من كتاب الصليب في المسيحية
رؤية كنسيّة آبائية - الأنبا ياكوبوس
لماذا نستخدم نحن إشارة الصليب؟
الصليب حامل لشخص المسيح :
الصليب ليس هو مجرد علامة أو إشارة بل هو أعمق من ذلك بكثير، فهو يحمل صفة شخصية ملازمة للمسيح. كما يعّرفه الملاك لمريم المجدلية ومريم الأخرى: "فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب" (مت28: 5).
وكما يقول معلمنا بولس الرسول: "ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا لليهود عثرة ولليونانيين جهالة. " (1كو1: 23).
إذن فعملية الصلب لم تكن حادثًا وانتهى بل هي حادثة استعدت لها كل الأزمنة السابقة وحملتها كل الأجيال اللاحقة مثل باب حيّ مفتوح للخلاص والعبور إلى الملكوت المعد.
ولا زال المصلوب يحمل في يديه ورجليه جروح الصليب حتى هذه الساعة. . ويوضح لنا سفر الرؤيا ذلك: "ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة وفى وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح... ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والحيوانات والشيوخ وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف. قائلين بصوت عظيم مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة" (رؤ5: 6،11، 12)
فإذا كان المصلوب لازال دمه يقطر فالصليب لازال قائمًا يعمل بقوة الدم المسفوك عليه! "عاملًا الصلح بدم صليبه" (كو1: 20)
{7} الاجتهاد إلى آخر نسمة: "فلما أخذ يسوع الخل قال قد أُكِمْلَ. ونكس رأسه وأسلم الروح "(يو19: 30).
{8} آخر درجة للطاعة: "وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى2: 8).
{9} قتل روح العداوة: "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلًا العداوة به" (أف 2: 16).
{10} العمل للصلح حتى الدم: "وأن يصالح به الكل لنفسه عاملًا الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات" (كو1: 20).
{11} التحرر من سلطان الخطية : "عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضًا للخطية" (رو6: 6).
{12} دفع الدين وتمزيق الحجة :" إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مُسمرًا إياه بالصليب" (كو2: 14).
{13} شركة موت وحياة مع المسيح: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل2: 20).
{14} افتخار: "وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غل6: 14).
{15} افتضاح الشيطان: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه [في الصليب]" (كو2: 15).
وحينما نؤمن بهذه المبادئ ونعمل بها فنحن نحمل الصليب بحق وندعى مع القديسين "لابسي الصليب"، وهذه الكلمة تعنى الجهاد في السير خلف المسيح حاملين لفضائل الصليب.
إشارة الصليب تقليد كنسي قديم جدًا يبتدئ بابتداء الإنجيل حيث يشير إليه معلمنا متى البشير في إنجيله قائلًا: "وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء" (مت24: 30). فيذكر هنا معلمنا متى الإنجيلي البشير أن الصليب هو علامة ابن الإنسان.
وأول إشارة بعد الإنجيل نجدها في سنة 150 ميلادية.
[1] في قول للعلامة ترتليان:
[في جميع أسفارنا وتحركاتنا، عندما ندخل وعندما نخرج، عندما نلبس ملابسنا وعندما نخلعها، في الحمام وعلى المائدة، عندما نشعل مصابيحنا وعندما نطفئها لننام، في جلوسنا وفى كل أعمالنا نرشم أنفسنا بعلامة الصليب].
[2] ثم نسمع عنها في قول ليوليوس أفريكانوس {160-240 م.}:
[وحينئذ نرفع أيدينا ونرشم جبهتنا بعلامة الصليب].
[3] ونجدها في تعاليم امبروسيوس {339-397 ميلادية]:
[وعلينا حينما نستيقظ أن نشكر المسيح ونبدأ نتمم أعمالنا اليومية بقوة الصليب].
[فلا نخزى إذن أن نعترف بالمسيح مصلوبًا، بل ليت إشارة الصليب تكون ختمًا نصنعه بشجاعة بأصابعنا على جبهتنا وعلى كل شيء، على الخبز وعلى كأس الشرب، في مجيئنا وذهابنا، قبل نومنا وعند يقظتنا، وفى الطريق وفى البيت].
[5] يوحنا ذهبى الفم: [347-407 ميلادية]:
[إن إشارة الصليب التي كانت قبلًا فزعًا لكل الناس الآن يعشقها ويتبارى في اقتناءها كل واحد، حتى صارت في كل مكان بين الحكام والعامة، بين الرجال والنساء، بين المتزوجين والعذارى بين المخطوبين وغير المخطوبين، لا يكف الناس عن رسمها في كل موضع كريم ومكرم، ويحملونها منقوشة على جباههم كأنها علامة ظفر على سارية، نراها كل يوم على المائدة المقدسة، نراها عند رسامة الكهنة، نراها تتألق فوق جسد المسيح وقت التناول السري وفى كل مكان يُحتفل بها في البيوت، في الأسواق، في الصحارى، في الطرق، على الجبال في مغائر الرهبان، على التلال في البحار، على المراكب، في الجزر، في المخدع على الملابس، في الأروقة [المدارس]، في المجتمعات، على الأواني الذهبية، على الأواني الفضية، على اللؤلؤ، في الرسومات على الحوائط، على أجساد الذين مسهم الشيطان، في الحرب، في السلام، في الليل، في النهار في الذين يبتهجون، في جماعات النساك، وهكذا يتبارى الجميع في اقتناء هذه العطية العجيبة كنعمة لا ينطق بها].
[6] القديس أغسطينوس {354-430 ميلادية}:
[من أجل هذا فالرب نفسه يثبت قوة الصليب على جبهتنا حتى أن العلامة التي كانت للخزي تصير للافتخار].
[1] أعطانا السيد المسيح إلهنا الصليب سلاحًا نافذًا ينفذ في النار والهواء والماء والأرض ولا يحجبه شيء أو يعترض قوته عارض.
فهو قوة الله التي لا تقاوم. تهرب من صورته الشياطين حينما يرسم به عليها! الصليب هو قوة المسيح للخلاص والملائكة يخضعون لقوته ويتبعونه حيثما شاهدوا رسمه ليعينوا الملتجئ إليه ولا تحصل تخلية لمن حمل الصليب إلا للذي ضعفت أمانته فيه البابا أثناسيوس الرسولي.
