أول شيء يجب مراعاته هو مسافة المشاهدة، فالأجهزة الإلكترونية في حد ذاتها لا تمثل مصدرا للمشاكل البصرية إلا عندما تُستخدم بشكل خاطئ (شترستوك)
في العام 2019، قدمت كارلوتا نيلسون الفيلم الوثائقي "برين ماترز" (Brain Matters) الذي أوضحت فيه تأثيرات قضاء الأطفال الكثير من الوقت على الشاشات، وأهمية تمتعهم بالحياة في الطبيعة. وفي العام 2020، وشدد منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" (UNICEF) على أن "الأطفال يحتاجون إلى البشر وليس الشاشات". لكن دراسة حديثة، صدرت في يوليو/تموز 2022، كشفت أن "نصف الآباء فقط يُدركون تأثير شاشات الأجهزة والهواتف الذكية على عيون الأطفال".
أما الباقون فيعتقدون أنها الأداة الأسهل لإسكات الأطفال والتخلص من إزعاجهم، على حد تعبير البروفيسور لانغيس ميشود، أستاذ البصريات وصحة العيون في جامعة مونتريال، في مقال له نشر مؤخرا على موقع ذا كونفرزيشن" (The Conversation).
ميشود أعرب عن دهشته من رؤية العديد من الآباء والأمهات يدفعون عربات أطفال لا يتجاوز عمرهم العامين ويُمسكون بهاتف ذكي أو جهاز لوحي. وأردف أن "هذه الملاحظة تحزنني، لأنني أعرف الآثار الضارة التي قد يُحدثها التحديق في الأجهزة الإلكترونية على الأطفال"، موضحا أن "هذه التأثيرات تزداد قوة خلال السنوات الأولى من حياتهم، سواء على المستوى البصري أو على النمو المعرفي والاجتماعي".
في عام 2019 أوصت منظمة الصحة العالمية بمنع الأطفال دون سن الثانية من الجلوس أمام الشاشات (شترستوك)
لا شاشات قبل سن عامين
في العام 2019، أوصت منظمة الصحة العالمية بمنع الأطفال دون سن الثانية من الجلوس أمام الشاشات، كما نصحت الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال "إيه إيه بي" (AAP) "بإلغاء الوقت الذي يقضيه الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عامين أمام الشاشة تماما"، وربطته بالتأخير في تعلم اللغة.
ومن أجل التطور البصري الطبيعي، يوصي البروفيسور ميشود "بتجنب أي تعرض للأجهزة الإلكترونية بين سن يوم وسنتين، باستثناء محادثات الفيديو العابرة، تحت إشراف أحد الوالدين، لإلقاء التحية على الجد الذي يعيش بعيدا، لبضع دقائق على سبيل المثال".
الجهاز البصري للأطفال من سن صفر إلى عامين لم يتم تطويره ولا تسمح قوته بما يكفي للخضوع للضغط والتحفيز البصري المستمر أمام الشاشة، وخصوصا أن الطبقة العميقة للعين، والتي تعطيها الصلابة وتحدد حجمها، تتطور بين صفر وسنتين من العمر، ثم تستقر
بالإضافة إلى أن التحفيز البصري في هذه الأعمار يؤثر على تطور العيوب البصرية، وفرص حدوث الأمراض في وقت لاحق من الحياة.
ويلفت الخبراء أيضا إلى أهمية ملاحظة أن الشاشة يمكن أن ينبعث منها ضوء أزرق، لا تستطيع عيون الأطفال تصفية أشعته كما تفعل عيون البالغين. وبالتالي يتعرض الأطفال لمزيد من هذا الضوء الذي يحفز قصر النظر، ويعطل إفراز الميلاتونين، الذي ينظم ساعتهم البيولوجية، مما قد يتسبب في تعطيل القيلولة اللازمة للأطفال في هذا العمر، وكذلك النوم أثناء الليل، ويؤدي بدوره إلى قصر النظر.
