الثالوث واشتياقات الروح القدس - مقالة للأب صفرونيوس

aymonded

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
6 أكتوبر 2009
المشاركات
16,056
مستوى التفاعل
5,370
النقاط
0
صفرونيوس عبد يسوع المسيح الذي علمنا أسرار الله، وأعلن لنا الآب، وأعطانا روحه القدوس .
سلام ونعمة ومحبة لكم أنتم شركاء الميراث الأبدي، والأب سلوانس مُدبِّر الإخوة .
1 – نعم وحقاً يشتاق إلينا روح الله القدوس رغم خطايانا؛ لأنه "يئن" لكي يرفع الخطاة من مزبلة الفساد والخطية، ويُقدسهم مُطهراً إياهم بدم الحمل الحقيقي من لعنة الموت والفساد. ولذلك، كما يقول الرسول الحكيم: إننا لا نعلم ما نُصلي من أجله، ولكن الروح القدس يئن مشتاقاً لأن يُعلن لنا عظمة ومجد السماويات .

2 – أولاً: يجب أن نعلم أن الاشتياق للخطية يحدَّه الروح القدس بإعلانات وتودد للنفس كاشفاً لها مجد الأمور الأبدية. لأن الذي تنجس بالزنا يعلن له الروح سلام وحلاوة الشركة حتى لا يسقط في وهم الخطية بأن الشركة في الجسد هي أعظم وأقوى ما يُمكن أن يحصل عليه الإنسان.
هكذا نشتاق نحن ... إلى الله، لأن الروح القدس يغرس فينا هذا الشوق مُعطياً إيانا سلاماً وراحة وتعزية في أجسادنا وأرواحنا .

3 – ثانياً : إن الاشتياق للثروة والمال وجمع المقتنيات يهدد سلام القلب، ويوزَّع الفكر ويُعطي لنا رؤية غير واضحة؛ لأن الاهتمام بالمديات من أجل اقتناء الماديات، يُلزم الإنسان بالبحث عنها وطلبها فيسقط في التشتت. لذلك يجيء الروح القدس إلى قلب الإنسان، ويُعلن له الميراث البدي، أي ملكوت ربنا يسوع المسيح، وهو يُعلنه في تواضع الرب يسوع [ الذي افتقر وهو الغني لكي نصير أغنياء بفقره ] (2كو8: 9). ويُعلنه بقوة البذل لا بقوة الامتلاك عنوةٌ وقهراً؛ لأن الرب لا يملك بالقهر بل بالمحبة وبالعطاء.
ويزرع الروح القدس الخجل في قلب المؤمن بالمسيح، لأن الروح القدس لم يُعطَ حسب قول الرب [ بمكيال ] (يو3: 34) أي كتوزيع الأنصبة، ولم يعطِ الملكوت بمقابل، ولا حتى بالأعمال الصالحة.
هكذا يشتاق الروح القدس – بأنين – لأن يُعطي الحرية التامة والتجرد من القنية ويزرع فينا هذا الشوق الذي يدفعنا بحرارة في طريق الحياة النسكية.
نعم أيها الأحباء، لنبدأ نحن بالتجرد دون أن يكون لدينا نية الحصول على مُقابل، بل من أجل أن نتحرر وننال حريتنا في المسيح، ولا نربط مصائرنا بما نملك، بل بما يُعطيه الروح القدس. لذلك أقول لكم – أيها الإخوة – إن الروح القدس هو القوة التي تجعلنا نلتصق بالمصلوب، وتجعل الصليب علامة هذا الالتصاق أو الاتحاد لأننا لا نرفض أو نجحد ذواتنا بقوتنا وحدها، بل بالالتصاق بالمصلوب بقوة واشتياق الروح القدس، نسير مع الرب يومياً حتى نصل إلى عمق التخلي عن الحياة القديمة، فننال الحياة الظافرة بتقديس الروح القدس، وليس بقوة وإرادة التخلي .