[2] بدلًا من أن تحمل سلاحًا أو شيئًا يحميك، احمل الصليب واطبع صورته على أعضائك وقلبك. وارسم به ذاتك لا بتحريك اليد فقط بل ليكن برسم الذهن والفكر أيضًا. ارسمه في كل مناسبة:
في دخولك وخروجك، في جلوسك وقيامك، في نومك وفى عملك، ارسمه باسم الآب والابن والروح القدس.
مارآفرآم السريانى
[4] يقول الآباء أن الذي يرسم ذاته بعلامة الصليب في عجلة بلا اهتمام أو ترتيب، فان الشياطين تفرح به. أما الذي في روية وثبات يرسم ذاته بالصليب من رأسه إلى صدره ثم من كتفه الأيسر إلى الأيمن فهذا تحل عليه قوة الصليب وتفرح به الملائكة.
[5] إن الإهمال في تأدية رسم الصليب أمر ربما ندان عليه. فان سم الصليب اعتراف بيسوع المسيح مصلوبًا، وإيمان بالآلام
التي عاناها فوق الصليب. أنه اعتراف وذكرى لعمل الرب ومكتوب في ارميا (48: 10) ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة".
[6] إن في إشارة الصليب كل روح الإيمان المسيحي:
• فيه اعتراف بالثالوث الآب والابن والروح القدس.
• فيه اعتراف بوحدانية الله كإله واحد.
• فيه اعتراف بتجسد الابن وحلوله في بطن العذراء.
• فيه اعتراف بقوة عملية الفداء التي تمت على الصليب بانتقالنا من الشمال إلى اليمين.
إذن فيليق بنا أن يكون رسمنا للصليب فيه حرارة الإيمان.
الأب يوحنا من كرونستادت
[7] نحن نكرم الصليب ونطلب قوته المحيية في صلواتنا قبل أن نطلب معونة القديسين أو شفاعتهم. . وذلك لأن الصليب هو علامة ابن الإنسان ورسم تجسده وآلامه لخلاصنا. فعلى الصليب قدم السيد المسيح نفسه ذبيحة لله الآب من أجل خطايانا لكل من يؤمن به. لذلك صارت علامة الصليب هي الإشارة المشتركة بين جميع المؤمنين كرمز للخلاص والمحبة المشتركة.
[8] فلنكرم الصليب المقدس الذي أعطينا أن نغلب به العدو اللئيم ونرشم به على جباهنا وقلوبنا وسائر أعضائنا لنطرد به الشيطان.
الصليب علامة الرب وخاتمه الذي صار الخلاص لآدم وذريته من أسر إبليس عدونا.
الصليب هو موضوع فخرنا في هذه الحياة وهو علامة إيماننا، كما قال بولس الرسول "وأما من جهتي فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم" (غل6: 14)
كذلك لا نستحي من الصليب لأنه مكتوب أن "كلمة الصليب عند الهالكين جهالة أما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله" (1كو1: 18)
بالصليب غلب قسطنطين الملك البار أعداءه وارتفع شأنه لما أظهر الرب له علامة الصليب مضيئة في السماء قائلًا له:" بهذه العلامة تغلب أعداءك". فغلب، وصار الصليب قوة الملوك وعزاءهم ونصرتهم. يضعونه فوق تيجانهم لكي يباركهم ويؤيدهم وينصرهم.
[9] الصليب هو قوة المجاهدين وسلاحهم فقد أوصاهم الرب قائلًا:
"إن أراد أحد يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مت16: 24).
[10] إن كانت الحية النحاسية قد أبطلت سم الحيات في العهد القديم فكم بالحرى صليب ربنا يسوع المسيح، الذي رفع عليه، لا حية نحاسية بل رب المجد وسكب دمه على الصليب ليصير لنا بالدم الحياة وبالصليب النصرة.
القديس كيرلس الأورشليمي
[11] إن الشياطين توجه هجماتنا المنظورة إلى الجبناء فارسموا أنفسكم بعلامة الصليب بشجاعة ودعوا هؤلاء يسخرون من ذواتهم أما أنتم فتحصنوا بعلامة الصليب.
[12] حيث وجدت إشارة الصليب ضعف السحر وتلاشت قوة العرافة.
أنبا أنطونيوس الكبير
[13] قدم الأنبا أنطونيوس بعض المرضى المعذبين من الأرواح النجسة إلى بعض فلاسفة الهراطقة قائلًا لهم: هل تستطيعون تطهيرهم بالحجج أو بأي فن أو سحر تختارون داعين أصنامكم؟
وإلا كفوا عن منازعتنا إن عجزتم وعندئذ ترون قوة صليب المسيح.
قال هذا ودعا المسيح ورشم المرضى ثلاث مرات بعلامة الصليب وفى الحال قام الرجال أصحاء وعقلهم سليم وقدموا الشكر للرب في نفس اللحظة.
سيرة أنبا أنطونيوس لاثناسيوس الرسولى
[14] حينما ترشم ذاتك بعلامة الصليب، اذكر دائمًا أنك تستطيع بقوته أن تصلب شهواتك وخطاياك على خشبة المخلص "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو1: 29). عالمًا أن في الصليب قوة إخماد الشهوة وإبطال سلطان الخطية برحمة المصلوب عليه.
[15] حينما ترفع نظرك إلى خشبة الصليب المعلقة فوق الهيكل، اذكر مقدار الحب الذي أحبنا به الله حتى بذل ابنه الحبيب لكي لا يهلك كل من يؤمن به.
فأينما وجد الصليب وجدت المحبة، لأنه هو علامة الحب الذي غلب الموت وقهر الهاوية واستهان بالخزي والعار والألم!
فإذا رأيت الكنيسة مزدانة بصلبان كثيرة فهذا علامة امتلائها بالحب الكثير نحو جميع أولادها.
[16] حينما يباركك الكاهن أو الأسقف ويرشمك بالصليب المقدس، افرح واقبل ذلك كبركة من السيد المسيح. طوبى لمن قبل رسم الصليب على رأسه بإيمان.
"فيجعلون اسمي على بنى إسرائيل وأنا أباركهم" (عدد6: 27).
[17] إن الشياطين ترتعب من منظر الصليب وحتى من مجرد الإشارة به باليد. لأن السيد المسيح له المجد ظفر بالشيطان وكل قواته ورئاساته على الصليب، وجردهم من رئاستهم وفضحهم علنًا فصارت علامة الصليب تذكيرًا لهم بالفضيحة وإشارة إلى العذاب المزمع أن يطرحوا فيه.
