كان رئيس دير شهران المشهور بدير الأنبا برسوم العريان وكان مولوداً بألمنيا ويعرف بيوحنا بن قيس بطريركاً فى 16 أمشير سنة 1016ش و 1300م فى أيام الملك الناصر .
وفى أيامه بلغ الأضطهاد أشده وضجر الأقباط من كثرة العوائد الكروهة التى ألزموهم بها وأرادوا أن يتخلصوا منها بالعنف فلما رأى المسلمون منهم ذلك طلبوا من محافظ القاهرة أن يسمح لهم بهدم باقى كنائسهم كى لا يعودوا إلى العصيان مرة أخرى فأستدعى المحافظ البابا يوحنا وأخبره بالأمر وطلب منه أن يوصى أولاده بالخضوع لكل ما حل بهم أة يعرضون ذواتهم إلى ضيق عظيم فكتب فى الحال البطريرك إلى جميع أساقفة الابروشيات يحضهم ويدعوهم إلى التشديد على الشعب القبطى بأتباع ما أمروا به وخوفاً من الأضطهاد شدد عليهم وأمر أن من يخالف هذه الأوامر يحرم من الكنيسة وأنه لابد من الرضوخ لأرادة القوة الحاكمة .
غير أن ذلك كله لم يقنع المسلمين فطلبوا من البطريرك أن يغلق كل الكنائس الباقية بلا تخريب ولما أبى أن يطيعهم أنهالوا عليها وأخذوا يهدمونها وهو يحاول بحكمته أن يدفع هذا البلاء ولكنه لم يفلح .
وهكذا قضى هذا البابا على الكرسى 20 سنة و 3 شهور و 20 يوماً وكانت كلها مفعمة بالأحزان وشديدة الوطأة على المسيحيين حتى أراحه الرب ونقله أليه فى 4 بؤونه سنة 1036ش و 1320م .
كان من جهة نفيسة بالمنوفية وقدم بطريركاً فى أول بابة سنة 1037ش و 1321م فى عهد الملك الناصر وعقب تنصيبه شب حريق بالقاهرة وأتهم بأشعال النار بعض الرهبان فثار المسلمون طالبين هلاك المسيحيين فطلب القاضى كريم الدين أن يحضر أمامه البابا يوحنا ليدله عمن أحدث هذا الحريق فأحضره الجند فى الليل خوفاً من أن تصل إليه أيدى الثائرين ولما سئل عن الحريق ذرفت عيناه الدموع وقال أنه لا يعرف شيئاً فأمر القاضى بأطلاقه لمقره بكل أحترام فسار به الحرس إلى دار البطريركية ولكن جماعة الغوغاء والأوباش الذين كانوا يملأون الشوارع كادوا يمزقونه فى الطريق لولا حذر العساكر حتى دخل البطريركية بسلام ويظهر ان تقوى هذا البابا حفظته من الخطر فى تلك الأيام الهائلة فقضر مدة رئاسته آمناً يشاهد النكبات التى تلحق شعبه المسكين حتى تنيح فى 2 برمودة سنة 1043ش و 1328م وكانت مدة بطريركيته 6 أعوام و 5 شهور و 22 يوماً .
وُلد ببلدة دميقراط بالصعيد الأقصى، أحب حياة الهدوء والسكون فاعتزل في الصحراء بالقرب من بلدته، وإذ كان الكثيرون من أقاربه ومعارفه يزورونه، انطلق إلى دير البغل بجبل طره ليحقق اشتياقه في حياة الوحدة بعيدًا عن معارفه.
لم يكن ممكنًا أن تختفي فضائله، إذ أحبه الكثيرون وجاءوا يطلبون مشورته ويسألونه الصلاة عنهم، وحين رآه الأنبا برسوم العريان تنبأ عنه أنه يجلس على كرسي مارمرقس. وبالفعل إذ تنيح البابا يوحنا التاسع الـ81 أُختير خلفًا له في سنة 1327م.
في أيامه هبت عاصفة من الضيق الشديد خاصة على الكنائس والأديرة وذاق الرهبان والراهبات العذابات، وأيضًا تمررت حياة الأساقفة، هذه التي أثارها الوالي شرف الدين بن التاج، لكنه لم يبقَ في الولاية سوى سنة واحدة إذ وافته المنية بعدها، وجاء والٍ حليم منصف مملوء حبًا للمسلمين والمسيحيين، فقام الأنبا بنيامين ببناء ما تهدم من كنائس وأديرة خاصة دير الأنبا بيشوي الذي كان قد خرب تمامًا.
في السنة الثالثة لباباويته اجتمع معه 20 أسقفًا في دير القديس مقاريوس لطبخ الميرون، من بعدها واجهت الكنيسة موجة جديدة من الضيق بواسطة السلطان قلاوون. وقد تدخل إمبراطور أثيوبيا بتكوين جو سلام بينه وبين السلطان أعطى للكل هدوءًا واستقرارًا.
بعد نياحة البابا بنيامين الثاني (82) ظل الكرسي خاليًا قرابة عام، وأخيرًا اُختير الأب بطرس داود الذي ترهب بدير الأنبا مقاريوس ثم صار كاهنًا لدير شهران، وأخيرًا البابا 83، وذلك في أواخر حكم الملك الناصر بن قلاوون، عام 1340م.
امتاز بوداعته وتقواه مع علمه. في أيامه عانى شعبه من ضيق شديد حلّ بالأقباط بسبب قاضي في أحد المدن كان قد سجن قبطيًا بدعوى أن جده غير مسيحي وأراد أن يلزمه بإنكار الإيمان، وإذ رفض أخرجه الأقباط من السجن فتحولت المدينة إلى العنف ضد الأقباط، حيث تعرض الكثيرون للعذابات، بل ونُبشت القبور لإحراق جثث الأموات. وإذ ساد الارتباك الشديد المدينة قدم الحاكم شكوى لسلطان مصر، الذي قام بعزل القاضي.
قام بطبخ الميرون بدير أبي مقار ومعه اثني عشر أسقفًا، ثم عاد وعانى من المرارة التي عاشها الشعب الذين اضطروا إلى ملازمة منازلهم مدة، حتى بدوا وكأنهم قد انقرضوا.
لم يكف البابا عن الصلاة من أجل شعبه حتى رفع الله هذه الضيقات وتمتعت الكنيسة بجوٍ من الهدوء والراحة ما كاد يتمتع به البابا حتى طُلبت نفسه في 8 يوليو 1348 (14 أبيب 1064ش).
كان في الأصل كاهنًا راهبًا لكنيسة العذراء المعروفة بالمعلقة، ومن ضمن الآباء الذين شاركوا في الصلاة على زيت الميرون المقدس أيام حبرية البابا بطرس الخامس، وكان له اسم الملاك المبشر جبرائيل (غبريال)، فأجمعوا عليه الرأي وصار راعيًا أعلى للكنيسة المجاهدة وتمت رسامته في 5 سبتمبر سنة 1348م وذلك في الأيام الأخيرة لابن قلاوون، وقد عاصر ابنه الصالح الثاني.
ضيق بسبب الأسبان
من الأحداث الهامة في حبرية البابا مرقس الرابع أن طلب الأسبان فتح كنائس الملكانيين والإفراج عن أسير أسباني، وبعد أن وافق السلطان عاد وطلب فدية كبيرة عن الأسير، فرفضت أسبانيا ووقع الخلاف. وتحمَّل الأقباط المشاركون في المسيحية وإن اختلفوا في المعتقد الضيقات بإيعاز من حسود شرير، ومن مراحم الله أن مات ابن قلاوون وخلفه ابنه الصالح الثاني ولم يكن يحمل من صفات اسمه شيئًا. فكان غضب السماء عليه فانتشر وباء الطاعون وحصد الكثيرين، والعجيب أنه وسط هذا كان الاضطهاد واضحًا إذ قبضوا على رجل قبطي أتى من الريف إلى القاهرة وكان ينادى على اخوته بحفظ الإيمان ويوبخ الجاحدين وعذبوه مدة أسبوع وبعد ذلك قطعوا رأسه وأحرقوا جثته على قارعة الطريق، وان كان غير القبط قد عانوا من الطاعون فقد عانى القبط من الاضطهاد والطاعون.
