***
أما الكتابة للموقع، لأي موقع، فهذا أمر تحدده بالطبع عوامل كثيرة وليس مجرد قرار شخصي. نعم، كنا قديما نفكر تلقائيا بذلك، كل الأعضاء وليس فقط شخصي المتواضع، وكنا نفكر بذلك في إطار أنه "منتدى" يجمعنا معا ونحن فيه "أسرة واحدة" كما كنا نعتقد. فهل كان ذلك وهما وخداعا؟ ألم تكن المحبة حقا ما يجمعنا؟ لا لم يكن وهما. أعتقد أنه كان في أغلبه حقيقيا، على الأقل لأن هذا ما صدقناه بالفعل وآمنا به، وكانت المحبة هي قطعا ما يجمعنا رغم كل الخلافات والمشكلات التي واجهتنا.
أما اليوم: فنحن يا أمي في عالم آخر يختلف تماما عن ذلك العالم! لا أبالغ إذا قلت إن عقولنا نفسها ـ والعقل الإنساني عموما ـ صارت مختلفة، سيان أدركنا ذلك أم لم ندرك. أستاذنا اللاهوتي الشهير "كارل رانر" ـ واحد من اللاهوتيين الخمسة الكبار بالكنيسة الكاثوليكية في القرن العشرين ـ قال في نبوءة عجيبة قبل حوالي 50 عاما:
«المسيحي مستقبلا سيكون إما مسيحيا صوفيا، أو لن يكون على الإطلاق»
The Christian of the future will be a mystic or will not exist at all
بعضنا ـ في عالمنا الصغير بالشرق ـ ما زال ينزعج من خطاب التشكيك والتضليل الذي يقوم به "معاذ" و"ميمو" وغيرهما من تلك الأسماء الشريدة. بعضنا على الجانب الآخر يُحزنه ذلك التعليم الخاطئ الذي يأتينا به ويا للعجب حتى بعض كبار الأساقفة أحيانا. وبعضنا بين هذا وذاك أصبح يقيس حكمة "القلب" بميزان "العقل" ويحيد بالتالي تماما عن الطريق، أو على الأقل يبدو تائها، لا يعرف لماذا انطفأ داخليا أو كيف يستعيد ذلك الحضور الإلهي ليشرق في حياته من جديد. لكن ذلك كله في الحقيقة ليس سوى بعض مظاهر الأزمة وأعراضها فقط وليس هو نفسه المشكلة أبدا. المشكلة بالأحرى هي أن المسيحية اليوم ـ وكل الديانات والعقائد والأيديولوجيات عموما ـ تقف ببساطة على مفترق الطريق: نحن المسيحيون إما أن نكون حقا ـ إما أن نكون صوفيين تحديدا كما قال "رانر"، أو بالأحرى كما كانت المسيحية الأولى ـ أو لن نكون على الإطلاق.
نعم، لقد وصلنا بالفعل إلى اليوم الذي تحدث عنه ذلك الشيخ الكبير قبل خمسين عاما. بالطبع أبسّط تماما وأختصر كثيرا، لكن هذا على أي حال هو حجم الأزمة وهذا هو عمقها. في هذا السياق إذن ـ وفي عالم كهذا ينقطع تدريجيا عن جذوره الروحية ـ علينا كلٌ منا أن نراجع أولا أنفسنا. علينا قبل أن ندعو هذا أو ذاك ليشاركنا بأفكاره ـ بصرف النظر عن قيمة هذه الأفكار ـ علينا أن نحدد موقفنا نحن أولا وأن نحدد حتى هويّتنا، إيماننا، صدقنا، طريقنا والتزامنا، رسالتنا ودورنا، ثم أخيرا تأثيرنا أن كنا نرغب بصدق أن يكون لنا حقا أي تأثير في حياة الآخرين. إن فاقد الشيء ببساطة لا يعطيه يا أمي. "خادم البتول" هذا على سبيل المثال ـ أيّا كان المعنى الذي يمثله ـ ليس زائرا يأتينا حقا من الخارج، بل إنه يأتي بالأحرى من "داخلنا". إن "عطر المسيح الزكي" الذي تجدين في رسائلي كما تقولين: هذا العطر لا يفوح حقا من كلماتي بل من داخلكِ أنتِ شخصيا. إنه ما تبقى من عطر المسيح في قلبكِ أنتِ شخصيا، وما ظهرت رسائلي في حياتك إلا لكي تخبرك فقط بهذه الحقيقة.
بعبارة أخرى: لو أننا أردنا المزيد حقا من "خادم البتول" (وبالطبع أقصد "المعنى" وليس "الشخص" نفسه أبدا، بل المعنى كما نجده في رسائل الأستاد "سام" مثلا أو الأستاذ "كاراس" أو الأستاذ "ناجح"، إلخ). أقول: إذا أردنا المزيد حقا من هذا المعنى ـ المزيد من "عطر المسيح" كما نجده بدرجة أو بأخرى في رسائل هؤلاء جميعا ـ فما علينا سوى أن نقوم بإحياء المزيد من هذا المعنى أولا داخلنا، في قلوبنا وأرواحنا. كما أن "الأصل" بالداخل هو ما انعكس بالخارج، بهذا القدر تحديدا، فكذلك "المزيد" بالداخل سوف ينعكس مزيدا بالخارج أيضا، وبنفس القدر، سيان جاءنا ذلك في النهاية على لسان "خادم" أو على لسان مَن هم حتى أفضل منه كثيرا.
"خادم" نفسه بالتالي ورسائله ـ وكل إنسان عموما مهما ارتفعت قيمته ـ هو آخر ما نفكر به حقا يا أمي، وهو آخر ما يشغلنا. في المقابل فإن "عطر المسيح" هو ما يعنيكِ حقا، وهو ما يجب أن يعنيكِ حقا، خاصة إذا عرفتِ أن قلبك هذا الصغير هو في الحقيقة "مصدره الوحيد" في هذا العالم! ألم أخبرك سابقا أنك أجمل وأروع من كل ما تتخيلين؟ 
ولا تتعجبي من كلامي، لأن هذا ما تعلمناه من "الأخ لورانس" ـ وقد تحدثنا عنه سابقا ـ حين قال ألا أحد سواه في هذا العالم مع الله! هو فقط، والله معه، ولا ثالث لهما. هكذا كان يفكر وهكذا كان يعيش وهكذا وصل هذا القديس إلى قمة الاستنارة حقا وبلغ إلى قلب الحقيقة. بالمثل: أنتِ فقط يا أمي الموجود الوحيد بكل هذا العالم، مع الله! فإذا كان الله يظهر ويتجلى من خلالك ـ وفقط من خلالك لأنه لا ثالث معكما ـ فمن أين إذن تشرق أنواره حقا، من أين تفيض محبته أنهارا ومن أين ينساب عطره الزكي ويفوح ليملأ كل الوجود، سوي من قلبك هذا الصغير؟
علينا باختصار يا أمي الغالية ـ ويا كل الأحباء ـ أن نرتفع إلى هذه المسيحية الحقة، إلى هذه الصوفية العميقة الباهرة، وإلى قامة هذا القدوس المسيح تبارك اسمه ومعنى تجسده في حياتنا ومجيئه ليكون واحدا منا. عندئذ ـ وفقط عندئذ ـ سيتناسق العالم كله أخيرا من حولنا، وسيترتب كل الوجود ـ ليس فقط هذا المنتدى ـ ترتيبا يفوق سائر أفكارنا بل يتجاوز حتى أروع أحلامنا. (وعندئذ ـ فقط عندئذ ـ ربما نناقش مسألة "خادم" هذه وموضوعاته التي نريد "تثبيتها" بالمنتدى ـ ذلك إن بقيت في عقولنا ساعتها أية مساحة حقا للتفكير أصلا بذلك)!