الأب يوحنا من كرونستادت
[18] إن الشياطين إذا رأت المسيحيين سيما الرهبان مجدين بابتهاج ومتقدمين، فإنها تهاجمهم أولًا بالتجربة ووضع الصعاب لعرقلة طريقهم محاولة أن تنفث فيهم الأفكار الشريرة. ولكن لا مبرر للخوف من إغراءاتها لأن هجومها يرتد خائبًا في الحال بالصلاة والصوم.. سيما إن كان المرء قد سبق فحصن نفسه بالإيمان وعلامة الصليب.
[19] إذا مدحت الشياطين نسككم ودعتكم مباركين فلا تصغوا إليها ولا تكن لكم معاملات معها. بل بالأحرى ارشموا ذواتكم وبيوتكم بعلامة الصليب، وصلوا تجدوها قد انقشعت. لأنها في غاية الجبن وتخشى جدًا علامة صليب الرب. لأن الرب قد جردها بالحق وأشهرها جهارًا على الصليب. (كو2: 15).
[20] جاء بعض الحكماء اليونانيين وطلبوا من القديس الأنبا أنطونيوس أن يشرح لهم سبب الإيمان بالمسيح. ولكنهم حاولوا أن يحاجّْوه بصدد الكرازة بالصليب الإلهي قاصدين الاستهزاء بالصليب.
فوقف انطونيوس قليلًا وأشفق على جهلهم ثم خاطبهم بواسطة مترجم قائلًا: إن ما اخترناه هو الاعتراف بالصليب علامة الشجاعة واحتقار الموت أما أنتم فقد اخترتم شهوات الخلاعة.
أيهما أفضل عمل الصليب وقت الجهاد ضد مؤامرة الأشرار دون مخافة الموت مهما أتى في أي وضع من أوضاعه، أم الالتجاء إلى آلهة الأحجار ؟!
ما الذي وجد في الصليب حتى يستحق الهُزء؟
بل الصليب هو علامة الغلبة والنصرة على الأعداء. في كل وقت إذا حملناه بالإيمان.
مكرمة جدًا علامة صليب يسوع المسيح الملك، إلهنا الحقيقي، فأضحت عنوان الشرف والفخار، بل صارت قوة لسحق الشيطان، وعمل المعجزات والخلاص من التجارب، وحصنًا للمؤمنين، وتعنى بذلك القديسون، وآباء الكنيسة في مختلف العصور.
أنه لمدهش بالحق، وغير مدرك، كيف أن قوة المسيح تحل في رسم الصليب لإطفاء الحريق وطرد الشياطين، وتسكين الآلام وشفاء المرضى.
وفى هذا الفصل سوف نرى عينات من اختبارات آباء الكنيسة، التي تؤكد فاعلية الصليب وقوته على الشياطين وشفاء المرضى، وعلى الطبيعة، والمادة وإطفاء النار والموت والحياة.
وقد انتصر به القديسون على الأعداء وكان مرشدًا وحارسًا لهم فأعطى قوة للمجاهدين، وأضاء قلب غير المؤمنين فآمنوا بالسيد المسيح المصلوب على الصليب، وصار مصدر إيمان لهم.
قوة الصليب على طرد الشياطين وإخماد قوة الشهوة
أ) القديس باسيليوس يخلص شابًا اتحد به الشيطان:
ارتبط الشيطان بشاب قلبًا ونفسًا، وأحب فتاة مسيحية، ولم يستطع أبواها إقناعها بتركه، فاعتمدا على الصلاة وسكبا دموعًا أمام الله ليتراءف عليها فاستجاب السيد المسيح لصلاتهما وأيقظ عقل الشابة، وأظهر لها أن الشاب الذي هوته غير مسيحي إذ لم تره قد دخل البيعة مدة إقامتها معه، ولا تناول من الأسرار المقدسة، ولا رشم نفسه بعلامة الصليب. فبكت وندمت ولما علم الشاب ذلك منها أنكر. فقالت له إن كنت أنت مسيحيًا، وما تقوله حق، فادخل معي الكنيسة، وتناول من الأسرار أمامي. ولما ألحت عليه، أخبرها بأنه عندما أراد أن يجذب قلبها إليه، ذهب إلى أحد السحرة الكفرة، وكتب له ورقة، وأمره أن يذهب بها إلى القبور. وهناك ظهر له الشيطان، ووعده أن يعطيه أمنيته على أن يكفر بالمسيح كتابة. فأجاب طلبه فأتحد به الشيطان قلبًا وعقلًا. فلما علمت الشابة بإقراره، بكت على نفسها، وأسرعت إلى القديس باسيليوس وأعلمته بما جرى أن الشاب مشتاقًا أن يعود للإيمان فرشمه القديس بالصليب، وأبقاه عنده، ورسم له صلاة ليصليها مدة أربعين يومًا وفى نهاية المدة دعا القديس رهبان الدير، وكان يرشم الغلام بالصليب والجميع يصلون يا رب أرحم. واستمروا يصرخون يا رب أرحم حتى سقطت الورقة، وقرأها على الشعب وبارك الشاب، وناوله من الأسرار المقدسة وسلمه لزوجته.
ب) القديسة أوفيمية تطرد شيطانًا أتاها بزى ملاك.
ثابرت القديسة أوفيمية بعد وفاة زوجها، على الاهتمام بعمل الصدقات الكثيرة، في أعياد تذكار الملاك ميخائيل، ووالدة الإله، والميلاد المجيد في كل شهر. حسدها الشيطان، وأتاها في شكل راهب، وجعل يحدثها ويؤكد لها أنه مشفق عليها ثم أشار عليها أن تتزوج لترزق أولادًا وأن لا تعمل صدقات لئلا ينفذ مالها. فأجابته إنني قد قطعت عهدًا مع نفسي بأن لا ألتصق برجل بعد زوجي.. فتركها الشيطان غاضبًا.
ولما أتى عيد الملاك ميخائيل، وقد اهتمت بما يلزم كعادتها ظهر لها الشيطان في زى ملاك، وأعطاها السلام قائلًا: أنه الملاك ميخائيل أرسله الله إليها يأمرها أن تترك الصدقات وتتزوج برجل مؤمن فأجابته قائلة: إن كنت ملاك الله فأين الصليب علامة جنديتك؟ فلما سمع منها هذا الكلام، عاد إلى شكله الأول وتبخر مثل الدخان.
ج) القديس بلامون يطرد شيطان الشهوة.