هدم الكنائس وإحراقها
بدأت مرحلة جديدة من هدم الكنائس وإحراقها ونهب محتوياتها وصودرت أموال القبط وألزموهم بالملابس الخاصة بأهل الذمة الزرقاء وسجنوا البطريرك مُعَذَبًا. ومن مراحم الله أن تأتى النجدة من الحبشة ومن خارج مصر من النوبة. ويهدد الكل بمعاملة المسلمين من رعاياهم بالمثل، فأمام الإرهاب الخارجي يهدأ الإرهاب الداخلي.
قضى البابا مرقس الرابع بقية حياته بين شعبه يشدد من أزرهم ويحافظ على إيمانهم ويقبل من يرجع إلى الإيمان معترفًا بخطيته ويرفع الصلوات مع القلوب المحبة لكي يرفع الله الغمة عن شعبه. فتتجاوب السماء وتريحه من الظلم والبطش بعد أن قضى في الخدمة البابوية قرابة الخمس عشر عامًا، وكانت نياحته في يوم 31 يناير سنة 1363 م في أيام السلطان محمد المنصور ودفِن بدير شهران.
سمى يوحنا العاشر ولقب بالمؤتمن وتمت رسامته بأحتفال عظيم فى 12 بشنس سنة 1079ش و 1363م فى زمن تملك الأشراف شعبان وأصله من دمشق .
ولبث على كرسى مارمرقس مدة 6 سنوات و شهرين و 8 أيام حدثت فى خلالها مجاعة عظيمة فى مصر وسوريا حملت سكان القطرين على أكل القطط والكلاب وتنيح فى 19 أبيب سنة 1085ش و 1369م وخلا كرسى البطريركية بعده ستة أشهر .
اتفق الجميع برأي واحد على اختيار رئيس دير العذراء المسمى المحرق واسمه غبريال المحرقي، عالمًا فاضلاً ناسكًا مهيب الطلعة، وتمّت رسامته يوم عيد الغطاس سنة 1370م، في كنيسة القديسين سرجيوس وواخس بالإسكندرية.
انشغال المماليك عن الأقباط بالحروب الداخلية
انشغل المماليك في حبرية هذا البابا بالحروب بين بعضهم البعض، فوقف السلطان ومشايعوه ضد يلبغا ومشايعيه، وسقط الكثيرون قتلى، وانتصر السلطان ثم دارت عليه الدوائر وكانت الحرب الأهلية فرصة هدوء نسبي عاشها القبط دون اضطهاد، اللّهم إلا حريق بعض منازلهم مع الحرائق التي اجتاحت القاهرة آنذاك.
سفينة صليبية بالإسكندرية
ومما أثار المماليك ضد القبط وصول سفينة صليبية إلى الإسكندرية، عاثت فيها نهبًا وتخريبًا وحملت أسرى كثيرين، وعندما رحلت لم يجد المماليك أمامهم سوى "لُبَّاس الصليب" قبط مصر، فحلّ فيهم ما حل بالمسلمين على أيدي الصليبين وإن كان ذلك في صورة مادية بحتة، ألا وهى مضاعفة الجزية عليهم شملت أيضًا الرهبان والأديرة.
تكريس الميرون
في تلك الأثناء صلى البابا مع أساقفته لتكريس الميرون المقدس في دير أنبا مقار. وكانت هذه أخر مرّة يتم فيها التكريس في هذا الدير. إذ أصبحت العادة فيما بعد أن يتم التكريس في المقر البابوي. ولكن في أوائل القرن العشرين عاد التكريس إلى الأديرة مرة أخرى.
عاصر السلطان شعبان والسلطان علي بن شعبان المنصور، وجلس على الكرسي 8 سنوات، ثم تنيّح بسلام سنة 1378م.
في القرن الرابع عشر لم تكن الكنيسة تخرج من محنة إلا لتجوز أخرى، وكأنّ أبواب الجحيم قد فتحها الشيطان ونسي عدو الخير الوعد الإلهي الصادق "أبواب الجحيم لن تقوى عليها".
نشأته
في نهاية القرن الرابع عشر ترأس الكنيسة عملاق ممن بلغوا الذروة في الكمال والقداسة، إذ شابَه القديس أثناسيوس بولعه بممارسة الشعائر الدينية في صغره. وشابه الأنبا شنودة رئيس المتوحدين في أنه كان يرعى الغنم ويوزع طعامه على الرعاة لينصرف للصلاة وكانت الوحوش ترهبه عند رؤياه أو حتى تسمع صوته بل وكان بعضها يستأنس به في البرية. وشابه الأنبا أنطونيوس في ظهور الشياطين له دون أن يرهبها، ومتقشفًا مثل الأنبا بولا أول السواح. كان أشبه بملاكٍ يلبس صورة إنسان، عاش بين الناس أكثر من نصف قرن وكان كما من ظهورات الملائكة.
رهبنته
ترهب البابا متاؤس الأول - الشهير بالمسكين - في دير بالصعيد وهو في الرابعة عشر من عمره وظل راعيًا للغنم يصوم معظم الوقت ولا يأكل سوى أقل القليل في الصيف والشتاء، وقد كان أسقف المنطقة يرقبه دون أن يعرف، ولما بلغ الثامنة عشر كرسه قسًا راهبًا. وهو غير القديس متاؤوس (متى) المسكين الذي من دير "الفاخورى" بأصفون المطاعنة شمال غرب مدينة إسنا بصعيد مصر، المشهور بصداقته للوحوش.
هروبه إلى دير الأنبا أنطونيوس
هرب من الكرامة إلى دير أنبا أنطونيوس دون أن يعلن أنه كان كاهنًا وخدم كشماس ولكن الله كشفه أمام اخوته. تارة إذ كان يقرأ الإنجيل المقدس خرجت يد من الهيكل وقدمت له البخور ثلاث مرات واختفت، ففهم الأخوة مكانته الكهنوتية ومستقبل أيامه.
هروبه إلى بيت المقدس ثم عودته إلى الدير
هرب مرة ثالثة إلى القدس وانشغل بتشييد المباني نهارًا والعبادة ليلاً. ولما ذاعت فضائله عاد إلى أحضان أب الرهبان ثانية ووصل إلى رئاسة الدير، وأثناء تضييق الخناق على الأقباط كان من نصيبه ومن نصيب الشيخ مرقس الأنطوني القبض عليهما والنقل إلى القاهرة وسط الإهانات والضرب. ولما لم يسمح لهما الحراس بالماء أسعفتهما السماء بمطرٍ غزيرٍ وسط الصيف! وحالما وصلا إلى مقر سجنهما صدر الأمر بإطلاق سراحهما فعاد القديسان إلى الدير، وانتقل أبونا المسكين إلى دير المحرق ليعمل أعمال القديسين من غسل وطهي وكنس وخدمة المرضى والشيوخ والزوار.
إنقاذ ضبعة صغيرة
حدث في إحدى المرات أن كان أبونا المسكين في خلوته في الصحراء وإذا بضبعه تقترب منه وتقوده إلى حيث لا يدرى وإذا بها تصل به إلى مغارة فيدخلها معها وينظر فإذا بالضبعة الصغيرة ابنة الكبيرة ساقطة في بئر جاف فينزل وينقذها وسط مظاهر فرح الضبعة الأم.
سيامته بطريركًا
كان الأراخنة والأساقفة يتباحثون في من يعتلى السدة المرقسية، وحالما سمع أن اسمه ذُكِر هرب واختفي في قاع مركب فأنطق الله طفلاً يرشد الباحثين عنه. ولما قبضوا عليه قطع لسانه لكي يظهر ناقصًا ولكن الكرامة الإلهية أكملت ضعفه في الحال وعاد لسانه سليمًا فلم يجد مفرًا من القبول بعد استشارة شيوخ الدير، وهكذا انتقل من رعاية الغنم إلى رعاية القطيع البشري في مراعي ملكوت السموات وسط الضيق، وتمت مراسم السيامة في المرقسية بالإسكندرية في 25 يوليو سنة 1378م.
تواضعه
لم تغيره رتبة البطريركية عن تواضعه ونسكه وسهره وصلواته وخدماته للكل خصوصًا الرهبان والراهبات إذ كان حنانه قويًا عليهم كأبٍ. وقد وضع جرسًا في منارة القلاية البطريركية بحارة زويلة لينبه به المؤمنين إلى الصلاة ولا يزال هذا الطقس موجودًا إلى الآن في الأديرة خصوصًا في تسبحة نصف الليل.
مع محبته لشعبه وتواضعه كان يعاون العمال في أدنى الأعمال، لكنه كان مهوبًا للغاية. حين يقف أمام الهيكل يسطع وجهه بنورٍ سماويٍ وتلمع عيناه جدًا، متطلعًا إلى السيد المسيح الذي كثيرًا ما كان يظهر له.
