الفصل السابع
رؤيا دانيال الأولى ممالك العالم وملكوت الله
(ص7)
"فى السنة الأولى لبيلشاصر ملك بابل رأى دانيال حلماً وُرؤى رأسه على فراشه. حينئذ كتب الحلم وأخبر برأس الكلام".(ع1).
يقع هذا الإصحاح فى سفر دانيال، زمنياً قبل الإصحاحين السابقين، الخامس والسادس، ولكنه وضع هنا فى الإصحاح السابع لأنه، كما يقول القديس جيروم، يبدأ سلسلة رؤى دانيال النبى نفسه، بينما تروى الإصحاحات السابقة سلسلة من الأحداث والمعجزات التى حدثت فى أيام نبوخذ نصر وبيلشاصر وداريوس المادى.
1- وقد أجمعت الغالبية العظمى من المفسرين فى كل العصور منذ أيام تلاميذ الرسل وخلفائهم، منذ زمن القديس أريناؤس والقديس هيبوليتوس والعلامة ترتليان والقديس جيروم وثيؤدوريت، وهم أقدم من وصلتنا كتاباتهم عن سفر دانيال النبى، إلى يومنا هذا، أن الوحوش الأربعة، أو الحيوانات الوحشية الأربعة، فى هذه الرؤيا، تمثل نفس الممالك أو الإمبراطوريات الأربعة فى حلم ورؤيا التمثال البهى وهى بابل، ومادى وفارس، واليونان، والرومان، وأن الحجر الذى قطع بغير يدين هو نفسه "ابن الإنسان الآتى على سحاب السماء" فى هذه الرؤيا، وإن "ملكوت السموات" الذى أقامه "إله السموات" هو الملكوت الذى أعطى لإبن الإنسان الممجد الآتى من فوق على سحاب السماء. ويرجع السبب فى تكرار نفس الموضوع بهذا الشكل، كما يقول أحد علماء الكتاب،/ إلى أن الله أعطى النبوة الأولى فى هيئة حلم للملك نبوخذ نصر، أعظم ملوك المشرق فى زمانه، لأنه كان ممثلاً للقوى الأرضية، ومن ثم فقد أعلن له الله ولكل حاكم وعاهل وإمبراطور، مهما كانت درجة حكمه، فى كل مكان وزمان، أنه مجرد حاكم وقتى مهما كانت مدة حكمه على الأرض، ولا يوجد حاكم أرضى، بشرى، وقتى، دائم أو له صفة الدوام، فقد هزمت كل مملكة عالمية سابقتها وسادت عليها، ولكن مملكة المسيح، ملكوت الله، الروحى وليس المادى، الأبدى وليس الزمنى، الدائم وليس المؤقت، الحجر الذى قطع بدون يدين، بدون أى قوة مادية بشرية، وملأ الأرض كلها، "شبه ابن الإنسان الآتى على سحاب السماء(1)" الذى تجثوا له كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف الجميع بروبيته، هو الوحيد الباقى لأنه من السماء وليس "من هذا العالم". لقد سادت كل إمبراطورية على سابقتها ولكن جميع الممالك ساد عليها وسيسودها ملكوت المسيح، فهو وحده "ملك الملوك ورب الأرباب".
وقد رأى دانيال النبى فى هذه الرؤيا الإمبراطوريات العالمية مصورة فى هيئة أربعة حيوانات متوحشة، أربعة وحوش نهمة متعطشة لسفك الدماء وخارجة من بحر العالم الزاخر المضطرب، فى حين أن نبوخذ نصر رآها أو صورت له فى هيئة "تمثال بهى" عظيم مكون من معادن براقة متدرجة فى القيمة من الذهب إلى الحديد، ومتدرجة أيضا فى القوة من قوة الذهب اللين إلى قوة الحديد الصلد. والفرق بيم رؤيا نبوخذ نصر ورؤيا دانيال النبى، هو الفرق بين نظرة الإنسان المادى إلى العالم ممثلاً فى نبوخذ نصر، ممثل القوى العالمية، وبين نظرة الله الذى يرى فى قادة إمبراطورياته وحوش ضارية، متوحشة، ممثلاً فى دانيال النبى، ممثل الله.
2- "أجاب دانيال وقال : كنت أرى فى رؤياى ليلاً وإذ بأربع رياح السماء هجمت على البحر الكبير"(ع2). يرى دانيال النبى فى هذه الرؤيا نفسه واقفاً على شاطئ البحر الكبير؛ والبحر الكبير أو البحر العظيم فى الكتاب المقدس، هو البحر الأبيض المتوسط(5)، ولكن البحر الكبير المقصود هنا، كما يرمز الكتاب المقدس دائما(6)، هو بحر العالم، وجموع أمم الأرض : "المهدئ عجيج البحار عجيج أمواجها وضجيج الأمم(7)"، أو كما يقول سفر الرؤيا "المياه التى رأيت … هى شعوب وجموع وأمم وألسنة(8)". كما أن الرياح الأربع تعنى عادة نقاط الحدود(9)، ولكن فى رؤى دانيال النبى مصورة كقوات فعلية تقذف بما فى أعماق البحار، بحر العالم، وكما يرى القديس جيروم، أنها تقوم بذلك بتوجيه وإرشاد قوى ملائكية، كما جاء فى سفر زكريا النبى "فأجاب الملاك وقال لى هذه هى أرواح السماء الأربع خارجة من الوقوف لدى سيد الأرض كلها(10)". والبحر يبدو كجمهور عظيم من البشر، والرياح هى الفعلة الروحيين الذى يحمل الله بواسطتهم تاريخ العالم. وكما توجد أربع رياح، يوجد أيضا أربع إمبراطوريات، ويوجد ملاك، رئيس لكل منهم مثل"رئيس فارس(11)" و"رئيس اليونان(12)" وإلى جانب ذلك "ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبنى شعبك(13)".
3- "وصعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة هذا مخالف ذاك"(ع3). صعد من البحر الكبير الذى يشير أولاً : إلى البحر المتوسط، قلب الحضارة الإنسانية والتاريخ البشرى والذى خرجت من حواليه جميع الإمبراطوريات العالمية ودارت حوله كل ملاحم التاريخ بل ملحمة تاريخ الإنسانية من قبل نبوخذ نصر وحتى الآن.
