تفسير العظة على الجبل القديس يوحنا ذهبى الفم

سمعان الاخميمى

صحفى المنتدى
إنضم
4 أغسطس 2009
المشاركات
12,695
مستوى التفاعل
1,087
النقاط
0
تفسير العظة على الجبل

القديس يوحنا ذهبى الفم
الجزءالأول

ترجمة د/ جرجس كامل , مراجعة و تقديم القمص تادرس يعقوب

اسم الكتاب: تفسير عظة ربنا يسوع المسيح على الجبل.
المؤلف: للقديس يوحنا الذهبي الفم.
ترجمة: دكتور جرجس كامل يوسف.
مراجعة وتقديم: القمص تادرس يعقوب ملطي
الطبعة: الأولى 2005م.
الناشر: كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج.
المطبعة: الأنبا رويس (الأوفست)، بالعباسية القاهرة

www.servant4jesus.co.nr


الإصحاح الخامس

العظة الخامسة عشرة

الهروب من حب التظاهر والاستعراض

"ولما رأى (يسوع) الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 1-2).

1. انظروا كيف كان (الرب) رزينًا بغير تفاخُر، إذ لم يجمع الناس حوله، بل كلما تطلَّب الأمر شفاءهم كان يذهب هو بنفسه يجول في كل مكان، يفتقد المدن والقرى. وإذ أصبح الجمع الآن عظيمًا جدًا، جلس في بقعة محددة، لا في وسط أية مدينة أو ساحة، بل على جبلٍ وفي برية صحراوية، ليعلمنا ألا نفعل شيئًا لمجرد التظاهر والاستعراض، وحتى نعزل أنفسنا عن ضوضاء الحياة العادية، خاصة إذا كنا نتدارس الحكمة، ونتباحث في أمورٍ نحن في أمَسّ الحاجة إلى فعلها.
شوق إلى التعليم لا إلى المعجزات
لكنه حين صعد إلى الجبل وجلس، وتقدم إليه تلاميذه نرى مقدار نموهم في الفضيلة وكيف أنهم في لحظة قد صاروا إلى حالٍ أفضل، إذ كانت الجموع تلهث فقط خلف المعجزات، أما هم فقد اشتاقوا منذ تلك اللحظة أن يسمعوا أمرًا عظيمًا له شأنه. وكان هذا فعلاً هو السبب الذي جعله يجلس ليعلِّمهم، ويبدأ معهم هذا الحديث. لأنه لم يهتم بشفاء الأجساد فقط، بل كان يقوِّم نفوس البشر أيضًا، وما أن ينتهي من العناية بنفوس هؤلاء حتى يهتم بأجساد آخرين. ولهذا قام على الفور بتنويع العون المقدم لهم، وبالمثل كان يمزج التعليم الذي تحويه كلماته بإعلان مجده الذي تظهره أعماله.
يهتم بأجسادنا كما بنفوسنا
كما قام بإسكات أفواه الهراطقة الذين لا يعرفون الخزي، معلنًا أنه يهتم بأجسادنا ونفوسنا معًا، لأنه جابل الخليقة كلها. ومن هنا يدبر بعنايته الإلهية الفائقة كل طبيعة روحية وجسدانية، فيصلح هذه مرة، ويقوِّم تلك مرة أخرى.
يعلم بالصمت كما بالكلام
هكذا كانت طريقته في العمل، إذ قيل في الإنجيل: "فتح فاه وعلَّمهم قائلاً". ونسأل لماذا أضيفت عبارة "فتح فاه"؟ ليخبركم أنه حتى في صمته الكامل كان يعلِّم، وليس فقط حين كان يتكلم، بل مرة حين "يفتح فاه"، وأخرى حين كان ينطق صوته بأعماله.
يعلِّم الجميع من خلال تلاميذه
حين تسمعون أنه علَّمهم، لا تفتكروا أنه كان يعظ تلاميذه فقط، بل كان بالأحرى يعلِّم الجميع من خلال تلاميذه.
لأنه حين كان الجمع عظيمًا جدًا من حشود كبيرة تزحف على الأرض، جعل تلاميذه صفوفًا (خوارس). فكان يسلمهم العظة، وإذ يتحدث إليهم كان يضمن أن ينتقل درسه عن إنكار الذات إلى بقية الحاضرين، الذين كانوا في مواضع بعيدة جدًا عن مكان حديثه. وقد أشار القديس لوقا حقًا إلى هذا الأمر حين قال: "رفع عينيه إلى تلاميذه وقال" (لو 6: 20). أي أنه كان يوجه كلماته مباشرةً إلى التلاميذ. وأعلن أيضًا القديس متى وبنفس الوضوح فكتب: "تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم، قائلاً"، لأنه هكذا كان الآخرون أيضًا يضمنون أن يكون اشتياقهم والتفاتهم إليه أكثر، مما لو وجّه حديثه إلى الجمع مباشرةً.

2. فمتى كان يبدأ حديثه إذن؟ وما هي الأسس التي أرساها لأجلنا حين كان يعلمنا؟ فلننصت بانتباهٍ شديدٍ إلى ما يُقال. لأنه وإن كان هذا الكلام قد قيل لهم، إلا أنه كُتب لأجل الآتين فيما بعد. ولهذا السبب وبالرغم من أن الرب كان واضعًا في اعتباره تلاميذه الأعضاء عندما كان يلقي عظته العامة، إلا أنه لم يحصر أقواله فيهم وحدهم، بل نطق بكل تطويباته بلا تحديد، فهو لم يقل: "طوباكم أنتم يا من صرتم مساكين" ولكن "طوبى للمساكين". بل ويمكنني أن أقول: حتى وإن كان يعنيهم بالذات فيما قال، إلا أن العظة ستظل مشاعًا للجميع.
وبالمثل ما يقوله (الرب): "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مـت 28: 20)، فالوعد هنا لم يكن موجهًا لمن سمعوه وحدهم، بل أيضًا لكل العالم من خلالهم.
وعندما يطوّب المضطهدين والمطرودين من أجل البرّ، لم يكن يعني تلاميذه وحدهم فقط، بل أيضًا من نال هذا الامتياز مثلهم، فهو يُعد إكليله لأجل كل الذين يبلغون نفس الدرجة من السمو.
لكي يكون هذا الكلام أكثر وضوحًا لديكم، ولكي يحثكم على المزيد من الاهتمام بأقواله، وهكذا أيضًا تفعل البشرية كلها... اسمعوه كيف يبدأ بالكلمات العجيبة

"طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" [ع 3]

• فماذا يعني بـ "المساكين بالروح"؟ إنهم المتواضعون ومنسحقو القلب. لأنه يعني "بالروح" هنا نفس الإنسان وملكة الاختيار. ذلك لأنه يوجد كثيرون متواضعون ومذَلون ولكن ليس عن اختيار وطواعية، بل مُجبَرين تحت وطأة ظروف الحياة. إنه لا يقصد مثل هؤلاء في هذا الصدد، بل يطوِّب أساسًا هنا أولئك الذين باختيارهم يتواضعون ويذلون أنفسهم.
• ولكن لماذا لم يقل "طوبى للمتواضعين"، بل "للمساكين"؟ لأن هذه الأخيرة أكثر اتساعًا من تلك. فهو يعني هنا: أولئك الذين يمتلئون بالخشية والرهبة لدى سماعهم وصايا الله. هؤلاء أيضًا الذين يقول الله عنهم بفم نبيِّه إشعياء قابلاً إياهم بحق: "إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2). لأنه بالحقيقة توجد أنواع من التواضع: فيوجد المتواضع على قدر قامته، وآخر ينزل إلى أقصى حدود التواضع. هذا الأخير (الذي هو من القلب) يمتدحه النبي المبارك مصورًا لنا، لا مجرد خضوع النفس، بل انكسارها كلية، وذلك عندما يقول: "الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 17). وها الفتية الثلاثة يقدمون انسحاقهم هذا كذبيحة عظمى لله قائلين: "ولكن في نفس منسحقة وروح متواضعة ليتنا نكون مقبولين لديك" (دا 3: 39) هذا هو ما يطوِّبه المسيح الآن.
3. ولما كانت أكثر الشرور جسامة هي الكبرياء، تلك التي بسببها دخل الذين جلبوا الخراب على العالم: لأن إبليس إذا لم تكن له فضيلة التواضع الأولى، بل تبع الكبرياء، صار شريرًا، كما يعلن ذلك بولس الرسول بكل صراحة ووضوح قائلاً: "لئلا يتصلف، فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6). كذلك أيضًا الإنسان الأول لما انتفخ بواسطة الشيطان الذي أوعز إليه بتلك الأمنيات الكاذبة جُعل عبرة، وصار قابلاً للفناء (بعد أن أُعد أن يكون إلهيًا خالدًا)، وورث هؤلاء الذين جاءوا بعده الكبرياء والطمع وقد أقحم كل منهم بنفسه في طريق الضلال متوهمًا وراغبًا أن يكون مثل الله، لهذا أقول إن هذه الرذيلة هي أصل آثامنا، ومنبع كل شرورنا.
ولكي يعد الله الدواء الناجح للداء، وضع قانون التواضع أولاً كقاعدة قوية ومأمونة، وهذه إذ ترسخ كأساس فإن البناء الذي يُقام عليها سيكون مضمونًا ومأمونًا كله. أما إذا غاب الأساس، فلو بلغ الإنسان حتى عنان السماء في سيرة حياته، فإن كل شيء يتلف لا محالة ويهوي إلى نهاية سحيقة. لو اجتمع الصوم والصلاة والصدقة والعفة وكل صلاح آخر مهما كان – لو اجتمعت فيك كل هذه – ولكن بدون تواضع فإن كل شيء سيتلاشى حتمًا وينتهي إلى زوال.
كان هذا هو نفس الحال في مثل الفريسي، لأنه حتى بعد أن بلغ الذروة (في تقواه) رجع خاسرًا كل شيءٍ، إذ لم تكن له دعامة الفضائل، فكما أن الكبرياء هي أساس كل الشرور، هكذا التواضع هو مبدأ كل انضباط للنفس، من أجل ذلك أيضًا نجد أن الرب يبدأ باقتلاع التعالي من جذوره، من داخل نفوس سامعيه.
ورُب سائلٍ يقول: "وكيف يكون هذا وتلاميذه كانوا على أي تقدير متواضعين، لأنه في الحقيقة لم يكن لهم شيء يتفاخرون به، لكونهم صيادين فقراء، وليسوا ذوي حسب أو نسب، وأُمِّيين". لكن حتى ولو كانت تلك الأمور لا تعني تلاميذ الرب، إلا أنها بالتأكيد كانت تهم الحاضرين، والذين سيؤمنون به بواسطة التلاميذ فيما بعد، حتى لا يحتقرهم أحد بسبب هذا الأمر حال كونهم فقراء وضعاء.
مع هذا كان من الأصوب أيضًا أن نقول إن تعاليم الرب كانت تعني تلاميذه، فحتى لو لم يكونوا حينذاك ؟؟؟؟ لكن من المؤكد إنهم كانوا سيحتاجون بعد قليل إلى هذا الدعم بالآيات والعجائب التي يجرونها، والكرامة التي ينالونها من العالم وثقتهم في الله، لأنهم لم يكونوا قد حصلوا على الثروة ولا القوة ولا السلطان الملوكي بالكمال حتى الملء، ومع هذا وهو أمر طبيعي حتى وقبل صُنع الآيات أن يرتفعوا حينما كانوا يرون الجماهير الغفيرة من تابعيهم والمستمعين ملتفين حول معلمهم، لابد وأنهم كانوا يشعرون بشيء من الزهو الناجم عن الضعف البشري. لذا أراد الرب أن يقمع زهوهم على الفور.
كان يقدم أيضًا أقواله هذه لا بطريق إسداء النصح أو الوصايا، بل بطريق المدح والتطويب، جاعلاً كلمته هكذا أقل وطأة، وفاتحًا للجميع مجال تطبيق تعليمه الضابط للسلوك والعمل فلم يقل هذا الشخص أو ذاك مُطوَّب، بل قال: "أولئك الذين يعملون هكذا جميعهم مطوَّبون (طوباهم)". حتى وإن كنت عبدًا رقيق الحال، أو متسولاً، أو مسكينًا، أو غريبًا، أو جاهلاً، فلا شيء يمكنه إعاقتك من أن تكون مطوبًا إذا ما تمثَّلت بهذه الفضيلة

"طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ" [ع 4]

4. حين كانت الحاجة مُلحَّة فإنه كما ترون يبدأ في التقدم إلى وصية أخرى، والتي تبدو ضد أحكام العالم أجمع، لأنه بينما يظن الكل أن الفرحين هم محل حسد الناس، وأن المرفوضين والفقراء والحزانى هم البؤساء، فإن الرب يدعو هؤلاء البؤساء مطوَّبين أكثر من غيرهم قائلاً: "طوبى للحزانى" [ع4].
الحزانى هم الذين يصفهم الجميع بأنهم تُعساء، ولهذا يصنع السيد المعجزات قبل أن يضع تشريعاته حتى إذا ما سن هذه التشريعات لهم يكتسب ثقتهم. (ما دخل هذه الجملة بما قبلها؟؟)
لا يتحدث هنا عن كل الحزانى، بل عن الذين يحزنون بسبب خطاياهم، لأن غير ذلك من الحزن مُحرَّم، مثل الأحزان لفقدان أشياء العالم. وهو ما أوضحه بولس الرسول صراحة حين قال: "حُزن العالم يُنشئ موتًا، أما الحزن الذي بحسب مشيئة الله (الصالح) فيُنشئ توبة للخلاص" ( قابل 2 كو 7: 9-10). فالذين لهم الحزن للتوبة هم الذين يطوِّبهم الرب، وليس الذين يحزنون وحسب، بل يحزنون حزنًا عميقًا، لهذا لم يقل: "طوبى للذين يتأسفون"، بل "طوبى للحزانى"، أي الذين يئنون حزنًا على الدوام. هذه الوصية مناسبة لتعليمنا ضبط النفس الكامل. لأنه إن كان الحزانى لأجل فقدان أولاد أو زوجة أو قريب رحل عنهم لا يجنون من وراء أحزانهم هذه ربحًا أو متعة ما أثناء حزنهم، ولا يسعون وراء مجد، ولا تؤثر فيهم إهانات، ولا يتملك عليهم حسد، ولا يتأثرون بأي هوى، بل يستحوذ عليهم الحزن فقط إلى أقصى الحدود، كم بالأحرى أولئك الذين يحزنون بسبب خطاياهم كم ينبغي أن يكون الحزن، إنما يظهرون إنكارًا للذات أكثر من غيرهم.
وما هي مكافأة الحزانى؟ "إنهم يتعزون". اخبروني إذن أين يتعزون؟ أقول لكم يتعزون هنا وهناك أيضًا، لأنه إذ يرى أن ما أُمر به يفوق القدرة والطاقة، فإنه يعد أن يجعل هذا الحمل خفيفًا. لهذا إن أردتم تعزية احزنوا. ولا تحسبوا في هذا القول انقباضًا، لأن الله حين يعزيكم فمهما توالت عليكم الأحزان بغير عدد كسقوط الثلج ندفأ، يجعلكم ترتفعون فوقها جميعًا. ولما كانت المنافذ التي يضعها الله أكبر من أمثالنا دائمًا، فقد أعلن حينذاك أن الحزن مطوَّب، ليس بحسب استحقاق ما نفعله، بل بحسب محبته الخالصة لنا. لأن الذين يحزنون على سوء أعمالهم ويكفيهم أن ينعموا بالمغفرة، وأن ينالوا سؤل قلبهم وما يطلبون، ولأن الرب يفيض حبًا نحو الإنسان، فإنه لا يحد مجازاته سواء من جهة رفع العقوبات عنا أو خلاصنا من خطايانا، بل يباركنا أيضًا، ويمنحنا تعزيات وفيرة. وهو يأمرنا أن نحزن لا بسبب خطايانا نحن فقط، بل بسبب خطايا الآخرين أيضًا. هكذا كانت نفوس القديسين مثل موسى وبولس وداود، فإن هؤلاء جميعًا قد حزنوا حقًا بسبب شرور لم يصنعوها


"طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض" [ع5]

5. اخبروني عن أي أرض يتكلم الرب؟
يقول البعض إنها أرض رمزية. كلا ليس الأمر كذلك، لأننا لا نجد في الكتاب المقدس كله أي ذكر لأرضٍ رمزية، فما معنى القول إذن؟
إن الرب يُعد لنا مكافأة حسية، مثلما يقول القديس بولس الرسول أيضًا: "أكرم أباك وأمك" (أف 6: 2). ويضيف: "وتكونوا طوال الأعمار على الأرض". والرب نفسه يقول للص أيضًا: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).
فهو لا يعدنا بالبركات العتيدة فقط، بل وبالحاضرة أيضًا. لأجل الذين يسعون وراءها من سامعيه ذوي الطبيعة الأرضية جدًا، أما الآخرون فيعدهم ببركات عتيدة: فمثلاً يقول في موضع آخر: "كن مراضيًا لخصمك" (مت 5: 25)، ثم يُعين مكافأة هذا الانضباط للنفس، فيقول: "لئلا يسلِّمك الخصم للقاضي، ويسلِّمك القاضي إلى الشرطي" (مت 5: 25). هل ترون كيف ينذرنا بالحواس، وبما يحدث أمام عيوننا؟ ويقول أيضًا: "من قال لأخيه رقا (يا أحمق) يكون مستوجبًا المجمع" (مت 5: 22). وبولس أيضًا يصف بالتفصيل الجوائز الحسية، ويستخدم أمورًا حاضرة في مباحثاته، مثلما يحدث عندما يتناول موضوع البتولية. فإذ لم يقل شيئًا عن السماوات هناك، فإنه يحثنا على بلوغها في الزمان الحاضر، قائلاً: "لسبب الضيق الحاضر"، "وأما أنا فإني أشفق عليكم، وأريد أن تكونوا بلا همّ" (1 كو 7: 26، 28، 32). هكذا السيد المسيح أيضًا يمزج الأمور الروحية بالأمور الحسية، إذ بينما نظن أن الإنسان الوديع يفقد كل ما لديه، يعده الرب بالنقيض قائلاً: كلا، بل الوديع هو من يمتلك خيراته في أمان، أعني هذا: الشخص الذي لا يكون مشهورًا أو متباهيًا، فإن مثل هذا النوع من الناس من غير الودعاء، غالبًا ما يفقد ميراثه وحياته كلها.
وقد اعتاد النبي في العهد القديم أن يقول باستمرار: "أما الودعاء فيرثون الأرض" (مز 37: 11). فإن الرب ينسج في عظته الكلمات التي اعتادوا على سماعها، حتى لا يتحدث إليهم بلغة غريبة. وهو يقول ذلك لا بغرض اقتصار المكافأة على أمور الزمان الحاضر، بل ليربط بها عطايا من نوعٍ آخر. فهو لا يستبعد الزمنيات عند حديثه عن الروحيات، ولا يجعل وعده قاصرًا على عطايا الزمان الحاضر. لأنه يقول: "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم". وأيضًا: "ليس أحد ترك بيتًا أو إخوة، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية " (مز 10: 29-30، لو 18: 29، 20).


"طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ" [ع6].

6. أي نوعٍ من البرّ؟
إنه يعني إما كل الفضائل أو تلك الفضيلة المضادة للاشتهاء. لأنه وهو مزمع أن يعطي وصيته عن الرحمة، ليعلمنا كيف نصنع الرحمة، لا بغرض السلب أو الاشتهاء، يطوِّب المتمسكين بالبرّ.
ولنتأمل كيف يطرح الوصية بكل قوة، إذ لم يقل: "طوبى للذين بالبرّ يحفظون صومًا"، بل "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ"، أي الذين لا يصنعون برًا هكذا ببساطة، بل يشتاقون من كل القلب إلى إكماله. ولما كانت تلك هي أعظم صفة تميز الاشتهاء، ولما كنا غير مفتونين إلى هذا الحد بالطعام والشراب، مثلما نشتهي الربح، فنجمع لأنفسنا المزيد والمزيد، يأمرنا أن ننقل هذه الرغبة إلى شيء جديد، هو التحرر من الشهوة المادية. ثم يعين المجازاة أيضًا من الأمور الحسِّية قائلاً: "لأنهم يُشبعون". هكذا لأنه من المعتقد أن الأغنياء يُشبعون من الاشتهاء - لكنه يقول كلا - بل النقيض هو الصحيح، لأن البرّ يُشبع النفس. لهذا إن كنتم تصنعون البرّ، فلا يرهبكم فقر ولا يرعبكم جوع. لأن الغاصبين هم الذين يخسرون كل شيء، تمامًا مثل من يشتهي البرّ ويحبه يمتلك كل خيرات الأرض في أمان. فإن كان الذين لا يشتهون خيرات الآخرين ينعمون هكذا بفيض البركة العظيمة، فكم بالأحرى وبالأكثر الذين يتخلون عن كل ما يخصهم للآخ


"طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ.ّ" [ع7].

يبدو لي أن الرب لا يتحدث هنا عن الذين يصنعون الرحمة فقط بتقديم المال، بل الرحماء في أعمالهم أيضًا، لأن للرحمة طرق عديدة، وهذه الوصية واسعة، لكن ما هي مجازاة عمل الرحمة؟ "لأنهم يُرحمون". تعويض عادل لكنه شيء أبعد مما يكون عن فعل الخير، لأنه بينما يصنع الناس رحمة كبشرٍ، ينالون رحمة من إله الجميع، وليست رحمة الإنسان كرحمة الله مطلقًا، فالفارق بينهما شاسع وكبير جدًا كبعد الشر عن الخير


"طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" [ع8]

لاحظوا هنا أيضًا أن المكافأة روحية، فهو يدعو من بلغوا قمة الفضائل ولم يُضمروا في نفوسهم أي شر "أنقياء"، وكذلك من يضبطون أنفسهم في كل شيءٍ، ويتعففون عن الشهوات. لأنه ما من شيءٍ نحتاج إليه بالأكثر لنعاين الله مثل هذه الفضيلة الأخيرة. حيث يقول القديس بولس الرسول أيضًا: "اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14).
هنا يتكلم عن إمكانية رؤية الله بشكلٍ نسبيٍ ومحدودٍ، أي على قدر ما يتحمل الإنسان بسبب محدوديته البشرية. فكثيرون يمارسون عمل الرحمة ولا يسلبون أحدًا ولا يشتهون ما للغير، ومع هذا يوجدون متلبسين بخطايا الزنا والنجاسة. فلكي يُظهر (السيد الرب) أن عمل الرحمة وحده غير كافٍ، أضاف هذا التطويب. وهو نفس ما يعنيه بولس الرسول تمامًا في رسالته إلى أهل كورنثوس شاهدًا للمقدونيين أنهم كانوا أسخياء ليس فقط في العطاء، بل وفي كل فضيلة، لأنه بعد أن تكلم عن روحهم النبيلة التي أظهروها من جهة كرم عطاياهم الحاوية، يقول أيضًا: "بل أعطوا أنفسهم أولاً للرب، ولنا" (2 كو 8: 5).


"طوبى لصانعي السلام" [ع9].

7. هنا لا يُزيل عنا فقط الخصام والكراهية اللذين نحملهما في نفوسنا، من جهة بعضنا بعضًا، بل بجانب ذلك يطالبنا بشيءٍ أكبر، هو أن نجتهد لمصالحة الآخرين، أما المكافأة التي يكشف لنا عنها فهي أيضًا روحية: فما نوعها إذن؟ "لأنهم أبناء الله يدعون". نعم، لأن هذا هو عمل الابن الوحيد، أن يوحِّد المتفرقين، ويصالح المتباعدين. ولئلا نتوهَّم أن السلام في كل الأحوال بركة مطوبة، أضاف قائلاً: "طوبى للمُضطهدين من أجل البرّ" أي من أجل الفضيلة، وإعانة الآخرين، ومن أجل كل عملٍ صالحٍ. فقد اعتاد الرب أن يعني بالبرّ كل عمل حكيم تمارسه النفس.

"طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا وتهللوا" [ع11-12].

ويعني بقوله هذا: حتى وإن قالوا عنكم إنكم لصوص وغشاشون وخارجون على القانون، أو أي اتهام آخر، فطوباكم. هكذا يقول ولكن ما الشيء الأكثر حداثة من هذه الوصايا؟ بينما يتحاشى الآخرون هذه الأمور عينها، فإنه يعلن أنه علينا أن نرغب في أن نكون فقراء حزانى مضطهدين، وموضع شرور الناس وأقاويلهم. والرب بذلك لا يقنع حفنة من الناس بل العالم أجمع. وإذ سمع الجموع أمورًا محزنة ومؤلمة بعكس ما اعتادوا أن يسمعوه كانوا "مبهوتين" (قابل مت 7: 28)، إذ كان سلطان المتكلم عظيمًا.
وبالرغم من ذلك، وحتى لا تفتكروا أن مجرد الحديث بكلام الشر علينا يجعلنا مطوّبين، فقد وضع شرطين: أن يكون ما قيل من كلامٍ كذبًا، وأن يكون هنا الكلام أصلاً بسببه هو. بدون هذين الشرطين، يكون من تحدث الناس عليه بشر، من التعساء، ولا ينعم ببركة أبدًا.
ثم تأملوا المكافأة مرة أخرى: "لأن أجركم عظيم في السماوات".
لكنكم حتى وإن لم تسمعوا أيّ ملكوت يُعطى لكم من الرب من بين بركاته، لا تيأسوا. لأنه بالرغم من تعدد أسماء المكافآت، فإنه يأتي بها كلها إلى ملكوته. فإن قال: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون"، و "طوبى للرحماء لأنهم يرحمون"، و "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله"، و "طوبى لصانعي السلام لأنهم يدعون أبناء الله"، فإن لا شيء يمكن أن يعطي كل هذه العطايا وبسخاء إلا الملكوت، لأن جميع الذين ينعمون بتلك المكافآت سينالونها في الملكوت. فلا تظنوا أن هذه المجازاة هي للمساكين بالروح فقط، بل للجائعين من أجل البرّ، وللودعاء، ولأجل الجميع بلا استثناء، لأنه وهب بركته لهم جميعًا. حتى لا تفتكروا في أي أمور حسية. لأن مثل هذا الإنسان لن يُبارك، الذي يشغل رأسه بمثل تلك الأمور الزائلة في هذا الدهر الآتي والتي تبلى سريعًا كالظل.
8. لكنه حينما قال "لأن أجركم عظيم" أضاف أيضًا تعزية جديدة قائلاً: "فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين كانوا قبلكم"، لأنه إذ كان الوعد أولاً بالملكوت هو وعد عتيد وكل ما يتعلق به ننتظره ونرجوه، فإنه يقدم لهم تعزية وراحة من عناء هذا الدهر ومن شركة الذين كانوا قبلهم يعانون من سوء المعاملة.
وهو يقول ما معناه: "لا تظنوا أنكم تقاسون هذه الأمور لعيبٍ ما في كلامكم وأفعالكم وقراراتكم، أو كأنكم معلِّمون لتعاليم شريرة ولهذا يضطهدونكم، بل بسبب شرور سامعيكم، فلا لوم عليكم إذا عانيتم من سوء أفعالهم، بل اللوم يقع على من يسيء معاملتكم. وتشهد كل الأزمنة الماضية على هذه الحقيقة، لأنهم لم يجدوا علَّة على الأنبياء من تعدي للناموس، أو لم يعثروا على مخالفات من عدم التقوى، ولكنهم رجموا البعض وطردوا البعض الآخر، وعذبوا آخرين بآلام بغير حصر. لهذا لا تدعوا هذه الأمور تزعجكم، لأنهم الآن يعاملونكم بنفس الفكر عينه.
أرأيت كيف يرفع السيد الرب معنوياتهم، بأن يجعلهم في شركة مع موسى وإيليا، وهكذا قال القديس بولس في رسالته إلى أهل تسالونيكي: "فإنكم صرتم شركاء كنائس الله التي هي في اليهودية، لأنكم تألمتم أنتم أيضًا من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها، كما هم أيضًا من اليهود الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن، وهم غير مرضيين لله، وأضداد لجميع الناس" (1 تس 2: 14-15). وهي نفس النقطة أيضًا هنا التي أرساها السيد المسيح، والتي في تطويبات أخرى قال: "طوبى للمساكين" و"للرحماء" وهو هنا لا يخاطب عموم الناس، بل يوجِّه حديثه إليهم هم أنفسهم، قائلاً: "طوبى لكم، إذا عيّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة"، مشيرًا إلى أن هذه ميزة خاصة بهم، وأن المعلّمين يختصون بها عن سائر البشر. وفي نفس الوقت فإنه هنا وبشكل سري يشير إلى كرامته الخاصة، ومساواته مع الآب في الكرامة، إذ يقول: لأنهم مثلما تكبدوا لأجل الآب، هكذا أنتم أيضًا تحتملون هذه الأمور لأجلي. ولكنه حين يقول: "الأنبياء الذين قبلكم" فإنه يؤكد ضمنًا أن التلاميذ قد صاروا أيضًا أنبياء في هذا الزمان. وبعد أن شرح أن ذلك ينفعهم ويمجدهم لم يقل: "إنهم سيتجمهرون عليكم ويضطهدونكم ولكني سأمنعهم". لأن الرب يمنحهم الثبات والاطمئنان، لا بهروبهم من كلام الشر عنهم، بل تحملهم لهذا الشر في شرفٍ، وتفنيدهم لهم بأعمالهم. فهذا أعظم بكثير من هروبهم. على سبيل المثال عندما يضربك الناس ولا تؤذيهم، فهذا أعظم كثيرًا من الهروب من تلقي الضربة.
عظمة المكافأة

"لأن أجركم عظيم في السماوات" [ع12]

9. ويذكر القديس لوقا البشير أن الرب قال ذلك في حزمٍ، وفي تعزية كاملة، لأنه كما تعلمون، لم يطوِّب فقط أولئك الذين يتكلم عنهم الناس بالشرور لأجل الله، بل يضيف: من يقول الناس عنهم قولاً حسنًا أنهم بؤساء. إذ لم يقل: "الويل لكم، إذا ما قال الناس فيكم حسنًا"، بل حين يفعل كل الناس ذلك؛ لأنه من غير الممكن أن الذين يحيون وهم يعلمون صالحًا يتكلم الناس عنهم حسنًا، يقول مرة أخرى: "إذا أخرج الناس اسمكم كشرير، افرحوا وتهللوا" (قابل لو 6: 22-23).
والرب يحدد المكافأة العظيمة، ليس لأجل المخاطر التي يواجهونها فحسب، بل لأجل ما وقع عليهم من تشويه السمعة، لهذا لم يقل: "إذا اضطهدوكم وقتلوكم"، بل "إذا عيَّروكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة". لأنه من المؤكد فعلاً أن كلام الناس بالشرور على الآخرين هو أشد قسوة من أعمالهم الشريرة نفسها. لأننا مهما واجهنا من أخطارٍ، فإن هناك أمورًا كثيرة تخفف من وطأة الألم، مثلما يشترك الجميع في إدخال الفرح على نفوسنا، أو حين يصفق لنا الكثيرون، أو حين نكلل، أو يمدحنا الآخرون ويثنون علينا جهارًا. بينما حين يوبخنا الناس نفقد مثل هذه التعزيات، لأننا نبدو أمامهم وكأننا لم نحقق شيئًا عظيمًا. الأمر الذي يثير غضب الخصوم أكثر من إثارة مخاطرهم. فعلى الأقل نعلم أن كثيرين شنقوا أنفسهم، غير محتملين أن يقول الناس عنهم شرًا!
فلماذا تتعجبون من الآخرين؟ فإن هذا الخائن العاري من الخجل، والملعون الذي توقف إحساسه بالخجل، قد أسرع بعد فعلته إلى حبل المشنقة. وأيوب أيضًا، العنيد الذي لا يلين، الأصلب من الصخر، حين فقد كل أملاكه، وكابد تجارب مروعة وأسقامٍ يستحيل علاجها، وأصبح فجأة محرومًا من أطفاله، وقد نضح جسده بالدود في كل أجزائه، ولم تكف زوجته عن مهاجمته، لم يخضع لكل هذه البلايا، بل نفض عنه كل شيء أليم، لكنه حين جاءه أصدقاؤه يوبخونه ويدوسون عليه، ويقولون فيه رأيًا شريرًا متلذذين بتوبيخه، وأنه عانى كل هذه الآلام بسبب معاصيه، وأنه كان يدفع ثمن شروره، تعب الرجل العظيم كريم القلب وانزعج وتوتر.
وداود أيضًا بعد أن تجاوز محنته، توسل إلى الله طالبًا أن يُنزل عقابًا على تشويه سمعته وحدها. إذ يقول "دعوه يسب، لأن الرب قال له. لعل الرب ينظر إلى مذلتي، ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم" (2 صم 16: 11-12).
ويعلن القديس بولس عن نصرة أولئك الذين يجلبون على أنفسهم المخاطر أو الذين يُحرَمون من خيراتهم. بل الذين يحتملون أيضًا، إذ قال: "تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة" (عب 10: 32-33). ويكمل "من جهة مشهرين بتعييرات وضيقات". علي هذا الأساس وصف المسيح إذن المكافأة بأنها عظيمة. وبعد هذا ولئلا يقول أحد هنا أنتم لا تعطون تعويضًا، ولا تسكتون أفواه الناس، فهل تعينون لهذا الأمر مكافأة؟
لقد وضع السيد أمامنا مثال الأنبياء ليُظهر أن الله لم يقدم تعويضًا في حالتهم، وإذا كانت المكافآت جاهزة ومتاحة، فقد أدخل المسرة عليهم بأمورٍ مستقبلة. وأكثر منها الآن، حينما يصبح هذا الرجاء أكثر وضوحًا، ويزداد إنكارنا للذات.
لاحظوا أيضًا أنه وضع هذه الوصية بعد عدة وصايا مثلها، وقد فعل ذلك عن حكمة دون شك، ليظهر أنه من غير الممكن لإنسانٍ لا يتسامح ولا يتزود بالفضائل الأخرى، أن يواجه مثل هذه الصراعات والضيقات لهذا ترون أنه في كل حالةٍ، وبإعداد وصية ما لتمهد الطريق أمام وصية أخرى تالية، قد نسج لأجلنا عقدًا من ذهب. فنرى أن التواضع أولاً "يحزن" بسبب خطاياه، ومن يحزن يكون "وديعًا" و"بارًا" نادمًا ندمًا حقيقيًا. يكون أيضًا نقي القلب، ونقي القلب يكون صانع سلام. والذي يبلغ كل هذه الفضائل يصمد ضد الأخطار ولا يزعجه شر يتقوَّل به الناس عليه ويحتمل ضيقات شديدة بغير حصرٍ.

