الأمر أيها الأحباء بسيط لا يحتمل النقاش، لولا أن الأخ أيمونديد نصح من البداية ألا نجيب فلسفيا، وهو بالطبع على حق ما دام الأمر يتعلق بالله، ولكننا في النهاية في "سؤال وجواب" ولا يحتمل الأمر هنا أن نتحاور ونتجادل أصلا، وعليه لا مانع من الإجابة من نفس الأرض التي جاء منها السؤال. فإن أراد السائل الكريم بعد ذلك النقاش فليتوجه إذن مع فرسان النقاش، مثل مولكا وباول، أو مع أهل الفلسفة، مثل فادي، إلى قسم الشبهات أو قسم المناظرة الثنائية. هذا بالطبع مجرد رأي واقتراح.
هناك أولا خلط كبير في لغتك ومن ثم ـ عفوا ـ في تفكيرك. لا عجب أنك تعيش مع هذا السؤال منذ عام 2007! أول الخلط يكمن تحديدا في اعتبار الثالوث شرطا، أو أن الله بالضرورة هو الثالوث. هذا التعبير نفسه خاطئ. نشرح بهدوء:
الجملة الأولى (الله موجود بذاته) تعني ـ كما أشرتَ في رسالتك الأولى ـ ألا علة لله، فالله علة ذاته، ولذلك نقول إن الله فوق العلة، لا يخضع للسببية.
الجملة الثانية (الله لا يمكن أن يوجد إلا كثالوث) هي التي تحتوي على الخلط، لأن تركيبها اللغوي نفسه خاطئ ـ كما أشرتُ ـ يكشف عن تناقض في الفكر ذاته، وقد تكرر ذلك تقريبا في كل رسائلك. الله لا "شرط" له ولا "ضرورة" تقيده ولا شيء خارج إمكانه، لأن ذلك يتعارض من حيث المبدأ مع إطلاق قدرته.
أما إجابتك فهي أن الله ـ كما أعلن بذاته عن ذاته ـ هو هذا الثالوث نفسه. الثالوث ليس صفة أو هيئة أو قالبا لله، لكنه الله ذاته. إذا أردت الفلسفة فأقرب تصور فلسفي لذلك يأتي بالتمييز بين "الوجود" و"الماهية": تعريف الماهية هنا أنها "منشأ الأثر". على سبيل المثال: الماء أثره البلل. "وجود" الماء ليس هو ما يؤثر بالبلل ولكنها "ماهية" الماء. أيضا النار تحرق، لكن "وجود" النار لا يحرق، وإنما "ماهية" النار هي ما يحرق، فهكذا نميز فلسفيا بين الوجود والماهية، باعتبار الماهية منشأ الأثر، والأثر هنا هو الإحراق. لذلك إذا توقفت النار عن الإحراق ـ فرضا، أو وحيا ـ فهذا يعني فقط أن الماهية تبدلت أو تغيرت، لكنه لا يعني أن النار أصبحت "عدما" أو توقفت عن "الوجود".
فبالمثل هنا: لا يتعارض "الوجود الواحد" مع "الماهية الثالوث"، لأن الثالوث هو "منشأ الأثر الإلهي" في الكون، بل إن الكون كله بعض هذا الأثر، ولكن بشرط: أن الثالوث (أو الماهية إذا جاز هذا التقريب الفلسفي) هو فقط حسب إعلان الله لنا عنه، في إطار الإدراك البشري المحدود، ودون تعارض مع لامحدودية الله. من ثم لا تناقض بين الجملتين ولا تعارض، بل أكثر من ذلك يمكن أن نضعهما معا في عبارة واحدة، هي أن "الآب والابن والروح القدس إله واحد واجب الوجود بذاته".
بعد ذلك السؤال: ما هو "أثر" كل أقنوم فهذا سؤال آخر. السؤال: ما هي العلاقة بين الأقانيم فهذا سؤال ثالث، وهكذا. لذلك فالفلسفة هي أشق الفنون، تطلب أكثر درجات الدقة والانضباط الفكري، وإلا فليبحث الهواة عن فن آخر.
* * *
أما حديثك عن "اليقين" و"الراحة" وغير ذلك مما تشعر به في الإسلام، نظرا لبساطته ووضوحه على حد قولك، فهذا كله ـ أخي الحبيب ـ مما ينصرف أيضا على "جنة العبيط" كما يقول التعبير الشهير. إن كنت حقا تصدق ما تقول فاعلم إذن أن هذه الصفات الإلهية "البسيطة" ـ على حد زعمك ـ تنقسم بعد ذلك إلى ما يسمى "صفات الذات" و"صفات الفعل"، ثم يختلف المسلمون أنفسهم كعادتهم في تعريف الحد الفاصل بين النوعين، وهذا فقط على سبيل المثال. القرآن نفسه كانت قضية خلقه ولا زالت محل خلاف حاد، حتى أن ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" يصل إلى قمة العبث وهو ينفي القولين معا: (من قال عن القرآن: هو مخلوق، فهو جهميّ، ومن قال: غير محلوق، فهو مبتدع)! هكذا ظل المسلمون الأوائل مئات السنين يتخبطون ويكفرون بعضهم بعضا لحسم مثل هذه القضايا والمشكلات اللاهوتية، وحتى الآن لم يحسموها، سيان ما يتعلق بالذات والاستواء والجهة والجسمية، أو ما يتعلق بالقرآن كلام الله وهل هو قديم أم مخلوق، بصوت وحروف أم بدونها، أو أخيرا ما يتعلق بالإرادة وبالتسيير والتخيير ونظرية "الكسب" التي اخترعها الأشعري والتي تعتبر ـ بشهادة المسلمين قبل غيرهم ـ أحد أكبر الألغاز في التاريخ! هل تفهم حقا نظرية "الكسب" أخي الفيلسوف الذي يشعر بـ"الراحة" و"اليقين"؟ هلا تفضلت بشرحها هنا لأخيك، لعلنا "نهتدي" على يدك؟
ليس أيا من هذا على أي حال هو المقصود، إنما أردت فقط أن أشير ـ مجرد إشارة سريعة ـ إلى تراث نستطيع أن نكتب فيه كتبا لا مجرد رسالة، نكشف لك فيها كم من الخلط والألغاز والتناقضات تملأ مراحل التكوين الإسلامي الأولى، إلى أن هوى أخيرا سيف الخليفة فقطع كل الألسن وأسكت كل الأصوات، حتى جاء مثلك آخر الزمان يزعم أن الأمر في الإسلام ـ بالمقارنة مع المسيحية ـ "بسيط جدا"، و"واضح جدا"، و"سهل جدا"، وأنك ـ حسب ما فهمت من أسلوبك ـ تكاد يغمى عليك من فرط "الراحة" و"اليقين" اللذين تشعر بهما!
أما غايتي ـ أخي الحبيب ـ فهي فقط أن تهبط قليلا من هذا الكبرياء الذي تفيض به رسائلك صراحة وضمنا، لأنه لا يكشف في الحقيقة إلا عن "كاذب" مدلس لا يبغي سوى التشكيك، أو عن "جاهل" ساذج لا يعرف حتى تاريخه، وأنا أربأ بك عن أن تكون هذا أو ذاك.
* * *
حلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــو كثير قــــــــــــــــــوي جدا ما قصرت فشيت غلي عنجد الله ربنا يباركك