وثانياً : لأن البحر، كما بينا يرمز ويشير إلى العالم، إلى الأرض، إلى بحر العالم، الذى يقذف من أعماقه بكل ما هو شرير. ويقول كل من القديسين هيبوليتوس وجيروم(14)؛ الأرض نفسها بحر: البحر هو رمز العالم المتضخم بالكبرياء الإنسانى والألم والمضطرب بالإثارة السياسية والثورات العامة. كما يقول الكتاب "أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأة وطيناً(15)" وذلك بالمقارنة مع "بحر زجاج شبه البللور(16)" والهدوء الأبدى لملكوت السموات "ورأيت كبحر من زجاج مختلط بنار والغالبين على الوحش وصورته وعلى (سمته) وعدد اسمه واقفين على البحر الزجاجى معهم قيثارات الله(17)".
1- الإمبراطوريات الثلاث الأولى :
(ع4-6) "الأول كالأسد وله جناحا نسر. وكنت أنظر حتى أنتتف جناحاه وانتصب على الأرض ووقف على رجلين كإنسان وأعطى قلب إنسان. وإذا بحيوان آخر شبيه بالدب فأرتفع على جانب واحد وفى فمه ثلاثة أضلع بين أسنانه فقالوا له هكذا قم كل لحماً كثيراً. وبعد هذا كنت أرى وإذا بآخر مثل النمر وله على ظهره أربعة أجنحة طائر. وكان للحيوان أربعة رؤوس وأعطى سلطاناً" جاء فى التفسير "هذه الحيوانات العظيمة … ملوك يقومون على الأرض"(ع17).
هذه الحيوانات الثلاثة كما فسر الكائن الملائكى لدانيال النبى هى ثلاثة ممالك عظيمة "تقوم على الأرض".
أ- وكان الأول مثل الأسد وله جناحا نسر. فالأسد هو ملك الحيوانات والنسر هو ملك الطيور، هذا رمز للملكة الأولى الموصوفة بالرأس من ذهب، ورأسها هو الملك العظيم نبوخذ نصر الذى جمع فى شخصه وفى غزواته بين قوة الأسد وعظمة وسرعة النسر، وقد وصف بالأسد فى نبوات أرميا النبى(18)، كما وصف بالنسر فى رؤيا حزقيال النبى(19). وقد وصفت بابل وملكها نبوخذ نصر بهذه الأوصاف لأنها سادت على دول كثيرة وشعوب كثيرة بما فيها إسرائيل، وقد وصفها أرميا النبى بالأسد مهلك الأمم(20). ولكن هذه المملكة فقدت مميزاتها فى آخر أيام نبوخذ نصر بسبب كبريائه، يقول القديس هيبوليتوس "وفى الحديث عن جناحى النسر يعنى أن الملك نبوخذ نصر قد ارتفع، ارتفع بهذا المجد ضد الله، ثم يعنى بدمار جناحيه، دمار مجده لأنه سيق خارج مملكته. "وأعطى قلب إنسان وأن يقف على قدميه" بمعنى أنه عاد إلى نفسه وأدرك أنه مجرد إنسان ومن ثم أعطى المجد لله(21)".
هذان الجناحان "انتتفا" فى أواخر أيام نبوخذ نصر عندما "طرد من بين الناس وأكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندى السماء(22)" لأنه لم يعط المجد لله بل لذاته، كما "اننتفا" جناحا بابل ذاتها عندما سقطت المملكة فى أيدى ملوك مادى وفارس(23).
ب- وكان الحيوان المتوحش الثانى "شبيه بالدب" الذى "ارتفع على جانب واحد" وكان "فى فمه ثلاثة أضلع بين أسنانه". ويرمز هذا الحيوان إلى الإمبراطورية الثانية والتى هى، كما قال كل المفسرين القدماء وعلى رأسهم القديس هيبوليتوس والقديس جيروم وثيؤدوريت، الإمبراطورية مادى فقط بالمخالفة للتاريخ ولنبوات دانيال النبى ذاته، وقد زعموا أن الإمبراطورية الثالثة هى فارس والرابعة هى اليونان، حتى ينفوا صفة الوحى والنبوة عن سفر دانيال ولكى يؤيدوا رأيهم بأن كاتب سفر دانيال عاش فى القرن الثانى ق.م. ولم يرى الإمبراطورية الرومانية ولذا، فبحسب زعمهم، يكون من المستحيل عليه أن يكتب عنها!! ولكن السفر نفسه، كما برهنا، يبرهن على أن دانيال النبى يتكلم عن مملكة متحدة تحكمها شريعة واحدة هى "شريعة مادى وفارس(24)" ويوقدها ملوك هم ملوك "مادى وفارس(25)". وهنا يرمز السفر لهذه الإمبراطورية المتحدة بدب "ارتفع على جانب واحد" دلالة على سيادة عنصر على آخر، سيادة العنصر الفارسى على العنصر المادى، كما هو مشار إلى هذه الإمبراطورية فى رؤيا التمثال ب "الصدر والذراعان من فضة"، فكما أن له جانبين له أيضا ذراعان. وقد رمز لكورش رأس هذه الإمبراطورية بالدب، لأنه جاء من الجبال. أما الثلاثة أضلع فتشير إلى ثلاثة دول التهمها فى بداية حكمه، يرى البعض أنها مملكته الوراثية؛ إنسان Ansan وعيلام وميديا(26)، كما غزا ماندا وكروسس وبابل، ويرى بعض آخر أنها بابل ومصر وليديا(27)، ويرى فريق ثالث أنها آسيا الصغرى ولكليا وسوسيانا(28). على أية حال فقد غزت الإمبراطورية الفارسية دولاً كثيرة ولذا يرى البعض أن الثلاثة أضلع هنا هى الثلاث جهات التى امتدت إليها فتوحات هذه الإمبراطورية؛ شمالاً نحو بابل وجنوباً إلى مصر وغرباً عبر آسيا الوسطى لاجتياح تركيا واليونان(29).
