الاسرار : غذاء الانسان المدعو الى القداسة (الافخارستيا)

فادية

ديفيد حبيبي
مشرف سابق
إنضم
19 أكتوبر 2006
المشاركات
9,073
مستوى التفاعل
44
النقاط
0
الإقامة
منقوشة على كفيه



مقدمة
لقد رأينا أن الأسرار هي علامة لقاء الله والإنسان بشكل ينسجم وطبيعة الإنسان. وهي تعبيرٌ عن حقيقة واحدة : الله يحبّ الإنسان ويخلصه في شخص يسوع المسيح الذي بموته وقيامته عبر بإنساننا القديم إلى حرية الأبناء الأحبّاء. ورأينا أن حركة "التقديس" هذه تُدشّن فينا بالمعمودية وتتكرس لتمنحنا مواهب الروح والوحدة في مسحة الميرون (التثبيت). واليوم، وقد اختار المثلث الرحمة البابا يوحنا بولس الثاني عام 2005 سنة الافخارستيّا، اسمحوا لي أن أتامل إليكم العلامة الثالثة من "أسرار الاستنارة المقدسة": الافخارستيا غذاء الإنسان المدعو إلى القداسة واحتفال الكنيسة بالخلاص.
لقد استعمل القديس اغناطيوس الانطاكي (بداية القرن الثاني)، ولأول مرة في تقليد الكنيسة، كلمة "افخارستيا"، للدلالة على "عشاء الرب السرّي". أو ما هو معروف أيضاً "بكسر الخبز". والكلمة يونانية EucaristiaEUCHRISTIA، تعني الشكر. فيقول: "اجتهدوا أن تجتمعوا معاً كثيراً، وباستمرار، لتقديم الافخارستيا وتمجيد الله". ولقد أخذت الافخارستيا المكانة الأولى، في تعبير الكنيسة عن التزامها بالمسيح. فهي "سرّ الأسرار"، ومحورها، ورأس كل منها (ديونيسيوس المتصوف). يقول يوحنا الذهبي الفم فيها: "لنتأمل أعجوبة هذا السرّ والغاية من تأسيسه، والثمار التي ينتجها. إننا به، نصبح والمسيح جسداً واحداً إنه يمتزج بنا، لنصبح معه حقيقة واحدة، كالجسد المتصل بالرأس". فهلمَّ، كما يقول القديس كيرلس الاسكندري، "نبحث بكل طاقاتنا عن معنى هذا السرّ".
نشأة سرّ الافخارستيا
لا شك أن حياة الرب يسوع المسيح كانت بكاملها حركة شكر لله. فهو في عمق كيانه، تحقيق مطلق لمشيئة أبيه. وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه، لذلك تحاول الكنيسة أن تعيش على غرار معلمها، الذي هو رأسها وهي جسده السرّي، شكرها للآب.
1- الافخارستيا حدث:
تستند الكنيسة، في عيشها سرّ الافخارستيا، إلى الحدث المركزي في حياة الرب يسوع، وهو سرّ الفداء، سرّ الفصح الجديد، حيث موته وقيامته. وبذلك يؤسس السيد المسيح سرّ الافخارستيا عشية مسيرته المقدسة إلى الموت والقيامة، ليلة "العشاء السرّي"، ليستمر حضوره السرّي بين تلاميذه والكنيسة، بعد صعوده إلى الآب، بانتظار مجيئه الثاني المجيد (أنظر: لو22/7-20 ومت26/17 ومر14/12 و1كو11/23-25 ويو13/1-00).
2- الافخارستيا ممارسة:
يتعرف تلميذا عماوس على "الرب" و"المعلم"، القائم من بين الأموات عند "كسر الخبز". فتنفتح أعينهما، اللتان غشيتا بظلام الموت ومجد إسرائيل المزيف. ويفهما مجدداً تاريخ الخلاص. وينطلقا حقاً إلى الحياة الجديدة (لو24/13-35).
تبدو هنا الافخارستيا دعوة للالتزام "بالعهد الجديد". ليس كحدث وحسب بل كإيمان والتزام، وانطلاق جديد للحياة. هي أيضاً سرّ التحول والانفتاح، وتذوق رؤيا الرب، والبشارة بملكوته.