ليس غريبًا أن نجد أن المخازن تمتلئ وسط الضيقة والمجاعة وتتحول البطريركية إلى مصدر لإطعام الجميع في مصر دون تفريق، والعجيب أن الذي "أكل خبزي رفع عليَّ عقبه" فكان الذي يشبعون من خير القبط يتحولون ليخربوا الكنائس.
امتاز هذا البطريرك بالشفافية العجيبة ورؤية الأحداث قبل وقوعها. فقد حذر الرهبان من المجاعة كما حذر كثيرين من سوء أفعالهم. وسقط شماس ميتًا عندما كذب وأخفي وثيقة ملكية حديقة ليتامى.
كان صاحب المشورة الصالحة للحكام ولكل من يلجأ إليه. وقد حدث ذات مرة أن أحد البنائين في كنيسة حارة زويلة وقع من أعلى الكنيسة ووقع عليه الحجر الذي يحمله فمات، ولما علم البابا رفعه إلى حيث أيقونة القديسة العذراء مريم شفيعته وصلى ورش عليه الماء فكان كل جزء ينزل عليه الماء يتحرك وقام الميت.
حاول الرعاع كالعادة - رغم تدخل الوالي - أن يحرقوا كنيسة العذراء المعروفة بالمعلقة وكان البابا بالدير، ورموا جمرة متقدة وعندما همَّ الرهبان بإطفائها ساعدتهم السماء إذ أمطرت بغزارة. وحاول المعاندون مرة أخرى حرق دير شهران فسارع البابا إلى الدير وواجههم بذاته وحده صارخًا: "من منكم له سلطان فليقتلني أولاً" فهرب الجميع.
اهتمامه بأولاده
كان ساهرًا على رعيته، يزورهم ويقضى حاجات المعوزين منهم ويوصى رجال الحكم علي أولاده فنالوا بفضله إكرامًا وتكريمًا، ومن كان منهم في ضيقة أمام رئيسه كانت تتحول إلى نعمة بفضل صلواته. إذ أنكر أحد الرهبان الإيمان وكان عنيفًا يفتري على الرهبان لدى الحكام سأله البعض أن يدعو عليه، أما هو فقال لهم أنه يدعو له ليرده الله إلى الإيمان ويمنحه إكليل الاستشهاد، وقد تحقق له ذلك.
وهبه الله أيضًًا نعمة إخراج الشياطين لأن من كان طعامه الصلاة والصوم قوته ترهبه الشياطين.
علاقته بالسلطان برقوق
كان الشعب يأتي إليه للاستشارة في كل أمورهم الخاصة من أجل حكمته السماوية، حتى السلطان برقوق لم يقبل السلطنة إلا بعد استشاراته، الذي بدوره طلب صلوات الأب مرقس الأنطوني.
لما خلع المملوكان الأميران منضاش ويلبغا السلطان برقوق ونفوه إلى سوريا حاولوا أن يعيثوا فسادًا في مصر عامة ومع الأقباط خاصة ولم يسلم من أيديهم. قام الأول بتعذيب البابا الذي احتمل بشجاعة أخجلت الأمير. أما الثاني فكان عنيفًا في اضطهاده فتحدث معه البابا بشجاعة. فقام بحبسه وأمر بضرب عنقه بالسيف. وإذ قدم البابا رقبته قائلاً: "اضرب سريعًا" ذهل الأمير وأطلقه. وقد سُجن يُلبغا ومات سجينًا بالإسكندرية.
لم تنقض فترة وانقلب المتآمرون على أنفسهم وعاد برقوق إلى مصر وسط تهليل الجميع وعلى رأسهم البابا القبطي وكهنته.
وعندما أراد السلطان برقوق توطيد العلاقة مع أثيوبيا لم يجد سوى البابا القبطي وسيلة لإحلال السلام، فلم يكتب البابا إلى الملك الذي كان على العرش، وكان يدعى "ويدم أصغر" وكان شريرًا، بل كتب لأخيه داود، وعندما تحير حاملو الرسالة نصحهم بعدم التسرع بالحكم عليه، فلما وصلوا إلى أثيوبيا وجدوا أن الملك المغتصب كان قد عُزِل وحل محله من كتب إليه البابا الخطاب. ففرح بالرسالة وسألهم: "أين هديتا البابا: الصليب والمنديل؟" وإذ تعجبوا كيف عرف ذلك قال لهم أنه رأي البابا داخلاً عليه وقد أعطاه صليبًا ومنديلاً هدية، وقد كانت رسالة البابا إليه بالحقيقة كما رأى في رؤياه.
مات برقوق وتولى ابنه الناصر فرج فسلك مسلك أبيه، لكن الأمير سودون اغتصب منه الحكم، وكان عاتيًا، وقد تآمر من رفاق الشر على القضاء على الأقباط. فاعتكف البابا في كنيسة الشهيد أبى سيفين لمدة سبعة أيام بأصوامٍ وصلواتٍ حتى ظهرت له القديسة مريم وطمأنته، فخرج وجهه يسطع كملاكٍ، وإذ طلبه سودون صارحه بكل ما كان ينوي عليه ضد الأقباط ثم أطلقه.
تكرر الضغط على القبط فوجَّه إلى الأمير العاتي الملاك ميخائيل فأرداه قتيلا. وعندما حاول أمير المماليك جمال الدين الفتك بالبابا شخصيًا وأرسل في طلبه صرف البابا الرسل مكرمين طالبًا أن يمهلوه إلى اليوم التالي، وعندما عادوا إليه في اليوم التالي كان قد لبى نداء السماء وفاضت روحه الطاهرة. لكن الله سمح بغضب السلطان عبد العزيز بن برقوق على الأمير فأخذ ماله وأمر الجنود بضربه حتى مات.
حسب وصية البطريرك، الذي كان قد أعلن لتلاميذه موعد انتقاله دفن في دير الخندق (الأنبا رويس حاليًا)، وكانت نياحته في 31 ديسمبر من سنة 1408م.
من العجيب أنه في ليلة وفاة البابا سُمِع من رفات القديسين في دير الأنبا مقار صوت قائل "قوموا افتحوا الباب لأن متاؤس قد حضر"، ولما عرف الرهبان الخبر علموا بالروح أنه انتقل إلى الأمجاد. هذا وقد رؤي البابا يبخر بين الموتى بعد رقاده، وكأنه يجول مفتقدًا أولاده بعد رقاده، وبالحقيقة فان خدام الله يخدمونه في كل وقت حتى وبعد انتقالهم، فإنهم أرواح خادمة.
تنبأ البابا متاؤس قبل نياحته بمن سيعتلى الكرسي البابوي من بعده، ولكن في زمرة الأحزان التي سادت عند انتقاله وافتقادهم له نسي الجميع ما قاله، وتذكر الجميع غبريال المترهّب بدير أنبا صموئيل القلموني - المعترف - وتمّت رسامته باسمه ولُقِّب الخامس وذلك في سنة 1409م في ولاية السلطان فرج بن برقوق.
بدأ حياته موظفًا ثم مال إلى الرهبنة، وفاق أترابه في فضائلها، خصوصًا الزهد والتقشف في المأكل والملبس. وظل على حاله بعد أن صار بطريركًا. وقد اعتاد هذا البطريرك أن يزور أبناءه سيرًا على الأقدام في رضى وفرح.
سيامة بطريرك إنطاكية
من الأحداث الجديرة بالذكر في فترة حبريته، أن جاءه من إنطاكية كاهن اسمه باسيليوس بهنام بتوصية أن يرسمه البابا السكندري بطريركا لإنطاكية، وبالفعل تمّت الرسامة باسم مار أغناطيوس بهنام الأول وزوّده البابا الفقير بكل ما يحتاج إليه في سفره حتى دابته.
وساطته لدى أثيوبيا
في مدة رئاسته فرغت خزينة البطريركية، فكان البابا يعتمد في قوته الضروري على أولاده. وكانت الكنيسة الأثيوبية قد قطعت معونتها للكنيسة المصرية في عهده.
في عام 1418م دعاه مجلس الحكومة المصرية وهدّده بالموت إن لم يمنع الأثيوبيين الذين تحت سلطته من مضايقة التجار المسلمين النازلين في أثيوبيا، فكتب للملك بالرغم من معاناته من الاضطهاد الشديد في مصر.