ظهر الشيطان للقديس بلامون في شكل امرأة، وأخذ يغريه على الزواج ذاكرًا بعض رجال العهد القديم الذين كانوا متزوجين ومع ذلك كانوا أبرارًا. ولكن القديس عرفه أنه الشيطان فرسم على نفسه علامة الصليب، وصلى إلى الرب فتحول الشيطان إلى دخان وغاب.
بعد ما عذب الوالي مارينا بعذابات قاسية، ظهر لها الشيطان وقال لها: "يا مارينا لو أطعت الوالي كان أصلح لك، فإنه رجل قاسى ويريد أن يمحوا اسمك من على الأرض". فعرفت أنه شيطان. وفى الحال أمسكته من شعر رأسه، وأخذت مرزبة من حديد وبدأت تضربه وتقول له "كف عنى يا شيطان" ثم ربطته بعلامة الصليب المجيد أن لا يبرح من أمامها حتى يعرفها جميع ما يعمله بالبشريين وبعدما عرَّفها طردته القديسة. ولما رآها الوالي تعجب كثيرًا.
إن الشياطين ترتعب من منظر الصليب، وحتى من مجرد رشمه باليد، لأن السيد المسيح له المجد انتصر على الشيطان وكل قواته على الصليب، وجردهم فصارت علامة الصليب تذكيرًا لهم بالفضيحة.
حبس القديس برسوم العريان نفسه في مغارة داخل كنيسة القديس مرقوريوس أبى سيفين - مدة عشرين سنة، ملازمًا الأصوام، والصلوات، ليل نهار بلا فتور. وكان في تلك المغارة ثعبان هائل. فعند دخوله رأى هذا الثعبان فصرخ قائلًا: "يا ربي يسوع المسيح ابن الله الحى. أنت الذي أعطيتنا السلطان أن ندوس الحيات والعقارب، وكل قوات العدو. أنت الذي وهبت الشفاء لشعب إسرائيل الذين لدغتهم الحيات، عندما نظروا إلى تلك الحية النحاسية. فالآن انظر إليك يا من علقت على الصليب كي تعطيني قوة بها استطيع مقاومة هذا الوحش". ثم رسم ذاته بعلامة الصليب وتقدم نحو الثعبان قائلًا: تطأ الأفعى وتدوس الأسد والتنين. الرب نورى وخلاصي ممن أخاف. الرب ناصر حياتي ممن أجزع. ثم قال للثعبان "أيها المبارك قف مكانك" ورشم عليه علامة الصليب، وطلب من الله أن ينزع منه طبعه الوحشي. ولم ينته من صلاته حتى تحول الثعبان عن طبعه وصار أليفًا...
قوة الصليب على المادة
أ) بالصليب تحول الماء المنتن إلى ماء حلو.
كانت الشعوب تحج إلى أورشليم للتبرك من الصليب المقدس، واتفق أن إنسانًا كان مسافرًا هو وجماعته مع الشعب إلى أورشليم يدعى اسحق السامري. هذا كان يبكت الناس، على تكبدهم المتاعب في الذهاب إلى أورشليم للسجود لخشبة.
وكان مع الشعب قسيس يسمى اوخيدس. وفيما هم سائرون في الطريق عطشوا، ولم يجدوا ماء فأتوا إلى بئر فوجدوا ماءها منتنًا مرًا. فضاق جمهور الشعب جدًا. وابتدأ اسحق السامري يستهزئ بهم، ويقول: إن أنا شاهدت قوة باسم الصليب آمنت بالمسيح، فغار القس أوخيدس غيرة إلهية وصلى على الماء المنتن ورسمه بعلامة الصليب فصار حلوًا وشرب منه كل الشعب ودوابه.
أما اسحق فانه لما تناول وعاء ليشرب، وجده منتنًا مُدَوِّدًا: فأتى إلى القديس أوخيدس وخر عند قدميه وآمن بالسيد المسيح وشرب من الماء فكان حلوًا في فمه وصارت في ماء هذه البئر قوة أن يكون حلوًا للمؤمنين، ومرًا لغيرهم. كما ظهر فيه صليب من نور وبنوا عليه كنيسة. لئلا يظن الناس أن قوة الشفاء كائنة في الخشب أو الذهب المصنوع منه الصليب، أو في مجرد لفظ الاسم فقط، صارت قوته وفاعليته متوقفة ومحدودة على الذين يؤمنون به فقط.
ب) الصليب يطرد ماء البحر المالح بعدما أغرق شمال الدلتا.
قال الأنبا يؤانس في ميمره، أن كنيسة القديسة دميانة في الجيل الثامن خربت بيد أحد حكام العرب وبنى مكانها قصرًا لإقامته. طغت بعد ذلك مياه البحر على هذه المنطقة، بسبب قطع الجسر الحاجز لمياه البحر، وصل الخبر للملك حسان بن عتاهية بأن بلادًا كثيرة خربت. أحضر البطريرك وألزمه برد كل شيء لأصله بقوة إيمانه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). أعان الله هذا البطريرك بمعاونة أحد قديسيه المعروف بـ"التفاحي" على هذه التجربة. فأقاموا صلاة القداس في بيعة سمنود المسماة صهيون، بحضور الملك. وخرج البطريرك رافعًا الصليب بيده، والشعب يصلى كيرياليسون والتفاحي خلفه. وللوقت هرب الماء قدام الناس تجاه البحر والأب البطريرك وخلفه الرجل التفاحي والكهنة والشعب والملك وعسكره إلى أن آتوا إلى الدميرتين، والماء هاربًا أمامهم، ووصلوا إلى الزعفرانة فضربوا الخيام للملك بجوار القصر المهدوم الذي تحته جسد القديسة دميانة وبقية الشهداء، والماء يجرى أمامهم مثل جرى السحاب أمام الريح الشديدة... أمر الملك بإعادة بناء بيعة القديسة دميانة.
قوة الصليب على الطبيعة والمرض
الصليب يشفى مريضًا ويجعل الجو صحوًا.
القديسة ثاؤغنسطا اختطفها رسل من قبل ملك الهند، وانطلقوا بها إلى بلادهم وصارت رئيسة على حشم الملك ونسائه. واتفق أن ابن الملك مرض مرضًا شديدًا، فأخذته في حضنها وصلبت عليه بعلامة الصليب، فعوفي لوقته، فشاع خبرها في تلك البلاد.