وكان يجب أن تلتهم "لحماً كثيراً" أى دول كثيرة فقد سير الملك أحشويرش أكثر من مليون ونصف رجل و300 سفينة إلى اليونان وحدها(30). وقد التهمت الإمبراطورية المادية الفارسية لحماً كثيراً فى غزوات جيوشها الهائلة العدد تحت قيادة كورش وقمبيز وداريوس واحشويرش وارتحشنا لونجمينتوس.
ج- أما الحيوان الثالث الذى "مثل النمر وله على ظهره أربعة أجنحة طائر" وكان له "أربعة رؤوس. وأعطى سلطاناً". هذا الحيوان يرمز للإمبراطورية الثالثة، إمبراطورية اليونان ورأسها الاسكندر الأكبر، وهذا هو رأى الغالبية العظمى من المفسرين وعلى رأسهم آباء الكنيسة فى اقدم عصورها، يقول القديس هيبوليتوس "الحيوان الثالث نمر أى اليونان، فقد جاء بعد الفرس الاسكندر المكدونى.. والمصور بالنحاس فى التمثال. وبقوله كان للحيوان أربعة رؤوس يعنى أربعة ممالك(31). وهكذا بعكس ما يزعمه النقاد والليبراليين، الذين يزعمون أن المقصود هو مملكة فارس لينفوا الوحى عن سفر دانيال. عندما وصف المملكة السابقة له ب "ملوك مادى وفارس" وإن المملكة التى هزمتهم وقائدها هو "ملك اليونان(32)".
وترمز أربعة أجنحة الطائر على ظهر هذا الحيوان للسرعة الفائقة التى اكتسحت بها جيوش الاسكندر الأكبر البلاد التى غزتها فى اتجاهات الأرض كلها. كما ترمز الرؤوس الأربعة، كما سبق أن قال الآباء وعلى رأسهم القديس هيبوليتوس إلى الممالك الأربعة التى انقسمت إليها الإمبراطورية، وإلى سلالات ملوكهم الأربعة، كما يقول القديس جيروم فى مكدونيا واليونان، وآسيا، وسوريا، ومصر.
وقد بدأت سلسلة ملوك هذه الإمبراطورية بالاسكندر الأكبر، الذى كان مثل النمر فى فتوحاته والذى قهر ممالك العالم وعلى رأسها الإمبراطورية المادية والفارسية فى سرعة هائلة. وقد سافر الاسكندر الأكبر اكثر وبسرعة اكبر وغزا أراضى أكثر من أى قائد آخر فى التاريخ المعروف والمسجل. ففى زمن قصير جداً، حوالى 10 سنوات، اتجه فى غزواته من آسيا الصغرى إلى مصر جنوباً والهند شرقاً حتى وصل إلى المحيط الهندى بقوة النمر وخفة وسرعة أجنحة الطائر، وفاقت مملكته فى الاتساع مملكتى بابل، ومادى وفارس، إذ إنها ضمت كل الولايات والدول التى كانت خاضعة لبابل ثم لمادى وفارس إلى جانب بلاد اليونان والهند.
وقد عبر الوحى عن هذا الاتساع فى حلم ورؤيا التمثال بقوله "تتسلط على كل الأرض"، وهنا بقوله "وأعطى سلطاناً". كما يؤكد الوحى أنه أعطى السلطان، أى من الله، الذى يعزل ملوكاً وينصب ملوكاً. وكما عبر الآباء القدماء فى تفسير القديس جيروم.
2- المملكة الرابعة والقرن الصغير (ضد المسيح) :
بعد ذلك يتحدث الوحى عن "الحيوان الرابع" والذى يعطى له مساحة كبيرة تفوق ما أعطاه للحيوانات الثلاثة السابقة، بل وتقدمه فى رؤيا لاحقة خاصة به وحده "بعد هذا كنت أرى فى رؤوى الليل وإذا بحيوان رابع هائل وقوى وشديد جداً وله أسنان من حديد كبيرة. أكل وسحق وداس الباقى برجليه. وكان مخالفاً لكل الحيوانات اللذين قبله. وله عشرة قرون" (ع7) ثم يقول فى التفسير "أما الحيوان الرابع فتكون مملكة رابعة على الأرض مخالفة لسائر الممالك فتأكل الأرض كلها وتدوسها وتسحقها. والقرون العشرة من هذه المملكة هى عشرة ملوك يقومون" (ع23و24) ويضيف دانيال النبى "حينئذ رمت الحقيقة من جهة الحيوان الرابع الذى كان مخالفاً لكلها وهائلاً جداً وأسنانه من حديد وأظافره من نحاس وقد أكل وسحق وداس الباقى برجليه" (ع19). وهذا يتطابق تماما مع وصف هذه الإمبراطورية الرابعة فى حلم ورؤيا التمثال البهى "وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد لأن الحديد يدق ويسحق كل شئ وكالحديد الذى يكسر تسحق وتدق كل هؤلاء" (40:2).
أ- هذا الحيوان الهائل والرهيب الذى يرمز للإمبراطورية الرابعة لم يعط له أى صورة من صور الحيوانات أو أى شبه منها كما حدث مع الحيوانات الثلاثة الممثلة للإمبراطوريات الثلاث السابقة ولكنه يشبه ويماثل بل ويتطابق بصورة كبيرة مع الوحش الخارج "من البحر وله سبعة رؤوس وعشرة قرون(33)" فى سفر الرؤيا، فكل منهما له عشرة قرون، والوحش المذكور فى رؤيا القديس يوحنا يتصف بصفات الحيوانات الثلاثة الأولى فى رؤيا دانيال النبى "والوحش الذى رأيته كان شبه نمر وقوائمه كقوائم دب وفمه كفم أسد". وهذا الترتيب المعكوس فى صفات هذا الوحش (نمر ثم دب ثم أسد) بينما فى رؤيا دانيال النبى (أسد ثم دب ثم نمر) يعكس حقيقة الصلة بين كل من الرؤيتين وما تم فعلاً فى الواقع، إذ أن الإمبراطورية الرومانية سادت وابتلعت كل ما كان للإمبراطورية اليونانية، النمر، والإمبراطورية اليونانية سادت وابتلعت ما كان لمادى وفارس، الدب، ومادى وفارس ابتلعت ما لبابل الأسد.
