- إنضم
- 20 أغسطس 2022
- المشاركات
- 3,791
- مستوى التفاعل
- 1,843
- النقاط
- 113

عيد ميلاد سيدنا يسوع المسيح ورسالة الرعاة (لوقا 2: 15-20)
الأب لويس حزبون
يصف انجيل لوقا (لوقا 2: 15-20) رسالة الرعاة حول ميلاد سيدنا يسوع المسيح، وهي تدعونا لان نسير في الطريق ” هَلُمَّ بِنا إِلى بَيتَ لَحم” فنجد الخلاص والسلام والفرح في طفلٍ مضجعٍ في مذود. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع نص الإنجيل وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 2: 15-20)
15فَلَمَّا انصَرَفَ الـمَلائِكَةُ عَنهُم إِلى السَّماءِ، قالَ الرُّعاةُ بَعضُهُم لِبَعض: ((هَلُمَّ بِنا إِلى بَيتَ لَحم، فَنَرَى ما حَدَثَ، ذاكَ الَّذي أَخبَرَنا بِه الرَّبّ)).
تشير عبارة “الـمَلائِكَةُ” الى اشخاص روحيين مُرسلين من لدن الله الذين ظهروا للرعاة، فظهورهم علامة مميَّزة لحضور الله، وبالتالي إثبات الوهية الطفل المولود؛ اما عبارة ” الرُّعاةُ ” فتشير الى اشخاص وضعاء وفقراء يعيشون على هامش جماعة العاملين بأحكام الشريعة، وبالتالي كان لهم سمعة غير حسنة في إسرائيل في ذاك الوقت. ومع ذلك وصلت إليهم بشارة ميلاد الرب قبل الجميع؛ اما عبارة “بَيتَ لَحم” فتشير الى مكان ولادة يسوع تاريخيا كما ورد في انجيل متى “ولمَّا وُلِدَ يسوعُ في بَيتَ لَحمِ اليهودِيَّة” (متى 2: 1)، وتؤكد ذلك أيضا الجماعة اليهودية المتنصَّرة في فلسطين كما ورد في انجيل يعقوب المنحول(17-18) و”سفر صعود أشعيا ” وشهادة القديس يوستينوس النابلسي الشهيد. وبيت لحم تدعى أيضا “مدينة داود”(لوقا 2: 4)، ويشير النص مرتين الى بيت لحم على انها “مدينة داود” (لوقا 2: 4، 11). ونحن نعلم ان داود كان راعيا من بيت لحم. وكان يرعى قطيع والده في بيت لحم (1 ملوك 16: 1-13). والاشارة الى ان يسوع ولد في بيت لحم، مفادها انه داود الجديد المنحدر من رعاة بيت الحم والمزمع ان يكون ليس فقط راعي البشر، “راعِيَ الخِرافِ العَظيم،” (عبرانيين 13: 20)، بل أيضا ” راعي الرُّعاة” كما أعلنه القديس بطرس الرسول (1 بطرس 5: 4)، وراعي النفوس وحارسها، الذي أرجع النفوس الضالة وشفاها بجراحه (1 بطرس 2: 24-25). وإذا كان يسوع هو المسيح المنحدر من داود، فمن المهم تحديد مكان ولادته في بيت لحم. ولعل تدبير الله في اختيار بيت لحم بالذات مكانًا لميلاد يسوع إشارة أيضا إلى أن هذا الطفل هو الخبز الحي النازل من السماء، لأن بيت لحم تعنى بيت الخبز؛ أمَّا عبارة “ما حَدَثَ” فتشير حرفيا ῥῆμαالى “الكلمة” التي حدثت كما جاء المعنى ايضا في انجيل لوقا في نص آخر (لوقا 1: 65). وقد بدأت الكلمة في ميلاد يسوع وتموت على الصليب، ثم تنمو في الكنيسة الأولى (اعمال الرسل 6: 7) والكلمة هو يسوع ابن الله كما ورد في مقدمة انجيل يوحنا ” في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله “(يوحنا 1: 1).
16وجاؤوا مُسرعين، فوَجَدوا مريمَ ويوسُفَ والطِّفلَ مُضجَعاً في الـمِذوَد.
