لوحة الغرينكا لبيكاسو
في المرة الأولى قُتل أكثر من 20 مليون إنسان وأُصيب ضِعفهم، أي الضحايا أكثر من 40 مليون إنسان. في المرة الثانية كان الدمار أكبر وأضخم فقد قُتل أكثر من 80 مليونا وأُصيب أكثر من 30 مليونا. تلك الأرقام الضخمة حصيلة الحربين العالميتين الأولى والثانية. عشرات ملايين القتلى والجرحى بسبب وجودهم في موقع جغرافي معين، وأحيانًا بسبب انتمائهم لحزب أو طائفة معينة.
تلك الأرقام الكارثية خلّفت ما هو أكثر من مجرد عدد الضحايا. لقد أفرزت سياقات فلسفية وسياسية وفنية جديدة كليًا ومروعة في آن. وبالطبع، كانت تلك السياقات تحاكي حجم الدمار الذي تعيشه الإنسانية من وراء هاتين الحربين. فقد ظهرت مدارس فلسفية جديدة تعبر عن التشظي وغياب المعنى في عالم ما بعد الحداثة مثل العدمية.
والأمر سيان بالنسبة للفن التشكيلي. فقد ظهرت مدارس تعكس التشوه الناجم عن استخدام القنابل الذرية والأسلحة الميكروبية وما رافقها من مذابح وإبادات جماعية. فنرى أن الأساليب والمذاهب الكلاسيكية في الرسم لم تعد رائجة، وظهرت مذاهب جديدة عُرفت وقتها "بالتكعيبية والسريالية والدادائية". تلك المذاهب الجديدة كانت انعكاسًا واضحًا للهاوية السحيقة التي سقط فيها العالم بعد الحربين العالميتين وظهور ما يُعرف اصطلاحًا الآن بعالم ما بعد الحداثة.
[YOUTUBE]_HGW1DQO1xQ&feature=emb_title[/YOUTUBE]
"إنما يأتي الفن في مواجهة الرعب الناشئ عن غياب أي معنى للحياة، ليبرّر الوجود نفسه" (نيتشه، ميلاد التراجيديا)
ظهر مصطلح "التكعيبية" في باريس في الفترة ما بين الحربين العالميتين (1907- 1914) بعد أن تمعن الناقد الفني الفرنسي "لويس فوكسيلس" (Louis Vauxcelles) في لوحة بيكاسو "آنسات أفينيون" (Les Demoiselles d'Avignon) والتي رسمت بأشكال هندسيّة واضحة مثل: المربع، الأسطوانة، المخروط، الدائرة والمثلث.
وقد جاءت اللوحة صادمة ومختلفة عن أي أنماط بصرية ثلاثية الأبعاد مفهومة ومريحة للعين. فالمشاهد يرى المشهد الواحد من عدة زوايا من النظرة الواحدة. حتى إن بيكاسو نفسه علق على اللوحة -لاحقًا- قائلا "كانت تلك هي تجربتي الأولى في تحضير الأرواح."
"مَن يرى وجه الإنسان بشكل صحيح: المصوّر أم المرآة أم الرسّام؟" (بابلو بيكاسو)
[YOUTUBE]6mp-fBJNQmU&feature=emb_title[/YOUTUBE]
لقد كانت التعاريج والزوايا الحادة والكسور الموجودة في لوحات تلك الفترة أشبه بمرآة مُحطمة لا تعكس إلا أشكالا مشوّهة لأي شخص يقف أمامها. وبالطبع، كان الفن هو تلك المرآة والشخص الذي يقف أمامها هو العالم.
التشظي والتشوه لم يقفا عند ذلك الحد. فقد اجتمع عدد من الفنانين في زيوريخ وقرروا رفض كل ما جاءت به المدارس الفنية والحضارات الإنسانية جمعاء. وأطلقوا على هذه الحركة "فن اللافن أو الدادائية" والتي كانت مُحاكاة لمدى القبح والبشاعة اللذين وصل لهما العالم. وقد مهدت الدادائية بدورها لظهور السريالية التي تعد واحدة من أشهر مدارس الفن التشكيلي شهرة حتى اليوم.
فقد ظهر الزمن في لوحة السريالي سلفادور دالي "إصرار الذاكرة" (The Persistence of Memory) مائعا تماما في حالة سيلان، وليس ذلك البناء الميتافيزيقي الضخم الذي يحكم التاريخ وحركة الكون. يعبث دالي هنا بالزمن وبالذاكرة حتى يظهر الوقت في أسفل يسار اللوحة كوجبة يتهافت عليها النمل.
ومما لا شك فيه، أن تلك اللوحات لا تعكس الواقع بأشكاله وأنماطه البصرية المألوفة لنا. لقد كانت السريالية والتكعيبيّة مجازًا تُكَذّب الواقع لتكشف في زواياه الحادة وسيكولوجيته المُظلمة عن الحقيقة المؤسفة التي وصل لها العالم بعد الحربين. أن المرآة صارت مهشمة ومكسورة ولا توجد صورة واضحة أو معنى يمكن الوقوف عليه.