هذا الحيوان له عشرة قرون قال الملاك المفسر لدانيال النبى إنها تمثل عشرة ممالك، يقول القديس جيروم "دعونا نؤكد أن ما سلمه لنا كل الكتاب الكنسيين، أنه عند دمار الإمبراطورية الرومانية سينهض منها عشرة ملوك سيقسمون العالم الرومانى بينهم(35)"، وهذا ما أكده أيضا القديس أغسطينوس، والقديس إريناؤس الذى يقول "يتطلع دانيال أيضا إلى نهاية المملكة الأخيرة (أو الرابعة)، أو آخر عشرة ملوك الذين ستنقسم بينهم مملكة أولئك الناس(36)"، ويقول القديس كيرلس الأورشليمى "ويقول (عن المملكة الرابعة) أنها المملكة الرومانية، لأن المملكة الأولى التى ذاع صيتها هى مملكة الآشوريين. والثانية مملكة الميديين والفرس، والثالثة مملكة المقدونيين، والرابعة إمبراطورية الرومان الحالية(37)".
وكما اعتقد كل كتاب الكنيسة القدماء والغالبية العظمى من المفسرين على مر العصور، أن هذا الحيوان الرابع والذى يمثل الإمبراطورية الرابعة هى الإمبراطورية الرومانية كما بينا فى شرح حلم ورؤيا التمثال البهى، فقد اعتقد أيضا كل الكتاب اليهود القدماء أن هذه الإمبراطورية هى الإمبراطورية الرومانية، وعلى رأس هؤلاء الكتاب، المؤرخ اليهودى والكاهن يوسيفوس معاصر تلاميذ المسيح، وكانت رؤيا باروخ (80-60ق.م.) وكاتب عزرا الرابع (حوالى 80 م)(38). وهذا عكس ما زعمه النقاد والليبراليون ومن سار على دربهم، بأن هذه الإمبراطورية الرابعة هى مملكة السلوقيين التى كانت فى سوريا. ولكن واقع التاريخ لا يؤكد ذلك لأن مملكة السلوقيين لم تكن أبداً إمبراطورية عالمية، بل كانت أحد أفرع مملكة اليونان وانتهت تماما باستيلاء روما عليها وتحويلها إلى ولاية رومانية سنة 64ق.م. عندما استولى عليها القائد الرومانى بومبى. فى حين أن الإمبراطورية الرومانية بلغت فى الاتساع اكثر بكثير من الإمبراطوريات التى سبقتها حتى إنها حولت البحر المتوسط إلى مجرد بحيرة رومانية، وهذا ما يتفق مع ما جاء عنها فى نبؤه دانيال تماماً، إذ تقول النبؤة "فتأكل الأرض كلها وتدوسها وتسحقها" (ع23). كما أن مواصفات الوحش الرهيب وقوته الهائلة التى فاقت كل ما قبله فى القوة أو المساحة لا تنطبق إلا على روما.
3- القرن الصغير، أو ضد المسيح والمسيحية :
ب- ثم تنتق الرؤيا إلى مرحلة جديدة بالحديث عن قرن صغير يخرج من القرون العشرة التى للحيوان الرابع "كنت متأملاً بالقرون وإذا بقرن آخر صغير طلع من بينها وقلعت ثلاثة من القرون الأولى من قدامه وإذا بعيون كعيون الإنسان فى هذا القرن وفم متكلم بعظائم" (ع8)، "وهذا القرن له عيون وفم متكلم بعظائم ومنظره أشد من رفقائه. وكنت أنظر وإذا هذا القرن يحارب القديسين فغلبهم" (ع20،21)، "وهو مخالف للأولين ويذل ثلاثة ملوك. ويتكلم بكلام ضد العلى ويبلى قديسى العلى ويظن أنه يغير الأوقات والسنة ويسلمون ليده إلى زمان وزمانين ونصف. فيجلس الدين وينزعون عنه سلطانه ليفنوا ويبيدوا إلى المنتهى(39)".
وفى الإصحاح الثامن يعلن الوحى عن قرن آخر يخرج من أحد أفرع الإمبراطورية الثالثة، له مواصفات قريبة نسبياً من مواصفات هذا القرن "ومن واحد منها (القرون الأربعة) خرج قرن صغير وعظم جداً نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضى. وتعظم حتى إلى جند السموات وطرح بعضاً من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم. وحتى إلى رئيس الجند تعظم وبه أبطلت المحرقة الدائمة وهدم مسكن مقدسه. وجعل جند على المحرقة الدائمة بالمعصية على الأرض وفعل ونجح. فسمعت قدوساً واحداً يتكلم فقال واحد لفلان المتكلم إلى متى الرؤيا من جهة المحرقة الدائمة ومعصى الخراب لبذل القدس والجند مدوسين. فقال لى إلى ألفين وثلاث مئة صباح ومساء فيتبرأ القدس(40)". وقال الملاك لدانيال النبى عن هذا القرن "وفى مملكتهم عند تمام المعاصى يقوم ملك جافى الوجه وفاهم الحيل. وتعظم قوته ولكن ليس بقوته. يهلك عجباً وينجح ويفعل ويبيد العظماء وشعب القديسين. وبحذاقته ينجح أيضا المكر فى يده ويتعظم بقلبه وفى الاطمئنان يهلك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء وبلا يد ينكسر(41)".
وفى الإصحاح الحادى عشر يقدم الوحى صورة ثالثة فى وصف ملك الشمال تتعداه إلى أبعد ما يكون عما حدث فعلاً قبل الميلاد: "وتقوم منه اذرع وتنجس المقدس الحصين وتنزع المحرقه الدائمة وتجعل الرجس المخرب. والمتعدون على العهد يغويهم بالتملقات. أما الشعب الذين يعرفون ألههم فيقوون ويعملون. والفاهمون من الشعب يعلمون كثيرين. ويعثرون بالسيف وباللهيب وبالسبى وبالنهب أياماً… وبعض الفاهمين يعثرون امتحاناًَ لهم للتطهير وللتبيض إلى وقت النهاية. لأنه بعد إلى الميعاد.
ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظم على كل إله ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة وينجح إلى إتمام الغضب لأن المقضى به يجرى. ولا يبالى بآلهة آبائه ولا بشهوة النساء وبكل إله لا يبالى لأنه يتعظم على الكل"(42).