تشير عبارة “الـمِذوَد” إلى الْمَكَانُ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ عَلَفُ الدَّوَابِّ، وهنا هو علامة أعطاها الملائكة الى الرعاة “وإِلَيكُم هذِهِ العَلامة: سَتَجِدونَ طِفلاً مُقَمَّطاً مُضجَعاً في مِذوَد”(لوقا 2: 12)، وهذه العلامة لا تعني حدثا ماديا ذا مدلول خفي، انما هي مؤشر يَعرف الرعاة بوساطته ان الطفل هو ذاك الذي بشَّرهم به الملائكة. والمذود له ايضا ارتباط مسيحاني للراعي المنحدر من داود كما جاء في نبوءة ميخا “وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْراتَة إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائِرِ يَهوذا ولكِن مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطاً على إِسْرائيل وأُصوِلُه مُنذُ القَديم مُنذُ أَيَّامَ الأَزَل… ويَقِفُ ويَرْعى بِعِزَّةِ الرَّبّ وبِعَظَمَةِ آسمِ الرَّبِّ إِلهِه “(ميخا 5: 1-3). ولد يسوع في المذود محتقرًا كل أمجاد العالم وعظمته الباطلة الفانية. العالم استقبله في مذود وودَّعه على خشبة الصليب، فهو أتى مستعدًا للذبح من يوم ولادته.
17 ولَـمَّا رَأَوا ذلكَ جعَلوا يُخبِرونَ بِما قيلَ لَهم في ذلك الطِّفْل. 18فَجَميعُ الَّذين سَمِعوا الرُّعاةَ تَعَجَّبوا مِمَّا قالوا لَهم
تشير عبارة ” تَعَجَّبوا ” الى ردة الفعل امام تدخلات الله كما هو الحال مع مولد يوحنا المعمدان “فَطَلَبَ ابوه لَوحاً وكَتَب ((اِسمُهُ يوحَنَّا)) فتَعَجَّبوا كُلُّهم” (لوقا 1: 63).
19وكانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها.
تشير عبارة ” تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور” الى تأثَّر القدِّيسة مريم بهذا اللقاء مع الرعاة، فقامت بالتفكير ومحاولة الدخول في سر الوحي، ويعلّق القديس أمبروسيوس على ذلك بقوله “من كلمات الرعاة تحصد مريم عناصر إيمانها”؛ فجاء تطويبة صاحب المزامير “طوبى لِلَّذينَ يَحفَظونَ شَهادَتَه وبِكُلِّ قُلوبِهِم يَلتَمِسونَه” (مزمور 119: 2)؛ واما عبارة “تَتَأَمَّلُها في قَلبِها” فتشير الى البحث عن معنى الأمور والتفكير في الاحداث التي لن ينكشف معناها إلا في وحي القيامة وتبشير بولس الرسول ان يسوع هو ابن الله (اعمال الرسل 9: 10). ولا تدل هذه الآية (لوقا 2: 19) على سجيّة مريم العذراء وأخلاقها فحسب، إنما تدل أيضا على ان لوقا الإنجيلي استقى معلوماته ونقل الينا طفولة يسوع من ذكريات مريم التي كانت تحفظها ثم سلمتها الى الجماعة اليهودية المتنصرة، وأخيرا تلقاها لوقا الإنجيلي.
20ورَجَعَ الرُّعاةُ وهم يُمَجِّدونَ الله ويُسَبِّحونَه على كُلِّ ما سَمِعوا ورَأَوا كَما قيلَ لَهم.
تشير عبارة ” يُمَجِّدونَ الله” الى رد فعل الرعاة امام ظهور الله وتجلياته الإلهية؛ واما عبارة “يُسَبِّحونَه” فتشير الى عرفان بالجميل والمديح، ذلك لأن الله يبدو جديراً بالتسبيح على النعم التي يغدقها على الإنسان. والتسبيح ينوّه بشخصية الله أكثر منه بعطاياه: فإنه يركز بالأكثر على الله وهو أقرب إلى السجود. فلنسبح ال ونسجد له مع الرعاة والملائكة قائلين ” الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه! ” (لوقا 2: 14). وإن ترنيمة الملائكة ترنيمة مفضلة في كل الأوقات ظلت تلهم الموسيقيين لألفي عام، وقد كانت الأساس لأعمال موسيقية وترانيم ميلادية وفرق الترنيم والالحان الليتورجيا القديمة.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 2: 8-20)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي، نستنتج انه يتمحور حول رسالة الرعاة في ميلاد يسوع المسيح. ويكشف لنا لوقا الانجيل ثلاث مراحل في دورهم في ميلاد الرب:
المرحلة الأولى: بشارة الملائكة للرعاة (لوقا 2: 8-15)
إن أعظم حدث في التاريخ هو ميلاد يسوع المسيح. لقد انتظر العالم هذا الحدث أجيالا طويلة. وأخيراً “لَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ ” (غلاطية 4: 4). وقد تمَّت ولادة السيِّد المسيح في المذود بعيدًا عن الأنظار، وهكذا استقبلت الأرض خالقها في صمتٍ رهيبٍ، لكن لم يكن ممكنًا للسماء أن تصمت، فقد جاءت ملائكة الرب إلى جماعة من الرعاة الساهرين الأمناء في عملهم، وزُفَّت البشرى الى الرعاة المتواضعين البسطاء ودعوهم للاشتراك في تحية “حمل الله ” (يوحنا 1: 36) الذي يحمل خطايا العالم. والواقع لم يكن في استقبال الرب عند ميلاده سوى بعض الرعاة أي أناس بسطاء هامشيين. فميلاد المسيح يربطنا روحيا بتلك الليلة الجميلة التي التقت السماء بالأرض حيث بشر الملائكة الرعاة وولد يسوع المخلص.
وفي زمن المسيح، كان الرعاة موضوع أحكام متعارضة، فالبعض يرون فيهم أنهم بعيدون عن الشريعة التي لم يكن في استطاعتهم ممارستها، غير أن البعض الآخر كانوا يحتفظون في ذاكرتهم بنبوءة الراعي المزمع أن يأتي. وقد أتم يسوع هذه النبوءة “أَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْراتَة إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائِرِ يَهوذا ولكِن مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطاً على إِسْرائيل وأُصوِلُه مُنذُ القَديم مُنذُ أَيَّامَ الأَزَل. (ميخا 5: 1). ويقول أدرشيم العالم اليهودي المتنصر “إنهم رعاة كانوا يحرسون الأغنام التي يقدم منها ذبائح طوال السنة في الهيكل، وكان من يريد تقديم ذبيحة يذهب ويشترى منهم.” وكان الكهنة يفحصونها ويختمونها حينما يجدونها بلا عيب (يوحنا 6: 27). فأغنامهم رمز للمسيح “حمل الله ” الذي بلا خطيئة. وقد ظهر الملاك للرعاة ليرشدهم إلى حَمَلْ الله الذي سيُقدَّم ذبيحةً هو أيضاً، وليرشدهم للراعي الحقيقي والحمل الحقيقي الذي ختمه الله الآب “لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان فهوَ الَّذي ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه، بِخَتْمِه” (يوحنا 6: 27)، وختم الله هو شهادة الله لبرِّ المسيح ابنه، وأنه بلا خطيئة وأرسله ليُقدِّم نفسَه ذبيحة.
وفي كتاب الرؤيا يصبح المسيح الحمل راعيا يهدي الى ينابيع ماء الحياة ” لأَنَّ الحَمَلَ الَّذي في وَسَطِ العَرشِ سيَرْعاهم وسيَهْديهم إِلى يَنابيع ِماءِ الحَياة، وسيَمسَحُ اللهُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم”(رؤيا 7: 17). إن الراعي الواحد المنتظر (حزقيال 34: 23)، يعلن يسوع أنه هو بالذات. “أَنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف” (يوحنا 10: 12). فالمسيح وُلِد فقيرًا ليغني كثيرين، وولد متواضعًا ليرفع المتضعين وبقدر ما نكون له، يكون هو أيضًا لنا.
اما مكان ظهور الملائكة يبدو انه في مجدل عَدَرْ هو اسم عبري מִגְדַּל־עֵדֶר معناه قلعة أو برج القطيع. ويذكره ميخا النبي ” وأَنتِ يا بُرجَ القَطيع يا عوفَلَ بِنتِ صِهْيون إِلَيكِ يأتي ويَعودُ السُّلطانُ الأَوَّل، مُلكُ بِنتِ أُورَشَليم” (ميخا النبي 4: 8). ويقع برج القطيع في بيت ساحور قرب كنيسة الروم الأرثوذكس. وهو ليس برجا لمراقبة قطعان الغنم العادية بل الغنم التي ستُقدَّم ذبائح في الهيكل بحسب ما ورد في كتاب المشنة اليهودية. هؤلاء هم الرعاة الذين ظهر لهم الملائكة ليبشِّروا بميلاد المسيح الذي سيكون الحمل الذي يقدم ذبيحة عن العالم. وقد رمزت اغنامهم إلى يسوع الحمل الحقيقي الذي يفدى شعبه بذبيحة نفسه كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين ” لم يَظهَرْ إِلاَّ مَرَّةً واحِدَةً في نِهايَةِ العالَم لِيُزيلَ الخَطيئَةَ بِذبيحَةِ نَفْسِه”(عبرانيين 9: 26).
وبشرى الرعاة في ليلة الميلاد هي بشرى لنا: إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ” (لوقا 2: 10-11). أذاً لنوكل ذاتنا إلى هذه النعمة التي تمنحنا الطمأنينة والفرح والسلام. ويعلق القديس أوغسطينوس “صارَ اللهُ إنسانًا، ليصيرَ الإنسانُ إلهًا. هذه بشرى عنوان مشروع حياةٍ يُحقِّقُهُ من يقوى على فهمه ويفتح قلبه الى محبةَ الله ومحبة الأخرين ويجد فيه مسرّته “الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه! “(لوقا 2: 14).
بميلاد طفل المغارة بدأ عالم جديد، لان ميلاده هو عربون السلام المسيحاني (لوقا 9: 6).
المرحلة الثانية: سجود الرعاة للطفل الإلهي يسوع المسيح (لوقا 15: 15-17)
كان الرعاة في الطليعة الى بيت لحم، بعد ان بشّرهم ملاك الرب، وقد لبّوا في الحال دعوة الملائكة “وجاؤوا مُسرعين، فوَجَدوا مريمَ ويوسُفَ والطِّفلَ مُضجَعاً في الـمِذوَد” (لوقا 2: 16). ويُعلق القديس أمبروسيوس “أسرع الرعاة في البحث عن يسوع بلا تراخٍ، فقد آمن الرعاة بكلمات الملاك” فجدوا عائلة مثالية وجدوا يسوع ومريم ويوسف.
أ) وجد الرعاة يسوع طفلا مضجعاً في مذود
وجد الرعاة الطفل الالهي في مغارة مظلمة وشديدة البرودة، محروما من كل ثروة وجاه. قصره مغارة، عرشه مذود، حاشيته لاجئان فقيران بلا مأوى. وبالرغم هذا الفقر المدقع، سجدوا للطفل المضَّجع في المذود! ويُعلق القديس كيرلس الكبير “لا تنظروا إذن إلى الطفل المولود في المذود كأنه رضيع فقط، بل انظروا إليه إلهًا غنيًا قديرًا وفاديًا، مخلِّصا عظيمًا يفوق الأجناد السماوية قوّة واِقتدارًا، فحقَّ له أن تنادي الملائكة بولادته في فرح وسرور وابتهاج وحبور، فما أجمل تحيَّات الملائكة للطفل يسوع وهم ينشدون”.
لقد أعلنت الملائكة سر المخلّص، المسيح الرب، هو المخلص (اشعيا 11:43) والذي تأنس وصار إنسانًا، ومُسِحَ بالروح القدس ليكون ملكًا وكاهنًا ونبيًا. وقد تحقق ما أعلن عنه النبي أشعيا “قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام” (اشعيا 9: 5)، فهو فتح الباب أمامنا لكي نصبح أبناء الله” أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله ” (يوحنا 1: 12). فميلاده هو بشرى الفرح المسيحاني للشعب كله (لوقا 2: 10)، وعليه لُقِّب “بالمخلص والرب ” وقد ورد هذا اللقب في انجيل لوقا 19 مرة وأكثر من 40 مرة في اعمال الرسل. لقد جاء الرب يسوع لكل انسان متواضع القلب ومستعد لقبوله، وهو يقبلنا كما نحن عليه، جاء إلى العالم ليخلص الخطأة ويعطيهم أملاً ورجاء.
وإن كنيسة بيت لحم قد بُنيت في مكان المذود الذي وُلد فيه السيد المسيح، وأصبحت كنيسة عظيمة ضخمة في بيت لحم اسمها “كنيسة المهد”. فلم تعد حظيرة للخراف غير الناطقة، لكن أصبحت حظيرة للخراف الناطقة أي البشر من شعب الله، ويعلق القديس أوغسطينوس “صارت القوة ضعفاً ليصير الضعف قوة”.
ب) وجد الرعاة مريم ام يسوع
وجد الرعاة مريم، اما تحتضن وليدها وتحنو عليه، ام مثالية، ويعلق القديس يعقوب السروجي” ان ابن الله تنازل بسبب محبته لأبيه، وجاء ليكون ابناً للعذراء”. وجد الرعاة مريم، أول شخص يصغي إلى كلام الربّ ويحفظه في قلبه ويتأمل به. فهي نموذج الإصغاء “كانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها (لوقا 2: 19)، لأن ما يجري معها وحولها من امور هي بمثابة سر، اي حقيقة عميقة الفهم ستغيّر مجرى التاريخ والأحداث. وكلّ مرّة يصغي إنسان إلى كلام الله ويتأمل فيه، ويتمّم إرادة الله على خطى مريم العذراء، يتمّ ميلاد الله في حياته وينال الخلاص والفرح والسلام.
ج) وجد الرعاة يوسف
وجدوا يوسف رمز الطاعة الواعية وتتميم إرادة الله بصمت. فهو لم يتمرّد ولم يتذمّر ولم يتهرب من تدخل الله في حياته الذي اختاره لمهمّة الأب المعلن ليسوع والحامي لبتوليّة مريم، وجدوا يوسف “البارّ” الذي آمن بألوهيّة الطفل الّذي يظهر على الأرض فقيراً، آمن بأمومة مريم العذراء وبتجسّد ابن الربّ ليسوع “إنّ الّذي كوّن فيها هو من الروح القدس”، فلم يخف ” أن يأتي بامرأته مريم إلى بيته”. (لوقا 1: 24)؛ لقد تمّ رسالته في الأمانة للروح القدس، وهذا الروح أيّد إيمان يوسف وعمله، فهو ” الوَكيلَ الأَمينَ العاقِلَ الَّذي يُقيمُه سَيِّدُه على عائلته” (لوقا 12، 4).
لم يكتف الرعاة برؤية ب مريم ويوسف والسجود للطفل الإلهي، بل اخذوا يبشرون به ويذيعون الكلمة ويعلنون الخبر ان الرب يسوع هو المسيح والمخلص كما ورد في انجيل لوقا “ولَـمَّا رَأَوا يسوع ومريم ويوسف جعَلوا يُخبِرونَ بِما قيلَ لَهم في ذلك الطِّفْل” (لوقا 2: 17). لقد جاء يسوع المسيح الرب لكل انسان متواضع القلب ومستعد لقبوله، وهو يقبلنا كما نحن عليه. ولد الرب يسوع المسيح الفادي وأتى إلى العالم ليخلص الخطأة ويعطيهم أملاً ورجاء. فلنسجد مع الرعاة أمام الطفل الالهي، الذي به جمع الله من أجل خلاصنا الحقيقة والرحمة، والعدالة والغفران، ولنقترب من سرّ بيت لحم بمشاعر الإيمان والتواضع نفسها التي اختبرها الرعاة.
المرحلة الثالثة: تسبيح الرعاة (لوقا 18: 20).
النفس التي صنع الله لها أمورا ً عظيمة هي وحدها قادرة على تسبيحه التسبيح اللائق وتقدر ان تدعو الاخرين الى مشاركتها في امانيها. وعليه فان الرعاة، وهم الى الفقراء المتوكلين على الله، نالوا بشرى الخلاص العظيمة، كما جاء في بشارة الملاك لهم “ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ” (لوقا 2: 10-11). فمحبّتهم للمسيح المولود، تخطّت فقرهم، والكثير من هموم الحياة التي كانت تثقل كاهلهم، وجعلتهم يتبعون كلام الملائكة ويهرعون إلى مغارة بيت لحم، ليجدوا ما قيل لهم فوجود الطفل يسوع، وأصبحوا أغنياء بالله الذي افتقر لأجلهم كما جاء في تعليم بولس الرسول “فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه”، واخذوا يُمَجِّدونَ الله ويُسَبِّحونَه على كُلِّ ما سَمِعوا ورَأَوا كَما قيلَ لَهم (لوقا 2: 20).
وكما زار الرعاة يسوع وعاشوا اختبارهم الروحي ونقلوا حدث الخلاص المنتظر من هذا الطفل الى جميع الذين التقوا بهم كذلك علينا زيارة مغارة الطفل الإلهي ونطلب نعمة الرغبة في رجاء جديد لحياتنا ونقل الحدث اليوم لمن هم حولنا اقتداء بالرسول بولس ” سأُبَشِّرُ بِاسمِكَ إِخوَتي وفي وَسْطِ الجَماعَةِ أُسَبِّحُكَ” (عبرانيين 2: 12). فالرعاة هم رمز لراعي الرعاة سيدنا يسوع المسيح وهم بالتالي رمز للرعاة الروحيِّين الذين يظهر لهم الرب يسوع المسيح فيبشِّرون باسمه في كل مكان كما بشَّر الرعاة بالمسيح في بلدتهم على أثر سماعهم أنشودة المجد والسلام والفرح من الملائكة الأطهار.
