كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,326
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
خلال البقيه من ( صوم الميلاد )
سوف أنقل لكم
كتاب قداسه البابا ( كتاب تأملات في الميلاد لقداسة البابا شنودة الثالث )
كل سنه وأنتم طيبين وبخير
آميـــــــــــــــن


تابعـــوا معــى

 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,326
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
1- مقدمة عن الميلاد



" فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلي ذاته آخذاً صورة عبد، صائراً في شبة الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (فى2: 5 8).

إن السيد الرب، إذ أخلي ذاته وأخذ شكل العبد لم يقتصر ذلك على حادثة الميلاد فحسب، بل شمل ذلك حياته كلها التي لا تدخل تحت حصر.

ميلاد السيد المسيح المتواضع كان مجرد مظهر من مظاهر إخلاء الذات وسنحاول أن نتبع إخلاء الرب لذاته في كل ناحية... ونحاول أن ندرك الأسباب التي من أجلها أخلي ذاته... ثم نأخذ لأنفسنا عظة عملية، محاولين أن نطبق عنصر الإخلاء في حياتنا...

وعلينا أن نفهم بالدقة: ما هو معني إخلاء الذات...

إنه لم يخلها طبعاً من جوهرة ولا من طبيعته ولا من لاهوته الذي لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين. بل أخلي ذاته من الأمجاد المحيطة به ومن عظمة السماء. وسننشر هذا وغيره بالتفصيل في الصفحات المقبلة هنا في موقع الأنبا تكلا...

جميل بنا أن نلاحظ أن هذا الإخلاء لم يكن إقلالاً من شأن الرب، وإنما هو عظمة جديدة في مفهومها. كان الناس يفهمون العظة في مظاهر خارجية. أما عظمة من يخلي ذاته ويأخذ شكل العبد، فلم يكن أحد يتصورها. هذه قدمها الرب لنا...

2- أخلى ذاته في ميلاده



عجيب هو الرب في اتضاعه، عندما أخلي ذاته في ميلاده.

· نزل إلى العالم هادئا بدون ضجة، ودخله في خفاء لم يشعر به أحد... لم يحدد من قبل موعد مجيئه.

· وهكذا ولد في يوم مجهول، لم تستعد له الأرض ولا السماء، ولم يستقلبه فيه أحد. يوم ميلاده كان نكره بالنسبة إلى العالم، مع أنه من أعظم الأيام إذ بدأ فيه عمل الخلاص الذي تم على الصليب.

ولو نزل الرب إلى العالم في صفوف ملائكته، على سحابة عظيمة، أو في مركبة نورانية يحيط به الشاروبيم والسارافيم... وقد ارتجت له السموات وكل قوي الطبيعة... أو لو أن السماء احتفلت بميلاده، وليس بنجم بسيط يظهر للمجوس، بل اهتزت له كل نجوم السماء وكواكبها... لو حدث ذلك، لقلنا إنه أمر يليق بالرب ومجده...!

لو أن شخصاً كان مسافراً إلى مكان، لأرسل الرسائل قبلها، فيستقبله الأحباء والأصدقاء والأقارب والمعارف والمريدون، وربما يستاء إذا قصر أحد في انتظاره أو في استقباله....

أما السيد المسيح فدخل إلى العالم في صمت، بعيداً عن كل مظاهر الترحيب، في ضجيج، وبطريقة بسيطة هادئة... دخل بنكران عجيب للذات، أو في إخلاء عجيب للذات وكل الذين استقبلوه جماعة من الرعاة المساكين، ثم المجوس...

· هناك أشخاص يحبون الضجيج وبهرجة الترحيب في دخولهم وفي خروجهم، لأن فاعلية ميلاد السيد المسيح لم تغيرهم بعد...

لم يخل السيد المسيح ذاته في هدوء مجيئه إلى العالم فحسب، بل في كل ظروف ميلاده. فكيف كان ذلك؟

· ولد من أم فقيرة يتيمة، لم تكن تجد من يعولها. عهد بها الكهنة إلى يوسف، خطبوها له لتعيش في كفنه.

وولد في قرية هي: "الصغرى بين رؤساء يهوذا" (مت2: 6).

وسكن في الناصرة التي يعجب الناس إن أمكن أن يخرج منها شيء صالح (يو1: 46). ودعي ناصرياً.

وعاش في بيت نجار بسيط، حتى كانوا يعيرونه قائلين: "أليس هذا هو إبن النجار" (مت13: 5).

وعاش ثلاثين سنة مجهولاً، كفترة تبدو ضائعة في التاريخ. حتى الرسل لم يعتنوا أن يكتبوا عنها شيئاً تقريباً... عاش فيها دون أن يلتفت إليه أحد، مخفياً لا يعرف عنه أحد شيئاً، كأي شخص عادي... بينما تلك السنوات الثلاثون هي فترة الشباب والقوة التي يهتم فيها كل إنسان بذاته، ويود فيها كل شاب أن يظهر وأن يعمل عملاً...

· أخلي الرب ذاته فعاش في التطورات الطبيعية كسائر البشر.

قضي فترة كرضيع وكطفل. ولم يستح من ضعف الطفولة... بما فيها من احتياج إلى معونة آخرين، وهو معين الكل!

احتياج إلى رعاية أم، وهو راعي الرعاة! احتياج إلى إمراة من صنع يديه، تحمله على يديها، وتهتم به، وهو المهتم بكل أحد. وتغذيه، وتعطيه ليأكل ويشرب!

ومن العجيب في طفولته، أنه أخلي ذاته من استخدام قوته. فهرب من أمام هيرودس، بينما روح هيردوس في يده! هرب من هيرودس وهو الذي خلق هيرودس، وأبقاه حتى ذلك اليوم. عجيب هذا الأمر.. عجيب أن نري القوي القادر على كل شيء يهرب مثل سائر الذين يهربون من الضيق! يهرب من القتل وهو الذي يملك الحياة والموت... وجاء إلى مصر وعاش فيها سنوات. ولم يرجع إلا بعد أن هدأ الجو، بينما كان يستطيع أن يفلت من الرجل بطريقة معجزية أو يقضي عليه...

أخلي ذاته، فاحتمل ضعف البشرية وهو المنزه عن كل ضعف. وسمح لنفسه أن يجوع ويعطش ويتعب وينام، كسائر البشر...

عجيب أن يقال عن الرب أنه في آخر الأربعين يوماً: "جاع أخيراً" (مت4: 2). وعجيب أن هذا الينبوع الذي روي الكل يقول للسامرية: "أعطيني لأشرب" (يو4: 7)، ويقول على الصليب: "أنا عطشان" (يو19: 28). وعجب أن يقال عنه إنه تعب وجلس عند البئر (يو4: 6) وإنه نام في السفينة (لو8: 23).

· أخلى الرب ذاته كل هذا الإخلاء، ليخزي الذين يفتخرون ويتكبرون. وكأنه يقول لكل هؤلاء: إنني لم أولد في قصر ملك، ولا على سرير من حرير، وإنما في مزود للبهائم. ولكني سأجعل هذا المزود أعظم من عروش الأباطرة والملوك... سيأتيه الناس من مشارق الشمس إلى مغاربها ليتباركوا منه.

ليس المكان هو الذي يمجد الإنسان، ولكن الإنسان هو الذي يمجد المكان. والعظمة الحقيقية إنما تنبع من الداخل.

فليحل الرب في أي مكان، ولو كان مكاناً للبهائم، وليولد في أية قرية ولو كانت هي الصغرى في يهوذا. ولكنه سيرفع من شأن كل هذا... يولد في هذه الحقارة إلى مجد. يولد من فتاة فقيرة، ويجعلها أعظم نساء العالم... ويولد في بيت رجل نجار بسيط، فيحوله إلى رجل قديس مشهور في الكنيسة...


3- أخلى ذاته من صفات الملك


كان يمكن لمعلمنا الصالح أن يأتي كملك. ولو أتي كذلك، ما كان أحد ينكر عليه أنه ملك.

فهو من سبط يهوذا صاحب المملكة، ومن نسل داود الملك.

ولكنه أخلى ذاته من الملك، وهو ملك الملوك (رؤ17: 14)...

لم يأت في هيئة ملك.

لأن اليهود في تفاخرهم بالعظمة البشرية، كانوا ينتظرون أن يأتي المسيا كملك عظيم، لأنهم كانوا يظنون أن عظمة الملوك هي التي تخلصهم وكان قصد الرب أن يحطم هذه الفكرة أياً.

فلم يخلصهم بعظمة الملوك، بل بتواضع النجار الناصري، الذي استهانوا به قائلين: "أليس هذا هو النجار إبن مريم؟!" (مر6: 3).

أتي كنجار بسيط، ولم يأت كملك. ولما سعي إليه الملك، رفضه وهرب منه. ولما "رأي أنهم مهتمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكاً، انصرف إلى الجبل وحده" (يو6: 15).

ورضي أن يحاكم أمام عبيده، أمام بيلاطس وهيرودس، وأمام أعضاء مجلس السنهدريم... . وكان يقول: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36).

أخلي ذاته من صولجان المُلك ومن الكرامة المقدمة للملوك، مفضلاً أن يحاط بمحبة القلوب الطائعة لقلبه، وليست الخائفة من سطوه سلطانه...


4- أخلى ذاته من كرامة الرئاسة

لم يطلب أن يكون رئيساً لتابعيه، أو سيداً... وإنما صديقاً لهم. وهكذا قال لتلاميذه: "لا أعود أسميكم عبيداً... لكني سميتكم أحباء" (يو15: 15). وخاطبهم في إحدى المرات قائلاً: "أقول لكم يا أصدقائي..." (لو12: 4).

