سلام ونعمة: أشكرك على الثقة الغالية و"تعبك راحة" أستاذنا الحبيب.
يبدو أن موضوعك الثاني قد انتهي بالفعل، ولو مؤقتا. أعود بالتالي إليك كما وعدت. ولكن سأكتب اليوم كثيرا فدعنا ندخل إلى الموضوع مباشرة:
هل تقصد ان الانسان عبر بلغته وأسلوبه عن الله في الشريعة بما ليس من الله ولكن بسبب ظروف وطبيعة الشعب في ذلك الفترة
وان تغير الفترات تتغير معها الشريعة لأنها نظرتنا نحن عن الله
في العبارة الأولى خطأ وفي العبارة الثانية لَبس. الخطأ هنا أولا هو قولك «بما ليس من الله». لماذا؟ لأن "
كله" من الله، ولكن "
كله" أيضا «بسبب ظروف وطبيعة الشعب في تلك الفترة». كيف؟ لأنه ببساطة
لا يوجد بديل آخر! كلام الله
لا يمكن إلا أن يتشكل حسب «ظروف وطبيعة الشعب في تلك الفترة»! هل يمكن أن يخاطب الله شعبا "
بغض النظر" عن ظروفه وطبيعته؟ الخطاب الإلهي لابد أن يأتي وفق لغة المخاطَب وحسب عقله وتكوينه وثقافته وبيئته ومجتمعه وبالجملة درجة
وعيه الإنساني عموما في تلك
اللحظة تحديدا في ذلك
الموضع تحديدا. هذا وإلا استحال حتى فهم الخطاب الإلهي ناهيك عن تطبيقه!
هذا في الحقيقة هو أساس الفكرة كلها هنا، وهذا الخطأ بالتالي يكشف أنك لم "تملكها" أو تصل لفهمها الكامل بعد. قررت من ثم أن أشرح الأمر كله مرة أخرى، على أن ننطلق معا هذه المرة من
البداية تماما،
بالتدريج تماما، وبلغة
بسيطة تماما. أعتقد أنه هكذا فقط يمكن "استيعاب" هذه الرؤية كلها أخيرا بمشيئة الرب. ولكن سامحنى لأن الرسالة ستكون بالضرورة طويلة إلى حد ما.
* * *
بدايةً:
اللا محدود لا يمكن أبدا للعقل استيعابه. لابد من وضع
حدود له أولا. إذا وضعنا له حدودا: أصبح
محدودا. إذا أصبح محدودا: أصبح
محددا. إذا أصبح محددا: أمكن للحواس
استقباله وأمكن للعقل أخيرا أن يدركه. معايا؟
ماذا حدث عند
التجسد؟ الكلمة اللا محدود أصبح
كأنه محدود بالجسد. «الله ظهر في الجسد». الجسد هو "الحدود" التي "
تحدد" بها اللا محدود. ولأنه "تحدد" هكذا بالجسد: أمكن للناس أن يروه بعيونهم وأن يسمعوه بآذانهم وأن يلمسوه بأيديهم. معايا؟
الآن: هذا الجسد الذي "تحدد" به الكلمة: هل هو جسد
بشري أم إلهي؟ الإجابة هي أنه جسد بشري! وهنا طبعا سوف تعترض:
«لااااا، الجسد تألّه بحضور الكلمة، فهو جسد إلهي»! أو كما يقول أخوتنا الروم بعبارة بسيطة جميلة:
«الشخص (الأقنوم) الذي ينطق في هذا الجسد ليس شخصا بشريا وإنما شخص الكلمة ذاته، من ثم فالجسد إلهي»!
رائع جدا. نتفق إذاً على أن الجسد إلهي (أو متأله) لأنه جسد الكلمة. ولكن السؤال هنا هو: لماذا ظهر هذا الجسد الإلهي وله أربعة أطراف مثلا؟ لماذا لم تكن له أجنحة؟ لماذا كان طوله هذا الطول، أو وزنه هذا الوزن؟ لماذا ـ بشكل عام ـ أخذ جسد الكلمة الإلهي هذه
المواصفات والخصائص بالذات و"
تحدد" بها دون غيرها؟
الإجابة ببساطة هي أن هذه مواصفات الجسد "
البشري" وخصائصه. هذه حدود البشرية
وشروطها. وعليه فالكلمة ـ اللا محدود ابتداء ـ تحدد في تجسده بـ"
حدود البشر"! لسه معايا؟
جسد الكلمة إذاً إلهي وبشري في آن معا! إلهي لأنه جسد الكلمة، في الوقت ذاته بشري لأن مواصفات جسده هذا كلها
مواصفات بشرية.
وهنا نضيف ـ علاوة على ذلك ـ أن هذه المواصفات
بالضرورة بشرية،
لابد أن تكون بشرية! لماذا؟ لأنه لا توجد هنا ـ بل يستحيل أن توجد ـ مواصفات إلهية! لو أن لله منذ البدء جسد لكانت مواصفات جسده هذا الإلهي هي المواصفات الإلهية. ولكن ليس لله أصلا جسد، ليس له أية حدود أو تحديد، سبحانه فوق كل حد. وعليه: أي تحديد وأية مواصفات لهذا التحديد هي
دائما وبالضرورة بشرية!
الآن ننتقل بهذا الفهم إلى الكتاب المقدس.
* * *
لنأخذ على سبيل المثال أمرا إلهيا من أشد الأوامر التي يظهر فيها العنف بوضوح:
«الآن اذهب واضرب عماليق... إلخ». السؤال هو: كيف انتقل "فكر الله" من...