رعايته لشعبه
لم تكن زيارات البطريرك لشعبه إلا للرعاية والتثبيت على الإيمان المستقيم، وقد زوّد شعبه بكتابات كثيرة في الطقوس الكنسية، بكل دقة لكي يسلّموها للخلف دون تحريف ويفسّرونها لهم.
بعد أن قضى في رئاسة الكهنوت حوالي ثماني عشرة سنة، انتقل إلى الأمجاد السمائية سنة 1427م ودفن بإكرام في كنيسة العذراء ببابليون الدرج في مصر القديمة.
نياحته
ليس عجيبًا أن يؤرخ لتلك الفترة من غير القبط كثيرون، منهم الشيخ السخاوى الذي وصف لنا صورة ومشهد انتقال البابا غبريال ونقل صورة ناطقة لاختيار ورسامة البابا يوأنس الذي سمّاه "يونس"، وسمّاه أيضًا بلقب اليعقوبي والنصراني.
بعد نياحة البابا غبريال الخامس كان يسوس إدارة الكنيسة راهب من دير طره يدعى ميخائيل، وكان يؤيده الكثيرون لنوال البطريركية، لكن إرادة الله سمحت أن يختار القس الأسعد أبو الفرج بطريركًا.
كان كاهنًا لكنيسة أبي سيفين بدرب البحر بفسطاط مصر، وكان مشهورًا بالفضيلة والعلم ويقوم بالتدريس في مدرسة قبطية عظيمة بالمكس. وتمت رسامته كالعادة بالإسكندرية في مايو 1427م بعد أربعة أشهر من نياحة سلفه، وكان معاصرًا الأشرف برسباي المملوكي.
أزمات اقتصادية صعبة
وبالرغم من هدوء الأحوال السياسية إلا أن مصر واجهت في عهده أزمات اقتصادية صعبة نتجت عن انخفاض مياه النيل وحدوث زلزال مدمر وتفشي وباء الطاعون.
زيارة البطريرك الأنطاكي مصر
من الأحداث الهامة في حبريّة هذا البابا أن زار مصر البطريرك الأنطاكي سنة 1430م، وصلى الاثنان قداسًا حبريًا كأعضاء كثيرون في جسد المسيح الواحد. واستجاب البابا القبطي لمطالب أخيه الأنطاكي وبدأ صلوات تكريس الميرون المقدس لتحصل إنطاكية على احتياجاتها منه.
إغلاق بعض الكنائس
من ناحية الدولة أصدر أحد شيوخ المسلمين فتوى بضرورة الكشف على الكنائس وهدم ما أُضيف إليها وجُدِد فيها، وبالفعل أُغلِقت بعضها لحين التحقيق ومن نعمة الله أن أعيد فتحها.
ثم دَعَى السلطان المملوكي إلى مجلس من شيوخ المسلمين والبطريرك القبطي ورؤساء الطوائف اليهودية في مصر، وألزموهم إلزامًا شرعيًا بعدم تجديد كنيسة أو دير أو صومعة أو معبد.
حاول ملك أثيوبيا مطالبة السلطان المملوكي بمعاملة القبط في مصر كما يتعامل المسلمون في بقاعهم، ودلل على ضيق القبط وقتلهم وصعوبة أدائهم الشعائر الدينية، مما ضايق السلطان المملوكي ظنًا أن القبط شكوا له سوء أحوالهم. والعجيب أن السلطان المملوكي لم ينفِ ما قيل بل اتهم القبط بالتشهير، وقبض على البابا وأمر بضربه ضربًا مبرحًا. ولما تأخر الوفد المملوكي لدى ملك أثيوبيا الذي سجنهم، قبض السلطان على البابا وألزمه بالكتابة لملك أثيوبيا يطالبه بسرعة إعادة الوفد وإلا قضى السلطان المملوكي على القبط، فماطل الملك الأثيوبي ثم أعاد الوفد، فقبض السلطان على البابا ثالثة وأمر بضربه وسجنه والزمه إلا يرسم مطرانًا أو أسقفا أو كاهنًا لأثيوبيا إلا بعد الرجوع إليه، وحذره إن لم ينفذ الأمر سيضرب عنقه، وشهد شيوخ المسلمين للمذاهب الأربعة على الحكم.
كان موقف السلطان مشجعًا للرعاع للتشبث بمعاداة القبط، وحدثت أحداث مؤسفة كثيرة راح ضحيتها كثيرون.
ولم يقف السلطان المملوكي عند هذا الحد بل أصدر أمرًا ألا يُعالِج الأطباء القبط واليهود المسلمين، وإن رفض عقلاء المسلمون تنفيذ ذلك لثقتهم في أمانة ومهارة القبط، كما أمر القبط ألا يستخدموا جاريات مسلمات.
نضب نهر النيل
وكأن السماء (واقفة) للسلطان المملوكي بالمرصاد، فنضب نهر النيل وساد الكساد، ودعى السلطان للصلاة في كل مكان ولا مجيب، فاستمال القبط للصلاة، فدعى البابا للصلاة من أجل العباد والبلاد، ففاض النيل في زمن الانحسار. لم يكتفِِ السلطان بما فعله بالبابا والقبط بل وأصدر أمرًا آخرً بطرد القبط من مناصبهم وإبقاء من أعلن إسلامه منهم، فتحوّل كثيرون ممن استهوتهم المناصب الأرضية إلى غير دين المسيح وجحدوا الإيمان، ولم ينقذهم ذلك من غضب السلطان فصادر الأموال وبدد الشمل.
على أن الله لا يترك نفسه بلا شاهد في أي زمان أو مكان، وكأن الضيقة سمة أساسية من سمات الفرح في المسيحية، فظهرت المدائح والترانيم وانتظم الشعب في الاجتماعات والوعظ، وجال الأساقفة مع الكهنة يشددون من أزر القبط ويرفعون الصلوات. ووسط هذا وذاك لبّى البابا نداء السماء في 4 مايو سنة 1452م، في سلطنة فخر الدولة عثمان بن القائم بأمر الله الملقب بالمنصور، ودفن في دير الخندق (أنبا رويس الآن) إلى جوار البابا متاؤس الأول.
مجمع فلورنسا بإيطاليا
في أيام البابا يوحنا الحادي عشر اجتهد ملوك الإفرنج وعلى رأسهم ملك القسطنطينية على إيجاد اتحاد بين مسيحي الشرق والغرب. بعد تفكير طويل استقر الرأي على عقد مجمع بمدينة فلورنسا لهذا الهدف، يحضره أسقف روما وبطريرك القسطنطينية وغيرهما من نواب الشعب الأرثوذكسي. أرسلت الكنيسة القبطية نائبًا من قبلها لحضور المجمع يُدعى يوحنا، وهو رئيس دير الأنبا أنطونيوس لكنه وصل فلورنسا بعد انفضاض المجمع. وكانت نتيجة المجمع عودة الاتحاد بين كنيستى اليونان والرومان وعاد رؤساء الكنائس إلى بلادهم بنية الاجتماع مرة أخرى، لكن لم يتحقق الاتحاد الذي سعى إليه الملوك لأن طلبات أسقف روما تجاوزت الحدود.
ادعى البعض أن ارسال مندوب من مصر يعني خضوع الإسكندرية لبابا روما. تُعلق المؤرخة الإنجليزية بوتشر على ذلك بقولها: "ولكني أقول أنها لو كانت خاضعة له من قبل كما يقولون لما كان يعين بطريركًا خاصًا له في إيبارشية الإسكندرية ذاتها التي فيها البطريرك القبطي مما يثبت صحة الانفصال وعدم الخضوع..."
اتفقت الآراء على أحد رهبان الدير المحرق وكان راهبًا ناسكًا بسيطًا، اتخذ لقب الصعيدي لكي يميزه عن سميه العظيم البابا متاؤس البسيط، وتمت رسامته في الإسكندرية سنة 1445م وكان مقره الرئيسي كنيسة العذراء بحارة زويلة مقر البطريرك سلفه.
في حبرية البابا متاؤس تولى السلطنة أربعة تميزوا بالاعتدال، فانصلحت الأحوال الداخلية للبلاد في عصر هذا البابا المبارك وعادت مصر ترسم أساقفة وكهنة لأثيوبيا، ورسم لهم البابا القبطي مطرانًا جديدًا عوض الذي تنيح. كانت الفرصة مواتية لكي يزور البابا شعبه في معظم البلدان والأديرة، ويقوم بعمل الميرون.