وأخلي ذاته لدرجة أنه انحني وغسل أرجلهم...

لم يعامل الناس كعبيد من صنع يديه... بل كانت تربطه بهم رابطة الحب لا رابطه الرئاسة. إن البشر هم الذين يستهويهم حب الرئاسة والسلطان... أما معلمنا المتواضع فكان يريد قلوب الناس لا خضوعهم، وكان يريد محبتهم لا تذللهم ولم يقم نفسه رئيساً للناس بل صديقاً.

لذلك كان محبوباً لا مخافاً. . يهابه الناس عن توقير، لا عن رعب. لم يرد أن تكون له الرهبة التي ترعب الناس، بل الحب الذي يجذب الناس. وهكذا أمكن للأطفال أن تلتف حوله، وأمكن ليوحنا أن يتكئ على صدره.

إن كل من يحب العظمة، لم يتمتع بفاعلية الإيمان بعد.

قال الأنبا أنطونيوس مرة لأولاده:

[يا أولادى، أنا لا أخاف الله]. فأجابوه: [إن هذا الكلام صعب يا أبانا]. فقال لهم: [ذلك لأني أحبه. والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو4: 18).

إن أهل العالم يحبون السلطة والنفوذ والسيطرة. يريدون أن يخافهم الناس، ولو عن قهر. أما المسيح إلهنا فيقول: "من يحبني يحفظ وصاياي". يعني أن حفظ وصاياه يكون عن حب وليس عن خوف...


5- أخلى ذاته حتى في صنع المعجزات!



أخلي الرب ذاته فلم يستخدم قوته على صنع المعجزات إلا في الضرورة القصوى.

لم يستخدم قوته من أجل ذاته، ولا من أجل منفعة خاصة لم يستخدم لاهوته ليمنع عن نفسه الجوع أو العطش أو التعب أو الألم. رفض أن يحول الحجارة إلى خبز لسد جوعه الشخصي، بينما بارك الخمس خبزات من أجل إشفاقه على الناس.

لم يستخدم قوته ليهبر الناس بالمعجزات، ولا من أجل الإيمان. وعندما كانوا يطلبون منه معجزة لأجل (الفرجة) لم يكن يقبل. بل كان يبكتهم قائلاً: "جيل فاسق وشرير يطلب آية ولا تعطي له..." (مت12: 39). لم يبهر الناس بالمعجزات مثلما فعل سيمون الساحر، ومثلما فعلت عرافة فيلبي، ومثلما سيحدث في الأزمنة الأخيرة من المسيح الدجال والوحش والتنين...

رفض أن يلقي نفسه من على جناح الهيكل، لتحمله الملائكة.

ويري الناس المنظر فينذهلون ويؤمنون معجبين بعظمته...! رفض ذلك، لأنه أخلي ذاته من إعجاب الناس. إن معلمنا الصالح لم يحط نفسه بالمجد، لأنه أراد أن يلتف الناس حول التواضع وليس حول المجد.

ومعجزة كحادثة التجلي التي كان يمكن أن تبهر الجماهير، لم يشأ أن يراها كل الشعب، ولا حتى كل تلاميذه الإثني عشر، بل رآها ثلاثة فقط، وأوصاهم ألا يظهروها... كان زاهداً في كل هذه الأمور التي يبحث عنها من يريدون أن يظهروا ذواتهم... بل أكثر من هذا أنه بعد كل معجزة تبهر البصر كان يخفي تلك المعجزة بعمل من أعمال الضعف البشري أو بكلام عن آلامه... أو يطلب ممن حدثت معه أن يخفيها...

وحتى من أجل الإيمان لم يشأ أن يبهر الناس بالمعجزات. أراد أن يكون إيمانهم بدافع من الحب والاقتناع وليس بسبب المعجزات. وما الدليل على هذا؟

دليلنا أنه كان يطلب الإيمان قبل المعجزة، وليس كنتيجة لها. وكثيراً ما كان يسأل الذي يجري معه المعجزة " أتؤمن؟ "، أو يقول له: "ليكن لك حسب إيمانك ". (انظر المزيد عن مثل هذه الموضوعات هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). وإن كان يؤمن قبلاً تحدث معه المعجزة... ولذلك قيل عنه إنه في وطنه: "لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم" (مت13: 58). كان الإيمان يسبق المعجزة. وكانت المعجزة نتيجة للإيمان وليست سبباً.

وكثير من معجزات السيد الرب كانت أعمال رحمة وحب وكانت لها أهداف روحية... تتبعوا عنصر الحب والحنان في معجزات الرب يظهر لكم واضحاً وجلياً... وهكذا نري في معجزة لإقامة العازر أنه بكي قبل أن يقيمه. إن الحب الذي كان يعتصر قلبه، ظهر أولاً في عينيه الدامعتين، قبل أن تظهر قوته في عبارة: "هلم خارجاً". وكثير من معجزات الشفاء كانت تسبقها عبارة: "فتحنن يسوع" أو "أشفق" أو ما شابه ذلك...

ولم يستخدم معجزاته في الدفاع عن نفسه، أو في الانتقام من مضطهديه وشاتميه. أهانوه بكل أنواع الإهانة، وأشبعوه شتماً وتعييراً. وكان يستطيع أن يجعل الأرض تفتح فاها وتبتلعهم، أو تنزل نار من السماء وتفنيهم. ولكنه لم يفعل. كان قد أخلي ذاته من استخدام هذه القوة التي فيه.


6- عاش المسيح بغير لقب وبغير وظيفة




* عاش السيد المسيح بغير لقب، وبغير وظيفة رسمية في المجتمع، وبغير اختصاصات في نظر الناس...

* ماذا كانت وظيفة المسيح في نظر المجتمع اليهودي، أو في نظر الدولة؟! لا شيء.. كان أمامهم مجرد رجل يجول من مكان إلى آخر، يعمل ويعلم، دون أن يستند إلى وضع رسمي...


* لم يكن من أصحاب الرتب الكهنوتية في نظر الناس، لأنه لم يكن من سبط لاوي ولا من أبناء هارون فقد كانت أمه ويوسف النجار من سبط يهوذا.

* ووصل إخلاؤه لذاته في هذه الناحية، أنه عندما شفي الرجل الأبرص، قال له: "اذهب أر نفسك للكاهن، وقدم القربان الذي أمر به موسى" (مت 8: 4). يا لها من عبارة مؤثرة للغاية!! تصوروا رئيس الكهنة الأعظم، منشئ الكهنوت ومؤسسه، ومنع كل سلطة كهنوتية، يقول للأبرص: "اذهب أر نفسك للكاهن"!!...

وماذا عنك أنت يا رب؟ أنت الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق؟ لماذا ترسلني إلى كاهن، وأنت راعي الرعاة وكاهن الكهنة؟! ما أعجبك في إخلائك لذاتك! تتصرف كمن لا سلطة له، وأنت مصدر كل سلطة!!

* وعاش السيد المسيح بدون أي مركز اجتماعي، ولم تكن له أية صفة رسمية على الإطلاق. حتى في وضعه كمعلم... لم يكن من طوائف الكتبة والفريسيين المؤتمنين على التعليم في ذلك الحين، ولا من جماعة الكهنة الذين من أفواهم تطلب الشريعة (أر18: 18)، ولا من الشيوخ ولا من البارزين في المجتمع...

* وعلى الرغم من كل ذلك، ملأ الدنيا تعليماً، وكانوا يلقبونه بالمعلم، والمعلم الصالح، ودعي معلماً حتى من أصحاب المكانة العلمية كالكتبة والفريسيين...

وهكذا أرانا كيف يمكن أن يعيش الشخص بلا لقب، ومع ذلك يعمل أكثر من أصحاب الألقاب!...

وفي حياته كمعلم، عاش وقد أخلي ذاته من كل شيء.

تابعوا أحبــــائــى

ملحوظه : الكتاب منقول من الأنبا تكلا
 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,326
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
1- مقدمة عن الميلاد



" فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلي ذاته آخذاً صورة عبد، صائراً في شبة الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (فى2: 5 8).

إن السيد الرب، إذ أخلي ذاته وأخذ شكل العبد لم يقتصر ذلك على حادثة الميلاد فحسب، بل شمل ذلك حياته كلها التي لا تدخل تحت حصر.

ميلاد السيد المسيح المتواضع كان مجرد مظهر من مظاهر إخلاء الذات وسنحاول أن نتبع إخلاء الرب لذاته في كل ناحية... ونحاول أن ندرك الأسباب التي من أجلها أخلي ذاته... ثم نأخذ لأنفسنا عظة عملية، محاولين أن نطبق عنصر الإخلاء في حياتنا...

وعلينا أن نفهم بالدقة: ما هو معني إخلاء الذات...

إنه لم يخلها طبعاً من جوهرة ولا من طبيعته ولا من لاهوته الذي لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين. بل أخلي ذاته من الأمجاد المحيطة به ومن عظمة السماء. وسننشر هذا وغيره بالتفصيل في الصفحات المقبلة هنا في موقع الأنبا تكلا...

جميل بنا أن نلاحظ أن هذا الإخلاء لم يكن إقلالاً من شأن الرب، وإنما هو عظمة جديدة في مفهومها. كان الناس يفهمون العظة في مظاهر خارجية. أما عظمة من يخلي ذاته ويأخذ شكل العبد، فلم يكن أحد يتصورها. هذه قدمها الرب لنا...

2- أخلى ذاته في ميلاده



عجيب هو الرب في اتضاعه، عندما أخلي ذاته في ميلاده.