لقد اختبرت الجماعة الأولى هذا السرّ. ورافقته بالمواظبة على "تعليم الرسل"، "والصلاة"، و"الحياة المشتركة" (رسل2/42). فحياة الرب يسوع، وحضوره السرّي بعد قيامته، وتكوينه الكنيسة، تنهض حقاً في ممارسة الافخارستيا (رسل4/32-35 و5/12-16).
3- الافخارستيا معنى:
إن مخلصنا، في الليلة التي أسلم فيها، ليلة العشاء الأخير، قد وضع ذبيحة جسده ودمه الافخارستية، كي تستمر ذبيحة الصليب عبر الأجيال، حتى مجيئه. وعلاوة على ذلك، لكي يكل إلى كنيسته، عروسته المحبوبة، ذكرى موته وقيامته: سرّ التقوى، علامة الوحدة، رباط المحبّة، وليمة فصحية فيها يؤكل المسيح، فتمتلئ النفس نعمة وتعطي عربون المجد الآتي. (وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني - دستور في الليتورجية - عدد 47).
الافخارستيا: من الرموز إلى الحقيقة..
لكي نحيا بعمق الافخارستيا، لا بد لنا من فهم معاني بعض التعابير الواردة في "عشاء الرب السرّي" مع تلاميذه. ورغم أن بعضها يحمل معناه بذاته، وبشكل بديهي، لا نستغني عن استلهام الكتاب المقدس، مستفيدين مما يقدمه آباء الكنيسة، واللاهوتيون المعاصرون. وسأكتفي بالأهم:
1- الوليمة.. الطعام والشراب: خبز وخمر:
ملكيصادق ملكٌ وكاهنٌ لله العلي، على غير ترتيب البشر، بلا بداية أيام، أبدي. يقدم خبزاً وخمراً لابرام ويباركه، ليكون ابراهيم أب المؤمنين ورمزهم (تك14/18). أليست هذه صورة في العهد القديم للافخارستيا؟. (عب5/10).
وإبراهيم أيضاً يستقبل بدوره الرب، حين يستضيف "الرجال الثلاثة" عند بلوطة ممرا (تك18/1)، ويُعدُّ هو هذه المرة، وليمةً للرب. ويجلس بالقرب منه هو وسارة زوجته. ألا يتحقق ذلك في الافخارستيا التي هي قربان، قُرب، أي الرب بقربنا ونحن بقربه: "ها أنذا على الباب أقرعه، فان سمع أحد صوتي وفتح الباب، دخلت إليه لأتعشى على قرب منه وهو على قرب مني" (رؤ3/20). (أنظر أيضاً أيقونة الثالوث للقديس روبلوف).
في صحراء الحياة يجوع الإنسان ويعطش. والله لا يترك حبيبه دون طعام وشراب، وشعب العهد القديم اختبر، مثلنا، مسيرة الصحراء. وكان الرب يفتقده دائماً بمحبّته. فينبع له ماءً من صخرة صماء (تك17). ويمطر عليه المن والسلوى غذاء لجوعه (تك16). يقول القديس امبروسيوس: "لقد كان المن معجزة كبيرة، عندما أمطره الله من السماء، على آبائنا الأولين. ولكن بالرغم من ذلك، فكل الذين أكلوا هذا الخبز ماتوا. أما الطعام، الذي تتناولونه الآن، "جسد المسيح"، هو الذي يمدكم بجوهر الحياة الأبدية". (أنظر: يو6 و1كو10/1-5 ويو4/10).
يتطلع العهد القديم دائماً مترقباً رؤية حضور "المشيح". الذي يجمع على "مائدته المقدسة" أحبّاءه (أشعيا55/1-3 و65/12-15 و25/6 ومز23).
إن ملكوت الله في العهد الجديد، هو دعوة إلى وليمة العرس (أنظر: مت22/1-14 و25/1-13 ولو14/12-15).
يقول كيرلس الاورشليمي في ذلك: "ويُعدُّ الرب وليمةً لكل الشعوب، إنها الكنيسة التي يؤسسها بكلمته". وهكذا فالافخارستيا هي وليمة فرح، ودعوة لتتكوّن بها الكنيسة، لتكون مائدة المسيح المنفتحة لكل الشعوب.
لا أحد منا يجهل، ما تحمل مادتي الخبز والخمر، من معان عميقة. فبعد مسيرة من التحول من الارض، إلى القمح، إلى "عرق الجبين" والتعب (تك3/19)، يلبي الخبز حاجة الإنسان إلى الحياة.