4 – نحن لا نتجرد من فراغ إلى فراغ، بل من الموت إلى الحياة، من سلطان الشيطان إلى خدمة الرب، من الحياة المتحجرة في الذات المائتة – بسبب انحصارها في الذات – إلى الحياة الحرة من الذات حيث تنمو بالرب، متجهة نحوه؛ لأننا منه وبه وإليه بقوة الروح القدس؛ لأن الرب يسوع هو الغاية وهو الوسيلة، هو البداية والنهاية.
ولذلك السبب يشتاق الروح القدس إلينا، ويدفعنا بحنان ورقة وتواضع لنترك الحياة القديمة؛ لأن الرب يسوع – كغاية – لا يدفعنا وحده، ولكن بسبب الشركة في الجوهر الواحد غير المنقسم يشترك معه الروح القدس بنفس اشتياق الرب يسوع إلى الحياة التي ترتفع فوق ما هو طبيعي، أي ما هو ماءت إلى ما هو حي بالروح القدس، أي روح يسوع المسيح ابن الآب حسب الجوهر، وابن العذراء بالروح القدس، الذي وُلِدَ ولادة إنسانية مثل ولادتنا، لكن مُعطياً لها البدء الجديد أي بداية الشركة في الطبيعة الإلهية بالميلاد من الروح القدس ومن العذراء والدة الإله، وعاش حياتنا مؤكداً لنا أن الشركة الواحدة لا تنقسم، شركة الثالوث الواحد هي ذات الشركة التي ينالها الناسوت حسب حدود الناسوت، وحسب إرادة الثالوث الذي أشترك الناسوت في حياته عندما تجسد الابن الوحيد لكي يفتح أحضان الآب السماوي لنا.
هكذا – أيها الأحباء – أسس الرب يسوع ينبوع الحياة الجديدة كآدم الجديد، مُعطياً لنا فيه بداية جديدة.
شوق واحد للثالوث: للآب الواهب الكل، من الابن مُعلن الكل، بالروح مُعطي الك . الآب يعطي الروح لنا لكي نقبل الابن، والابن يُعطي ذاته لنا لكي نقبل الآب، لكي نتحرك معاً في داخل الحياة الإلهية التي فُتحت لنا بالتجسد، وأبيدت عوائق الموت والخطية والدينونة بالصليب وبالقيامة، وظهرت الحياة الأبدية بعطية الروح القدس.

5 – بسبب اشتياقات الروح القدس النابعة من الآب والمُعلنة في الابن يسوع مُخلص الكل، الذي قال خذوا كلوا هذا هو جسدي، وهو شوق الحي إلى إحياء الموتى، وشدة المحبة التي تخلع المائتين من حفرة الموت إلى الحياة الأبدية.
هذا قيل في عُلية صهيون ويُقال في كل ليتورجية؛ لأن يسوع الذي مُسح بالروح القدس فصار المسيح الذي ينطق بقوة الروح وبشدة المسحة، ليس لأنه احتاج لها، بل لأنه جاء لكي يؤسس الشركة، فوحَّد كلمته بقوة روح الحياة، ووحد عمله بالحياة الواحدة للثالوث؛ لأن ما عمله هو آتٍ من داخل الحياة الواحدة، مُعلن للمائتين أي البشر الأحياء تحت سلطان الزمان، وحسب حدود الطبيعة الأولى التي لم يرذلها الرب، بل جاء لكي يخلصها ويرفعها من وهدة الموت والفساد إلى حياة عدم الموت. لأننا حسب الطبيعة وبسبب الخطية والدينونة (أصبحنا) خارج حياة الثالوث، والداخل والخارج هنا ليس محسوباً بالمسافات أو الزمن، بل هو حسب اختلاف الطبيعة، وحسب اختلاف الخالق عن المخلوق ، وهو اختلاف استدعى " النعمة " .

6 – أيها الأحباء، النعمة ليست من الطبيعة الإنسانية، ولا هي مثل الطبيعة الإنسانية، بل هي من الطبيعة الغالبة الموت وكل صور الانقسام ، هي من اللاهوت ، من الحياة ، من الخالقلكي يحفظ ما خَلق ويُجدد ما سقط.
ومقياس النعمة هو تألُّه ناسوت الرب يسوع، لأن ما حدث له، حدث لنا؛ لأنه [ أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له ]، والأخذ جاء أولاً والعطاء تلا ذلك.
أيها الإخوة، إن شوق الثالوث لنا هو حركة النعمة ورغبة العطاء. لقد أخذ الذي لنا بشوق ومحبة لا تُحَد لأنها مثل لُجة البحر تُغطي كل شيء، وتدفع الزائل، أي الشر أمامها. محبة تُعطي من كيانها؛ لأن خلق الإنسان من العدم جعل له كياناً قابلاً لقبول عطايا الله، لأنه بدون الله وبدون مصدر الحياة من الثالوث القدوس لا وجود له، أي لا حياة له في ذاته لأننا لا نُميز بين الوجود والحياة كما فعل فلاسفة العصور السابقة على تجسد ابن الله؛ لأنه بالتجسد قد أُعلن في كيانه أنه هو مصدر الحياة، وأن الوجود والحياة هما لفظان يُعلنان عن الإنسان.
لذلك عندما تغمر لُجة محبة البشر كل شيء، فإن محبة الله لا تنفصل، بل تُوحَّد. لا تحوِّل كيان الإنسان المخلوق من العدم إلى كيان الخالق، لأن هذا مستحيل تماماً؛ لأن ما هو خالق لم يأتِ بقدرة ٍ، ولا هو خاضع للتحوُّل من عدم الوجود إلى الوجود، ولذلك لا يُعطي ما هو خالق لمخلوق لكي يصير المخلوق خالقاً، بل لكي يصير المخلوق حياً حسب الحياة الإلهية.
وعندما نقول إن النعمة هي شوق الله، فإن صورة المسيح هي مقياس إعلان النعمة الذي يُحدد غايتها. ولما قال الرسول: [ المحبة لا تسقط أبداً ] (1كو13: 8) فإنه كان يعلن عن عدم ندم الله على إعطاء النعمة (رو11: 29)