· نزل إلى العالم هادئا بدون ضجة، ودخله في خفاء لم يشعر به أحد... لم يحدد من قبل موعد مجيئه.

· وهكذا ولد في يوم مجهول، لم تستعد له الأرض ولا السماء، ولم يستقلبه فيه أحد. يوم ميلاده كان نكره بالنسبة إلى العالم، مع أنه من أعظم الأيام إذ بدأ فيه عمل الخلاص الذي تم على الصليب.

ولو نزل الرب إلى العالم في صفوف ملائكته، على سحابة عظيمة، أو في مركبة نورانية يحيط به الشاروبيم والسارافيم... وقد ارتجت له السموات وكل قوي الطبيعة... أو لو أن السماء احتفلت بميلاده، وليس بنجم بسيط يظهر للمجوس، بل اهتزت له كل نجوم السماء وكواكبها... لو حدث ذلك، لقلنا إنه أمر يليق بالرب ومجده...!

لو أن شخصاً كان مسافراً إلى مكان، لأرسل الرسائل قبلها، فيستقبله الأحباء والأصدقاء والأقارب والمعارف والمريدون، وربما يستاء إذا قصر أحد في انتظاره أو في استقباله....

أما السيد المسيح فدخل إلى العالم في صمت، بعيداً عن كل مظاهر الترحيب، في ضجيج، وبطريقة بسيطة هادئة... دخل بنكران عجيب للذات، أو في إخلاء عجيب للذات وكل الذين استقبلوه جماعة من الرعاة المساكين، ثم المجوس...

· هناك أشخاص يحبون الضجيج وبهرجة الترحيب في دخولهم وفي خروجهم، لأن فاعلية ميلاد السيد المسيح لم تغيرهم بعد...

لم يخل السيد المسيح ذاته في هدوء مجيئه إلى العالم فحسب، بل في كل ظروف ميلاده. فكيف كان ذلك؟

· ولد من أم فقيرة يتيمة، لم تكن تجد من يعولها. عهد بها الكهنة إلى يوسف، خطبوها له لتعيش في كفنه.

وولد في قرية هي: "الصغرى بين رؤساء يهوذا" (مت2: 6).

وسكن في الناصرة التي يعجب الناس إن أمكن أن يخرج منها شيء صالح (يو1: 46). ودعي ناصرياً.

وعاش في بيت نجار بسيط، حتى كانوا يعيرونه قائلين: "أليس هذا هو إبن النجار" (مت13: 5).

وعاش ثلاثين سنة مجهولاً، كفترة تبدو ضائعة في التاريخ. حتى الرسل لم يعتنوا أن يكتبوا عنها شيئاً تقريباً... عاش فيها دون أن يلتفت إليه أحد، مخفياً لا يعرف عنه أحد شيئاً، كأي شخص عادي... بينما تلك السنوات الثلاثون هي فترة الشباب والقوة التي يهتم فيها كل إنسان بذاته، ويود فيها كل شاب أن يظهر وأن يعمل عملاً...

· أخلي الرب ذاته فعاش في التطورات الطبيعية كسائر البشر.

قضي فترة كرضيع وكطفل. ولم يستح من ضعف الطفولة... بما فيها من احتياج إلى معونة آخرين، وهو معين الكل!

احتياج إلى رعاية أم، وهو راعي الرعاة! احتياج إلى إمراة من صنع يديه، تحمله على يديها، وتهتم به، وهو المهتم بكل أحد. وتغذيه، وتعطيه ليأكل ويشرب!

ومن العجيب في طفولته، أنه أخلي ذاته من استخدام قوته. فهرب من أمام هيرودس، بينما روح هيردوس في يده! هرب من هيرودس وهو الذي خلق هيرودس، وأبقاه حتى ذلك اليوم. عجيب هذا الأمر.. عجيب أن نري القوي القادر على كل شيء يهرب مثل سائر الذين يهربون من الضيق! يهرب من القتل وهو الذي يملك الحياة والموت... وجاء إلى مصر وعاش فيها سنوات. ولم يرجع إلا بعد أن هدأ الجو، بينما كان يستطيع أن يفلت من الرجل بطريقة معجزية أو يقضي عليه...

أخلي ذاته، فاحتمل ضعف البشرية وهو المنزه عن كل ضعف. وسمح لنفسه أن يجوع ويعطش ويتعب وينام، كسائر البشر...

عجيب أن يقال عن الرب أنه في آخر الأربعين يوماً: "جاع أخيراً" (مت4: 2). وعجيب أن هذا الينبوع الذي روي الكل يقول للسامرية: "أعطيني لأشرب" (يو4: 7)، ويقول على الصليب: "أنا عطشان" (يو19: 28). وعجب أن يقال عنه إنه تعب وجلس عند البئر (يو4: 6) وإنه نام في السفينة (لو8: 23).

· أخلى الرب ذاته كل هذا الإخلاء، ليخزي الذين يفتخرون ويتكبرون. وكأنه يقول لكل هؤلاء: إنني لم أولد في قصر ملك، ولا على سرير من حرير، وإنما في مزود للبهائم. ولكني سأجعل هذا المزود أعظم من عروش الأباطرة والملوك... سيأتيه الناس من مشارق الشمس إلى مغاربها ليتباركوا منه.

ليس المكان هو الذي يمجد الإنسان، ولكن الإنسان هو الذي يمجد المكان. والعظمة الحقيقية إنما تنبع من الداخل.

فليحل الرب في أي مكان، ولو كان مكاناً للبهائم، وليولد في أية قرية ولو كانت هي الصغرى في يهوذا. ولكنه سيرفع من شأن كل هذا... يولد في هذه الحقارة إلى مجد. يولد من فتاة فقيرة، ويجعلها أعظم نساء العالم... ويولد في بيت رجل نجار بسيط، فيحوله إلى رجل قديس مشهور في الكنيسة...


3- أخلى ذاته من صفات الملك


كان يمكن لمعلمنا الصالح أن يأتي كملك. ولو أتي كذلك، ما كان أحد ينكر عليه أنه ملك.

فهو من سبط يهوذا صاحب المملكة، ومن نسل داود الملك.

ولكنه أخلى ذاته من الملك، وهو ملك الملوك (رؤ17: 14)...

لم يأت في هيئة ملك.

لأن اليهود في تفاخرهم بالعظمة البشرية، كانوا ينتظرون أن يأتي المسيا كملك عظيم، لأنهم كانوا يظنون أن عظمة الملوك هي التي تخلصهم وكان قصد الرب أن يحطم هذه الفكرة أياً.

فلم يخلصهم بعظمة الملوك، بل بتواضع النجار الناصري، الذي استهانوا به قائلين: "أليس هذا هو النجار إبن مريم؟!" (مر6: 3).

أتي كنجار بسيط، ولم يأت كملك. ولما سعي إليه الملك، رفضه وهرب منه. ولما "رأي أنهم مهتمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكاً، انصرف إلى الجبل وحده" (يو6: 15).

ورضي أن يحاكم أمام عبيده، أمام بيلاطس وهيرودس، وأمام أعضاء مجلس السنهدريم... . وكان يقول: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36).

أخلي ذاته من صولجان المُلك ومن الكرامة المقدمة للملوك، مفضلاً أن يحاط بمحبة القلوب الطائعة لقلبه، وليست الخائفة من سطوه سلطانه...


4- أخلى ذاته من كرامة الرئاسة

لم يطلب أن يكون رئيساً لتابعيه، أو سيداً... وإنما صديقاً لهم. وهكذا قال لتلاميذه: "لا أعود أسميكم عبيداً... لكني سميتكم أحباء" (يو15: 15). وخاطبهم في إحدى المرات قائلاً: "أقول لكم يا أصدقائي..." (لو12: 4).

وأخلي ذاته لدرجة أنه انحني وغسل أرجلهم...

لم يعامل الناس كعبيد من صنع يديه... بل كانت تربطه بهم رابطة الحب لا رابطه الرئاسة. إن البشر هم الذين يستهويهم حب الرئاسة والسلطان... أما معلمنا المتواضع فكان يريد قلوب الناس لا خضوعهم، وكان يريد محبتهم لا تذللهم ولم يقم نفسه رئيساً للناس بل صديقاً.

لذلك كان محبوباً لا مخافاً. . يهابه الناس عن توقير، لا عن رعب. لم يرد أن تكون له الرهبة التي ترعب الناس، بل الحب الذي يجذب الناس. وهكذا أمكن للأطفال أن تلتف حوله، وأمكن ليوحنا أن يتكئ على صدره.

إن كل من يحب العظمة، لم يتمتع بفاعلية الإيمان بعد.

قال الأنبا أنطونيوس مرة لأولاده:

[يا أولادى، أنا لا أخاف الله]. فأجابوه: [إن هذا الكلام صعب يا أبانا]. فقال لهم: [ذلك لأني أحبه. والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو4: 18).

إن أهل العالم يحبون السلطة والنفوذ والسيطرة. يريدون أن يخافهم الناس، ولو عن قهر. أما المسيح إلهنا فيقول: "من يحبني يحفظ وصاياي". يعني أن حفظ وصاياه يكون عن حب وليس عن خوف...


5- أخلى ذاته حتى في صنع المعجزات!



أخلي الرب ذاته فلم يستخدم قوته على صنع المعجزات إلا في الضرورة القصوى.

لم يستخدم قوته من أجل ذاته، ولا من أجل منفعة خاصة لم يستخدم لاهوته ليمنع عن نفسه الجوع أو العطش أو التعب أو الألم. رفض أن يحول الحجارة إلى خبز لسد جوعه الشخصي، بينما بارك الخمس خبزات من أجل إشفاقه على الناس.