والخمر كذلك، تسير مرحلة مشابهة من العناية (يو15)، بين الركود والتحول، لتصبح لذيذة تروي ظمأ الإنسان إلى الفرح.
هذا هو الإنسان: جوعٌ للحياة، وعطشٌ للفرح. ويسوع هو الحياة والفرح، لذلك يمنح بسخاء ذاته في الافخارستيا، بالخبز والخمر، علامة حضوره ومحبّته للإنسان.
2- الذبيحة فصح:
الذبيحة قبل كل شيء: تقدمة، تعبير عن شكر، وليست أبداً حرماناً، بل تعبير مجاني عن سخاء وامتنان. كأن الذبيحة تريد أن تقول للذي تقدم إليه: "كل شيء رخيص في سبيلك، نفديك بالدم". وقمة الذبيحة هي أن يفتدي الإنسان نفسه، في سبيل أحبّائه (يو10/15 و15/13).
لقد عبر العهد القديم عن علاقته بالله، بأنواع عديدة من الذبائح (أحبار1-7)، لتكون ذبيحة الصليب تحقيق لها، والافخارستيا علامة استمرار واحتفال مستمرين عبر الزمان والمكان بعد قيامة يسوع:
- "المحرقة": هي علامة التقدمة الكاملة لله. (تأمل تقدمة إبراهيم لاسحق إبنه، تك22). إن يسوع هو الذبيحة الحقة والتقدمة الكاملة التي تجدّد في كل قداس: "ما لك مما هو لك، نقدمه لك عن كل شيء، ومن أجل كل شيء".
- "الذبائح السلامية": هي علامة المودة والتقرب. فيحرق قسم منها لله، وقسم يقدم للكاهن، والقسم الأخير يُترك لمقدم الذبيحة، لكي يشترك في تناولها فيكون متحداً بها (1كو10-18).
وتأخذ الذبائح السلامية عموماً طابع الاحتفال: الفرح والغبطة والعيد. ولا غرابة أن يكون القداس علامة الصداقة بين الرب والمؤمن، أليست هي تقدمته لنا، لكي نشترك بالتناول منها؟.
- "ذبيحة التكفير": هي علامة تكفير الخطايا. حيث تحمل الذبيحة خطايا مقدمها لتفتديه. وتذبح "خارج المحلة" لإبعاد الاثم خارجاً. فالدم يكفِّر عن النفس (أحبار17/11). وهكذا يذبح يسوع خارج أورشليم، ويقّرب ذاته كفارة عن خطايانا (عب7/27 و9/15 و10/1)، لانه حمل الله الذي يرفع خطايا العالم.
- "ذبيحة العهد": هي التي قدمها موسى علامة العهد القديم بين الله وبينهم. بأن يكون لهم إلهاً، ويكونون له شعباً أميناً. فيأخذ موسى دم الذبيحة، ويرش قسماً منه على المذبح، الذي يرمز إلى حضور الله، والقسم الآخر يرشه على الشعب ويقول: "كل ما تكلم به الرب نفعله.. هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الاقوال". وهكذا يلتقي الشعب بالله، ويأكل ويشرب معه، في شركة واحدة (خر24/3-11). أما في العهد الجديد، النهائي والأبدي، تكون ذبيحة يسوع على الصليب، علامة العهد. التي يحتفل بتقديمها، حين يقدم جسده لنأكله ويهرق دمه، "دم العهد الجديد"، لنشربه، ليلة العشاء السرّي، لتكون الافخارستيا تواصلاً واستمرار لهذه العلامة (عب9/15).
- "ذبيحة الفصح": إنها الذبيحة الكبرى في العهد القديم. فهي تحمل معاني الذبائح كلها وتفيض. فهي الاحتفال والذكرى، لعمل الله ليس في تحريره لشعبه من عبودية فرعون إلى حرية الأرض المقدسة وحسب، بل لكل أعمال الله، الذي يعبر بالإنسان إلى محبّته وسخاءه، منذ خلق العالم، حتى نهاية التاريخ. لذلك صار هذا العيد "العيد الكبير" (خر12). ولا عجب أن يلقى استقبالاً خصباً لذبيحة الرب يسوع المسيح ورمزاً لسرّ فصحه الجديد (1كو5/7).
فالذبيحة على الصليب هي ملء التقدمة. وقوة الشركة، بين الله والإنسان. إذ يبلغ الله بالإنسان في شخص يسوع المسيح، كمال الالتزام المطلق، بتقدمة ذاته على الصليب (فيل2/6-11). ليحقق الفصح الجديد. وهو عبور الله بالإنسان من عبودياته المتعددة إلى حرية أبناء الله الأحبّاء. ويُجري القديس كيرلس الاورشليمي مقارنة موفقة، بين الفصح القديم، والفصح الجديد فيقول: "لقد أرسل الله موسى لكي يخلص الشعب من عبودية المصريين، فأمرهم أن يمسحوا أعتاب أبوابهم العليا وقوائمها، بدم الخروف، حتى يعبر المهلك، متجاوزاً هذه البيوت، التي عليها علامة الدم. والآن نترك القديم ونأتي إلى الجديد، من المثال إلى الحقيقة. فإذا كان الله قد أرسل موسى إلى مصر هناك، نجده هنا يأتي بشخص المسيح إلى العالم. هناك كانت رسالة موسى أن يخلص الشعب من اضطهاد مصر، وهنا يخلص يسوع البشر الذين طغاهم العالم واستعبدهم بالخطيئة. هناك كانت العلامة دم الخروف، وأما هنا فدم الحمل الحقيقي يسوع المسيح".
3- البركة: طقس...
يروي الانجيليون في بشارتهم عن العشاء السرّي، أن الرب حين أخذ الخبز والخمر "بارك" أو "شكر"، قبل أن يعطي تلاميذه قائلاً: "خذوا كلوا.. خذوا اشربوا.." وللبركة والشكر آنذاك، ليس عمق المعنى وحسب، بل طقس وممارسة أيضاً. ففي احتفال الفصح مثلاً، بعد أن يستفيض المتقدم بشرح المعاني والرموز، وبعد ترنيم مزامير التهليل (112-117)، يتقدم "بصلاة شكر طويلة"، يعبر من خلالها عن التزام الله، بمرافقة الإنسان في تاريخه، والأمانة له. وتتضمن صلاته هذه بركات على الخبز والخمر، والمأكولات الآخرى. ولقد عرفت طقوس العهد القديم "صلاة البركة" (بيراكوث) في مناسبات عديدة. وهي عبارة عن رتب عديدة ومتنوعة، وطويلة أحياناً، تمارس في اجتماعات المؤمنين، و"ولائم المحبّة"، وتتضمن مباركة الله، لأمانته لعهده، وشكره وتسبيحه وتمجيده. ويتبع أحيانا "صلاة البركة"، نوع آخر من الصلاة وهو: "صلاة التضرع" (تِفِلّله)، وهي أيضاً تسبيح وتمجيد، بالإضافة إلى التوبة والتوسل، لطلب رحمة الله وغفرانه. ومن الملاحظ أيضاً، أنه لا يمكن أن تُقدم أية ذبيحة، ما لم تكن مشفوعة بصلوات البركة هذه. وللبركات أيضاً أهمية أسخاتولوجية فهي تعبيرٌ لترقب "المشيح" المنتظر، وكأنها تود أن تشير إلى الافخارستيا حيث المسيح حي فيها حتى منتهى الأزمنة.
افخارستيا اليوم متأصلة منذ القرون الأولى
نميّز في احتفالنا الافخارستي اليوم، بمختلف الطقوس، إيقاعاً موحداً تنسجم فيه علامات "الأزمنة المقدسة"، وتتنوع. ولقد عرفت الكنيسة هذه منذ القرون الأولى، وميّزت عدة مراحل للخدمة المقدسة كالتهيئة، وخدمة الكلمة، والتقدمة، وتقديس القرابين، والمناولة، والانطلاق بسلام الرب.
تتناوب المشاركة في الاحفال الافخارستي منذ الكنيسة الأولى بين الكاهن أو الأسقف، وخدام الهيكل، والمرنمين والشعب. وتتنوع بالحركات والقراءات والصلوات. يقول القديس اكليمنضس الروماني في ذلك: "على كل واحد منكم، أيها الأخوة، كل بحسب ترتيبه، أن يشترك في الافخارستيا، بتقديم صلوات الشكر بضمير صالح. كلٌ بحسب قانون خدمته".
1- التهيئة:
للاحتفال في الافخارستيا لا بدَّ من تهيئةٍ روحية وجسدية وأخلاقية، كالصلاة والصوم والتوبة والأعمال الصالحة. فليوم الرب استعداد واهتمام. إنه زمن جديد، منحدر من زمن الملكوت. نقرأ في "الذيذاخيه" Didaché (القرن الثاني) : "أما يوم الرب kiriaki (الاحد) فهو خاصة للرب. فاجتمعوا فيه لتكسروا الخبز، وتصلوا الافخارستيا، بعدما تعترفون بخطاياكم، لتكون ذبيحتكم طاهرة. ويذكر" تعليم الرسل"، الكتاب السابق، وليمة المحبّة (الأغابي AGAPH)، وهي عبارة عن عشاء ودّ، عُرف في الكنيسة الرسوليّة الأولى، يقام قبل الافخارستيا (أو بعدها)، لتوطيد أواصر الصداقة والمحبّة بين المؤمنين.
يخبر بيلينوس الصغير والي بيثينية، تراجيانوس الامبراطور، عن المسيحيين فيقول: "لقد أعلنوا لي أنهم قد اعتادوا أن يجتمعوا في يوم محدد، في الفجر قبل بزوغ النور. ومن بين عباداتهم ما يرتلونه فيما بينهم بالدور، تسبحة للمسيح كإله. وكذلك فأنهم يرتبطون به، بعهد سرّي، ليمتنعوا عن الخطايا. ثم في إجتماع آخر، يلتئمون مرة آخرى من أجل وليمة عامة ليس فيها أي ضرر".
2- خدمة الكلمة:
لخدمة الكلمة أهمية كبرى فهي "قداس الموعوظين"، "وغذاء الكلمة للمؤمنين. إنها لقاء الله من خلال كلامه في الكتاب المقدس.
لا يمكن أن تقوم الافخارستيا دون الكلمة. يقول القديس يوستينوس (القرن الثاني)، وهو أول من اصطلح تعبير "خدمة الكلمة"، للدلالة على القسم الأول من القداس الإلهي: "تُقرأ مؤلفات الرسل (أي كتب العهد الجديد)، وكتابات الأنبياء بقدر ما يتسع الوقت" - وقد يطول، فبولس الرسول، في لقاء "كسر الخبز"، قد بدأ القراءة والتعليم من العشية حتى منتصف الليل (أنظر: رسل 20/7-12) - "وعندما ينتهي القارئ، يقوم الرئيس بالوعظ، داعيا إلى تأوين actualisation هذه الأمثلة، التي أعلنت الحق. وبعد ذلك نقوم جميعنا واقفين ونقدّم الصلوات.. ثم نصلّي بلجاجة معاً، من أجل نفوسنا، ومن أجل كل الآخرين، في كل مكان. لكي نستحق معرفة الحق، لكي بعمل الصلاح وحفظ الوصايا، نحصل على خلاصنا الأبدي".
لقد أعطت الكنيسة، كما رأينا، خدمة الكلمة، في القراءة والوعظ، مكانة الجزء الأول من القداس، لتؤكد على ارتباط العمل الأسراري، بالكلمة والمعنى.
3- خدمة القرابين:
نتابع مع القديس يوستينوس أيضاً: "وبعد هذه الصلوات نعطي بعضنا البعض قبلة السلام"، علامة الوحدة، حيث أن "الافخارستيا سرّ الوحدة"، حسب تعبير القديس اغناطيوس الأنطاكي. "ثم يُقدَّم الخبز وكأس الخمر الممزوج بالماء إلى رئيس جماعة الأخوة. فيأخذ ويقدم التسبيح والمجد لأب الخليقة باسم الابن والروح القدس". ثم يقدِّم "صلاة شكر طويلة، من أجل البركات، التي تفضّل الله ومنحها لنا. وعندما ننتهي من صلاة الشكر، يوافق الشعب الحاضر بقوله: آمين، وهي كلمة عبرية تعني: هكذا يكون". ثم يتم تقديس القرابين بكلام الرب الجوهري. ويؤكد يوستينوس هنا على تحوّل الخبز والخمر إلى جسد ودم الرب فيقول: "هكذا تسلمنا، وهكذا علمونا، أن هذا الطعام، الخبز والخمر، بواسطة شكل من الصلاة، انحدرت علينا من الرب نفسه، يصير جسد ودم يسوع حقاً". كما يؤكد القديس ايرناوس أسقف ليون (من آباء القرن الثاني أيضاً) على المعنى ذاته، ويُضيف مبيناً دور الروح القدس في الفعل الافخارستي، يقول: "وعندما نستكمل الافخارستيا نستدعي الروح القدس حتى يظهر الخبر جسداً للمسيح، والكأس دماً للمسيح، حتى يحصل المتناولون منها على مغفرة الخطايا والحياة الأبدية".
4- المناولة والانطلاق بسلام:
يتحد الرب بنا في المناولة فتنمو فينا صورة الله التي وجدنا عليها لنكون حضوره في العالم والكون. ويقول القديس ايرناوس اسقف ليون (من آباء القرن الثاني) في ذلك: "كيف يقولون أن جسم الإنسان، بعدما يتغذى بجسد الرب ودمه، يؤول إلى الفساد.. وإما فكرنا فهو مطابق للإفخارستيا، والافخارستيا بالتالي تؤسس فكرنا. لأننا نقول أننا نقدم لله ما هو له.."
إن الافخارستيا هي التعبير الأمثل عن إعلان سرّ المسيح، وبالتالي هي النموذج الكامل للأسرار المقدسة كلها، ولسائر أفعال الإيمان. إنها إطلالة الملكوت الآتي في الزمن، ولقاء "الآن" مع الملكوت. إنها "ذكرى" العشاء السرّي، الفصح الحقيقي، علامة العهد الجديد، ذاك الحدث الفريد، الذي قدّم لـ"تاريخ الخلاص" معناه المقدس، بتقدمة الذات المطلقة لله الأب، لما بذل يسوع ابن البشر ذاته على الصليب. بالافخارستيا تصبح هذه الذبيحة تقدمتنا. حيث نلتقي الرب يسوع، بذاته، بأبديته، في حقيقة جسده ودمه، فنصير إليه، ويصير فينا جسده السرّي. فنعبر من محدودية المادة والتاريخ، إلى مطلقية الروح والبقاء. ومن عبودية الخطيئة والضعف، إلى حرية الأبناء الأحبّاء.
خاتمة
يشبّه أحد اللاهوتيين الروس المؤمنين العلمانيين، الذين اتشحوا المسيح بالمعمودية، وتكرّسوا لخدمته بالميرون، بجسد ودم المسيح المقدسين، اللذين يتناولوهما. فكما يمسك الكاهن الكأس المقدسة بيديه ويناول منها المؤمنين، يناول السيد المسيح، الذي يمسك الكنيسة وكأنها الكأس المقدسة بيد الكاهن، يناول العالم والكون بأسره من المؤمنين الذين تناولوا جسده ودمه وكأنهم أصبحوا بذلك جسده ودمه لمن هم خارج الكنيسة. المسيحيون بعد خروجهم من الافخارستيا يصبحون افخارستيا لغير المسيحيين، فبقدر ما يتذوقون عذوبة السيد في الافخارستيا، حيث "الكلمة" و"القربان"، ينطلقوا لكي يكونوا طعماً لذيذاً من خلال شهادة حياتهم لغيرهم ممن لم يتذوّقوا هذه العذوبة بشكلها "الأسراري" المباشر.
 

googa2007

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
22 مايو 2007
المشاركات
357
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الإقامة
فى قلب يسوع
رد على: الاسرار : غذاء الانسان المدعو الى القداسة (الافخارستيا)

لا يمكن أن تقوم الافخارستيا دون الكلمة. يقول القديس يوستينوس (القرن الثاني)، وهو أول من اصطلح تعبير "خدمة الكلمة"، للدلالة على القسم الأول من القداس الإلهي: " تُقرأ مؤلفات الرسل (أي كتب العهد الجديد)،
دراسة جميلة وعميقة وقد يجهلها بعض المؤمنين
ولكن لى اعتراض على عبارة تُقرأ مؤلفات الرسل (أي كتب العهد الجديد)
لان كتابات الرسل لم تكن مؤلفاتهم بل هى موحى بها
وكتبت بواسطتهم
شكرا لكى يا أخت فادية
الرب يبارك خدمتك وحياتك
 

فادية

ديفيد حبيبي
مشرف سابق
إنضم
19 أكتوبر 2006
المشاركات
9,073
مستوى التفاعل
44
النقاط
0
الإقامة
منقوشة على كفيه
رد على: الاسرار : غذاء الانسان المدعو الى القداسة (الافخارستيا)

شكرا عزيزي جوجا على الرد الجميل
وانا مش اكتر من ناقله للموضوع
ربنا يبارك حياتك
 
أعلى