7ثالثاً: يغمرنا شوق الروح القدس الذي يشتاق للابن المتجسد والظافر بالصليب والقوي بالقيامة والمُمجد بالروح القدس، الذي – هو بسبب تجسُّده – وُصِفَ بأنه في حضن الآب، فأدخل الإنسانية إلى حضن الآب.
يشتاق الروح القدس الذي تحرَّك على وجه المياه (تك1: 2) وحلَّ على الابن في مياه الأردن، وجاء في شكل أو هيئة سحابة على جبل التجلي، ثم حلَّ في ألسنة نار يوم العنصرة.
هذه الظهورات المُعلنة عن الروح القدس، تضع ظهورات الروح القدس في إطار محبته للخليقة. وفي إعلانات الخلق الجديد، يعطي الروح القدس التقديس لمياه المعمودية، ويُبشر بالسلام بمسحة القوة؛ لأنه لم يمسح الرب ليكون مثل قضاة بني إسرائيل شمشون وجدعون ويفتاح، فهؤلاء نالوا القوة الزمانية المادية. وأعلن الروح القدس أنه يُحرك المادة ويعطي حتى للجسد قوى غير مادية كما في حالة شمشون، ويُعطي الألسنة النارية، نار شوق الروح القدس لكي ننطق بسر المحبة الإلهية بما هو فوق النطق؛ لأنه لا يوجد نُطق يعلن محبة الله، ولذلك أُعطينا موهبة الألسنة. ينطق فينا الروح القدس [ أبا أيها الآب ] (غلا4: 4) لأن الروح ينطق فينا ويدفعنا للنطق بسر المحبة لأننا بالروح القدس نرى أصل كياننا الجديد مولود من الآب، ثابت في الابن صورة التبني الذي أعلن لنا الكيان الجديد، ملتهباً باندفاع الروح القدس نحو الآب؛ لأنه [ ينبثق من الآب ] (يو15: 26) ويسكن فينا حاملاً إيانا نحو الآب، موحداً إيانا بالمسيح يسوع ابن الله الوحيد لكي نعلو فوق كل حدود المعرفة، ونمتلئ من ملء اللاهوت، نامين نحو الوحدة الكاملة عندما نصير واحداً مع الثالوث.

8 – لقد ذاق الرسول هذا الشوق، وأعطاه اسماً [ أحشاء يسوع المسيح ] (فيلبي1: 8) وأضاف [ أحشاء رأفة ] (فيلبي2: 1 – 2)، فأكَّد بذلك سُكنى رأفة الروح القدس فينا، وصار الشوق الطبيعي الذي فينا مفتدى مقدساً بالروح القدس، لكي " نُقَبل بعضنا البعض بقبلة مقدسة "، ولكي ننال بممارسة الرأفة معرفة تامة برأفة الله الآب ومحبته للبشر، لذلك كانت مناديل وعصائب الرسل تشفي المرضى (أعمال19: 12)، فقد نالوا رأفة الله ورحمته .

9رابعاً: نحن نحس بشوق الروح القدس فينا، عندما نشتاق لحضور الصلوات وتناول الأسرار، وافتقاد الإخوة ... وسائر الأمور الأخرى. ونستطيع أن نُميّز شوق الروح عندما نحس بالشفقة، وعندما ننال عطية الدموع، ونبكي لمصائب الناس، ونطلب رحمة ربنا يسوع للكل.

10 خامساً: أمَّا قساوة القلب، وإدانة الآخرين، والفرح بعذاب وآلام الآخرين، والسعي لانتقام والتشفي، والتلذذ بذكر خطايا وسقطات الآخرين، فهذه كلها صفات الشيطان الذي يفرح بالإثم؛ لأنه بحسده أسقط آدم، وبالحسد يُحارب القديسين، وبكل حيل ومكر يصطاد الضعفاء الذين يتركون طريق الله، لذلك تعلمنا الكتب المقدسة وسير المناضلين الأعزاء أن لا نحكم حتى لا نقع في ذات خطية الشيطان الذي أخذ عرش الله عنوةً فسقط، أراد العظمة فوقع في الوضاعة.

11 أخيراً: أرجو أن يكون لنا ذكر في صلواتكم، وأن نحفظ شركة الروح الواحد، وأن نبني بعضنا البعض مكملين شوق الروح القدس بمحبة الله الآب، وصبر وثبات ربنا يسوع المسيح وفرح الروح القدس ....
نعمة ربنا يسوع المسيح معكم
صلوا لأجلي
الحقير في رهبان المسيح، صفرونيوس
_____انتهى_____
رسالة الأب صفرونيوس إلى الأب سلوانس
من كتاب الثالوث القدوس توحيد وشركة وحياة – الطبعة الأولى 2010
من فقرة 1 إلى فقرة 11 – من ص 217 إلى ص 222
 
أعلى