لم يستخدم قوته ليهبر الناس بالمعجزات، ولا من أجل الإيمان. وعندما كانوا يطلبون منه معجزة لأجل (الفرجة) لم يكن يقبل. بل كان يبكتهم قائلاً: "جيل فاسق وشرير يطلب آية ولا تعطي له..." (مت12: 39). لم يبهر الناس بالمعجزات مثلما فعل سيمون الساحر، ومثلما فعلت عرافة فيلبي، ومثلما سيحدث في الأزمنة الأخيرة من المسيح الدجال والوحش والتنين...

رفض أن يلقي نفسه من على جناح الهيكل، لتحمله الملائكة.

ويري الناس المنظر فينذهلون ويؤمنون معجبين بعظمته...! رفض ذلك، لأنه أخلي ذاته من إعجاب الناس. إن معلمنا الصالح لم يحط نفسه بالمجد، لأنه أراد أن يلتف الناس حول التواضع وليس حول المجد.

ومعجزة كحادثة التجلي التي كان يمكن أن تبهر الجماهير، لم يشأ أن يراها كل الشعب، ولا حتى كل تلاميذه الإثني عشر، بل رآها ثلاثة فقط، وأوصاهم ألا يظهروها... كان زاهداً في كل هذه الأمور التي يبحث عنها من يريدون أن يظهروا ذواتهم... بل أكثر من هذا أنه بعد كل معجزة تبهر البصر كان يخفي تلك المعجزة بعمل من أعمال الضعف البشري أو بكلام عن آلامه... أو يطلب ممن حدثت معه أن يخفيها...

وحتى من أجل الإيمان لم يشأ أن يبهر الناس بالمعجزات. أراد أن يكون إيمانهم بدافع من الحب والاقتناع وليس بسبب المعجزات. وما الدليل على هذا؟

دليلنا أنه كان يطلب الإيمان قبل المعجزة، وليس كنتيجة لها. وكثيراً ما كان يسأل الذي يجري معه المعجزة " أتؤمن؟ "، أو يقول له: "ليكن لك حسب إيمانك ". (انظر المزيد عن مثل هذه الموضوعات هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). وإن كان يؤمن قبلاً تحدث معه المعجزة... ولذلك قيل عنه إنه في وطنه: "لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم" (مت13: 58). كان الإيمان يسبق المعجزة. وكانت المعجزة نتيجة للإيمان وليست سبباً.

وكثير من معجزات السيد الرب كانت أعمال رحمة وحب وكانت لها أهداف روحية... تتبعوا عنصر الحب والحنان في معجزات الرب يظهر لكم واضحاً وجلياً... وهكذا نري في معجزة لإقامة العازر أنه بكي قبل أن يقيمه. إن الحب الذي كان يعتصر قلبه، ظهر أولاً في عينيه الدامعتين، قبل أن تظهر قوته في عبارة: "هلم خارجاً". وكثير من معجزات الشفاء كانت تسبقها عبارة: "فتحنن يسوع" أو "أشفق" أو ما شابه ذلك...

ولم يستخدم معجزاته في الدفاع عن نفسه، أو في الانتقام من مضطهديه وشاتميه. أهانوه بكل أنواع الإهانة، وأشبعوه شتماً وتعييراً. وكان يستطيع أن يجعل الأرض تفتح فاها وتبتلعهم، أو تنزل نار من السماء وتفنيهم. ولكنه لم يفعل. كان قد أخلي ذاته من استخدام هذه القوة التي فيه.


6- عاش المسيح بغير لقب وبغير وظيفة




* عاش السيد المسيح بغير لقب، وبغير وظيفة رسمية في المجتمع، وبغير اختصاصات في نظر الناس...

* ماذا كانت وظيفة المسيح في نظر المجتمع اليهودي، أو في نظر الدولة؟! لا شيء.. كان أمامهم مجرد رجل يجول من مكان إلى آخر، يعمل ويعلم، دون أن يستند إلى وضع رسمي...


* لم يكن من أصحاب الرتب الكهنوتية في نظر الناس، لأنه لم يكن من سبط لاوي ولا من أبناء هارون فقد كانت أمه ويوسف النجار من سبط يهوذا.

* ووصل إخلاؤه لذاته في هذه الناحية، أنه عندما شفي الرجل الأبرص، قال له: "اذهب أر نفسك للكاهن، وقدم القربان الذي أمر به موسى" (مت 8: 4). يا لها من عبارة مؤثرة للغاية!! تصوروا رئيس الكهنة الأعظم، منشئ الكهنوت ومؤسسه، ومنع كل سلطة كهنوتية، يقول للأبرص: "اذهب أر نفسك للكاهن"!!...

وماذا عنك أنت يا رب؟ أنت الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق؟ لماذا ترسلني إلى كاهن، وأنت راعي الرعاة وكاهن الكهنة؟! ما أعجبك في إخلائك لذاتك! تتصرف كمن لا سلطة له، وأنت مصدر كل سلطة!!

* وعاش السيد المسيح بدون أي مركز اجتماعي، ولم تكن له أية صفة رسمية على الإطلاق. حتى في وضعه كمعلم... لم يكن من طوائف الكتبة والفريسيين المؤتمنين على التعليم في ذلك الحين، ولا من جماعة الكهنة الذين من أفواهم تطلب الشريعة (أر18: 18)، ولا من الشيوخ ولا من البارزين في المجتمع...

* وعلى الرغم من كل ذلك، ملأ الدنيا تعليماً، وكانوا يلقبونه بالمعلم، والمعلم الصالح، ودعي معلماً حتى من أصحاب المكانة العلمية كالكتبة والفريسيين...

وهكذا أرانا كيف يمكن أن يعيش الشخص بلا لقب، ومع ذلك يعمل أكثر من أصحاب الألقاب!...

وفي حياته كمعلم، عاش وقد أخلي ذاته من كل شيء.

تابعوا أحبــــائــى

ملحوظه : الكتاب منقول من الأنبا تكلا
 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,326
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
7- لم يكن للمسيح مكاناً يُعَلِّم فيه


أحياناً كان يعلم وهو جالس على الجبل، وأحياناً يكلم الناس وهو واقف في سفينة وهم جلوس على الشاطئ... وأحياناً كان يعلم وهو في وسط الزروع والبساتين، يتأمل مع تلاميذه زنابق الحقل وطيور السماء... وأحياناً كان يعلم في الخلاء، في موضع قفر، في البرية. وأحياناً في الطريق... وعلى العموم لم يكن له مكان خاص للتعليم، لا مركز ثابت ولا مكان ثابت.. بل لم يكن له أين يسند رأسه (لو9: 58).

وإذ أخلي ذاته من الارتباط بمكان معين، أصبح له كل مكان...

عجيب أن الله الذي ملأ السموات والأرض، لم يكن له أين يسند رأسه...

عندما ولد يقول الكتاب: "لم يكن له موضع في البيت" (لو2: 7). وطول فترة تجسده على الأرض لم يكن له مسكن معين. يذهب أحياناً إلى بيت مريم ومرثا، وأحيانا إلى بيت مريم أم يوحنا الملقب مرقس، وأحيانا إلى إلى بيت سِمعان، وأحياناً إلى بستان جثماني... ما أعجب قول الكتاب: "ومضي كل واحد إلى بيته، أما يسوع فمضي إلى جبل الزيتون" (يو8: 1)...

والذين كانوا يتبعونه، كانوا يسيرون وراء المجهول... . لا يعرفون لهم موضعاً ولا مركزاً، ولا مالية معينة، ولا عملاً محدداً. عندما قال السيد لمتي اللاوى: "اتبعني"، تبعه متى... ولو سألته: "إلى أين؟" لما عرف كيف يجيب... ولو سألته ماذا ستعمل؟ لوقف أمام علامة استفهام لا جواب لها. لقد أراد الرب لتلاميذه أن يخلوا ذواتهم أيضاً... هم مجرد تلاميذ، لا يعرفون لهم عملاً سوي أن يتبعوا المسيح، الذي لا يعرفون له وظيفة ولا عملاً رسمياً ولا مكاناً ثابتاً...




8- كان المسيح يحيط به جماعة من المساكين




وكما أخلي المسيح ذاته، أحبه الذين أخلوا ذواتهم، أو الذين لا ذوات لهم. فأحاطت به مجموعة من الفقراء والمساكين والمزدري وغير الموجود... جماعة من جهال العالم وضعفاء العالم وأدنياء العالم (1كو1: 27، 28). وهكذا اختار تلاميذه: جماعة من الصيادين الجهلة، كما اختار واحداً من العشارين المرذولين.

والذين أحاطوا به كانوا من عامة الشعب: الأطفال الذين لا يعتد بهم أحد والخطاة والعشارين الذين يحتقرهم الناس، والنساء أيضاً اللائى لم تكن لهن مكانه في المتجمع اليهودي... وهكذا كانت نسوة كثيرات يتبعنه (لو23: 27)... وحول صليبه وقفت النسوة لا شيوخ الشعب... وبكت عليه بنات أورشليم (لو22: 28) ولم يبك عليه أعضاء مجلس السنهدريم!

عاش إنساناً بسيطاً بلا مركز وبلا لقب، يحيط به أشخاص مجهولون بلا مركز وبلا لقب أيضاً.

وحتى لقبه الطبيعي "إبن الله"، لم يستخدمه كثيراً. وكان يستبدله في غالب الأحيان بلقب "إبن الإنسان"!...

عاش وسط الشعب، لا وسط الرؤساء، وكان قريباً من الصغار، بعيداً عن الكبار والمعتبرين، يحبه الشعب ويضطهده الرؤساء... وحسناً تنبأ عنه داود قائلاً: "الأعزاء قاموا على" (مز54: 3) "الرؤساء اضطهدوني بلا سبب" (مز119: 161).