واتفق أن الملك ذهب إلى الحرب فحل عليه قتام وضباب، ولمعرفته بعلامة الصليب التي تعملها ثاؤغنسطا، صلب على الريح فصار الجو صحوًا، وبعلامة الصليب غلب أعداءه ولما عاد من الحرب ركع عند قدمي القديسة طالبًا المعمودية المقدسة، هو ومن بتلك المدينة. فعرفتهم أنه ليس لها أن تعمد، فأرسل الملك اندريوس إلى قس كان يقطن بالمنطقة فعمدهم جميعًا.
إذا حلت قوة المسيح في مكان ما، تستطيع أن تدعو الأشياء غير الموجودة إلى الوجود، أي تخلقها من العدم خلقًا.
فقد أعطى اسم المسيح لمعقد باب هيكل الجميل نعمة الشفاء. وباسم المسيح وقوة صليبه، استطاع المؤمنون أن يهبوا الصحة والشفاء للمرضى بإشارة الصليب المحيي.
كان سافورا ملك الفرس يعبد النار والشمس، وكان يعذب المؤمنين كثيرًا. فلما علم أن طاطس مسيحي، أمر أن يُعد له آتون نار ويطرح فيه. صلب القديس طاطس على النار فانطفأت، فتعجب كوبتلاس ابن الملك وصديق طاطس، وقال له كيف تعلمت هذا السحر؟ فأجابه ليس هذا من السحر، بل من الإيمان بالمسيح، فقال له هل أستطيع أن أفعل هكذا؟ أجابه بالإيمان تفعل أكثر من هذا.. فآمن كوبتلاس بالسيد المسيح، ثم تقدم إلى النار وصلب عليها، فانثنت راجعة خمس عشر ذراعًا فأرسل الوالي إلى الملك يبلغه ذلك الأمر. فأمر بقطع رأس طاطس، وتقطيع ابنه ثلاث قطع، ورميه على الجبال لتأكله طيور السماء فنالا أكاليل الشهادة.
ب) الصليب يحول نار الآتون إلى ندى بارد.
يذكر تاريخ الكنيسة في قصة استشهاد العذارى القديسات بيستس وهلبيس وأغابي وأمهن صوفية، أن الصغيرة أغابي وكان سنها تسع سنوات خافت أمها عليها بأن تجذع من التعذيب. . فكانت تقويها وتصبرها.
فلما أمر الملك أن تعصر بالهمبازين. استغاثت بالسيد المسيح فأرسل ملاكه وكسر الهمبازين. فأمر الملك أن تطرح في النار فصلت ورسمت وجهها بعلامة الصليب وانطرحت فيها فأبصر الحاضرون ثلاثة رجال بثياب بيضاء محيطين بها، والأتون كالندى البارد فتعجبوا، وآمن كثيرون بالسيد المسيح فأمر بقطع رؤوسهم.
قوة الصليب على شفاء المرضى
القديس جاؤرجيوس يشفى أعمى وأصم وأخرس.
قدمت امرأة ابنها إلى القديس جاؤرجيوس وكان أعمى، وأصم، وأخرس. فصلى إلى السيد المسيح، ورسم الطفل بعلامة الصليب، فشفى من جميع أمراضه.
أننا كمؤمنين نرى في كل إنسان أيًا كان... ذلك الأخ الذي مات المسيح لأجله، لذلك يصبح كل إنسان في نظرنا ذا قيمة لا تقدر، قيمة الدم الذي سفك من أجله.
لذلك جاهد القديسون بالصلاة والطلبة من أجل شفاء الآخرين، طالبين في صلواتهم قوة الصليب المحيي، الذي هو علامة ابن الإنسان ورسم تجسده وآلامه من أجل خلاصنا.
قوة الصليب على الموت والحياة
أ) بالصليب أعاد القديس الراهب أباهور الحياة إلى طفل ميت.
القديس أباهور الراهب الناسك، ذهب إلى الإسكندرية، بعد انفراده في البرية، وكان يسقى الماء للمسجونين والمنقطعين وحدث أن خيولًا كانت تركض وسط المدينة، فصدم أحدها طفلًا ومات لوقته. وكان القديس أباهور واقفًا في المكان الذي مات فيه الطفل، فدخل الشيطان في أناس كانوا حاضرين، وجعلهم يصرخون قائلين: "إن القاتل لهذا الطفل هو الشيخ الراهب". فتجمهر عليه عدد عظيم من المارة وكانوا يهزأون به. ولكن القديس أباهور لم يضطرب، وتقدم وأخذ الطفل واحتضنه، وهو يصلى إلى السيد المسيح في قلبه. ثم رشم عليه علامة الصليب المجيد فرجعت إليه الحياة وأعطاه لأبويه فتعجب الحاضرون ومجدوا الله.
ب) بالصليب أعاد القديس يوحنا الرسول الحياة لابن وحيد لأمه.
مضى القديس يوحنا الرسول إلى مدينة افسس، ونادى فيها بكلمة الخلاص. فلم يقبل أهلها تبشيره في أول الأمر، إلى أن حدث ذات يوم أن سقط ابن وحيد لأمه في مستوقد حمام كانت تديره. فأسرعوا لإخراجه، ولكنه قد مات. فعلا الصراخ من والدته فتقدم الرسول من الميت، وصلى إلى الله بحرارة ورشمه بعلامة الصليب ونفخ في وجهه، فعادت إليه الحياة للوقت فابتهجت أمه..
ومن تلك اللحظة أخذ أهل المدينة يأتون إليه ليسمعوا تعاليمه.
ج) بقوة الصليب أعاد القديس الأنبا يعقوب الحياة لطفل.
القديس العظيم الأنبا يعقوب بابا الإسكندرية الخمسون وهبه الله قدرة على عمل الآيات من ذلك أن أرخنًا شهيرًا اسمه مقاريوس من نبروه كان قد طعن في السن ولم يرزق نسلًا وبعد زمن أعطاه الله ولدًا، فصنع وليمة، ودعا إليها هذا القديس فحدث أثناء الوليمة أن مات الطفل فلم يضطرب والده، بل حمله بإيمان ووضعه أمام البابا واثقًا أن الله يسمع لصفيه ويعيد نفس الطفل إليه. فأخذ البابا الطفل الميت ورشمه بعلامة الصليب على جبهته وصدره، وقلبه وهو يصلى قائلًا: يا سيدي يسوع المسيح الواهب الحياة. أقم بقدرتك هذا الميت حيًا لأبيه ثم نفخ في وجهه فعادت نفس الطفل إليه، فدفعه إلى أبيه.
الصليب هو قوة المسيح للخلاص من الموت، فحينما نرسم علامة الصليب بإيمان نكون قد اعترفنا وآمنا بموت المسيح وقيامته ويكون عملنا بمثابة رؤية حقيقية بالإيمان المقدس لقوة يسوع المصلوب على عود الصليب، وثقة بانتصار المسيح القائم من الأموات على الموت، إذ بموته داس الموت وكسر شوكته وأبطل سلطانه، ووهب الحياة للذين يؤمنون به.
بقوة الصليب انتصر القديسون على الأعداء
كان البابا سانتويوس الأول الخامس والخمسون من باباوات الكرازة المرقسية، قد صعد إلى برية شيهيت ليصوم الأربعين المقدسة مع الآباء الرهبان. وفى أحد الشعانين أقبل كثير من العربان على البرية لنهب الأديرة، وأقاموا هناك على الصخرة الكائنة شرق الكنيسة، وسيوفهم مجردة استعدادًا للقتل والسلب فاجتمع الأساقفة والرهبان وقرروا مبارحة البرية قبل عيد القيامة المجيد ورفعوا الأمر إلى البابا سانتويوس، فقال لهم: أما أنا فإني لا أفارق البرية إلى أن أكمل الفصح وفى يوم خميس العهد تعظم الأمر وازداد القلق فأخذ هذا البابا عكازه الذي عليه علامة الصليب.وخرج إلى العربان وبيده ذلك العكاز فعندما رأوه رجعوا إلى الوراء، وفروا هاربين كأن جنودًا أشداء قد صدوهم عن ذلك المكان، ولم يعودوا إليه من ذلك اليوم بقصد سيء.
تحتفل الكنيسة بظهور الصليب المجيد الذي لربنا ومخلصنا يسوع المسيح احتفالين الأول في اليوم السابع عشر من شهر توت سنة 326 م.، على يد الملكة البارة القديسة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين الكبير، لأن هذه القديسة -وقت أن قبل ابنها قسطنطين الإيمان بالمسيح- نذرت أن تمضى إلى أورشليم. فأعد ابنها البار كل شيء لإتمام هذه الزيارة المقدسة.
ولما وصلت إلى أورشليم ومعها عسكر عظيم وسألت عن مكان الصليب لم يُعلمها به أحد، فأخذت شيخًا من اليهود، وضيقت عليه بالجوع والعطش، حتى اضطر إلى الإرشاد عن المكان الذي يُحتمل وجود الصليب فيه بكيمان الجلجثة. فأشارت بتنظيف الجلجثة، فعثرت على ثلاثة صلبان، وذلك في 326 م. ولما لم يعرفوا الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح أحضروا ميتًا ووضعوا عليه أحد الصلبان فلم يقم، وكذا عملوا في الآخر، ولكنهم لما وضعوا على الميت الصليب الثالث قام لوقته.
فتحققوا بذلك أنه صليب السيد المسيح. فسجدت له الملكة هيلانة وكل الشعب المؤمن، وأرسلت جزءًا منه إلى ابنها قسطنطين مع المسامير، وأسرعت في تشييد الكنائس المذكورة في اليوم السابع عشر
والاحتفال الثاني الذي تقيم فيه الكنيسة تذكار الصليب في اليوم العاشر من برمهات. وكان على يد الإمبراطور هرقل فى628 م. وذلك أنه لما ارتد الفرس منهزمين من مصر إلى بلادهم أمام هرقل حدث أنه عند مرورهم على بيت المقدس دخل أحد أمراء الفرس كنيسة الصليب التي شيدتها الملكة هيلانة. فرأى ضوءًا ساطعًا يشع من قطعة خشبية موضوعة على مكان محلى بالذهب فمد يده الأمير إليها، فخرجت منها نار وأحرقت أصابعه. فأعلمه النصارى أن هذه قاعدة الصليب المقدس، كما قصوا عليه أيضًا أمر اكتشافه، وأنه لا يستطيع أن يمسها إلا المسيحي. فاحتال على شماسين كانا قائمين بحراستها، وأجزل لهما العطاء على أن يحملا هذه القطعة ويذهبا بها معه إلى بلاده مع من سباهم من شعب أورشليم.
وسمع هرقل ملك الروم بذلك، فذهب بجيشه إلى بلاد الفرس وحاربهم وخذلهم وقتل منهم كثيرين. وجعل يطوف تلك البلاد يبحث عن هذه القطعة فلم يعثر عليها. لأن الأمير كان قد حفر في بستانه حفرة وأمر الشماسين بوضع هذا الصندوق فيها وردمها ثم قتلهما. ورأت ذلك إحدى سباياه وهى ابنة أحد الكهنة، وكانت تتطلع من طاقة بطريق الصدفة، فأسرعت إلى هرقل الملك وأعلمته بما كانت قد رأته فقصد ومعه الأساقفة والكهنة والعسكر إلى ذلك الموضع وحفروا فعثروا على الصندوق بما فيه فأخرجوا القطعة المقدسة سنة 628م. ولفوها في أقمشة فاخرة وأخذها هرقل إلى مدينة القسطنطينية وأودعاها هناك باحتفال عظيم.
في صلاة رفع بخور باكر في عيديّ الصليب، تحتفل الكنيسة بالصليب وتكرمه بطريقة بديعة مؤثرة للغاية فيحمل الشمامسة الصليب المقدس مزينًا بالورود ومضاء بثلاث شمعات ويطوفون البيعة به والكهنة لابسين البرانس حاملين المجامر.
ويبدأون بدورة الصليب حول المذبح ثم يقفون أمام باب الهيكل الكبير ويقرأون فصلًا من الإنجيل ثم يردون مرد الصليب ثم يقفون أمام أيقونة السيدة العذراء ويقرأون فصلًا من الإنجيل... وهكذا إلى أن يرجعوا مرة أخرى.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا كل هذا الطقس وما هو السر وراء هذه الدورة التي قد تُعمل بطريقة شكلية وقراءات سريعة آلية تفقدها معناها؟!
* الواقع أن الكنيسة تكرم الصليب حيًا معاشًا فيها بوضوح على مستويين:
1) الصليب الحيَّ والمعلن في الكنيسة كمبنى وممارسة وعبادة توصل النفس إلى حياة أبدية.
2) الصليب الحيَّ المعلن في الكنيسة كنفوس قديسين مكملين في المجد مبنيين كحجارة حية بيتًا روحيًا.
ففي دورة الصليب عندما نقف أمام الهيكل وأبواب الكنيسة واللقان والمعمودية... الخ فنحن في الواقع نُعَّيد للصليب من خلال عبادتنا الكنسية ودخولنا إلى بيت الله وفى جميع الممارسات الأخرى.
* وعندما نقف أمام أيقونات القديسة مريم العذراء والملائكة والشهداء والقديسين فنحن في الواقع لا نتذكر القديسين تذكارًا نفسيًا بل ندخل معهم في شركة حياتهم وجهادهم وفضائلهم وبالاختصار في شركة مع الروح الذي فيهم.
إن القديس أعطى ذاته كلية لله ليحل فيه وينيره.
. فذكرنا للقديسين إذن يكون بمثابة تنمية وتعميق لشركتنا مع المسيح وفى ذات الوقت دخول وارتباط بالخليقة الجديدة وفى سر قداستها.
والصليب في حقيقته هو الصلح بين السمائيين والأرضيين، والرباط الذي يربط هذه الطبيعة الممجدة فيهم والتي لا تزال في طريقها للتمجيد فينا.
الصليب في التقليد المقدس
"وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم " (غل6: 14).
{21} إشارة الصليب تراث تقليدي زاخر يتغلغل حياة المؤمنين من القرن الأول بتسليم رسولي.
"بخصوص المعتقدات والممارسات المحفوظة في الكنيسة والمسلمة عمومًا، بعضها استلمناه كتابة وبعضها الآخر تسلمناه كما وصلنا، في سر حسب تقليد الرسل.
وكلا هذين التسليمين لهما نفس القوة فيما يختص بالدين...
وعلى سبيل المثال للنوع الثاني فلنأخذ المثل الأول والعام، فمن الذي علمنا كتابة أن نرسم بعلامة الصليب؟ أو ما هي الكتابة التي علمتنا أن نتجه في الصلاة ناحية الشرق؟..
القديس باسيليوس
وإن كنا لا نستطيع أن نحدد استخدام الصليب، لأن من المسلم به أن إشارة الصليب يلزم أن تشاركنا حياتنا كلها بحركاتها وسكناتها، كما يخبرنا بذلك كل من القديس كيرلس الأورشليمي وترتلياس والقديس يوحنا ذهبي الفم.
{22} في كل خطوة نُقدم عليها أو أي حركة نقوم بها في دخولنا وخروجنا عندما نلبس ملابسنا، عندما نستحم عندما نجلس لنأكل، عندما نوقد المصابيح، وعندما نخلد إلى الفراش، وفى كل أعمالنا اليومية علينا أن نرسم الصليب على جبهتنا، وبخصوص هذه القوانين إذا كنتم تصممون على العثور على استشهادات من الأسفار المقدسة تثبتها فلن تجدوا شيئًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). فالتقليد يقوم لكم بمثابة المصدر الوحيد الذي انحدرت منه هذه الوصايا إليكم، كما تقوم العادة السارية كموثق لهذه الشهادة، والإيمان كالشاهد.
العلامة ترتليانوس
{23} وصارت علامة الصليب تُرسم على ملابسهم وعلى تيجان الملوك وتُرسم في الصلوات، وعلى المائدة المقدسة يرتفع الصليب، وفى كل مكان من أرجاء العالم يضيء الصليب بأكثر مما تضيء الشمس.
يمكننا أن نقسم أنواع مواقف الحياة التي تستدعى الالتجاء إلى استخدام الصليب:
أولًا: مواقف الصلاة:
من أعظم المصادر التي نستقى منها ضرورة استخدام قوة الصليب أثناء الصلاة، هي التقليد الرهباني الذي لا يزال حيًا في كثير من تسليماته منذ نشأة الرهبنة الأولى، وذلك لأن الرهبنة هي حياة الصلاة بجملتها.
والحياة الرهبانية هي في الواقع حرارة الكنيسة غير المنطفئة، والدعوة الرسولية الأولى غير المتزعزعة.
ونرى أن حمل الراهب للصليب أثناء الصلاة، أمر واقعي مطابق لحياته، لأن منظر الصليب في يده أو أمامه يشعله إشعالًا إذ يزكى موقعه كمن يتبع المسيح فعلًا، قلبًا وعقلًا وروحًا.
والصليب لا يفارق يد الراهب أو فمه أو قلبه..!
وعند بدء كل سجدة يصنعها الراهب في صلواته يرشم صليبًا على جبهته استمرارًا للمتابعة العقلية والقلبية للمسيح، إذ أن السجدة هي تعبير عن التوبة والانسحاق وإشارة الصليب هي قوة الاتضاع بعينها التي تغذى التوبة أي المطانية.
هذا الصليب إذن يرفع فكرنا إلى الوضع الرهباني الأصيل في حياة الجهاد والصلاة، فالراهب يلبس الصليب بطقس خاص وصلاة وتسليم أنواع صلوات حتى يستمد منه قوة مستمرة على التجرد المطلق وإماتة الشهوات والجسد والسهر قبالة الحروب التي يثيرها العدو.
أي أن الصليب في حياة الراهب يمتد من أوقات الصلاة ليشمل كل ساعات العمر. لذلك يُدعى الرهبان الناسكون بلُباس الصليب.
ولابسي الصليب بالمعنى الإنجيلي، هو إنسان صار لا شيء مثل ميت.
وفى التقليد الرهباني الأصيل كما سلمه الملاك للأنبا باخوميوس يفرض على الراهب أن يلبس لباس الرأس عليه صليب بخيط قرمزي. . لأنه معروف أنه حصن الإنسان الذي يتحصن فيه ضد العدو هو الفكر المقدس، لذلك صار الصليب على الجبهة قوة تعين الراهب في صراعه الفكري مع قوات الظلمة العقلية غير المنظورة.
{24} بواسطة الصليب يستطيع الإنسان أن يطرد كل خداعات الشياطين.
القديس اثناسيوس الرسولى
ومن معدات الراهب التقليدية الهامة في حياته، عكازه وتسلمته الرهبنة عن مؤسسها القديس أنطونيوس [251-256 م]، وهى العصا التي يتوكأ عليها أثناء وقوفه في الليل والتي يصحبها معه في تنقلاته ورحلاته عبر الصحراء، ولكن هي في الظاهر عصا، وفى الحقيقة سلاح خفي يعرفه العدو فهي صليب، إنما صليب خاص معروف لدى علماء فنون الصليب، بصليب انطونيوس ويسمى: Crux commissa أي صليب الاستعداد أو الانطلاق، وهو على شكل T. لأنه يوجد ثلاثة أشكال رئيسية للصليب:الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح والمتفق على شكله + ويسمى Crux immissa. والصليب الذي صلب عليه أندراوس الرسول × ويسمى Crux Decussata.
والمعروف أن عكاز الراهب هو في حقيقته صليب خفي يعتبر أول استخدام لصليب اليد، لأن الكنيسة ظلت مدة في البدء تستخدم أصابع اليد في رشم الصليب.
إذن فعكاز الراهب هو بداية استخدام الصليب في اليد، لذلك نرى من التقاليد الراسخة والمتبعة تمامًا أن الأسقف يحمل عكازه إياه القديم بصفته راهبًا، أي صليبه الخفى الذي سمى فيما بعد بعصا الرعاية، عوضًا عن الصليب في اليد.
أما الكاهن فلا يحمل عكازًا حسب التقليد الأصيل وإنما يحمل صليبًا في يده دائمًا.
وليس في طقس سيامة الكاهن أي إشارة إلى تسليمه عصا الرعاية، ولكن في سيامة الأسقف يدخل عكازه القديم معه في الرسامة وتبارك الكنيسة عليه ليصير عصا الرعاية.
وانتقل شكل العكاز ومعناه إلى الكنيسة كلها بعد ذلك، فصارت تحمله على البيارق للتعبير عن النصرة والقيامة. كل هذه التقاليد الرهبانية لم تنحصر في الطقس الرهباني بل صارت مشاعة للكنيسة كلها بكل شعبها، لأن الرهبنة كانت ويجب أن تظل نموذجًا للحياة المسيحية، نموذجًا واضحًا وأصيلًا وليس وضعًا خاصًا أو نموذجًا فريدًا أو حياة غريبة، فالرهبنة صورة أصيلة للكنيسة الأولى. لذلك نرى العلمانيين الأتقياء يستخدمون نفس هذه التقاليد عينها بصورة مبسطة.
{25} إن خشبة الصليب ذات قوة فعالة للخلاص لكل الناس، ولو أنها كما أعلم جزء من شجرة حقيرة ربما أقل قيمة من كافة الأشجار، ولكن العليقة التي رآها موسى أيضًا كانت كذلك والله استعلن بحضوره فيها... فهذه كلها قد جُعلت واسطة لتكميل معجزات عظيمة لما قبلت قوة الله.
(القديس غريغوريوس النيسى)
ومن الأمور التقليدية المتوازنة في الحياة الرهبانية الأصيلة، أن صليب الراهب الذي كان يستمد منه القوة والعون في صلواته أثناء حياته كان يوضع في يده اليمنى وتُسند يده على صدره عندما توضع جثته في القبر. وذلك لأن من المقطوع به أن للصليب قوة الغلبة على الموت والفساد ومن له سلطان الموت.
{26} علامة الصليب تذكار الانتصار فوق الموت وفوق فساده.
ثانيًا: مواقف الخطر وزمان الأتعاب والتجارب:
أبناء النور ينظرون للمخاطر والأتعاب والتجارب كحرب ينبغي ملاقاتها بقلب شجاع وبأس وقوة. لذلك يسارعون بدون قلق إلى لبس أسلحة الحرب لمواجهة العدو في الداخل والخارج، في الداخل لصد كل هجمات الشكوك والحزن المفسد والتذمر واليأس، وفى الخارج لاحتمال جروح العدو وأشواكه التي تصيب الجسد والاسم والكرامة والآمال الكاذبة.
هنا الصليب يدخل كسلاح فعال جدًا في هذه الحروب ويأتي بنتائج منظورة ومحسوسة وباهرة للغاية.
27} من يريد أن يختبر هذا عمليًا فليأت وينظر كيف تبطل خداع
{28} بدلًا من أن تحمل سلاحًا أو شيئًا يحميك، احمل الصليب واطبع صورته على أعضائك وقلبك، وارسم به ذاتك لا بتحريك اليد فقط بل ليكن برسم الذهن والفكر أيضًا. ارسمه في كل مناسبة في دخولك وخروجك، في جلوسك وقيامك، في نومك وعملك، ارسمه باسم الآب والابن والروح القدس .
القديس مارافرام السريانى
{29} نحن نكرم الصليب ونطلب قوته المحيية في صلواتنا قبل أن نطلب معونة القديسين أو شفاعتهم. وذلك لأن الصليب هو علامة ابن الإنسان ورسم تجسده وآلامه لخلاصنا. فعلى الصليب قدم السيد المسيح نفسه ذبيحة لله الآب من أجل خطايانا لكل من يؤمن به.
لذلك صارت علامة الصليب هي الإشارة المشتركة بين جميع المؤمنين كرمز للخلاص والمحبة المشتركة.
القديس كيرلس الأورشليمي
ثالثًا: مواقف السلامة والراحة والفرح:
يوجد سلام حقيقي ويوجد سلام كاذب، وتوجد راحة حقيقية وراحة كاذبة، ويوجد فرح حقيقي وفرح كاذب، والفرق بين الحقيقي والكاذب في الحياة المسيحية هو أن الحقيقي يدوم والكاذب لا يدوم بل ينتهي ويزول إلى النهاية.
أولاد مسرات هذا الدهر ينغمسون في الفرح حتى آخر لحظة، ولا يستيقظون منه إلا على طعنة من طعنات العالم تنزعهم من أفراحهم انتزاعًا لتطرحهم في التعاسة واليأس الذي يبدد كل سلامهم الماضي ويأتي على كل آمالهم... وإن هم حاولوا المواجهة والحرب في آخر لحظة، يجدون يدهم عاجزة عن حمل الصليب وعكازهم مكسورًا..!
أما السلام والراحة والفرح الحقيقي، فلا يعرفها إلا أولاد النور والتي توجد وتنمو في كل وقت وفى كل ظرف بل ولا تزدهر وتتجلى إلا فيما يسميه الآخرون بالمصائب والمحن، ففيها يحلو النشيد نشيد الصليب والتأمل فيه ويرتفع رسمه في اليد وفى القلب والفكر عاليًا. ويصير تمجيده كسلاح النجاح ويعتز الصليب جدًا في عين من جاوزوا الموت وقاموا...
{30} إن مجد الصليب قاد كل من فقد البصيرة بسبب الجهالة من الظلمة إلى النور وفك قيود كل من ارتبطوا جدًا بالخطية وفدى كل عالم الإنسان.