أحيانا يصل بي الامر عندما أكون وحيدة بالمنزل للبكاء والصراخ كالمجنونة، المشكلة أنه لا يوجد أسباب قوية لذلك وهو ما يجعل الامر أصعب، لأنه بوجود أسباب، تنتهي المشكلة عند حل تلك الاسباب.
هناك بالقطع أسباب قوية لذلك. ما ينقصك هنا ليس حقا الأسباب وإنما فقط "
الوعي" بهذه الأسباب. ترفض عقولنا أحيانا أن تعترف بنوع معين من المشاعر، وتكون النتيجة أن تغوص هذه المشاعر إلى
أعماق النفس البعيدة المظلمة (أو ما يُسمى "العقل الباطن") وهناك
تختفي بالفعل عن وعينا. لكنها فقط تختفي، أبدا لا تموت. بالعكس: هناك في هذه الظلمة بعيدا عن وعينا ـ وحيث تتآلف وتتحد مع غيرها من الآلام الدفينة منذ طفولتنا ـ تجد هذه المشاعر فرصة للنمو في صمت وبطء. تصير البذور الصغيرة مع الوقت أشجارا، وقد تنمو إلى حد
التوحش أحيانا. هكذا لا تستمر هذه المشاعر فقط بالتأثير في أفكارنا وسائر حياتنا دون وعي، بل قد تتحول في بعض الأحيان إلى "
شياطين" بالفعل، بالمعنى الكامل للكلمة، تسكننا وتوجّه عقولنا وتتحكم فينا وقد نرتكب حتى بعض الجرائم بسببها دون أن نشعر!
هذه بالطبع هي الحالات المتطرفة والحادة جدا. هذه ليست حالتك بالتأكيد. غاية ما أقول هو أن
هناك بالقطع أسباب وجيهة وقوية وراء ما تعانين. أنتِ شخص متزن عاقل ناضج ـ كما يبدو من رسائلك ـ كما أنكِ ما زلتِ تعملين وما زالت علاقاتك الاجتماعية عموما قائمة بشكل جيد. لا يمكن بالتالي أن
«تبكي وتصرخي كالمجنونة»، أو
«لا تستطيعين إخماد النار داخلك» ـ على حد تعبيرك ـ هكذا دون أن يكون هناك حقا أسباب قوية وراء ذلك!
(لا يمكننا على أي حال أن نتوغل أبعد من هذا فيما يخص المشاعر الدفينة أو المكبوتة لديك. نحتاج أن نعرف الكثير جدا عنك، وهذا بالطبع ليس متاحا. كل ما يمكن الإشارة إليه بالتالي، فقط الإشارة من بعيد وباختصار، هو علاقتك بزوجك، شريك حياتك الذي لا تشاركينه رغم ذلك محنتك، بل «لا تريدين إدخاله بالأمر» على حد تعبيرك! تأملي وابحثي جيدا في هذه المساحة، ربما تكمن الأسباب كلها هنا)!
***************************
لا أريد الذهاب عند الطبيب لأني أعمل بمهنة اجتماعية، ان شاع ما أعانيه قد يُعرض مهنتي للخطر.
كل مَن يذهب إلى الطبيب النفسي يذهب إليه سرا.

الطبيب ـ إضافة إلى تأهيله العلمي والعملي ـ يتيح لك أيضا فرصة البوح بحرية وفي خصوصية تامة، وهو ما قد تحتاجين إليه أحيانا. فكّري بالتالي مرة أخرى بالأمر. يمكنك حتى الذهاب إلى الطبيب باسم مستعار كما تفعل بعض الشخصيات العامة أحيانا.
(ربما يعود الأستاذ روك أيضا ببعض النصائح في هذا الإطار، كما أشار إلى ذلك. على أي حال منهجي شخصيا ليس الطب النفسي، خاصة عندما تكون الحالة بسيطة كحالتك. فقط أريد بقاء الاختيارات كلها مفتوحة أمامك. لا تغلقي باب الطبيب هكذا كليا ما لم تشعري أولا بتحسن حقيقي عبر أي باب آخر).
***************************
أنا اكتب هنا وأزعج غرباء بمشاكلي لأني لا أستطيع أن ألجأ لعائلتي...
لا يوجد أي غرباء حقا ولا يوجد أي إزعاج.

نحن هنا ـ بل سائر الناس في عالمك ـ
ليسوا سوى أدوات يستخدمها الرب في التواصل معك وفي توجيهك ومساعدتك وتدبير حياتك عموما. والرب بالطبع ليس غريبا، بل يعرفك تماما، حتى أكثر مما تعرفين ذاتك. لا تنظري من ثم إلى هذا الغريب أو ذاك، هنا أو هناك، فتجزعي أو تفرحي. بل انظري بالأحرى إلى
ما وراء ذلك كله، وإلى
ما يحرك هؤلاء جميعا (بما في ذلك أنتِ شخصيا وكيف جاء بكِ إلى هنا)!
***************************
صليت كثيرا وصرخت كثيرا للرب متسائلة لما تركني...
مستحيل! الرب لا يتركك أبدا، ولا لحظة واحدة، ولا حتى غمضة عين! بل هذا
الفكر نفسه هو المشكلة وهو سبب غربتنا، ومن ثم تعاستنا!
لكن التعاسة نفسها والألم ـ من ناحية أخرى ـ قد تكون أحيانا أفضل ما يحدث بحياتنا! بعض
الشفاء لا يتحقق إلا عبر هذا الألم، ومن هنا يسمح الله به. يسمح الله حتى بغربتنا عنه أحيانا ـ وبكل ما يعقب ذلك من حزن ووحدة وتعاسة ـ لا لشيء إلا لأن ذلك ما يطهّرنا حقا، ما يحرق حتى تلك "الشياطين" الدفينة بأعماقنا، فتتحرر من ثم قلوبنا وتنكسر قيودها ونكون بذلك أقدر فيما بعد على الصعود حقا إلى عتبات الجمال ومحضر الأنوار ومشهد القدوس الذي دونه كل وصف!
ولكن حيث يسمح الله:
نحن في المقابل لا نسمح! بل نرفض ونأبى ونقاوم!
لذلك فأول الشفاء يا أختى الغالية هو
ألا نقاوم. علينا أن نقبل كل ما يحدث حتى لو لم يكن يرضينا، بل حتى لو كان مؤلما.
"القبول" ببساطة هو كلمة السر، وهو نفسه ما نسميه "
التسليم" للمشيئة الإلهية. القبول هو نفسه راحتنا من المعاناة، لأن
مصدر المعاناة ليس أبدا ما يحدث في حياتنا، بل مقاومتنا لما يحدث في حياتنا! المقاومة نفسها هي سبب المعاناة.
وعليه فاقبلي أولا حتى هذا الاكتئاب، كل تلك الأحزان والآلام والنيران والمرارة وكل هذا الذي تعانين منه. اقبليه تماما، دون أية مقاومة أو رفض، بل
بابتسامة واسعة واثقة شامخة،
وبإعلان واضح أنك تقبلين مشيئة الرب في حياتك أيّا ما كانت، حتى لو كان الألم أضعاف ذلك!
هذا نفسه هو ما يطفئ المعاناة داخلنا بل يحرق الشياطين المختبئة بأعماقنا، لأنها في الحقيقة تقتات وتعيش على
مقاومتنا، على كراهيتنا ورفضنا وإنكارنا لما يحدث أو لما نشعر!
***************************
أنا اثق بالرب لكن لا أستطيع اخماذ النار داخلي بذلك، جربت هوايات كثيرة كالمطالعة، دراسة لعة جديدة، الرياضة وقبل كورونا انشغلت قليلا بالسفر ولكن كل ذلك مجرد هباء، أتحسن لبضع ساعات ثم انتكس لمدة
نعم، لأن ذلك كله "
هروب" لا أكثر. نحن نقضي حياتنا كلها في
محاولة مستمرة للهروب! هذه ليست مشكلتك الخاصة ـ لأنك تعانين من الاكتئاب مثلا ـ بل مشكلتنا جميعا. نحن لا نستطيع أن نخلو لأنفسنا ولو لدقائق معدودة. بمجرد أن نخلو لأنفسنا: تزحف داخلنا فورا مشاعر الوحدة والمعاناة فنسرع على الفور نحو
مهرب جديد: نطلب أحدهم على الهاتف.. نخرج لقضاء السهرة هنا أو هناك.. نتصفح الفيسبوك أو الإنترنت عموما.. نفتح التليفزيون ونبحث فيه عما يلهينا.. يشرب حتى بعضنا هذا أو ذاك من مواد مخدّرة تطيح بعقله تماما بحيث يتوقف كليا عن التفكير.. يحرق بعضنا نفسه بالعكس في العمل المتواصل ـ بزعم زيادة الدخل أو ظروف الحياة ـ وهو ليس في الحقيقة سوى مهرب آخر.. بل يُغرق بعضنا نفسه أحيانا في العبادة والصلاة والخدمة ـ أيضا بزعم التقرب إلى الرب ـ وهكذا!
فكل ذلك ليس سوى
محاولات مستمرة من الهروب الذي لا يتوقف أبدا، من
معاناة دفينة تسكن داخلنا، نعرفها جيدا، ولذلك نرفض مواجهتها ونخشاها ونتجنبها بكل وسيلة ممكنة! هذه من ثم مشكلة عامة ـ مشكلة الإنسانية كلها ـ لا مجرد عَرَض خاص من أعراض الاكتئاب!
(والسبب طبعا هو أن هناك "جرح" عميق في كل نفس إنسانية، هو ما نسميه مسيحيا "السقوط"، ونصفه بأنه جرح البتر أو الانفصال عن الله، والذي لا شفاء منه بالتالي إلا بأن نعود إلى هذا الأصل الإلهي أصل وجودنا الذي انفصلنا عنه).
***************************
الحديث على أي حال ذو شجون كما يقال، وقد يطول بنا دون نهاية. نكتفي من ثم بهذا القدر وأوصيكِ فقط ـ مرة أخرى ـ
بالقبول في هذه المرحلة. هذا هو كل المطلوب. سيرفعك القبول بحد ذاته إلى درجة أعلى من الوعي، ومن هناك سوف ترين حتى مشكلتك نفسها على نحو أفضل، وسوف يرفعك هذا بحد ذاته مرة أخرى، وهكذا، حتى يتحقق الشفاء أو العبور التام أخيرا من هذه المحنة بمشيئة الرب.
(على سبيل المثال: سوف تدركين في مرحلة ما أنكِ لستِ حتى مكتئبة! أنتِ ببساطة ـ عبر عقلك وأفكارك ـ تصنعين "شخصية" لا وجود لها، هي "الشخصية المكتئبة"، ثم تتقمصين بعد ذلك هذه الشخصية! أما "الحقيقة" فهي أنكِ بالعكس تماما: في عين الرب وفي محضره لا تغادرين أبدا. أنتِ من ثم في قمة السعادة بالفعل، في قمة الفرح والسلام، الآن في هذه اللحظة، لولا فقط هذه "الشخصية" أو تلك من الشخصيات التي تلبسين وتصدقين! أما حين "ننكر أنفسنا" حقا و"نلبس" المسيح، بدلا من كل هذه الشخصيات الوهمية، فعندئذ يكون هذا ما نسميه "المولود من الله"، وعندئذ يتحقق قول قديسينا أخيرا: تأنسن الإله كي يتأله الإنسان)!