عمل على مستوى العالم كله "ملح الأرض"

10. وبعد أن قدم الرب النُصح اللائق في الوقت المحدد أخذ ينعش نفوسهم مرة أخرى بالثناء، ولما كانت وصاياه أعظم من وصايا العهد القديم، وحتى لا يضطربوا ويتحيروا متسائلين: كيف لنا أن نحققها؟ يقول لهم:

"أنتم ملح الأرض" [ع13].

يُلمح الرب بهذا إلى مدى أهميتهم القصوى للآخرين وكأنما به يقول: إن قيمتكم الاعتبارية ليست في حياتكم الخاصة منعزلين عن الناس. فها أنا أرسلكم لا إلى مدينة واحدة أو عشر مدن أو عشرين أو إلى أمة بأجمعها كما أرسلتُ الأنبياء قديمًا، بل إلى كل الأرض والبحر والعالم بأسره الذي انغمس في الفساد.
وبقوله: "أنتم ملح الأرض" يشير إلى أن الطبيعة البشرية كلها تفقد مذاقها الجيد وتفسد بسبب خطايانا، ولأجل هذا يطلب منهم تلك الفضائل لضرورتها القصوى لتقويم الجنس البشري كله، لكونهم صاروا قادة روحيين لهم ومَثل أعلى يُحتذى.
فالودعاء والمسالمون والرحماء والأبرار لا ينغلقون أبدًا على أنفسهم، ولا يقصرون أعمالهم الصالحة على ذواتهم، بل يعملون بكل ما في وسعهم أن تفيض هذه الينابيع الصالحة لخير الآخرين.
ثم أيضًا من هو نقي القلب، وصانع السلام، أو المطرود والمضطَهد لأجل الحق، إنما يضع حياته من أجل الصالح العام، وكأن الرب يقول لتلاميذه لا تظنوا إذًا أنكم قد خرجتم لأجل جهاد هيِّن أو أنكم صرتم مسئولين عن أمور تافهة بسيطة، بل أنتم "ملح الأرض".
وماذا إذن؟ هل سيُصلحون ما فسد؟ كلا! لأنه لا يمكن إصلاح ما تلف مهما نثرت عليه من ملحٍ. فهذا ليس واجبهم، بل الذين قد سبق وتجددوا واُستعيدوا بالمسيح، وأوكل إليهم أمر رعايتهم - بعد تحررهم من المذاق الرديء - هؤلاء يملِّحونهم لصيانتهم وحفظهم وبقائهم على استمرارية جدة الحياة العذبة (freshness) التي قبلوها من الرب، لأن العمل الصالح الذي أتمه السيد المسيح هو أن يحرر أولئك الناس من فساد خطاياهم، أما (الرسل) فهم بخدمتهم الدؤوبة وعملهم الغيور، إنما يَضمنون عدم عودتهم مرة أخرى إلى فساد خطاياهم.
سموهم على الأنبياء
أترى كيف يتدرج الرب في الكشف عن سموهم على الأنبياء؟ في دعوته لهم ليكونوا معلمين، لا لفلسطين وحدها، بل للعالم أجمع. وليسوا كمعلمين بسطاء بل ذوي مهابة وسلطان يرهبه الجميع. وهذا هو العجب؛ أنه ليس بالمداهنة والإطراء والملاطفة، بل بشحذ هممهم بقوة كملح الأرض ليكونوا محبوبين وأعزاء على قلوب الناس جميعًا.
وكأن الرب يقول لهم:
"لا تندهشوا الآن إن كنتُ أخصكم أنتم بحديثي دون الآخرين، وأدفعكم إلى مخاطر عظيمة بهذا القدر"، حتى تدركوا إني سأرسلكم لا لترأسوا مدنًا وقبائل وأممًا كثيرة وأقيمكم رعاة عليها. حيث لا أريد أن تكونوا أنتم أنفسكم حكماء، بل أن تجعلوا الآخرين أيضًا كذلك. فإن مثل أولئك الأشخاص الذين اُستؤمنوا على خلاص الآخرين هم في حاجة شديدة أن يكونوا على قدر كبير من الفطنة، وينبغي كذلك أن تكون حياتهم زاخرة بالتقوى لينفعوا الآخرين أيضًا. لأنه إن لم تصيروا أنتم هكذا، لن تنفعوا حتى أنفسكم.
فلا تضيقوا ذراعًا بكلامي لكم، حتى وإن بدا لكم صعبًا بعض الشيء، فبينما من السهل على الذين فقدوا مذاقهم الطيب أن ينصلحوا بكم، فإنكم أنتم إن فسدتم تفسدون آخرين معكم، فأنتم بحاجة إلى اجتهاد أعظم بقدر ما كان ما اُستؤمنتم عليه جسيمًا.
فلهذا يقول الرب:
"ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ لا يصلح بعد لشيءٍ إلا أن يُطرح خارجًا ويُداس من الناس" [ع13].
لأن عامة الناس (من غير المعلمين) حتى وإن تكرر سقوطهم، إلا أنه يمكنهم بسهولة نوال المغفرة، أما المعلم فإن سقط فهو بلا عُذر، بل ويُحرم من كل عفوٍ، ويكون عقابه أشد على كل إثم ارتكبه. ولئلا يتجنبوا ويحجموا عن الانطلاق للكرازة من قوله لهم: "إذا ما عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة"، يصارحهم قائلاً: "ما لم تستعدوا بالمضمون أمام كل ضيقة فقد صار اختياركم عبثًا، فلا ينبغي أن تخيفكم السمعة السيئة، بل أن تخشوا المظاهر الكاذبة التي تفسد ملوحتكم وعندئذ تُداسون بالأقدام. أما إذا ظللتم تحتملون كل ما يأتي عليكم من محنٍ في وعيٍ روحيٍ يقظ، مهما قيل عنكم من كلامٍ شريرٍ، افرحوا وتهللوا. لأن تلك هي منفعة الملح؛ أن يكون ترياقًا للفساد ويجعل الفاسد عديم فساد. فإن جاءتكم من الناس ملامة أو تعنيف، لا يقدر أحد أن يضركم بأي حال، بل يشهد على ثباتكم. لكن إن تخليتم بسبب الخوف عن رزانتكم اللائقة بكم، لدفعتم الثمن باهظًا خصمًا من سمعتكم الطيبة فتصيرون سيِّئي الصيت، محتقرين من الجميع فهذا هو معنى "تداسون من الناس".

عمل على مستوى العالم كله "نور العالم".

11. ثم يسمو بهم إلى صورة أعلى:

"أنتم نور العالم" [ع14]

ومن جديد، هم "نور العالم" ليس لأمَّة واحدة أو لعديد من الدول، بل للمسكونة كلها.
وهم نور الذهن الأسمى كثيرًا من أشعة الشمس، كما سبق وشبههم "بالملح الروحي". أما الآن فيدعوهم "نورًا" ليكشف لنا عن مدى عظمة وكمال التحلي بهذه المبادئ والنفع الجزيل الذي يجلبه العليم السامي الضابط للنفس وحافظها من الثروى إلى طريق الهلاك والذي يوضح الرؤية أمام البشر آتيًا بهم إلى الحياة الفضلى.

تدريبهم على حياة التدقيق

"لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت مكيال" [ع13-14].

بهذا الكلام يدربهم أيضًا على حياة التدقيق. ويعلمهم أن يكونوا شديدي الحرص في سعيهم كمن تتجه إليهم أنظار الجميع. وكأبطال يجاهدون في وسط العالم.
وكأنه يقول لهم "لا تنظروا إلى كوننا الآن جالسين هنا في بقعة صغيرة من أرجاء الأرض، لأنكم ستكونون محط أنظار العالم أجمع، كمدينةٍ قائمةٍ على قمة جبلٍ عالٍ، وكسراجٍ في بيتٍ على منارةٍ ينير لكل من فيه.
أين هم الآن الذين يصرون على إنكار الإيمان بسلطان المسيح؟ ليتهم يسمعون هذه الأمور، ويمجدون قدرته، ويندهشون لهذه الرؤية النبوية لما هو عتيد أن يكون. فهؤلاء الذين كانوا مجهولين حتى في وطنهم الخاص سوف يوفهم البرّ والبحر، وسيبلغ صيتهم إلى أقاصي المسكونة، ليس كمجرد شهرة، بل بسبب أعمال الخير التي سيصنعونها. فليس مجرد الشهرة، أو الاسم هو الذي يذيع في كل مكان صيتهم، بل ممارستهم فعلاً للأعمال الصالحة. والتي كانت واضحة للعيان – أمام الكل – وكأن لهم أجنحة يطيرون بها أسرع من أشعة الشمس، يجوبون المسكونة كلها يبذرون نور التقوى والصلاح.
ويبدو لي في قول الرب لهم: "لا يمكن أن تُخفى مدينة على جبل"، أنه يدربهم على الجرأة في الحديث وقوة كرازتهم وقدرته التي سيعلنها بواسطتهم. لأنه مثلما لا يمكن إخفاء مدينة قائمة على جبل، هكذا من المستحيل أن يلف الصمت كرازتهم ويحيطها الغموض. وكما سبق وتكلم معهم عن الاضطهادات والوشايات والمكايد والحروب المزمع أن يواجهوها، وحتى لا يظنوا أن تلك الأمور يمكنها أن تعوق كرازتهم، ولكي يشجعهم نجده يقول: إن حياتهم وكرازتهم بالإنجيل لا يمكن أن تُخفى، بل تنير كل العالم، ولهذا ستطير شهرتهم إلى الآفاق، و يُذاع صيتهم في كل الدنيا.
بهذا يعلق الرب عن قوته الشخصية التي ستُستعلن للعالم بواسطتهم.
"ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت مكيال، بل على منارة ليضيء لكل من في البيت. فليضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" [ع15-16]
وكأني به يقول لهم:
الحق إنني أشعلت النور من جانبي، أما اجتهادكم في الخدمة فهو الذي يحفظ دوام توهجه. ليس لأجل أنفسكم وحدكم، بل أيضًا من أجل أولئك الذين يمكنهم أن ينتفعوا بهذا الضوء الذي به يهتدون إلى الحق. لأن الوشايات لا يمكن أبدًا أن تحجب بهاء ضيائكم، إن كنتم تحيون حياة الاستقامة. فأنتم الملتزمون أن تهْدوا العالم أجمع إلى معرفة الحق. أظهروا إذًا للعالم حياة جديرة بنعمته، حتى إذا ما كُرز بها في العالم أجمع يرافقكم هذا النور نفسه على الدوام.
شهادة المقاومين لهم
يضع الرب بعد ذلك أمامهم نوعًا آخر من الربح، فبجانب خلاص البشر الجدير بأن يجعلهم يسعون بكل ما في عزيمتهم وجهدهم، هكذا يقول لهم، فليس فقط تُقوِّمون شأن العالم إذ ما عشتم بالاستقامة، بل أيضًا ستهيئون الفرصة لأن يتمجد الله بكم. أما إن فعلتم العكس تكونون سببًا في هلاك البشر، وبسببكم يُجدَّف على اسم الله.
ورُبَّ سائلٍ: كيف يمكن أن يتمجد الله بنا حتى لو تقاول الناس علينا شرًا؟ ليس كل الناس بل حتى الذين يفعلون ذلك بدافع الحسد فإنهم في قرارة أنفسهم سيعجبون بكم ويمتدحونكم.
ماذا إذن؟ هل يأمرنا الرب بالتفاخر والمجد الباطل؟ حاشا! فهو لم يقل: "اجتهدوا أن تروا أعمالكم الصالحة" ولم يقل: "أظهروها لهم"، لكنه قال: "ليضئ نوركم"، أي لتنْمُ فضيلتكم وتتوهج نارها، وينتشر نورها الفائق الوصف. لأنه عندما تتسامى الفضيلة لا يمكن أن تظل مخفية حتى ولو حاول الخصم أن يحجب نورها آلاف المرات. هكذا قدموا للناس حياة بلا لوم ولا عيب، فلا يجد العدو فيها فرصة ليقول عليكم كلامًا شريرًا بعد. حينذاك حتى إن وجد آلاف من المتكلمين بالسوء، فلن يستطيع إنسان أن يلقي عليكم أي ظل، ولن يقدر أن يحجب نوركم.
حسنًا قال: "نوركم"، فلا شيء يرفع من شأن الإنسان مثل الفضيلة حتى ولو تحايل الفرد على إخفائها. وكأن صاحبها مدَّثر بالشمس، وهكذا فإنه يلمع بنور أكثر بهاءً منها، فيسطع نوره على كل الأرض بل ويرتقي إلى عنان السماء نفسها.
هكذا كان يكثر من تعزيته لهم، وكأنه يقول: مهما كان التشهير يؤلمكم، فإن لديكم آخرين كثيرين يمجدون الله بسببكم وفي كلا الأمرين تكون مجازاتكم عظيمة. من جهة، لأن الله تمجد بكم، ومن جهة أخرى لأن الناس افتروا عليكم لأجل الله.
ولئلا نتعمد أن يوبخنا الآخرون عندما نسمع أن لنا بسبب ذلك مكافأة، فإنه في بادئ الأمر، لم يعبر عن هذا الرأي هكذا ببساطة، بل جعل له شرطين: أعني، حين يكون ما يُقال غير صحيح، وأن يكون لأجل الله. ثم يقرر بعد ذلك أن هذا الأمر ليس بالأمر الوحيد، بل إن هذا الكلام الطيب له ربحه العظيم، حين يعطي الإنسان المجد لله. ويُظهر الرب لهم هذه الأماني المباركة إذ يقول: "الدخول في الباب الضيق يجلب تشويهًا لسمعتكم، لكنه لا ينتشر بهذا القدر فيضع آخرين في الظلمة ولا يرون نوركم،(ياريت يقرأ هذا البراجراف مرة ثانية) لأنه حين يفسد ملحكم أي تفقدون مذاقكم يدوسونكم تحت الأرجل، لكن ليس حين يتهمونكم باطلاً، يفعلون حسنًا، بل بالحري يلتف حولكم كثيرون معجبون بكم، لا لأجلكم أنتم فقط، بل لأجل أبيكم الذي في السماوات. لم يقل الرب: "الله" بل "يمجدون أباكم" مُظهرًا أصل هذا الميلاد الشريف مسبقًا، والذي كان عتيدًا أن يجلبه لهم. وحتى يشير أيضًا إلى مساواته في كرامة الآب مثلما قال قبلاً "لا تحزنوا إذا ما قال عليكم الناس كلامًا شريرًا لأنه يكفيكم أنهم تكلموا عليكم بسببي" لهذا يذكر هنا الآب موضحًا مساواته له كما يفعل في كل موضع آخر.
12. وإذ نعلم مدى المنفعة التي نجنيها بسبب جديتنا هذه، وخطر تراخينا (لأنه لو كان الناس يجدفون على الرب بسببنا لصار حالنا أسوأ بكثير من هلاكنا).
علينا ألا "نكون عثرة لليهود وللأمم ولكنيسة الله" (1 كو 10: 32). وبينما تكون حياتنا التي يراها الناس أكثر إشراقًا من الشمس، فحتى إن تقوَّل الناس علينا بشرٍ لا نحزن لأنهم يشهدون بسمعتنا، فقط نحزن لأنهم شهروا بنا عن حق، لأنه من جهة إن كنا نحيا حياة الشر، ولم يتحدث علينا أحد بسوء لصرنا أشقى جميع الناس، ومن جهة أخرى إن كنا نسلك حسب الفضيلة حتى وإن تقوَّل العالم كله بشر، نصير في الوقت عينه محل حسد الناس أكثر من الآخرين، فنجذب إلينا الذين اختاروا أن يخلصوا، لأن حياتنا الصالحة هي التي تسترعى انتباههم وليس تشهير الأشرار بنا. لأنه ما من بوق يشهد على استقامتنا أكثر من أعمالنا التي نمارسها، فإن الحياة النقية أكثر شفافية من النور نفسه، حتى وإن فاق الذين يشهِرون بنا كل حد.
وأقول إن كانت كل الخصال السابق ذكرها هي من نصيبنا، وإن كنا ودعاء ومتواضعين ورحماء وأنقياء القلب وصانعي سلام، إن كنا نسمع التوبيخ ولا نخاصم أحدًا، بل بالحري نفرح ونسرّ، فإننا نجذب جميع الذين يلاحظون سيرتنا مثلما تجتذبهم المعجزات ويتعاطف الكل معنا حتى ولو كان وحشًا كاسرًا أو شيطانًا أو أي شيءٍ آخر. فإن كان البعض يتكلمون عليكم بالشر، فلا تنزعجوا آنذاك0 حتى إن هم وبخوكم علانية، فاهتموا أن تفتشوا في ضمائرهم، ستجدونهم يهتفون لكم، ويعجبون بكم، ويمدحونكم مديحًا لا حدود له.
تأملوا مثلاً، كيف يمتدح نبوخذنصر الفتية في أتون النار رغم عدواته وخصوماته معهم، لكنه حين رآهم واقفين في شموخ أعلن عن انتصارهم وكللهم بالتيجان، لا لشيء، إلا لأنهم لم يطيعوه وأطاعوا ناموس الله. لأن الشيطان حين لا يحقق شيئًا، يهرب خشية أن يكون سببًا في حصولنا على مزيد من الأكاليل. وبرحيله، فإن الذي كان الجميع يكرهونه وكان يحيا في عزلة بينهم نراه يسلك طريق الفضيلة، إذ انقشع الضباب من أمامه. فإن كان الناس لا يزالون يتجادلون ضدكم، ستنالون من الله أعظم مديحٍ وإعجابٍ. فلا تحزنوا بعد، أرجوكم لا تيأسوا، لأن الرسل أنفسهم كانوا بالنسبة للبعض "رائحة موت" (1 كو 2: 16)، ولآخرين "رائحة حياة" وإن لم يكن في نفوسكم شيء تتمسكون به، فيكفي أنكم تخلصتم من كل اتهاماتهم لكم، أو بالحري قد صرتم مطوَّبين بالأكثر. فليضيء نوركم إذن في حياتكم ولا تهتموا بالذي يقولون عنكم شرًا. لأنه من المستحيل، أقول من المستحيل أن من يمارس الفضيلة تخلو حياته من الأعداء – مع ذلك فإن الرجل الصالح لا يهتم بهذه الأمور – لأنه يزداد بها بريقًا ويفيض إشراقه بالأكثر.

السمو بالانشغال بالحياة السماوية

فإن كنا نشغل بالنا بهذه الأمور، فلنضع نصب أعيننا كيف نضبط حياتنا بالرصانة والجدية. لأننا بهذا نحيا الحياة السماوية ونقود معنا الجالسين في الظلمة، فهذه هي خاصية النور: أن ينير هنا وأن يقود تابعيه إليه. لأن الناس حين يروننا نزدري بكل شيء في هذا الزمان الحاضر. ونعد أنفسنا للدهر الآتي، تحثهم أعمالنا أسرع من أية عظة، لأن الإنسان حتى بعد انعدام أساسه، حين يرى من كان يعيش في بذخٍ يومًا ما، يتجرد الآن من كل الترف، ويتشح بأجنحته ويستعد لقبول الفقر والجوع والصعاب والأخطار والذم والذبح وكل شيء رهيب، يستطيع – إذا عاين كل هذا – أن يكتشف أمور الزمان العتيد، المستقبل الأبدي، لكن إن كنا ننغمس في أمور الزمان الحاضر، وننزلق فيها أكثر فأكثر لا يقتنع الآخرون بأننا مرتحلون في عجالة إلى وطن آخر.
فما هو عذرنا بعد إن لم نعش في مخافة الرب كما يليق، مثلما ساد مجد البشر بين فلاسفة الأمم. إذ تخلى بعضهم عن ثروتهم، واحتقروا الموت، ولكن كان غرضهم التباهي أمام الناس، لهذا كان رجاؤهم باطلاً.
فما العذر الذي ينجينا إذن، رغم عِظَم الأمور الموضوعة أمامنا، ورغم المبدأ السامي لإنكار الذات المتاح لنا نجد أنفسنا عاجزين حتى عن إتيان ما أتوه هم من أعمال، بل ونُهلك أنفسنا والذين معنا؟

خطأ المسيحي أخطر من خطأ الأممي

لأن الأممي (الوثني) إذا ارتكب خطية لا يقع عليه ضرر كبير، مثلما يخطئ المسيحي بنفس الخطية. فالأمم أصلاً قد فقدوا أخلاقياتهم، لكننا وبنعمة الله مكرَّمون ومطوَّبون بين الأشرار. لهذا إذا تقولوا علينا شرًا، وزاد كلامهم الشرير علينا إلى حد كبير، ونادوا علينا في تهكم مرير ساخرين: "يا مسيحي"، فإنهم ما كانوا يستعملون هذا النداء التهكمي لو توفرت لديهم سرًا فكرة سديدة عن عقيدتنا.
ألم تسمعوا كيف أن السيد المسيح قد أوصى وصايا عظيمة وكثيرة؟ فمتى تقدرون أن تنفذوا إحدى هذه الوصايا، هل وأنتم عازفون عنها كلها، منصرفون إلى اللهث وراء اللذة، متكالبون على جمع أموال الربا الفاحش، جالسون عند عتبات الصفقات التجارية متاجرون في قطعان العبيد، جامحون في دأب للتحف الفضية، مبتاعون بيوتًا وحقولاً وبضائع لا نهاية لها؟
وكنت أتمنى أن يكون هذا كل شيء، ولكنكم حين تضيفون إلى هذه المساعي التي لا لزوم لها، ظلمًا ونهبًا بإزالة علامات الأراضي واغتصاب بيوت الناس بالعنف، تعملون على تفاقم الفقر وازدياد حالات الجوع. فمتى تقدرون أن تثبِّتوا أقدامكم على هذه الأعتاب؟

لا تنتظروا المكافأة مني!

13. لكنكم ترحمون المساكين أحيانًا: أعرف ذلك مثلما تعرفون أنتم - لكن حتى هذا المسلك سيئ أيضًا – لأنكم تفعلون ذلك إما من باب الكبرياء أو المجد الباطل، فلا تنتفعون حتى بأعمالكم الصالحة، فأي حال أتعس من حالكم هذا، إنكم تحطمون سفنكم وأنتم في مرفأ الأمان. فإن فعلتم صلاحًا وأردتم منع ذلك، لا تنتظروا مني شكرًا لأن الله هو المدين لكم. إذ يقول: "اقرضوا الذين لا ترجون أن تستردوا منهم" (قابل لوقا 6: 34).
فإن كان الله هو المدين لكم، فلماذا تتركونه وتطالبونني أنا المسكين المائت بهذا الدين؟
ماذا؟ إن الله يُسرّ أن تأخذ الدين منه فهو ليس بالفقير، ولا الرافض أن يفي بالديون. ألا ترون عظم كنوزه الفائقة الوصف؟
ألا تنظروا سخاءه الذي لا يُنطق به؟
تمسكوا إذن بطلب الدين منه، فإنه من غير اللائق أن نتركه ونطلب سداد الدين من آخر سواه، فإنه يرى فيما تفعلونه خطأ، وكأنه يقول لكم: لماذا تفعلون هذا وبأي جحود تتهمونني، هل تزعمون أنني فقير؟ حتى إنكم تعتزمون أخذ الدين من آخرين؟ فهل تقرضون (الله الواحد) ثم تطلبون من آخر أن يسدد هذا القرض؟ لأنه رغم أن الإنسان هو الذي أخذ القرض، فإن الله هو الذي أوصاكم أن تعطوه، ومشيئته أن يكون هو المدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي الحقيقة، إن الرب يعطيكم أضعاف أضعاف الفرص لاسترداد الدين منه في كل حين وفي كل مكان. فلا تدعوا هذه الفرصة السانحة تضيع منكم هكذا بسهولة، ولا تبددوا هذا السخاء الوفير طالبين الدين ممن لا يملكون شيئًا. فلأي غرض تظهرون رحمتكم بالمساكين؟ ماذا؟ ألم أكن أنا الذي قلت لكم أعطوا، ألم تسمعوا ذلك مني، أن تستردوا عطاياكم مني أنا، ألم أقل "من يرحم الفقير، يقرض الرب" (أم 19: 17) وأنتم قد أقرضتم الله، فضعوا هذا الدين على حسابه، حتى لو لم يسدد لكم الدين كله الآن، حسنًا، إنه إنما يفعل ذلك لخيركم أيضًا. فيا له من مدينٍ، ليس ككثيرين يرغبون هكذا ببساطة أن يردوا ما اقترضوه من دين، بينما الرب يدبر كل شيء، لاستثماره في أمانٍ لأنه قرض مُعطى للرب. لهذا كما ترون يسدد بعضه هنا ويؤجل الدين للبعض الآخر.

لا تجبن عن أن تنقذ إنسانًا الظالم والمظلوم

14. وإذ نعلم هذه الأمور، فلنرحم بسخاء ووفرة، ولنقدم دليلاً على محبتنا الكثيرة للإنسان باستخدام أموالنا تارة، وأفعالنا تارة أخرى، فإن رأينا إنسانًا تُساء معاملته ويتلقى الضرب في ساحة السوق، فإن كنا نقدر على سداد الدين عنه فلنفعل. وإن كنا نقدر بالكلمات وباللسان أن نفض المشاجرة، فلا نجبن. فحتى الكلمة لها مكافأة، وما أكثر الكلمات التي ترفع التنهدات، حسبما يقول المطوَّب أيوب: "ألم أبكِ لكل متعثر، ألم أتنهد حين رأيت إنسانًا في ضيقة" (أي 30: 25 LXX).
لكن إن كانت هناك مجازاة للدموع والتنهدات، وللكلمات أيضًا، والاجتهاد الدؤوب وأعمال أخرى نضيفها، تكون المكافأة عظيمة جدًا. أجل، إذ كنا نحن أيضًا أعداءً لله، فصالحنا الابن الوحيد، طارحًا نفسه في الوسط متلقيًا عنا الجلدات والضربات ومحتملاً الموت لأجلنا.
فلنفعل نحن مثله، فنجتهد أن نخلصهم من شرور أصابتهم بغير حصر، وليس كما نفعل الآن، حين نرى البعض يمزقون ويضربون بعضهم أعمال، فنقف مكتوفي الأيدي. نتلذذ باحتقار الآخرين، صانعين حلقة "فرجة" شيطانية حولهم. إنه مشهد في منتهى القسوة حين ترون أشخاصًا يتخاصمون ويتنازعون، ويمزقون بعضهم بعضًا ويقطعون ملابسهم، ويلكمون وجوه بعضهم بعضًا، ورغم ذلك تحتملون مشاهدة هذا الشجار في هدوء؟ ما هذا؟ هل الذي يتصارع أمامكم دب؟ حيوان مفترس؟ حيَّة؟ إنه إنسان، شريك لكم في كل شيء، أخوكم في عضويته معكم (قابل أف 4: 25). فلا تقفوا متفرجين، بل فضوا المشاجرة، لا تتلذذوا بها، بل بالحري فرقوا المتجمهرين.
إن المتلذذين بهذه الفرجة هم من السادة والعبيد، يرفضون شركة المصالحة لأسباب واهية، أقول لكم هل إذا رأيتم إنسانًا يسلك بعدم لياقة، لا يعنيكم سلوكه – وكأن الأمر لا يعنيكم - ألا تتدخلون وتمزقون قوات الشيطان وتضعون حدًا لمشقات مثل هذا الإنسان؟
ورُبَّ سائلٍ: "ربما تلقيت أنا نفسي بعض اللكمات"، هل هذا هو تبريرك لعدم مشاركتك؟ ألا تقبل هذه المعاناة أيضًا. ألا تعلم أنك إذا احتملت آلام الآخرين، حُسب احتمالك هذا نوعًا من الاستشهاد. لأنك تتألم لأجل الله. فإن كنت متباطئًا في تلقي الضربات تذكر أن ربك لم يبطئ في تحمل آلام الصليب لأجلك. فالمتنازعون سكارى يسيرون في ظلمة، قد أعمى الغضب مشاعرهم، فسادَ عليهم وطغى، يحتاجون إلى سليم العقل ليساعدهم. ففاعل الشر والواقع عليه الأذى، كلاهما في حاجة إلى عون وتقويم: الأول حتى يكف عن شره والثاني حتى نخلصه من آلامه ومعاناته.
اقتربوا إذن، مدوا أيديكم أيها المنتبهون لنفوسكم لمساعدة ذلك الغافل كالسكير لأنه تحت سيطرة غضب أخطر من سكر الخمر. ألا ترون البحارة حين يواجهون حادثة تحطم سفينتهم، يفردون قلاعهم ويستعدون بأقصى سرعة لإنقاذ زملائهم من نفس المهنة من خطر الأمواج العاتية، فإن كان أبناء المهنة الواحدة هكذا يهتم بعضهم ببعض، فكم بالأكثر يكون واجب المشتركين في نفس الطبيعة أن يفعلوا كل هذه الأمور، لأننا هنا أمام سفينة محطمة فعلاً، تتعرض لخطر أكبر من ذاك، أمام إنسان تحت ثورة الغضب والاستفزاز يجدف ويلعن، ويطرح كل شيءٍ ويلقيه أرضًا، أو تحت ثورة الغضب يحلف كذبًا، وهو طريق يقود إلى جهنم. أو أن يضرب ضربته ويقترف جريمة القتل، فنراه كالذي يعاني من حطام سفينته.
انطلقوا إذن وضعوا حدًا للشر، أنقذوا الغرقى. حتى إذا نزلتم إلى أعماق الأمواج الهائجة تحطمون مسرح الشيطان، وتعزلون كل واحدٍ بمفرده، وتنصحونه أن يخمد نيران الغضب وأن يهدئ من ثورة أمواجه.
وحتى إن بَدت كومة النار مشتعلة بنار شديدة، وبدأ الأتون مشتعلة بضراوة، لا تخافوا ولا تفزعوا! لأن معكم كثيرين يهرعون لمساعدتكم. فابسطوا أيديكم وأنتم في بداية النزاع، وإله السلام يكون معكم قبل كل شيء. فإن بدأتم في إخماد النيران أولاً، فإن كثيرين آخرين أيضًا سيحذون حذوكم وتنالون أنتم مكافأة أعمالهم الحسنة. اسمعوا السيد المسيح وهو يوصي اليهود والذين كانوا يزحفون علي الأرض لنجدة حمار: "إذا رأيت حمار عدوك واقعًا تحت حمله لا تعدل عنه، بل ارفعه" (خر 23: 5).
وعليكم أن تدركوا أن الفصل بين شخصين متنازعين ومصالحتهما، لهو أهون كثيرًا من حمل حمار ساقط. فإن كان لزامًا علينا المساعدة علي رفع حمار عدوّنا، فكم بالأحرى نفوس أصدقائنا، وكم بالأحرى يكون سقوط المتخاصمين عظيمًا لأن أولئك لا يسقطون في الأوحال - بل في نيران الجحيم - غير حاملين أثقال غضبهم، فأنتم حين ترون أخاكم ساقطًا تحت الثقل والشيطان واقف بجواره يزكي نيران الكوة، فإنكم تجرون هاربين، في قسوة وبلا رحمة.
وهو تصرف ليس من الأمان فعله، حتى إن اختص الأمر بضرر واقع علي حيوانات ضارية، فالسامري الصالح حين رأى إنسانًا جريحًا لا يعرفه ولا يمت له بصلة قرابة لا من بعيد ولا من قريب، وقف وحمله علي حمارٍ، وأتى به إلي بيتٍ، إلى حانةٍ، واستأجر طبيبًا، وأعطاه بعض النقود ووعده بالمزيد، أما أنتم فترون إنسانًا لا يسقط بين لصوص، بل بين براثن عصابة من الشياطين قد استشاطوا غضبًا، وليسوا في برية، بل في وسط ساحة ولستم مضطرين إلى دفع نقود لفض النزاع، ولا إلى استئجار حمار، ولا أن تأتوا به عبر طريق طويل، بل أن تقولوا فقط بضعة كلمات: فهل تحجمون عن فعل ذلك؟ هل تمتنعون وتفزعون في قسوة وبلا رحمة؟ هل تظنون أن الله ليس هو صانع الخيرات؟
كيف انقلبتم إلى حيوان مفترس؟
15. لكن دعوني أخاطبكم فإنكم تجلبون علي أنفسكم الخزي هكذا علنًا، وأن أخاطب كل من يسلك سلوكًا مزريًا تشوبه الأخطاء. هل توجهون اللكمات؟ اخبروني، وهل تركلون بالأرجل وتعضون غيركم؟ هل أصبحتم خنزيرًا بريًا متوحشًا أو حمارًا بريًا؟ ألا تخجلون من أنكم انقلبتم إلى حيوان مفترس، وأنكم تخونون شرفكم الخاص؟ فبالرغم من أنكم فقراء، فأنتم أحرار. وبالرغم من أنكم أُجراء فأنتم مسيحيون.
كلا! بل لأنكم فقراء وجب عليكم أن تكونوا مسالمين، لأن التقاتل من طبع الأغنياء لا الفقراء. فإن الأغنياء أكثر من سبب يدفعهم إلى الصراع، أما أنتم فلا تعانون من ملذات الغنى، ولكنكم تنشغلون بجمع شرور الثروة والعداوة والمنازعات فتخنقون أخاكم من حلقه، وتحاولون شنقه، وتطرحونه أرضًا هكذا علنًا أمام الناس جميعًا، أفلا تظنوا أنكم بهذا تجلبون الخزي علي أنفسكم حينما تقلدون نزعة العنف عند البهائم، بل هذا أسوأ إذ تشتركون معًا في صفات وسلوكيات القطيع من فوضى ومشاجرات وصراعات ومنافسات وعداوة وإهانات، فلا نوقر السماء التي تتجه إليها دعوتنا جميعًا، ولا الأرض التي وهبها الرب لنا كلنا مجانًا بلا ثمن، ولا نُكرم طبيعتنا كبشرٍ، بل نغضب حين يكتسح حب المال كل ما نملك.
ألم تروا الذي ملك المواهب بغير حصر ولكنه مدين، وحينما سومح عن ذلك الدين خنق الخادم زميله بسبب مبلغ زهيد (مائة وزنة)، وكان شره عظيمًا فعوقب عقابًا أبديًا. ألا ترتعدون من هذا المثل، ألا ينتابكم خوف خشية أن يقع عليكم نفس الأمر، لأننا نحن أيضًا مدينون لربنا بديون هذا عددها، ومع ذلك فإنه يسامحنا ويتأنى طويلاً ولا يضايقنا، مثلما نفعل مع أتباعنا ورفقائنا، فلا يخنقنا ولا يمسك برقابنا، بل يسعى ليصلح فينا ولو أصغر عضوٍ أفسدناه.

