جيوفاني جياكوميتي وكونو أمييت … بارادوكس الغريزة والمفهوم

لمسة يسوع

Well-known member
إنضم
20 أغسطس 2022
المشاركات
2,490
مستوى التفاعل
768
النقاط
113
عاجل..إعلام عبري: نقل 7 جنود أصيبوا على جبهة لبنان اليوم إلى مستشفى الجليل الغربي في نهاريا



جيوفاني جياكوميتي وكونو أمييت … بارادوكس الغريزة والمفهوم


8-38-730x438.jpg


إسماعيل كرك​


حجم الخط
0


تعتبر المراسلات بين جيوفاني جياكوميتي وكونو أمييت، مرجعاً مهماً ومعتمداً تجاوز «عتبة الخصوصية» كما كُتِبَ عنها في مراجعات مفصلة وتعاطف خاص نظراً لأهمية الفنانَيْن الشابين، اللذَين ساعدا إلى جانب الفنان فرانز هودلر في تأسيس الحداثة السويسرية. بدأت الصداقة التي استمرت عقوداً عندما التقى الشابان خلال دراستهما معاً في ميونيخ بين عامي 1886 – 1888 ثم تابعا دراستهما معاً في باريس حتى عام 1892. في رسائلهما يمكن للمرء أن يلاحظ كيف ابتعدا أكثر فأكثر عن المذهب الطبيعي، وتعاملا مع انطباعية بول غوغان، ولاحقاً أيضاً مع فان غوخ و بوفيس دي شافان.
00-9.jpg