حتى الذين استضافوه كانوا من البسطاء أو من المحتقرين فدخل بيت متي، ولم يدخل بيت بيلاطس ولا بيت هيرودس ودخل بيت زَكَّا، ولم يدخل بيت حنان ولا بيت قَيافا...



9- عاش المسيح فقيراً ومرفوضاً





أخلي ذاته من المال والجاه، فعاش فقيراً لا يملك شيئاً وهو مغني الكل.

حتى أنهم لما طلبوا منه الجزية لم يجد ما يعطيه لهم، فطلب من بطرس أن يلقي الشبكة ويصطاد ويدفع لهم (مت17: 27).

وعاش مرفوضاً.

إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله (يو1: 11).

كنور أشرق في الظلمة، والظلمة لم تدركه (يو1: 5)،

بل أحب الناس الظلمة أكثر من النور... (يو3: 19).

وأصبح الاتصال به تهمة، والتلمذة له عاراً...

حتى أن نيقوديموس عندما أراد مقابلته، قابله في الخفاء، سراً وليلاً (يو3: 2) وحتى أن اليهود في إهانتهم للمولود أعمي إذ آمن بالمسيح بعد شفائه، شتموه قائلين له أنت تلميذ ذاك (يو9: 28).

وهكذا أصبحت التلمذة لذاك الناصري من أنواع السب ووصمة عار. وجاء الوقت الذي أصبح فيه تلاميذه مغلقين على أنفسهم في العلية لا يستطيعون الخروج منها، خوفاً من مسبة انتسابهم لذاك الناصري...

وهكذا وجدنا عملاقاً عظيماً كبطرس تبرأ من المسيح ومن الانتساب إليه، وأخذ يلعن ويحلف قائلاً إنه لا يعرف الرجل (مز14: 71).



9- عاش المسيح فقيراً ومرفوضاً





أخلي ذاته من المال والجاه، فعاش فقيراً لا يملك شيئاً وهو مغني الكل.

حتى أنهم لما طلبوا منه الجزية لم يجد ما يعطيه لهم، فطلب من بطرس أن يلقي الشبكة ويصطاد ويدفع لهم (مت17: 27).

وعاش مرفوضاً.

إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله (يو1: 11).

كنور أشرق في الظلمة، والظلمة لم تدركه (يو1: 5)،

بل أحب الناس الظلمة أكثر من النور... (يو3: 19).

وأصبح الاتصال به تهمة، والتلمذة له عاراً...

حتى أن نيقوديموس عندما أراد مقابلته، قابله في الخفاء، سراً وليلاً (يو3: 2) وحتى أن اليهود في إهانتهم للمولود أعمي إذ آمن بالمسيح بعد شفائه، شتموه قائلين له أنت تلميذ ذاك (يو9: 28).

وهكذا أصبحت التلمذة لذاك الناصري من أنواع السب ووصمة عار. وجاء الوقت الذي أصبح فيه تلاميذه مغلقين على أنفسهم في العلية لا يستطيعون الخروج منها، خوفاً من مسبة انتسابهم لذاك الناصري...

وهكذا وجدنا عملاقاً عظيماً كبطرس تبرأ من المسيح ومن الانتساب إليه، وأخذ يلعن ويحلف قائلاً إنه لا يعرف الرجل (مز14: 71).


تابعوا
 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,326
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
11- جرأة الشيطان على المسيح!



عبارة " أخلي ذاته " لم تنطبق عليه في فترة ميلاده فحسب، بل صاحبته طوال حياته على الأرض في الجسد...

ومن أجل أنه أخلي ذاته، تجرأ الشيطان ليجربه.


ووصل الرب في إخلائه لذاته، إلى حد أنه ترك الحرية للشيطان، يختار الزمان والمكان ونوع التجربة... ما أشد على النفس قول الكتاب: "ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل " وأيضاً " ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جداً" (مت4: 5، 8).

إبليس "يأخذه" "ويوقفه" حيثما يشاء!! يا للهول!...

ما أشد هذا الإخلاء للذات... من يحتمله؟!

وإذا بهذا الإله الكامل في معرفته المخبأة فيه كل كنوز العلم والمعرفة، يقول عنه الكتاب أن الشيطان: " أراه " جميع ممالك الأرض ومجدها!!... " أراه "؟! وهو الذي يري الخفيات والمكنونات، ويعلم حتى أعماق الفكر وبواطن القلوب...

وهذه الممالك، التي كلها من صنعه، وكلها له، والتي بيده بقاؤها وانحلالها، يقول له الشيطان: "لك أعطي هذه جميعها".. . وتصل الجرأة بالشيطان أن يقول له: "إن خررت وسجدت لي "!! هل إلى هذه الدرجة تصل الجرأة؟!

ما أعجبك يا رب! من يقدر على مثل هذا الإخلاء؟!

وأخيراً

يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل نواحي إخلاء الرب لذاته... الأمثلة عديدة، لا تحصي... وإخلاء الرب لذاته له جذور ممتدة في العهد القديم، أتركها حالياً لتأملاتك الخاصة....



12- أخلى ذاته ورفع شأن أولاده




العجيب أن المسيح إلهنا بقدر ما كان يخلي ذاته، كان من الناحية الأخرى يرفع شأن أولاده...

أخذ شكل العبد، وأعطانا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية! (2بط1: 4). حقاً كما تقول تسابيح الكنيسة " أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له". وهكذا صارت لنا شركة معه (1يو1: 6). وصرنا "شركاء الروح القدس" (عب6: 4)، (2كو13: 14)، وشركاء في الميراث (أف3: 6)... وصرنا جسده، وأعضاءه، ثابتين فيه، كالأغصان في الكرمة...

وصار الرب يقربنا إليه باستمرار، ويرفعنا قدامه...

ومع أنه إبن الله الوحيد، الكائن في حضن الآب منذ الأزل، يمسي نفسه في غالبيه الأوقات: "إبن الإنسان". ونحن بني الإنسان يدعونا أولاد الله، ويكررها مرات عديدة...

ويقول عنا أننا نور العالم، ويطلب إلينا أن يضئ نورنا قدام الناس (مت5: 14، 16). ويدعونا أصدقاء له، وأحباء، وخاصته التي يحبها حتى المنتهي. ولكن الأكثر من هذا كله أن يسمح الرب بأن ندعي أخوته! ويقول الكتاب: "ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شيء" (عب2: 17) ويقول أيضاً:"... ليكون هو بكراً بين أخوة كثيرين" (رو8: 29).

من هم أخوته هؤلاء؟! هم نحن التراب والرماد...

لو أن أحد الآباء الكهنة في أيامنا، أرسل خطابا إلى واحد من أولاده، يقول له فيه: "أيها الأخ العزيز "، لصاح الناس: ما هذا التواضع العجيب وإخلاء الذات؟! كيف يدعو ابنه أخاً له ؟! فماذا نقول إذن عن رب الأرباب عندما يدعونا إخوته؟!

بل أكثر من هذا أن الرب كثيراً ما يختفي لنظهر نحن. فعندما ظهر الرب لشاول الطرسوسي ودعاه، فاستجاب وقال: "ماذا تريد يا رب أن أفعل" (أع9: 6). حوله الرب إلى القديس حنانيا في دمشق قائلاً له: "قم وأدخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل" (أع9: 6). وظهر الرب في رؤيا لحنانيا، وكلمة من جهة شاول، فشفاه وعَمَّده ونقل إليه رسالة الرب.

إن عمل الكهنوت كله، وكل أعمال الخدمة والرعاية، هي أعمال للرب، يعمل فيها الله في اختفاء، ويجعلنا نحن ظاهرين في الصورة. هو يعمل فينا، وهو يعمل بنا، وهو يعمل معنا، ولكنه غير ظاهر، أما نحن فنبدو للناس، كأننا نعمل. بينما " ليس الغارس شيئاً ولا الساقي، بل الله الذي ينمي" (1كو3: 7). ولكن الله كثيراً ما يعطي السلطان لأولاده، دون أن يستخدمه مباشرة...

والمطلوب من الخدام الذين يعمل فيهم الله في اختفاء، أن يختفوا هم ليظهر الله.

فمجد الله لا يجوز أن يعطي لآخر. أما الخدام فعليهم أن يصلوا قائلين: "ليس لنا يا رب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعط مجداً" (مز115: 1).

وعمل المعجزات يعمله الله أيضاً في اختفاء عن طريق أولاده فيظهرون هم في الصورة، أما الرب فيقول لهم في حب "من يكرمكم يكرمني"... الله يرسل السيدة العذراء، أو الملاك ميخائيل أو مارجرجس أو غيرهم من القديسين، فيعملون معجزات، ويمجدهم الناس، ويفرح الرب بأن أولاده يتمجدون... بل كثيراً ما يقع إنسان في ضيقة، فيصرخ مستغيثاً "يا مارجرجس"، ويسمع الرب، فيرسل مارجرجس، فينقذه... أو ينذر إنسان نذراً للعذراء... ويفرح الرب ويستجيب...

بل أن الكنائس وهي كنائس الله سمح أن تبني على أسماء أولاده. فنقول كنيسة العذراء، وكنيسة مارجرجس، وكنيسة الأنبا أنطونيوس، وكنيسة مارمرقس... وكلها بيوت للرب. ولكن الرب يفرح بأولاده...