اعفوا عن المدينين!

16. هيا أيها الأحباء - ونحن مفتكرون في هذه الأمور - أن نتواضع وأن نكون شاكرين للمدينين إلينا. لأننا إن عاملناهم برفق، تصير لنا فرصة اغتنام صفح وخير. وإذ نعطي قليلاً، نأخذ كثيرًا.
فلماذا نلجأ إلي العنف؟ رغم أن الآخرين مستعدون للسداد، بينما في استطاعتكم مسامحتهم لنوال كل الدين من الله. لكنكم تلجأون الآن إلى العنف والمخاصمات الكثيرة، فلا تسامحون فيما لكم من ديون. وتفتكرون في احتقار جيرانكم فيقع السيف علي رقابكم أنتم، وتزداد عقوبتكم في الجحيم، بينما لو أظهرتم جميعًا قليلاً من ضبط النفس هنا لجعلتم حسابكم يسيرًا. لأن الله يريدنا حقًا أن نكون أُمناء في هذا النوع من الخير، ليكافئنا بزيادة في حينه.
فإن كان لكم كثيرون مدينين بمالٍ أو بتعديات، أسقطوها كلها، واطلبوا من الله أن يعوضكم عن شهامة أعمالكم، لأنهم إن ظلوا مدينين لكم طويلاً، يكون الله أيضًا مدينًا لكم، لكن إن أطلقتموهم تحتجزون الله لديكم، وتطلبون منه التعويض العظيم المقدار عن ضبط النفس.
لأنه إن افترضا أن إنسانًا جاء وراءكم وأنتم تلقون القبض علي أحد المدينين لكم، وطلب منكم أن تعتقوا وتأخذوا الدين منه شخصيًا، مظهرًا أنه عادل يريد نقل حساب الدين عليه، فكيف لا يقدر الله أن يعوضنا مئة ضعف، بل أكثر من هذا بكثير لأجل وصيته، إن كان أحد مدينًا لنا ولم نشتكيه مهما كانت قيمة الدين كبيرة أو صغيرة، بل نعفيه من كل ما عليه من ديون؟
فلا تفكروا إذن في تلك الفترة الوقتية التي تنالونها حين تسوُّون ديونكم، بل بالحري، نفكر في فداحة الخسارة التي نتكبدها في الحياة الأخرى، فنؤذي نفوسنا بشدة فيما يخص الأمور الأبدية. ولكن إن ارتفعنا فوق الجميع، فلنسامح الذين يجب عليهم سداد الديون لنا، من أموال أو إساءات حتى نجعل من حسابنا حساب صفح وتسامح.
وما لا نقوى على فعله بالفضيلة، نناله إذا كنا لا نحمل أية ضغينة ضد أحد جيراننا، فننعم بالبركات الأبدية، بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين

العظة السادسة عشرة

3. الناموس القديم وناموس ربنا يسوع المسيح

"لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء" [ع17]
لماذا يقول ذلك؟ هل ارتاب أحد في الرب؟! أو من اتهمه حتى يدفع عنه هذا الاتهام؟ وهل ساور الناس الشك بسبب ما قيل قبلاً. كيف هذا؟ وهو يوصي الناس بالوداعة والتواضع والرحمة ونقاوة القلب والجوع والعطش لأجل البرّ. فهل يدل ذلك على مثل هذا الشك، أم أن العكس هو الصحيح، ولأي سبب يا ترى يقول ذلك؟ هناك سبب جدٍ معقول:
فهو مزمع أن يشرِّع لوصايا أعظم من وصايا العهد القديم قائلاً: "قيل للقدماء لا تقتل، أما أنا فأقول لكم لا تغضبوا"، وحتى يمهد لهم الطريق إلى حديث إلهي سماوي، وحتى لا تضطرب نفوس السامعين لغرابة ما يسمعونه ولئلا يتمردوا ضد ما يقوله، اتبعَ هذه الوسيلة ليعدهم إعدادًا جيدًا سلفًا.
فعلى الرغم من أنهم لم يكملوا الناموس فإن وعيهم مسودٌ من الناموس تمامًا. وبينما يقاومون الناموس كل يوم، كانوا يتمسكون بحرفيته، ولا يبدلونه أبدًا. وحتى لا يضيف أحد إليه أي شيء جديد، فإنهم ربما كانوا يدفعون رؤساءهم أن يضيفوا المزيد لا للأفضل بل للأسوأ. لأنهم هكذا اعتادوا أن يتخلوا عن الكرامة اللائقة بآبائنا بإضافاتٍ من عندهم، بل كانوا يتحررون من كثير من الأمور الموصى بها (مر 7: 11–13)، بإضافات في غير محلها. ولأن المسيح في المقام الأول لم يكن من السبط الكهنوتي، ولأن الأمور التي كان مزمعًا أن يقدمها كانت بمثابة إضافات، لا تقلل بل تزيد من الفضيلة، وإذ كان يعلم بسابق علمه أن تلك الأمور ستزعجهم، وقبل أن يدوِّن في أذهانهم هذه القوانين العجيبة، طرح أولاً ما تراكم عندهم من أمور ماضية، فما هو ذلك الشيء الراكد الذي كان يشكل عقبة؟

2. لقد ظنوا أنه يتكلم هكذا بغرض إلغاء أو نقض القوانين القديمة، لهذا راح يعالج شكهم هذا في كل مناسبة. فحين حسبوه مقاومًا لله، إذ بحسب ظنهم لم يحفظ السبت، وحتى يعالج ارتيابهم فيه كان يعلل ما يقول بأسباب تليق بشخصه وطبيعته مثلما يقول: "أبي يعمل... وأنا أعمل" (يو 5: 17)، وبعض أعماله تلك كانت أعمال تنازل وعطف، مثلما كان يأتي بالخروف الضال في يوم سبت (مت 12: 11) مشيرًا إلى أن عمله هذا لا يؤثر في حفظ السبت، فذكر لهم الختان كأمر له نفس التأثير (يو 7: 23).
حرصه أن يزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم لله
لذلك نجده في أحوال كثيرة ينطق بكلمات أدنى من مرتبته، ليزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم لله. ولهذا السبب فإن الذي أقام آلاف الموتى بكلمة واحدة منه، وحتى قبل أن ينادي على لعازر من القبر، صلى، ولئلا يظهر لهم وكأنه أدنى من الآب، وحتى يصحح هذا الشكل أضاف "قلت ذلك... لأجل هذا الجمع الواقف ليؤمنوا أنك أرسلتني" (يو 42: 11)، ولم يكن يعمل كل الأعمال كواحدٍ يعملها بقدرته الذاتية، حتى يقوِّم ضعفهم بشكل صحيح، ولا كان يفعل كل شيء بالصلاة، لئلا يترك في قلوبهم ارتيابًا شديدًا من جهته، وكأنه مجرد من القوة والسلطان، وكان يمزج هذا بذاك. بحكمة لائقة بشخصه، لأنه وهو يصنع الأعمال العظيمة بسلطانه كان يرفع عينيه نحو السماء.
هكذا حين كان يغفر الخطايا، ويعلن عن أسراره، ويفتح الفردوس ويطرد الشياطين، ويطهر الأبرص ويقيد الموت، ويقيم الموتى بالآلاف. كان يفعل كل ذلك بسلطانه وأمره، لكنه في أمور أقل من هذه بكثير حين كان يبارك الخبزات القليلة لتصبح كثيرة بوفرة، كان يرفع عينيه إلى السماء مشيرًا إلى أنه لم يكن يفعل ذلك عن ضعف، لأن الذي يقدر أن يحقق عظائم الأمور بسلطانه، كيف يصلي في الأمور الأقل؟ ومثلما كنت أقول لكم أنه يفعل ذلك ليخرس خزيهم، وأنا أطلب منكم نفس الشيء حيال كلماته عن الأمور الصغيرة. ومن حيث كلامه أو أعماله فإن هناك أسبابًا كثيرة نُعللها.
فمثلاً لا يليق بنا أن نعتبره غريبًا عن الله من حيث تعليمه وانتظاره للناس كلهم، ومن حيث تعليمه التواضع. ومن حيث أخذه جسدًا، وعدم قدرة اليهود سماع كل ذلك في الحال، وتعليمه لنا ألا نتحدث عن أنفسنا بكبرياء، ولهذا السبب عينه كان في كل الأوقات يتكلم بتواضع عن نفسه، أما عظائم الأمور فكان يترك للآخرين مهمة الحديث عنها. و في حديثه إلى اليهود والرد علي مجادلاتهم كان يقول: "قبل إبراهيم أنا كائن" (يو 8: 58).
أما تلميذه فكتب يقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1:1). وأيضًا هو نفسه الذي خلق السماوات والأرض والبحر، وما يُرى وما لا يُرى، فإنه لم يكن يعبر شخصيًا أو بذاته عن ذلك في أي موضع، لكن تلميذه كان يقولها بصراحة، ولم يخفِ شيئًا، وكان يؤكد ذلك المرة تلو المرة أن: "به كان كل شيءٍ، وبغيره لم يكن شيء مما كان، وأنه كان في العالم وكُوِّن العالم به" (يو 3: 1-10).
ولا نتعجب أن كثيرين آخرين قالوا عنه أمورًا أعظم من التي ذكرها هو عن نفسه في كل الأحوال. فما أظهره بأعماله وكلامه لم يجاهر به علانية. فالذي خلق كل البشر أظهر ذلك بكل وضوح مع المولود أعمي، لكن في حديثه عن خلقتنا في البدء لم يقل أنا صنعت بل قال: "الذي خلق من البدء، خلقهما ذكرًا وأنثى" (مت 19: 4). والذي خلق العالم كله بكل ما فيه من موجودات، أظهر ذلك باستخدامه الأسماك والخمر. والأرغفة (أرغفة القمح) وإسكات البحر وشعاع الشمس الذي سلطه علي عود الصليب، وأمور أخرى كثيرة لكنه لم يقل ذلك صراحة في أي موضوع تكلم فيه. مع أن تلاميذه ظلوا يعلنون ذلك باستمرار. هكذا فعل يوحنا وبولس وبطرس. وهم الذين كانوا يسمعون عظاته ليل نهار. ويرونه وهو يصنع المعجزات، وهم الذين شرح لهم الرب كل شيء علي انفراد ووهبهم قوة عظيمة لإقامة الموتى، وجعلهم كاملين، حتى تركوا كل شيء لأجله وتبعوه. فإن هؤلاء وحتى بعد أن مارسوا أعظم الفضائل في إنكار ذات، ولم تكن لديهم القدرة علي الشهادة بذلك، قبل حلول الروح القدس عليهم، فكيف يمكن لليهود العديمي الفهم البعيدين كل البعد عن هذا السمو، أن يقتنعوا بكلامه، ولا يزعمون أنه غريب عن الله، وهم كانوا حضورًا بلا ترتيب وعن غير قصد حين كان يقول أو يفعل شيئًا. إن لم يكن قد قصد هو عمليًا أن يمارس التواضع في كل حين، وكان تواضعه عظيمًا.
وعلى هذا الأساس نرى حتى وهو يبدو لهم أنه يكسر السبت، لم يأتِ بمثل هذا التشريع وكأنه عن عمدٍ مقصودٍ، بل يضع معه العديد من الأسانيد للدفاع عن الحق، فحين كان يوشك أن يلغي وصية ما، كان يتحفظ كثيرًا في كلامه حتى لا يربك السامعين. بل أكثر من ذلك أنه حين كان يضيف إلى الناموس السابق، تشريعًا أو قانونًا آخر كان يريد أن يظهر منتهى الانضباط، والانتباه، وليس فقط بغرض إنذار سامعيه، ولهذا السبب عينه، لا نراه يعلِّمُ في أي مكان بوضوح حول لاهوته، لأنه إن كانت إضافته للناموس تحيرهم كثيرًا - وهذا مؤكد – فكم بالحري إعلانه عن نفسه أنه هو الله.

3. لهذا السبب، نطق المسيح بأمور كثيرة، أدنى بكثير من الكرامة التي تليق به. وهنا وإذ يوشك أن يضيف إلى الناموس، أدخل عددًا وفيرًا من التصحيحات مسبقًا، فهو لم يقل إنه "لا يريد أن ينقض الناموس" مرة واحدة وكفى، بل كان يكرر هذا القول مرات عديدة، بل وأضاف شيئًا آخر أعظم، فعند قوله: "لا تظنوا إني جئت لأنقض"، أردف قائلاً: "ما جئتُ لأنقض بل لأكمل"، وهكذا أوقف عناد اليهود وسد أفواه الهراطقة الذين يقولون إن العهد القديم هو من الشيطان. لأنه إن كان المسيح قد جاء ليحطم طغيان إبليس، فكيف يبيد القديم، بل أن يكمِّله. لأنه لم يقل فقط: "أنا لا أنقضه" وكان يكفيهم هذا القول، بل يقول "بل لأكمل" وهي كلمات إنسان لا يناقض نفسه بل بالحري لديه كل الثقة فيما يقول. ورب سائلٍ: وكيف لا ينقضه؟ وما البرهان على أن الرب قد أكمل بالأحرى كلاً من الناموس والأنبياء!

قد أكمل الرب الأنبياء بقدر ما أكمل من أعمال أيدت كل ما قيل عنه "بالأنبياء"، حيث اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل ما يجرى بواسطة الرب، "لكي يتم ما قيل بالأنبياء" وذلك حين وُلدِ (مت 1: 22-23)، وحين ترنم الأطفال له الترنيمة العجيبة عندما امتطى ظهر الأتان (مت 21: 5–16). وفي مناسبات عديدة أكمل أمورًا سبق التنبؤ بها والتي لم تكن لتتحقق كلها لولا مجيئه في الجسد0
أما الناموس فقد أكمله بعده طرق: إنه لم يتعدَّ أية فريضة في الناموس، بل أكمل الناموس كله0
اسمعوا ما يقوله ليوحنا المعمدان "يليق بنا أن نكمل كل برّ" (مت 3: 15) ويقول لليهود أيضًا "من منكم يبكتني على خطية" ( يو 8: 46) ويقول لتلاميذه كذلك "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيِّ شيء" (يو 14: 30) وقال النبي عنه منذ القديم: "أنه لم يعمل خطية" (إش 53: 9). وهذا كله جانب واحد من جوانب إكماله للناموس.
أما الجانب الآخر فقد أتم الناموس فينا، وهذا هو العجيب في أنه ليس هو نفسه فقط الذي أكمله، بل منحنا هذا بالمثل. وهو ما يعلنه بولس الرسول قائلاً: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن" (رو 10: 4)، وقال أيضًا: "دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس بحسب الجسد" (رو 3: 8-4)، ثم قال: "أنبطل الناموس بالأنبياء، حاشا، بل نثبت الناموس" (رو 3: 31) لأن الناموس كان يهدف إلى أن يتبرر الإنسان، ولما لم تكن له القدرة على ذلك، جاءنا الرب عن طريق الإيمان، فأسس ما أراده الناموس وما لم يستطعه الناموس حرفيًا، أتمه المسيح بالإيمان، وعلى هذا الأساس يقول: "لم آت لأنقض الناموس".

4. لكن إذا سأل إنسان بإمعان أكثر، فسنجد معنى آخر في سياق الأمر، خاص بقول المسيح: "ما جئت لأنقض بل لأكمل"، فما هو هذا المعنى وما هو مفهوم الناموس المستقبل الذي يوشك المسيح أن يسلمه لهم؟ لأن أقواله لم تكن نقضًا للسابق، بل امتدادًا له حتى الكمال، فمثلاً وصية "لا تقتل" لم ينقضها بقوله "لا تغضب" بل أكملها بالحري، إذ وضعها في صيغة أكثر أمنًا. وهكذا الحال بالنسبة للوصايا الأخرى.
هكذا ترون أنه كما سبق وطرح بذار التعليم دون ما شك، حتى إذا ما جاء الوقت الذي فيه يقارن بين الوصايا القديمة والجديدة ويتعرض للشبهة أنه وضعها متناقضة! فقد سبق فوضع النتيجة النهائية لصياغة الوصية القديمة بعد تكميلها بالجديدة، فقد نشر الرب قبلاً هذه التعاليم ٍبشكل سري مخفي: فمثلاً عندما قال: "طوبى للمساكين" كانت هي نفسها – وإن كانت بصورة أخرى – عندما طالبنا أن لا نغضب. و"طوبى لأنقياء القلب" تعادل "لا تنظر إلى امرأة وتشتهيها في قلبك"، ووصية النهي عن "كنز كنوزنا في الأرض" تتطابق مع "طوبى للرحماء". فالحزن وقبول الاضطهاد والطرد والتعيير تتفق كلها مع "الدخول من الباب الضيق"، و "الجوع" و "العطش" من أجل البرّ هو نفس ما قاله الرب فيما بعد: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوه أنتم أيضًا بهم" (مت 7: 12).
وعندما أعلن الرب "طوبى لصانعي السلام" كان يعني نفس الشيء عندما أوصى أن يترك المسيحي "قربانه على المذبح" ليتصالح مع أخيه الذي أحزنه، وأن "يتراضى مع الخصم".
وإذا كان في بداية عظته قد بدأ بوضع المكافأة لمن يعملون الصلاح، فكما قال في ذلك الموضع: "الودعاء يرثون الأرض" هكذا هنا يقول: "من قال لأخيه يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم" وهناك قال: "أنقياء القلب يعاينون الله" وهنا يعتبر كل من نظر نظرة شهوانية بغير تعفف زانيًا بالفعل. وإذ قال هناك "إن صانعي السلام يدعون أبناء الله" فإنه يحذرنا هنا من خطر الوقوع في يدي الخصم لئلا يسلمنا إلى الحاكم.
وهكذا أيضًا مثلما يبارك ويطوِّب الحزانى والمضطهدين، نراه في المرة التالية وهو يؤسس نفس التشريع، يهدد بالهلاك أولئك الذين لا يسلكون الطريق الضيق، بل يدخلون من الباب الواسع، حيث يلقون في النهاية حتفهم. وحين يقول: "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" يؤكد نفس المعنى السابق في قوله "طوبى للرحماء" و "طوبى للعطاش والجياع إلى البرّ".
وكما قلت، ولأن الرب مزمع أن يوضح تلك الأمور لهم أكثر، بل ولكي يضيف إليها المزيد؛ لأنه لم يعد يطلب من الإنسان أن يكون رحيمًا فحسب، بل طالبنا بالأكثر، أن نعطي ثيابنا، ولا يطلب أن يكون الإنسان وديعًا فحسب، بل أن نحول خدنا الآخر لمن لطمنا على خدنا الأول، لهذا يبدأ أولاً في إزالة أي تناقض ظاهري "لا تظنوا إني جئت لأنقض"، ثم يضيف: "ما جئت لأنقض بل لأكمل".
تكميل الناموس كله
"فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" [ع18]. وكأنه يقول هكذا:
لا يمكن أن يبقى شيء ما من أمور الناموس متروكًا هكذا دون تكميل، بل لابد أن يتحقق ولو أدنى شيء فيه، وهو نفس الشيء الذي فاه به هو ذاته وأكمله بنفسه بمنتهى الدقة. وهو هنا يشير سرًا إلى زوال هيئة العالم كله، وتغييرها إلى الأكمل، وإنه لم يقل شيئًا بغير قصد ولغرضٍ سامٍ يقدم على تشريع عهد آخر جديد طالما أن نظام الخليقة كلها سوف يتغير، وهذا شيء لا يقارن بدعوة البشرية كلها إلى وطن آخر جديد تُمارس فيه حياة أكثر سموًا وكمالاً.

5. "فمن ينقض إحدى هذه الوصايا الصغرى، وعلّم الناس هكذا، يُدعى أصغر في ملكوت السماوات" [ع19]
وإذ يخلصهم من شرور الشك ويسد أفواه المعارضين، يستمر في تحذيراته الشديدة تدعيمًا للوصايا المُقدم على تشريعها. وهو يقول ذلك لا نيابة عن النواميس القديمة بل لأجل الذي يخاطبهم من أجل تفاعلهم معها وتحقيق الوصايا الكاملة. فأنصتوا لما يلي:
"فإني أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 5: 20). لأنه إن كان يقصد إلغاء ونقض ناموس العهد القديم، كيف يقول: "إن لم يزد بركم على..." لأن من يفعل نفس ما فعله القدامى لا يمكن أن يكون برّه زائدًا عنهم، فما هو المطلوب؟

ألا نغضب؟!
ألا نشتهي امرأة ما شهوة رديئة؟!
فإنه لأي سبب يا ترى يسمّي تلك الوصايا القديمة "الأصغر" رغم عظمتها وسموها؟ ذلك لأنه هو نفسه كان مزمعًا أن يُظهر لهم تحقيقه لنفس الوصايا. فكما وضع هو نفسه - وكان يتحدث عن ذاته بمقدار - هكذا كان يفعل بالنسبة لما يشرِّعه من قوانين، فحين علمنا أن نتواضع في كل شيء، وإذ استشعر شكًا ما حول هذه الوصية الجديدة، كان يتحفظ في كلامه بعض الشيء. لكن إذا سمعتموه يقول: "الأصغر في ملكوت السماوات" لا تفتكروا في الجحيم والعذابات، لأنه اِعتاد أن يقصد بكلمة "ملكوت" لا التنعم هناك فقط، بل أيضًا ما يحدث في يوم القيامة عند مجيئه المخوف. فكيف يمكن أن يُعقل أن من يدعو أخاه أحمق ويخالف وصية واحدة، ينزل إلى الجحيم؟ بينما من يكسر الوصايا كلها ويخالفها قد يدخل الملكوت؟ كلا، ليس هذا ما يعنيه أبدًا، بل إن مثل هذا الإنسان سيكون بمثابة "الأقل أو الأصغر" في ذلك الزمان. أي يعني أنه سيُطرح في النهاية خارجًا. وبالتأكيد أن الأخير سوف يُطرح في الجحيم: لأن السيد المسيح هو نفسه الله الذي يعرف بسابق علمه رخاوة الكثيرين، ويعرف مسبقًا أن البعض سوف يظنون أن أقواله مغالى فيها!
ولهذا هم يجادلون في الناموس قائلين:
ماذا لو أن أحدًا دعا آخر يا أحمق، هل يُعاقب؟ وإذا نظر شخص مجرد نظرة إلى امرأة، هل يصبح زانيًا؟ ولهذا السبب عينه، وحتى يستأصل كل تمردٍ على وصاياه، يضع مسبقًا أقوى تحذير ضد كل من يتعدى الوصية فيُعثر الآخرين.

من عمل وعلَّم

وإذ نصرف نحن بما يتحدونا إذا خالفنا وصاياه، فلنكف عن هذه المخالفة. وأن نمتنع عن إحباط همم حافظي الوصايا. والرب يقول: "لكن من عمل وعلَّم، فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات". لأنه لا يليق بنا أن ننفع أنفسنا فحسب، بل أن ننفع الآخرين أيضًا. لأن من يقود آخرين معه تعظم مكافأته، لأنه مثلما يدين المعلم أن يعلم دون أن يعمل بتعاليمه حسب المكتوب: "فأنت الذي تُعلم غيرك، ألست تُعلم نفسك" (رو 2: 21). هكذا من يفعل ذلك دون إرشاد الآخرين تنقص مجازاته جدًا. وعلى الإنسان إذن أن يكون متميزًا في العمل، لكي يصوِّب نفسه بنفسه، ثم يتقدم برعاية الآخرين وخدمتهم. على هذا الأساس شدد المسيح على العمل قبل التعليم، ليؤكد أنه إن كان هناك من يقدر على تعليم الناس كلهم فلا سبيل أن يفعل ذلك، قبل أن يعمل أولاً بما يعلِّمه. حتى لا يقول له أحد: "أيها الطبيب اشف نفسك" (لو 4: 23).
لأن الذي لا يستطيع أن يُعلِّم نفسه، ومع ذلك يحاول أن يقوِّم آخر سيسخر منه كثيرًا، ولن تكون لهذا الإنسان قدرة على التعليم على الإطلاق، فأعماله تناقض كلامه. لكنه إن كان كاملاً في الأمرين معًا "سوف يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات".

 

سمعان الاخميمى

صحفى المنتدى
إنضم
4 أغسطس 2009
المشاركات
12,695
مستوى التفاعل
1,087
النقاط
0

برَ الناموس

6. "فإني أقول لكم، إنكم إن لم يزد برّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 5: 20)

يعني الرب بالبرّ هنا كل فضيلة، مثلما كان يتحدث عن أيوب أيضًا فقال: "كان بلا لوم، رجلاً بارًا" (راجع أي 1: 1). وبنفس هذا المعنى، يدعو القديس بولس أيضًا ذلك الإنسان الذي لم يوضع لأجله ناموس بارًا. إذ يقول: "إن الناموس لم يوضع للبار" (1 تي 1: 9). وفي مواضع أخرى كثيرة نجد أن كلمة برّ تشير إلى كل فضيلة عمومًا.
لكن لاحظوا أرجوكم، تسامي النعمة في أن "الرب" يجعل تلاميذه القادمين حديثًا أفضل من معلمي العهد القديم، لأنه يعني "بالكتبة والفريسيين" هنا ليس فقط الذين بلا ناموس، بل فاعلي الصلاح، لأنهم لولا إنهم يعنون الخير ما قال عنهم إن لهم برًا، ولا قارن البرّ الحقيقي بغير الحقيقي.
لاحظوا أيضًا هنا، كيف يأمر بالناموس القديم بعقد مقارنة بينه وبين ناموس آخر حيث يذكر أمورًا تتفق مع نفس السبط ونفس الجنس، حتى يكون تقريبًا على نفس الدرجة، فهو كما ترون لا يجد في الناموس القديم أي خطأ، بل يجعله أكثر حزمًا، لأنه لو كان الناموس القديم شريرًا لما طلب مزيدًا منه، ولا جعله أكثر كمالاً، بل لكان قد نزعه ونقضه. ورُبّ قائل يقول: "فإن كان الناموس بهذا القدر، فلماذا لا يستطيع - أي الناموس - أن يدخلنا الملكوت؟"
نعم لا يقدر الناموس أن يفعل ذلك بعد مجيء السيد المسيح، إذ يصبح الذين يعرفون المسيح أكثر تذوقًا لمزيد من القوة، وأكثر جهادًا لتحقيق مزيد من الصلاح. فكما كان الناموس القديم يصنع بأبنائه السابقين، هكذا الجديد يأتي إلينا بالمسيح الكامل. إذ يقول السيد المسيح: "إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتَّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب" (مت 8: 11). ويقبل لعازر أيضًا الجُعالة العليا، إذ تراه في حضن إبراهيم. وكل الذين أظهروا في التدبير القديم سُموًا ورفعة، يستضيئون بالناموس. فلو كان الناموس شريرًا أو غريبًا عن المسيح نفسه، لما أكمله حين جاء. لأنه لو كان يفعل ذلك لجذب اليهود فقط، وليس لكي يبرهن أنه صاحب الناموس الجديد ومكمله أيضًا، لكان قد تمم نواميس وعادات الأمم ليجذبهم هم أيضًا؟
واضح إذن من كل الاعتبارات أن الناموس فشل في أن يأتي بنا إلى الملكوت، لا لشر فيه أو عيب، بل لأن الوقت الآن هو وقت الوصايا العظمى. وإن كان الناموس أقل كمالاً من الجديد، فليس هذا بسبب شر فيه، وإلا كان الجديد يحسب هذا المبدأ هو شر أيضًا. لأن معرفتنا الآن، إذ ما قورنت بما هو عتيد وآتِ هي في الحقيقة معرفة ناقصة وجزئية، بل وتزول متى جاء الجديد، إذ يقول الرب على لسان بولس الرسول: "متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض" (1 كو 13: 10). ومثلما يحدث للقديم متى حل الجديد، هكذا نحن أيضًا لا نلوم الناموس الجديد لأنه يدبر لنا أيضًا موضعًا في الملكوت، إذ يقول المسيح: "فحينئذٍ يبطل البعض (أو الجزء)". لكننا ندعوه عظيمًا لأن المجازاة أيضًا أعظم، والقوة التي يمنحها الروح هي قوة أوفر، وتتطلب أن تكون أعمالنا المُرضية أعظم أيضًا. إذ لم يعد أمامنا الآن "الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً"، ولا العهد القديم المعزِّي والمريح، ولا كثرة النسل والأولاد، ولا القمح والخمر، وقطعان الماشية، بل السماوات بوفرة خيراتها، والتبني الذي لنا بالابن الوحيد، وشركة ميراث المجد والجلوس مع الرب في عرشه. وبتلك المكافآت التي لا حصر لها ولا يُحصى لها عدد، وإذ نقبل عونًا أوفر، فلنسمع بولس الرسول يقول: "لا شيء من الدينونة الآن، على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح.... لأن ناموس روح الحياة... قد أعتقني من ناموس الخطية والموت" (رو 8: 1-2).