كما عاش في هدوء الملائكة هكذا أيضًا انتقل سنة 1458م، ودفن بجوار سميه العظيم في دير الخندق
لم تنقضِ خمسة شهور على نياحة البابا متاؤس الثاني حتى اجتمع رأي الأساقفة والأراخنة على اختيار غبريال الأنطوني العرباوي، الذي نشأ وتربّى في قرية العرابة المدفونة أو أبيدوس بالقرب من البلينا لكي يترأس السدة المرقسية، وفعلاً تمت رسامته في 9 فبراير سنة 1458م، وأقام في نفس المقر البابوي آنذاك ألا وهو كنيسة العذراء مريم بحارة زويلة.
لم تشهد فترة رئاسته اضطرابات أو مضايقات من جانب السلاطين المماليك أو الرعاع، ونمت الكنيسة في عهده في بناء الكنائس وتجديد القديم منها وكذلك الأديرة وتشجيع الرهبان والرهبنة. وقد استمرت رئاسته ثمانية أعوام وعشرة أشهر رقد بعدها في الرب وذلك سنة 1469 م، ودفن بجانب اخوته السابقين في دير الخندق بعد جنازة شعبية ورسمية كبيرة.
خلف البابا غبريال السادس على كرسي مار مرقس، وكان من سمالوط وقيل سنباط، أقيم بطريركًا في 13 أمشير سنة 1193ش الموافق 1477م في عهد تملك الأشرف أبي النصر قايتباي الظاهري. وأقام في البطريركية سنة واحدة وثلاثة أيام وتنيح في 16 أمشير سنة 1194م ش الموافق 1478م، وخلا بعده كرسي الرئاسة لمدة سنتين وشهرين وسبعة أيام.
الجدير بالذكر أن علاقة الكنيسة القبطية بأثيوبيا في عهده قد بدأت تسوء بسبب سوء العلاقة بين سلطان مصر قايتباي وملوك أثيوبيا.
خلف البابا غبريال السادس على كرسي مار مرقس، وكان من سمالوط وقيل سنباط، أقيم بطريركًا في 13 أمشير سنة 1193ش الموافق 1477م في عهد تملك الأشرف أبي النصر قايتباي الظاهري. وأقام في البطريركية سنة واحدة وثلاثة أيام وتنيح في 16 أمشير سنة 1194م ش الموافق 1478م، وخلا بعده كرسي الرئاسة لمدة سنتين وشهرين وسبعة أيام.
الجدير بالذكر أن علاقة الكنيسة القبطية بأثيوبيا في عهده قد بدأت تسوء بسبب سوء العلاقة بين سلطان مصر قايتباي وملوك أثيوبيا.
في أيام حكم قايتباي الوالي المملوكي الذي اتسم عهده بالهدوء النسبي في الصراع بين المماليك، اتفقت آراء الأساقفة والأراخنة بعد خمسة شهور من نياحة البابا يوأنس الثاني عشر على اختيار الراهب المتوحد "يوحنا" الملقب بابن المصري المولود في صدفا بمديرية أسيوط، وتمت رسامته في 10 فبراير 1484م في كنيسة العذراء بحارة زويلة المقر البابوي آنذاك، وحمل اسم سلفه "يوأنس" بلقب الثالث عشر.
حبه المتناهي للمعوزين والفقراء
لقد تشابهت أيّامه مع المتنيّح البابا متاؤس المشهور بحبه المتناهي للمعوزين والفقراء، فلم يطرق بابه إنسان إلا ووجد حاجته دون نظر إلى سنٍ أو مذهبٍ أو دينٍ. فكان عطاؤه للكل بلا حدود، ومع هذا ازدهر البناء في الكنيسة في عصره بدرجة كبيرة جدًا، وبلغت الكنيسة شأوًا كبيرًا في الداخل والخارج، فكانت الخدمة الكنسية على أحسن أحوالها كمًّا وكيفًّا بمساندة الأنبا ميخائيل الرابع أحد أساقفته.
وقد قام البابا يوأنس بإحضار جسد القديس مرقوريوس أبي سيفين إلى الكنيسة المكرّسة باسمه في مصر القديمة بدرب البحر في سنة 1488م.
عاش البابا فقيرًا من الناحية المادية، لكنه كان غنيًا في كل مجال، ففي الناحية العلمية كان ضليعًا في العلوم الكنسية وله كثير من المؤلفات في طقوس الكنيسة وفي تعاليمها تزود بها أهل عصره.
سيامة أسقف قبرصي
ومن ناحية دور الكنيسة مسكونيًا، فقد وجه خطابًا بابويًا إلى أساقفة قبرص والخمس مدن الغربية وأثيوبيا. والجدير بالذكر أنه هو الذي رسم أسقفا قبرصيًا هو الأنبا ميخائيل القبرصي مطرانًا قبطيًا على قبرص ورودس، ولازال التأثير القبطي واضحًا في نقوش الكنائس والقصور فيهما حتى يومنا هذا، ولازالت إحدى كنائسنا هناك باسم القديس أنطونيوس ويوجد دير يحمل اسم أنبا مقاريوس وهو "سوري اجار" (دير أنبا مقار). وكان القبط آنذاك أحد فئات الشعب وضمن الإحصاء العام الذي اضطلع به التُرك بعد حكمهم الجزيرة لتحديد الضرائب.
إيبارشيات المدن الغربية
أما من ناحية الخمس مدن الغربية فيذكر المؤرخون أن المسيحية انتهت تمامًا فيها في بابوية الأنبا يوأنس السادس زمن حكم صلاح الدين الأيوبي، بعد أن كانت من أهم المراكز المسيحية التابعة للكرسي السكندري وكانت إبروشياتها عامرة تشغلها الأساقفة. لكننا نجد للقبط أسقفًا في عهد البابا يوأنس الثالث عشر حتى دخول العثمانيين شمال أفريقيا في العقد الثاني من القرن السادس عشر الميلادي وكان اسمه "قرياقوص"، وقد ترك هذا الأسقف إيبارشيته وعاد إلى مصر بعد الحكم العثماني لها وذهب إلى دير السيدة العذراء الشهير بالسريان حيث قضى بقية حياته. ونعرف من إيبارشيات المدن الغربية ما يلي: أفريقية وبرقه وبرنيقه وطرابلس الغرب ومراقية في ليبيا وتونس ودرنة وقابس وقيروان في تونس.
أسقف برتغالي لأثيوبيا
أما من جهة أثيوبيا، فقد تعذر على البابا السكندري إرسال مطران قبطي - كالعادة - لأولاده الأثيوبيبن بسبب الخصومات بين سلاطين مصر المماليك وملوك أثيوبيا، مما دفع داود الثاني ملك أثيوبيا إلى مخاطبة البرتغال لتعيين أسقف وفعلاً رسم الحبر الروماني أسقفا للأثيوبيين، والعجيب أنه سماه "بطريرك الإسكندرية" وكان برتغاليًا اسمه (بواز بارموداز Poaz Parmodaz) رغم ما في ذلك من تَحَدٍّ واضح وصريح للأصول الأخوية ولقوانين المجامع المسكونية خصوصًا مجمع نيقية.
ولكن أصلحت الأحوال وأرسل داود الملك الأثيوبي أميرين أثيوبيين أحسن قنصوة الغوري استقبالهما واستقبلهما البابا المصري بالترحيب ووعدهم بإرسال أسقف مصري.
هجوم القبائل العربية على ديري الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس
والجدير بالذكر أن عصر المماليك اشتهر بالمتناقضات، ففي الوقت الذي عاش فيه الأقباط مع المسلمين في سلام إبان حكم قنصوه الغوري، وظهر ذلك في تعييدهم معًا بوفاء النيل وعيد النيروز، وازدهار هندسة البناء وزخرفة المباني والهندسة الزراعية وتقدم الطب خصوصًا طب العيون، إلا أن عدو الخير زرع شوكًا وسط الحنطة، فقد هجمت القبائل العربية المقيمة في الوجه القبلي على ديري الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس وحطموا كل ما فيها بعد أن قتلوا الرهبان، وكانوا كلما احتاجوا إلى وقود كانت الكتب المقدسة والمخطوطات والكتب الكنسية هي زاد هذا الوقود، ولازال أثر الحرائق واضحًا على رسوم وجدران الديرين، وإن كانت يد العمارة قد امتدت لتغسل عار همجية الغزاة الذين لم يراعوا حرمة عجوز أو ناسك أو كتاب يحث الناس على الفضيلة.