من سمو الألوهة: «كما علت السماوات عن الأرض هكذا علت أفكاري عن أفكاركم»..
إلى صيغة الأمر: «الآن اذهب واضرب عماليق...»؟
ببساطة ـ وكما أوضحنا ـ "
تحدد" هذا الفكر الإلهي الفائق السمو المطلق القداسة في هيئة أوامر لغوية "
بشرية"! الوحي إلهي إذاً، مصدره إلهي، لا خلاف. رغم ذلك فقد
تحدد الوحي هكذا على هذا النحو بالذات (قاسيا كان أو رحيما)، بهذه المواصفات والخصائص دون غيرها (قاسية كانت أو رحيمة)، لأن هذه
مواصفات "البشر" وخصائصهم ـ
ليس الله! لقد "حددت" مواصفات العقل/القلب البشري منطوق الكلام الإلهي نفسه، بالضبط كما حددت مواصفات الجنس البشري جسد الكلمة نفسه!
هذه تحديدا هي "
المفارقة" وهي بالتالي مصدر الصعوبة كلها. ولكن تأمل بهدوء:
لو أن جسد المسيح كان طوله مثلا 6 أقدام:
هل يعنى هذا أن اللاهوت نفسه طوله 6 أقدام؟
بالمثل: لو أن «اذهب واضرب عماليق» أمر دموي قاسٍ:
هل يعني هذا أن الله نفسه إله دموي قاسٍ؟
نقول بالتالي:
حتى لو كان الأمر الإلهي قاسيا، مع ذلك ليس الله هو مصدر هذه القسوة! مصدر القسوة هو بالأحرى عملية "
التحديد البشري" التي خضع الوحي
بالضرورة لها ـ التحديد اللغوي والعقلي والنفسي، الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي.. إلخ!
ولماذا خضع الوحي
بالضرورة لهذه العملية؟
لكي يتجسد أصلا! لكي "يتحدد" هكذا في هيئة
وحي أساسا! لكي ينتقل من مجد ومن علياء "الفكر الإلهي" اللا محدود ليصير كتابا وناموسا ووصايا محددة يستطيع العقل من ثم إدراكها!
وهنا مرة أخرى نؤكد ـ كقاعدة عامة ـ أن
أي "حدود" وأي "تحديد" هو دائما وبالضرورة بشري، لا إلهي، لأن الله ذاته ببساطة لا يعرف حدا، سبحانه مطلق لا متناهٍ فوق كل الحدود!
(لذلك ـ لاهوتيا ـ الله ليس له
اسم! حتى مجرد الاسم "تحديد" وهو سبحانه فوق كل تحديد وفوق كل حد)!
* * *
إن "
فكر الله" ـ المتعالي علوّ السماوات عن الأرض ـ كان وما يزال دونه حتى مجرد الفهم، كما أن الكلمة له المجد كان وما يزال دونه الحواس والعقل.
ولكن حين تجسد هذا أو ذاك، تنازلاً منه سبحانه ومحبة للبشر، كان حتميا أن يأخذ "الشرط البشري" الذي ظهر فيه ولأجله!
لذلك جاز ـ من حيث المبدأ ـ تفسير الكتاب كله
رمزيا، كما رأينا هنا مؤخرا في "قصة آدم وحواء"! إن إنكار أوغسطين مثلا لـ"أيام الخلق الستة" لم يصدر عن مجرد جسارة أو جرأة إزاء نص كتابي واضح، وإنما صدر أولا عن إدراك عميق أن "
المعاني الإلهية" تعلو فوق "
حرفية" أي نص حتى لو كان النص المقدس! المعانى الإلهية لا تتقيد بأي "
كـلام" حتى لو كان كلام الله، ذلك لأن كلام الله هذا "تحدد" أصلا هكذا ـ في هيئة "كلام" ـ بحدود البشر، ولأجلهم، ليس لأن المعانى الإلهية نفسها حقا محدودة!
الخلاصـة: الوحي مرآة الإنسان، تنعكس فيه صورة الإنسان، تنكشف فيه حدود البشرية لا حدود الألوهية! إن العنف بالعهد القديم، وإن بدا مصدره إلهيا، هو في الحقيقة عنف الإنسان نفسه، كما أن القسوة هي قسوة عقله وقلبه في تلك اللحظة التي ظهر فيها الوحي ـ حسب عقله وقلبه ـ لمخاطبته!
إن وحي الله منزّه تماما وكليا عن أي عنف أو قسوة أو دموية فرضها "التحديد البشري" عليه ـ حتى رغم أن هذا بالفعل نص كلام الله نفسه ــ تماما كما أن الكلمة «بهاء مجده ورسم جوهره» منزّه تماما عن أي "طول" أو "وزن" أو "شكل" فرضه التجسد البشري عليه ـ حتى رغم أن هذا بالفعل وصف جسد الكلمة نفسه!
* * *
بالتالي ـ وبناء على كل ما سبق ـ بدلا من:
الإنسان عبّر بلغته وأسلوبه عن الله في الشريعة ـ بما ليس من الله ـ ولكن بسبب ظروف وطبيعة الشعب في تلك الفترة.
الصواب هو:
الإنسان عبّر بلغته وأسلوبه عن الله في الشريعة ـ بما هو من الله ـ ولكن حسب ظروف وطبيعة الشعب في تلك الفترة.
الآن ننتقل إلى العبارة الثانية في رسالة جديدة، ثم نختم أخيرا بـ"صورة" قد تساعد "العقل" قليلا على استيعاب الفكرة كلها بشكل عام.
....................