ما قصدته بالكواليس هو ببساطة عمليات التحرير والحذف والإضافة التي تمر بها بعض الرسائل أحيانا. فهذا بالتالي جزء مما حذفته من رسالتي بالأمس، طلبا بالطبع للاختصار كالعادة، كذلك تركيزا لبعض المعاني وتأكيدا عليها. أما وقد طالعت اليوم رسالة الأستاذ مصري وحديثه ـ مرة أخرى ـ عن التوحيد، فقد رأيت مشاركة الأحباء والقراء جميعا بما كنت قد حذفته ابتداء، ثم علاوة على ذلك أضيف خلفية تاريخية محتصرة لفهم المقصود تماما وراء ما أقول.
*** *** ***
... فقط أتوقف هنا لأسألك يا صديقتي أيهما حقا أفضل وأجمل وأكثر نفعا للناس وأطيب ثمرا: أن نكمل معا هذه الرحلة الجميلة... ... أم أن نتوجه للجدل مع مخابيل يدعوننا إلى فقه الحيض والنفاس وبول البعير ورضاع الكبير، ناهيك عن "نكاح الوداع" مع الزوجة بعد وفاتها وجواز "أكل لحوم الجن" وغيرها وغيرها؟!
وهذه كلها هي فقط "التحابيش" بالطبع، المُقبّلات الأولى فقط قبل "الطبق الرئيسي"، والتي قد يختلف بالتالي أصحابها أنفسهم فيما بينهم بشأنها، نظرا لهذا القدر المروّع كما نرى من الشذوذ والانحطاط الذي تعكسه هذه الآراء والفتاوى والعقول المريضة.
ولكن حتى إذا تناولنا "الطبق الرئيسي" نفسه وسألناهم مثلا ـ ما داموا ينكرون الأقانيم الإلهية ـ عن "الذات والصفات" والعلاقة بينهما، أي ذات الله وصفاته، وجدناهم لا يملكون أيّ جواب ولا يفقهون بالكلية شيئا عن هذا الإله الذي يدعون الناس إليه! أنهم يتشدقون فقط مع بقية الصبية في حارتهم بعبارات جوفاء كـ"التوحيد المطلق"، "التوحيد البسيط المباشر"، "الإيمان الواضح السهل"، حتى إذا سألناهم عن هذه الإله الواحد البسيط المباشر، وجدناهم لا يعرفون أيّ شيء مطلقا عنه، ومن ثم بالضرورة ليست لهم أية علاقة حقيقية معه! (وإن كانوا بالطبع يعرفون مثلا أن له حقا "مقعدة"، وأنه كما قال عن نفسه استوى بها حقا على العرش، كما يؤكد ابن تيمية)!!
*** *** ***
الخلفية التاريخية هنا، لمن يريد الاستزادة وفهم المسكوت عنه، هي أن قديسنا الكبير يوحنا الدمشقي سأل المسلمين ذات يوم: هل كلمة الله عيسى ـ كما يشهد قرآنكم ـ أزلية أم مخلوقة؟ بهذا السؤال البسيط بدأت مشكلة "اللاهوت الإسلامي" كله، إذا كان بالإسلام حقا أي علم للاهوت، ثم تفرّعت واستفحلت ولم تجد لها جوابا حتى اليوم!
إذا كانت "الكلمة"، أو "الكلام" الإلهي عموما، "صفة" من صفات الله حسب فهم المسلمين، فهل هذه الصفة الإلهية قديمة (أزلية) أم حادثة (مخلوقة)؟ بالطبع ليست حادثة، لأن الله لا يقبل الحادثات والأعراض، ولأن هذا معناه أن الله كان في وقت ولم تكن له هذه الصفة، كان ولم يكن حكيما مثلا، أو عليما أو سميعا أو بصيرا إلى آخر صفاته المتعددة. الجواب الواضح بالتالي هو أن الصفات الإلهية عموما قديمة أزلية.
من هنا ـ (ونظرا لعدم فهم المسلمين أبدا للأقانيم الإلهية ومعناها، وهي حقيقة "وجودية" قبل أن تكون عقيدة مسيحية) ـ انقسم الفكر الإسلامي بالتالي إلى فريقين رئيسين: المعتزلة الذين يرون إن ذات الله وصفاته وجود واحد دون تمييز ـ "الذات عين الصفات" حسب تعبيرهم ـ والأشاعرة الذين يؤكدون على التمييز بين ذات الله وصفاته ومن ثم كان مبدأهم بالعكس: "الذات غير الصفات".
ولكن... إذا كانت "الذات عين الصفات"، فكيف يمكن التمييز بينهما؟! كيف تكون ذات الله هي هي صفاته دون تمييز؟ كما قال أحد الأشاعرة ساخرا: «وهل يجوز أن أدعو الله قائلا: يا غضب الله ارحمني، أو يا عدل الله ارزقني؟» إنها الفوضى الكاملة! إن القرآن نفسه يفقد معانيه تماما ويصير كل ما وصف الله به نفسه دون أي معنى!
رد المعتزلة: ولكن إذا كانت "الذات غير الصفات" كما تتوهّمون، وكان كلاهما قديما، نشأ عن ذلك ببساطة "تعدد القدماء"، أي أصبح بالوجود أكثر من أزليّ واحد وهذا محال! الله مثلا هو "ذو القوة المتين": إذا كان الله أزليا، وقوته أزلية، والله غير قوته، أصبح لدينا هنا أزليّان اثنان لا واحد! هذا ببساطة محال، بل هذا هو الشرك بعينه!
(كان المعتزلة لذلك يسمّون أنفسهم "أهل التوحيد"، وكانوا أقرب للفكر المسيحي عموما، وكان قربهم هذا من "النصارى" هو "التهمة" التي وجّهها لهم بالفعل خصومهم أحيانا. علي أي حال ـ لعلنا بدأنا نلاحظ ـ كان الجميع يبحثون بالفعل عن "الثالوث" القدوس ويطلبونه، ولو دون وعي بذلك: كانوا يطلبون الوحدة، كما يؤكدها المعتزلة، ولكن ـ وبالوقت نفسه ـ يطلبون التمايز أيضا، كما يقول الأشاعرة. ربما لهذا السبب قال المحقق العلّامة الكبير د. عثمان يحيي عبارته الشهيرة: «إن الثالوث في المسيحية هو قمة التوحيد»)!
استمر الخلاف بالتالي واستعرت المناظرة، لأكثر من مائتي عام، حتى جاء أخيرا أمر السلطان وسيفه، كالعادة، ليتوقف النقاش كله فورا وينتهي الجدل تماما، وكان هذا بالتالي ـ مع رحيل المعتزلة تحديدا ـ هو حقا "الفصل الأخير" في رحلة العقل الإسلامي عموما.
(اختفى الفقيد منذ تلك اللحظة ولم يره أحد بعد ذلك أبدا. حتى الأشاعرة ـ وآخرهم كان الأزهر ومدرسته ـ تراجعوا فيما بعد أيضا أمام سطوة المدرسة الوهابية وما يسمى بالفكر السلفي، وهكذا حتى وصلنا اليوم أخيرا كما نرى إلى فقه الحيض والنفاس وبول البعير ورضاع الكبير و"نكاح الوداع" و"لحوم الجان" و"الحبة السوداء" التي تشفي من كل داء وملك الموت "الأعور" الذي ضربه موسى حتى فقأ عينه، إلخ، إلخ).
فللفقيد الرحمة، ولأهله العزاء، ولا أراكم الله مكروها في عزيز لديكم.