الشهيد صليب
من الأسماء الشهيرة لشهداء القبط في عصر هذا البابا الجليل القديس "صليب" الذي لازال جسده لم يرَ فسادًا حتى يومنا هذا، وقد نقلت بعض مخلفاته إلي دير مارمينا العجايبى بمريوط. وقد نال إكليل الشهادة بعد أن صلبوه على صليب من خشب داروا به شوارع القاهرة فوق جمل، كأمر قضاة المسلمين الأربعة، ورغم هذا كان صامتًا ونعمة الله حالة على وجهه الذي كان يشع نورًا وقطع السياف رأسه بعد أن قال: "إنني عشت نصرانيًا وأموت نصرانيًا".
ضيق من المماليك
من متناقضات العصر المملوكي أيضًا أنه رغم امتداد حكمهم لفترة طويلة واتساع سلطانهم إلى سوريا وقبرص والحجاز، ورغم اندحار الصليبيين والمغول على أيديهم، إلا أن المصريين لاقوا صنوفًا من الجور والتعسف والافتقار والمذلّة والضرائب الباهظة من السادة المماليك بالإضافة إلى الفتن والاضطرابات الداخلية، وكان القبط أوفر حظًا في تلك الإساءات التي امتدت إلى الكنائس والأديرة بالتخريب والتدمير.
تدمير الأديرة والكنائس
من أشهر الأديرة التي دمرت في هذه الحقبة:
دير القصير - قلته - وكانت به أيقونات من أجمل الصور للقديسة العذراء مريم.
دير مار يوحنا ودير أبي مينا بمغارة شقلقيل على أعلى الجبل يطل على النيل ناحية منفلوط.
دير بقطر بمحاجر أبنوب، ودير أبو هرمينا الراهب الناسك، ودير السبعة جبال بأخميم، ودير أنبا بسادة أو بشادة من علماء النصارى.
دير نهيا بالجيزة، وكان كما يقول المؤرخ أنه كان من أنزه وأطيب المواقع وأجمل الأديرة.
دير إيسوس وله عيد في 15 بشنس وفيه بئر يعرف باسم إيسوس يفيض ماؤه في عيده، والعجيب أن هذا الدير كان أول من أعطى المصريين فكرة عمل مقياس لفيضان مياه النيل، إذ أن ارتفاع الماء في هذا البئر كان هو نفسه الارتفاع الطبيعي لفيضان نهر النيل.
دير يحنس القصير على رأس الجبل غربي أسيوط.
لم يفلت من التخريب سوى الدير الذي آوى السيدة العذراء مريم مع رب المجد في طفولته ويوسف النجار - دير العذراء بجبل درنكة بأسيوط أو دير قرية النصارى الصعايدة، ودير موشة خارج أسيوط وقد أقيم على اسم "توما الرسول الهندي". وكانت القبطية الصعيدية لهجة تلك المنطقة كما أنهم كانوا متبحّرين في القبطيات واللغة الرومية.
من الكنائس التي أصابها التخريب كنيسة بومينا الحمراء، أما كنيسة الألزهري التي كان بها كثير من النصارى فقد حفر الرعاع حولها من جميع الجوانب حفر عميقة حتى تقع وحدها دون تخريب، ولكن الغوغاء انتهزوا فرصة صلاة الجمعة والشوارع شبه خاوية وتركوا الصلاة وتسلقوا الكنيسة وخربوها عن آخرها، وأخذوا ما بها من تراث وستور وصور وجرار خمر شربوها وباعوا ما فضل عنهم وهم مترنحين. وخرجوا منها إلى كنيسة دير للبنات فكسروا أبوابها وسبوا البنات وحرقوها. وكنيسة أخرى في أخميم كان اسمها "إيسوتير" (المخلص) وكان فيها بئر إذا وُضع ماؤه في القنديل صار أحمرا كالدم. وكانت جميع الكنائس التي خربت مائة وستين كنيسة، ولم يبقَ منها سوى أربع كنائس. وعندما كانت الكنائس تخرب كانت البيوت تفتح للصلاة ونسي الأشرار الوعد الإلهي: "ها أنذا قد جعلت أمامك بابًا مفتوحًا في السماء".
انتعاش روحي
رغم هذه الضيقات كانت الكنيسة في ازدهار منقطع النظير وكانت ممتلئة فرحًا وسلامًا بفضل راعيها السماوي وراعيها الأرضي الذي جاهد الجهاد الحسن مدة أربعين عامًا، وترك لنا رصيدًا كبيرًا وذخيرة روحية لا ينضب معينها في تعاليم الكنيسة وطقوسها.
نياحته
لما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته في 5 فبراير سنة 1524م، في أرض الأحياء وتمت مراسيم الصلوات الجنائزية في كنيسة العذراء بحارة زويلة حيث دفن أيضًا مع سابقيه. وقد شاهدت بابويته نهاية دولة المماليك الجراكسة، إذ انتصر عليهم سليم الأول السلطان التركي وتحوّلت مصر أثنائها إلى ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية.
مضي وقت تردّت فيه الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر أثناء حكم الدولة العثمانية، ظهرت عناية رب الكنيسة في اختيار "مطيّب القلوب" الراهب "روفائيل" من دير السريان وهو نفس اسمه بالميلاد، وكان من قرية أبو عايشة من أعمال القوصية والدير المحرق. وكان أبوه كاهنًا لكنيسة الشهيد مرقوريوس بمصر القديمة وقد شجّعه على حياة الرهبنة، واتفقت عليه الآراء بسرعة ونال كرامة البابوية سنة 1525م باسم حامل البشارة "غبريال" وهو أول بطريرك يُختار من دير السريان، وذلك في عهد السلطان سليمان.
مُنَجِّم يهودي يثير السلطان العثماني
قد واجه في أول سني خدمته حسد الشيطان عن طريق منجم يهودي يلتجئ إليه السلطان العثماني سليمان الذي خلف والده سليم الأول، إذ أشار إليه هذا المنجم أن حُكمه سيكون في خطر طالما بقى النصارى في مصر وبلاد الشرق، إذ ربما يشجّعون الروم ضده. وقد أخذ برأيه فعلاً، ولكن قبل أن يصدر أمره بالقضاء على القبط تجلت العناية الإلهية على لسان وزير هذا السلطان واسمه بيروز باشا إذ قال له: "إن فعلت هذا خربت مملكتك" فلم يستمر على رأيه. التجأت الكنيسة للصلاة والطلبة لأنه ليس لنا معين في شدائدنا وضيقاتنا سوى الآب السماوي.
تعمير الأديرة
من مآثر هذا البابا الجليل تعمير دير أنبا أنطونيوس بالأنفس والمباني وقد كتب عنه في سجلات في دير أنبا أنطونيوس العظيم: "كان هذا الأب طويل القامة معتدل الخلقة، والروح القدس حال عليه وكان له اجتهاد كبير في الصلاة والصوم والنسك، مع الاجتهاد الكبير في عمارة الأديرة وتشييدها، وفتح في زمانه دير القديس الطاهر أنبا أنطونيوس بالعربة، وعمَّره عمارة حسنة روحانيًا وماديًا وكذلك دير أنبا بولا".
لما قام عرب بني عطية ونهبوا دير القديس بولا وضربوا وقتلوا أحد رهبانه وشتتوا بقية الرهبان، اهتم بالبابا بتعميره. أعاد تعمير ديري أنبا بولا وأنبا أنطونيوس من رهبان دير العذراء السريان، وما زال بعض أواني الديرين تحمل اسم العذراء السريان، كما شرع في تعمير دير المحرق بجبل قسقام ودير الميمون.
إعادة الصلة بين كنيسة مصر وكنيسة أثيوبيا
من محبة اللّه للكنيسة أن أعاد الصلة بين كنيسة مصر وكنيسة أثيوبيا، التي كانت قد انقطعت بسبب المماليك واضطهادهم للقبط، مما دعا الأثيوبيبن لرسامة مطران برتغالي كاثوليكي، أطلق عليه بابا روما "بطريرك الإسكندرية"، ولكن عندما اعتلى الإمبراطور جلاوديوس (أقلاديوس) عرش أثيوبيا أوقف المطران البرتغالي، وطلب من البابا السكندري رسامة مطرانٍ لبلاده، فرسم لهم أنبا يوساب الثالث وتلقّاه الأثيوبيبن بكل ترحاب، وسمح للكاهنين الروميين اللذين كانا يخدمان في أثيوبيا بالبقاء في خدمتهما بناء على طلب البابا الروماني.
عاد المطران اللاتيني إذ رأى استحالة ضم الكنيسة الأثيوبية إلى الكنيسة الرومانية، وأخبر أسقف روما بذلك. استاء أغناطيوس أحد رؤساء الرهبنة في روما من هذا الفشل المعيب وطلب من أسقفه أن يرسله إلى أثيوبيا، لكن الأسقف خشي على حياته وأرسل شخصيًا آخر يُدعى نونو باريتو وكاهنين آخرين. ذهب الثلاثة إلى جوا فأقام باريتو فيها بينما أكمل الكاهنان طريقهما حتى التقيا بالملك إقلاديوس الذي قابلهما بكل لطفٍ وأفهمهما أنه يرفض قطعيًا الخضوع لسلطة أسقف روما، وأنه لا يخضع إلا لكرسي مارمرقس الإنجيلي.
بلطفه سمح لهما بالإقامة في بلاده وهو واثق من ثبات شعبه على أرثوذكسيتهم.
إذ مات أقلاديوس خلفه أخوه مينا فأظهر سخطًا على الكاهنين، فأثارا أحد كبار الجيش لعقد محالفة مع المسلمين ضد الملك مينا. وإذ بلغ مينا الخبر قام بتأديب العصاة.
شعر أسقف روما بفشل إرساليته الثانية لأثيوبيا فبعث رسلاً إلى البابا غبريال يطلب منه الانضمام إلى الكنيسة اللاتينية، فقابلهم البابا بكل لطف وأخبرهم أنه لا ينحرف عن التمسك بالعقيدة قيد شعرة. طلب الرسل من البابا أن يسأل ملك أثيوبيا ألا يمس الكاهنين الرومانيين بسوء، وبالفعل سمح لهما الملك بالإقامة، لكنهما لم يُحسنا السير حتى كاد الأثيوبيون أن يقتلوهما. قدما تقرير لروما جاء فيه "إن إثيوبيا لا ترتد عن إيمانها إلا بقوة السيف"، فاستدعاهما الأسقف.
ضيق في الكنيسة
لم تهنأ الكنيسة في أيام حبريته بالاستقرار، إذ أصدر الحاكم التركي أمره بأن يدفع غير المسلمين ألفى دينار - بسبب سفر الجيش المتوجه به سنان باشا الوزير العثماني - واستعمال العنف في جمعها دون مراعاة لمقام أو لسن أو كرامة. فاعتكف البابا حزينًا في دير أنبا أنطونيوس، وظل في صلواته واعتكافه حتى فارق الحياة يوم الثلاثاء 29 بابة 1285ش/ 1570م، ونُقِل بعدها جسده الطاهر إلى كنيسة القديس مرقوريوس بمصر القديمة في مقبرة جديدة تحت جسد القديس مرقوريوس بعد تجنيزه للمرة الثانية.
لم تكن الضيقة التي حلّت بالكنيسة في أواخر أيام البابا غبريال السابع سببًا في انتقال البابا فقط، ولكن أيضًا سببًا في حالة القلق وعدم الاستقرار التي ألمَّت بالقبط في مصر. وبالتالي ظل الكرسي البابوي شاغرًا ما يزيد على ثلاثين شهرًا، بعدها اختاروا الراهب "يوحنا المنفلوطي" من دير العذراء "البرموس" ليصبح البابا يوأنس الرابع عشر، السادس والتسعين من باباوات الإسكندرية، وكانت رسامته في 17 إبريل سنة 1571م في عهد سلطنة سليم الثاني العثماني.
من مآثر هذا البابا المختبر محبة الله أن مراسيمه البابوية كانت تحمل عبارة "الهدى بالله الهادي" بجوار توقيعه وتحتها يكتب عبارة "الخلاص للرب إله الخلاص".
ملابس سوداء
قد قام البابا الوقور كثير الأيام برحلة رعوية إلى سائر كنائس بلاد مصر والشعب القبطي لرعايتهم وجمع الجزية المفروضة على الكنيسة. وقد قام بزيارتين مماثلتين بعد ذلك عندما اشتد الضيق على الكنيسة، خصوصًا بعد أن أصدر السلطان العثماني لولاته في مصر فرمانًا عاليًا بالتشدد في أن يلبس القبط جميعًا الملابس السوداء وأيضًا العمامة السوداء، وكان رد فعل السماء عجيبًا إذ تفشى في العباد مرض الطاعون الذي حصد الكثيرين من غير القبط، فلبس الجميع الملابس السوداء الأقباط بالأمر العالي وغيرهم حزنًا على موتاهم.
طلب الانضواء تحت كرسي روما
انتهز البابا الروماني إكليمنضس الثامن Clement VIII فرصة الضيق الذي حل بالقبط وطلب إلى البابا السكندري الانضواء تحت كرسي روما، ولم يَبِتّ البابا في الأمر بشكل حاسم، ربما لأنه كان يميل إلى وضع اتفاق مع بابا روما بسبب بساطته وشيخوخته وميله لحماية أولاده من الضيق الشديد، لكن الأساقفة عارضوه بشدة.
انتقل البابا إلى كنيسة الأبكار دون أن يلبي للبابا الروماني طلبه. ادعى بعض المؤرخين الكاثوليك بأن البطريرك مات مسمومًا، غير أن كثير من المؤرخين الغربيين ينفون ذلك.
دفن في "برما" ثم نقل جسده إلى دير السريان في برية شيهيت، وكانت نياحته سنة 1586م في أيام سلطنة مراد الثالث العثماني.
قام والى مصر بالقبض على رسل أسقف روما كعيون غرباء، واتهمهم بالقاء دسائس الفتنة بين الرعايا، وسجنهم. رقّ لهم بعض كبار الأقباط ودفعوا خمسة آلاف قطعة من الذهب مقابل اطلاق سراحهم، ليعودوا إلى بلادهم فشكرهم سكتوس الخامس أسقف روما على نبل تصرفهم.
شهداء النوبة
قد كان ملوك النوبة حتى القرن السادس عشر مسيحيين خاضعين للسلطان المصري يدفعون له الجزية، ولكن بعد الفتح العثماني أخذت الحكومة المسيحية في بلاد النوبة تضعف تدريجيًا حتى حلت محلها حكومة إسلامية. اجتهدت في محو النصرانية من تلك البلاد، فكثر عدد الشهداء وأَسلم الكثيرون، ومن خلُص من الموت هاجر إلى مديرية أسوان واستوطنوا فيها، ومن بقي في بلاد النوبة صار في عاداته كالمسلم سواء، وهكذا زالت المسيحية من تلك البلاد.
تم الاتفاق عليه واختياره بسرعة بعد فترة لا تزيد على تسعة أشهر على انتقال البابا يوأنس الرابع عشر، وهو الراهب "شنودة" من دير الأنبا بيشوي، وتمّت مراسيم سيامته للكرامة البابوية في كنيسة القديس مرقوريوس بمصر القديمة يوم عيد الملاك غبريال، باسم البابا غبريال السابع في 16 بؤونة سنة 1306ش و1590م في أيام السلطان العثماني مراد الثالث. وقد كان أكبر الأساقفة سنًا هو الأنبا زخارياس أسقف القدس الذي ترأس حفل السيامة.
لما كانت الكنيسة في يد حاميها وراعيها الذي لا يغفل ولا ينام، فقد دافع عنها إلهها وفاديها ضد قوى الغدر والبطش والإرهاب. ففي الوقت الذي فيه تزايد الضغط على القبط لدفع الجزية والتشدد في جمع أضعافها، انتشر الطاعون مرة أخرى في العباد والبلاد - دون الأقباط - بل وتزلزلت الأرض من تحت أقدام الولاة وانهارت المنازل وتشقق جبل المقطم، وحلت بمصر الكوارث من كل ناحية، والكنيسة في يد ربانها تمخر وسط بحر العالم الهائج في اطمئنان وسلام.
لأول مرة أيضًا نسمع عن "عادة التدخين" وانتشارها في مصر في تلك الفترة. وقد حاول البابا الروماني مرة ثانية إخضاع الكنيسة القبطية لسلطانه، ولكن البابا الساهر أنهى مباحثات مبعوثي البابا بالتمنيات الطيبة للحبر الروماني قائلاً: "وعندما نحس أن رب الكنيسة قد تخلّى عنها، سنلجأ إلى البابا الروماني لكي لا يتخلى عنها". بل وامتدت أنظار البابا السكندري لحماية الكنيسة في أثيوبيا فحذر - في رسالة أبوية - الملك والإكليروس في أثيوبيا من الانحراف عن الإيمان المستقيم الذي دفع ثمنه الرسل والشهداء وآباء الكنيسة الكبار، وفشلت جهود روما في تحويل أثيوبيا أيضًا مما دعا البابا الروماني إلى عدم السير في خطة أسلافه.
قد قام الوالي بعزل البابا مدة من الزمن، ثم أُعيد إلى كرسيه في أيام السلطان مراد الثالث العثماني. وفي سنة 1602م أصدر البابا غبريال قرارًا بتعديل الأصوام في الكنيسة القبطية كما يأتي:
1. أن يكون صوم الرسل من يوم عيد العذراء 21 بؤونه وفطره في 5 أبيب.
2. أن يكون صوم السيدة العذراء الذي يحل في شهر مسرى اختياريًا، فمن صامه وفاءً لنذر قطعه على نفسه فله ثوابه ومن لم يصمه فلا جناح عليه.
3. أن يبدأ صوم الميلاد من أول شهر كيهك ويكون فطره عيد الميلاد.
4. أن لا تصام ثلاثة أيام نينوى.
وقد وافقت عليه الأمة القبطية وقتئذ.
وأخيرًا تنيّح في سنة 1603م، ودفن بمقبرة دير السريان، وذلك في أيام السلطان العثماني أحمد الثاني.
من دير القديس مقاريوس الكبير ببرية شيهيت، اتفق الأساقفة والأراخنة على اختيار الراهب "مرقس المقاري" الذي من بلدة البياض ببني سويف، وتمت مراسيم سيامته في كنيسة القديس مرقوريوس (أبى سيفين) بنفس اسم كاروز الديار المصرية في 26 بؤونة 1327ش 1603م ليكون الثامن والتسعين من باباوات الإسكندرية، وذلك في أيام السلطان محمد الثالث.
بدأ البابا الجديد أيام خدمته على الأرض بافتقاد شعبه في كل مكان حتى إلى القدس ليقوى عزائمهم ويثبت إيمانهم مستخدمًا ما وهبه الله من سعة العلم والتضلع في الشرائع.
متاعب للبابا من داخل الكنيسة
ومن العجب أن تأتى المتاعب للبابا الجديد من داخل الكنيسة، إذ اتجه الموسرون من القبط إلى الزواج بأكثر من واحدة، ولما وبخهم البابا وحرمهم للتعدي على الشرائع المسيحية غضبوا وأوعزوا للوالي العثماني بالقبض عليه وسجنه وفعلاً تم القبض على البابا وسجنه.
والمرجح أن أسقف دمياط انضم إلى هؤلاء المارقين ظنًا منه أنه يستطيع أن يحل محل البابا، ولكن وقف القبط وقفة رجل واحد حتى أفرج الوالي عن باباهم، وانعقد مجمع مقدس حرم من تزوج بأكثر من واحدة، وحرم الأسقف الذي انحاز مع الهوى. وليس غريبًا أن الوالي ينقلب على هؤلاء المنحرفين ويطردهم من مناصبهم فيتشتتون في كل صوب بعد مصادرة أموالهم وأملاكهم.
متاعب من الأتراك
تجلت وطنية الأقباط في عدم اشتراكهم في الثورات التي قامت من طنطا إلى القاهرة ضد الحكم التركي، ومع هذا عندما أخمدها الترك لم يفرقوا بين غادر وعابر.
متاعب من روما
نجح البابا الروماني في استمالة ملك أثيوبيا واعتبر من ليس معه فهو عليه، فأغلق كنائس القبط وحتم إعادة معمودية الأقباط وإعادة تكريس الكنائس التي استولى عليها فثار الشعب بمساندة المطران القبطي، وقامت حرب أهليه استمرت ما يزيد على ست سنوات راح ضحيتها الكثير من الأثيوبيين. ولم تفلح المناورات الرومانية في الاستمرار في أثيوبيا، كما لم تفلح الضيقة العثمانية التي أحكمها الولاة على أقباط مصر، ووسط الدفاع الإلهي عن كنيسة الآباء والأجداد انتقل البابا مرقس سنة 1619م في أيام السلطان عثمان وولاية مصطفى باشا على مصر، وتمت المراسيم الجنائزية على جسده الطاهر في كنيسة العذراء بحارة زويلة - المقر البابوي آنذاك - ثم نقل بعدها جسده إلى ديره ببرية شيهيت.
لم ينقضِ أسبوع واحد على انتقال أنبا مرقس الخامس البطريرك الثامن والتسعين سنة 1619م حتى اتفقت الآراء بسرعة عجيبة على اختيار الراهب الأنطوني "يوحنا الملواني" العالم بالكتب المقدسة المشتهر بنقاوة القلب والتقوى والورع، وكانت رسامته في أيام السلطان عثمان وولاية مصطفى باشا والي مصر.
القاضي العادل
من سمات هذا الأب المبارك عطفه الشديد على الكهنة، ولم يكن يحابي بالوجوه، كسيده لم يكن يظلم أحدًا، لذا لقبوه باسم "القاضي العادل".
أوبئة ومجاعات واضطرابات
في أيّامه سنة 1622م حدث وباء أُطلق عليه الموت الأسود، كما حدث وباء آخر سنة 1625م، وخلال هذه الأوبئة والمجاعات والاضطرابات ذاق الأقباط ظلمًا مضاعفًا، فكثيرًا ما كانوا يلزمونهم بالسير على الشمال ليتركوا اليمين لغيرهم، وكثيرًا ما كانوا يمنعونهم من ركوب الخيل. وما هو أَمَرّ من هذا كله كثيرًا ما كانوا يمنعونهم من إقامة شعائرهم الدينية والتضييق عليهم بكل نوعٍ.
رغم اضطراب البلاد من جراء الضيق الذي فرضه الأتراك على المصريين عامة والقبط خاصة، والتعسف في جمع الضرائب بأنواعها، فان البابا السكندري قام برحلتين رعويتين يُثَبِّت فيها المؤمنين بحب جارف نحو الكنيسة.
رجل مبادئ
وكانت مبادئ البابا سببًا في القضاء عليه، ففي طريق عودته من رحلته الثانية في أنحاء مصر دخل بيت رجل غنى قبطي في أبنوب عُرف عنه عادة التَسَرِّي المرفوضة. وإذ انتهره البابا ناصحًا إيّاه أن يقلع عنها لم يقبل النصح والإرشاد فقط بل وأيضًا دسّ السم لسيده في الطعام، مما أدى بحياته في طريق عودته إلى مقر كرسيه، وكان ذلك سنة 1629م في أيام السلطان مراد الرابع، وصلّوا عليه في دير القديس أنبا بشاي بالبياضة.
الكاثوليك في أثيوبيا
في عهده مات الملك الأثيوبي الذي اعتنق الكاثوليكية وتولى ابنه باسيليوس الحكم فاضطهد تابعي الكاثوليك، وطلب من بابا الإسكندرية أن يرسل إليه مطرانًا. سمح للمرسلين الكاثوليك بالبقاء في بلاده بشرط إلا يتعرضوا لعقيدة أهلها.
أدرك أنهم يعملون على استحضار جيش البرتغاليين لتأييد مذهبهم بالقوة فأمرهم بالرحيل، لم يطيعوا الأمر واتفقوا مع أحد العظماء في أثيوبيا وكان عاصيًا للملك واتحدوا معه. لكنه بعد اتحادهم معه باعهم عبيدًا لتجار الأتراك، فاستخلصهم الملك من أيدي التجار، لكن الشعب قام بقتلهم، إذ أدركوا الدسائس التي يمارسونها. بهذا هدأت البلاد، ومنع الأثيوبيون دخول الغرباء لغير التجارة وكسب العيش.
مخطوطاته وكتاباته
ترك هذا البابا الجليل مخطوطات عن القراءات اليومية في الكنيسة "القطمارس" مكتوبة بطريقة شعرية، وصلوات البصخة تبعًا لما رتّبه أنبا غبريال بن تريك البابا السبعون، وكاتبها القس يوسف الزير البرماوى، باللغات القبطية والعربية والتركية، وإبصالية للشهيد العظيم مار جرجس مرتبة بالحروف الأبجدية القبطية، وله أيضًا كتاب "اللقّان" فيه مديحًا لقديسي برية شيهيت.