الغضب والقتل

7. بعد تحذير الرب للمتعدين علي وصاياه، وبعد كشفه عن المجازاة العظيمة للذين يفعلون الصلاح، وبعد أن أشار إلى أنه يطالبنا بمعايير تفوق تلك المعايير القديمة، يبدأ السيد الرب منذ تلك اللحظة في التشريع لوصايا جديدة، ليس بطريقة مقارنة بسيطة هكذا مع الوصايا القديمة، بل وحتى يحببهم في كلا الأمرين، وحتى لا يتعارض تشريعه مع الناموس السابق، بل بالحري أن يتوافق توافقًا كاملاً. ومن جهة أخرى، أن الوقت كان قد أزف ليضيف وصايا جديدة تكون أكثر وضوحًا. لهذا فلننصت إلي كلمات المشرِّع التي يقولها لنا:
"سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل" [ع21]

كان الرب نفسه هو الذي شرَّع الوصايا القديمة، لكنه لا يصرح بذلك شخصيًا حتى هذه اللحظة، لأنه لم يقل لهم "سمعتم أنني قلتُ لهم في القديم" حتى لا يصعب هذا القول عليهم، وحتى لا يضع عقبة في طريق سامعيه، ولكنه من جهة أخرى لا يقول لهم "سمعتم أنه قيل للقدماء بواسطة أبي"، ولم يقل أيضًا "ولكنني أقول لكم"، حتى لا يبدو وكأنه يفضل نفسه على الآب أبيه. لهذا يقول ببساطة وفي إيجاز إنه في الوقت المحدد جاء يقول لهم هذه الوصايا. لأنه بعبارة "قد قيل للقدماء" قد أشار إلى المدة الزمنية التي انقضت على استلامهم هذه الوصية، وهو يفعل ذلك ليخزي السامع الذي يحجم عن التقدم إلى المقام الأعلى لوصاياه، مثلما يقول لطفل بطيء النمو وكسول: "ألا تعلم كم قضيت وقتًا طويلاً في تعلم مقاطع الكلمات؟" وهذا ما يفعله بتصريحه سرًا بالتعبير "القدماء". أما بالنسبة للمستقبل فإننا نجده يجمع كل هذه التعبيرات في رتبة أعلى في توجيهاته، وكأنه يقول لقد تعلمتم هذه الدروس بما فيه الكفاية. وعليكم أن تجاهدوا لتتعلموا دروسًا أعلى منها. وقد فعل حسنًا إذ بدأ بترتيب الوصايا، فقدم أولها والتي بدأ بها الناموس أيضًا. مظهرًا ما بينهم من تناغم: "وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم" (مت 5: 22). فهل ترون هذا السلطان في تكميل الوصايا. هل ترون مثل هذا التأثير الذي يتلائم مع خصال المشرِِّع؟ فمَن من الأنبياء تحدث بمثل هذا قط؟ ومَن من بين الأبرار فعل هذا؟ ومن وسط الآباء؟ لا أحد.
ولكن – وهذا ما يقوله الرب – ليس الابن كذلك. لأنهم إنما كانوا ينشرون وصايا سيدهم، ووصايا أبيه هو، وحين أقول "أبيه" أعني خاصته، إذ يقول المسيح "لأن ما لي هو لك، وما لك هو لي" (يو 17: 10). فإن كان لهم رفقاؤهم يشرّعون لهم، فإن له خدامه وعبيده الأخصَّاء.

فلنسأل الآن أولئك الذين يرفضون الناموس: هل وصية "لا تغضب" تناقض وصية "لا تقتل"؟ أم إن الثانية تتمم الأولى وتكملها؟ بل أن الثانية أعظم من الأولى: لأن من يكتم غضبه لا يسقط في خطية القتل، ومن يكبح لجام الغضب يتحكم في يديه، فالغضب جذر القتل وأصله. وتعلمون أن كل من يستأصل الجذر يستطيع أن ينتزع الأغصان، بل بالحري لا يجعلها تتكاثر أبدًا.
فالرب لم يضع تلك الوصايا لينقض الناموس بل ليكمله. لأن الكيفية التي يوصي بها الناموس هي هذه: إنه ينص على ألا يذبح الجار جاره، لهذا الذي يناقض الناموس هو من يأمر بالقتل. لكنه إن كان يطالب الإنسان ألا يغضب مجرد غضب، يكون قد أكمل فكر الناموس إلى التمام، لأن من يحرص على تجنب القتل، يسعى إلى الامتناع عنه تمامًا، مثلما يفعل كل من يطرح عنه مشاعر الغضب، فيسلم من السقوط في القتل.

8. ولننفذ مزاعمهم أيضًا، علينا أن نأتي بكل ادعاءاتهم، فإن كانوا يزعمون أن الله الذي خلق العالم و "الذي يجعل شمسه تشرق على الأشرار والصالحين. والذي يمطر على الأبرار والظالمين" (قابل مت 5: 4) هو إله شرير! وحتى المعتدلون منهم رغم إنهم يزعمون مثلهم، إلا أنهم رغم تأكيدهم إنه إله عادل وبار، يجردونه من الصلاح. وآخرون من بينهم حتى وإن كانوا لا يزعمون مثلهم، بل يجعلون ما للآب خاصًا بالمسيح، إلا أنهم يزعمون أن ذلك الإله الشرير يبقى على ما هو عليه، ويحفظ خاصته، أما الصالح الآخر فإنه يطلب ما للآخر ويرغب هكذا فجأة أن يصبح مخلِّصًا لأناس لم يخلقهم.

هل ترون كيف ينطق أولاد إبليس بما يتفوه به أبوهم. إذ يجردون الله من فعل الخلق، بينما يصرخ القديس يوحنا قائلاً: "إلى خاصته جاء" و "كُوِّن العالم به" (يو 1: 10–11). وفي موضع آخر، نراهم ينتقدون ناموس العهد القديم، والذي يأمر قائلاً: "عين بعين، وسن بسن" فيرتكبون إهانة صريحة بقولهم "كيف يكون صالحًا من يأمر بشيء مثل هذا؟

ونحن نرد عليهم فنقول "إن في ذلك التشريع أسمى مظاهر محبة الله للبشر" فقد شرَّع هذا القانون، لا لكي يقلع أحدنا عين الآخر، بل حتى تمنحنا خشية أذى الآخرين لنا من إيذائنا نحن لهم. فالله قد هدد أهل نينوى بالغرق، لا بغرض إهلاكهم (لأنه لو كانت تلك مشيئته نحوهم، لما تكلم بل صمت وفعل)، بل فعل ذلك ليجعلهم يصيرون أفضل حالاً بسبب مخافتهم، ومن ثم يُهدئ من غضبه ضدهم. ولهذا أيضًا عيَّن عقابًا ضد الذين يقلعون عيون الآخرين عن عمد، حتى إذا لم يرد عنهم مبدأ الصلاح عن إتيان هذه القسوة، قد يمنعهم الخوف عن إلحاق الأذى بأبصار جيرانهم، فإن كان في ذلك قسوة، فإنه من القسوة أيضًا أن يردع القاتل ويعاقب الزاني.

لكن أقوالهم هي أقوال إنسان عديم الفهم، قد بلغ جنونهم حدًا لا يوصف. فحاشا لي أن أقول إن هذه الوصايا فيها قسوة، بل يليق بي القول إن عكس ذلك يناقض الناموس.
وبحسب مفاهيم الناس، قد تقولون إنه قاسٍ لأنه يوصي أن نقلع عينًا بعينًا وسنًا بسنًا. وأقول إن لم يكن أمر بذلك، لكان بحسب حكم الناس قاسيًا كما تزعمون. ولنفترض زوال مثل هذا القانون، فإن لا أحد أصبح يخشى العقوبة التي يحكم بها مثل هذا التشريع، بل حصل للجميع من الأشرار على ترخيص بالسلوك وفقًا لميولهم الشريرة في أمان، ودون رادع، فشمل الترخيص أيضًا الزناة والقتلة والحانثين بالقسم، وقتلة أبويهم، أفلا ينقلب كل شيء رأسًا على عقب؟ ألن تمتلئ المدن وساحات الأسواق والمنازل والبحار والأرض بل والعالم أجمع بنجاسات وقتل بغير حصر؟ إن الجميع يدركون ذلك، لأنه ورغم القوانين القائمة والخوف الذي يعترينا من جراء التهديد بالعقاب، لا تزال ميولنا الشريرة خفية ودفينة يصعب التكهن بها حتى زال الأمان في وسطنا فلا رادع يمنع رذائل الناس، وعمت الفوضى السلوكيات كلها في العالم أجمع وشمل الخراب الإنسانية كلها، بل بالحري، إن القسوة لا تكمن فقط في السماح للأشرار بفعل ما يشاءون، بل في أمر آخر قد يبدوا أكثر مسالمة من ذلك، هو أن تتغاضى عن الذين لم يرتكبوا شرًا، فنهملهم ونتركهم يتكبدون الآلام والمعاناة هكذا دون سبب.
وإلا فاخبروني أنتم، هل نحشد كل أشرار العالم من جميع ربوع الأرض ونسلحهم بالسيوف، ونأمرهم بالذهاب إلى كل أطراف المدينة وذبح الجميع ممن يصادفونهم في طريقهم. فهل هناك حيوان أكثر افتراسًا من الشخص الذي يفعل ذلك؟ لكن لو كان هناك من يقيد في حزم شديد ويضبط أولئك المسلحين، وأن يكبل أيادي الجزارين، لأصبح هذا التصرف في منتهى الإنسانية.
أريدكم الآن تطبيق تلك الأمثلة على الناموس وبنفس القدر، لأن الذي أوصى "عين بعين" قد آثار فينا الخوف كقيد قوي صارم يكبل نفوس الأشرار الأردياء. وهو يشبه الذي يلقي بالقتلة في السجن، بينما الأبرياء من كل عقاب يسلحهم بالأمان، فيقوم بدور من يجزوهم من السيوف التي في أيديهم حتى لا يفتكوا بكل من في المدينة. أرأيتم أن الوصايا بمنأى عن القسوة، بل هي بالحري تفيد بالرحمة. فإن كنتم على هذا الأساس تدعون المشرِّع قاسيًا يصعب التعامل معه، فاخبروني أي وصية أشد وأقسى من "لا تقتل" أو "لا تغضب"؟ ومن يكون أكثر تطرفًا ذلك الذي ينفذ العقوبة بسبب القتل، أم بسبب مجرد غضب؟ ذاك الذي يعاقب الزاني بعد افتضاح أمره، أم الذي يأمر بالعقوبة بمجرد الشهرة وتدوم منه هذه العقوبة؟
ألا ترون أن تفكيرهم متناقض تمامًا؟ فكيف أن إله العهد القديم الذي يدعونه قاسيًا، يصبح هكذا رقيقًا ووديعًا، وأن إله العهد الجديد، الذي يقرون بصلاحه، يصبح صعبًا ومتشددًا، حسب ظنهم المجنون؟

بينما نؤمن نحن أن المشرِّع لكلا العهدين واحد ولا آخر سواه. وهو الذي شرَّعهما متوافقين معًا بمنتهى الدقة، وجعلهما يتفقان حتى مع اختلاف الزمانين – قديمه وجديده(مفروض ة بدل هيكل)(أو القديم والجديد) – لهذا فلا الوصية الأولى قاسية ولا الثانية مثلها، بل كل الوصايا قد شرَّعتها العناية الإلهية، عناية إله العهد القديم الذي بحسب تأكيد النبي:
"أقطع معكم عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائكم" (قابل إر 31: 31-32)، وإن لم يقبل بهذا من أصابه مرض بدْعة المانويَّة، فليسمع قول بولس الرسول الذي يذكر نفس الأمر في موضع آخر: "كان لإبراهيم ابنان، واحد من الجارية، والآخر من الحرة". وكل ذلك رمز؟ لأن هاتين ترمزان إلى العهدين (قابل غلا 4: 22)، ورغم أن الزوجتين مختلفتين، لكن الزوج واحد، هكذا أيضًا فإن العهدين وإن اختلفا، لكن المشرِّع واحد، وحتى نبرهن لكم أنهما من نفس الأصل العادل، فإنه يقول في واحد منهما: "عين بعين" ويقول في الآخر: "من لطمك على خدك الأيمن فحوٍّل له الآخر" (مت 4: 39).

لأنه مثلما كان يكبح جماح المخطئ خوفًا من وقوع الألم على آخرين، هكذا الحال أيضًا في هذه الوصية. فهو حين يأمرنا أن نحوِّل الخد الآخر، يجعلنا نسمح لمن يلطمنا أن يبلغ ذروة غضبه. لكنه لم يقل إن هذا الضارب سيفلت من العقاب، بل بالأحرى، لا تعاقبه أنت في الحال، حتى تثير خوف من يلطمك - إن قاوم - ولتنال تعزية من تلقِّيك هذه اللطمة.

9. وما سبق أن ذكرنا، بخصوص الوصايا، يدفعنا إلى الاستمرار في إكمال الحديث عنها. فلنلتقط أول الخيط في قوله "من يغضب على أخيه باطلاً، يكون مستوجب الحكم" هكذا قال السيد المسيح. والإنسان بحسب طبيعته لا يقدر أن يتحرر تمامًا من الشهوات، فنحن قد نتسلط عليها، لكننا لا نقوى على التجرد منها نهائيًا – فهذا مستحيل – وأيضًا لأن هذه الشهوة نافعة، إن عرفنا كيف نوظفها حسنًا.
فمثلاً دعونا نتأمل الخير الكبير الذي نجم عن غضب بولس الرسول، والذي شعر به تجاه أهل كورنثوس، في تلك الحادثة الشهيرة، وكيف حررهم خوفهم من مأزق شديد، وبنفس الأسلوب استرد شعب غلاطية، الذي كان قد انحرف، فأنقذ آخرين أيضًا معهم، فما هو إذن الوقت المناسب للغضب؟
هو حين لا ننتقم لأنفسنا، وحين نكبح جماح وثورة الآخرين بسبب نزواتهم المخالفة للناموس، وحين نحثهم على السهر واليقظة إذا ما أصمدوا.(صمدوا)
لكن ما هو الوقت الغير مناسب للغضب؟

حين ننتقم لأنفسنا، والذي يحذرنا منه القديس بولس أيضًا: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكان للغضب" (رو 12: 19). وإن كنا نعتمد على ذواتنا، فقد حذرنا منها أيضًا واِنتزعها من وسطنا بقوله: "لماذا تُظلِمون بالحري؟ لماذا تُسلِبون بالحري؟ (1كو 6: 7). لأنه مثلما يكون هذا الخير الأخير فائضًا عن الحاجة، هكذا يكون الخير الأول نافعًا وضروريًا. لكن معظم الناس يفعلون النقيض! فصاروا مثل حيوانات مفترسة تؤذي نفسها بنفسها، لكنهم حين يرون الأذى يلحق بالآخرين يسامحون ويجبنون. وكلا الأمرين مناقض لناموس الإنجيل، وأن يغضب الإنسان لا يصنع التعدي، ولكنه إن غضب في غير أوان الغضب (المقدس ) فهذا هو التعدي. لهذا السبب يقول المرنم النبي أيضًا: "اغضبوا ولا تخطئوا" (مز 4: 5 س)

10. "ومن قال لأخيه رقًا" (Raca) يكون مستوجب المجمع" [ع22]

وهو يعني بالمجمع هنا، محكمة العبرانيين، وقد ذكر ذلك الآن، حتى لا يبدو في كل موضع وكأنه غريب أو دخيل.
لكن كلمة "رقًا" ليست من الكلمات التي تسبب إهانة كبيرة، بل بالحري تُظهر بعض الازدراء أو التحقير الخفيف من جانب قائلها، مثلما يحدث حين نصدر أمرًا لخدام البيت أو لأي شخص آخر أدنى رتبة منا، نقول بالعامية: غور من هنا، أو "قل لبني آدم ده" هكذا فإنهم يستخدمون اللغة السريانية فيقولون رقًا وهي لفظة تحل محل الضمير "أنت" لكن الله محب البشر، يريد أن يحذف من قاموسنا حتى أدنى الأخطاء، ويطالبنا بالسلوك اللائق بعضنا نحو البعض، وباحترام واجب، واضعين في الاعتبار التخلص أيضًا من الأخطاء الأكبر "ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم"، وقد تبدو هذه الوصية عند الكثيرين قاسية ومزعجة. أن نجازي لمجرد كلمة، بمثل هذه العقوبة الجسيمة. ويزعم البعض أن هذا الكلام قيل على سبيل المبالغة أو الغلو. ولكنني أخشى أن تُخدع أنفسنا بهذا الكلام، فنعاني فعلاً من عقوبة شديدة. لأنني أريد أن تخبروني كيف تبدو الوصية ثقيلة الحمل؟ ألا تعلمون أن كل العقوبات ومعظم الخطايا تبدأ من الكلام؟ أجل، فالكلام أصل التجديف، وبالكلام ننكر الله ونخاصم الناس ونوبخ ونحلف باليمين ونشهد بالزور، فلا تقولوا إذن إنها مجرد كلمة قلناها، لا تأثير خطير لها، فهذا ما تودون الاستفسار عنه، فهل تجهلون أنه في وقت العداوة، وحين يشتعل الغضب وتتوقد النفس - فتبدو حتى أقل الأشياء فادحة - ومن غير اللائق التهاون في محاسبة الآخرين علي التوبيخ، فإن تلك الصغائر قد تؤدي إلى القتل وتهلك مدنًا بأكملها.
وإذا كانت أثقل الأمور تبدو في وجود الصداقة خفيفة، فإن أتفه الأمور تبدو غير محتملة في وجود العداوة. ومهما بدت الكلمة بسيطة في ظاهرها، فإن قائلها لابد يقصد معنى شريرًا من قولها، ومثلما الحال مع النار، فإن مستصغر الشرر إذا صادف ألواحًا خشبية تعد بالآلاف لأتى عليها كلها، وإذا اشتد اللهب وارتفع فإنه يحرق الخشب والحجر أيضًا معه وكل ما يصادفه في طريقه، ومهما حاولنا إطفاء النار لازدادت اشتعالاً. ويعلم الجميع أن الخشب والكتان والمواد القابلة للاشتعال، بل والماء نفسه يزيد النار اشتعالاً، هكذا الحال مع الغضب، الذي يجعل الإنسان في لحظة طعامًا للشر المُتسيطر. ومن بين كل الشرور التي ذكرها المسيح، فإنه قد أدان الغضوب بلا سبب، وجعله "مستوجب الحكم" وأن من يقول رقًا يكون مستوجب المجمع (أي المحكمة العليا اليهودية). وهي أمور ليست بالجسيمة إذ يكون عقابها هنا، لكن كل من يدعو الآخر رقًا أو أحمقًا فقد صعد إلى نار جهنم، وهي أول مرة يذكر فيها المسيح لفظة جحيم، فقد تحدث طول الوقت عن الملكوت، حتى جاء ذكر الجحيم هنا، ليشير ضمنًا إلى أن الملكوت هو هبة محبته الخاصة لنا، وعنايته الفائقة بنا، أما الجحيم فهو بسبب إهمالنا.

11. انظروا كيف يتدرج الرب شيئًا فشيئًا في إظهار عقوباته، حتى لا يكون أحد له عذر، وليُظهر أن رغبته الأكيدة ليست في تهديده لنا بالعقوبات، ولا بغرض أن نتهمه بأنه دائم التحذير لنا بلا أدنى سبب، إذ يقول كما تلاحظون: "آمركم ألا تغضبوا بلا سبب، حتى لا تجلبوا الحكم على أنفسكم". لقد احتقرتم الوصية الأولى (القديمة)، فانظروا ما جلبه الغضب، لقد قادكم على الفور إلى التحذير من الشتيمة، لأنكم تدعون أخاكم "رقًا" مرة أخرى، فها أنذا أحذركم من عقوبتها: وهو "حكم المجمع"، فإن أهملتم هذا وفعلتم ما هو أشد، فإنني لم أنزل عليكم تلك العقوبات المحدودة هنا، بل العقاب الأبدي الذي لا يزول في الجحيم. لئلا تنزلقوا أيضًا إلى القتل، لأنه ما من شيء في العالم أكثر إيلامًا من الإهانة، فهي تؤذي نفس الإنسان إلى أقصى حد، وحين تكون الكلمة المنطوقة أيضًا أكثر إيذائًا وجرحًا من الإهانة، فإن ثورة الغضب تصبح أشد أذى وإيلامًا. فلا تظنوا أن دعوتنا للآخر بالأحمق هي من الأمور الهينة، لأنه إن كان العقل والفهم هو ما يميزنا عن البهائم وهو الذي يجعلنا بشرًا عاقلين مدركين، وإن كنا بنفس هذا العقل نسلب أخانا ونجرده من شرفه، فلنهتم لا بالكلمات وحدها، بل بأمورنا التي تؤثر في مشاعر الآخرين، ولنتأكد أن الكلمة الجارحة تسبب جرحًا غائرًا وشرًا مستطيرًا، لهذا يتحدث بولس الرسول عن المطرودين من الملكوت، لا من الزناة والفاسقين وحسب، بل من "الشتَّامين" أيضًا. ولهذا الكلام سبب حكيم: فالشتَّام يفسد جمال المحبة الأخوية ويلحق بجاره آلامًا مبرحة، وعداوات لا نهاية لها. ويمزق أعضاء المسيح إلى أشلاء، ويبدد كل يوم السلام الذي يريده الله، مُمهدًا للشيطان أرضية صالحة بسبله الشريرة، فيجعل إبليس الأقوى. لهذا نجد أن السيد المسيح يمزق أوصال الشيطان، فيشرِّع هذا الناموس بجديد، لأن الرب يهتم جدًا بالمحبة، فهي أم كل صلاح، وهي العلامة أو البادﭺ الذي يعرف به الناس تلاميذه والرابطة التي تجمعنا كلنا معًا. لهذا يشرِّع الرب ناموس المحبة ليستأصل كل جذور الكراهية المفسدة لكل شيء.
فلا تظنوا أبدًا أن هذه الأقوال مغالى فيها، بل بالحري تفكروا فيما تجلبه من خيرات. وتعجبوا من اللطف الذي تحويه. لأن كل اهتمام الله هو باتحادنا وترابطنا معًا.
لهذا يهتم الرب جدًا بهذه الوصية في شخصه الذاتي وفي تلاميذه، وفي العهدين القديم والجديد، بل ويعاقب بشدة كل من يحتقر وصية المحبة لأن نزع المحبة يفتح الباب على مصراعيه أمام كل الشرور بل ويكون جذرًا وأصلاً للشر. لهذا قال أيضًا: "لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12). لهذا صار قايين قاتلاً لأخيه، وهكذا فعل عيسو، كذلك إخوة يوسف، وكل الجرائم التي ارتكبناها والتي بغير حصر، وتسببت في حل أواصر المحبة بيننا - لهذا يؤصل (يستأصل) (رب المجد) للأمور التي قد تضر بالمحبة – ونراه يفعل ذلك في كل أحاديثه وبمنتهى الدقة.

12. فلا هو توقف (فلم يتوقف) عند تلك الوصايا فقط - السابق ذكرها - بل يضيف (أضاف) إليها وصايا أخرى أكثر منها، ليؤكد على أمور يريد الإشارة إليها. أعني بعد أن هدَّد "بالمجمع" و "بالحكم" و "بالجحيم" أو جهنم. أضاف ما يتفق مع قوله السابق قائلاً:
"فإن قدَّمتَ قربانك إلى المذبح، وهناك تذكّرتَ أن لأخيك شيئًا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدم قربانك" (مت 5: 23-24) يا لصلاح الرب ومحبته الفائقة للإنسان. فهو لم يهتم بالكرامة الواجبة له، بل بالأكثر اِهتم بمحبتنا لجيراننا، فلم ينطق بالتهديدات السابقة وكأنه عدونا أو كأنه يرغب في عقابنا، بل بدافع عاطفة حب رقيقة جدًا. فهل هناك أقوال تضاهي رقة كلامه الذي يقول: "فلتقاطع خدمتك ليدوم حبك للآخر؛ لأن المحبة ذبيحة أيضًا، حين تتصالح مع أخيك". أجل.
ولهذا السبب لم يقل "بعد القربان أو التقدمة"، بل والقربان موضوع على المذبح، وليس بعد رفعه، ولا بعد تقديم الذبيحة أو رفع التقدمة، بل بينما هي في وسطنا، يأمرنا أن نسرع إلى المصالحة.
تُرى ما هو الدافع الذي لأجله يوصيكم أن تفعلوا ذلك. وما هي الأسباب؟
يتراءى لي أن هاتين الغايتين يرسمهما لنا سرًا هنا:
أولاً: تشير مشيئته كما قلتُ قبلاً إلى أنه يضع المحبة في أعلى مقام سام، ويعتبرها أعظم ذبيحة، والتي بدونها لا يقبل منا أية ذبيحة أخرى.
ثانيًا: يضع الرب على كاهلنا هذه الضرورة لأجل المصالحة، لأن كل من أمره بألا يرفع تقدمته قبل أن يتصالح سيهرع إلى مَنْ أحزنه ليزيل العداوة إن لم يكن بدافع المحبة نحو جاره، فلكي لا تكون ذبيحة بغير تقديس. لهذا السبب اِهتم المسيح بالأمر اهتمامًا بالغًا، وأنذرنا بإحكام ليوقظنا، وحين (فحين) قال:
"اُترك هناك قربانك" لم يكتف بذلك بل قال "قدام المذبح". ربما في نفس المكان الذي كان يُروِّع جاره فيه. وقال "اذهب" ليس هذا فحسب، بل أضاف "أولاً" أي على الفور. ثم قال: "وقدم قربانك" معلنًا بكل مجاهرة أن المذبح لا يقبل من هم في عداوة مع آخرين.
فليسمع المعمََّدين هذا أيضًا – أجلّ، لأن الأمر متعلق بهم – فهم بالمثل يقدمون قربانًا وذبيحة، أعني صلاة وصدقة - فهذه أيضًا ذبائح - فالنبي يقول في المزمور: "تمجدني ذبيحة تسبيح، وأيضًا الذبيحة لله "ذبيحة تسبيح" و"رفع يديَّ ذبيحة مسائية" (مز 141: 2).
فالصلاة إذن ذبيحة ترفعونها في تعقل، ومن الأفضل أن تتركوا صلاتكم لأنه لهذه الغاية قد صارت كل الأمور، بل لهذه الغاية قد صار الله إنسانًا وعمل كل ما عمله ليجمعنا في واحد. لهذا وفي هذا الموضوع يرسل فاعل الشر إلى المظلوم.
وفي صلاته يعتاد المظلوم إلى الإثم ليصالحهما معًا. ومثلما يقول: "اغفر للناس زلاتهم" هكذا أيضًا يقول: "إن كان قد فعل شيئًا ضدك، اذهب إليه" أو بالحري يبدو لنا هنا وهو يرسل المتألم من الأذى. ولسبب ما لم يقل "صالح نفسك مع أخيك"، بل "تصالح مع أخيك" وبينما يبدو هذا القول موجهًا إلى المعتدي، فإن القول كله يتناول المتضرِّر.
هكذا يقول السيد المسيح: إن تصالحت معه بمحبتك له، سأكون مسامحًا لك أيضًا. وتكون قادرًا على تقديم ذبيحتك بثقة كاملة، لكن إن كنت لا تزال مضطربًا، فتذكر إنني وإن كنت قد أمرت أن تهتم بأموري الخاصة اهتمامًا طفيفًا، لتصيروا أصدقاء وتلطِّفوا من غضبكم.(الجملة ناقصة) ولم يقل: إذا عانيتم من الأخطاء الأشد، تصالحوا، بل حتى وإن كان ما أساء إليك به تافهًا ولم يضف سواء كان بحق أو بغير حق، بل قال فقط: "إن كان لأخيك شيء عليك" لأنه إن كان بحق، فحتى في هذه الحالة لا يليق ولا يجب أن نرجئ المصالحة. لأن المسيح أيضًا قد غضب منا بالحق. ورغم ذلك فقد بذل نفسه ذبيحة لأجلنا. "غير حاسب تلك الخطايا" (2 كو 5: 19). وللسبب عينه، يحثنا بولس الرسول أيضًا وبطريقة أخرى على المصالحة "لا تغرب الشمس على غيظكم" (أف 4: 26).
ومثلما فعل المسيح بحديثه عن تقديم القربان على المذبح، هكذا بولس في حديثه عن ذلك النهار، يحضنا على فعل نفس الأمر، لأنه في الحقيقة يخشى أن يُخيم الليل على المضروب وحده، فيجعل جرحه أشد إيلامًا. لأننا في النهار يتشتت فكرنا مع كثيرين غيرنا – فنبتعد بعيدًا عن مشاكلنا – لكن في الليل وحده يشتد التفكير في النفس، وترتفع الأمواج وتثور العواطف أكثر، وحتى يمنع بولس الرسول حدوث ذلك، ألزمه أن يمضي الليل في التصالح فلا يصبح النهار إلا ويكون قد تصالح، وحتى لا تتوفر للشيطان فرصة بعد علينا، وهو بعد في وحدته، فيشعل أتون غضبه بدرجة أشد.
هكذا السيد المسيح، طلب أن يؤجل تقديم القربان دون تأخير ولو بسيط، حتى لا يصير هذا الشخص أكثر إهمالاً، فيؤجل المصالحة يومًا بعد يوم، لأن الرب يعلم أن الأمر يتطلب علاجًا سريعًا وحاسمًا، وكطبيب ماهر لا يعالج أمراضنا فقط، بل ويقيمنا منها ويشفيها(ويشفينا). وحتى يمنع المناداة بكلمة يا أحمق وقاية لنا من العداوة، يأمرنا بالمصالحة كوسيلة لاستئصال الأمراض التي تسبب نفس العداوة.
ونلاحظ أنه وصف كلتا الوصيتين بمنتهى الحزم والدقة. فمثلما كان الحال في السابق، حين توعد المخالفين بالجحيم، هكذا أيضًا هنا لا يقبل القربان قبل المصالحة، مؤكدًا على عدم رضاه الكامل إن لم نتصالح أولاً، وبهذا يجتث جذر الشر وثماره معًا، وأول كل شيء يقول: "لا تغضب"، ثم، "لا تخاصم"، لأن الواحدة إنما تسند الأخرى: فمن العداوة يأتي الخصام، ومن الخصام تأتي العداوة. ولهذا يعالج جذر العداوة ثم ثمرتها، مانعْنا من ثورة الشر. وحتى إن استفحلت العداوة وأتت بثمارها الشريرة كلها، فإنه يحرقها ويخمدها بكل الوسائل.

13. وبعد أن تحدث المسيح عن الحكم ثم المجمع فالجحيم. وبعد أن تحدث أيضًا عن قربانه الخاص. يضيف أمرًا جديدًا فيقول: "كن مراضيًا لخصمك سريعًا ما دمت معه في الطريق" (مت 5: 25).
وحتى لا تقول عن خصمك، وماذا لو تضررت منه؟ "ماذا لو كنت قد طُرحت في السجن بسببه وقتلت أمام المحكمة"؟ لقد أبعد المسيح هذا العذر أيضًا؛ إذ يأمرنا ألا نعادي أحدًا. ولما كانت هذه الوصية عظيمة، فإنه يقدم نصحه من واقع الحياة، ومن الأمور الحاضرة أكثر من المستقبلية، وكأنه يقول: "لماذا تقولون إن خصمكم أقوى وإنه يدفعكم إلى ارتكاب الخطأ؟
بالطبع، إنه سوف يدفعكم إلى مزيد من الأخطاء إن لم تنهوا الأمر، وقد يجبركم على المثول أمام المحاكم، لأنه في الحالة الأولى. إذا دفعتم بعض المال لحفظتم أنفسكم أحرارًا. لكنكم تحت طائلة القانون بحكم القاضي، سوف تقيدون وتنالون عقوبة أشد، لكنكم إن تجنبتم المواجهة والخصام، لجنيتم ثمرتين صالحتين:
أولاً: أن تتخلصوا من معاناة الألم.
ثانيًا: أن يكون العمل الصالح من نصيبكم أنتم، وليس كنتيجة قهرية مجبرون أنتم عليه من جانب خصمكم. لكن إن لم ترتدعوا بهذه الأقوال، فإنكم لا تخطئون في حقه بقدر ما تخطئون في حق أنفسكم.
ترون هنا أيضًا كيف يُعجل السيد بإثارة (؟)، فهو يقول: "كن مراضيًا لخصمك" ثم يضيف على الفور "سريعًا" ولا يكتفي بهذا الأمر، بل بالسرعة المقررة لإنهاء المصالحة. ولهذا يضيف قائلاً أيضًا: "ما دمت معه في الطريق" هكذا فإنه يحثه ويدفعه بشدة وبحزم على ذلك. لأنه ما من شيء يقلب حياتنا رأسًا على عقب، مثل التأجيل والتسويف في إنجاز أعمالنا الصالحة، فقد يتسبب التأجيل فعلاً في خسارتنا لكل شيء. لهذا يقول القديس بولس "لا تغرب الشمس على عداوتكم".
وكما يقول المسيح قبلاً: "تصالحوا قبل تقديم قرابينكم".
هكذا يقول هنا أيضًا، تصالح سريعًا ما دمت مع خصمك في الطريق؛ قبل أن تبلغ أبواب المحكمة، وقبل أن تقف خلف القضبان، وتصبح في قبضة الحاكم. لهذا وقبل أن تبلغ هذا الحد، دع السيطرة في يدك أنت. لكن إن وطأت قدماك عتبة القضاء، ما عدت تقدر على ترتيب أمورك بإرادتك، حتى لو بذلت جهودًا مضنية، ما دمت في قبضة الآخرين. لكن ما معنى "كن مراضيًا لخصمك"؟ إن الرب يعني الاتفاق مع خصمك حتى لا تُعاني مُعاناة مُرة. أو أن تلتمس العذر للآخرين وكأنك في محله، وحتى لا تفسد العدل بمحبتك لذاتك - بل بالحري – أن تتعامل مع قضية الآخرين على أنها قضيتك، فتحرر نفسك وتنجو بذاتك من الأمر.
فلا تندهش لهذا الأمر العظيم، فقد أطلق برأيه هذا كل بركاته، حتى إذا ما أعد نفوس سامعيه ولطفهم (ما تشكيلها؟) يجعلهم أكثر استعدادًا لقبول وصاياه. ويقول البعض إن الرب يرمز سريًا إلى الشيطان نفسه بإطلاق اسم "الخصم" عليه، بينما أمرنا ألا نتعامل معه؛ بألا تكون لنا معه شركة.
الآن هذا هو معنى "كن مراضيًا له"؟ فلا مساومات ممكنة بعد رحيلنا عنه، ولا ننتظر منه شيئًا، إلا العقوبة التي لا يمكن لأية صلاة أن تنجينا منها. لكن يبدو لي أنه يتحدث عن قضاة هذا العالم، والطريق إلى محكمة العدل، والسجن الذي نعرفه. لأنه بعد أن أنذر الناس بشتى الطرق والوسائل، فإنه ينذرهم أيضًا بأمور تحدث في هذه الحياة. وهو نفس ما يفعله بولس الرسول في حديثه عن الحاضر والمستقبل، للتأثير في سامعيه، ومثلما حين يردعه عن الشر، يشير إلى ذاك الذي يميل إلى الشر، وهو الخادم المتسلح، إذ يقول: "ولكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثًا، إذ هو خادم الله" (رو 13: 4).
وإذ يربطنا أيضًا بالقضية التي تشغله، فإنه لا يعوض خوف الله فقط، بل الوعيد أيضًا للفريق الآخر، وعنايته وسهره. "لذلك يلزم أن يُخضع له، ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضًا بسبب الضمير" (رو 13: 5)، لأنه كما قلت سابقًا فإن الأكثر انحرافًا عن التعقيل سرعان ما تقوِّمهم هذه الأمور. وهي أمور ظاهرة ومتاحة. لهذا السبب فإن المسيح لم يذكر الجحيم فقط، بل ذكر أيضًا محكمة العدل، وذكر الجر إلى السجون، وكل ما يلاقيه الإنسان من معاناة. وبهذه الوسائل كلها، يستأصل جذور القتل، لأن الذي لا يخاصم ولا يَمثل أمام القضاء – ولا يطيل العداوة – لا يمكن أن يقتل أبدًا. من هنا نعرف أن منافع جيراننا هي منافعنا، لأن من يتصالح مع خصمه ويتراضى معه ينتفع هو بالأكثر جدًا؛ إذ يصبح حرًا بفعل إرادته من محاكم القانون، والسجون والبؤس الذي يلاقيه هناك.

14. إذن فلنطع أقواله، ولا نناقض أنفسنا، ولا نكثر من الخصام، لأن تلك الوصايا، حتى وإن كانت قبل كل شيء وصايا بمجازاة، فإنها في حد ذاتها لها نفعها وبهجتها. حتى وإن بدت في معظم الأحوال ثقيلة الحمل، وما تسببه من متاعب جمة، فإنه من الواجب عليكم أن تنفذوها لأجل خاطر المسيح. حينئذٍ يتحول الألم إلى فرح، فلو كان هذا هو فكرنا دائمًا لما شعرنا بثقلها أبدًا، بل نجني لذة عظيمة من كل جانب؛ إذ لن يبدو تعبنا تعبًا بعد، بل كلما زاد زادت مسرتنا وصارت أكثر حلاوة مع الأيام. فإن لازمتكم عادات شريرة وشهوة الغنى وحاربتكم، قاوموها بالفكر القائل: "ما أعظم المجازاة التي ننالها، إذا ما احتقرنا الملذات الزائلة التي لا تدوم إلا فترة". قل لنفسك: "لماذا تكتئبين يا نفسي لأنني حرمتُكِ من اللذة" أجل، افرحوا وتهللوا لأنني آتي بكم إلى السماء. أنتم لا تفعلون ذلك لأجل خاطر إنسان، بل لأجل خاطر الله. كونوا إذن صابرين بعض الشيء، وسترون كم هي عظيمة أرباحكم. تحملوا في هذه الحياة الحاضرة؛ وستنالون ثقة لا يُنطق بها. لأننا إن كنا نخاطب أنفسنا هكذا. فلا نهتم فقط بأثقال الفضيلة، بل نفكر أيضًا في أكاليلها، لانسحبنا فورًا من مجالات عمل الشر. لأن الشيطان إن كان يخدعكم بلذة زائلة، فإنه يجلب عليكم آلامًا أبدية تدوم طويلاً، أما نحن فإننا إن كنا نتعب يسيرًا ونتألم قليلاً، فإن مسرتنا ونفعنا يدومان إلى الأبد.
فأي صفح نناله إن كنا بعد هذا التشجيع لا نعمل الصلاح؟! نحن نعلم أن أتعابنا وأعمالنا تكفي لمقاومة الشر، ونحن موقنون أننا نفعل ذلك لأجل الله. لأن الإنسان إذا علم أن الملك مدين له، يعتقد أنه في مأمن مدى حياته؛ إذ جعل الله المُنعم الأبدي مدينًا له. وهو عمل عظيم بما لا يُقاس، يفوق كل الأعمال الصالحة مهما صغرت أو كبرت.
فلا تتذرع بأنك مثقل بالمتاعب والآلام، عالمًا أنك بسبب رجاء الأمور العتيدة، ومعونة الله لنا في كل مكان – إذ سهل لنا طريق التقوى - يضع يده في كل عمل نعمله. فإن بذلتم ولو أقل جهد من الغيرة والحمية، لأصبح كل شيء بعده سهلاً. إذ جعلكم السيد المسيح تتعبون قليلاً أيضًا لهذا الغرض، لتظفروا بالنصرة. ومثلما يتوقع الملك حضور ابنه بين صفوف المحاربين، هكذا يسمح له أن يطلق سهمه ويضرب ليكون النصر حليفه. بينما الملك (الرب) يفعل كل شيء بنفسه. هكذا يفعل الله في حربنا ضد الشيطان، وهو يطلب منكم شيئًا واحدًا فقط: أن تظهروا كراهية صادقة ضد هذا العدو. فإن فعلتم أنتم ذلك لصالح الرب، فإنه ينهي الحرب كلها بنفسه.
حتى وإن اشتعل فيك الغضب، واشتهيت الغنى، وثارت فيك عاطفة الاستبداد والسيطرة، فإن رآك تتجرد بنفسك وتستعد للعدو، فإنه يأتيك سريعًا، ويسهل عليك كل شيء، بل ويرفعك الله فوق ألسنة اللهب والنار. مثلما فعل مع الفتية الذين طرحوا في أتون النار في بابل؛ أولئك الذين لم يحملوا معهم شيئًا في النار إلا مشيئتهم الصالحة. ولكي نطفئ نحن أيضًا أتون اللذة المضطربة هاربين من الجحيم المعد هناك، وحتى نجتذب إلينا إحسانات الله بمشوراتنا واهتماماتنا وأعمالنا الصالحة، وبمقاصدنا الكاملة في الأعمال الحسنة، وبصلواتنا كل حين، وإن بدت لنا بعض الأعمال أنها فوق الاحتمال الآن، فإنه سرعان ما يجعلها سهلة لطيفة هينة ومحبوبة للغاية. وطالما نحن تحت نير الشهوة، نظن أن الفضيلة بعيدة المنال ومرهقة وبالية. ونعتقد أن الرذيلة هي مشتهانا ومصدر مسرتنا البالغة، لكننا لو ابتعدنا قليلاً عنها، لظهرت لنا كريهة تعافها النفس، ولرأينا الفضيلة سهلة لطيفة ومشتهى نفوسنا حتى المنتهى.
وهذا ما يمكنكم أن تتعلموه من الذين عملوا أعمالاً صالحة؛ فمثلاً انصتوا إلى قول القديس بولس وكيف كان يخجل من شهوات تخلَّص منها: "فأي ثمر كان لكم حينئذٍ من الأمور التي تستحون بها الآن" (رو 6: 21)
لكنه رغم تعبه، كان يؤكد أن الفضيلة خفيفة، لهذا كان يدعو مشقة وتعب ضيقاتنا بأنها وقتية وخفيفة. وكان يتهلل في آلامه ويتمجد في ضيقاته ويتفاخر بالضربات التي يتلقاها لأجل المسيح (قابل 2 كو 4: 17، 12: 10، رو 5: 3، غلا 6: 17، كو 1: 24)
فلكي نثبت نحن أيضًا في هذه العادة، فلنضبط ذواتنا كل يوم بتلك الأقوال: "ننسى ما هو وراء ونتقدم إلى ما هو قدام، ونسعى نحو الغرض لأجل جُعالة دعوة الله العليا" (في 3: 13-14)، التي يهبها الله لنا بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين آمي

 

سمعان الاخميمى

صحفى المنتدى
إنضم
4 أغسطس 2009
المشاركات
12,695
مستوى التفاعل
1,087
النقاط
0


العظة السابعة عشرة

الزنا

"سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزنِ، وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت 5: 27-28).
وبعد أن أنهى الرب الوصية السابقة، ورفعها إلى مستوى الذات، فإنه يتقدم في الحديث وفي الترتيب منتقلاً بشكل يتفق مع الوصية التالية، وهو هنا أيضًا يطيع الناموس.
وقد يقال، مع ذلك فهذه ليست الثانية، بل الثالثة، لأن الأولى ليست هي "لا تقل"، بل "الرب إلهنا رب واحد" (تث 6: 4)، لهذا فإنه أمر جدير بالاستفسار أيضًا، لماذا لم يبدأ بتلك، ولماذا جاءت بعدها؟
ذلك لأنه قد بدأ من هنا. ولابد أن يوسع من دائرتها ويجمعها في نفسه مع أبيه، لكن لم يحن الوقت بعد ليعلِّم الناس مثل هذا الأمر عن نفسه. وأيضًا كان يمارس لبرهة تعليمه الأخلاقي فقط، قاصدًا من هذا أولاً، وكذلك من معجزاته أن يقنع السامعين أنه ابن الله.
فإن قال على الفور: "سمعتم إنه قيل للقدماء" أو "أنا الرب إلهكم، لا يكون لكم إله غيري" لكني أقول لكم اعبدوني مثلما تعبدونه، لو كان قال ذلك قبل أن يعمل شيئًا أو يتحدث بشيء، لجعل الجميع يظنون إنه مجنون فهم قد وعوا أن به شيطان (يو 8: 48)، حتى بعدما سمعوا تعليمه ورأوا معجزاته العظيمة وحتى دون أن يصرح لهم بلاهوته علنًا. فكيف لو حاول أن يقول شيئًا من هذا القبيل قبل كل ما فعله، لقالوا فيه ما لم يقولوه قبلاً ولظنوا فيه ما لم يظنوه.
لكن الرب يحجز تعليمه حول موضوعات بعينها في الوقت المناسب، ليجعل تعليمه مقبولاً من الجميع. لهذا السبب فإنه قد تجاوزها بسرعة، وبعد أن كان يؤسس تعاليمه بمعجزاته وبتعليمه الفائق، بدأ فيما بعد يكشفها بالكلمات أيضًا، وكشف عن الأسرار في الحاضر باستعلان معجزاته وطريقة تعليمه ذاتها، وهكذا وفي حين حسن وبالتدريج وبشكل هادئ. وبدأ يشرح القوانين الجديدة والتي صاحبتها تصويبات الناموس بسلطان، ليقود سامعيه ويرشدهم بالتدريج إلى عمق تعليمه إن كانوا منتبهين ومتفهمين لما يقول. لكن الكتاب يقول: "كان يعلمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة" (مت 7: 28)

2. وبسلطان عظيم يليق بمشرِّع الناموس يقدم الرب الشهوة؛ فهي التي تسيطر على جوانحنا الطبيعة وبقوة، وهي السبب في آلامنا التي تخص جنسنا البشري كله. وها هو يصدر بشأنها أوامره الحازمة والصارمة، فإنه لم يقل لعقوبة الزاني وحسب، بل ما يفعله مع القاتل، يفعله هنا بالمثل في عقاب النظرة الشهوانية غير العفيفة، ليعلمكم أن لديه من التعليم ما هو أكثر من الكتبة في أي موضع من مواضع التعليم. ولهذا يقول: "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه". أي كل من يجعل شغله الشاغل الالتفات إلى الأجساد المثيرة ويتصيد الملامح الجميلة،(الجملة ناقصة المعنى) لأن المسيح جاء ليحرر النفس مع الجسد من الأعمال الشريرة، ولأننا نقبل نعمة الروح القدس في القلب، فإن الرب يطهر قلوبنا أولاً. ورب سائلٍ، "كيف نتحرر من الشهوة؟"
أجيب أولاً، بالإرادة تموت الشهوة فينا أو تبقى خاملة بلا نشاط. والمسيح لا ينتزع الشهوة منا تمامًا، بل تلك الميول الشهوانية التي تثيرها النظرات، لأن من ينشغل برؤية المفاتن المثيرة هو الذي يوقد أتون الشهوة الجسدية فيقع أسيرًا لها، وسرعان ما تتحول الشهوة فيه إلى حيز التنفيذ. لهذا لم يقل: كل من يشتهي ليرتكب الزنا، بل كل من نظر بشهوة.
وفي حالة الغضب تمييزًا خاصًا قائلاً: "بلا سبب" و"باطلاً" لكن الرب هنا يستأصل الشهوة مرة وإلى الأبد. ومن المعروف يقينًا أن الغضب والشهوة من الصفات الطبيعية للإنسان، وكلاهما موضوع فينا للمنفعة: فبالغضب نطارد الشر ونقوِّم السالكين بعدم استقامة، وبالشهوة ننجب نسلاً لنحفظ جنسنا البشري من الأمور الفائقة العظيمة، وتحتاج إلى كل اهتمامنا وإدراكنا. فالرب لم يقل ببساطة "كل من يشتهي" لأنه من الممكن للإنسان أن يشتهي حتى لو كان وحيدًا في الجبال، بل قال: "كل من ينظر بشهوة" أي ذلك الذي يشعل الشهوة في داخله، ذلك الشخص الذي لا يضطره أحد إلى ذلك، بل يأتي بالوحش الكاسر إلى فكره الذي كان هادئ من قبل، فليس من طبيعة الإنسان أن تهيِّج الأفكار، بل من تورط النفس في الشهوة الردية. وهذا ما يؤكده الكتاب المقدس في العهد القديم أولاً قائلاً: "لا تشته جمال امرأة قريبك" (جا 9: 8).
ولئلا يقول قائل: ماذا لو اشتهيت دون أن أقع في الأسر؟ إن الرب يعاقب النظرة الردية لئلا تقع أنت في الخطية، وأنت تظن أنك في مأمن منها.
ورُبّ قائل آخر: "ماذا لو نظرت واشتهيت فعلاً، لكن دون أن أفعل شرًا؟" حتى إن فعلت ذلك، فأنت محسوب من الزناة، لأن مشرِّع الناموس يقول ذلك، وليس من حقك أن تطرح أية أسئلة أخرى، لأنك إن نظرت مرة أو مرتين أو ثلاث لاستطعت أن تضبط نفسك، لكنك إن كنت تفعل ما تفعله باستمرار وتُشعل أتون الشهوة فإنك ساقط لا محالة؛ لأنك لا تفوق طبيعة البشر فأنت منهم. ونحن إذا رأينا طفلاً يمسك سكينًا، نضربه أو ننتهره حتى لو لم يؤذي نفسه بها، ونمنعه من أن يكرر ذلك مرة أخرى أبدًا. هكذا يفعل الله معنا، إذ ينتزع منا النظرة الردية، حتى قبل الفعل، لئلا نسقط في أي وقت؛ لأن من يشعل مرة لهيب الشهوة، حتى وإن غابت عنه المرأة التي نظر إليها، فإنه يصنع في عقله خيالات مستمرة لأمور مخزية، ينتقل بسببها إلى ذات الفعل، لهذا ينزع السيد المسيح الفكر الذي يحتضنه القلب.
فما القول فيمن يعيشون مع عذارى ويشاطرونهن المسكن؟ ألا يكونوا بموجب سلطان هذا القانون مذنبين آلاف المرات بالزنا، فهم يرونهن كل يوم وينظرون إليهن بشهوة، لهذا السبب فإن أيوب المبارك (أي 31: 1) يرسي قانون منذ البداية ليسد كل جوانب التحديق في العذارى، لأن جهاد النفس ضد النظر أمر عظيم، إذ يحرم الإنسان نفسه من مصدر اللذة، ونحن لا نجني مسرة أبدًا من النظر، بل نقع في خطأ تزايد الرغبة، فنجعل خصمنا أقوى، ونوفر للشيطان مجالات أوسع ولا نقوى على طرده، إذ أتينا به إلى عمق أعماق كياننا الداخلي، وتركنا له عقلنا مفتوحًا على مصراعيه.
لهذا يقول الرب يسوع: "لا تزْن بعينك ولا تقترف إثمًا بعقلك"، بل النظرة الشهوانية، لأنه لو لم يكن يعني ذلك، لقال ببساطة: "من نظر إلى امرأة" واكتفى بهذا القول، لكنه أضاف "ليشتهيها" أي كل من ينظر ليمتِّع نظره؛ لأن الله لم يخلق عينيك لهذا الغرض أبدًا، أي لكي تكون سببًا في الزنا، بل لتعاين بها مخلوقاته وتُمجد الخالق. ومثلما يشعر الإنسان بالغضب عشوائيًا دون مقصد، هكذا يمكنه أن ينظر عشوائيًا وبلا تعمد، وهذا عكس ما يفعله حين ينظر بشهوة. فإن كنت ترغب في النظر للمتعة، انظر إلى امرأتك – خاصتك – وأحببها على الدوام، فما من ناموس أو قانون يحرِّم عليك ذلك. لكن إن كنت تلهث في فضول خلف محاسن الأخريات، فإنك تؤذي زوجتك، لا تدع عينيك تتجولان في كل مكان، وتؤذي مشاعر من ينظر إليها بشهوة. إذ تتلامس معها على خلاف الناموس. حتى وإن لم تلمسها باليد، فقد تحرشت بها بعينك (حرفيًا: عانقتها وقبلتها) (caressed)، لهذا يحُسب ما تفعله زنا. وعاقبة هذا الجرم الفادح ليست هينة؛ إذ يمتلئ صاحب هذا الأمر بالاضطراب والانزعاج ويسقط في دوامة تجربة شديدة، ويصير ألمه عنيفًا، ولا شيء من قيود العالم وسجونه أقسى من قيود العقل. وحتى إن مضت التي أطلقت سهم الشهوة الأليمة، يبقى الجرح ولا يزول. أو بالحري ليست هي التي أطلقت السهم، بل أنت الذي أصبت نفسك بجرح مميت – نظرتك الشهوانية غير العفيفة - أقول هذا لأعفي السيدات المحتشمات من المسؤولية.
لأنه من المؤكد أن إحدى النسوة قد تخرج لتلفت الأنظار والعيون إليها، فتسبب للناس في الطريق عثرة السقوط في النظر، حتى وإن لم تصدم المارين في الطريق، فإنها تسبب في إنزال أقصى العقوبة بهم، لأنها خلطت السم وأعدت الشراب المسموم، وحتى إن لم تقدمه في قدح، أو بالأحرى كانت قد قدمت الكأس المسمم ولكنها لم تجد من يشرب من يدها.

3. ورُبّ قائل: "لماذا لم يتحدث مع النساء أيضًا".

نقول رغم أنه كان يخاطب الرجال فقط، حول قوانين مطروحة وشائعة للجميع، إلا إنه عند مخاطبته للرأس، يجعل وصاياه عامة لكل الجسد – إذ خلق الرجل والمرأة وجعلهما كيانًا واحدًا ولا يمكن التمييز بينهما في أي مكان – لكن هذا لا يمنع أن الرب وبخ النساء أيضًا، كما في إشعياء (إش 3: 16) حيث يقول الكثير ضدهن، ساخرًا من ملابسهن ومظهرهن وطريقة مشيهن، وثيابهن المذيلة والتي يجرجونها خلفهن على الأرض، وأقوالهن المتراقصة ورقابهن الممدودة.
اسمعوا أيضًا الطوباوي بولس (أي 2: 9) وهو يضع عدة قوانين حول الملابس والحُليّ ومصوغات الذهب وتسريحة الشعر وصبغته، وأسلوب الحياة المرفَّهة وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل، ليوبخ خبث النساء بعنف (قابل تي 2: 3–5).
السيد المسيح أيضًا ومما يلي من أقوال، يقصد نفس القصد ولكن بشكل خفي لأنه حين يقول: "اِقلع العين التي تعثرك، واَلقها عنك" إنما يدلل على غضبه ضدهن، أي ضد بعضهن ممن يعثرن الرجال. ولهذا يضيف أيضًا "فإن كانت عينيك اليمنى تعثرك، فاقلعها والقها عنك" (مت 5: 29).
ورُبّ قائل: ماذا لو كانت قريبتي، ماذا لو كانت تخصني بأي شكل ما؟ أقول لهذا وضع الرب هذه الوصايا والأوامر، فهو لا يتحدث هنا عن الأعضاء الجسدية (الأطراف مثلاً)، حاشا لأنه لم يذكر أيضًا أن جسدنا ملوم لأي سبب من الأسباب، بل يضع الفكر الشرير موضع الاتهام. لأنه ليست العين هي التي ترى، بل الفكر والعقل. وكثيرًا ما يلتفت كياننا كله إلى الشيء المرغوب، أما عيوننا فلا ترى إلا ما هو مائل أمامنا. ولو كان السيد المسيح يتحدث عن أعضاء الجسد، لما ذكر ذلك عن عين واحدة، ولا عن العين اليمنى فقط، بل عن العينين، لأن من يتأذى بعينه اليمنى، لابد وأن يتضرر أيضًا بعينه اليسرى. فلماذا ذكر العين اليمنى، ثم اليد؟ ليريكم أن حديثه ليس عن الأعضاء أو الأطراف، بل عن القريبين منا، وكأنه يقول: "إن كنت تحب شخصًا ما - وكأنه محل عينك اليمنى- وإن كان ذا قيمه بالنسبة لك – حتى أنك تحسبه محل يدك - لكنه يؤذي نفسك، فإنك حتى تقطعه. وتأملوا تأكيده للأمر إذ لم يقل "ابتعد عنه"، بل وحتى يؤكد على الانفصال الكامل عنه يقول "اقطعه" (pluck it out)، "والقه عنك". مظهرًا أن الأمر حاسم وبتار، لكنه يظهر الربح من جهة أخرى، سواء جاءنا من الصالح أو الشرير – مستمرًا في تقديم الصورة المجازية - (الميتافور) إذ يقول:
"لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم" (مت 5: 29-30)، فهو لا يقدر أن يخلص نفسه وحتى يفشل في تحطميك، القِ هذا العضو عنك. فأيّ عطف هنا إذا غرق الاثنان وهلكا معًا، بينما إذا انفصلا فإن واحد على الأقل سوف ينجو. ورُبّ قائل: لماذا اختار بولس إذن أن يكون ملعونًا لأجل إخوته (قابل رو 9: 3)، نقول: ليس من قبيل الخسارة يفعل ذلك، بل لأجل خلاص الآخرين. أما في الحالة الأخرى فالخسارة من نصيب الطرفين. لهذا لم يقل الرب فقط "اقلعها" بل "القها عنك" أيضًا. حتى لا تقبل هذا العضو فيك مرة أخرى إذا ما استمر على ما هو عليه. وهكذا تخلصه هو من حمل ثقيل وتحرر نفسك من الهلاك.
وحتى نرى مزيدًا من منفعة هذا القانون (الناموس) اسمحوا لي أن نجرب ما قيل بشأن الجسد ذاته - على سبيل الافتراض أعني - أن نمنح الإنسان حرية الاختيار، بين الاحتفاظ بعينه مع الطرح في الأتون والهلاك، وبين اقتلاع العضو الفاسد والاحتفاظ بباقي الجسد. فهو سلوك إنسان لا يكره عينيه بقدر ما يحب باقي جسده كله.
وينطبق نفس المثال على رجال أو نساء نحبهم أو نعرفهم، فإن كان صديقك يؤذيك بصداقته ويظل هكذا دون علاج، فإن قطعه عنك يحررك من رداءة سلوكه. أما هو فيتحرر من أثقال عسرة الحمل، فتتخلص من هلاكك ومن أعماله الشريرة.
فما أعظم الناموس وما ألطفه وما أجمله وهو يعتني بكم، فما يبدو للناس قساوة يكشف عن عمق المحبة نحو الإنسان. فليسمع هذه الأمور المسرعون إلى اللهو في المسارح كل يوم والزناة، لأنه إن كان الناموس يوصي بقطعه عنكم، أعنى الذي يؤذينا بارتباطنا به، فما عذر الذين يرتادون تلك الأماكن، ويجتذبون إليهم كل يوم حتى الذين لا يعرفونهم، فيوفرون لهم فرص الهلاك بغير حصر، لهذا حرم السيد المسيح النظرة الشريرة لما يعقبها من خطايا، ولهذا يأمر بالناموس الجديد أن نقطعها عنا ونطرحها بعيدًا. وهو الذي نطق بأقوال المحبة التي لا تُحصى لها عدد، لتدركوا في كل وقت قوة رعايته الإلهية. وسعيه الدائم إلى منفعتن

4. "وقيل من طَلَّقَ امرأته فليعطها كتاب طلاقٍ. وأما أنا فأقول لكم إنَّ من طَلَّقَ امرأتهُ إلا لعلة الزنا يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقةً فإنه يزني" [ع32-31]
وبعد أن أوضح جيدًا الأمور السابقة، بدأ الرب في عرض مفهوم الزنا بشكل جديد، فقد كان هناك ناموس قديم معمول به (تث 24: 1-4). أن من يكره امرأته لأي سبب من الأسباب (حتى لو كان تافهًا) يمكنه أن يطلقها، وأن يأتي بزوجة أخرى إلى البيت بدلاً منها. ويأمره الناموس أن يفعل هكذا ببساطة، بل أن يعطيها كتاب طلاق حتى لا تعود إليه أبدًا، حتى يبقى الزواج في شكله الشرعي قائمًا، لأنه لو لم يشًرِّع الناموس ذلك، لكان من الشرعي(الشرع) أولاً أن يطلِّقها ويرتبط بأخرى، ثم يعود فيأخذ الأولى التي طلقها، فتعم الفوضى بشكل كبير، ويتزوج الرجال زوجات الآخرين باستمرار، ولأصبح الأمر بمثابة زنا مباشر. لهذا يشرِّع الرب كتاب الطلاق كنوع من تلطيف الأمور، فالطلاق ليس بالأمر الهيِّن، لكن الناس أساءوا استغلاله لشرورهم العظيمة. ولأسباب أخرى غير اللطف، أعني أن الرب قصد أن يترك الزوج الكاره زوجته في بيته، ويطلقها حتى لا يقتلها بسبب كراهيته لها. لأنه هكذا كان طبع اليهود الذين لم يشفقوا على الأطفال وذبحوا الأنبياء "وسفكوا الدماء كالماء" (قابل مز 79: 3)، وهم لا يرحمون النساء بل يبطشون بهن. لهذا يسمح السيد المسيح بالضرر الأقل ليزيل الضرر الأكبر، حتى لو لم يشرعه الناموس الأصلي؛ إذ يقول:
"لقساوة قلوبكم أوصى موسى أن يُعطى كتابُ طلاق" (مت 19: 8). حتى لا يذبح الرجال نساءهن في البيوت، بل بالأحرى يطلقوهن (أيّ يسرِّحوهن بمعنى يطلِّقن سراحهن).
هكذا لا يحرم الرب القتل فقط، بل ينزع كل مشاعر الغضب، وإلهنا يشرِّع هذا الناموس في يسر. ويستحضر في الأذهان كلمات سابقة مؤكدًا أن أقواله ليست مناقضة لما سبقها، بل تتفق معها وتقويها، ولا تنقضها بل تكملها. تأملوا في كل مرة يخاطب فيها الإنسان فيقول:
"من يطلق امرأته يجعلها تزني. ومن يتزوج بمطلقة يزني" ففي الحالة الأولى ورغم أن الرجل لم يتزوج بأخرى بعد، فإنه ملوم لمجرد الفعل إذ جعل زوجته تقترف الزنا، ويصبح من تزوج بمطلقة (لم يطلقها زوجها شرعًا) زانيًا، لأنه أخذ زوجة لا تزال على ذمة رجل آخر! فزوجها لم يطلقها، وحتى لا تتشبث المرأة برأيها إذا أُلقي باللائمة على الزوج الذي يطلق. لهذا أغلق في وجهها الأبواب أمام من يقبلها في بيته. إذ يقول: "ومن يتزوجها (أيّ التي لم تطلَّق شرعًا) يجعلها تزني". والمسيح بذلك يريد عفة المرأة حتى لو ضد رغبتها، وحتى لا تصبح في متناول الجميع. وحتى تعي جيدًا أن عليها واجب الحفاظ على زواجها وزوجها الذي كان من نصيبها أصلاً¬. وحتى لو كانت موجودة من بيت زوجها ومطلقة، فإنها ولو ضد إرادتها تحاول أن تبذل أقصى ما في وسعها لأجل استمرار الزواج.
وإن لم يكن السيد المسيح قد أفصح عن هذه الأمور كلها؛ فلأن المرأة مخلوق ضعيف رقيق قد لا تهتم بهذه القضية بشكل كبير. ولهذا يهدد الرجال حتى يقوم من إهمالها بشكل كامل. مثلما يكون لإنسان ابن ضال يتركه ويوبخ الذين تسببوا في ذلك، والذين منعوا الأب أن يتصل به أو يتحدث إليه أو يوبخه؟؟، فإن تضايقتم من هذا التصرف، أرجوكم تذكروا أقوال الرب السابقة، وكيف يطوب سامعيه. وسترون أنه من السهل على من يلتزم بكل الوصايا الوديع والمسالم والمسكين بالروح والرحيم ألا يطلق امرأته. فمن الذي اعتاد التصالح مع الآخرين، لا يمكن أن يتخاصم مع زوجته. وينير المسيح بصيرتنا ومداركنا حين يتطرق إلى قضية إطلاق المرأة (أو تسريحها)، حين يقول "لا يتم هذا إلا لعلة الزنا" لأنه إذ أوصى منذ البدء أن يحتفظ الزوج بها في بيته، لكنها إن كانت تدنس نفسها مع كثيرين، لانتهى بها الأمر إلى الزنا. هكذا تتفق تلك الأقوال مع سابقاتها لأن من ينظر إلى امرأة غيره بعيون عفيفة، لن يرتكب الزنا، وبذلك لن يعطي لزوج المرأة الأخرى أية فرصة لطلاقها. بهذا يشدد الرب على هذه الجزئية دون تحفظ ويجعل من المخافة حصنًا منيعًا، ملقيًا على الزوج خطرًا جسيمًا إن طلق امرأته. إذ يحسب مسئولاً مسئولية شخصية عن زناها. لهذا يصحح المسيح الوضع لئلا يفتكر أحد في قوله "تقلع عينيك" بمعنى "تتخلص من زوجتك" جاعلاً بيد الرجل أن يدعها تمضي ويطلقها. (إن كانت زانية، أو إن كان هو زانيًا) وليس أمامه من حل آخر يلجأ الزوج إليه.

5. "أيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك. وأنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة" [ع34-33].
قبل أن يتحدث السيد المسيح عن السرقة، تناول موضوع شهادة الزور متجاوزًا وصية "لا تسرق". ترى لماذا يفعل ذلك؟ لأن من يسرق يحلف باطلاً في هذه المناسبة، أما من لا يعرف كيف يشهد بالزور أو يتحدث زورًا، لا يعرف بالأكثر كيف يسرق.
لهذا تجاوز الرب الحديث عن السرقة إلى شهادة الزور لأن منها تتولد السرقة. لكن ما معنى "أوف للرب أقسامك" (انظر عد 30: 2، تث 23: 23) حيث نقرأ:
"إذا أقسم رجل قسمًا، أن يلزم نفسه.. فلا ينقض كلامه"، "وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة". وحتى يبعدهم عن القسم بالله، يقول: "لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم (قابل إش 26: 1، مز 18: 2) مقتبسًا من الكتابات النبوية، ومشيرًا إلى أنه هو ذاته لا يناقض القدماء. والسبب في ذلك؛ أنهم اعتادوا القسم بتلك الأشياء، والرب يعلن في نهاية الإنجيل عن هذا (مت 23: 16) ويوضح جسامة هذا الأمر لا بسبب طبيعتها الجسيمة بل بسبب علاقتها بالله. ولنتأمل كيف تم الإعلان عنها بمثل هذا القدر من التنازل؛ إذ كان طغيان الوثنية شديدًا، وكان لا بد أن ينفي أيّ استحقاق بالكرامة لهذه الأشياء والأوثان. لهذا يذكرها هنا لمجد الله، لأنه لم يقل:
"لأن السماء جميلة وبديعة وعظيمة" ولم يقل "لأن الأرض نافعة"، بل "لأن السماء عرش الله، والأرض موطئ قدميه" هكذا يحثهم في الحالتين إلى الاتجاه نحو ربهم ثم يكمل قائلاً:
"ولا تحلف برأسك؛ لأنك لا تقدر أن تجعل شعرةً واحدةً بيضاء أو سوداء" (مت 5: 36).
وهو هنا لا يثير الإعجاب بالإنسان حين يذكر القسم برأسه، (وإلا صار الإنسان معبودًا)، بل يشير إلى مجد الله وللتأكيد على أن الإنسان لا يسود حتى على نفسه، ومن ثم لا تمتلك السيادة حتى تحلف برأسك. لأنه مثلما لا يعطي أب ابنه لآخر، هكذا لا يعطي الله عمله الخاص به لك. فرغم أن الرأس رأسك أنت، إلا إنها مملوكة لله، وما دمت لست سيدًا على رأسك في هذا الشأن، فلا قدرة لك على التصرف فيم لا تمتلكه، ولا في أدنى شيء آخر؛ لأن الرب لم يقل: "أنت لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة تنمو" بل يقول: "أنت لا تقدر حتى أن تعدل من صفاتها".
ورُبّ قائل: لكن ماذا لو أقسم إنسان قسَمًا تحت إكراه؟ إذن فليكن خوفك من الله أقوى من الإكراه على القسَم، لأنك إن اعتدت على الأعذار، لن تنفذ وصية واحدة من وصايا الرب. فبالنسبة لزوجتك، ستقول: ماذا لو كانت مشاكسة وعنيفة؟ وبالنسبة لعينك اليمنى ستقول: ماذا لو كنت أحبها، حتى وأنا في النار فعلاً؟ وعن النظرة الشهوانية غير العفيفة تقول: ماذا لو كنت لا أقوى على الامتناع عن النظر؟ وعن غضبك ضد أحد الإخوة تقول: ماذا لو كنت متسرعًا لا أقدر على ضبط لساني؟.
وبوجه عام تدوس هكذا على كل أقوال الرب، مع أنك لا تقدر أن تتدرج بنفس الحجم بالنسبة لقوانين البشر ولا تقول: ماذا لو كان هذا أو ذاك هي الحالة؟ ولكن سواء أردت أو لم ترد فإنك تقبل الملكوت، وتكون مضطرًا أن تقع تحت نيرها كلها. لأن من سمع بالبركات السابقة، ووضع على عاتقه تنفيذ وصايا المسيح، لن يكون مُكرهًا على المعاناة من جراء أيّ قانون عالمي؛ إذ هو يوقرها ويحترمها كلها.
"بل ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو (يأتي) من الشرير (الشيطان)" (مت 5: 37). فما الذي يزيد على "نعم" وعلى "لا" إنه القسم وليس الحنث بالقسم. لأن الحنث بالقسم معلوم لدى الجميع، ولا يحتاج الإنسان أن يعرف أنه من الشرير. بينما ما زاد على ذلك لا لزوم له إذ يتجاوز الحد المسموح.
ورُبّ قائل: هل القَسم من الشرير؟ وإذا كان من الشرير فكيف يكون من الناموس؟
حسنًا، فإنكم ستقولون نفس الشيء عن الزوجة أيضًا، كيف ما كان مسموحًا به قبلاً قد صار الآن زنى؟ فما قولك: لقد كانت الوصايا التي قيلت قديمًا تتعلق بأناس استلموا الناموس وهم ضعفاء. ولأنه لا يليق بالله أبدًا أن نعبده على بخار ذبيحة - مثلما لا يليق التلعثم أو (اللثغة في النطق) بفيلسوف - لهذا يكشف الرب الآن أن هذا النوع من الأمور هو زنا وأن القسم من الشرير، إذ تقدَّمت الآن مبادئ الفضيلة. لكن لو كانت هذه الأمور منذ البدء هي نواميس الشرير، لما أدت إلى مثل هذا الصلاح العظيم.
أجل، فلو لم تكن تلك الوصايا رائدة وسبَّاقة في المقام الأول، ما نلنا نحن ما نلناه الآن بهذا القدر من السهولة. فلا تُحققوا الآن في سموها، وقد مضى على استعمالها زمان طويل، بل حين كان الأمر يتطلب وجودها. أو بالأحرى إن أردتم ولو حتى الآن، لأن الآن وقت مناسب، لأن ظهورها في وقت مثل هذا هو أعظم مديح لها. لأنها لو لم تقوَّم سلوكنا جيدًا، وتهيئنا لقبول وصايا أعظم، لما ظهرت هكذا على ما هي عليه.
فالثدي مثلاً له وظيفة هي توفير الطعام للطفل ليساعده على النمو والنضج، وهي وظيفة يكملها على أتم وجه. لكنه وبعد أن يكبر الطفل قد يبدو بعدها بلا فائدة وقد يسخر منه الأبوان اللذان كان يعتقدان مثلاً بضرورته للطفل! بل وقد يسيئان استخدامه ويسخران منه كل السخرية. قد لا يكتفيان بكلمات تحقير يقولانها أمام الطفل بغية فطامه، فيدهنانه بعقاقير مُرة ليطفئوا اشتياق الطفل إليه. هكذا يقول السيد المسيح إنها (الوصايا) من الشرير، لا ليشير إلى أن الناموس القديم هو من الشرير، بل ليقودهم بعيدًا عن فقرهم القديم بكل جدية. لكن اليهود عديمي الإحساس والإدراك والمتحفِّظين في كل طرقهم، فقد دهن كل مدنهم برعب الأسر والسبي كما بعقار مر، ليجعل الدخول إليها صعبًا. ولكن إذا فشل معهم هذا الأسلوب، ولم يروعهم بل اشتاقوا أن يعودوا إلى ما اشتهوه مثلاً تمامًا مثلما يَهرع الطفل إلى الثدي، فقد أخفاه عنهم تمامًا. وانتزعه منهم ليبعد معظمهم عنه (تم تدمير أورشليم عام 70م الكاتب الأصلي).
ومثلما نفعل نحن مع قطيعنا، فالكثيرون حين يحبسون العجول، ثم يحثُّونهم في الوقت المناسب على الفطام من اللبن القديم الذي اعتادوا على تناوله(الجملة ناقصة؟؟؟؟).
لكن لو كان الناموس القديم ينتمي إلى الشيطان، لما أبعد الناس عن الوثنية، بل بالأحرى كان سيلقي بهم في أحضانها فهذه هي شهوة الشيطان.
لكننا الآن نرى التأثير العكسي للناموس القديم. فلهذا السبب عينه قد سن هذا التشريع عن القَسم، حتى لا يحلفوا بالأوثان. (إر 4: 2 LXX). إذن لم تكن فوائد الناموس صغيرة بل كبيرة جدًا. ولهذا كانوا يأتون إلى الطعام القوي. وهو ما اِهتم به الناموس قديمًا.
وقد يقال: وماذا بعد، أليس القَسم من الشرير؟ بلى، إنه فعلاً من الشرير - وهو المفهوم الذي يدركه الآن من بلغوا حد الانضباط إلى درجة عالية، لكن لم يكن الأمر كذلك قديمًا.
ورُبّ قائل: "هل نفس الشيء يكون في وقت ما صالحًا، وفي وقت آخر شريرًا؟
كلا، بل النقيض تمامًا هو الحق. فما الذي يمنع أن يكون الأمر صالحًا وغير صالح معًا؟ بينما تصرخ كل الأشياء أنها كذلك. الفنون، ثمار الأرض، وكل الأشياء الأخرى؟
تأملوا مثلاً ما يحدث لبني جنسنا، فمن الجيد أن يحملنا الوالدان ونحن صغار، لكن لا يصلح هذا الأمر بعد ذلك. وفي مستهل حياتنا نأكل الطعام اللين طعام الصغار نتناوله بالفم وهو صالح لنا، لكن بعد ذلك يصبح غير صالح. وفي طفولتنا من النافع والصالح أن نهرع إلى أثداء أمهاتنا لنرضع اللبن الصحي، لكن لا يصلح هذا الأمر بعد أن نكبر، بل يضرنا ويؤذينا.
أرأيتم كيف تصلح أشياء لزمن ما ولا تصلح هي نفسها لزمن آخر؟
أجل؛ فثوب الطفل يليق بك ما دمت صغيرًا، لكن حين تصبح رجلاً لا يصلح هذا الأمر، بل يصبح مخزيًا. ثم فكروا في عكس هذا الأمر. فهل يصح أن يتناول الطفل طعام البالغين؟ هل يمكنك أن تعطي طفلاً ثوب إنسان بالغ ليرتديه؟ إنه سيصبح محل سخرية كبيرة. وكذلك قد يسبب السير به خطرًا محدقًا به؛ إذ قد يتعثر ويسقط. وهل نسمح لطفل أن يدير شؤوننا العامة، وأن ينظم المرور، وأن يبذر الأرض، وأن يجني المحصول، إنه سيثير بالطبع سخرية الناس منه.
فلماذا أذكر هذه الأمور لكم؟ إن الجميع يسلِّم بأن القتل من اختراع الشرير. أقول إن القتل قد وجد له فرصة مواتية مع الإنسان الذي ارتكبه فكرَّم الكهنوت؟؟ (قابل عد 25: 8)، إذ كان القتل عمل ذاك الذي ذكرته الآن. اسمعوا ما يقوله المسيح:
"تُريدون أن تعملوا شهوات أبيكم، وذاك كان قتالاً للناس من البدء" (مت 8: 44) ولكن فينحاس أصبح قتالاً للناس، ولكن كتب عنه: أنه حُسب له برًا" (مز 106: 31).
وإبراهيم أيضًا، والذي لم يصبح قتالاً للناس، بل ما هو أسوأ من ذلك بكثير أيّ قتالاً وذابحًا لابنه، هذا قد لاقى إحسانًا كبيرًا بغير قياس. وبطرس أيضًا الذي ارتكب قتلاً مضاعفًا. ومع ذلك فإن ما فعله كان من الروح القدس (أع 5).
دعونا إذن لا نتبسط في فحص هذه الأمور، بل أن نضع في الاعتبار أيضًا الفترة الزمنية والأسباب والأساليب الفكرية واختلاف الأشخاص، وكل ما يصاحب هذه الأمور لتبلغ المطلوب بدقة أكبر؛ إذ ما من سبيل لبلوغ الحق غير هذا السبيل. ولنجتهد إن أردنا بلوغ الملكوت، أن نتجاوز الوصايا القديمة إلى ما هو أعمق منها؛ لأننا لا يمكننا أن نملك ناصية السماء بغير هذا الطريق، لأننا إن بلغنا فقط قامة القدماء سنقف خارج العتبة السماوية. لأنه "إن لم يزِد بِرُّكُم على الكتبةِ والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 5: 20).

6. ومع ذلك، ورغم ثقل التهديد الموضوع أمامنا، فإن البعض ورغم بعدهم عن إهمال البرّ، فإنهم كثيرًا ما يقصرون في بلوغه. ورغم بعدهم عن الحنث باليمين كثيرًا ما يحلفون باطلاً. ورغم بعدهم عن النظرة الشهوانية، كثيرًا ما يسقطون في ذات الشر، وكل المحرمات، بل ويتجاسرون على ممارستها، وكأن الشعور بالذنب أمر قد ولَّى لا يتذكرونه. منتظرين شيئًا واحدًا هو يوم العقاب؛ اليوم الذي يدفعون فيه ثمن خطيتهم عقوبةً فادحة لقاء سوء أعمالهم. وهذا هو نصيب الذين أنهوا حياتهم في فعل الشرور فقط. ولهؤلاء عذرهم إن يئسوا، فهم لا يتوقعون أيّ عقاب ينزل بهم! حتى وهم لا يزالون على الأرض هنا، وهي فرصتهم لتجديد قوتهم والغلبة ونوال الإكليل في يسر.
فلا تيأس أيها الإنسان ولا تقلع عن استعدادك الشريف الجاد، أرجوك. فما هي مشكلتك في أن تكف عن القسم؟ هل يكلفك هذا الأمر مالاً؟ هل يكلفك عرقًا ومشقة؟ يكفي أن تتوفر الإرادة لك وسوف يتم كل شيء. لكن إن كنتم تتذرعون لي بعاداتكم، فإنني أقول لكم لهذا السبب عينه، إن فعل الصواب سهل عليكم.(الضمير اختلف) لأنك إن سادت عليك عادة أخرى، فقد تمارس كل العادات: تأمل مثلاً ما يحدث وسط الإغريق في حالات كثيرة أن الأشخاص الذين يعانون من التلعثم في الكلام يتم علاج ألسنتهم المتعثرة. بينما آخرون من الذين اعتادوا هزّ أكتافهم بشكل غير لائق، ودائمًا ما يحركونها باستمرار هؤلاء ما إن يضعوا سيفًا على أكتافهم حتى تنتهي تلك العادة عندهم. وإن كنتم لا تقتنعون بالكتب المقدسة فإنني ملزم أن أفجلكم بها. وهذا ما فعله الله أيضًا مع اليهود حين قال:
"فاعبروا جزائر كتيم وانظروا وارسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًا... هل بدَّلتْ أمة آلهةً وهي ليست آلهةً" (إر 2: 10-11).
بل ويرسلنا بالمثل إلى البهائم أو الحيوانات العجماء قائلاً في هذا الصدد: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمَلْ طُرُقها. واذهب إلى النحلة" (أم 6: 6-8س). وهذا هو ما أقوله لكم الآن أيضًا.
تأملوا فلاسفة اليونانيين وستعرفون كم من عقاب شديد نستحقه نحن الذين نعصي قوانين الله. فهم أمام الناس ومن أجل اللياقة، يبذلون أقصى ما في وسعهم، أما أنتم فلا تبذلون نفس السعي الدؤوب لأجل السماء. فإن كان ردكم على هذا الأمر أن " للعادة قوة عجيبة في خداع حتى الذين يجتهدون اجتهادًا عظيمًا. أقول لكم بالمثل حتى إن كانت إلى هذه الحد قوية في الخداع، فإنه من السهل تقويمها. لأنكم إن جعلتم في بيوتكم آخرين يراقبونكم مثل خادمك أو زوجتك أو صديقك، لأقلعت فورًا عن العادات المذمومة؛ إذ يضغط عليك الآخرون لمنعك من الاستمرار فيها، فإن نجحت في ذلك طيلة عشرة أيام فلن تحتاج بعدها إلى مزيد من الوقت، بل يصبح كل شيء آمنًا عندك، ويعود من جديد وقد تأصلت فيك العادات الجديدة الفائقة السمو.
لهذا إن بدأت في تصحيح عادة سيئة. فحتى لو تعديت الناموس مرة أو مرتين أو حتى عشرين مرة، لا تيأس، بل قم مرة أخرى، واستعْد نفس حماسك الأول، وسوف تنجح يقينًا. لأن الحنث باليمين ليس من الأمور الهينة. فإن كان القسم من الشرير، فكم وكم يكون العقاب أشد من جرَّاء القسم الزائف. هل تمتدحون قولي؟ كلا، لا تفعلوا. فأنا لا أريد أن أصفق أو أصنع جلبة أو ضوضاء. إني أريد شيئًا واحدًا فقط: أن تنصتوا في هدوء وجدية، ثم أن تفعلوا ما يُطلب منكم، فهذا هو الهتاف والمديح. لكن إن كنتم تمتدحون قولي دون أن تفعلوا ما تهللون له، فإن العقاب يكون أشد وأكثر إيلامًا وقسوة. يجلب علينا الخزي والسخرية، لأن أمور الزمان الحاضر ليست مشهدًا دراميًا في مسرحية ما، ولا أنتم متفرجون تحدقون في بعض الممثلين مكتفين بالتصفيق وحسب. إن هذا المكان مدرسة روحية، وهناك نهاية واحدة فقط علينا أن نسعى لتحقيقها في حينها؛ بأن ننفذ المطلوب منا مظهرين طاعتنا بأعمالنا، لأننا حينئذٍ ننال كل ما نريده. لأننا إن توخِّينا الصدق لأدركنا أن واقعنا يصيب الجميع باليأس. لأنني لم أكف عن إسداء النصائح لأولئك الذين أقابلهم على انفراد، أو في العظات العامة معكم. ومع ذلك لا أرى تقدمًا ملحوظًا على الإطلاق، بل لا تزالون متعلقين بالسلوكيات الفظة السابقة. الأمر الذي يضايق المعلم كثيرًا ويقلقه. انظروا مثلاً بولس الرسول وهو لا يكاد يحتمل أن يؤجل معلموه دروسهم الأولى لفترات طويلة، أو يقول لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلِّمين لسبب طول الزمان، تحتاجون أن يعلِّمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله (عب 5: 12).
لهذا السبب ننوح نحن أيضًا ونبكي، فإن رأيتم أن تظلوا على حالكم فسوف أمنعكم في المستقبل من أن تطأ أقدامكم هذه الأعتاب المقدسة، وتشتركوا في السرائر الأبدية، مثلما نفعل مع الزناة والزانيات والقتلة. أجل لأنه من الأفضل أن نرفع صلواتنا المعتادة مع اثنين أو ثلاثة، يحفظون نواميس الله، من أن نحشد جمعًا من العصاة والمفسدين للناس، فيغادر الغني والعاهل الملك والذين يتشامخون عليَّ هنا، ويرفع منهم الواحد حاجبه عاليًا.؟؟ فإن كل هذا هو بالنسبة لي بهتان وظل وحلم. لأنه ما من غني من أغنياء هذا الدهر يتشفع لي هناك، حينما أَمْثل للحساب والمحاكمة؛ بأنني لم أصن نواميس الله جيدًا، وفي جدية ولياقة. ولهذا فإن مثل هذه الأمور قد حطمت العجوز الممتدح (1 صم 3: 13). رغم أنه في حياته لم يكن ملامًا من أحد، ولكن لأنه تغاضى عن الدوس على نواميس الله، طورد هو وأولاده وعوقب بأشد العقاب. فإن كان سلطان الطبيعة المطلق هكذا عظيمًا، فعلى من يفشل في معاملة أولاده بحزم إن يتحمل هذه العقوبة الشديدة. فكم وكم يكون إهمالنا، إذ ونحن متحررون من هذا السلطان لا نزال ندمر كل شيء بنفاقنا؟ وحتى لا تهلكونا وتهلكوا أنفسكم أيضًا معنا، أرجوكم أن تقتنعوا بكلامنا فتقيموا حولكم كثيرين يراقبونكم، يدبرون أحوالكم ويدعونكم لحساب أنفسكم. فتحررون ذواتكم من عادة القسم، حتى إذا ما سلكتم بتدبير حسن، تنجحون جميعكم وبكل يسر أن تمارسوا الفضائل الأخرى، فتنعموا بالصلاح العتيد أن يمنحه الله لكم حتى يكون لجميعنا ربح.
بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للبشر، له المجد والقدرة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين كلها. آمين


العظة الثامنة عشرة

في الترفق بالآخرين

"سمعتم أنه قيل عينٍ بعين، وسنٍ بسن. وأما أنا فأقول لكم، لا تقاومُوا الشرًّ، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحِّول له الآخر أيضًا" [ع38-40]
هل رأيتم أنه لم يكن يتكلم عن العين قبلاً؛ عندما وضع الشريعة الخاصة بقلع العين المعثرة، بل عن ذاك الذي يؤذينا بصداقته ويلقي بنا في لجة الهلاك؟ فالسيد الذي يستعمل هذه القوة العظيمة للتعبير في هذا الموضع، والذي لا يسمح لك بضرب من يقلع عينك، كيف يَشرع بضرب الآخر؟
لكن إن كان أحد ما يتهم الناموس القديم بأنه يأمر بالثأر والانتقام، فهو يبدو لي بلا خبرة كافية عن حكمة المشرع، يجهل مدى الربح الذي يجنيه من التنازل. لأنه لو عرف من هم السامعون لهذه الأقوال، وكيف كانت ميولهم وهم يستلمون مثل هذه الشرائع، لأدرك على الفور حكمة معلِّم الناموس الإلهي، ولعلم أن الواحد نفسه هو الذي وضع الناموسين القديم والجديد. وأنه هو الذي كتب كليهما لنفعنا إلى أقصى درجات النفع وفي وقتها المناسب. لأنه إن كان الرب قد أدخل هذه الوصايا الفائقة السمو منذ البداية، وما استطاع الناس قبولها، لا هي ولا وصايا أخرى، لكنه شرَّعها، كل شريعة منها مفردة وفي وقتها المناسب، فقوَّم العالم كله بالناموسين القديم والجديد.
وقد أمر السيد الرب ألا تضرب عين الآخر، ليس هذا فحسب، بل أن تكف أيدينا عن ملاحقته. لأن التهديد بالألم يمنعنا كليةً أن نميل إلى هذه الأمور. لهذا يضع السيد المسيح وفي صمت بذرة ضبط النفس. على الأقل وهو يوصي بعدم الثأر لنفس الأعمال، فإن الذي بدأ بتعدٍ مثل هذا يستحق حتمًا عقوبة أشد، وهذه هي متطلبات وطبيعة العدل المجردة.
وإذ يمزج الرب الرحمة بالعدل، فإنه يدين من كانت تعدياته فادحة بالنسبة لعقوبة أقل يستحقها، ليعلمنا أنه حتى ونحن نتألم علينا أن نظهر مزيدًا من الاهتمام.
وبعد أن ذكر الناموس القديم وأقر بكل ما فيه، يشير مرة أخرى أن من فعل كل ذلك ليس أخونا بل الشرير. ولهذا يكمل قائلاً: "أما أنا فأقول لكم، لا تقاوموا الشر"، فهو لم يقل "لا تقاوموا أخاكم" بل "الشر". مشيرًا إلى أن الناس يتجاسرون على ذلك بإيحاء من الشرير، ومن ثم فإنه يهدئ من روعنا ويزيل بطريقة سرية معظم غضبنا ضد المعتدي، بتحويله اللوم إلى آخر (الشيطان).
وقد يقال: وماذا بعد؟ ألا ينبغي علينا مقاومة الشرير؛ حقًا يجب ذلك لكن ليست بهذه الطريقة، بل كما أوصى الرب بتسليم الإنسان نفسه إلى احتمال الألم بشكل سليم. وبهذا يستطيع أن يغلبه، لأن النار لا يمكن إطفاؤها بنار أخرى، بل بالمياه نطفئ النيران. ولكي يعرِّفكم أنه في ظل الناموس القديم، من يتألم هو الذي يظفر في النهاية وينتصر ويربح الإكليل، عليكم أن تفحصوا ما تم لتروا أن ربحه كان عظيمًا. لأن من يبدأ بأعمال ظالمة، يُهلك عينيّ جاره وعينيه هو. ولهذا يكرهه الجميع، ويتهمه الكل.
أما المتضرر فلا يكون قد فعل شيئًا مروعًا، بل يتعاطف الجميع معه. حتى بعد ثأره المتعادل، ورغم أن الخسائر واحدة لدى الطرفين، إلا أن الحكم الواقع على كلٍ منهما ليس بنفس القدر، سواء لدى الله أو الناس. لهذا تبدو الفاجعة في النهاية غير متساوية.
وفي حين قال الرب في البداية: "من يغضب على أخيه باطلاً" و "من يدعو أخاه يا أحمق" يكون مستوجب نار جهنم. فإنه هنا يطالب بمزيد من ضبط النفس، فيأمر المتضرر بألا يكون هادئًا وحسب، بل أن يكون أكثر جدية بدوره بأن يحوِّل الخد الآخر. وهو لا يقول هذا بهدف تشريع وتقنين اللطمة الثانية، بل ليعلمنا كيف نمارس مبدأ احتمال الآخر في كل ظروف حياتنا. لأنه مثلما يقول:
"من يدعو أخاه بالأحمق يكون مستوجب نار جهنم"، فإنه لا يتحدث عن هذه الكلمة فقط (كلمة أحمق) بل كل كلمة خصومة أخرى. هكذا هنا أيضًا، حين يشرع قانونًا ما ليس لكي نصبح أكثر رجولة واحتمالاً إذا ما تلقينا لطمة من آخر، بل حتى لا نضطرب مهما كابدنا من آلام. لأنه يشير هنا إلى أكثر الإهانات إيلامًا وقسوة وهي لطمة الخد، والتي تسبب تحقيرًا بالغًا للمضروب. لهذا يوصى الضارب والمضروب معًا. فلا يظن المهان أنه يعاني أيّ أذى، إذ يمارس ضبط النفس، بل إنه قد لا يشعر بالإهانة، إذ يجتهد لأجل الجعالة التي ينالها بسبب اللطمة. ومن يلطم سوف يشعر بالخجل، فلا يكرر لطمته رغم أنه يكون أشد قسوة من حيوان مفترس، بل بالحري سيدين نفسه من كل قلبه بسبب ما فعله. لأنه ما من شيء يمنع فاعلي الشر أكثر من موقف المضروب حين يتلقى الضربة في رقة، بل إن رقته لا تمنع ضاربيه من الاندفاع الأهوج وحسب، بل تدفعهم إلى التوبة بسبب فعلتهم. وعندما يواجه المضروب ضرباتهم بالترفق والاحتمال فإنهم سرعان ما يتراجعون، بل يحوِّلهم رفقنا بهم إلى أصدقاء وخاصة لنا، ويصيرون خدامًا وليسوا أصدقاء فقط لنا. بدلاً من كارهين وأعداء. وبدلاً من أن ينتقم المرء لنفسه. عليه أن يفعل النقيض، لأن الانتقام يخزي الطرفين ويجعل حالهما أسوأ، ويزيد من لهيب غضبهما الذي يشتعل أكثر فأكثر. فلا ينتهي هذا الأمر إلا بالموت ويتبدل الحال من سيِّئ إلى أسوأ.
لهذا لم يحرم الرب فقط أن يغضب الإنسان إذا لُطم على وجهه، بل يشجعنا أن نُشبع رغبة الطرف الآخر، حتى لا تبدو اللطمة الأولى وكأنها ضد إرادتنا. لهذا وحتى توقعوه في خزي، لا تلطموه بالمثل بضربه بقبضتكم، حتى تجعلوه رقيقًا بعض الشيء ويصير خزيه كبيرًا.

2. "ومن أراد أن يُخاصمك ويأخُذ ثوبك. فاتُرك له الرداء أيضًا" [ع40]

فلا يقتصر الأمر على اللطمات وحدها، بل على حاجاتنا أيضًا. فهو يطالبنا بنفس الاحتمال، بل يعطينا صورة بنفس القوة وربما أكثر.
فمثلما يوصينا مثلاً بأن نقهر المعاناة، فإنه هنا يأمرنا بأن نسمح لأنفسنا أن نكون محرومين أكثر مما يتوقعه الشرير. لهذا يعطي الوصية ومعها التحفيز فلم يقل: "اعط ثوبك لمن يطلبه"، بل "لمن أراد أن يخاصمك" وحرفيا لمن أراد أن يقاضيك أمام المحاكم. أيّ الذي يجُرك إلى المحكمة ويسبب لك المتاعب. وبعد أن نصحَ ألا ندعو الآخر بكلمة أحمق وألا نغضب بلا سبب، استمر في المزيد من الإرشاد والطلب: إذ أمر أن نسلم الخد الآخر أيضًا. حتى هنا وبعد أن قال: "كن مراضيًا لخصمك" يعمق من مفهوم الوصية؛ إذ لا يأمرنا أن نقدم للآخر ما يطلبه منا، بل أن نظهر مزيدًا من العطاء والتسامح. وقد يقول قائل وماذا بعد، هل أترك له كل شيء وأمشي عريانًا؟ أبدًا، لن نكون عراة إذا أطعنا هذه الوصايا بكل أمانة، بل بالحري سوف نرتدي أوفر وأكثر مما يرتديه الآخرون.
أولاً: لأن أحدًا لا يهاجم أصحاب الميول الصالحة.
ثانيًا: حتى وإن تصادف وجود أحد بهذه الوحشية والغلظة، فتمادى في الإساءة إلينا، فإن كثيرين سيهرعون لنجدة وستر المعتدَى عليه، إذا رأوه لا يزال يسلك في إنكار ذاته. فلا يكسونه بملابسهم فقط، بل بأجسادهم أيضًا إن أمكن. وحتى لو اقتضت الضرورة أن يمشي الإنسان عريانًا في إنكار ذاته، وألحقه خزي من جرّاء ذلك. فإن آدم أيضًا كان عريانًا (تك 2: 25) في الفردوس "ولم يخجل". ويوسف كذلك (تك 39: 12) حينما ترك ثوبه وهرب عريانًا كان يسطع ببهاء أعظم. لأن العري ليس شرًا. إذ كان إشعياء أيضًا عريانًا حافي القدمين، ولكنه كان أكثر مجدًا من كل اليهود (إش 20: 2-3).
لكن إن كنا نكتسي مثلما نفعل الآن بأغلى الثياب ثمنًا، نجلب على نفوسنا خزيًا وسخفًا. لهذا ترون أن أولئك أخذوا من الله مجدًا، أما هؤلاء فقد أظهر الأنبياء والرسل خزيهم.
فلا نظن أن وصايا الرب ثقيلة ومستحيلة، كلا، فهي بجانب منفعتها سهلة جدًا، إن تحلِّينا برصانة العقل، نجني من وراءها ربحًا عظيمًا، فهي خير عون لنا، ليس لنا فقط بل للذين يسيئون معاملتنا. هنا يكمن سموها، فهي إذ تحثنا على تحمل الصعاب والمضايقات، فإنها في نفس الوقت أيضًا تعلم الخطاة أن يضبطوا أنفسهم. بينما يظن الذي يسلب الآخرين أشياءهم أنه يصنع عملاً عظيمًا. يراك وأنت تعطيه ما لم يطلبه منك، فتقابل خسته بسخائك، وشراهة طمعه باعتدالك ولطفك. فأيّ درس تراه يتعلمه منك؟ فهو لا يتعلم بكلام مجرد، بل بذات الأفعال حينئذٍ يحتقر الرذيلة ويسعى للفضيلة. لأن الله يريدنا أن نكون نافعين لا لذواتنا فحسب، بل لكل جيراننا أيضًا. فإن أعطيت الآن وامتنعت عن مقاضاة الآخرين، فإنك تفيد نفسك فقط. لكن إن أعطيته شيئًا آخر غير الذي طلبه منك، فإنك تجعله في حال أفضل حينما يرحل عنك. هذه هي طبيعة الملح الذي يريدنا الرب أن نكونه، فهو يصلح ذاته، ويحفظ أيضًا المواد الأخرى التي تُملِّح بها. وهذه هي طبيعة النور، فهو يكشف كل شيء، لنفس الإنسان ولنفوس الآخرين أيضًا. فإن وضعكم السيد المسيح في هذه المرتبة، اعينوا الجالسين في الظلمة. وعلموا الغاصبين، واقنعوهم أن يأخذوا منكم دون عنف. وهكذا تصيرون أنتم أنفسكم أكثر احترامًا ووقارًا؛ إن أظهرتم للناس أنكم تعطون بمحض إرادتكم ومجانًا، لا بالاغتصاب والسرقة. اجعلوا إذن من خطية الآخر فرصة لنفعكم وخيركم وذلك بلطفكم واعتدالكم.