رؤيا دانيال الأولى ممالك العالم وملكوت الله
(ص7)
"فى السنة الأولى لبيلشاصر ملك بابل رأى دانيال حلماً وُرؤى رأسه على فراشه. حينئذ كتب الحلم وأخبر برأس الكلام".(ع1).
يقع هذا الإصحاح فى سفر دانيال، زمنياً قبل الإصحاحين السابقين، الخامس والسادس، ولكنه وضع هنا فى الإصحاح السابع لأنه، كما يقول القديس جيروم، يبدأ سلسلة رؤى دانيال النبى نفسه، بينما تروى الإصحاحات السابقة سلسلة من الأحداث والمعجزات التى حدثت فى أيام نبوخذ نصر وبيلشاصر وداريوس المادى.
1- وقد أجمعت الغالبية العظمى من المفسرين فى كل العصور منذ أيام تلاميذ الرسل وخلفائهم، منذ زمن القديس أريناؤس والقديس هيبوليتوس والعلامة ترتليان والقديس جيروم وثيؤدوريت، وهم أقدم من وصلتنا كتاباتهم عن سفر دانيال النبى، إلى يومنا هذا، أن الوحوش الأربعة، أو الحيوانات الوحشية الأربعة، فى هذه الرؤيا، تمثل نفس الممالك أو الإمبراطوريات الأربعة فى حلم ورؤيا التمثال البهى وهى بابل، ومادى وفارس، واليونان، والرومان، وأن الحجر الذى قطع بغير يدين هو نفسه "ابن الإنسان الآتى على سحاب السماء" فى هذه الرؤيا، وإن "ملكوت السموات" الذى أقامه "إله السموات" هو الملكوت الذى أعطى لإبن الإنسان الممجد الآتى من فوق على سحاب السماء. ويرجع السبب فى تكرار نفس الموضوع بهذا الشكل، كما يقول أحد علماء الكتاب،/ إلى أن الله أعطى النبوة الأولى فى هيئة حلم للملك نبوخذ نصر، أعظم ملوك المشرق فى زمانه، لأنه كان ممثلاً للقوى الأرضية، ومن ثم فقد أعلن له الله ولكل حاكم وعاهل وإمبراطور، مهما كانت درجة حكمه، فى كل مكان وزمان، أنه مجرد حاكم وقتى مهما كانت مدة حكمه على الأرض، ولا يوجد حاكم أرضى، بشرى، وقتى، دائم أو له صفة الدوام، فقد هزمت كل مملكة عالمية سابقتها وسادت عليها، ولكن مملكة المسيح، ملكوت الله، الروحى وليس المادى، الأبدى وليس الزمنى، الدائم وليس المؤقت، الحجر الذى قطع بدون يدين، بدون أى قوة مادية بشرية، وملأ الأرض كلها، "شبه ابن الإنسان الآتى على سحاب السماء(1)" الذى تجثوا له كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف الجميع بروبيته، هو الوحيد الباقى لأنه من السماء وليس "من هذا العالم". لقد سادت كل إمبراطورية على سابقتها ولكن جميع الممالك ساد عليها وسيسودها ملكوت المسيح، فهو وحده "ملك الملوك ورب الأرباب".
وقد رأى دانيال النبى فى هذه الرؤيا الإمبراطوريات العالمية مصورة فى هيئة أربعة حيوانات متوحشة، أربعة وحوش نهمة متعطشة لسفك الدماء وخارجة من بحر العالم الزاخر المضطرب، فى حين أن نبوخذ نصر رآها أو صورت له فى هيئة "تمثال بهى" عظيم مكون من معادن براقة متدرجة فى القيمة من الذهب إلى الحديد، ومتدرجة أيضا فى القوة من قوة الذهب اللين إلى قوة الحديد الصلد. والفرق بيم رؤيا نبوخذ نصر ورؤيا دانيال النبى، هو الفرق بين نظرة الإنسان المادى إلى العالم ممثلاً فى نبوخذ نصر، ممثل القوى العالمية، وبين نظرة الله الذى يرى فى قادة إمبراطورياته وحوش ضارية، متوحشة، ممثلاً فى دانيال النبى، ممثل الله.
2- "أجاب دانيال وقال : كنت أرى فى رؤياى ليلاً وإذ بأربع رياح السماء هجمت على البحر الكبير"(ع2). يرى دانيال النبى فى هذه الرؤيا نفسه واقفاً على شاطئ البحر الكبير؛ والبحر الكبير أو البحر العظيم فى الكتاب المقدس، هو البحر الأبيض المتوسط(5)، ولكن البحر الكبير المقصود هنا، كما يرمز الكتاب المقدس دائما(6)، هو بحر العالم، وجموع أمم الأرض : "المهدئ عجيج البحار عجيج أمواجها وضجيج الأمم(7)"، أو كما يقول سفر الرؤيا "المياه التى رأيت … هى شعوب وجموع وأمم وألسنة(8)". كما أن الرياح الأربع تعنى عادة نقاط الحدود(9)، ولكن فى رؤى دانيال النبى مصورة كقوات فعلية تقذف بما فى أعماق البحار، بحر العالم، وكما يرى القديس جيروم، أنها تقوم بذلك بتوجيه وإرشاد قوى ملائكية، كما جاء فى سفر زكريا النبى "فأجاب الملاك وقال لى هذه هى أرواح السماء الأربع خارجة من الوقوف لدى سيد الأرض كلها(10)". والبحر يبدو كجمهور عظيم من البشر، والرياح هى الفعلة الروحيين الذى يحمل الله بواسطتهم تاريخ العالم. وكما توجد أربع رياح، يوجد أيضا أربع إمبراطوريات، ويوجد ملاك، رئيس لكل منهم مثل"رئيس فارس(11)" و"رئيس اليونان(12)" وإلى جانب ذلك "ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبنى شعبك(13)".
3- "وصعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة هذا مخالف ذاك"(ع3). صعد من البحر الكبير الذى يشير أولاً : إلى البحر المتوسط، قلب الحضارة الإنسانية والتاريخ البشرى والذى خرجت من حواليه جميع الإمبراطوريات العالمية ودارت حوله كل ملاحم التاريخ بل ملحمة تاريخ الإنسانية من قبل نبوخذ نصر وحتى الآن.