عند مطالعة منشورات المعهد السويسري لأبحاث الفن في زيوريخ، التي حررتها الناقدة فيولا رادلاك تقع عين القارئ على رسم توضيحي ملوّن وعدة نسخ لمقتطفات من الرسائل والِسيَرْ الذاتية والبيبلوغرافيا، حيث تمتد مراسلات جمع كونو أمييت مع جيوفاني جياكوميتي لعدة عقود، لأن مثل هذه الصداقات الفنية الموَثّقة بحرفية نادرة توفر رؤىً متفردة في عالم الفكر والأسلوب الإبداعي والحياة اليومية للرسامَين، وفي بعض الأحيان يتفاجأ قارئوها بمناقشات شرسة ومفيدة حول الفن والفنانين وتقنيات الرسم الجديدة وموقعها في الحداثة الناشئة آنذاك، فاللغة غير التقليدية للفنانَين تجعل القراءة ممتعة وتؤرخ الموقف من الحياة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
تحت عنوان «رسائل من القلب عن الفن والصداقة» كتبت الناقدة السويسرية آن ماري مونتيل: «كان جيوفاني جياكوميتي وكونو أمييت في التاسعة عشرة من عمريهما عندما التقيا كطالبَي فنون في ميونيخ وتصادقا على الفور، لكنهما عادا خلال إجازة الفصل الدراسي إلى منزليهما، جيوفاني جياكوميتي إلى ستامبا – كانتون تيسين، وكونو أمييت إلى كانتون سولوتورن، غير أنهما لم يتوقفا عن مراسلة بعضهما برسائل مطولة مع عفوية وسحر، يكتب أمييت مخاطباً جيوفاني جياكوميتي: «منذ فترة طويلة كنت أريد أن أتحدث معك عن كل شيء حول الرسم، لديّ فرصة أكبر للحديث عن الفن هنا مما تفعله هناك، لكن الإجابة الصحيحة أو السؤال المضاد لا يأتي عادةً». تلك الجُمل، تثبت القيمة العالية التي يوليها الأخير للمحادثة مع زميله، على الرغم من أنه كان مهتماً بأن يكون شريكاً قريباً في المحادثة.
تُظهِر البورتريهات الشخصية المبكرة للصديقين خصائص مختلفة صالحة لعملهما اللاحق، مثل المقارنة بين بورتريه جياكوميتي الذاتي الذي رسمه في باريس 1889 مع بورتريه أمييت المضحك بالقبعة والشريط الأحمر مرتدياً وشاحاً بأزرار، الذي أنجزه في العام ذاته، اللافت في ذلك البورتريه أنَّ ضحكة أمييت الخبيثة تتماشى جيداً مع القبعة المرنة المضحكة التي يرتديها، بينما يلتقي بنا جياكوميتي البالغ من العمر 21 عاماً بقبعته السوداء وعينيه إلى الأسفل قليلاً، ما يعني أن النظرة العاجلة الموجهة للمشاهد من الأعلى تبدو متعجرفة بعض الشيء.
الطبيعة هي المجال الذي يجب على الفنان زراعته
في رسالة مؤرخة في الأول من تموز/يوليو 1891، ينتقد جيوفاني جياكوميتي الكثير مما لم يكن طبيعياً في أعمال أمييت، ولاسيما بورتريه المرأة التي استأجرها لتقف أمامه، إذ وجدها امرأةً تصلح للمغازلة أكثر منها للعمل قرب أكوام القش: «يجب على أمييت أن يتذكر زوجة المزارع في فيلم (أوكروبر) للمخرج جول باستيان ليباج، التي كانت بسيطة وطبيعية، و(كأنها مسروقة من الطبيعة).
إن القرب من الطبيعة الذي يفتقده جيوفاني في لوحة أمييت هو مطلب يفرضه على نفسه مراراً وتكراراً، وفي الوقت نفسه هو تعبير عن اتجاه واقعي وأساسي متأصل في أعماله الخاصة، فالصفات المتأصلة في الطبيعة البشرية لا يمكن للبشر إدراكها تماماً، وبالتالي فإن الطبيعة هي المجال الذي يجب على الفنان زراعته.
في رسالة أُخرى إلى أمييت، وصف جيوفاني لوحته الضخمة التي عنونها Bétes de somme «وحوش العتالة»، التي عمل عليها آنذاك مسلطاً الضوء على موضوع اللوحة التي تصور المنحدرات المطلة على نهر ميرا ونساءً إيطاليات متعبات، يسترحن من حمل ألواحِ حجريةً، التي خطط جيوفاني لعرضها في المعرض الوطني الرابع – جنيف 1896. لكن حُكم أمييت على اللوحة كان مُدَمِّراً بعد أن علَّق على اللوحة: «فقط إذا نظرتَ إلى صورتكَ الكبيرة من بعيد، فستحصل على فكرة غابة شاعرية جميلة، أما إذا نظرتَ عن كثب، ستتساءل ما الذي تفعله هناك تلك الشخصيات بحق الجحيم؟! حتى إذا قمتَ بقلب الصورة رأساً على عقب، وحتى عندما تقرأ عنوان اللوحة: «وحوش العتالة» ستشعر بخيبة أمل!».
وجَّه أمييت الاتهام نفسه للوحة «عيد الميلاد» التي أنجزها جيوفاني سنة 1897 فدافع جيوفاني جياكوميتي عن نفسه بالاعتراضات التالية: «أنت تظهر استياءكَ من التقنية التي استخدمتُها في لوحة عيد الميلاد، لأنها تذكرني كثيراً بسيغانتيني، قد تكون مشابهة، لكن إذا وضعتَها بجوار لوحة لسيغانتيني، فسوف ترى أنها شيء مختلف تماماً. لم أفكر في الأمر على الإطلاق عندما كنت أرسم لتقليد ذلك الفنان العظيم، لقد رسمتُ هذه اللوحة بكل الطرق الممكنة: أولاً بمعايرة درجة الحرارة، ثم بالبدء باستخدام الألوان الزيتية بعدة طرق وفقط من خلال تطبيق الألوان غير المخلوطة بوفرة، تمكَّنتُ من تحقيق التأثير المطلوب، أي التأثير بهذه الطريقة من أجل الحفاظ على الاتصال بين الأشكال، والضوء الذي يميز الليل والثلج. حاولتُ استخدام ضربات الفرشاة لتقديم الأشكال كافة التي يمكن للمرء أن يتخيلها في الطبيعة، وذلك لتقليدها وجعلها ملموسة، أعتقد أنه باستخدام هذه التقنية يمكنك تحقيق ما تريد أفضل من أي طريقة أخرى وبهذا سيكون من الأسهل التغلب على الأمر وجعله مرناً».
ما يلفت النظر هنا أن جياكوميتي يرى أن الصراع من أجل الضوء والغلاف الجوي، الذي ينبغي أن يظل الفكرة المركزية لعمله كوسيلة للتغلب على المادة وجعلها مرنة، ليست أقل أهميةً بالنسبة له، بالإضافة إلى ذلك، فإن محاولة جيوفاني بأن يكون قريباً من الطبيعة، وأن يكون صادقاً مع الموضوع، يجب أن يكون مصحوباً بتجربةٍ عاطفيةٍ مكثفة، إذ لا يمكن للفنان أن يخلق عملاً فنياً إلا إذا اختبرهُ، وانطلاقًا من هذه القناعة، فإن العملية الإبداعية بالنسبة لجياكوميتي ليست مسألة عقلانية بالدرجة الأولى، بل هي مسألة مزاجية وإحساس. يكتب جياكوميتي الذي يكره النظريات والمحاضرات والتحليلات إلى جامع الأعمال الفنية ريخارد بوهلر: «أنت على حق تماماً عندما تقول إن الفنان يعمل كثيراً على الغريزة، ومن الجيد أنه عندما يكون لديه ما يقوله، فإنه يعبر عنه بشكل أفضل من القلم».
ناقضَ أمييت ولو بلغة هادئة نظرية جيوفاني، وهو ما يتضح من عدة رسائل سابقة: «إن مُنَظّري الفن جعلوك متوتراً، صديقي العزيز أنت مخطئ تماماً، نظرية الفن ضرورية للغاية، قد تفترض أن الفن كله ربما يكون مسألة مزاج، أنا أؤمن بذلك فقط إلى حد ما، فالفن قبل كل شيء هو التجريد بغض النظر عن مدى موضوعية رغبتك في رسم شيء ما، أنت ما تزال بحاجة إلى التجريد. عليك أن تستخرج من الكائن ما هو ممكن عن طريق الرسم وبمجرد أن تصبح جاهزاً، سيكون لديك الكثير من وجهات النظر المختلفة التي يمكنك من خلالها النظر إلى إمكانيات الرسم، والتي عليك أن تختار منها ما يناسب طبيعتك. هذا هو المكان الذي يبدأ فيه المزاج، ولكن عليك أيضاً أن تكون واضحاً بشأن مزاجك. إن كل هذه المراحل الأولية للرسم تتطلب التفكير من الناحية النظرية، عليك أن تتعرف على إمكانيات الرسم والتعامل مع الكثير من الأشياء الأخرى، بطبيعة الحال يلعب المزاج دائماً دوراً، لكنني أعتقد أنه عليك توخّي الحذر بشأن تأليب مزاجك ضد النظرية إذ يبدو لي أن المزاج الذي حقق أقصى قدر من الوضوح النظري، يمكن تطويره أيضاً على نطاق أوسع».
يختلف جيوفاني جياكوميتي عن أمييت من خلال تفضيله للطبيعة المتحركة، لأنه بذل جهداً ملحوظاً لربط قيم الألوان الفردية مع بعضها بعضا، أما أمييت فقد فَضّل النغمات غير المختلطة، بينما سمح جياكوميتي للطبيعة نفسها أن تتكلم وترسم من مزاج عام مكثف وعلى النقيض من أمييت، نادراً ما تركز أعماله على مشكلة تصويرية. إبداعات أمييت عبارة عن تنسيقات ملونة تم تصوّرها بالألوان! يميل المراجعون الناطقون بالفرنسية إلى جياكوميتي. في مراجعات المعرض الفردي الذي أقيم في جنيف عام 1910، تم وصفه بأنه سيد القيم الجميلة، والفروق الدقيقة في الألوان، والذي يتجنب التناقضات العنيفة. يشيد الرسام ألبرت تراشسيل بجياكوميتي بطريقة مماثلة: «على الرغم من أن لونه، غني جداً، وغير متناغم أبداً، إلا أنه من الرائع الآن أن نرى الإتقان الذي يفهم به كيفية الجمع بين القيم اللونية وانسجامها مع بعضها بعضا!».
كاتب سوري

5-75.jpg
3333-3.jpg




أخبار ذات صلة


تشارميان كيتريج لندن: شال أبيض على متحف جدران دافئة​

10 - ديسمبر - 2023


في متحف زيوريخ: منى حاطوم تحاور كاتي كولفيتز​

7 - سبتمبر - 2023


سوزان ديشامب: من الهامش إلى فن يقلب الصورة​

5 - أغسطس - 2023


كلود مونيه: أسرار جيفرني وتوقعات إميل زولا​

27 - يوليو - 2023




 
أعلى