3. وإن كنتم تظنون أن هذا عمل عظيم، تريَّثوا وسترون أنكم لم تبلغوا بعد حد الكمال، فالسيد الرب لا يكتفي بهذا القدر. فالذي شرَّع نواميس التحمل والصبر وطول الأناة يقول أيضًا: "من سخَّرك ميلاً فاذهبْ معهُ اثنينِ" [ع41]
هل ترون سمو إنكار الذات، على الأقل بشأن هذا الأمر، فبعد أن تعطي ثوبك ورداءك، وحتى إن طالبك عدوك بأن يسخر جسدك العاري في المشقات والصعاب، فلا تمنعه. لأن الرب يعطينا أن نملك كل شيء مشتركًا، أجسادنا وأغراضنا مع ذوي الاحتياجات. وهكذا أيضًا مع الذين يلحقون الإهانة بنا، لأن الرجولة تلزمنا بذلك تجاه من يسبب الأذى لنا، وتدفعنا الرحمة أن نهتم بكل ذي حاجة. ولهذا يقول:
إذا ألزمك أيّ أحد أن تسير معه ميلاً، فاذهب معه ميلين. هكذا يرفعكم الرب إلى درجة أخرى أعلى، فيأمركم أن تظهروا قدرًا وافرًا من التضحية والبذل.
وإن كانت الأمور التي تحدث عنها مثلاً هي أقل سخاءً من ذلك، ولها كل هذه البركات الوفيرة، فكم بالأحرى يكون نصيب الذين يتممون تلك الوصايا الجديدة، وما حالهم بعد نوالهم المكافآت في جسد بشري قابل للتألم، إذ ينال حرية كاملة من الشهوة والتألم. إذ لا تؤثر فيه لا الإهانات ولا اللطمات ولا سلب ممتلكاته ولا التحرش به. فأصحاب الأجساد صاروا يتجاوزون تلك الأمور، بل ويحتملون أكثر منها. هكذا يعكسون نوعًا من مرونة النفس التي يمارسونها عمليًا. ومثلما هو الحال مع الضربات وما نحوزه من خيرات، هكذا أيضًا في مثل هذه الحالة، يأمرنا الرب قائلاً:
لماذا أتحدث عن الإهانة والممتلكات، فرغم أن خصمك يريد أن يستغل أعضاءك في المشقة والعمل المضني بغير حق، يمكنك أن تقهر شهوته الظالمة تلك وتغلبها. لأن كلمة "يسخرك" أو "يلزمك" تعني أن يجبرك دون حق ودون سبب، فقط لغرض قهرك.
ومع ذلك، كن مستعدًا أيضًا لهذا الاحتمال، واستعد أيضًا لمزيد من الألم أكثر مما يميل الآخرون إلى دفعك وإيلامك. فاعطه رداءك أيضًا، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك، فلا ترده (مت 5: 42). وهو مطلب أقل كثيرًا مما سبقه، فلا تتعجبوا؛ لأن هذا ما يريده الرب منا على الدوام أن نمزج القليل مع الكثير، فإن بدا هذا الأمر قليلاً بالمقارنة بغيره من عظائم الأمور، فليسمع المغتصبون لخيرات غيرهم، والمبددون لثرواتهم بين الساقطات ليوقدوا في أنفسهم نارًا أعظم بسلوكهم غير التقي، وبالإنفاق الضار بهم.
وكلمة "يقترض" هنا لا يعني بها الرب سوء استخدام المال في الربا، بل حتى في الاستعمالات اليومية أو الإقراض العادي بغير مرابحة - ليعمق من الوصية - قائلاً: إنه ينبغي أن نعطيهم دون أن ننتظر منهم أن يردوا لنا ما اقترضوه (لو 6: 35).

4. "سمعتُم أنه قيل تُحبُّ قريبك وتُبغضُ عدُوَّك. وأما أنا فأقول لكم: احبُّوا أعداءكُم، باركُوا لاعنيكُم، احسُنوا إلى مُبغضيكم. وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطرُدونكُم، لكي تكونوا أبناء أبيكمُ الذي في السماوات. فإنه يُشرقُ شمسهُ على الأشرار والصالحينَ، ويمطرُ على الأبرار والظالمينَ" [ع43-45]
هنا يكشف الرب عن ذروة العمل الصالح، لهذا لا يعلمنا فقط أن نحتمل اللطمة، بل أن نحوِّل الخد الآخر أيضًا، ولا أن نعطي الثوب فقط، بل أن نسلِّم الرداء أيضًا، وأن نمشي ميلين مع من يسخِّرنا لنمشي معه ميلاً واحدًا، لكي نقبل في سهولة ما هو أعظم من ذلك من صعاب ومتاعب. ورُبّ قائل: ولكن ما هو المطلوب أكثر من ذلك؟
المطلوب، ألا نحسب من يفعل شرًا ضدنا بأنه عدونا، بل من يفعل ما هو أصعب. فالمسيح لم يقل: "لا تكره"، بل "أحب" ولم يقل "لا تجرح مشاعر أحد"، بل قال "احسن إليه". وإذا فحص أحدكم أقوال الرب جيدًا، لوجد أنه أضاف شيئًا آخر أعظم بكثير مما سبق؛ فالسيد الرب لم يطلب هكذا ببساطة أن نحب الآخر بل أن نصلي لأجله، ليرفعكم إلى درجات أعلى ونضعها على قمة كل الفضائل. أجل، وما عليكم إلا أن تلاحظوها وأن تحسبونها منذ البداية.

فالخطوة

الأولى: ألا نبدأ نحن بالظلم.
الثانية: ألا نقابل الخطأ بخطأ وألا نثأر بانتقام موازٍ.
ثالثًا: ألا نعامل من يضرنا بنفس المعاملة، بل أن نهدأ تمامًا.
رابعًا: أن نبذل ذواتنا لأجل من يخطئ إلينا.
خامسًا: أن نعطي أكثر مما يطلب الآخر أو يعطي.
سادسًا: ألا نكره من يفعل بنا شرًا.
 

سمعان الاخميمى

صحفى المنتدى
إنضم
4 أغسطس 2009
المشاركات
12,695
مستوى التفاعل
1,087
النقاط
0


العظة السابعة عشرة

الزنا

"سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزنِ، وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت 5: 27-28).
وبعد أن أنهى الرب الوصية السابقة، ورفعها إلى مستوى الذات، فإنه يتقدم في الحديث وفي الترتيب منتقلاً بشكل يتفق مع الوصية التالية، وهو هنا أيضًا يطيع الناموس.
وقد يقال، مع ذلك فهذه ليست الثانية، بل الثالثة، لأن الأولى ليست هي "لا تقل"، بل "الرب إلهنا رب واحد" (تث 6: 4)، لهذا فإنه أمر جدير بالاستفسار أيضًا، لماذا لم يبدأ بتلك، ولماذا جاءت بعدها؟
ذلك لأنه قد بدأ من هنا. ولابد أن يوسع من دائرتها ويجمعها في نفسه مع أبيه، لكن لم يحن الوقت بعد ليعلِّم الناس مثل هذا الأمر عن نفسه. وأيضًا كان يمارس لبرهة تعليمه الأخلاقي فقط، قاصدًا من هذا أولاً، وكذلك من معجزاته أن يقنع السامعين أنه ابن الله.
فإن قال على الفور: "سمعتم إنه قيل للقدماء" أو "أنا الرب إلهكم، لا يكون لكم إله غيري" لكني أقول لكم اعبدوني مثلما تعبدونه، لو كان قال ذلك قبل أن يعمل شيئًا أو يتحدث بشيء، لجعل الجميع يظنون إنه مجنون فهم قد وعوا أن به شيطان (يو 8: 48)، حتى بعدما سمعوا تعليمه ورأوا معجزاته العظيمة وحتى دون أن يصرح لهم بلاهوته علنًا. فكيف لو حاول أن يقول شيئًا من هذا القبيل قبل كل ما فعله، لقالوا فيه ما لم يقولوه قبلاً ولظنوا فيه ما لم يظنوه.
لكن الرب يحجز تعليمه حول موضوعات بعينها في الوقت المناسب، ليجعل تعليمه مقبولاً من الجميع. لهذا السبب فإنه قد تجاوزها بسرعة، وبعد أن كان يؤسس تعاليمه بمعجزاته وبتعليمه الفائق، بدأ فيما بعد يكشفها بالكلمات أيضًا، وكشف عن الأسرار في الحاضر باستعلان معجزاته وطريقة تعليمه ذاتها، وهكذا وفي حين حسن وبالتدريج وبشكل هادئ. وبدأ يشرح القوانين الجديدة والتي صاحبتها تصويبات الناموس بسلطان، ليقود سامعيه ويرشدهم بالتدريج إلى عمق تعليمه إن كانوا منتبهين ومتفهمين لما يقول. لكن الكتاب يقول: "كان يعلمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة" (مت 7: 28)

2. وبسلطان عظيم يليق بمشرِّع الناموس يقدم الرب الشهوة؛ فهي التي تسيطر على جوانحنا الطبيعة وبقوة، وهي السبب في آلامنا التي تخص جنسنا البشري كله. وها هو يصدر بشأنها أوامره الحازمة والصارمة، فإنه لم يقل لعقوبة الزاني وحسب، بل ما يفعله مع القاتل، يفعله هنا بالمثل في عقاب النظرة الشهوانية غير العفيفة، ليعلمكم أن لديه من التعليم ما هو أكثر من الكتبة في أي موضع من مواضع التعليم. ولهذا يقول: "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه". أي كل من يجعل شغله الشاغل الالتفات إلى الأجساد المثيرة ويتصيد الملامح الجميلة،(الجملة ناقصة المعنى) لأن المسيح جاء ليحرر النفس مع الجسد من الأعمال الشريرة، ولأننا نقبل نعمة الروح القدس في القلب، فإن الرب يطهر قلوبنا أولاً. ورب سائلٍ، "كيف نتحرر من الشهوة؟"
أجيب أولاً، بالإرادة تموت الشهوة فينا أو تبقى خاملة بلا نشاط. والمسيح لا ينتزع الشهوة منا تمامًا، بل تلك الميول الشهوانية التي تثيرها النظرات، لأن من ينشغل برؤية المفاتن المثيرة هو الذي يوقد أتون الشهوة الجسدية فيقع أسيرًا لها، وسرعان ما تتحول الشهوة فيه إلى حيز التنفيذ. لهذا لم يقل: كل من يشتهي ليرتكب الزنا، بل كل من نظر بشهوة.
وفي حالة الغضب تمييزًا خاصًا قائلاً: "بلا سبب" و"باطلاً" لكن الرب هنا يستأصل الشهوة مرة وإلى الأبد. ومن المعروف يقينًا أن الغضب والشهوة من الصفات الطبيعية للإنسان، وكلاهما موضوع فينا للمنفعة: فبالغضب نطارد الشر ونقوِّم السالكين بعدم استقامة، وبالشهوة ننجب نسلاً لنحفظ جنسنا البشري من الأمور الفائقة العظيمة، وتحتاج إلى كل اهتمامنا وإدراكنا. فالرب لم يقل ببساطة "كل من يشتهي" لأنه من الممكن للإنسان أن يشتهي حتى لو كان وحيدًا في الجبال، بل قال: "كل من ينظر بشهوة" أي ذلك الذي يشعل الشهوة في داخله، ذلك الشخص الذي لا يضطره أحد إلى ذلك، بل يأتي بالوحش الكاسر إلى فكره الذي كان هادئ من قبل، فليس من طبيعة الإنسان أن تهيِّج الأفكار، بل من تورط النفس في الشهوة الردية. وهذا ما يؤكده الكتاب المقدس في العهد القديم أولاً قائلاً: "لا تشته جمال امرأة قريبك" (جا 9: 8).
ولئلا يقول قائل: ماذا لو اشتهيت دون أن أقع في الأسر؟ إن الرب يعاقب النظرة الردية لئلا تقع أنت في الخطية، وأنت تظن أنك في مأمن منها.
ورُبّ قائل آخر: "ماذا لو نظرت واشتهيت فعلاً، لكن دون أن أفعل شرًا؟" حتى إن فعلت ذلك، فأنت محسوب من الزناة، لأن مشرِّع الناموس يقول ذلك، وليس من حقك أن تطرح أية أسئلة أخرى، لأنك إن نظرت مرة أو مرتين أو ثلاث لاستطعت أن تضبط نفسك، لكنك إن كنت تفعل ما تفعله باستمرار وتُشعل أتون الشهوة فإنك ساقط لا محالة؛ لأنك لا تفوق طبيعة البشر فأنت منهم. ونحن إذا رأينا طفلاً يمسك سكينًا، نضربه أو ننتهره حتى لو لم يؤذي نفسه بها، ونمنعه من أن يكرر ذلك مرة أخرى أبدًا. هكذا يفعل الله معنا، إذ ينتزع منا النظرة الردية، حتى قبل الفعل، لئلا نسقط في أي وقت؛ لأن من يشعل مرة لهيب الشهوة، حتى وإن غابت عنه المرأة التي نظر إليها، فإنه يصنع في عقله خيالات مستمرة لأمور مخزية، ينتقل بسببها إلى ذات الفعل، لهذا ينزع السيد المسيح الفكر الذي يحتضنه القلب.
فما القول فيمن يعيشون مع عذارى ويشاطرونهن المسكن؟ ألا يكونوا بموجب سلطان هذا القانون مذنبين آلاف المرات بالزنا، فهم يرونهن كل يوم وينظرون إليهن بشهوة، لهذا السبب فإن أيوب المبارك (أي 31: 1) يرسي قانون منذ البداية ليسد كل جوانب التحديق في العذارى، لأن جهاد النفس ضد النظر أمر عظيم، إذ يحرم الإنسان نفسه من مصدر اللذة، ونحن لا نجني مسرة أبدًا من النظر، بل نقع في خطأ تزايد الرغبة، فنجعل خصمنا أقوى، ونوفر للشيطان مجالات أوسع ولا نقوى على طرده، إذ أتينا به إلى عمق أعماق كياننا الداخلي، وتركنا له عقلنا مفتوحًا على مصراعيه.
لهذا يقول الرب يسوع: "لا تزْن بعينك ولا تقترف إثمًا بعقلك"، بل النظرة الشهوانية، لأنه لو لم يكن يعني ذلك، لقال ببساطة: "من نظر إلى امرأة" واكتفى بهذا القول، لكنه أضاف "ليشتهيها" أي كل من ينظر ليمتِّع نظره؛ لأن الله لم يخلق عينيك لهذا الغرض أبدًا، أي لكي تكون سببًا في الزنا، بل لتعاين بها مخلوقاته وتُمجد الخالق. ومثلما يشعر الإنسان بالغضب عشوائيًا دون مقصد، هكذا يمكنه أن ينظر عشوائيًا وبلا تعمد، وهذا عكس ما يفعله حين ينظر بشهوة. فإن كنت ترغب في النظر للمتعة، انظر إلى امرأتك – خاصتك – وأحببها على الدوام، فما من ناموس أو قانون يحرِّم عليك ذلك. لكن إن كنت تلهث في فضول خلف محاسن الأخريات، فإنك تؤذي زوجتك، لا تدع عينيك تتجولان في كل مكان، وتؤذي مشاعر من ينظر إليها بشهوة. إذ تتلامس معها على خلاف الناموس. حتى وإن لم تلمسها باليد، فقد تحرشت بها بعينك (حرفيًا: عانقتها وقبلتها) (caressed)، لهذا يحُسب ما تفعله زنا. وعاقبة هذا الجرم الفادح ليست هينة؛ إذ يمتلئ صاحب هذا الأمر بالاضطراب والانزعاج ويسقط في دوامة تجربة شديدة، ويصير ألمه عنيفًا، ولا شيء من قيود العالم وسجونه أقسى من قيود العقل. وحتى إن مضت التي أطلقت سهم الشهوة الأليمة، يبقى الجرح ولا يزول. أو بالحري ليست هي التي أطلقت السهم، بل أنت الذي أصبت نفسك بجرح مميت – نظرتك الشهوانية غير العفيفة - أقول هذا لأعفي السيدات المحتشمات من المسؤولية.
لأنه من المؤكد أن إحدى النسوة قد تخرج لتلفت الأنظار والعيون إليها، فتسبب للناس في الطريق عثرة السقوط في النظر، حتى وإن لم تصدم المارين في الطريق، فإنها تسبب في إنزال أقصى العقوبة بهم، لأنها خلطت السم وأعدت الشراب المسموم، وحتى إن لم تقدمه في قدح، أو بالأحرى كانت قد قدمت الكأس المسمم ولكنها لم تجد من يشرب من يدها.

3. ورُبّ قائل: "لماذا لم يتحدث مع النساء أيضًا".

نقول رغم أنه كان يخاطب الرجال فقط، حول قوانين مطروحة وشائعة للجميع، إلا إنه عند مخاطبته للرأس، يجعل وصاياه عامة لكل الجسد – إذ خلق الرجل والمرأة وجعلهما كيانًا واحدًا ولا يمكن التمييز بينهما في أي مكان – لكن هذا لا يمنع أن الرب وبخ النساء أيضًا، كما في إشعياء (إش 3: 16) حيث يقول الكثير ضدهن، ساخرًا من ملابسهن ومظهرهن وطريقة مشيهن، وثيابهن المذيلة والتي يجرجونها خلفهن على الأرض، وأقوالهن المتراقصة ورقابهن الممدودة.
اسمعوا أيضًا الطوباوي بولس (أي 2: 9) وهو يضع عدة قوانين حول الملابس والحُليّ ومصوغات الذهب وتسريحة الشعر وصبغته، وأسلوب الحياة المرفَّهة وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل، ليوبخ خبث النساء بعنف (قابل تي 2: 3–5).
السيد المسيح أيضًا ومما يلي من أقوال، يقصد نفس القصد ولكن بشكل خفي لأنه حين يقول: "اِقلع العين التي تعثرك، واَلقها عنك" إنما يدلل على غضبه ضدهن، أي ضد بعضهن ممن يعثرن الرجال. ولهذا يضيف أيضًا "فإن كانت عينيك اليمنى تعثرك، فاقلعها والقها عنك" (مت 5: 29).
ورُبّ قائل: ماذا لو كانت قريبتي، ماذا لو كانت تخصني بأي شكل ما؟ أقول لهذا وضع الرب هذه الوصايا والأوامر، فهو لا يتحدث هنا عن الأعضاء الجسدية (الأطراف مثلاً)، حاشا لأنه لم يذكر أيضًا أن جسدنا ملوم لأي سبب من الأسباب، بل يضع الفكر الشرير موضع الاتهام. لأنه ليست العين هي التي ترى، بل الفكر والعقل. وكثيرًا ما يلتفت كياننا كله إلى الشيء المرغوب، أما عيوننا فلا ترى إلا ما هو مائل أمامنا. ولو كان السيد المسيح يتحدث عن أعضاء الجسد، لما ذكر ذلك عن عين واحدة، ولا عن العين اليمنى فقط، بل عن العينين، لأن من يتأذى بعينه اليمنى، لابد وأن يتضرر أيضًا بعينه اليسرى. فلماذا ذكر العين اليمنى، ثم اليد؟ ليريكم أن حديثه ليس عن الأعضاء أو الأطراف، بل عن القريبين منا، وكأنه يقول: "إن كنت تحب شخصًا ما - وكأنه محل عينك اليمنى- وإن كان ذا قيمه بالنسبة لك – حتى أنك تحسبه محل يدك - لكنه يؤذي نفسك، فإنك حتى تقطعه. وتأملوا تأكيده للأمر إذ لم يقل "ابتعد عنه"، بل وحتى يؤكد على الانفصال الكامل عنه يقول "اقطعه" (pluck it out)، "والقه عنك". مظهرًا أن الأمر حاسم وبتار، لكنه يظهر الربح من جهة أخرى، سواء جاءنا من الصالح أو الشرير – مستمرًا في تقديم الصورة المجازية - (الميتافور) إذ يقول:
"لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم" (مت 5: 29-30)، فهو لا يقدر أن يخلص نفسه وحتى يفشل في تحطميك، القِ هذا العضو عنك. فأيّ عطف هنا إذا غرق الاثنان وهلكا معًا، بينما إذا انفصلا فإن واحد على الأقل سوف ينجو. ورُبّ قائل: لماذا اختار بولس إذن أن يكون ملعونًا لأجل إخوته (قابل رو 9: 3)، نقول: ليس من قبيل الخسارة يفعل ذلك، بل لأجل خلاص الآخرين. أما في الحالة الأخرى فالخسارة من نصيب الطرفين. لهذا لم يقل الرب فقط "اقلعها" بل "القها عنك" أيضًا. حتى لا تقبل هذا العضو فيك مرة أخرى إذا ما استمر على ما هو عليه. وهكذا تخلصه هو من حمل ثقيل وتحرر نفسك من الهلاك.
وحتى نرى مزيدًا من منفعة هذا القانون (الناموس) اسمحوا لي أن نجرب ما قيل بشأن الجسد ذاته - على سبيل الافتراض أعني - أن نمنح الإنسان حرية الاختيار، بين الاحتفاظ بعينه مع الطرح في الأتون والهلاك، وبين اقتلاع العضو الفاسد والاحتفاظ بباقي الجسد. فهو سلوك إنسان لا يكره عينيه بقدر ما يحب باقي جسده كله.
وينطبق نفس المثال على رجال أو نساء نحبهم أو نعرفهم، فإن كان صديقك يؤذيك بصداقته ويظل هكذا دون علاج، فإن قطعه عنك يحررك من رداءة سلوكه. أما هو فيتحرر من أثقال عسرة الحمل، فتتخلص من هلاكك ومن أعماله الشريرة.
فما أعظم الناموس وما ألطفه وما أجمله وهو يعتني بكم، فما يبدو للناس قساوة يكشف عن عمق المحبة نحو الإنسان. فليسمع هذه الأمور المسرعون إلى اللهو في المسارح كل يوم والزناة، لأنه إن كان الناموس يوصي بقطعه عنكم، أعنى الذي يؤذينا بارتباطنا به، فما عذر الذين يرتادون تلك الأماكن، ويجتذبون إليهم كل يوم حتى الذين لا يعرفونهم، فيوفرون لهم فرص الهلاك بغير حصر، لهذا حرم السيد المسيح النظرة الشريرة لما يعقبها من خطايا، ولهذا يأمر بالناموس الجديد أن نقطعها عنا ونطرحها بعيدًا. وهو الذي نطق بأقوال المحبة التي لا تُحصى لها عدد، لتدركوا في كل وقت قوة رعايته الإلهية. وسعيه الدائم إلى منفعتن

4. "وقيل من طَلَّقَ امرأته فليعطها كتاب طلاقٍ. وأما أنا فأقول لكم إنَّ من طَلَّقَ امرأتهُ إلا لعلة الزنا يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقةً فإنه يزني" [ع32-31]
وبعد أن أوضح جيدًا الأمور السابقة، بدأ الرب في عرض مفهوم الزنا بشكل جديد، فقد كان هناك ناموس قديم معمول به (تث 24: 1-4). أن من يكره امرأته لأي سبب من الأسباب (حتى لو كان تافهًا) يمكنه أن يطلقها، وأن يأتي بزوجة أخرى إلى البيت بدلاً منها. ويأمره الناموس أن يفعل هكذا ببساطة، بل أن يعطيها كتاب طلاق حتى لا تعود إليه أبدًا، حتى يبقى الزواج في شكله الشرعي قائمًا، لأنه لو لم يشًرِّع الناموس ذلك، لكان من الشرعي(الشرع) أولاً أن يطلِّقها ويرتبط بأخرى، ثم يعود فيأخذ الأولى التي طلقها، فتعم الفوضى بشكل كبير، ويتزوج الرجال زوجات الآخرين باستمرار، ولأصبح الأمر بمثابة زنا مباشر. لهذا يشرِّع الرب كتاب الطلاق كنوع من تلطيف الأمور، فالطلاق ليس بالأمر الهيِّن، لكن الناس أساءوا استغلاله لشرورهم العظيمة. ولأسباب أخرى غير اللطف، أعني أن الرب قصد أن يترك الزوج الكاره زوجته في بيته، ويطلقها حتى لا يقتلها بسبب كراهيته لها. لأنه هكذا كان طبع اليهود الذين لم يشفقوا على الأطفال وذبحوا الأنبياء "وسفكوا الدماء كالماء" (قابل مز 79: 3)، وهم لا يرحمون النساء بل يبطشون بهن. لهذا يسمح السيد المسيح بالضرر الأقل ليزيل الضرر الأكبر، حتى لو لم يشرعه الناموس الأصلي؛ إذ يقول:
"لقساوة قلوبكم أوصى موسى أن يُعطى كتابُ طلاق" (مت 19: 8). حتى لا يذبح الرجال نساءهن في البيوت، بل بالأحرى يطلقوهن (أيّ يسرِّحوهن بمعنى يطلِّقن سراحهن).
هكذا لا يحرم الرب القتل فقط، بل ينزع كل مشاعر الغضب، وإلهنا يشرِّع هذا الناموس في يسر. ويستحضر في الأذهان كلمات سابقة مؤكدًا أن أقواله ليست مناقضة لما سبقها، بل تتفق معها وتقويها، ولا تنقضها بل تكملها. تأملوا في كل مرة يخاطب فيها الإنسان فيقول:
"من يطلق امرأته يجعلها تزني. ومن يتزوج بمطلقة يزني" ففي الحالة الأولى ورغم أن الرجل لم يتزوج بأخرى بعد، فإنه ملوم لمجرد الفعل إذ جعل زوجته تقترف الزنا، ويصبح من تزوج بمطلقة (لم يطلقها زوجها شرعًا) زانيًا، لأنه أخذ زوجة لا تزال على ذمة رجل آخر! فزوجها لم يطلقها، وحتى لا تتشبث المرأة برأيها إذا أُلقي باللائمة على الزوج الذي يطلق. لهذا أغلق في وجهها الأبواب أمام من يقبلها في بيته. إذ يقول: "ومن يتزوجها (أيّ التي لم تطلَّق شرعًا) يجعلها تزني". والمسيح بذلك يريد عفة المرأة حتى لو ضد رغبتها، وحتى لا تصبح في متناول الجميع. وحتى تعي جيدًا أن عليها واجب الحفاظ على زواجها وزوجها الذي كان من نصيبها أصلاً¬. وحتى لو كانت موجودة من بيت زوجها ومطلقة، فإنها ولو ضد إرادتها تحاول أن تبذل أقصى ما في وسعها لأجل استمرار الزواج.
وإن لم يكن السيد المسيح قد أفصح عن هذه الأمور كلها؛ فلأن المرأة مخلوق ضعيف رقيق قد لا تهتم بهذه القضية بشكل كبير. ولهذا يهدد الرجال حتى يقوم من إهمالها بشكل كامل. مثلما يكون لإنسان ابن ضال يتركه ويوبخ الذين تسببوا في ذلك، والذين منعوا الأب أن يتصل به أو يتحدث إليه أو يوبخه؟؟، فإن تضايقتم من هذا التصرف، أرجوكم تذكروا أقوال الرب السابقة، وكيف يطوب سامعيه. وسترون أنه من السهل على من يلتزم بكل الوصايا الوديع والمسالم والمسكين بالروح والرحيم ألا يطلق امرأته. فمن الذي اعتاد التصالح مع الآخرين، لا يمكن أن يتخاصم مع زوجته. وينير المسيح بصيرتنا ومداركنا حين يتطرق إلى قضية إطلاق المرأة (أو تسريحها)، حين يقول "لا يتم هذا إلا لعلة الزنا" لأنه إذ أوصى منذ البدء أن يحتفظ الزوج بها في بيته، لكنها إن كانت تدنس نفسها مع كثيرين، لانتهى بها الأمر إلى الزنا. هكذا تتفق تلك الأقوال مع سابقاتها لأن من ينظر إلى امرأة غيره بعيون عفيفة، لن يرتكب الزنا، وبذلك لن يعطي لزوج المرأة الأخرى أية فرصة لطلاقها. بهذا يشدد الرب على هذه الجزئية دون تحفظ ويجعل من المخافة حصنًا منيعًا، ملقيًا على الزوج خطرًا جسيمًا إن طلق امرأته. إذ يحسب مسئولاً مسئولية شخصية عن زناها. لهذا يصحح المسيح الوضع لئلا يفتكر أحد في قوله "تقلع عينيك" بمعنى "تتخلص من زوجتك" جاعلاً بيد الرجل أن يدعها تمضي ويطلقها. (إن كانت زانية، أو إن كان هو زانيًا) وليس أمامه من حل آخر يلجأ الزوج إليه.

