15- إخلاء الرب لذاته لأنه أراد أن يصحح فكرة الناس عن الألوهية
لقد إقترب إلينا حتى لا تظل فكرة الناس عن الألوهية أن الله جبار ومخيف فأراد أن يجذبنا بالحب لا بالخوف.
أراد أن يدخل قلوبنا عن طريق محبته، لا عن طريق مخافته. وهكذا نري أنه عندما رفضت إحدى قرى السامرة أن تقبله، رفض أن يسمع لتلميذيه اللذين طلبا أن تنزل نار من السماء وتفني تلك القرية، ووبخهما قائلاً: "لستما تعلمان من أي روح أنتما" (لو9: 55). إنه لم يشأ أن يرهب أهل السامرة بقوته، بل أن يكسبهم بمحبته. وصبر معلمنا الصالح إلى أن جاء الوقت الذي دخل فيه أهل السامرة بالمحبة والترحاب لا بالنار النازلة من السماء...
الله لا يريد أن يكون مخيفاً بل محبوباً. الناس بطبيعتهم ينفرون ممن يخافونه. وقد يخضعون له في ذل، لكنهم ينفرون منه في قلوبهم...
كان التلاميذ يريدونه قوياً جباراً مهاباً، بحسب فهمهم البشري، لذلك انتهروا الذين قدموا الأطفال إليه. . أما هو، فقال لهم: "دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم...". وأخذ الأولاد: "واحتضنهم، ووضع يديه عليهم وباركهم" (مر10: 13-16). وكذلك عندما انتهر التلاميذ الأعميين الصارخين نحوه، وقف المسيح وناداهما، وتحنن، ولمس أعينهما فأبصره وتبعاه (مت20: 30-34).
16- أخلى الرب ذاته ليُعالِج السقطة الأولى
ماذا كانت السقطة الأولي سوي الكبرياء، سواء سقطة الشيطان أو سقطة الإنسان؟! فالشيطان قال في قلبه: "أصعد إلى السموات، أرفع كرسي فوق كواكب الله... أصير مثل العلي" (إش14: 13، 14). وعندما أسقط أبوينا الأولين أغراهما بقوله: "تنفتح أعينكما، وتكونان مثل الله..." (تك3: 5).
أخلي الله ذاته آخذاً صورة العبد، لكي يعطي درساً للعبد الذي أراد أن يرفع ذاته ويصير إلهاً. وهكذا صار إبن الله الوحيد ابناً للإنسان، ليعالج كبرياء الإنسان ويجعله ابناً لله، بالاتضاع الذي اتضع به إبن الله، وليس بكبرياء السقطة الأولي...
St-Takla.org Image: Pride and meekness, repentance صورة في موقع الأنبا تكلا: الكبرياء و تواضع، التوبة
وهكذا في إخلائه لذاته قيل إنه شابه: "أخوته" في كل شيء... (عب2: 17).
إن الرب عندما يسمي عبيده ومخلوقاته أخوة له، إنما يبكت الذين يعاملون إخوتهم كعبيد لهم، أولئك الذين يؤلهون أنفسهم كلما ينالون مركزاً أعلي من إخوتهم... أما السيد المسيح إلهنا فلم يفعل هكذا... لقد أخلي ذاته، حتى استطاع بطرس أن يأخذه إليه وينتهره قائلاً: "حاشاك يا رب..." (مت16: 22). وسمح لكثيرين أن يجادلوه ويناقشوه، بعكس كثرين من البشر الذين لا يقبلون جدالاً من أحد وكان تلاميذه يحاورنه حسبما يريدون حتى سموهم "الحواريين"...
وهكذا أخلي السيد المسيح ذاته، وصار كواحد منا... أراد الإنسان أن يرتفع ويصير مثل الله. فنزل الله وصار مثل الإنسان... لكي ينيله بغيته، ولكن بطريقة سليمة، باتضاع الله لا بارتفاع الإنسان....
الإنسان كان يريد أن يقف مع الله في صف واحد... فبدلاً من أن يرتفع الإنسان ليقف مع الله، نزل الله ليقف مع الإنسان. لكيما بنزوله يخجل الإنسان وتنسحق نفسه ويتضع قلبه. وباتضاعه يقترب إلى صورة الله المتضع. لقد أخذ الرب صورة العبد، لكي يخفض من تشامخ السادة...
فليتنا نتضع كلما تأملناه إخلاء الرب لذاته. . ليتنا نتضع نحن الذين كلما أعطينا سلطاناً في أيدينا، نريد أن تميد الأرض تحت أقدامنا، وترتعش السموات من فوق...
17- كيف نُخلي ذواتنا؟
إن كان السيد المسيح قد أخلي ذاته -وفيه كل الملء- فنحن الفراغ، كيف نخلي ذواتنا؟! السيد المسيح الذي فيه كل ملء اللاهوت، أخلي ذاته وصار في الهيئة كإنسان. وهو الإله أخذ شكل العبد، فالعبد عندما يخلي ذاته أي شيء يكون؟ إن سرنا بنفس النسبة في إخلاء الذات، تُرى إلى أين نصل..؟!
عمق الاتضاع هو أن يسأل الإنسان ذاته: ما هي ذاتي حتى أخليها؟! وعندما يشعر الإنسان أنه فراغ، لا يوجد فيه شيء يخليه، يكون حينئذ قد وصل إلى كل الملء...
* النزول إلى فوق
* خطوات عملية
18- النزول إلى فوق
St-Takla.org Image: Saint Augustine Bishop of Hippo and St. Monika His mother صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس أغسطينوس أسقف هيبو و القديسة مونيكة أمه
إن السيد المسيح إلهنا عندما أخلي ذاته نزل من السماء إلى الأرض، وما أبعد المدي بين الإثنين! ونحن الذين على الأرض إن أردنا أن ننزل منها فإلي أين ننزل، وإلى أين نهبط؟ هل تعلمون إلى أين ننزل وإلى أين نهبط؟ لا شك أننا في هبوطنا، وإنما نهبط من الأرض إلى السماء. وفي نزولنا إنما ننزل من تحت إلى فوق...!!
وهكذا نري أن السيد الرب قد غير المقاييس البشرية، مقاييس العلو والهبوط...
ألغاها كلها، وغيرها إلى العكس فقال: "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت23: 12). وقال في نفس المعني: "من أراد أن يكون فيكم عظيماً، فليكن خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً، فليكن عبداً" (مت20: 26). وقال أيضاً: "إذا أراد أحد أن يكون أولاً، فليكن آخر الكل وخادماً للكل" (مر9: 35).
فالشخص الذي يرفع نفسه، إنما يهبط بمستواها الروحي. كلما انتفخ، ويتضاءل حتى يصبح لا شيء... مثل هذا شبهه القديس أوغسطينوس بالدخان الذي كلما يرتفع، تتسع رقعته. وكلما تتسع رقعته يتلاشى حتى يصبح لا شيء. وقد أخذ القديس أوغسطينوس هذا التشبيه عن داود النبي عندما قال: "لأن الأشرار يهلكون فنوا كالدخان فنوا" (مز37: 20) " كما يذري الدخان تذريهم" (مز68: 2).
إن الذين يظنون أنهم يرفعون ذواتهم، إنما (يرفعونها) إلى أسفل، لا إلى فوق وهذا هو ما قصده الرب بقوله: "من يرفع نفسه يتضع"...
أما المتواضعون فكلما يهبطون إلى أسفل يرتفعون إلى فوق أو أن صح التعبير يهبطون إلى فوق... هم باستمرار ينزلون إلى الأعالي الكائنة في الأعماق، لأن السيد الرب أعطانا فكرة جديدة عن العلو والعمق، عندما أخلي ذاته.. لقد علمنا أن العلو هو العمق، وأن العلو يوجد تحت لا فوق... وأعطانا مقاييس للعظمة لم تعرفها البشرية من قبل.
إن المتضعين يرتفعون من قبل في هبوطهم، والمتكبرين يهبطون في صعودهم. وكل من يريد أن يصعد إلى فوق، ويلتصق بالله، علية أن ينزل إلى الأرض ويقول مع داود: "لصقت بالتراب نفسي" (مز119: 25). وإلهنا الناظر إلى المتواضعات "يقيم المسكين من التراب، ويرفع البائس من المزبلة، ليجلس مع رؤساء شعبه" (مز113: 7).
19- كيف تخلي ذاتك؟
والآن، كيف تخلي ذاتك أيها الأخ:
إن لم تتمكن من إخلاء ذاتك بالتمام، فعلي الأقل:
· إخفض نفسك درجة عما تستحقه، أو عما تظن أنك تستحقه، في نظر نفسك، وفي نظر الناس. في إحدى المرات رسم كاهن جديد، وقضي فترة الأربعين يوماً في الدير. وفي تلك الفترة -وهو في الدير سألني- نصيحة له في خدمته المقلبة، فقلت له:
"كن ابناً وسط إخوتك، وأخاً وسط أولادك".
"انزل درجة باستمرار، أو درجات... وباستمرار أسلك بالبساطة في معاملة تلاميذك، وأولادك، وأخوتك الصغار...". واليك تدريب آخر:
· جرب كيف تتنازل عن حقوقك، وعما يليق بك من كرامة. وفي كل وقت ضع أمامك الآية التي تقول: "المحبة لا تطلب ما لنفسها" (1كو13: 5)... فلا تطلب أن تأخذ كل حقوقك، ولا تطلب أن تدافع عن نفسك في كل شيء... ولا ترد التصرف بمثله...
· في إخلائك لذاتك ألق عنك الأشياء التي تضخمك في نظر نفسك أو في نظر الناس. سواء كانت داخل نفسك أو من الخارج. عليك أن تتخلي عن مظاهر العظمة، وتعيش بسيطاً...
· واعلم أن السيد المسيح في إخلائه لذاته، أعطانا فكرة أن العظمة لا تنبع من مظاهر خارجية، ولا من رفعة تحيط وإنما العظمة الحقيقية تنبع من الداخل، من كنه الذات النقية. كلما يصير القلب نقياً، يأخذ صورة الله، ويصير حقاً على مثال الله حسبما خلق في البدء على صورة الله وشبهه (تك1: 26، 27).
· وفي كل نقاوتك وفضائلك، أنسِب الفضل كله لله لا إلى نفسك. . أشعر دائماً أن الله هو العامل فيك، وليس أنت. وأنك بدونه لا تستطيع أن تعمل شيئاً.
وإذا اشتركت مع إنسان في عمل، قدمه على نفسك في كل شيء. أعطه التفوق، وأعطه الفضل، وانسب إليه ما تحاول بأن تنسبه إلى نفسك من العظمة. وتحاول أن تختفي ليظهر الله، وليظهر أخوتك...
· وإن لم تستطع أن تخلي ذاتك، فعلي الأقل لا تضع فوقها ثقلاً جديداً من الارتفاع، حتى لا تنوء نفسك تحت ثقل ارتفاعك..
على الأقل... لا تكبر ذاتك. لا تتحدث عن نفسك، لا تشرح للناس فضائلك لا تسرد قصصاً يفهمون منها شيئاً عالياً عنك...
ضع أمامك صورة المسيح في إخلائه لذاته..
تابعوا