سيرة القديس العظيم سيرافيم (ساروفيم) ساروفسكي

karas karas

Well-known member
إنضم
13 مارس 2022
المشاركات
387
مستوى التفاعل
287
النقاط
63
462765646-8389217651115527-7290933625269425341-n.jpg


2 يناير: نياحة القديس سيرافيم ساروفسكى

عن كتاب : حياة الصلاة القبطية للأب متى المسكين.

ولد سنة 1759م فى مدينة كورسك من عائلة تقية تشتغل بالتجارة. وقد اعتراه منذ طفولته مرض خطير. وكان يرى السيدة العذراء تتحدث معه أثناء مرضه وتعده بالشفاء، وكان يحس فى نفسه أنه مدعو إلى الحياة الرهبانية. ولما بلغ سن العشرين تخلى عما ورثه من والده ووزع كل ما يملك على الفقراء وترك مدينته وهو لا يحمل معه إلا كيساً صغيراً وعصا. وكان كنزه الثمين الوحيد صليباً من نحاس احتفظ به طوال حياته. وفى سنة 1779م دخل دير ساروف وعاش كمبتدئ إلى سنة 1786م، وكان طائعاً لأبيه الروحى طاعة مطلقة. عمل أولاً فى فرن الدير ثم نجاراً ورغم انشغاله فى الأعمال اليدوية لم يكل عن الصلاة وتلاوة الكتاب المقدس وكتابات الآباء القديسين؛ وكان اسم الرب يسوع لا يفارق شفتيه. كان ميالاً إلى الصمت، قليل الكلام، يتجنب الاختلاط بالناس. وفى أوقات فراغه كان يذهب إلى الغابة المجاورة للدير حيث يقضى وقته فى الصلاة ومع ميله للاعتزال لم يكن عبوساً مقطباً بل بشوشاً يشجع المحزونين إما بكلمة تخرج من فمه، أو بابتسامة على شفتيه. وهذه البشاشة والطمأنينة التى كانت تبدو عليه لم تفارقه حتى فى وقت مرضه وأوجاعه. فقد أصيب مرة بمرض مزمن استمر 3 سنوات لم يتذمر خلالها قط ولم يستشر طبيباً، وقد ظهرت له فى أثناء مرضه السيدة العذراء للمرة الثانية. وكان نتيجة ظهورها أن شفى من علته وسمعها تقول وهى تشير إليه " إن هذا من جماعتنا ".

وفى سنة 1786 لبس بروخور ( وهو اسمه الأصلى ) الأسكيم الرهبانى وأصبح اسمه سيرافيم ، ثم سيم شماساً فكاهناً. واشتهرت هذه الفترة من حياته باشتراكه اشتراكاً روحياً فى الصلوات الكنسية. وحدث مرة أثناء خدمة الجمعة العظيمة أن ظهر لـه الرب يسوع وعلى وجهه سيماء "ابن الإنسان المتألم".

وفى سنة 1794 بدأت تظهر فى حياته تباشير ظواهر جديدة. فقد حصل سيرافيم على إذن بالاعتزال فى مكان بعيد عن الدير. فانزوى فى كوخ صغير حقير فى بطن الغابة.

ومنذ ذلك الحين بدأت صلواته الطويلة الإنفرادية وانطلاقه الروحى الغير عادى، الذى ظهرت ثماره فيما بعد قرب نهاية حياته. ورغم هذا كان يعود إلى الدير كل يوم أحد للأشتراك فى القداس الإلهي والتناول.

وفى وحدته كان يسعى ليحيا روحياً حياة المسيح الأرضية. وهكذا تحولت المنطقة المحيطة بكوخه الصغير إلى "مواضع مقدسة" فأصبحت إحدى الزوايا "مدينة الناصرة" يترنم فيها بتحية الملاك للعذراء، وكان يتأمل فى إحدى المغائر القريبة منه ويتصور ولادة المخلص فيها، ويلذ لـه تلاوة "العظة على الجبل" فوق هضبة قريبة. وكان لـه فى أحد جوانب الغابة "جبل تابور" و"جثسيمانى" و "الجلجثة" حيث كان يجتهد أن يشترك فى آلام المسيح. وفى وحدته خضعت له وحوش الغابة، وكانت تأنس إليه، وتأكل من يده كأنها حملان.

وفى مكان عزلته هاجمته عصابة من قطاع الطرق وضربوه بالعصى وجرحوه جراحات أدت إلى إصابته بعاهة مستديمة. اضطرته أن يمشى مقوس الظهر معتمداً على العصى كشيخ مسن. وتسببت هذه الحادثة فى تركه مكان عزلته وعودته للدير، إلا أن السيدة العذراء ظهرت لـه فى رؤيا كى يرجع إلى صومعته وطلبت منه أن يستعد للسير فى جهادات روحية جديدة.

ولما اعتقلت الحكومة رجال العصابة التى هاجمته وعزمت على معاقبتهم، رفع سيرافيم صوته مطالباً السلطات بالعفو عنهم.

وقد قضى سيرافيم ألف ليلة كاملة وهو واقف على صخرة فى الغابة رافعاً يديه صوب السماء بشكل صليب مردداً بلا انقطاع : "ارحمنى يارب أنا الخاطئ". وفى أثناء النهار كان يعلم من يأتيه من الزائرين ليطلب المشورة. ومنذ سنة 1807م انقطع سيرافيم عن الكلام ولزم الصمت، وكان يجيب تلاميذه الروحيين الذين تألموا لهذا التصرف انه يليق بنا أن نتكلم من أجل الله ، لكن الأكثر لياقة أن نطهر نفوسنا من أجله. وبقى فى حالة الصمت الكامل ثلاث سنوات حتى سنة 1810م حيث رجع إلى الدير بأمر رئيسه نتيجة لدسائس بعض الرهبان. ومع هذا عاش حبيساً فى غرفة ضيقة داخل الدير، ملازماً الصمت.

وفى سنة 1825م ظهرت لـه رؤيا كان لها تأثيراً كبيراً فى تغيير طريقة حياته، ودوى كبير فى حياة الآلاف من الرهبان والعلمانيين فى كل روسيا. وفى هذه الرؤيا خاطبته السيدة العذراء طالبة إليه أن يخرج نهائياً من عزلته ليخدم النفوس. وفى هذه الفترة الأخيرة من حياته كان هو الأب الروحى والمرشد لألوف من الرهبان والراهبات والعلمانيين. وبدأت تظهر ثمار الحياة الخفية التى لم تكن معروفة حتى ذاك الحين. فكان يقابل زائريه بتواضع وفرح قلب ومحبة شديدة. كان يسكب نفسه كلها لكل واحد منهم ويعطيه الكلمة الخاصة التى تناسبه ولا تناسب غيره. وكان كل من يزور سيرافيم يشعر بحقيقة وجود "ملكوت السموات". وكان الفرح والهدوء والسلام يفيض من قلبه على كل من يقابله فيحصل على العزاء.

وقبل نياحته بسنوات قلائل رآه أحد تلاميذه ( نيقولا موتوفيلوف) فى حالة تجلى باهرة. إذ صار وجهه مضيئاً أكثر من الشمس . وقد كتب تلميذه الحوار الذى جرى بينه وبين القديس سيرافيم عندما رآه فى هذا المنظر البهى .

إن القديس سيرافيم كان يؤكد دائماً أن غاية الحياة المسيحية هى اقتناء الروح القدس، وقدعاش فعلاً حياة امتلاء بالروح القدس.

وفى صبيحة الثانى من شهر يناير سنة 1833م وُجد سيرافيم فى غرفته وقد فارق الحياة، جاثياً على ركبتيه أمام أيقونة العذراء المعروفة باسم "سيدة الحنان" وبيده شمعة مضيئة أخذ لهيبها يلتهم صفحات الكتاب المقدس .



حياة القديس سيرافيم ساروفسكى

(1759 ـ 1883)

كتاب لهيب وسط الثلوج للأنبا إيساك

ولد القديس سيرافيم يوم 19 يوليو 1759م فى مدينة كيرسك إحدى المدن القديمة فى وسط روسيا وقد سُمى عند ولادته باسم " بروخر " .فكان الابن الثالث لعائلة "موشنن" وله أخ وأخت . تنيح والده فى سن الأربعين بعد مولد القديس وكان مقاولاً للمبانى وكان مشغولاً أنذاك ببناء كنيسة. فأكملت أرملته استكمال بناء الكنيسة وتربية الأطفال بعد نياحته .. تأثر بروخر بشدة بأمه وكانت هى معتادة أن تأخذه معها إلى موقع العمل ، وهناك تفتحت ميوله على معمار الكنيسة .
ذات يوم كانت الأم صاعدة سلم البرج ومعها "بروخر" وهو فى سن السابعة غير مميز للمخاطر ، خطى الصبى خطوة طائشة وسقط ولكنه لم يتأذى .وتنبأ حينئذ رجل من رجال الله لأم الغلام بأن الله منع الكارثة لكى مايصير " بروخر" قديساً عظيماً .
وفى سن العاشرة اضطر بروخر أن يتوقف عن الدراسة بسبب مرضه الذى ألزمه الفراش . وفى إحدى الليالى سمعته أمه يتكلم مع شخص ما، فأخبرها أن السيدة العذراء قد ظهرت له ووعدت أن تشفيه. وبعد أيام قليلة مر موكب يحمل الأيقونة المعجزية بمنزل "موشنن"، وبسرعة أحضرت أم "بروخر" طفلها المريض كى يتشفع ويستغيث بأم الله. وفى الحال استعاد الصبى صحته. بعد ذلك أصبح الكتاب المقدس هو كتابه المفضل ، والكنيسة هى المكان الذى يذهب إليه أغلب أوقاته المستطاعة. وأحياناً كان يتقابل مع رجل الله الذى كان قد تنبأ عنه وأصبح الاثنان صديقين حميمين.

وعندما بلغ بروخر السابعة عشر من عمره، اشترك مع أخيه الأكبر فى مشروع تجارى، وكان مضطراً أن يقضى معظم النهار فى العمل وسط الحسابات والحديث مع الزبائن فكان بروخر يستيقظ مبكراً جداً لكى يجد وقتاً يقضيه فى الصلاة والتأمل فى الكنيسة، وفى المساء كان يستغرق فى قراءة الكتاب المقدس وسير الآباء. إن معرفة "بروخر" بالأسفار المقدسة ألهمته رؤية ما وراء هذا العالم والشوق إلى الأبديات. وكان لبروخر تأثير قوى على رفقائه.

احتضن بروخر فى أعماق قلبه فكرة أن يكون راهباً فى الغابات. فقرر أن يبدأ برحلة إلى "كييف". وهى مشهورة بكنائسها وأديرتها. وذهب هناك مع خمسة من أصدقائه وهناك أخذ مشورة أن يترهب فى "صروف" الكائنة على حدود وطنه "كيرسك" وبعد عودته أخبر أمه برغبة قلبه فلم تعترض بل باركته وأعطته صليباً نحاسياً ـ كانت الأسرة تتوارثه ـ وقد لبسه "بروخر" طول أيام حياته.

فى"دير صاروف" كان قانون الرهبان بسيطاً وصارماً : لا يسمح للرهبان بملكية خاصة، وهم عليهم أن يكتسبوا معيشتهم من عمل اليدين ..فكانوا يشتغلون فى الغابة والحقل، يقطعون الأخشاب ويحرثون الأرض …وكذلك أعمال النجارة وأعمال النسيج وصناعة الأحذية. فى الشتاء كانوا يلبسون ملابس من صوف الغنم، وفى الصيف ملابس من كتان خام. وكان الأب يعمل مع الأخوة مظهراً لهم مثال الاتضاع المسيحى.

وفى عيد العذراء فى 20نوفمبر 1779م حيث كانت سهرة وصلاة فى الدير قرع "بروخر" باب الدير طالباً الرهبنة. كان يبلغ من العمر 19 سنة، طويلاً قوياً تبدو عليه ملامح الذكاء وخفة الروح، عيناه الزرقاوان تعكسان نقاوة نفسه ..وكانت مسحة من الجمال الروحى تكسو ملامحه الدقيقة.

وفى أثناء سنوات التمرين الأولى واختبار إحتماله الأخلاقى والبدنى مر فى اختبارات صعبة، لأنه كان قد أعطى أعمالاً كثيرة: فقد كان خبازاً ونجاراً وصانع قلالى، وكان يكلف بقطع الأشجار فى الغابة لأياماً طويلة. ورغم كل هذا لم يترك عنه الصلاة أبدا، سواء فى الدير أم خارجه أم فى الكنيسة. اسم يسوع كان دواما فى قلبه وعلى شفتيه "ياربى يسوع المسيح ارحمنى أنا الخاطئ". كانت هذه الصلاة المستمرة كنبع مياه حية، تنعش نفسه وتملأها بالفرح.

كتب لبعضهم فيما بعد عن هذه السنين : "لو كنت رأيتنى فى سنى الإختبارات الأولى .. كم كنت ممتلئاً من الفرح آنذاك .. عندما كان الرهبان يعودون من عملهم اليومى، مرهقين ومتعبين جداً لدرجة أن لا ترتل صلوات المساء فى الكنيسة وقت الخدمة، كنت أحياناً أبدأ بلحن جميل مبهج فكان هذا كافياً لطرح أتعابهم فيبدأون فى الترتيل بنشاط وحيوية وقلب طيب مسرور .. إن المرح ليس خطية، إننى متأكد من هذا الشعور، حتى فى الكنيسة .. لأن الله يريد كل إنسان أن يكون فرح القلب". وقال أيضاً : "فلنخف من اليأس قبل كل شئ آخر فى الدنيا".

وفى الكنيسة كان دائماً أول الحاضرين وآخر المغادرين. رسموه قارئاً وعينوه قندلفت الكنيسة، وفى أوقات فراغه استمر فى دراسة الأسفار المقدسة وكتابات اللاهوتيين . قال: "الكلمة الإلهية هى الزاد الذى تتقوت به النفس العطشانة لله". وقد تعود أن يعطى للنفس زادها (اى القراءة الروحية ) وهو واقف منتصب أمام الأيقونات كما فى وضع الصلاة بانتباه لاستيعاب كلمة الله . تعود أن يقول للمبتدئين الصغار: " إن روح الراهب اليقظ تشبه الحارس الذى من فوق البرج العالى يراقب أورشليم قلبه الداخلى". على أنه لم يحثهم على الإطلاق أن يسهروا سهراً زائداً أو يصوموا فوق الطاقة "لأن البدن" كما كان يقول "يجب أن يكون صديقاً ومعيناً للنفس وإلا ربما يحدث أنه عندما يضعف الجسم تتعب النفس أيضاً معه" وقال أيضاً: "عندما تستيقظ فى الصباح بعد تلاوتك الصلوات أكنس قلايتك ونظفها جيداً، وبعد ذلك إشرب مشروباً ساخناً لتدفئ نفسك وجسدك، وما تفعله بعد ذلك طوال يومك أفعله بحرص وبتأن وصبر وهى فضيلة لا تكتسب بسهولة، إنها ليست من الفضائل التى تنالها دفعة واحدة". وقال أيضاً: "إن العمل البدنى ، وقراءة الأسفار المقدسة يعطيان عقل الإنسان وجسمه طهارة. كان كتابه المفضل هو كتاب مار اسحق السريان وأيضاً الفيلوكاليا بتداريب صلاة الهذيذ بترديد اسم يسوع الدائم فى القلب.

رغم عطف القديس وشفقته على الآخرين كان قاسياً على نفسه ويشتغل بكل طاقته .. وهكذا اضمحلت صحته بعد سنتين من وصوله إلى الدير. لقد أصيب بمرض الاستسقاء لمدة ثلاث سنوات وهو متألم وأخيراً بدت حالته ميئوساً منها. رفض مساعدة الأطباء وطلب فقط أن يعطى له التناول المقدس. فأقام أب الدير الذى كان يحبه جداً قداساً وصلى الرهبان. ولدهشة الجميع سرعان ما استعاد الشاب صحته. وتقول القصص المتناقلة أنه غفى قليلاً وهو بين النوم واليقظة، فرأى ملكة السماء مريم العذراء المملوءة مجداً تدخل قلايته وحولها الملائكة ويرافقها الرسولان يوحنا وبطرس. فالتفتت إليهما وأشارت إلى المتوجع وفاهت بكلمات عجيبة : "إنه من جنسنا". وبعكاز فى يدها لمست جانب الراهب، فانفتحت فيه فتحة، والماء الذى كان يملأ جسمه قد انسكب خارجاً، وقيل أنه بعد ماكبر كان يكشف العلامة التى ظلت باقية فى جنبه. وعندما بلغ "بروخر سن 28 سنة سُمح له بأن ينذر نذور الرهبانية وبعد فترة وجيزة من اللحظة المباركة المقدسة من الحياة، طلب منه أن يعود إلى بلده مرة أخرى ليجمع التبرعات لبناء مقصورة صلاة. لم يستطع أن يرى أمه مرة أخرى لأنها كانت قد تنيحت، ولكن أخاه الذى أصبح الوريث الوريث الوحيد لعائلة موشنن أعطاه مبلغاً كبيراً يكفى لبناء كنيسة رائعة، عند موقع القلاية التى حدثت فيها المعجزة. وفى ذكرى هذا الشفاء بنى ملحقاً آخر للاستشفاء. وقد بنى القديس سيرافيم بنفسه مذبح الكنيسة وأجزاء أخرى. وفى يوم استلامه الشكل الرهبانى، أعطى اسم سيرافيم وهو اسم احدى الرتب الملائكية ومعناه بالعبرية "الملتهب ناراً". ثم رسم شماساً فخدم فى الكنيسة بغيرة متزايدة. ملائكة وقديسون رآهم الأب سيرافيم يقدسون بصورة غير منظورة أثناء القداس. وفى يوم خميس العهد نال شرف رؤية السيد المسيح ذاته وهو داخل الكنيسة وترافقه القوات السمائية لقد بارك مجمع الرهبان، والشماس سيرافيم بوجه خاص. وبقى سيرافيم بلا حركة لمدة ثلاث ساعات .. لقد حذره رؤساؤه مرات عديدة من خطورة الرؤى، وبدأ الرهبان ينظرون إليه بعين الشك. ترى هل يتحول الأب سيرافيم المرح، والشاب الأليف المعشر، قاطع الأخشاب القوى، الإنسان الذكى، والعامل الماهر، إلى إنسان روحانى متصوف. على أية حال لم يعد الأب سيرافيم مبتدئاً من الناحية الروحية، لقد عرف جيداً أن الاتضاع هو أساس كل نمو، وأنه يعرف تماماً أنه بقدر اقتراب الإنسان إلى الله، بقدر إحساسه بعدم الاستحقاق، وبقدر إحساس الإنسان بالجوع إلى الله أكثر.

وقد سجل الدير معجزة أخرى فى سجلاته حدثت أيضاً على يد الأب سيرافيم حينما كان شماساً: "كان هناك جوع فى الأرض، وفى أحد الأيام أُرسل الشماس سيرافيم إلى مخزن الغلال بالدير ليجمع كل ماتبقى من حبوب. واسم يسوع لا يفارق شفتيه. جذب الشماس الصغير مزلاج الباب ولشدة دهشته وجد أن المخزن ممتلئ قمحاً. وأضاف التقرير أنه منذ ذلك اليوم والدير لا ينقصه موؤنة ما ..".

كان رئيس الدير الأب باخوميوس يأخذ معه القديس سيرافيم فى زياراته الرعوية وجولاته فى البلدان المجاورة، وفى أحد الأيام زارا مجمعاً صغيراً للراهبات فى قرية ديفيفو (تبعد حوالى 8 أميال عن صاروف) وكانت الأم الرئيسة " الكسندرا " راقدة على فراش مرضها، وكان للراهبة العجوز حديث طويل مع أب دير صاروف فكانت تترجاه أن لا يهمل الراهبات اللائى معها. وأعطته أيضاً مبلغاً من المال للصرف على معيشتهن من بعدها. وقد وعد الأب باخوميوس أنه سيعتنى بهن مادام به صحة وبعد ذلك سيكون على الأب سيرافيم أن يتعهدهن من بعده. حينئذ وجهت الأم "الكسندرا" توسلها إلى الأب سيرافيم الذى وعدها أمام الله أنه سيعمل الواجب .. وبعد فترة وجيزة علم الرهبان أن الأم الرئيسة قد تنيحت، وأن (المتوحدات) أصبحن فى عهدة دير صاروف، وبعد أربعة سنوات تنيح الأب باخوميوس تاركاً العناية بمجمع ديفيفو للأب سيرافيم.

فى ذلك الوقت رسم الأب سيرافيم كاهناً وأخذ لقب القس. وفى السنة الأولى لرسامته كاهناً كان يعمل قداساً كل يوم واعتاد التناول من الجسد المقدس والدم الكريم وأصبح التناول مصدراً لا ينضب من الفرح والتعزية والقوة الروحية. وبعد ذلك لم يكف عن تشجيع المؤمنين على الإكثار من التناول حاثاً الكهنة أن يسهلوا لهم أخذ الأسرار المقدسة وقال: "عظيمة هى النعمة المأخوذة عن طريق الأسرار المقدسة لأن لها قوة أن تنقى وتجدد كل إنسان حتى ولو كانت خطيته عظيمة".

وفى عشية عيد العذراء أيضاً فى 20نوفمبر 1794 وبعد 16 سنة من وصوله الدير، خرج الأب سيرافيم لخبرة روحية جديدة. خرج إلى كوخ صغير كان قد ابتناه لنفسه فى الغابة حينما كان يعمل فى تقطيع الخشب هناك. وكان مرض قدميه هو العقبة فى حصوله على إذن التوحد بسهولة، ولكنه لم يكن متطلعاً إلى الراحة. ورغبته فى الوحدة هى لكى يكون بمفرده مع الله . لقد عبر عن مشاعره حين خروجه بقوله: "كنت كأنى محمول بقوة فائقة، كما لو لم أكن أعيش بعد على الأرض، كانت نفسى ممتلئة تماماً من الفرح". أما تفاصيل هذه المرحلة من حياته فقد كان يقرأ الإنجيل كل يوم، لم ينفصل عن الكتاب المقدس الذى كان يحمله معه باستمرار فى كيس. كان يقول: "إن عقل الإنسان عليه أن يسبح فى الأسفار الإلهية .. الروح لا تنتعش وحدها بكلمة الله بل حتى الجسد نفسه يزهر وينتعش بها". ولكى يحيا حياة ربنا يسوع المسيح بالروح على الأرض أطلق أسماء من الكتاب المقدس على الأماكن التى اختارها للصلاة : كانت له "الناصرة" التى كان يفرح عندها بترتيل "تحية الملاك للسيدة العذراء"، وكانت هناك مغارة سماها "بيت لحم" كان يذهب إليها ليعبد "الطفل الإلهى" .. كان يصعد إلى قمة "أحد الجبال" ليقرأ "الموعظة على الجبل" وكان هناك "وادى" بجوار مجرى مائى كان يلذ له أن يتأمل الرب "يسوع وهو يتحدث مع تلاميذه" كان له "جبل حرمون" و"جثسيمانى" و"الجلجثة" .. وهكذا اقتربت له فلسطين البعيدة .. وبدت حياة المخلص حقيقة واقعية مجسمة أمامه.

وماذا كان يفعل المتوحد أيضاً ؟ كان يصلى، كان يشتغل حسب قانون القديس باخوميوس الذى انتشر فى القرن الرابع. كان الأب سيرافيم ينهض فى منتصف الليل ليبدأ بصلوات باكر، تتوالى بعدها مزامير السواعى حتى صلوات الستار وقبل الذهاب إلى النوم كان يصلى صلوات المساء الطويلة المصحوبة بسجدات ومطانيات لا حصر له. كان يفلح فى الحديقة، وكان يربى نحلاً، ويعمل قاطع أخشاب. وفى أيام الآحاد والأعياد كان يذهب إلى كنيسة الدير للتناول من الأسرار الإلهية. وعندما ينتهى القداس كان الرهبان يمسكون به بعض الوقت معهم لأنه كان محدثاً بارعاً، وكانت تعبيراته خفيفة الروح تبعث البهجة للقلب. كان يقول: "الله نار يضرم القلب كلهيب، فإذا شعرنا بالبرودة فى قلوبنا فهذا يعنى أن العدو اقترب منا لأن الشيطان برودة، وعلينا حينئذ أن نصلى إلى الرب حتى يأتى ويلقى ناره فى قلوبنا للمحبة نحوه ونحو القريب لأن إزاء وجه الله الكلى الدفء يهرب الشيطان وتنقشع برودته من القلب". وقال أيضاً: "كم يلزمنا من الرفق والحنان فى معاملاتنا مع القريب. ولنحرص أن تكون كافة معاملاتنا خالية من العثرة والغضب". وأيضاً: "إذا أضعفنا الجسد وأنهكناه لدرجة انحطاط الروح أيضاً فإن ذلك يعتبر عدم إفراز ورعونة حتى ولو كنا نسعى للحصول على الفضيلة".

وكان الأب سيرافيم عندما يعود إلى كوخه بالصحراء يحمل نصيبه من الخبز للأسبوع كله.

وقد كان للقديس سيرافيم دب صار أليفاً مثل كلب. وكان ينام تحت رجليه ويطيع أوامره. وكان الأب سيرافيم يخرج من قلايته بعد صلوات باكر فيجتمع حوله سكان الغابة: دببة وأرانب وسحالى وحيات وطيور بلا عدد، أتوا ليتناولوا طعام إفطارهم. سأله مرة شاهد عيان : "كيف تدبر خبزاً لكل هؤلاء؟" كان يجيب باستغراب "كيف ادبر .. لا أعرف ولكن الله يعرف .. وعلى العموم يوجد دائماً ما يكفى".

فى أحد الأيام كانت الراهبة "ماترونا" فى طريقها بالقرب من كوخ القديس رأت الشيخ جالساً على كتلة من الخشب يطعم دباً كبيراً، وكان هذا المنظر باعثاً لها أن تجرى بعيداً، لكن القديس سيرافيم ابتسم حين شاهد فزعها وضرب الدب ضربة خفيفة فاختفى فى الحال وسط الغابة واقتربت الراهبة مطمئنة، فدعاها القديس أن تأخذ مكاناً بجانبه على كتلة الخشب وما كان أعظم فزعها حينما رأت الدب يظهر ثانية. لقد أتى واستلقى تحت قدمى القديس سيرافيم، فقال لها القديس لا تخافى، أنه لن يؤذيك أبداً !.. لعلك تذكرين قصة القديس جيروم حينما روض أسداً فى الصحراء. وسوف ترين هنا أيضاً أن الوحوش تستطيع أن تكون وديعة مطيعة .. ودفع القديس الراهبة أن تعطى قطعة من الخبز للدب، وبينما كانت "ماترونا" تصارع خوفها التفتت إلى القديس سيرافيم واندهشت إذ وجدت وجهه يلمع بنور سماوى كوجه ملاك، وحوله هالة من السلام والصفاء والفرح. وحينئذ أعطت قطعة الخبز للدب الذى تناولها منها كما لو كان حملاً صغيراً. وكما أوصاها القديس لم تقص الأخت "مارترونا" هذه القصة إلا بعد نياحته.

وقد حدث مع راهبة أخرى أن رأت الدب مع القديس، الذى أمره أن يذهب ويبحث عن شهد عسل فى الغابة .. فاختفى الدب ثم عاد ومعه أقراص عسل النحل، فأعطاه القديس للراهبة.

إن حياة الوحدة تدخل الراهب فى مخاطر لا يمكنه أن يفلت منها إلا بالصلاة والتداريب النسكية. والقديس سيرافيم لم يكن ليستثنى، فقد كانت محاربته مع أرواح الشر طويلة ومؤلمة. ففى أثناء سنين العزلة التامة كان الأب سيرافيم يحس أحياناً أن نفسه ممسوكة بالضيق. وفى وقت كانت تفيض عليه كآبة وغم طوال ليالى الشتاء الطويلة، ومرات أخرى يفعم قلبه بحزن يعذب قلبه، لا يعرف له مصدر .. أثناء ساعات الصليب هذه كان يشعر أنه متروك من الله كلية .. والواقع أنها كانت محاربات الشيطان الذى كان يحاول أن يملك نفسه.

سأله "موتوفيلوف " مرة :

· "هل الشيطان موجود فعلاً ؟"

فأجابه القديس ساخراً :

· "علموك يا ابنى فى المدارس التى رحتها .. طبعاً موجود". متكلماً عن خبرة

· "وكيف حالهم الآن؟"

· "إنهم أدنياء"

فى البداية حاولت الشياطين أن تخيفه خارج الغابة. ثم أغرقوا ذهنه بأفكار الشكوك والتجاديف. فكان يضاعف صلواته وأصوامه كى يصد هذه الهجمات عنه، عالماً بقول الرب : إن الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين ( مرقس 9: 29 ) ومثل الصليب الذى أعطته إياه أمه، هكذا ربط فى ظهره صليباً آخر من حديد لأنه قال : "من اختار الصحراء عليه أن يشعر فى نفسه أنه مصلوب باستمرار". وكان الأب سيرافيم يراعى القانون الرهبانى بدقة، ومزامير السواعى من باكر إلى الستار. ولكى يقضى الليل كله فى الصلاة أصلح صخرة للسجود عليها فى قلب الصحراء مردداً بلا توقف الكلمات التى وضعها يسوع ذاته على فم العشار "اللهم ارحمنى أنا الخاطئ " (لوقا 18 : 33 ). وكان يواصل هذه الصلاة فى وقت النهار أيضاً مستخدماً ركناً داخلياً فى كوخه كان قد أغلقه كى لا يزعجه أى داع طائش .. ولمدة ألف يوم عاش كالقديسين العموديين متضرعاً إلى الرب. ونحو نهاية هذه الفترة خمدت قوى الشر ونزل سلام إلهى فى نفس المتوحد. وطوال هذه الثلاث سنوات لم يكن يُرى فى الدير، وكان الرهبان يتعجبون أحياناً كيف يتدبر بالنسبة للطعام ؟ وقد كشف السر فيما بعد عندما أخبر الأب سيرافيم أختاً من دير ديفيفو عن نبات صغير ينمو فى الغابات، وقال لها أنه جيد للأكل وأنه كان غذاءه لفترة ثلاث سنوات، وكان أثناءها يجففه ويحفظه لفصل الشتاء ويأكله طازجاً صيفاً. إن صلواته وأصوامه أجبرت قوات الشر على الهزيمة وجذبت إليه نعمة الله .

حركت قوات الشر ثلاثة من الفلاحين ليبحثوا عن المال فى مكان سكن المتوحد. وأمام عنفهم كان يمكن للشيخ أن يقاوم مدافعاً عن نفسه وكان فى أوج صحته البدنية ولم يتعد الخمسين وكانت بلطته فى متناول يده. ولكنه فكر فى المسيح الذى لم يقاوم الشر، فترك البلطة وكتف يده حول صدره وقال بهدوء: "افعلوا ما أتيتم لفعله.." ولكن واحداً من الأشقياء تناول البلطة وضرب بها المتوحد على رأسه، فسقط مغشياً عليه فركلوه وربطوه بحبل وتركوه مكفياً على وجهه ليموت .. ثم عبث اللصوص فى الكوخ ليبحثوا عن الكنز المخفى فكان كل ما وجدوه هو بضع ثمار من البطاطس موضوعة فى ركن، وفجأة أخذتهم رعدة مما فعلوا فهربوا. ولما قبض عليهم فيما بعد أصر الأب سيرافيم أن لا يعاقبوا.. ومغفرة الخطايا دائماً بالنسبة للروس هى محك المسيحية الحقيقية، ولكن على أية حال أعلن الله دينونته على هؤلاء، إذ شبت نار فى القرية التى كانوا منها وحرقت بيوتهم وأتلفت كل ممتلكاتهم.

بعد فترة وجيزة. أفاق الأب وحاول أن يفك قيوده، وظل يزحف إلى أن وصل إلى الدير. كان يبدو أن الأب سيرافيم مشرفاً على الموت .. ولم يستطع أن ينام أو يأكل وسط آلام فظيعة، وقد شخص الأطباء بأنها كسر فى الجمجمة، وكسر فى الضلوع، مع جروح وكدمات عديدة، وبينما هم يهمسون مع بعضهم حول سرير القديس بالتعبيرات اللاتينية، أغمض الأب سيرافيم عينيه وغفى.. ومرة أخرى، جاءت أم الله المملوءة مجداً، ومرتدية ثوبها الملوكى، ودخلت قلايته يصاحبها أيضاً الرسولان بطرس ويوحنا ونظرت إلى الأطباء وقالت : "ماذا يصنعون ؟ .. إنه من حنسنا .. إنه منا"!! بعدها فتح القديس عينيه، فوجدها قد ذهبت.. ولكنه تشجع وامتلأ قوة، وقام من على الفراش، ورفض مساعدة الأطباء، وقام ومشى بضع خطوات فى حجرته، وعند المساء كان قادراً أن يأكل قليلاً من الطعام !

استعاد الأب سيرافيم صحته، وبعد بضعة شهور رجع إلى الغابة. لم يعد قاطع الأخشاب القوى الذى كان معروفاً بقوته الجسدية، ولكنه بعد الخمسين أصبح شيخاً محطماً بأطراف كسيحة تحدث ألماً، ومتوكئاً على عكازه وعلى بلطته. ولكى يستعيد سلامه الداخلى الذى افتقده بسبب الحادث، فرض الأب سيرافيم على نفسه الصمت الكامل وكان يقول: " لا يوجد تدريب روحى يمكن مقارنته بالصمت الكامل للراغبين فى الوصول إلى السلام الداخلى". وبالرغم من تحذير الرئيس أن يعود إلى البرية مرة أخرى، عاد إلى كوخه بالغابة.. لقد كانت إحدى الجهادات النسكية فى انتظاره. لقد دخل إلى السكوت الكامل. يصلى بدون كلمات ..وبعدما استغرق الأب سيرافيم فى هذا النوع من الصلة العميقة، لم يعد يتكلم مع أى شخص، لم يعد يذهب إلى الدير ولا حتى إلى الكنيسة. وإذا صادف شخصاً فى الغابة كان يسجد على الأرض ولا يرفع رأسه ولا يقوم إلا بعد انصراف ذلك الشخص. أحضروا مرة له طعاماً من الدير ووضعوه على عتبة بابه ولكنهم بعد أسبوع وجدوا الطعام كما هو لم يمس. لقد أصبح الدير مقلقاً. فالأب الجديد رجل عنيف ضيق الأفق يسمع لدسائس الرهبان واسمه نيفونت، وهو غريب من الروحيات.. أراد أن يجبره على ترك وحدته، فأمره أن يحضر القداس الإلهى كل يوم أحد.. وقال له أنه إذا كانت قدماه الكسيحتان لا تقدران أن تحملاه الستة كيلو مترات (وهى المسافة بين الكوخ والدير) فليعد ويعيش داخل أسوار الدير. لكن الأب سيرافيم كان قد تقدم فى حياة البرية، ولم يعد راهباً ديرياً. وقد غير ملابسه السوداء بملابس بيضاء وفى قدمه قبقاب من لحاء الشجر كالفلاحين، وكان يقول متجنباً كل المصادمات: "الطاعة بالنسبة للراهب هى أولاً وقبل كل شئ من أهم الفضائل". هكذا أعلن الأب سيرافيم، وهكذا تصرف ولكنه ظل ابناً مطيعاً للكنيسة. فقد عقد الرئيس مجمعاً مع رهبانه وقرروا استدعاء الأب سيرافيم إلى الدير كإنذار نهائى، ودون أن ينطق بكلمة أطاع المتوحد وترك كوخه المحبب إليه وسط الغابة، حيث كان يعيش فيه متأملاً ومصلياً، وعاد إلى الدير، وبعد أن قابل الرئيس أغلق على نفسه فى القلاية التى كانت معدة له. ولمدة خمس سنوات من سنة 1810 إلى 1815 حبس نفسه فى قلايته صامتاً. كانت القلاية مكاناً ضيقاً، فى مدخلها جذع شجرة منحوتة على شكل نعش، ولم يستطع حتى الراهب الذى كان يحضر له الطعام ـ الذى كان عبارة عن سلطانية بها فتة من خبز الشعير ـ أن يرى وجهه لأنه كان يغطى وجهه بفوطة.

ماذا كان تدبيره فى سنوات حبسه هذه ..؟ قراءة البشائر يومياً ( إنجيل متى يوم الأثنين، مرقس الثلاثاء، لوقا الأربعاء، يوحنا الخميس، وكانت خدمة الصلبوت ليوم الجمعة والسبت للرؤيا والأحد للقيامة وجميع القديسين ) وكان يصلى، ورأى رؤى كثيرة .. وذات مرة أُصعد إلى السماء مثل القديس بولس الرسول ليرى المنازل التى يعدها الله لمحبيه.

ولكن صداعاً مخيفاً بسبب قلة الحركة وقلة الهواء أجبره أن يصلى من أجل الحرية. فظهرت له مريم العذراء فى رؤيا وأمرته أن يفتح بابه للناس ويعود إلى الغابة ..

إن كلمة "ستاردز" التى تطلق على القديس سيرافيم هى كلمة روسية بمعنى شيخ مدبر روحى. فهى لقب يطلق على الراهب الذى نال من الروح مواهب الإفراز والحكمة والمشورة فى الكنيسة الشرقية .

وما إن انتشر الخبر أن الأب سيرافيم قد فتح قلايته، حتى هرعت جماهير الناس إلى "صاروف " لزيارة هذا الأب فماذا كانوا يبصرون ؟ شيخاً نحيفاً بملابس بيضاء، كل ما فيه قد نشف، بملامح دقيقة صارمة، وعيون زرقاء حنونة، كانت له ابتسامة طفل، وكان يقابل زواره بفرح ويدعوهم: "يا بهجتى" ودائماً يضيف تحية القيامة "المسيح قام".

ماذا كان فيه يجذب الجماهير التى أتت بأعداد ضخمة إلى "صاروف". ماذا تعلم فى وحدته ليكون مفيداً للمتألمين الكادحين فى الدنيا؟ هو نفسه يخبرنا ويقول "إملأ قلبك سلاماً .. وألوف حولك سيخلصون". لقد غلب الأب سيرافيم شهوات جسده، وصار ممتلئاً بالروح، يشع بثمار الروح على كل من حوله، لم يعظ أبداً، إنما كان هو ذاته مثالاً، ونموذجاً حياً. وكان يقول بمزيج من الاتضاع والصفاء الطبيعى والسلطان الحازم الذى كان له : "من السهل أن تعظ عظات جميلة كمن يلقى حجارة من القمة إلى أسفل الجبل، أما أن تحيا بما تعظ فهو من الصعوبة كمن يحمل حجارة من أسفل الجبل ويصعد بها إلى أعلى القمة". قال لأناس ينتحبون على خطاياهم "على الإنسان أن يشفق على ذاته أن يتحمل خطاياه ويتقبل أخطاءه ونقائصه كما يتقبل ويتحمل خطايا الآخرين"؛ "فى الحياة الروحية لا ينبغى أن نعمل شيئاً فوق طاقتنا". هذه هى المشورة التى كانت يعطيها لكل أحد "أعط الروح الأشياء الخاصة بالروح، وللبدن الأشياء الخاصة بالبدن لكى يحمل البدن الروح عبر طريق الخلاص" . . هكذا كان يُعلم.

ذات يوم جاءت فتاتان لتستشيرا الشيخ، وكانت الفتاة الكبرى تشتاق إلى حياة التكريس ولكن نظراً لمعارضة والديها ذهبت لتستطلع رأى الشيخ، وأما الفتاة الصغرى فكانت مخطوبة. فوجه الشيخ كلامه للكبرى قائلاً: "إن حياة التكريس ليست للجميع، ستتزوجين وتكونين فى غاية السعادة". ودهشت الأخرى عند سماعها منه أن ترتيبات زواجها سوف لا تتحقق وأنها ستأخذ الزى الرهبانى، فرجعت الاثنتان حزينتين تشعران بخيبة الأمل، ولكن نبوة الشيخ تحققت فأصبحت الكبرى زوجة سعيدة ودخلت الصغرى ديراً للراهبات.

فى مرة رد على أحد الزوار الذى قال له: "إن النفس البشرية أمامك ككتاب تقرأه فأجاب القديس باتضاع: "لا لا إن قلوب البشر مفتوحة لله وحده لأنها عمق لا قرار له" . وأضاف "كالحديد فى النار هكذا أضع إرادتى بين يدى الله ولا أتكلم حتى أشعر أن الكلمة معطاة لى".

وعندما بدأ القديس سيرافيم فى استقبال الناس فى قلايته، وقد أتوا من أماكن بعيدة، كان يقدم لهم قطعاً من البقسماط كان يحتفظ بها فى قلايته، وأحياناً كان يرشم الآتين إليه بزيت القنديل المشتعل باستمرار أمام أيقونة والدة الإله.

وقد أعطاه الله مواهب الشفاء وكان يقول: "ليس لى أنا سيرافيم ينسب الشفاء بل لله وحده وهو كلى القدرة وهو الذى أعطاك الشفاء. أول من شفاه كان "ميخائيل مانتروف" كان يعانى من آلام فظيعة فى ساقيه وبصعوبة كان يستطيع الوقوف. وبعدها أحضروا إليه المرضى والمفلوجين والذين بهم أرواح نجسة والصم والعمى. ولم يكن الذين يعانون من أوجاع جسدية فقط هم الذين يأتون إليه بل الذين أصيبوا بأوجاع روحية معنوية ..نادراً ماسمع الأب سيرافيم اعترافاً بنفسه وغالباً ما كان يرسلهم للأب المعين لأخذ اعترافات دير "صاروف" أو "ديفيفو" . ولكنه كان يقبل تائبين فعلاً. كان يخترق قلوب البشر، كان ينظر للإنسان ككل فى سقطاته ونهضاته . كان يهمه مشاعر الإتضاع فى قلب المعترف والندامة على الخطية. ولم يكن يدين أحداً، وكثيراً ما كان يقول للكهنة الجدد " تذكر يا ابنى أنك مجرد شاهد. والله وحده هو الديان".

وكان الأب سيرافيم يعرف مسبقاً إن كان أحد الآتين إليه قد أتى لمجرد حب الاستطلاع، ظاناً فى نفسه أنه أكثر علماً من الشيخ فكان القديس يقول له باتضاع حقيقى: "من أنا المسكين الحقير، بجوار عظمتك وذكائك …" كان إرشاد القديس سيرافيم بسيطاً للغاية: "أعط خبزاً للجائع، وشراباً للعطشان، افعل ماهو مستقيم، وداوم على السلام والصفاء الداخلى". وكانت قلايته صغيرة بها نافذتان تطلان على فناء الدير وكانتا دائمة مغلقتين .. تضيئها شموع وقنديل زيت أمام الأيقونة الوحيدة فى حجرته وهى لوالدة الإله .. كانت النصيحة التى تعطى للزوار حتى يمكنهم مقابلة القديس عندما كان فى الصحراء هى: "ارسلوا الأطفال أمامكم. لأن الأب بمجرد أن يسمعهم قادمين سيخرج حتماً… فكانوا ينادون؛ أبونا سيرافيم؛ ابونا سيرافيم. فكان يخرج للقائهم ..كان الأطفال يقولون: "هل تعلمين أن الأب سيرافيم يظهر فقط أنه عجوز لكنه طفل مثلى ومثلك". وعندما كان أحد الأطفال يلعب فى القلاية ـ حيث تكون المقابلة قد طالت مع الكبار ـ كان يقول " اتركى الطفل فى لعبه البرئ إنه يلعب مع ملاكه الحارس، استمر فى اللعب يا ابنى الرب يباركك".

وماذا عن دير الراهبات .. كان القديس يقول لهن: "إن البتولية المكرسة أعمق بكثير من مجرد رفض الزواج، إنها حفظ النفس نقية ومكرسة للمسيح، مثل هذه تكون عروساً للمسيح، ومختاره من الروح القدس". بعد نياحة الأم "ألكسندرة" ، ازداد عدد الراهبات إلى 50 راهبة، وقد وجد دير صاروف أنه من الصعب عليه أن يمدهن بالاحتياجات المادية، وكان هناك اتفاق غير رسمى بين دير صاروف ورهبانية ديفيفو: أن يصرف الأول على الثانى فى كل احتياجاته من المال الذى تركته الأم "ألكسندرة"، فى نظير أن تمد الأخوات دير صاروف بالكتان المغزول بأيديهن ولكن بعد فترة رأى الرهبان أنهم غير قادرين على تحمل العبء، وأنه ليس لائقاً بدير الرجال أن يهتم بمجمع النساء، وقليلاً قليلاً ُترك دير البنات ليدبر نفسه بنفسه. وكانت الأم الجديدة إمراءة صارمة جداً، وقاست الأخوات الصغيرات من إدارتها لهن. وأحس الأب سيرافيم أيضاً وهو ملتزم بالوعد الذى وعده للأم "ألكسندره" أن من واجبه أن يحمى ويدبر أولاءك اللآئى وجدن القانون الرهبانى صعب جداً. ففصل الشيخ الأخوات المبتدئات عن القديمات وأعطى لهن قانوناً رهبانياً قال أنه تسلمه من والدة الإله نفسها. ونظم من المبتدئات رهبانية جديدة بجوار القديمة أطلق عليه "مجمع الطاحونة " وأعطاهن قانوناً جديداً أقل حدة وأكثر مواءمة مع قدراتهن. وأصبح دير الراهبات ديراً مثالياً رئيسته ـ كما يقول الشيخ ـ هى العذراء مريم ذاتها التى تعطى أوامرها للشيخ، كما أنه لم يتخذ أى تنظيمات للراهبات إلا ويكون قد استلهمها برؤى عديدة كان يراها. وقد اختار "ميخائيل مانتروف" الذى كان قد شفاه، معاوناً له فى تدبير احتياجات الدير مادياً واختار يوم عيد التجلى لتدشين الكنيسة لكى يعطى رمزاً لحياة التجلى الكائنة فى المجمع الرهبانى الصغير. وكان يرسل لهن احتياجاتهن. كان يرسل إليهن القمح والنبات والزهور؛ " القمح يغذيهن والزهور تبهج قلوبهن". وكان يقول لهن: "أعلم أن حياتكن صعبة وطعامكن خشن، ولكن العذراء قد اختارتكن يا بناتى الصغيرات". وكان يقول عنهن: "بناتى الصغيرات يشتغلن كالنحل". وكان يعجبه جداً شدة عنايتهن بالكنيسة وتنظيفها حتى قال: "إن كنتن لم تعملن شيئاً سوى تنظيف بيت الله فإنكن قد قمتن بعمل عظيم عن أى عمل آخر".

كان "لميخائيل مانتروف" أخت فى السابعة عشر من عمرها وكانت مخطوبة، وبعد معجزة شفاء أخيها تعودت "هيلين" الذهاب إلى صاروف وتأثر قلبها وتغير هناك. وبدون إبداء الأسباب فسخت الخطوبة وكرست نفسها للعناية بجدها الذى كان على فراش الموت. وأعلن الله لها فى رؤيا بأن تكون راهبة. ومضت ثلاث سنوات قبل أن يعطيها الأب سيرافيم موافقته على دخولها الدير وكان يقول لها: "اصبرى قليلاً لا تتعجلى". وعندما اختبر طريقة تفكيرها وعقليتها أخيراً سمح لها أن تذهب إلى "ديفيفو" وتستعد لأخذ الشكل الرهبانى قائلاً لها: "إنكِ تريدين أن تكونى أسداً فى حياة تكريسك ولكن هذا طريق صعب ليس لكِ. أنتن البنات تشبهن الحمام، وأنتِ ستكونين حمامة مثل راهباتى الصغيرات. ذكرى نفسك دائماً بإجابة العذراء ـ هودا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك". وبالفعل ترهبنت وعاشت حياة الصمت والصلاة والعمل. ووضع الأب سيرافيم ثقته فيها وأسند أليها الكثير من المسئوليات. وبعد شغل النهار وسهر الليل أحست أن صحتها تخونها، وكانت تتمنى أن تموت قبل الأب سيرافيم الذى بدأت قواه تضمحل وتذبل يوماً بعد يوم وكانت تقول للأخوات: "ياه ..أريد فقط أن أموت قبله".

وفى هذا الوقت بالذات جاءتها أخبار مزعجة عن أخيها "مايكل "الذى أصيب بالملاريا وقال لها الشيخ: "إن إصابة أخيكِ خطيرة. وأنتِ تعرفين حاجة الدير إليه.. لقد فكرت..أترغبين أن تموتى بدلاً عنه؟" فقالت هيلين بهدوء: "لقد أطعتك باستمرار يا أبى"؛ ولكن بعد دقيقة واحدة، بعد أن تحققت ما ينتظرها انزعجت وصرخت: "يا أبتاه إننى أرتعب من الموت". فأجاب الأب سيرافيم " ماذا يرعبك فى الموت ؟.. الموت بالنسبة لنا هو فرح أبدى". ثم رشها بماء مقدس وودعها إلى الباب. وعند عودتها أحست هيلين أن قواها تفارقها وذهبت إلى الفراش ولم تقم منه مرة أخرى. كان موتها ملفتاً للنظر.. وقد سألت المغفرة والسماح من كل واحدة، وفى اللحظة قبل تركها العالم أعلنت أنها رأت الرب كنور لا يعبر عنه. وعندما أخبرت الأخوات الأب سيرافيم عن موتها بدموع، قال لهن الشيخ: "أيتها الساذجات أنتن لا تفهمن شيئاً ! آه لو كنتن رأيتن نفسها طائرة فى السماء كحمامة !!" وهكذا أطلق القديس هذه الحمامة لتطير إذ قد فتح لها بابا القفص بنفسه.

من بين الذين شفاهم الأب سيرافيم هذا الثرى الصغير "نيكولاس موتوفيلوف" وقد سأله الشيخ: "هل لك إيمان فى الرب يسوع المسيح، وهل تعتقد أنه قادر فى أيامنا هذه كما فى القديم يمكنه أن يشفى كل الطالبين إليه؟" فأجاب موتوفيلوف أنه يؤمن فعلاً بهذا، فقال الشيخ : "إن كنت تؤمن بقلب ثابت راسخ، فأنت قد شفيت هيا قم". ولكن نيكولاس تردد شاعراً بالألم فأمسك القديس بيده وأقامه برفق وجعله يمشى بضع خطوات، فأحس بقوة غير طبيعية تسرى فى كل كيانه وتحقق فعلاً أنه قد شفى وقال له القديس: " إدخر صحتك ككنز ثمين أعطى لك" ثم تحول إلى غيره. وأصبح نيكولاس بعد ذلك زائراً مستديماً للقديس بعد شفائه.

فى نوفمبر 1831 كان لموتوفيلوف حديث هام جرى مع الأب سيرافيم قبل نياحة الشيخ بثلاثة عشر شهراً وجرى الحديث فى نفس المكان حيث تمت معجزة الشفاء.

قال له الأب سيرافيم: "إن الرب كشف لى كيف أنك فى صغرك كنت تحب بحرارة أن تعرف ماهى غاية الحياة المسيحية وأنك طرحت هذا السؤال على أباء كثيرين.. ولكن أحداً لم يعطك شيئاً صريحاً فقد نُصح لك أن تذهب إلى الكنيسة، وأن تصلى وأن تتمم شريعة الله وأن تعمل الخير اعتقاداً أن فى ذلك تكم غاية الحياة المسيحية. وربما أجابك البعض فى دهشة : "لا تبحث عما يسمو فوق ادراكك". وها أنا خادم الله الحقير، أريد أن أشرح لك ماهى هذه الغاية. إن الصلاة والصوم والسهر وسائر الأعمال المسيحية حسنة بذاتها ولكنها ليست غاية الحياة المسيحية. لاحظ أن أى عمل لا يتم لأجل محبة المسيح لا يجلب لنا لا الأجر فى الآخرة ولا النعمة فى هذه الحياة، وبهذا المعنى قال الرب: "إن من لا يجمع معى فهو يفرق" ومهما يكن من أمر فإن العمل الصالح يظل حسناً، فقد جاء فى الكتاب المقدس "بل فى كل أمة الذى يتقيه ويصنع البر مقبول عنده" ( أع 10: 35 ). وإذ كان قائد المئة كرنيليوس يخاف الله ويصنع البر ظهر له ملاك فى الصلاة قائلا اذهب إلى سمعان الملقب بطرس وهو يقول لك كلمات الحياة الأبدية وبهذه الكلمات تخلص أنت وأهل بيتك. إن السيد لم يشأ أن يخسر الأجر عن أعماله الصالحة فى الآخرة فأرسل له معونته الإلهية. ولكن لكى نستحق المعونة يجب أن نبدأ بالإيمان.. إن اقتناء نعمة الروح القدس يجعل ملكوت الله ثابتاً فى قلوبنا، وهذه النعمة تقود خطانا إلى طريق الغبطة الأبدى. إن الخالق يعطينا الوسائل ولكن تحقيقها متروك للإنسان. إن الإنسان الذى يشكو أن أعماله كثيرة ومع ذلك لا يحس بثمار روحية هو إنسان يعمل لحساب ذاته وليس لحساب المسيح .. نعم يا صديق الرب إن اقتناء الروح القدس، روح الله ، الأقنوم الثالث الأقدس، هو الهدف الحقيقى للحياة المسيحية، وما الصلاة والصوم والسهر والصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة المعمولة حباً للمسيح سوى وسائل .

عندئذ سألت الأب سيرافيم : بأى معنى تتكلم عن اقتناء الروح ؟ اننى لا أفهم جيداً؟

فأجابنى : "إن الاقتناء معناه أن تأخذ شيئاً ملكاً لك، هل تفهم؟ ألا تقول اقتناء المال! نفس المعنى بالنسبة لاقتناء الروح القدس. هل تعلم ماذا تعنى كلمة اقتناء بالمعنى البشرى؟ الإنسان العادى هدف الحياة عنده هو اقتناء المال أو نوال الألقاب أو المكافآت، أما الإنسان المسيحى فالروح القدس عنده هو رأس مال أبدى يمكن امتلاكه بوسائل مشابهة لوسائل امتلاك المال. ربنا يسوع المسيح يشبه حياتنا بسوق متاجرة، ويدعو الجميع أن يتاجروا إلى أن يجئ "مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة "؛ وهذا يعنى تاجروا فى البضائع الأرضية التى هى الأعمال الصالحة المعمولة حباً فى المسيح. التى تؤهلنا لنعمة الروح الكلى قدسه الذى بدونه لا خلاص للإنسان .. وهو الذى يسبق ويهيئ نفوسنا وأجسادنا لنكون هيكلاً لله الخالق حسب الآية " أسكن فيهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لى شعباً". إن كل عمل يُعمل محبة فى المسيح، يعطى نعمة الروح القدس؛ والصلاة أسهل الوسائل وأكثرها فاعلية. ويسهل استخدامها فى كل آن. قد تود الذهاب للكنيسة لكن ليس هناك كنيسة أو أن خدمة القداس تكون قد انتهت وقد تود مساعدة فقير فى طريقك، وقد تود أن تبقى طاهراً ولكن بالنظر إلى ضعفك أمام مكائد العدو لم تستطع. أما الصلاة فإنها تصلح لكل آن، وكل إنسان يستطيع أن يقوم بها؛ الغنى والفقير، الصحيح والعليل، الصالح والخاطئ. إن قوة الصلاة عظيمة وهى تعطى نعمة الروح القدس أكثر من كل شئ. بواسطة الصلاة نستطيع أن نخاطب الرب الصالح والمحيى. أنت تعتبر أنه امتياز عظيم كونك تتحدث مع سيرافيم الحقير، مفترضاً أنه ليس خالياً من نعمة فكم بالحرى حين تكلم الله ذاته؟ علينا أن نصلى إلى أن يحل الروح القدس علينا، ويعطينا حسب قياس يعرقه هو، ويملأنا من نعمته السمائية، وإذا زارنا، علينا أن نتوقف عن الصلاة ونصمت أمامه لكى تسمع النفس وتفهم رسالته .. لماذا نستمر فى التوسل إليه: "هلم تفضل وحل فينا". فى حين يكون قد أتى؟ افترض أنك دعوتنى لزيارتك فى بيتك. وأنا قد وصلت إلى بيتك، ولكنك تستمر فى دعوتى مكرراً لى: "من فضلك تعال!!" سأفكر بلا شك هكذا : "لا بد أنه قد تاه عقله اننى هنا ، ورغم ذلك يستمر فى دعوتى"! هكذا عندما يتعطف الروح القدس ليزورنا علينا أن نتوقف عن الصلاة الصوتية، يجب على النفس أن تكون صامتة تماماً لكى تسمع وتفهم رسالته. لأن المعزى يكون آنذاك قد أتى وحل فينا ليخلصنا نحن الذين أسلمنا ذواتنا له، ودعونا اسمه القدوس كى نقتنيه بكل تواضع ومحبة فى هياكل نفوسنا الجائعة والمتعطشة لمجيئه. إن طبيعة حالنا إننا غير صبورين فى الصلاة".

فسأل "موتوفيلوف" : "ماهى الوسائل الأخرى غير الصلاة ؟"

فأجاب الأب سيرافيم: "بالمتاجرة بأى عمل يعطينا ربح نعمته". وأضاف الأب: "تاجر بفضائلك الروحية، انشر مواهب النعمة لكل من يسألها منك. الشمعة المضيئة تنير شموعاً أخرى دون أن تفقد هى ضوءها، الغنى الأرضى عندما يوزع ينقص أما الغنى السمائى فإنه عندما يوزع يزداد".

ثم سأله "موتوفيلوف": "بأى طريقة أستطيع أن أعرف اننى فى حالة نعمة الروح القدس؟"

فأجاب الأب : "هذا سهل جداً ياصديق الرب؛ الرسل كانوا مؤمنين وكانوا يعلمون دائماً إذا كان روح الله فيهم أم لا، وعندما كانوا يرون الروح كانوا يؤكدون أن اعمالهم صالحة ومقبولة لدى الله. وهذا يفسر ما كانوا يكتبونه "لأنه رأى الروح القدس ونحن" وهم استناداً إلى هذه الحقيقة الأساسية كانوا يعرفون بطريقة حسية وجود روح الله. ألا ترى ياصديق الرب كم هذا سهل.

"لكننى لا أفهم جيداً كيف أكون مشمولاً تماماً بالروح القدس وأستطيع أن أكون الشاهد على ذلك؟"

"لقد قلت لك هذا سهل جداً، وحدثتك كيف يكون الناس فى حالة نعمة الروح القدس. ماذا يلزمك بعد".

قال موتوفيلوف: "أبى ..تكلمت عن نوال الروح القدس كغاية للحياة المسيحية ولكن كيف أشعر به وأدركه. إن الأفعال مرئية أما الروح القدس فغير مرئى، وكيف أعرف إن كان فىَّ أم لا؟!"

القديس سيرافيم: "اسمع يا صديقى؛ الآن كلانا فى هذه اللحظة موجودان فى الروح القدس. لماذا لا تنظر إلىَّ؟"

موتوفيلوف : "أنا لم أعد أستطيع أن أنظر إليك يا أبى فإن عينيك يشع منهما نور كالبرق الخاطف وقد صار وجهك يتوهج أكثر من الشمس، وقد انبهرت عيناى من النظر إليك".

القديس سيرافيم : "لا ترتعب، فأنت أيضاً فى هذه اللحظة قد صرت مضيئاً كما صار لى، فقد أصبحت أنت أيضاً الآن على ملء روح الله وإلا ما كنت تستطيع أن ترانى بما رأيتنى فيه".

وانحنى نحوى وأسر فى أذنى: "أشكر الرب على صلاحه اللانهائى نحونا، وهوذا ترى إنى لم أعمل شيئاً قط من أجل ذلك حتى ولا إشارة الصليب، ولكن كان يكفى إنى ناديت الرب مصلياً بفكرى ومن قلبى قائلاً: "يارب اجعله مستحقاً أن يرى بعينيه حلول روحك الذى تنعم به على خدامك عندما يتراءى لك أن تظهر لهم فى بهاء مجدك العجيب". وهكذا ترى ياصديقى أن الله استجاب فى الحال لصلاة سيرافيم الحقير، علماً بأنه حتى الآباء فى الصحارى لم توهب لهم دائماً هذه العطية التى بها استعلن صلاحه. إن نعمة الله كأم مملوءة حباً وحناناً نحو أولادها، رأت أن تعزى قلبك المضطرب بشفاعة أم الله .. فلماذا أراك يا صديقى لا تريد أن تحدق فى وجهى؟ أنظر فىَّ بحرية بدون خوف فالرب معنا الآن".

فلما شجعنى بهذه الكلمات تطلعت إليه فغمرنى خوف مقدس.. تصور أنك رفعت عينيك فجأة إلى قرص الشمس فى عز الظهر لتحدق فى وجه إنسان داخل هذا القرص وهو يتحدث إليك.

القديس سيرافيم : "بماذا تحس؟"

موتوفيلوف: "بسعادة تفوق الوصف".

القديس سيرافيم : "أى سعادة؟ حدد بالضبط".

موتوفيلوف: "أشعر بهدوء وسكينة وسلام فى نفسى لا أستطيع أن أجد كلمة تعبر عنها".

القديس سيرافيم: "اسمع يا صديقى؛ هذا هو سلام المسيح الذى وعد به، سلامى أعطيكم سلامى أترك لكم السلام الذى لا يستطيع العالم أن يعطيه، السلام الذى يفوق كل عقل، ولكن بماذا تشعر أيضاً".

موتوفيلوف: "بسرور لا حد له داخل قلبى".

القديس سيرافيم: "حينما يأتى الروح القدس ويحل على إنسان ويحيطه بملء وجوده تفيض النفس بفرح لا ينطق به لأن الروح يملآ كل ما يلمسه سروراً. فإذا كان باكورة الفرح السمائى قد ملأ قلبك بهذه اللذة وهذه السعادة فماذا تقول عن الفرح الذى سنناله فى الملكوت الذى ينتظر كل الذين ينتظرونه الآن على الأرض؟!! واعلم يا صديقى إنك وإن كنت قد بكيت أيضاً هنا فى زمان غربتك على الأرض، فانظر أى فرح أرسله لك الرب ليعزى قلبك أيضاً الآن هنا من أجل ذلك ينبغى أن نجاهد فى الحاضر حتى نبلغ إلى قياس قامة ملء المسيح ونتشدد أكثر فأكثر لأنه حينئذ يتحول الفرح الجزئى المؤقت الذى نحسه الآن، ويستعلن فى ملء كماله ليغمر وجودنا كله بمسرات لا ينطق بها ولا يستطيع أحد أن ينزعها منا. إن السيد يعطى السلام الذى تشعر به الآن لجميع الذين يكرهون العالم الذين اختارهم هو، وبماذا تشعر أيضاً؟".

موتوفيلوف: "إنني أشعر بعذوبة لا توصف".

القديس سيرافيم: "إن هذه العذوبة هى التى كتب عنها "من فيض عذوبتك ترويهم، هذه العذوبة تملأ عروقنا لذة لا توصف وتذيب قلوبنا وتغمرنا ببهجة يعجز كل لسان فى العالم عن وصفها، وبماذا تشعر أيضاً؟".

موتوفيلوف: "ليس على الأرض شئ أكثر عطراً وأزكى رائحة من العطر الذى اشتمه، وليس على الأرض زهرة تعطى مثل هذه الرائحة".

القديس سيرافيم: "أنا أعلم هذا وقد سألت عن قصد بماذا تشعر؟ نعم إن ما تقوله صحيح يا صديق الرب ليس على الأرض رائحة أزكى من التى تفوح حولنا، لأن هذه هى من الروح القدس وهل على الأرض ما يشبه هذا؟! .. وماذا أيضاً ياولدى؟".

موتوفيلوف: "أشعر بحرارة لا توصف!!"

القديس سيرافيم: "كيف يا صديقى ونحن الآن فى غابة فى فصل الشتاء وتحت أرجلنا الثلج، كما أن الثلوج تتساقط، ومازالت تتساقط فوق رؤوسنا؟ وكيف تشعر بالحرارة وما هى هذه الحرارة؟"

موتوفيلوف: "هى نفس الحرارة التى أشعر بها فى فصل الصيف وفى صميم الشمس.."

القديس سيرافيم: "إن هذه الحرارة ليست من الهواء ولكنها فينا. إنها الحرارة التى نطلبها من الله بإتضاع فى صلواتنا حين نقول " إلهبنى يا رب بحرارة الروح" لذلك لا يخاف النساك والمتعبدون برد الشتاء لأنهم متسلحون بهذه الحرارة ومتسربلون برداء الروح القدس".

قال الأب : "من الآن لا تعد تسألنى عن كيفية استعلان الروح القدس بصورة مرئية .هل سيبقى هذا الإستعلان الواضح فى ذاكرتك".

أجاب موتوفيلوف: "أنه يخاف أن عدم استحقاقه سيحول دون تذكر كل شئ على صحته.."

قال الشيخ: "أشعر شعوراً مؤكداً أن الله سيساعدك أن تحفظ كل شئ إلى الأبد فى ذهنك. وإلا ما كان استجاب إلى صلاة الحقير سيرافيم خصوصاً وأن استعلان الروح القدس ليس وحدك بل للعالم كله عن طريقك . تقوى فى إيمانك ، وستكون مفيداً للآخرين … اشرك أى شخص تواق إلى الخلاص فى النعمة التى اختبرتها، ولا تدفن الفضة التى أودعت إليك مثلما فعل العبد الكسلان.. لا شئ مستحيل للمؤمن، اسأل وستجاب كل طلباتك إذا كنت تصلى لمجد الله وفائدة إخوتك. عليك أن تحدد رغباتك الشخصية أيضاً ولكن أحرص أن لا تسأل الأمور التى ستتركها بسهولة وتمضى. ولكن لا تظن أن بعض التمتع بالخيرات الأرضية محرم. والرب يعرف أننا نحتاجها لكى تجعل الطريق الصعب الذى نخوضه أكثر سهولة لنا . إنه لا يفصل سعادتنا عن مجده. وأنه يريدنا أن نحمل بعضنا أثقال بعض. كل شئ نعمله لأصغر أخوته سيعمل لنا أيضاً. كونى راهباً وأنت علمانى ليس له أهمية. إن الرب ينصت لكلا الراهب والإنسان الذى فى العالم لو كان كلاهما مؤمناً. إنه ينظر إلى كل قلب مملوء بإيمان حقيقى لكى يرسل فيه روحه. لأن قلب الإنسان قادر أن يحوى ملكوت الله. الروح القدس وملكوت الله واحد". وختم الشيخ القديس قائلاً : "لقد أخبرتك الآن بكل شئ، إمض بسلام، الرب يكون معك وأمه القديسة ..أمين".

لقد قال مرة القديس سيرافيم لأحد زواره: "أه لو تعلم ما أعظم الفرح وما أبهى العذوبة التى تنتظر النفس المستحقة للسماء، يجب أن نتحمل فى هذه الدنيا الفانية كل تجربة وكل اضطهاد وكل نميمة. إذا حلت بنا المصائب فعلينا أن نتحمل بكل قوانا لكى لا نحرم من الفرح السماوى الذى أعده الله للذين يحبونه، ففى منازله لا مرض، ولا وجع، ولا حزن، بل فرح وعذوبة فائقان وقديسون يتلألئون كالشمس. فأى لسان يستطيع أن يصف هذه العظمة السماوية وجمال وطن الأبرار والغبطة بعد أن عجز بولس الرسول عن ذلك. إفرح وأنت فى جسدك المائت بفرح الفردوس الذى ذقته.

لقد ظهرت العذراء مريم للقديس سيرافيم إثنى عشر مرة كما أخبر هو بنفسه الأم أيوبراكسيا والتى عاينت أخر ظهور للعذراء له وعندما ملأ النور القلاية التى للشيخ واللمعان الباهر لم تحتمل الراهبة وسقطت على الأرض. الكلمات الوحيدة التى سمعتها من العذراء وهى تحدث الأب سيرافيم كما مع صديق "حالاً يا صديقى ستكون معنا".

أما الأيام الأخيرة للأب سيرافيم فقد اعتاد أن يقول لزواره "إننى سأرحل، سأترككم حالاً" وكان يقول: "يا للفرح والبهجة التى تنتظر النفس عندما يرسل الله ملاكه لكى يأخذها". وعندما ودع صديقه تيمون قال الأب سيرافيم: "ابذر البذار التى أعطاك الله إياها فى كل وقت وفى كل مكان على أرض جيدة، ابذرها على الرمال، ابذرها على الصخور، ابذرهاعلى الطريق، ابذرها بين الشوك ربما تفرخ البراعم وتحمل أثماراً".

قبل نياحته بوقت قصير استدعى أب اعتراف دير ديفيفو للراهبات وسلمه مسئولية الدير، وعندما ودع بناته بالروح قال لهن: "عندما لا أكون معكن تعالوا إلى قبرى باستمرار واسكبن كل آلامكن وأتعابكن، وتحدثن معى كما لو كنت مازلت حياً لأنى سأكون معكن دائماً".

أحب الأب سيرافيم أن يفارق الحياة البشرية بشمعة مضيئة، مرة أمسك شمعة ورفعها وقال لأحد الرهبان: "أطفئها انفخ فيها". ففعل فقال: "ستطفأ حياتى سريعاً مثل هذا". فحزن الراهب وتأثر فعزاه الشيخ قائلاً: "هذا ليس وقت الحزن يا صديقى ولكنه وقت الفرح". وعمل الأب سيرافيم استعداداته الأخيرة، وكتب خطابات، وأعطى نصائح، وأوصاهم أن يضعوا أيقونة القديس سرجيوس على صدره عندما يضعونه فى النعش، وهى صورة مرسومة للقديس لحظة ظهور أم الله له، وفى أول يوم من أيام سنة 1883م كان يوم أحد فذهب إلى الكنيسة الملحقة بالمصحة. تلك الكنيسة التى أحبها وقبل جميع الأيقونات واحدة واحدة، الأمر الذى لم يفعله من قبل، وتناول من الأسرار المقدسة وودع جميع الأخوة الذين كانوا هناك. وفى المساء رتل تسابيح القيامة ونحو الساعة السادسة صباح اليوم التالى اشتم أحد الأخوة رائحة الدخان من قلاية الشيخ فأحضر الأخوة ووجدوا الأب سيرافيم راكعاً أمام أيقونة والدة الإله التى يسميها فرح الأفراح، ويداه مضمومتان كالصليب على صدره وعيناه مغلقتان، كتابه المقدس مفتوح أمامه وقد احترقت جوانبه. وقد ظن الرهبان أنه نائماً ومتعباً من القراءة والسهر. وعندما حاولوا إيقاظه وجدوا أن روحه قد فارقت جسده. فوضعوا جسد القديس فى تابوت من خشب البلوط كان قد أعده من قبل وحملوه إلى الكاتدرائية وانتشر الخبر بسرعة وازدحمت بهم الكاتدرائية ولمدة ثماني ساعات استمر جسد القديس مكشوفاً حتى يتمكن كل أحد من إلقاء النظرة الأخيرة عليه كان هذا فى صباح 2 يناير 1883م .

بركة صلواته تكون معنا أمين.
 
أعلى