وثانياً : لأن البحر، كما بينا يرمز ويشير إلى العالم، إلى الأرض، إلى بحر العالم، الذى يقذف من أعماقه بكل ما هو شرير. ويقول كل من القديسين هيبوليتوس وجيروم(14)؛ الأرض نفسها بحر: البحر هو رمز العالم المتضخم بالكبرياء الإنسانى والألم والمضطرب بالإثارة السياسية والثورات العامة. كما يقول الكتاب "أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأة وطيناً(15)" وذلك بالمقارنة مع "بحر زجاج شبه البللور(16)" والهدوء الأبدى لملكوت السموات "ورأيت كبحر من زجاج مختلط بنار والغالبين على الوحش وصورته وعلى (سمته) وعدد اسمه واقفين على البحر الزجاجى معهم قيثارات الله(17)".
1- الإمبراطوريات الثلاث الأولى :
(ع4-6) "الأول كالأسد وله جناحا نسر. وكنت أنظر حتى أنتتف جناحاه وانتصب على الأرض ووقف على رجلين كإنسان وأعطى قلب إنسان. وإذا بحيوان آخر شبيه بالدب فأرتفع على جانب واحد وفى فمه ثلاثة أضلع بين أسنانه فقالوا له هكذا قم كل لحماً كثيراً. وبعد هذا كنت أرى وإذا بآخر مثل النمر وله على ظهره أربعة أجنحة طائر. وكان للحيوان أربعة رؤوس وأعطى سلطاناً" جاء فى التفسير "هذه الحيوانات العظيمة … ملوك يقومون على الأرض"(ع17).
هذه الحيوانات الثلاثة كما فسر الكائن الملائكى لدانيال النبى هى ثلاثة ممالك عظيمة "تقوم على الأرض".
أ- وكان الأول مثل الأسد وله جناحا نسر. فالأسد هو ملك الحيوانات والنسر هو ملك الطيور، هذا رمز للملكة الأولى الموصوفة بالرأس من ذهب، ورأسها هو الملك العظيم نبوخذ نصر الذى جمع فى شخصه وفى غزواته بين قوة الأسد وعظمة وسرعة النسر، وقد وصف بالأسد فى نبوات أرميا النبى(18)، كما وصف بالنسر فى رؤيا حزقيال النبى(19). وقد وصفت بابل وملكها نبوخذ نصر بهذه الأوصاف لأنها سادت على دول كثيرة وشعوب كثيرة بما فيها إسرائيل، وقد وصفها أرميا النبى بالأسد مهلك الأمم(20). ولكن هذه المملكة فقدت مميزاتها فى آخر أيام نبوخذ نصر بسبب كبريائه، يقول القديس هيبوليتوس "وفى الحديث عن جناحى النسر يعنى أن الملك نبوخذ نصر قد ارتفع، ارتفع بهذا المجد ضد الله، ثم يعنى بدمار جناحيه، دمار مجده لأنه سيق خارج مملكته. "وأعطى قلب إنسان وأن يقف على قدميه" بمعنى أنه عاد إلى نفسه وأدرك أنه مجرد إنسان ومن ثم أعطى المجد لله(21)".
هذان الجناحان "انتتفا" فى أواخر أيام نبوخذ نصر عندما "طرد من بين الناس وأكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندى السماء(22)" لأنه لم يعط المجد لله بل لذاته، كما "اننتفا" جناحا بابل ذاتها عندما سقطت المملكة فى أيدى ملوك مادى وفارس(23).
ب- وكان الحيوان المتوحش الثانى "شبيه بالدب" الذى "ارتفع على جانب واحد" وكان "فى فمه ثلاثة أضلع بين أسنانه". ويرمز هذا الحيوان إلى الإمبراطورية الثانية والتى هى، كما قال كل المفسرين القدماء وعلى رأسهم القديس هيبوليتوس والقديس جيروم وثيؤدوريت، الإمبراطورية مادى فقط بالمخالفة للتاريخ ولنبوات دانيال النبى ذاته، وقد زعموا أن الإمبراطورية الثالثة هى فارس والرابعة هى اليونان، حتى ينفوا صفة الوحى والنبوة عن سفر دانيال ولكى يؤيدوا رأيهم بأن كاتب سفر دانيال عاش فى القرن الثانى ق.م. ولم يرى الإمبراطورية الرومانية ولذا، فبحسب زعمهم، يكون من المستحيل عليه أن يكتب عنها!! ولكن السفر نفسه، كما برهنا، يبرهن على أن دانيال النبى يتكلم عن مملكة متحدة تحكمها شريعة واحدة هى "شريعة مادى وفارس(24)" ويوقدها ملوك هم ملوك "مادى وفارس(25)". وهنا يرمز السفر لهذه الإمبراطورية المتحدة بدب "ارتفع على جانب واحد" دلالة على سيادة عنصر على آخر، سيادة العنصر الفارسى على العنصر المادى، كما هو مشار إلى هذه الإمبراطورية فى رؤيا التمثال ب "الصدر والذراعان من فضة"، فكما أن له جانبين له أيضا ذراعان. وقد رمز لكورش رأس هذه الإمبراطورية بالدب، لأنه جاء من الجبال. أما الثلاثة أضلع فتشير إلى ثلاثة دول التهمها فى بداية حكمه، يرى البعض أنها مملكته الوراثية؛ إنسان Ansan وعيلام وميديا(26)، كما غزا ماندا وكروسس وبابل، ويرى بعض آخر أنها بابل ومصر وليديا(27)، ويرى فريق ثالث أنها آسيا الصغرى ولكليا وسوسيانا(28). على أية حال فقد غزت الإمبراطورية الفارسية دولاً كثيرة ولذا يرى البعض أن الثلاثة أضلع هنا هى الثلاث جهات التى امتدت إليها فتوحات هذه الإمبراطورية؛ شمالاً نحو بابل وجنوباً إلى مصر وغرباً عبر آسيا الوسطى لاجتياح تركيا واليونان(29).