5. "أيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك. وأنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة" [ع34-33].
قبل أن يتحدث السيد المسيح عن السرقة، تناول موضوع شهادة الزور متجاوزًا وصية "لا تسرق". ترى لماذا يفعل ذلك؟ لأن من يسرق يحلف باطلاً في هذه المناسبة، أما من لا يعرف كيف يشهد بالزور أو يتحدث زورًا، لا يعرف بالأكثر كيف يسرق.
لهذا تجاوز الرب الحديث عن السرقة إلى شهادة الزور لأن منها تتولد السرقة. لكن ما معنى "أوف للرب أقسامك" (انظر عد 30: 2، تث 23: 23) حيث نقرأ:
"إذا أقسم رجل قسمًا، أن يلزم نفسه.. فلا ينقض كلامه"، "وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة". وحتى يبعدهم عن القسم بالله، يقول: "لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم (قابل إش 26: 1، مز 18: 2) مقتبسًا من الكتابات النبوية، ومشيرًا إلى أنه هو ذاته لا يناقض القدماء. والسبب في ذلك؛ أنهم اعتادوا القسم بتلك الأشياء، والرب يعلن في نهاية الإنجيل عن هذا (مت 23: 16) ويوضح جسامة هذا الأمر لا بسبب طبيعتها الجسيمة بل بسبب علاقتها بالله. ولنتأمل كيف تم الإعلان عنها بمثل هذا القدر من التنازل؛ إذ كان طغيان الوثنية شديدًا، وكان لا بد أن ينفي أيّ استحقاق بالكرامة لهذه الأشياء والأوثان. لهذا يذكرها هنا لمجد الله، لأنه لم يقل:
"لأن السماء جميلة وبديعة وعظيمة" ولم يقل "لأن الأرض نافعة"، بل "لأن السماء عرش الله، والأرض موطئ قدميه" هكذا يحثهم في الحالتين إلى الاتجاه نحو ربهم ثم يكمل قائلاً:
"ولا تحلف برأسك؛ لأنك لا تقدر أن تجعل شعرةً واحدةً بيضاء أو سوداء" (مت 5: 36).
وهو هنا لا يثير الإعجاب بالإنسان حين يذكر القسم برأسه، (وإلا صار الإنسان معبودًا)، بل يشير إلى مجد الله وللتأكيد على أن الإنسان لا يسود حتى على نفسه، ومن ثم لا تمتلك السيادة حتى تحلف برأسك. لأنه مثلما لا يعطي أب ابنه لآخر، هكذا لا يعطي الله عمله الخاص به لك. فرغم أن الرأس رأسك أنت، إلا إنها مملوكة لله، وما دمت لست سيدًا على رأسك في هذا الشأن، فلا قدرة لك على التصرف فيم لا تمتلكه، ولا في أدنى شيء آخر؛ لأن الرب لم يقل: "أنت لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة تنمو" بل يقول: "أنت لا تقدر حتى أن تعدل من صفاتها".
ورُبّ قائل: لكن ماذا لو أقسم إنسان قسَمًا تحت إكراه؟ إذن فليكن خوفك من الله أقوى من الإكراه على القسَم، لأنك إن اعتدت على الأعذار، لن تنفذ وصية واحدة من وصايا الرب. فبالنسبة لزوجتك، ستقول: ماذا لو كانت مشاكسة وعنيفة؟ وبالنسبة لعينك اليمنى ستقول: ماذا لو كنت أحبها، حتى وأنا في النار فعلاً؟ وعن النظرة الشهوانية غير العفيفة تقول: ماذا لو كنت لا أقوى على الامتناع عن النظر؟ وعن غضبك ضد أحد الإخوة تقول: ماذا لو كنت متسرعًا لا أقدر على ضبط لساني؟.
وبوجه عام تدوس هكذا على كل أقوال الرب، مع أنك لا تقدر أن تتدرج بنفس الحجم بالنسبة لقوانين البشر ولا تقول: ماذا لو كان هذا أو ذاك هي الحالة؟ ولكن سواء أردت أو لم ترد فإنك تقبل الملكوت، وتكون مضطرًا أن تقع تحت نيرها كلها. لأن من سمع بالبركات السابقة، ووضع على عاتقه تنفيذ وصايا المسيح، لن يكون مُكرهًا على المعاناة من جراء أيّ قانون عالمي؛ إذ هو يوقرها ويحترمها كلها.
"بل ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو (يأتي) من الشرير (الشيطان)" (مت 5: 37). فما الذي يزيد على "نعم" وعلى "لا" إنه القسم وليس الحنث بالقسم. لأن الحنث بالقسم معلوم لدى الجميع، ولا يحتاج الإنسان أن يعرف أنه من الشرير. بينما ما زاد على ذلك لا لزوم له إذ يتجاوز الحد المسموح.
ورُبّ قائل: هل القَسم من الشرير؟ وإذا كان من الشرير فكيف يكون من الناموس؟
حسنًا، فإنكم ستقولون نفس الشيء عن الزوجة أيضًا، كيف ما كان مسموحًا به قبلاً قد صار الآن زنى؟ فما قولك: لقد كانت الوصايا التي قيلت قديمًا تتعلق بأناس استلموا الناموس وهم ضعفاء. ولأنه لا يليق بالله أبدًا أن نعبده على بخار ذبيحة - مثلما لا يليق التلعثم أو (اللثغة في النطق) بفيلسوف - لهذا يكشف الرب الآن أن هذا النوع من الأمور هو زنا وأن القسم من الشرير، إذ تقدَّمت الآن مبادئ الفضيلة. لكن لو كانت هذه الأمور منذ البدء هي نواميس الشرير، لما أدت إلى مثل هذا الصلاح العظيم.
أجل، فلو لم تكن تلك الوصايا رائدة وسبَّاقة في المقام الأول، ما نلنا نحن ما نلناه الآن بهذا القدر من السهولة. فلا تُحققوا الآن في سموها، وقد مضى على استعمالها زمان طويل، بل حين كان الأمر يتطلب وجودها. أو بالأحرى إن أردتم ولو حتى الآن، لأن الآن وقت مناسب، لأن ظهورها في وقت مثل هذا هو أعظم مديح لها. لأنها لو لم تقوَّم سلوكنا جيدًا، وتهيئنا لقبول وصايا أعظم، لما ظهرت هكذا على ما هي عليه.
فالثدي مثلاً له وظيفة هي توفير الطعام للطفل ليساعده على النمو والنضج، وهي وظيفة يكملها على أتم وجه. لكنه وبعد أن يكبر الطفل قد يبدو بعدها بلا فائدة وقد يسخر منه الأبوان اللذان كان يعتقدان مثلاً بضرورته للطفل! بل وقد يسيئان استخدامه ويسخران منه كل السخرية. قد لا يكتفيان بكلمات تحقير يقولانها أمام الطفل بغية فطامه، فيدهنانه بعقاقير مُرة ليطفئوا اشتياق الطفل إليه. هكذا يقول السيد المسيح إنها (الوصايا) من الشرير، لا ليشير إلى أن الناموس القديم هو من الشرير، بل ليقودهم بعيدًا عن فقرهم القديم بكل جدية. لكن اليهود عديمي الإحساس والإدراك والمتحفِّظين في كل طرقهم، فقد دهن كل مدنهم برعب الأسر والسبي كما بعقار مر، ليجعل الدخول إليها صعبًا. ولكن إذا فشل معهم هذا الأسلوب، ولم يروعهم بل اشتاقوا أن يعودوا إلى ما اشتهوه مثلاً تمامًا مثلما يَهرع الطفل إلى الثدي، فقد أخفاه عنهم تمامًا. وانتزعه منهم ليبعد معظمهم عنه (تم تدمير أورشليم عام 70م الكاتب الأصلي).
ومثلما نفعل نحن مع قطيعنا، فالكثيرون حين يحبسون العجول، ثم يحثُّونهم في الوقت المناسب على الفطام من اللبن القديم الذي اعتادوا على تناوله(الجملة ناقصة؟؟؟؟).
لكن لو كان الناموس القديم ينتمي إلى الشيطان، لما أبعد الناس عن الوثنية، بل بالأحرى كان سيلقي بهم في أحضانها فهذه هي شهوة الشيطان.
لكننا الآن نرى التأثير العكسي للناموس القديم. فلهذا السبب عينه قد سن هذا التشريع عن القَسم، حتى لا يحلفوا بالأوثان. (إر 4: 2 LXX). إذن لم تكن فوائد الناموس صغيرة بل كبيرة جدًا. ولهذا كانوا يأتون إلى الطعام القوي. وهو ما اِهتم به الناموس قديمًا.
وقد يقال: وماذا بعد، أليس القَسم من الشرير؟ بلى، إنه فعلاً من الشرير - وهو المفهوم الذي يدركه الآن من بلغوا حد الانضباط إلى درجة عالية، لكن لم يكن الأمر كذلك قديمًا.
ورُبّ قائل: "هل نفس الشيء يكون في وقت ما صالحًا، وفي وقت آخر شريرًا؟
كلا، بل النقيض تمامًا هو الحق. فما الذي يمنع أن يكون الأمر صالحًا وغير صالح معًا؟ بينما تصرخ كل الأشياء أنها كذلك. الفنون، ثمار الأرض، وكل الأشياء الأخرى؟
تأملوا مثلاً ما يحدث لبني جنسنا، فمن الجيد أن يحملنا الوالدان ونحن صغار، لكن لا يصلح هذا الأمر بعد ذلك. وفي مستهل حياتنا نأكل الطعام اللين طعام الصغار نتناوله بالفم وهو صالح لنا، لكن بعد ذلك يصبح غير صالح. وفي طفولتنا من النافع والصالح أن نهرع إلى أثداء أمهاتنا لنرضع اللبن الصحي، لكن لا يصلح هذا الأمر بعد أن نكبر، بل يضرنا ويؤذينا.
أرأيتم كيف تصلح أشياء لزمن ما ولا تصلح هي نفسها لزمن آخر؟
أجل؛ فثوب الطفل يليق بك ما دمت صغيرًا، لكن حين تصبح رجلاً لا يصلح هذا الأمر، بل يصبح مخزيًا. ثم فكروا في عكس هذا الأمر. فهل يصح أن يتناول الطفل طعام البالغين؟ هل يمكنك أن تعطي طفلاً ثوب إنسان بالغ ليرتديه؟ إنه سيصبح محل سخرية كبيرة. وكذلك قد يسبب السير به خطرًا محدقًا به؛ إذ قد يتعثر ويسقط. وهل نسمح لطفل أن يدير شؤوننا العامة، وأن ينظم المرور، وأن يبذر الأرض، وأن يجني المحصول، إنه سيثير بالطبع سخرية الناس منه.
فلماذا أذكر هذه الأمور لكم؟ إن الجميع يسلِّم بأن القتل من اختراع الشرير. أقول إن القتل قد وجد له فرصة مواتية مع الإنسان الذي ارتكبه فكرَّم الكهنوت؟؟ (قابل عد 25: 8)، إذ كان القتل عمل ذاك الذي ذكرته الآن. اسمعوا ما يقوله المسيح:
"تُريدون أن تعملوا شهوات أبيكم، وذاك كان قتالاً للناس من البدء" (مت 8: 44) ولكن فينحاس أصبح قتالاً للناس، ولكن كتب عنه: أنه حُسب له برًا" (مز 106: 31).
وإبراهيم أيضًا، والذي لم يصبح قتالاً للناس، بل ما هو أسوأ من ذلك بكثير أيّ قتالاً وذابحًا لابنه، هذا قد لاقى إحسانًا كبيرًا بغير قياس. وبطرس أيضًا الذي ارتكب قتلاً مضاعفًا. ومع ذلك فإن ما فعله كان من الروح القدس (أع 5).
دعونا إذن لا نتبسط في فحص هذه الأمور، بل أن نضع في الاعتبار أيضًا الفترة الزمنية والأسباب والأساليب الفكرية واختلاف الأشخاص، وكل ما يصاحب هذه الأمور لتبلغ المطلوب بدقة أكبر؛ إذ ما من سبيل لبلوغ الحق غير هذا السبيل. ولنجتهد إن أردنا بلوغ الملكوت، أن نتجاوز الوصايا القديمة إلى ما هو أعمق منها؛ لأننا لا يمكننا أن نملك ناصية السماء بغير هذا الطريق، لأننا إن بلغنا فقط قامة القدماء سنقف خارج العتبة السماوية. لأنه "إن لم يزِد بِرُّكُم على الكتبةِ والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 5: 20).

6. ومع ذلك، ورغم ثقل التهديد الموضوع أمامنا، فإن البعض ورغم بعدهم عن إهمال البرّ، فإنهم كثيرًا ما يقصرون في بلوغه. ورغم بعدهم عن الحنث باليمين كثيرًا ما يحلفون باطلاً. ورغم بعدهم عن النظرة الشهوانية، كثيرًا ما يسقطون في ذات الشر، وكل المحرمات، بل ويتجاسرون على ممارستها، وكأن الشعور بالذنب أمر قد ولَّى لا يتذكرونه. منتظرين شيئًا واحدًا هو يوم العقاب؛ اليوم الذي يدفعون فيه ثمن خطيتهم عقوبةً فادحة لقاء سوء أعمالهم. وهذا هو نصيب الذين أنهوا حياتهم في فعل الشرور فقط. ولهؤلاء عذرهم إن يئسوا، فهم لا يتوقعون أيّ عقاب ينزل بهم! حتى وهم لا يزالون على الأرض هنا، وهي فرصتهم لتجديد قوتهم والغلبة ونوال الإكليل في يسر.
فلا تيأس أيها الإنسان ولا تقلع عن استعدادك الشريف الجاد، أرجوك. فما هي مشكلتك في أن تكف عن القسم؟ هل يكلفك هذا الأمر مالاً؟ هل يكلفك عرقًا ومشقة؟ يكفي أن تتوفر الإرادة لك وسوف يتم كل شيء. لكن إن كنتم تتذرعون لي بعاداتكم، فإنني أقول لكم لهذا السبب عينه، إن فعل الصواب سهل عليكم.(الضمير اختلف) لأنك إن سادت عليك عادة أخرى، فقد تمارس كل العادات: تأمل مثلاً ما يحدث وسط الإغريق في حالات كثيرة أن الأشخاص الذين يعانون من التلعثم في الكلام يتم علاج ألسنتهم المتعثرة. بينما آخرون من الذين اعتادوا هزّ أكتافهم بشكل غير لائق، ودائمًا ما يحركونها باستمرار هؤلاء ما إن يضعوا سيفًا على أكتافهم حتى تنتهي تلك العادة عندهم. وإن كنتم لا تقتنعون بالكتب المقدسة فإنني ملزم أن أفجلكم بها. وهذا ما فعله الله أيضًا مع اليهود حين قال:
"فاعبروا جزائر كتيم وانظروا وارسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًا... هل بدَّلتْ أمة آلهةً وهي ليست آلهةً" (إر 2: 10-11).
بل ويرسلنا بالمثل إلى البهائم أو الحيوانات العجماء قائلاً في هذا الصدد: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمَلْ طُرُقها. واذهب إلى النحلة" (أم 6: 6-8س). وهذا هو ما أقوله لكم الآن أيضًا.
تأملوا فلاسفة اليونانيين وستعرفون كم من عقاب شديد نستحقه نحن الذين نعصي قوانين الله. فهم أمام الناس ومن أجل اللياقة، يبذلون أقصى ما في وسعهم، أما أنتم فلا تبذلون نفس السعي الدؤوب لأجل السماء. فإن كان ردكم على هذا الأمر أن " للعادة قوة عجيبة في خداع حتى الذين يجتهدون اجتهادًا عظيمًا. أقول لكم بالمثل حتى إن كانت إلى هذه الحد قوية في الخداع، فإنه من السهل تقويمها. لأنكم إن جعلتم في بيوتكم آخرين يراقبونكم مثل خادمك أو زوجتك أو صديقك، لأقلعت فورًا عن العادات المذمومة؛ إذ يضغط عليك الآخرون لمنعك من الاستمرار فيها، فإن نجحت في ذلك طيلة عشرة أيام فلن تحتاج بعدها إلى مزيد من الوقت، بل يصبح كل شيء آمنًا عندك، ويعود من جديد وقد تأصلت فيك العادات الجديدة الفائقة السمو.
لهذا إن بدأت في تصحيح عادة سيئة. فحتى لو تعديت الناموس مرة أو مرتين أو حتى عشرين مرة، لا تيأس، بل قم مرة أخرى، واستعْد نفس حماسك الأول، وسوف تنجح يقينًا. لأن الحنث باليمين ليس من الأمور الهينة. فإن كان القسم من الشرير، فكم وكم يكون العقاب أشد من جرَّاء القسم الزائف. هل تمتدحون قولي؟ كلا، لا تفعلوا. فأنا لا أريد أن أصفق أو أصنع جلبة أو ضوضاء. إني أريد شيئًا واحدًا فقط: أن تنصتوا في هدوء وجدية، ثم أن تفعلوا ما يُطلب منكم، فهذا هو الهتاف والمديح. لكن إن كنتم تمتدحون قولي دون أن تفعلوا ما تهللون له، فإن العقاب يكون أشد وأكثر إيلامًا وقسوة. يجلب علينا الخزي والسخرية، لأن أمور الزمان الحاضر ليست مشهدًا دراميًا في مسرحية ما، ولا أنتم متفرجون تحدقون في بعض الممثلين مكتفين بالتصفيق وحسب. إن هذا المكان مدرسة روحية، وهناك نهاية واحدة فقط علينا أن نسعى لتحقيقها في حينها؛ بأن ننفذ المطلوب منا مظهرين طاعتنا بأعمالنا، لأننا حينئذٍ ننال كل ما نريده. لأننا إن توخِّينا الصدق لأدركنا أن واقعنا يصيب الجميع باليأس. لأنني لم أكف عن إسداء النصائح لأولئك الذين أقابلهم على انفراد، أو في العظات العامة معكم. ومع ذلك لا أرى تقدمًا ملحوظًا على الإطلاق، بل لا تزالون متعلقين بالسلوكيات الفظة السابقة. الأمر الذي يضايق المعلم كثيرًا ويقلقه. انظروا مثلاً بولس الرسول وهو لا يكاد يحتمل أن يؤجل معلموه دروسهم الأولى لفترات طويلة، أو يقول لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلِّمين لسبب طول الزمان، تحتاجون أن يعلِّمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله (عب 5: 12).
لهذا السبب ننوح نحن أيضًا ونبكي، فإن رأيتم أن تظلوا على حالكم فسوف أمنعكم في المستقبل من أن تطأ أقدامكم هذه الأعتاب المقدسة، وتشتركوا في السرائر الأبدية، مثلما نفعل مع الزناة والزانيات والقتلة. أجل لأنه من الأفضل أن نرفع صلواتنا المعتادة مع اثنين أو ثلاثة، يحفظون نواميس الله، من أن نحشد جمعًا من العصاة والمفسدين للناس، فيغادر الغني والعاهل الملك والذين يتشامخون عليَّ هنا، ويرفع منهم الواحد حاجبه عاليًا.؟؟ فإن كل هذا هو بالنسبة لي بهتان وظل وحلم. لأنه ما من غني من أغنياء هذا الدهر يتشفع لي هناك، حينما أَمْثل للحساب والمحاكمة؛ بأنني لم أصن نواميس الله جيدًا، وفي جدية ولياقة. ولهذا فإن مثل هذه الأمور قد حطمت العجوز الممتدح (1 صم 3: 13). رغم أنه في حياته لم يكن ملامًا من أحد، ولكن لأنه تغاضى عن الدوس على نواميس الله، طورد هو وأولاده وعوقب بأشد العقاب. فإن كان سلطان الطبيعة المطلق هكذا عظيمًا، فعلى من يفشل في معاملة أولاده بحزم إن يتحمل هذه العقوبة الشديدة. فكم وكم يكون إهمالنا، إذ ونحن متحررون من هذا السلطان لا نزال ندمر كل شيء بنفاقنا؟ وحتى لا تهلكونا وتهلكوا أنفسكم أيضًا معنا، أرجوكم أن تقتنعوا بكلامنا فتقيموا حولكم كثيرين يراقبونكم، يدبرون أحوالكم ويدعونكم لحساب أنفسكم. فتحررون ذواتكم من عادة القسم، حتى إذا ما سلكتم بتدبير حسن، تنجحون جميعكم وبكل يسر أن تمارسوا الفضائل الأخرى، فتنعموا بالصلاح العتيد أن يمنحه الله لكم حتى يكون لجميعنا ربح.
بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للبشر، له المجد والقدرة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين كلها. آمين


العظة الثامنة عشرة

في الترفق بالآخرين

"سمعتم أنه قيل عينٍ بعين، وسنٍ بسن. وأما أنا فأقول لكم، لا تقاومُوا الشرًّ، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحِّول له الآخر أيضًا" [ع38-40]
هل رأيتم أنه لم يكن يتكلم عن العين قبلاً؛ عندما وضع الشريعة الخاصة بقلع العين المعثرة، بل عن ذاك الذي يؤذينا بصداقته ويلقي بنا في لجة الهلاك؟ فالسيد الذي يستعمل هذه القوة العظيمة للتعبير في هذا الموضع، والذي لا يسمح لك بضرب من يقلع عينك، كيف يَشرع بضرب الآخر؟
لكن إن كان أحد ما يتهم الناموس القديم بأنه يأمر بالثأر والانتقام، فهو يبدو لي بلا خبرة كافية عن حكمة المشرع، يجهل مدى الربح الذي يجنيه من التنازل. لأنه لو عرف من هم السامعون لهذه الأقوال، وكيف كانت ميولهم وهم يستلمون مثل هذه الشرائع، لأدرك على الفور حكمة معلِّم الناموس الإلهي، ولعلم أن الواحد نفسه هو الذي وضع الناموسين القديم والجديد. وأنه هو الذي كتب كليهما لنفعنا إلى أقصى درجات النفع وفي وقتها المناسب. لأنه إن كان الرب قد أدخل هذه الوصايا الفائقة السمو منذ البداية، وما استطاع الناس قبولها، لا هي ولا وصايا أخرى، لكنه شرَّعها، كل شريعة منها مفردة وفي وقتها المناسب، فقوَّم العالم كله بالناموسين القديم والجديد.
وقد أمر السيد الرب ألا تضرب عين الآخر، ليس هذا فحسب، بل أن تكف أيدينا عن ملاحقته. لأن التهديد بالألم يمنعنا كليةً أن نميل إلى هذه الأمور. لهذا يضع السيد المسيح وفي صمت بذرة ضبط النفس. على الأقل وهو يوصي بعدم الثأر لنفس الأعمال، فإن الذي بدأ بتعدٍ مثل هذا يستحق حتمًا عقوبة أشد، وهذه هي متطلبات وطبيعة العدل المجردة.
وإذ يمزج الرب الرحمة بالعدل، فإنه يدين من كانت تعدياته فادحة بالنسبة لعقوبة أقل يستحقها، ليعلمنا أنه حتى ونحن نتألم علينا أن نظهر مزيدًا من الاهتمام.
وبعد أن ذكر الناموس القديم وأقر بكل ما فيه، يشير مرة أخرى أن من فعل كل ذلك ليس أخونا بل الشرير. ولهذا يكمل قائلاً: "أما أنا فأقول لكم، لا تقاوموا الشر"، فهو لم يقل "لا تقاوموا أخاكم" بل "الشر". مشيرًا إلى أن الناس يتجاسرون على ذلك بإيحاء من الشرير، ومن ثم فإنه يهدئ من روعنا ويزيل بطريقة سرية معظم غضبنا ضد المعتدي، بتحويله اللوم إلى آخر (الشيطان).
وقد يقال: وماذا بعد؟ ألا ينبغي علينا مقاومة الشرير؛ حقًا يجب ذلك لكن ليست بهذه الطريقة، بل كما أوصى الرب بتسليم الإنسان نفسه إلى احتمال الألم بشكل سليم. وبهذا يستطيع أن يغلبه، لأن النار لا يمكن إطفاؤها بنار أخرى، بل بالمياه نطفئ النيران. ولكي يعرِّفكم أنه في ظل الناموس القديم، من يتألم هو الذي يظفر في النهاية وينتصر ويربح الإكليل، عليكم أن تفحصوا ما تم لتروا أن ربحه كان عظيمًا. لأن من يبدأ بأعمال ظالمة، يُهلك عينيّ جاره وعينيه هو. ولهذا يكرهه الجميع، ويتهمه الكل.
أما المتضرر فلا يكون قد فعل شيئًا مروعًا، بل يتعاطف الجميع معه. حتى بعد ثأره المتعادل، ورغم أن الخسائر واحدة لدى الطرفين، إلا أن الحكم الواقع على كلٍ منهما ليس بنفس القدر، سواء لدى الله أو الناس. لهذا تبدو الفاجعة في النهاية غير متساوية.
وفي حين قال الرب في البداية: "من يغضب على أخيه باطلاً" و "من يدعو أخاه يا أحمق" يكون مستوجب نار جهنم. فإنه هنا يطالب بمزيد من ضبط النفس، فيأمر المتضرر بألا يكون هادئًا وحسب، بل أن يكون أكثر جدية بدوره بأن يحوِّل الخد الآخر. وهو لا يقول هذا بهدف تشريع وتقنين اللطمة الثانية، بل ليعلمنا كيف نمارس مبدأ احتمال الآخر في كل ظروف حياتنا. لأنه مثلما يقول:
"من يدعو أخاه بالأحمق يكون مستوجب نار جهنم"، فإنه لا يتحدث عن هذه الكلمة فقط (كلمة أحمق) بل كل كلمة خصومة أخرى. هكذا هنا أيضًا، حين يشرع قانونًا ما ليس لكي نصبح أكثر رجولة واحتمالاً إذا ما تلقينا لطمة من آخر، بل حتى لا نضطرب مهما كابدنا من آلام. لأنه يشير هنا إلى أكثر الإهانات إيلامًا وقسوة وهي لطمة الخد، والتي تسبب تحقيرًا بالغًا للمضروب. لهذا يوصى الضارب والمضروب معًا. فلا يظن المهان أنه يعاني أيّ أذى، إذ يمارس ضبط النفس، بل إنه قد لا يشعر بالإهانة، إذ يجتهد لأجل الجعالة التي ينالها بسبب اللطمة. ومن يلطم سوف يشعر بالخجل، فلا يكرر لطمته رغم أنه يكون أشد قسوة من حيوان مفترس، بل بالحري سيدين نفسه من كل قلبه بسبب ما فعله. لأنه ما من شيء يمنع فاعلي الشر أكثر من موقف المضروب حين يتلقى الضربة في رقة، بل إن رقته لا تمنع ضاربيه من الاندفاع الأهوج وحسب، بل تدفعهم إلى التوبة بسبب فعلتهم. وعندما يواجه المضروب ضرباتهم بالترفق والاحتمال فإنهم سرعان ما يتراجعون، بل يحوِّلهم رفقنا بهم إلى أصدقاء وخاصة لنا، ويصيرون خدامًا وليسوا أصدقاء فقط لنا. بدلاً من كارهين وأعداء. وبدلاً من أن ينتقم المرء لنفسه. عليه أن يفعل النقيض، لأن الانتقام يخزي الطرفين ويجعل حالهما أسوأ، ويزيد من لهيب غضبهما الذي يشتعل أكثر فأكثر. فلا ينتهي هذا الأمر إلا بالموت ويتبدل الحال من سيِّئ إلى أسوأ.
لهذا لم يحرم الرب فقط أن يغضب الإنسان إذا لُطم على وجهه، بل يشجعنا أن نُشبع رغبة الطرف الآخر، حتى لا تبدو اللطمة الأولى وكأنها ضد إرادتنا. لهذا وحتى توقعوه في خزي، لا تلطموه بالمثل بضربه بقبضتكم، حتى تجعلوه رقيقًا بعض الشيء ويصير خزيه كبيرًا.

2. "ومن أراد أن يُخاصمك ويأخُذ ثوبك. فاتُرك له الرداء أيضًا" [ع40]

فلا يقتصر الأمر على اللطمات وحدها، بل على حاجاتنا أيضًا. فهو يطالبنا بنفس الاحتمال، بل يعطينا صورة بنفس القوة وربما أكثر.
فمثلما يوصينا مثلاً بأن نقهر المعاناة، فإنه هنا يأمرنا بأن نسمح لأنفسنا أن نكون محرومين أكثر مما يتوقعه الشرير. لهذا يعطي الوصية ومعها التحفيز فلم يقل: "اعط ثوبك لمن يطلبه"، بل "لمن أراد أن يخاصمك" وحرفيا لمن أراد أن يقاضيك أمام المحاكم. أيّ الذي يجُرك إلى المحكمة ويسبب لك المتاعب. وبعد أن نصحَ ألا ندعو الآخر بكلمة أحمق وألا نغضب بلا سبب، استمر في المزيد من الإرشاد والطلب: إذ أمر أن نسلم الخد الآخر أيضًا. حتى هنا وبعد أن قال: "كن مراضيًا لخصمك" يعمق من مفهوم الوصية؛ إذ لا يأمرنا أن نقدم للآخر ما يطلبه منا، بل أن نظهر مزيدًا من العطاء والتسامح. وقد يقول قائل وماذا بعد، هل أترك له كل شيء وأمشي عريانًا؟ أبدًا، لن نكون عراة إذا أطعنا هذه الوصايا بكل أمانة، بل بالحري سوف نرتدي أوفر وأكثر مما يرتديه الآخرون.
أولاً: لأن أحدًا لا يهاجم أصحاب الميول الصالحة.
ثانيًا: حتى وإن تصادف وجود أحد بهذه الوحشية والغلظة، فتمادى في الإساءة إلينا، فإن كثيرين سيهرعون لنجدة وستر المعتدَى عليه، إذا رأوه لا يزال يسلك في إنكار ذاته. فلا يكسونه بملابسهم فقط، بل بأجسادهم أيضًا إن أمكن. وحتى لو اقتضت الضرورة أن يمشي الإنسان عريانًا في إنكار ذاته، وألحقه خزي من جرّاء ذلك. فإن آدم أيضًا كان عريانًا (تك 2: 25) في الفردوس "ولم يخجل". ويوسف كذلك (تك 39: 12) حينما ترك ثوبه وهرب عريانًا كان يسطع ببهاء أعظم. لأن العري ليس شرًا. إذ كان إشعياء أيضًا عريانًا حافي القدمين، ولكنه كان أكثر مجدًا من كل اليهود (إش 20: 2-3).
لكن إن كنا نكتسي مثلما نفعل الآن بأغلى الثياب ثمنًا، نجلب على نفوسنا خزيًا وسخفًا. لهذا ترون أن أولئك أخذوا من الله مجدًا، أما هؤلاء فقد أظهر الأنبياء والرسل خزيهم.
فلا نظن أن وصايا الرب ثقيلة ومستحيلة، كلا، فهي بجانب منفعتها سهلة جدًا، إن تحلِّينا برصانة العقل، نجني من وراءها ربحًا عظيمًا، فهي خير عون لنا، ليس لنا فقط بل للذين يسيئون معاملتنا. هنا يكمن سموها، فهي إذ تحثنا على تحمل الصعاب والمضايقات، فإنها في نفس الوقت أيضًا تعلم الخطاة أن يضبطوا أنفسهم. بينما يظن الذي يسلب الآخرين أشياءهم أنه يصنع عملاً عظيمًا. يراك وأنت تعطيه ما لم يطلبه منك، فتقابل خسته بسخائك، وشراهة طمعه باعتدالك ولطفك. فأيّ درس تراه يتعلمه منك؟ فهو لا يتعلم بكلام مجرد، بل بذات الأفعال حينئذٍ يحتقر الرذيلة ويسعى للفضيلة. لأن الله يريدنا أن نكون نافعين لا لذواتنا فحسب، بل لكل جيراننا أيضًا. فإن أعطيت الآن وامتنعت عن مقاضاة الآخرين، فإنك تفيد نفسك فقط. لكن إن أعطيته شيئًا آخر غير الذي طلبه منك، فإنك تجعله في حال أفضل حينما يرحل عنك. هذه هي طبيعة الملح الذي يريدنا الرب أن نكونه، فهو يصلح ذاته، ويحفظ أيضًا المواد الأخرى التي تُملِّح بها. وهذه هي طبيعة النور، فهو يكشف كل شيء، لنفس الإنسان ولنفوس الآخرين أيضًا. فإن وضعكم السيد المسيح في هذه المرتبة، اعينوا الجالسين في الظلمة. وعلموا الغاصبين، واقنعوهم أن يأخذوا منكم دون عنف. وهكذا تصيرون أنتم أنفسكم أكثر احترامًا ووقارًا؛ إن أظهرتم للناس أنكم تعطون بمحض إرادتكم ومجانًا، لا بالاغتصاب والسرقة. اجعلوا إذن من خطية الآخر فرصة لنفعكم وخيركم وذلك بلطفكم واعتدالكم.

3. وإن كنتم تظنون أن هذا عمل عظيم، تريَّثوا وسترون أنكم لم تبلغوا بعد حد الكمال، فالسيد الرب لا يكتفي بهذا القدر. فالذي شرَّع نواميس التحمل والصبر وطول الأناة يقول أيضًا: "من سخَّرك ميلاً فاذهبْ معهُ اثنينِ" [ع41]
هل ترون سمو إنكار الذات، على الأقل بشأن هذا الأمر، فبعد أن تعطي ثوبك ورداءك، وحتى إن طالبك عدوك بأن يسخر جسدك العاري في المشقات والصعاب، فلا تمنعه. لأن الرب يعطينا أن نملك كل شيء مشتركًا، أجسادنا وأغراضنا مع ذوي الاحتياجات. وهكذا أيضًا مع الذين يلحقون الإهانة بنا، لأن الرجولة تلزمنا بذلك تجاه من يسبب الأذى لنا، وتدفعنا الرحمة أن نهتم بكل ذي حاجة. ولهذا يقول:
إذا ألزمك أيّ أحد أن تسير معه ميلاً، فاذهب معه ميلين. هكذا يرفعكم الرب إلى درجة أخرى أعلى، فيأمركم أن تظهروا قدرًا وافرًا من التضحية والبذل.
وإن كانت الأمور التي تحدث عنها مثلاً هي أقل سخاءً من ذلك، ولها كل هذه البركات الوفيرة، فكم بالأحرى يكون نصيب الذين يتممون تلك الوصايا الجديدة، وما حالهم بعد نوالهم المكافآت في جسد بشري قابل للتألم، إذ ينال حرية كاملة من الشهوة والتألم. إذ لا تؤثر فيه لا الإهانات ولا اللطمات ولا سلب ممتلكاته ولا التحرش به. فأصحاب الأجساد صاروا يتجاوزون تلك الأمور، بل ويحتملون أكثر منها. هكذا يعكسون نوعًا من مرونة النفس التي يمارسونها عمليًا. ومثلما هو الحال مع الضربات وما نحوزه من خيرات، هكذا أيضًا في مثل هذه الحالة، يأمرنا الرب قائلاً:
لماذا أتحدث عن الإهانة والممتلكات، فرغم أن خصمك يريد أن يستغل أعضاءك في المشقة والعمل المضني بغير حق، يمكنك أن تقهر شهوته الظالمة تلك وتغلبها. لأن كلمة "يسخرك" أو "يلزمك" تعني أن يجبرك دون حق ودون سبب، فقط لغرض قهرك.
ومع ذلك، كن مستعدًا أيضًا لهذا الاحتمال، واستعد أيضًا لمزيد من الألم أكثر مما يميل الآخرون إلى دفعك وإيلامك. فاعطه رداءك أيضًا، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك، فلا ترده (مت 5: 42). وهو مطلب أقل كثيرًا مما سبقه، فلا تتعجبوا؛ لأن هذا ما يريده الرب منا على الدوام أن نمزج القليل مع الكثير، فإن بدا هذا الأمر قليلاً بالمقارنة بغيره من عظائم الأمور، فليسمع المغتصبون لخيرات غيرهم، والمبددون لثرواتهم بين الساقطات ليوقدوا في أنفسهم نارًا أعظم بسلوكهم غير التقي، وبالإنفاق الضار بهم.
وكلمة "يقترض" هنا لا يعني بها الرب سوء استخدام المال في الربا، بل حتى في الاستعمالات اليومية أو الإقراض العادي بغير مرابحة - ليعمق من الوصية - قائلاً: إنه ينبغي أن نعطيهم دون أن ننتظر منهم أن يردوا لنا ما اقترضوه (لو 6: 35).

4. "سمعتُم أنه قيل تُحبُّ قريبك وتُبغضُ عدُوَّك. وأما أنا فأقول لكم: احبُّوا أعداءكُم، باركُوا لاعنيكُم، احسُنوا إلى مُبغضيكم. وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطرُدونكُم، لكي تكونوا أبناء أبيكمُ الذي في السماوات. فإنه يُشرقُ شمسهُ على الأشرار والصالحينَ، ويمطرُ على الأبرار والظالمينَ" [ع43-45]
هنا يكشف الرب عن ذروة العمل الصالح، لهذا لا يعلمنا فقط أن نحتمل اللطمة، بل أن نحوِّل الخد الآخر أيضًا، ولا أن نعطي الثوب فقط، بل أن نسلِّم الرداء أيضًا، وأن نمشي ميلين مع من يسخِّرنا لنمشي معه ميلاً واحدًا، لكي نقبل في سهولة ما هو أعظم من ذلك من صعاب ومتاعب. ورُبّ قائل: ولكن ما هو المطلوب أكثر من ذلك؟
المطلوب، ألا نحسب من يفعل شرًا ضدنا بأنه عدونا، بل من يفعل ما هو أصعب. فالمسيح لم يقل: "لا تكره"، بل "أحب" ولم يقل "لا تجرح مشاعر أحد"، بل قال "احسن إليه". وإذا فحص أحدكم أقوال الرب جيدًا، لوجد أنه أضاف شيئًا آخر أعظم بكثير مما سبق؛ فالسيد الرب لم يطلب هكذا ببساطة أن نحب الآخر بل أن نصلي لأجله، ليرفعكم إلى درجات أعلى ونضعها على قمة كل الفضائل. أجل، وما عليكم إلا أن تلاحظوها وأن تحسبونها منذ البداية.

فالخطوة

الأولى: ألا نبدأ نحن بالظلم.
الثانية: ألا نقابل الخطأ بخطأ وألا نثأر بانتقام موازٍ.
ثالثًا: ألا نعامل من يضرنا بنفس المعاملة، بل أن نهدأ تمامًا.
رابعًا: أن نبذل ذواتنا لأجل من يخطئ إلينا.
خامسًا: أن نعطي أكثر مما يطلب الآخر أو يعطي.
سادسًا: ألا نكره من يفعل بنا شرًا.
 
أعلى