بل حتى شريعة الرب ينسبها أيضاً لأولاده أحياناً، فيقول:- "ناموس موسي" أو "شريعة موسى"، بينما هي شريعة الرب لا غيره. ويقول الرب للأبرص: "قدم القربان الذي أمر به موسي" (مت8: 4) ويقول أيضاً: "موسى من أجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلقوا نساءكم" (مت19: 8)، بينما الذي أذن هو الله، والذي أمر هو الله. ولكن الله يرفع من شأن موسي، ويضع اسمه بدلاً من نفسه!...


13- تواضع الله في رفع قديسيه




من هم هؤلاء يا رب الذين تريد أن تظهرهم؟ إنهم تراب ورماد، عدم وليس لهم وجود... ولكنهم أحباؤك، قديسوك...

هناك عبارة عجيبة في العهد القديم، وقفت أمامها منذهلاً لحظات طويلة... في قصة الله مع موسى النبي. عندما ثقلت المسئولية على موسي، قال له الرب: "اجمع إلى سبعين رجلاً... فأنزل وأتكلم معك هناك. وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم، فيحملون معك ثقل الشعب" (عد11: 16، 17).

تصوروا، الله يأخذ من الروح الذي على موسى ويضع عليهم! وما هو الروح الذي على موسى؟ أليس من عندك يا رب؟! كيف تأخذ منه؟ وكيف تأخذ منه أمام كل هؤلاء؟ أعطهم أنت من عندك مباشرة كما أعطيت لموسى، أنت يا مصدر كل عطية صالحة، أنت مصدر الحكمة والتدبير والفهم... كلا، إنني آخذ أمامهم من الروح الذي على موسى، وأضع عليهم، وأرفع شأن موسى في أعينهم... مبارك أنت يا رب في كل تدبيرك الصالح.

الله يحب أولاده، ويريد أن يكرمهم، في السر والجهر.

بل أن الله كثيراً ما كان يسمي نفسه بأسماء أولاده.... فيقول: "أنا إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب" (خر3: 6). ما هذا يا رب؟! إنهم هم الذين ينبغي أن ينتسبوا إليك... الله يختفي ويظهر أولاده. وهم بالمثل يختفون لكي يظهر هو.. أنها محبة متبادلة.

ومن المظاهر العجيبة في إخلاء الرب لذاته، ورفع شأن أولاده، قصة عماد الرب من عبده يوحنا بن زكريا...

يوحنا الذي لم يكن مستحقاً أن ينحني ويحل سيور حذائه، يوحنا الذي قال له في صراحة: "أنا محتاج أن أعتمد منك"، يقف أمامه رب المجد قائلاً: "اسمح الآن"... فسمح له، واعتمد الرب منه.. . يا للعجب... رئيس الكهنة الأعظم، وراعي الرعاة، الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق يأتي ليعتمد من يوحنا، بينما تنفتح السماء، ويسمع صوت الآب قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 13-17).

كانت معمودية يوحنا للتوبة... ولم يكن السيد المسيح محتاجاً إلى التوبة مطلقاً لأنه قدوس بلا عيب. فلماذا أعتمد؟! الذين جاءوا إلى يوحنا ليعتمدوا جاءوا معترفين بخطاياهم (مت3: 6). ولم تكن للرب خطايا يعترف بها، ويتوب عنها ويعتمد بسببها، حاشا... فلماذا اعتمد إذن؟!

إنه من أجلنا أخلي ذاته وأخذ شكل العبد... وبنفس الوضع، من أجلنا اعتمد. من أجلنا أخذ شكل الخطاة، إذ وضع عليه إثم جميعنا، ووقف يطلب عنا معمودية التوبة، كنائب عن البشرية الخاطئة...


14- أخلى الرب ذاته لكي نستطيع أن نتمتَّع به ونوجد معه




كثيرة هي الأسباب التي لأجلها أخلي ذاته، نذكر منها:

1- لكي نستطيع أن نتمتع به ونوجد معه:


لو أنه احتفظ بجلال لاهوته، ما كان إنسان يستطيع أن يقترب إليه... ما كان تلميذه يوحنا يجرؤ أن يتكئ على صدره، وما كان الأطفال يستطيعون أن يجروا نحوه ويحيطوا به ويهرعوا إلى حضنه، وما كانت المرأة الخاطئة تستطيع أن تتقدم نحوه وتمسح قدميه بشعرها. بل ما كانت العذراء تستطيع أن تحمله على كتفها أو ترضعه من ثديها.

لو كان قد نزل في قوة لاهوته، لكان الناس يرتعبون منه ويخافون... إن الرب عندما نزل على الجبل ليعطي الوصايا العشر. "أرتجف كل الجبل جداً، وصار كل الجبل يدخن، وصعد دخانه كدخان الأتون" (خر19: 18) و"أرتعد الشعب ووقفوا من بعيد. وقالوا لموسى: تكلم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر 20: 18، 19). وهكذا رأي الرب أن يخلي ذاته، حتى يمكن للناس أن يختلطوا به دون أن ترعبهم هيبته، أو يصدهم جلاله.

إن موسى النبي، عبد الرب، عندما قضي معه أياماً على الجبل لأخذ اللوحين نزل فإذا وجهه يلمع لم يستطيع الناس أن يحتملوه: "فخافوا أن يقتربوا إليه" (لذلك كان يضع على وجهه برقعاً حتى يحتمل الشعب أن ينظروا إليه (خر34: 29 ، 35).

فإن كان هذا هو الجلال الذي أخذه موسى من عشرته للرب، فماذا يكون جلال الرب نفسه؟! وإن كان الناس لم يحتملوا النور الذي على وجه موسى وهو نازل من عند الرب، فكيف تراهم كانوا يحتملون نور مجد الرب الذي قال عنه القديس يوحنا الرسول في رؤياه أن: "وجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها" (رؤ1: 16)؟!

إنه عندما ظهر لشاول الطرسوسي، عميت عيناه من قوة النور. وظل فترة لا يبصر والقشور تغطي عينيه. فمن كان يحتمل أن يرى الرب في مجده... من يرى الرب ويعيش؟!

وعندما أظهر الرب شيئاً من مجد لاهوته على جبل التجلي، كان التلاميذ مرتعبين، ولم يكن بطرس يعلم ما يتكلم به (مر9: 6). ولما سمعوا الصوت من السحابة: "سقطوا على وجوههم، وخافوا جداً" (مت17: 6). . كيف كان ممكناً إذن أن يحتمل الناس مجد الرب لو لم يخل ذاته؟ وهو أيضاً من أجل إنكاره لذاته، لم يأخذ معه كل تلاميذه إلى جبل التجلي، ولم يعلن هذا المجد للجميع. وحتى الذين شاهدوا مجده: "أوصاهم أن لا يحدثوا أحداً بما أبصروا إلا متى قام..." (مر9: 9).

إن إخفاءه لأمجاده مظهر آخر من إخلاء الذات...

كان الرب يستطيع باستمرار أن يكون في مجد التجلي بين الناس، ولكنه لم يفعل. كان يريد أن يتمتعوا به، ويختلطوا به، لا أن يرهبوه.

ولماذا أيضاً أخلي ذاته؟

2- أراد أن يصحح فكرة الناس عن الألوهية:

تابعوا

 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,326
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus


15- إخلاء الرب لذاته لأنه أراد أن يصحح فكرة الناس عن الألوهية




لقد إقترب إلينا حتى لا تظل فكرة الناس عن الألوهية أن الله جبار ومخيف فأراد أن يجذبنا بالحب لا بالخوف.

أراد أن يدخل قلوبنا عن طريق محبته، لا عن طريق مخافته. وهكذا نري أنه عندما رفضت إحدى قرى السامرة أن تقبله، رفض أن يسمع لتلميذيه اللذين طلبا أن تنزل نار من السماء وتفني تلك القرية، ووبخهما قائلاً: "لستما تعلمان من أي روح أنتما" (لو9: 55). إنه لم يشأ أن يرهب أهل السامرة بقوته، بل أن يكسبهم بمحبته. وصبر معلمنا الصالح إلى أن جاء الوقت الذي دخل فيه أهل السامرة بالمحبة والترحاب لا بالنار النازلة من السماء...

الله لا يريد أن يكون مخيفاً بل محبوباً. الناس بطبيعتهم ينفرون ممن يخافونه. وقد يخضعون له في ذل، لكنهم ينفرون منه في قلوبهم...

كان التلاميذ يريدونه قوياً جباراً مهاباً، بحسب فهمهم البشري، لذلك انتهروا الذين قدموا الأطفال إليه. . أما هو، فقال لهم: "دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم...". وأخذ الأولاد: "واحتضنهم، ووضع يديه عليهم وباركهم" (مر10: 13-16). وكذلك عندما انتهر التلاميذ الأعميين الصارخين نحوه، وقف المسيح وناداهما، وتحنن، ولمس أعينهما فأبصره وتبعاه (مت20: 30-34).


16- أخلى الرب ذاته ليُعالِج السقطة الأولى




ماذا كانت السقطة الأولي سوي الكبرياء، سواء سقطة الشيطان أو سقطة الإنسان؟! فالشيطان قال في قلبه: "أصعد إلى السموات، أرفع كرسي فوق كواكب الله... أصير مثل العلي" (إش14: 13، 14). وعندما أسقط أبوينا الأولين أغراهما بقوله: "تنفتح أعينكما، وتكونان مثل الله..." (تك3: 5).

أخلي الله ذاته آخذاً صورة العبد، لكي يعطي درساً للعبد الذي أراد أن يرفع ذاته ويصير إلهاً. وهكذا صار إبن الله الوحيد ابناً للإنسان، ليعالج كبرياء الإنسان ويجعله ابناً لله، بالاتضاع الذي اتضع به إبن الله، وليس بكبرياء السقطة الأولي...