تأثير الرؤية من مسافة قصيرة جدا
أول شيء يجب مراعاته هو مسافة المشاهدة، فالأجهزة الإلكترونية في حد ذاتها لا تمثل مصدرا للمشاكل البصرية، إلا عندما تُستخدم بشكل خاطئ، يؤثر على التطور الطبيعي لعين الطفل، وبالتالي على مهارات القراءة والتعلم (ما يقرب من 80% مما يتعلمه الطفل في المدرسة يكون بصريا).
فقد تم تصميم العين للنظر من مسافة تساوي طول الساعد تقريبا، أي من المرفق إلى أطراف أصابع اليد (حوالي 30 سم للأطفال، و40 سم للبالغين).
لكن استخدام الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية يكون غالبا على بعد 20-30 سم من العين، وقد تصبح المسافة أقصر، مع الاستغراق في الاستخدام، مما يتسبب في مضاعفة الجهد البصري المطلوب للرؤية الواضحة من هذه المسافة القصيرة جدا، ويؤثر على جودة صورة الشبكية، وبالتالي على التطور البصري، ويتسبب في إجهاد العين المُفرط
وقد تبذل عينا الطفل الكثير من الجهد لاستيعاب المسافة القصيرة، مما يجعلها تتقارب تلقائيا نحو الأنف أكثر من المعتاد، للتركيز من أجل الوصول إلى مسافة القراءة العادية.
ولأن العين لا تستطيع الحفاظ على هذا الجهد المستمر لفترة طويلة من الزمن، فإنها تضطر للتخفيف من جهدها، فترى الصورة مشوشة لفترة من الوقت فيما يشبه "العقوبة الحسية"، التي لا يمكن إيقافها إلا بأخذ فترة من الراحة وإبقاء الجهاز اللوحي أو الهاتف على مسافة من الساعد، حتى يمكن للعين أن تستأنف مجهودها. لذا فإن التناوب بين الوضوح والتشويش سوف سيستمر ما دام تحديق الطفل في الشاشات عن قرب مستمرا.
من أجل التطور البصري الطبيعي، يوصي الخبراء بتجنب أي تعرض للأجهزة الإلكترونية بين سن صفر وحتى سنتين (بيكسلز)
خطورة التحفيز البصري المستمر
قد يرفع الطفل عينيه عن كتاب أو لعبة بعد فترة من الاستخدام، لكنه لا يستطيع مقاومة التحديق في شاشات الأجهزة الإلكترونية، لتركيزه على الألعاب أو الفيديوهات، في جلسات قد تمتد لأكثر من ساعتين إلى 3 ساعات متواصلة؛ دون انقطاع أو نظر بعيدا عن الشاشة.
لذا، فإن إيقاف هذا التحفيز البصري المستمر هو العامل الثاني الذي ينبغي مراعاته؛ فالتركيز على الأهداف عن بُعد مفيد للنمو البصري للطفل.
فعندما يرسم الطفل، أو يقرأ كتابا، فإنه يتوقف بشكل غريزي عند نقطة ما، ويبحث في مكان آخر بعيدا، أو يهتم بشيء آخر حوله، وهي وقفات وفواصل مفيدة لتعافي النظام البصري من الإجهاد.
الطريقة الصحيحة لتعامل الأطفال مع الشاشات
تبدأ مهارات الطفل البصرية في التطور أثناء الحمل، وتستمر في النمو بعد الولادة، حيث تتطور العين من خلال التحفيز البصري، الذي يتحكم في نمو المُقلة عبر آلية معقدة.
ويرى البروفيسور ميشود أنه "من سن عامين فصاعدا يمكن السماح بساعة مشاهدة يوميا، خاصة لمتابعة المواقع التعليمية، ولكن بمرافقة دائمة من أحد الوالدين".
ثم، عندما ينضج النظام البصري، في حوالي سن السادسة إلى الثامنة، يمكن زيادة التعامل تدريجيا مع الأجهزة اللوحية الإلكترونية، دون أن يتجاوز ساعتين إلى 3 ساعات يوميا، مع استراحات لمدة 10 دقائق كل ساعة؛ مع مراعاة، تجنب استخدام الأجهزة الإلكترونية أثناء الوجبات والأنشطة العائلية، وقبل النوم بساعة على الأقل.