وكان يجب أن تلتهم "لحماً كثيراً" أى دول كثيرة فقد سير الملك أحشويرش أكثر من مليون ونصف رجل و300 سفينة إلى اليونان وحدها(30). وقد التهمت الإمبراطورية المادية الفارسية لحماً كثيراً فى غزوات جيوشها الهائلة العدد تحت قيادة كورش وقمبيز وداريوس واحشويرش وارتحشنا لونجمينتوس.
ج- أما الحيوان الثالث الذى "مثل النمر وله على ظهره أربعة أجنحة طائر" وكان له "أربعة رؤوس. وأعطى سلطاناً". هذا الحيوان يرمز للإمبراطورية الثالثة، إمبراطورية اليونان ورأسها الاسكندر الأكبر، وهذا هو رأى الغالبية العظمى من المفسرين وعلى رأسهم آباء الكنيسة فى اقدم عصورها، يقول القديس هيبوليتوس "الحيوان الثالث نمر أى اليونان، فقد جاء بعد الفرس الاسكندر المكدونى.. والمصور بالنحاس فى التمثال. وبقوله كان للحيوان أربعة رؤوس يعنى أربعة ممالك(31). وهكذا بعكس ما يزعمه النقاد والليبراليين، الذين يزعمون أن المقصود هو مملكة فارس لينفوا الوحى عن سفر دانيال. عندما وصف المملكة السابقة له ب "ملوك مادى وفارس" وإن المملكة التى هزمتهم وقائدها هو "ملك اليونان(32)".
وترمز أربعة أجنحة الطائر على ظهر هذا الحيوان للسرعة الفائقة التى اكتسحت بها جيوش الاسكندر الأكبر البلاد التى غزتها فى اتجاهات الأرض كلها. كما ترمز الرؤوس الأربعة، كما سبق أن قال الآباء وعلى رأسهم القديس هيبوليتوس إلى الممالك الأربعة التى انقسمت إليها الإمبراطورية، وإلى سلالات ملوكهم الأربعة، كما يقول القديس جيروم فى مكدونيا واليونان، وآسيا، وسوريا، ومصر.
وقد بدأت سلسلة ملوك هذه الإمبراطورية بالاسكندر الأكبر، الذى كان مثل النمر فى فتوحاته والذى قهر ممالك العالم وعلى رأسها الإمبراطورية المادية والفارسية فى سرعة هائلة. وقد سافر الاسكندر الأكبر اكثر وبسرعة اكبر وغزا أراضى أكثر من أى قائد آخر فى التاريخ المعروف والمسجل. ففى زمن قصير جداً، حوالى 10 سنوات، اتجه فى غزواته من آسيا الصغرى إلى مصر جنوباً والهند شرقاً حتى وصل إلى المحيط الهندى بقوة النمر وخفة وسرعة أجنحة الطائر، وفاقت مملكته فى الاتساع مملكتى بابل، ومادى وفارس، إذ إنها ضمت كل الولايات والدول التى كانت خاضعة لبابل ثم لمادى وفارس إلى جانب بلاد اليونان والهند.
وقد عبر الوحى عن هذا الاتساع فى حلم ورؤيا التمثال بقوله "تتسلط على كل الأرض"، وهنا بقوله "وأعطى سلطاناً". كما يؤكد الوحى أنه أعطى السلطان، أى من الله، الذى يعزل ملوكاً وينصب ملوكاً. وكما عبر الآباء القدماء فى تفسير القديس جيروم.
2- المملكة الرابعة والقرن الصغير (ضد المسيح) :
بعد ذلك يتحدث الوحى عن "الحيوان الرابع" والذى يعطى له مساحة كبيرة تفوق ما أعطاه للحيوانات الثلاثة السابقة، بل وتقدمه فى رؤيا لاحقة خاصة به وحده "بعد هذا كنت أرى فى رؤوى الليل وإذا بحيوان رابع هائل وقوى وشديد جداً وله أسنان من حديد كبيرة. أكل وسحق وداس الباقى برجليه. وكان مخالفاً لكل الحيوانات اللذين قبله. وله عشرة قرون" (ع7) ثم يقول فى التفسير "أما الحيوان الرابع فتكون مملكة رابعة على الأرض مخالفة لسائر الممالك فتأكل الأرض كلها وتدوسها وتسحقها. والقرون العشرة من هذه المملكة هى عشرة ملوك يقومون" (ع23و24) ويضيف دانيال النبى "حينئذ رمت الحقيقة من جهة الحيوان الرابع الذى كان مخالفاً لكلها وهائلاً جداً وأسنانه من حديد وأظافره من نحاس وقد أكل وسحق وداس الباقى برجليه" (ع19). وهذا يتطابق تماما مع وصف هذه الإمبراطورية الرابعة فى حلم ورؤيا التمثال البهى "وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد لأن الحديد يدق ويسحق كل شئ وكالحديد الذى يكسر تسحق وتدق كل هؤلاء" (40:2).
أ- هذا الحيوان الهائل والرهيب الذى يرمز للإمبراطورية الرابعة لم يعط له أى صورة من صور الحيوانات أو أى شبه منها كما حدث مع الحيوانات الثلاثة الممثلة للإمبراطوريات الثلاث السابقة ولكنه يشبه ويماثل بل ويتطابق بصورة كبيرة مع الوحش الخارج "من البحر وله سبعة رؤوس وعشرة قرون(33)" فى سفر الرؤيا، فكل منهما له عشرة قرون، والوحش المذكور فى رؤيا القديس يوحنا يتصف بصفات الحيوانات الثلاثة الأولى فى رؤيا دانيال النبى "والوحش الذى رأيته كان شبه نمر وقوائمه كقوائم دب وفمه كفم أسد". وهذا الترتيب المعكوس فى صفات هذا الوحش (نمر ثم دب ثم أسد) بينما فى رؤيا دانيال النبى (أسد ثم دب ثم نمر) يعكس حقيقة الصلة بين كل من الرؤيتين وما تم فعلاً فى الواقع، إذ أن الإمبراطورية الرومانية سادت وابتلعت كل ما كان للإمبراطورية اليونانية، النمر، والإمبراطورية اليونانية سادت وابتلعت ما كان لمادى وفارس، الدب، ومادى وفارس ابتلعت ما لبابل الأسد.