الخلاصة:
ميلاد يسوع في بيت لحم، هو حدث في قلب التاريخ، ولا يزال صوت الرعاة يدوي في قلوبنا ” هَلُمَّ بِنا إِلى بَيتَ لَحم ” فعلى مثال الرعاة الذين ذهبوا الى بيت لحم ليروا الطفل الإلهي وسجدوا له، كذلك نحن ايضا لنبحث عنه ولنسجد لهذا الطفل الالهي الذي لم يتردد ان يكون فقيرا ليحمل لنا حب الله والخلاس والخلاص والفرح الحقيقي. فنجد الجواب على المتاعب التي تمزّق قلوبنا وبيوتنا ومجتمعاتنا وعالمنا.
ميلاد الرب يسوع هو اسلوب خلق جديد حيث يأتي الرب ليدخل في العالم وفي التاريخ فيشارك الإنسان في بناء هذا الكون. أنه شكل من أشكال الخلاص الذي يهبه الله لكل البشر “كَشَفَ الرَّبُّ عن ذراعِ قُدسِه على عُيونِ جَميعِ اَلأُمَم فتَرى كُلُّ أَطْرافِ الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا” (اشعيا 52: 10). ويمثل الرعاة المتواضعين والفقراء الذين يرون في هذا الطفل تحقيق وعد الله، ويأملون في أن يتمّ خلاصه لكلّ واحد منهم.
ميلاد الرب هو إمكانية تحقيق الحق والعدل والسلام كما هو مذكورٌ في سفر اشعيا “لِنُمُوِّ الرِّئاسة ولسَلام لا آنقِضاءَ لَه على عَرًشِ داوُدَ ومَملَكَتِه لِيُقِرَّها ويُوَطِّدَها بِالحَقِّ والبِرّ مِنَ الآنَ وللأَبَد غَيرَةُ رَبِّ القُوَّات تَصنعُ هذا” (اشعيا 9: 6). وإذا كانت الشمس تبشّر بانتصار النور على الظلام، فالمسيح بميلاده يبشّر الناس بقيام الخلاص، وانتصار النعمة على الخطيئة، والسعادة على الشقاء، والحب على البغضاء، والسلام على الحرب والخصام.
“بميلاده العجيب كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه (يوحنا 1: 4).
وأخيرا، الميلاد لا يكتمل الا إذا فتحنا أبوابنا للمسيح المولود، وانتصر فينا النور على الظلام، والحقيقة على الأوهام، والنعمة على الخطيئة، والحب على العداء، والرحمة على الجفاء. أما إذا اعددنا لميلاد في بيتنا كل شيء، ونسينا ان نعد للمسيح في قلوبنا مكانا، فلا عيد ولا ميلاد، فميلاد المسيح باب قلوبنا نفتحه للمسيح المولود. كما جاء في ترنيمة الميلاد “ليلة الميلاد يُمَّحى البغضُ، ينبت الحب، تدفن الحرب. عندما نسقي عطشان كأس ماء، عندما نكسي عريان ثوب حب، عندما نجفف الدموع من العيون، عندما نملأ القلوب بالرجاء، نكون في الميلاد. عندما أقَبِّل رفيقي دون غش، عندما تموت فيَّ روحُ الانتقام، عندما يزول من قلبي الجفاء، عندما تذوب نفسي في كيان الله، أكون في الميلاد. وكل ميلاد وأنتم بخير
دعاء
أنت يا من كنت منذ الأزل، ويا من صرت بشرا ودخلت الزمن، بسر ولادتك العجيبة، جدِّد البشرية.
أنت يا من هو نور الأمم ومعلم القداسة، نوِّر خطانا بنور كلمتك.
يا كلمة الله، الذي صرت انسانا في أحشاء البتول مريم، وكشفت بطريقة مدهشة للرعاة المتواضعين، ميلادك المجيد، امنحنا، نحن الذين نعلن ايماننا بتجسدك، أن نشارك في حياتك الخالدة بشفاعة أمك مريم البتول. آمين.