St-Takla.org Image: Pride and meekness, repentance صورة في موقع الأنبا تكلا: الكبرياء و تواضع، التوبة

وهكذا في إخلائه لذاته قيل إنه شابه: "أخوته" في كل شيء... (عب2: 17).

إن الرب عندما يسمي عبيده ومخلوقاته أخوة له، إنما يبكت الذين يعاملون إخوتهم كعبيد لهم، أولئك الذين يؤلهون أنفسهم كلما ينالون مركزاً أعلي من إخوتهم... أما السيد المسيح إلهنا فلم يفعل هكذا... لقد أخلي ذاته، حتى استطاع بطرس أن يأخذه إليه وينتهره قائلاً: "حاشاك يا رب..." (مت16: 22). وسمح لكثيرين أن يجادلوه ويناقشوه، بعكس كثرين من البشر الذين لا يقبلون جدالاً من أحد وكان تلاميذه يحاورنه حسبما يريدون حتى سموهم "الحواريين"...

وهكذا أخلي السيد المسيح ذاته، وصار كواحد منا... أراد الإنسان أن يرتفع ويصير مثل الله. فنزل الله وصار مثل الإنسان... لكي ينيله بغيته، ولكن بطريقة سليمة، باتضاع الله لا بارتفاع الإنسان....

الإنسان كان يريد أن يقف مع الله في صف واحد... فبدلاً من أن يرتفع الإنسان ليقف مع الله، نزل الله ليقف مع الإنسان. لكيما بنزوله يخجل الإنسان وتنسحق نفسه ويتضع قلبه. وباتضاعه يقترب إلى صورة الله المتضع. لقد أخذ الرب صورة العبد، لكي يخفض من تشامخ السادة...

فليتنا نتضع كلما تأملناه إخلاء الرب لذاته. . ليتنا نتضع نحن الذين كلما أعطينا سلطاناً في أيدينا، نريد أن تميد الأرض تحت أقدامنا، وترتعش السموات من فوق...


17- كيف نُخلي ذواتنا؟





إن كان السيد المسيح قد أخلي ذاته -وفيه كل الملء- فنحن الفراغ، كيف نخلي ذواتنا؟! السيد المسيح الذي فيه كل ملء اللاهوت، أخلي ذاته وصار في الهيئة كإنسان. وهو الإله أخذ شكل العبد، فالعبد عندما يخلي ذاته أي شيء يكون؟ إن سرنا بنفس النسبة في إخلاء الذات، تُرى إلى أين نصل..؟!

عمق الاتضاع هو أن يسأل الإنسان ذاته: ما هي ذاتي حتى أخليها؟! وعندما يشعر الإنسان أنه فراغ، لا يوجد فيه شيء يخليه، يكون حينئذ قد وصل إلى كل الملء...

* النزول إلى فوق

* خطوات عملية


18- النزول إلى فوق



St-Takla.org Image: Saint Augustine Bishop of Hippo and St. Monika His mother صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس أغسطينوس أسقف هيبو و القديسة مونيكة أمه

إن السيد المسيح إلهنا عندما أخلي ذاته نزل من السماء إلى الأرض، وما أبعد المدي بين الإثنين! ونحن الذين على الأرض إن أردنا أن ننزل منها فإلي أين ننزل، وإلى أين نهبط؟ هل تعلمون إلى أين ننزل وإلى أين نهبط؟ لا شك أننا في هبوطنا، وإنما نهبط من الأرض إلى السماء. وفي نزولنا إنما ننزل من تحت إلى فوق...!!

وهكذا نري أن السيد الرب قد غير المقاييس البشرية، مقاييس العلو والهبوط...

ألغاها كلها، وغيرها إلى العكس فقال: "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت23: 12). وقال في نفس المعني: "من أراد أن يكون فيكم عظيماً، فليكن خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً، فليكن عبداً" (مت20: 26). وقال أيضاً: "إذا أراد أحد أن يكون أولاً، فليكن آخر الكل وخادماً للكل" (مر9: 35).

فالشخص الذي يرفع نفسه، إنما يهبط بمستواها الروحي. كلما انتفخ، ويتضاءل حتى يصبح لا شيء... مثل هذا شبهه القديس أوغسطينوس بالدخان الذي كلما يرتفع، تتسع رقعته. وكلما تتسع رقعته يتلاشى حتى يصبح لا شيء. وقد أخذ القديس أوغسطينوس هذا التشبيه عن داود النبي عندما قال: "لأن الأشرار يهلكون فنوا كالدخان فنوا" (مز37: 20) " كما يذري الدخان تذريهم" (مز68: 2).

إن الذين يظنون أنهم يرفعون ذواتهم، إنما (يرفعونها) إلى أسفل، لا إلى فوق وهذا هو ما قصده الرب بقوله: "من يرفع نفسه يتضع"...

أما المتواضعون فكلما يهبطون إلى أسفل يرتفعون إلى فوق أو أن صح التعبير يهبطون إلى فوق... هم باستمرار ينزلون إلى الأعالي الكائنة في الأعماق، لأن السيد الرب أعطانا فكرة جديدة عن العلو والعمق، عندما أخلي ذاته.. لقد علمنا أن العلو هو العمق، وأن العلو يوجد تحت لا فوق... وأعطانا مقاييس للعظمة لم تعرفها البشرية من قبل.

إن المتضعين يرتفعون من قبل في هبوطهم، والمتكبرين يهبطون في صعودهم. وكل من يريد أن يصعد إلى فوق، ويلتصق بالله، علية أن ينزل إلى الأرض ويقول مع داود: "لصقت بالتراب نفسي" (مز119: 25). وإلهنا الناظر إلى المتواضعات "يقيم المسكين من التراب، ويرفع البائس من المزبلة، ليجلس مع رؤساء شعبه" (مز113: 7).


19- كيف تخلي ذاتك؟




والآن، كيف تخلي ذاتك أيها الأخ:

إن لم تتمكن من إخلاء ذاتك بالتمام، فعلي الأقل:


· إخفض نفسك درجة عما تستحقه، أو عما تظن أنك تستحقه، في نظر نفسك، وفي نظر الناس. في إحدى المرات رسم كاهن جديد، وقضي فترة الأربعين يوماً في الدير. وفي تلك الفترة -وهو في الدير سألني- نصيحة له في خدمته المقلبة، فقلت له:

"كن ابناً وسط إخوتك، وأخاً وسط أولادك".

"انزل درجة باستمرار، أو درجات... وباستمرار أسلك بالبساطة في معاملة تلاميذك، وأولادك، وأخوتك الصغار...". واليك تدريب آخر:

· جرب كيف تتنازل عن حقوقك، وعما يليق بك من كرامة. وفي كل وقت ضع أمامك الآية التي تقول: "المحبة لا تطلب ما لنفسها" (1كو13: 5)... فلا تطلب أن تأخذ كل حقوقك، ولا تطلب أن تدافع عن نفسك في كل شيء... ولا ترد التصرف بمثله...

· في إخلائك لذاتك ألق عنك الأشياء التي تضخمك في نظر نفسك أو في نظر الناس. سواء كانت داخل نفسك أو من الخارج. عليك أن تتخلي عن مظاهر العظمة، وتعيش بسيطاً...

· واعلم أن السيد المسيح في إخلائه لذاته، أعطانا فكرة أن العظمة لا تنبع من مظاهر خارجية، ولا من رفعة تحيط وإنما العظمة الحقيقية تنبع من الداخل، من كنه الذات النقية. كلما يصير القلب نقياً، يأخذ صورة الله، ويصير حقاً على مثال الله حسبما خلق في البدء على صورة الله وشبهه (تك1: 26، 27).

· وفي كل نقاوتك وفضائلك، أنسِب الفضل كله لله لا إلى نفسك. . أشعر دائماً أن الله هو العامل فيك، وليس أنت. وأنك بدونه لا تستطيع أن تعمل شيئاً.

وإذا اشتركت مع إنسان في عمل، قدمه على نفسك في كل شيء. أعطه التفوق، وأعطه الفضل، وانسب إليه ما تحاول بأن تنسبه إلى نفسك من العظمة. وتحاول أن تختفي ليظهر الله، وليظهر أخوتك...

· وإن لم تستطع أن تخلي ذاتك، فعلي الأقل لا تضع فوقها ثقلاً جديداً من الارتفاع، حتى لا تنوء نفسك تحت ثقل ارتفاعك..

على الأقل... لا تكبر ذاتك. لا تتحدث عن نفسك، لا تشرح للناس فضائلك لا تسرد قصصاً يفهمون منها شيئاً عالياً عنك...

ضع أمامك صورة المسيح في إخلائه لذاته..

تابعوا

 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,326
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus


20- ملء الزمان




"ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من إمرأة تحت الناموس" (غل4: 4).

إن انتظاره "ملء الزمان" the fullness of the time هو درس روحي عميق نستفيده في حياتنا، عندما نتأمل قصة التجسد وكيف حدد الله ميعادها.

وعندما أخطأ آدم وحواء وعدهما الله بالخلاص، قائلاً لهما إن نسل المرأة سيسحق رأس الحية. وأنجبت المرأة قايين وهابيل وشِيث... ولم يحدث أن أحداً منهم سحق رأس الحية. بل ظلت الحية رافعة رأسها في خطر، حتى كادت تهلك العالم كله في أيام نوح...

فإلى متي يا رب ننتظر؟ متى تحقق وعدك بالخلاص؟

" ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه (أع1: 7). فاصبروا وانتظروا خلاص الرب. وكل شيء سيتم في حينه، في ملء الزمان.

إن الله يعمل في الوقت المناسب، حين يري العمل والظروف كلها تساعد على هذا العمل. الله طويل الأناة في تفكيره وفى تدبيره. ومعالجته للمشاكل ربما تأخذ وقتاً ولكنها تكون قوية ونافعة.

متى نفذ الرب وعده بالخلاص؟ نفذه بعد آلاف السنين...

والحكمة في ذلك سنوضحها فيما بعد. ولكننا نقول الآن "إن يوماً عند الرب كألف سنة، وألف سنة عنده كيوم واحد" (2بط3: 8) كل تلك الآلاف عند الله كأنها لحظة أو طرفة عين. أما البشرية فإنها شغوفة بأن تنهي كل شيء بسرعة... حمي الإسراع هي حمي تنتاب البشر جميعاً. تريد التعجل في كل شيء، ولا تستطيع صبراً على شيء. الناس يجرون وراء حاجاتهم جرياً بدون تفكير في غالبية الأوقات.



21- الإنسان و محبة العجلة والإسراع في طلب الاستجابة من الله




· وعد الرب أبانا إبراهيم بأن يكون له نسل، مثل نجوم السماء ورمل البحر. وانتظر إبراهيم طويلاً ولم يعط نسلاً كنجوم السماء... ولا حتى ابناً واحداً... ماذا يا رب، هل نسيت مواعيدك؟ كلا، إنني لم أنس، ولكنك أنت الذي تريد أن تتعجل الأمور قبل مواعيدها... "تقو وليتشدد قلبك، وانتظر الرب"...


· وعاد إبراهيم، فانتظر مدة أطول، ولكن النسل لم يعط له... فبدأ اليأس يتطرق إلى قلبه، ودفعه اليأس إلى أن يدخل على جاريته هاجر، وينجب منها ابناً... ولكن مشيئة الله ظلت كما هي "بسارة يدعي لك نسل" (تك17: 9)... وعاد إبراهيم فانتظر سنوات أخري...

وحتى بعد ولادة إسحق، مرت عليه عشرات السنوات، ومازال الوعد الخاص بنجوم السماء ورمل البحر ينتظر التحقيق... وعاد إبراهيم فاتخذ قطورة زوجة له. فولدت له زمران ويقشان ومديان ويشباق وشوحا (تك25: 1، 2)... لم تكن مشيئته الرب في كل هؤلاء، فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحق ابنه... وانتظر حتى يحقق الرب وعده، في ملء الزمان... بطريقته الهادئة، التي لا تعجل فيها...

· إن اليأس من وعود الله ومواعيده يدعو إلى التعجل. والعجلة تدعو إلى استخدام الطرق البشرية. والطرق البشرية تتنافي مع طرق الله الصالحة. وسنأخذ مثلاً لذلك رفقة زوجة إسحق.

· قال الرب لرفقة وهي بعد حبلي: "في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوي على شعب، وكبير يستعبد لصغير" (تك25: 23). والكبير هو عيسو، يُسْتَعْبَد للصغير الذي هو يعقوب.

· كيف هذا يا رب؟ كيف يستعبد الكبير للصغير؟ طالما هو البكر فهو السيد. فهل سيفقد البكورية؟ وكيف يكون ذلك؟

· يجيب الرب: اتركوا هذه الأمور لي، سأعالجها بطريقتي الخاصة، الهادئة الصالحة. ومرت الأيام والسنون... أين يا رب وعدك؟ يجيب: إنتظروا، سيتم كل شئ في حينه، في ملء الزمان. ثم أتي اليوم الذي طلب فيه إسحق صيداً من ابنه عيسو، لكي يباركه. وهنا لم تستطع رفقة أن تحتمل، فقدمت حيلة بشرية لأبنها يعقوب ليأخذ بها البركة عن طريق خداعة لأبيه...

لماذا أسرعت رِفقة؟ ولماذا لم تنتظر الرب؟ ولماذا لجأت إلى الطرق البشرية الخاطئة التي لا تتفق مع مشيئة الله الصالحة؟ إنها حمى الإسراع وعدم انتظار ملء الزمان. ومتعباً من معاملة لابان السيئة وخداعة له. وقد سجل يعقوب ملخص حياته هذه بقوله: "أيام سني غربتي... قليلة وردية" (تك 47: 9).

حنة أيضاً كانت تطلب ابناً من الرب، وكانت ضرتها تغيظها غيظاً. وبدا كما لو أن الرب كان يسمع. ويظل ساكتاً!

ومرت الأيام، وحنة ما تزال عاقراً " وهكذا صار سنة بعد سنة، كلما صعدت إلى بيت الرب أن (ضرتها فننه) كانت تغيظها. فبكت ولم تأكل" (1صم1: 7). والرب يسمع ويري، ومع ذلك يبدو ساكتاً لا يعمل شيئاً!... إلى متى يا رب لا تستجيب؟ إلى متى تحتمل بكاء حنة من إغاظة ضرتها؟

يجيب الرب: انتظروا ملء الزمان. إن الذي لا يتعبكم طول أناتي، بل الذي يتعبكم هو حمي الإسراع. انتظرونا، فللانتظار فائدته...

وكان من فائدة الانتظار أن حنة نذرت نذراً أن تعطي ابنها للرب كل أيام حياته. وقد كان، وولد لها صموئيل.

ولد صموئيل في ملء الزمان، متأخراً جداً. ولكنه كان أفضل من جميع أولاد فننة، ضرة أمه التي كانت تغيظها... من هم أولاد فننة؟ إننا لا نعرف شيئاً عنهم ولا حتى عن أسمائهم، أما صموئيل فيعرفه الجميع...

ليتنا إذن في معاملاتنا للرب، نصبر، وننتظر ملء الزمان.

إن الضيقات تحتاج إلى طول أناة، حتى يرفعها الرب عنا في الحين الحسن، في ملء الزمان، بعد أن نكون قد أخذناه بركتها. ولكننا أحياناً لا نفعل هكذا بل نضيق بسرعة، ونصرخ: "لماذا يا رب تركتنا؟ لماذا لم تسمع الصلاة؟"...

قد يكون لك مريض تطلب شفاءه، وتلح في ذلك. وقد يبطئ الرب في الاستجابة حتى يأتي ملء الزمان الذي يحدده للمريض حسب حكمته في اختيار الأوقات. أما أنت فتضجر وتصيح في ضجرك: "ليه يا رب ما بتسمعش؟ أمال إيه لازمة الصلاة؟ أمال إيه فايدة سر مسحة المرضي!! " وتعمل خناقة مع ربنا... ليس لأن الله قد أخطأ في حقك، وإنما بسبب محبتك للإسراع وعدم انتظارك ملء الزمان.



22- ملىء الزمان هو الوقت المناسب | فكرة الذبيحة والفداء




بنفس حكمة ملء الزمان، انتظر الرب حتى يعد كل شيء لتجسده، ثم بعد ذلك نزل إلينا في الوقت المناسب...

لم يكن هناك وقت مناسب أكثر من موعد مجيئه بالذات. كان كل شيء ممهداً وكل شيء معداً. لذلك كان عمل مجيئه قوياً، وكان تقبل الناس له سريعاً...

كانت النبوءات قد اكتملت، وكذلك الرموز. وأعد الرب فهم الناس لها خلال مدي طويل، حتى يستطيعوا أن يستوعبوها عندما يتم المكتوب ويتحقق الرمز...

خذوا لذلك مثالاً هو فكرة الذبيحة وفكرة الفداء:


كيف تدرج الله بهم من الذبيحة التي غطي آدم وحواء عريهما بجلدها إلى ذبيحة هابيل التي "من أبكار غنمه ومن سمانها"، إلى فكرة ذبيحة الابن الوحيد التي تمثلت في إسحق، إلى شروط الذبيحة التي بلا عيب، التي تحمل خطية غيرها وتموت عنه... وتركهم آلافاً من السنين حتى احتضنوا الفكرة واستوعبوها وصارت من بديهياتهم...

إن الله طريقته هادئة وطويلة المدى، ولكنها منتجة ونافعة...

صدقوني، لو أن الله صبر كل تلك الآلاف من السنين حتى يجد العذراء الطاهرة التي تستحق أن يولد منها الرب، والتي تحتمل أن يولد منها الرب، لكان هذا وحده سبباً كافياً.

وكان ينبغي أن ينتظر حتى يوجد الرجل البار الذي تعيش تلك العذراء في كفنه، ويحفظها في عفتها، ويحتمل أن تحبل من الروح القدس، ويقبل الفكرة، ويحمي الفتاة، ويعيش كأنه أب لابنها في نظر المجتمع..

وكان ينبغي الانتظار حتى يولد الملاك الذي يعد الطريق قدام ملك الملوك، أعني يوحنا المعمدان ذا الشخصية الجبارة والتأثير العميق. الذي يستطيع أن يقول: "في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه" (يو1: 27) "وينبغي أن ذاك يزيد، وأني أنا أنقص. الذي يأتي من فوق، هو فوق الجميع. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع.." (يو3: 30، 31).

لعل أحداً يسأل: ولماذا لم يوجد الله كل هؤلاء منذ زمن؟ نجيب بأن الله لا يرغم البشر على البر والقداسة. إنه ينتظر حتى توجد الآنية المستعدة بكامل إرادتها..

هناك أسباب عديدة جداً توضح شيئاً من حكمة الرب في الانتظار حتى يأتي ملء الزمان. أوضحها هو إعداد العالم كله وتهيئته لقبول فكرة التجسد وفكرة الفداء...

وأخيراً، عندما كمل كل شيء "لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني" (غل4: 4، 5).

تابــع
 
أعلى