هذا الحيوان له عشرة قرون قال الملاك المفسر لدانيال النبى إنها تمثل عشرة ممالك، يقول القديس جيروم "دعونا نؤكد أن ما سلمه لنا كل الكتاب الكنسيين، أنه عند دمار الإمبراطورية الرومانية سينهض منها عشرة ملوك سيقسمون العالم الرومانى بينهم(35)"، وهذا ما أكده أيضا القديس أغسطينوس، والقديس إريناؤس الذى يقول "يتطلع دانيال أيضا إلى نهاية المملكة الأخيرة (أو الرابعة)، أو آخر عشرة ملوك الذين ستنقسم بينهم مملكة أولئك الناس(36)"، ويقول القديس كيرلس الأورشليمى "ويقول (عن المملكة الرابعة) أنها المملكة الرومانية، لأن المملكة الأولى التى ذاع صيتها هى مملكة الآشوريين. والثانية مملكة الميديين والفرس، والثالثة مملكة المقدونيين، والرابعة إمبراطورية الرومان الحالية(37)".
وكما اعتقد كل كتاب الكنيسة القدماء والغالبية العظمى من المفسرين على مر العصور، أن هذا الحيوان الرابع والذى يمثل الإمبراطورية الرابعة هى الإمبراطورية الرومانية كما بينا فى شرح حلم ورؤيا التمثال البهى، فقد اعتقد أيضا كل الكتاب اليهود القدماء أن هذه الإمبراطورية هى الإمبراطورية الرومانية، وعلى رأس هؤلاء الكتاب، المؤرخ اليهودى والكاهن يوسيفوس معاصر تلاميذ المسيح، وكانت رؤيا باروخ (80-60ق.م.) وكاتب عزرا الرابع (حوالى 80 م)(38). وهذا عكس ما زعمه النقاد والليبراليون ومن سار على دربهم، بأن هذه الإمبراطورية الرابعة هى مملكة السلوقيين التى كانت فى سوريا. ولكن واقع التاريخ لا يؤكد ذلك لأن مملكة السلوقيين لم تكن أبداً إمبراطورية عالمية، بل كانت أحد أفرع مملكة اليونان وانتهت تماما باستيلاء روما عليها وتحويلها إلى ولاية رومانية سنة 64ق.م. عندما استولى عليها القائد الرومانى بومبى. فى حين أن الإمبراطورية الرومانية بلغت فى الاتساع اكثر بكثير من الإمبراطوريات التى سبقتها حتى إنها حولت البحر المتوسط إلى مجرد بحيرة رومانية، وهذا ما يتفق مع ما جاء عنها فى نبؤه دانيال تماماً، إذ تقول النبؤة "فتأكل الأرض كلها وتدوسها وتسحقها" (ع23). كما أن مواصفات الوحش الرهيب وقوته الهائلة التى فاقت كل ما قبله فى القوة أو المساحة لا تنطبق إلا على روما.
3- القرن الصغير، أو ضد المسيح والمسيحية :
ب- ثم تنتق الرؤيا إلى مرحلة جديدة بالحديث عن قرن صغير يخرج من القرون العشرة التى للحيوان الرابع "كنت متأملاً بالقرون وإذا بقرن آخر صغير طلع من بينها وقلعت ثلاثة من القرون الأولى من قدامه وإذا بعيون كعيون الإنسان فى هذا القرن وفم متكلم بعظائم" (ع8)، "وهذا القرن له عيون وفم متكلم بعظائم ومنظره أشد من رفقائه. وكنت أنظر وإذا هذا القرن يحارب القديسين فغلبهم" (ع20،21)، "وهو مخالف للأولين ويذل ثلاثة ملوك. ويتكلم بكلام ضد العلى ويبلى قديسى العلى ويظن أنه يغير الأوقات والسنة ويسلمون ليده إلى زمان وزمانين ونصف. فيجلس الدين وينزعون عنه سلطانه ليفنوا ويبيدوا إلى المنتهى(39)".
وفى الإصحاح الثامن يعلن الوحى عن قرن آخر يخرج من أحد أفرع الإمبراطورية الثالثة، له مواصفات قريبة نسبياً من مواصفات هذا القرن "ومن واحد منها (القرون الأربعة) خرج قرن صغير وعظم جداً نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضى. وتعظم حتى إلى جند السموات وطرح بعضاً من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم. وحتى إلى رئيس الجند تعظم وبه أبطلت المحرقة الدائمة وهدم مسكن مقدسه. وجعل جند على المحرقة الدائمة بالمعصية على الأرض وفعل ونجح. فسمعت قدوساً واحداً يتكلم فقال واحد لفلان المتكلم إلى متى الرؤيا من جهة المحرقة الدائمة ومعصى الخراب لبذل القدس والجند مدوسين. فقال لى إلى ألفين وثلاث مئة صباح ومساء فيتبرأ القدس(40)". وقال الملاك لدانيال النبى عن هذا القرن "وفى مملكتهم عند تمام المعاصى يقوم ملك جافى الوجه وفاهم الحيل. وتعظم قوته ولكن ليس بقوته. يهلك عجباً وينجح ويفعل ويبيد العظماء وشعب القديسين. وبحذاقته ينجح أيضا المكر فى يده ويتعظم بقلبه وفى الاطمئنان يهلك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء وبلا يد ينكسر(41)".
وفى الإصحاح الحادى عشر يقدم الوحى صورة ثالثة فى وصف ملك الشمال تتعداه إلى أبعد ما يكون عما حدث فعلاً قبل الميلاد: "وتقوم منه اذرع وتنجس المقدس الحصين وتنزع المحرقه الدائمة وتجعل الرجس المخرب. والمتعدون على العهد يغويهم بالتملقات. أما الشعب الذين يعرفون ألههم فيقوون ويعملون. والفاهمون من الشعب يعلمون كثيرين. ويعثرون بالسيف وباللهيب وبالسبى وبالنهب أياماً… وبعض الفاهمين يعثرون امتحاناًَ لهم للتطهير وللتبيض إلى وقت النهاية. لأنه بعد إلى الميعاد.
ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظم على كل إله ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة وينجح إلى إتمام الغضب لأن المقضى به يجرى. ولا يبالى بآلهة آبائه ولا بشهوة النساء وبكل إله لا يبالى لأنه يتعظم على الكل"(42).
التعديل الأخير: