لقد ظهر لنا
اليوم يولد في بيت لحم من البتول، اليوم يأتي الذي لا بدء له، والكلمة
يتجسد.
ها مرة أخرى نتصل مع السر العظيم لعناية الله الرهيبة. نشارك برعدة
في جوهر عيد ميلاد المسيح بالجسد، كل بحسب غنى قلبه، بحسب أصالة
النقاوة والطهارة الداخلية. في ليل عدم رجاء المسكونة، المسيح السراج
أخذ جسداً وصار شروق الجميع.
العالم الذي من حولنا، وفي أحسن أحواله، مجرد أنه يتعامل مع سر تجسد
الله. هكذا الميلاد للبعض مجرد انقطاع الروتين اليومي، ولآخرين مجرد
يوم عطلة عن العمل أو الدراسة، ولآخرين مجرد ليلة سمر وطرب،
وللبعض هو مجرد وحدة وألم. ولآخرين الميلاد هو فرحة تجارية
استهلاكية.
ولكن الميلاد بالنسبة لنا، الكنيسة، هو مستوى آخر، هو يوم احتفال
وبهجة، يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: "هو عيد، نعيد اليوم عناية
الله بالبشر، لكي نعود ونتصالح مع الله، لكي نخلع الإنسان القديم ونلبس
الإنسان الجديد. وفي آدم نموت وفي المسيح نحيا". أي أن الميلاد بالنسبة
لنا هو فحوى ومعنى العيد، ونعيد لمجيء المسيح الله ابن البشر، لنحيا
بقربه، أو لنعود إلى الله لنلبس الإنسان الجديد بعد أن نخلع الإنسان القديم.
وكما بعدم الطاعة متنا مع آدم هكذا نحيا بالمسيح.
الرب لم يأت من إحدى طرقات العالم بل بطريق السر. ولد في ليلة
موحشة، "ظهر بالجسد وفي الظلمة جلس"، هو الذي لا بدء له جاء وأخذ
بداية، هو الذي فوق التاريخ دخل التاريخ، هو خالق الجميع أخذ هيئة
المخلوق، لكي يحررنا من ثقل التراب ولكي يعيد لنا فتح أبواب السماء.
أشرق ليلة عدم الرجاء بنور محبته العظيم.
تلك الليلة، ليلة عجائب بيت لحم، لم يسقط فقط حاجز الخطيئة الذي يفصل
بين الخالق والمخلوق، بل سقططت جميع الحواجز والعوائق التي تفصل
بين البشر، وظهرت الأخوة الحقيقية، المحبة.
البشر ينظرون دائماً إلى السماء، والله ينظر إلى الأرض، المعطي الحياة.
حرية السماء تأتي وتنسكب على الأرض، وخلاص الناس يصير من
خلال جسد المسيح الكريم ودمه الأرض.
لأول مرة، الأرض والبشرية لم يظهرا التواضع أمام التضحية الإلهية. إذ
من خلال عناء وعذاب التاريخ تمكن أن يهيء وعاء الشرف الكلي النقاوة،
حيث سكن الله وأخذ جسداً. في اضطراب عدم رجاء العالم هيئ وأُعِد
إنسان وأُهل لأن يستحق أن يحمل ثقل اللاهوت الرهيب.
العذراء الكلية القداسة، "السحابة النيرة والحية"، في عمق السقوط
والانحطاط وجدت الرفعة النفيسة: القداسة. في عمق عدم الرجاء واليأس
ظهر المستحق: التهذيب. في عمق الانحطاط الأخلاقي للعالم أُنير الفريد:
الطاعة لمشيئة الله.
ميلاد الرب، الذي نعيد له بهذه الأيام، هو الدرس الأسمى أمام عدم الرجاء.
هو دمعة الفرح المؤكد أنه نحيا في ربيع النعمة الأبدي. وكيف أن الموت
الذي يهدد باستمرار ويجعل الحياة سريعة ليس هو إلا مجرد انتقال من
وادي الدموع إلى ميناء البهجة الداخلي وإلى البهجة الروحية.
الله وجد في زمان ومكان، وهو غير الموسوع في مكان ولا زمان، قبل
وانحنى أمام الحقبات الصعبة للفساد. هو الذي ليس له "مكان" والذي لا
يخضع لزمان. وضع في مذود للبهائم غير الموسوع في مكان، والهري
وضع في فترة زمنية، ثلاث وثلاثين سنة، لكي يهيء، ويدفع ثمن خلاصنا.
مندهشون نحن أيضاً اليوم ونشعر بالسر لأنه وضِع لنا قانوناً جديداً، إيمان
الحياة والرجاء والمسرة: قانون الأعجوبة. من خلال هذا القانون، تتغير
رؤية هذا العالم بشكل جذري. في ليلة ميلاد الفادي، أُعيدت للجميع
خليقتهم. ومن مغارة بيتّ لحم عالم جديد يقفز، عالم الخلاص والتأله. عالم
فحواه ومعناه الحياة، عالم يبطل الموت. عالم يرهب المنفى، ويصير ابن الله
لأن الله نفسه زاره في منفاه، وعمل ليلته الصحراوية تزهر. ربيع النعمة
الأبدي يشرق مع شمس العدل من المغارة، ربيع الطهارة، ربيع الشهامة
الأخلاقية، ربيع العجائب، والدموع والدماء.
المؤمنون يحتفلون مستنيرين ورافعون رؤوسهم فوق الظلام ويجدون مرة
أخرى أبدية الخلاص، أبدية الحرية، كأبناء الله حقيقيين، وارثين إرث
المحبة العظيم.
"المسيح يولد لينهض الصورة الساقطة". وفي دستور إيماننا نعلن بوضوح:
"الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح
القدس ومن مريم العذراء وتأنس"، كلمة – الله، المجد، العزة، الكرامة،
والسجود، ولجميع المؤمنين النعمة، الفداء، والخلاص!.
الداعي لكم خيراً - الأرشمندريت د. ميلاتيوس بصل
الرئيس الروحي لرام الله وتوابعها
الرئيس الروحي لرام الله وتوابعها