوحنا 27:13
6- الجامعة 11:3
6- الجامعة 11:3
7- الإشارة إلى لوقا 21:17
8- الإشارة إلى يوحنا الأولى 18:2
9- يوحنا 25:5
التعديل الأخير بواسطة المشرف: