.
سلام المسيح وتحياتي للأستاذ "إلى النور" وكل الأحباء الحضور. أعتقد أن الإجابة هي نعم، "الطبيعة "المركبة" تعبير صحيح يقبله أصحاب الطبيعة الواحدة. لكنه نادر جدا، لم أصادفه شخصيا إلا في سياق المصالحة ومحاولات التوفيق بين الكنائس كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي على سبيل المثال.
الأهم من ذلك في تقديري ـ إذا سمحت لي ـ هو أن ندرك المعنى الحقيقي المقصود بهذه الاصطلاحات، وإلا فقد نقع دون أن تشعر ضحية الفهم السيء أو التعليم الخاطئ. على سبيل المثال فرق كبير بين قولنا إن «المسيح تألم في ناسوته» وبين قولنا إن «المسيح تألم بسبب ناسوته». في القول الأول نحن نفصل ـ ولو ضمنيا ـ بين اللاهوت والناسوت ويقتصر من ثم الألم على الناسوت وحده، لأن اللاهوت ببساطة لا يتألم. منطقي جدا، ولكن هكذا في الحقيقة "ينقسم" المسيح إلى اثنين أو إلى نصفين أحدهما يتألم والأخر لا يتألم! أحدهما هو الناسوت الذي يسري عليه الألم، بينما الآخر هو اللاهوت الذي لا يقبل من حيث طبيعته الألم ومن ثم يبدو وكأنه يقف سلبيا محايدا. هذا القول بالتالي خاطئ تماما، أستاذنا الحبيب، لا يقبله أصحاب الطبيعة الواحدة ولا يقبله حتى أصحاب الطبيعتين! هذا التعليم ببساطة تعليم "نسطوري" بحت!
أما القول الثاني «تألم المسيح بسبب ناسوته» أو «من خلال ناسوته» فمعناه أن المسيح الواحد ـ الإله الإنسان ـ تألم، وهو ما يزال واحدا تألم، دون أي فصل بين اللاهوت والناسوت ودون أي تقسيم للمسيح إلى شخصين أو إلى نصفين، يختلفان بالضرورة في كل شيء بما إن كليهما من طبيعة تختلف عن الأخرى. فهذا هو التعليم الصحيح وهو قول الآباء، شرقا وغربا، من أثناسيوس الرسولي (طبيعة واحدة) حتى مكسيموس المعترف (طبيعتين اثنتين).
علة ذلك ببساطة هو مبدأ هام جدا نسميه "شيوع الخواص"، أو "تبادل الخواص" (Communicatio idiomatum)، الذي يذهب إلى أن ناسوت المسيح ـ نظرا لاتحاده مع اللوغوس أو الكلمة الإلهي ـ اكتسب خواص اللاهوت أيضا، ولكن دون أن تتغير طبيعته. باتحاد الكلمة إذاً بالجسد: تأله هذا الجسد. تجدّد وتقدّس وتبدّد فيه الموت والفساد وكان حقا "جسدا إلهيا". كان حرفيا "جسد الإله" رغم أنه كان وما يزال جسدا إنسانيا. اكتسب "ناسوت" يسوع من ثم خواص "الكلمة" الإلهي ـ بحكم اتحادهما ـ دون أن تتغير بذلك "طبيعته" كناسوت. بالأحرى تحققت فيه بذلك طبيعة الإنسان "الحقيقية" أخيرا، ليس كما نعرفه ولكن كما كان حقا في البدء، في محضر الله قبل السقوط. وأما الآن فليس الإنسان فقط في محضر الله بل صار بهذا التجسد في "اتحاد" مباشر معه!
(وهذا بالتالي هو جوهر الخلاص في الإيمان الأرثوذكسي ومعنى "التأله" الذي تكرر الحديث حوله مرارا. نحن باختصار حين نتحد مع المسيح في المعمودية نولد روحيا من جديد، لا من آدم هذه المرة ولكن من المسيح، آدم الثاني، الذي ألّه "الإنسانية" في جسده هو نفسه أولا. هكذا تألهنا نحن أيصا فيه، وبه، بحكم ولادتنا هذه الجديدة، وإن لم يحدث حقا أي تغيّر في "طبيعتنا". بعبارة أخرى نحن لا نصير "آلهة" أو تتحول طبيعتنا أبدا لطبيعة الله، حاشا. نحن ما زلنا ناسوتا. ولكن لأننا ناسوت ولد من ناسوت المسيح، نفس الناسوت الذي ألهه اللوغوس بالتجسد، فقد تألهنا نحن أيضا بالضرورة! هكذا صرنا بالنعمة "أولاد الله" وصارت أجسادنا "هياكل" القدوس وصارت قلوبنا منازل روحه. وهذا معنى قولنا «أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له»، كذلك قول الآباء ـ أثناسيوس وإيريناوس وباسيليوس وغيرهم ـ «تأنسن الإله كي يتأله الإنسان»).
***
لكن العكس أيضا صحيح: كما اكتسب الجسد أو الإنسان يسوع خواص اللاهوت، كذلك اكتسب الكلمة الإلهي أيضا خواص الناسوت، دون أن يئول ذلك بالطبع إلى أي تغيّر في "طبيعته". لهذا تحديدا ظهرت كل هذه التعبيرات المتناقضة المستحيلة عقلا، مثل قولنا «جاع الإله»، «عطش الإله»، «تألم الإله»، أو مثل وصفنا للعذراء بأنها «أم الإله»! فهل "جاع" الكلمة الإلهي نفسه، أو "تعب" أو "تألم"؟ نعم، ولكن ليس كما نجوع نحن أو نتعب أو نتألم. لقد "اختبر" الكلمة القدوس فعليا سائر ضعفاتنا وأتعابنا وآلامنا، ولكن بحسب طبيعته الإلهية سبحانه ودون أن يئول ذلك إلى أي تغيير في هذه الطبيعة. أو كما يشرح على سبيل المثال قديسنا الكبير مكسيموس المعترف في نص جميل عميق أقتطف منه:
«كونه إلها فقد صنع المعجزات، ولكن على نحو إنساني وبطريقة إنسانية، إذ تحققت هذه المعجزات عبر جسده المحدود الضعيف. وكونه إنسانا فقد اختبر معاناة البشر واختبر آلامهم، ولكن على نحو إلهي وبطريقة إلهية، إذ تكشفت له هذه الأتعاب والآلام حسب سلطان مشيئته. هكذا بمعجزاته شفانا وردنا إلى أنفسنا، كاشفا لنا كيف كنا حين خُلقنا أولا. وهكذا بآلامه جعلنا خاصته، فأصبحنا هذا الخلق الأول الذي كشف لنا عنه. ...».
وهكذا بحكم "شيوع الخواص" بين اللاهوت والناسوت في الكلمة المتجسد أصبح لهذا "المسيح الواحد" كل خواص اللاهوت والناسوت معا، حتى التي لا تنصرف على طبيعة الناسوت منفردا، أو على طبيعة اللاهوت منفردا.
وبالطبع فقد حاء هذا التعليم أولا من مدرسة الإسكندرية، أصحاب الطبيعة الواحدة، ثم تبناه الغرب أيضا وأخذ به، ثم أخذ به حتى المعتدلون في مدرسة أنطاكية نفسها، المعقل الرئيسي لأصحاب الطبيعتين. هذا بالتالي هو التعليم الصحيح الذي اتفق عليه الجميع تقريبا. (وإن أخذ الغرب بعد ذلك ـ فيما يتعلق بالخلاص ومعناه ـ طريقا آخر وجاء بفكر مختلف أصبح فيه "الصليب" ـ لا "التجسد" ـ هو حجر الزاوية).
أعتذر ختاما للإطالة وأرجو أن تكون رسالتي قد ألقت بعض الضوء على هذه الاصطلاحات الهامة، لعلك تدرك الآن أبعادها على نحو أفضل. تحياتي ومحبتي.
.