أسبوع الآلام ، أو أسبوع البصخة المقدسة ، هو أهم أيام السنة و أكثرها روحانية . هو أسبوع مملوء بالذكريات المقدسة في أخطر مرحلة من مراحل الخلاص ، و أهم فصل في قصه الفداء . وقد اختارت الكنيسة لهذا الأسبوع قراءات معينة من العهدين القديم و الحديث ، كلها مشاعر و أحاسيس مؤثرة للغاية توضح علاقة الله بالبشر . كما اختارت له مجموعة من الألحان العميقة ، ومن التأملات و التفاسير الروحية ..
وقد كان آباؤنا القديسون في عصور الكنيسة الأولي يلاقون هذا الأسبوع بكل هيبة و توقير ، و يسلكون فيه بنسك شديد للغاية :
كانوا يمتنعون فيه عن أي طعام حلو المذاق (( من الأطعمة الصيامية )) كالحلوى و العسل والمربي مثلاً ، لأنه لا يليق بهم أن يأكلوا وهم يتذكرون آلام الرب من أجلهم . والبعض ما كانوا يطبخون في هذا الأسبوع شيئاً علي الإطلاق ، بسبب النسك من جهة ، ولكي لا يشغلهم أعداد الطعام عن العبادة من جهة أخري . و غالبية الناس ما كانوا يأكلون فيه سوي الخبز و الملح . و القادرون منهم كانوا يطوون الأيام صوماً ، وكانوا يمتنعون عن الطعام من عشية الجمعة إلي ساعة الإفطار في العيد . و النسك في هذا الأسبوع كان يشمل الزينة أيضاً . و لذلك كان النساء فيه يمتنعن عن التزين ، بل يمتنعن أيضاً عن لبس الحلي ..
و كان هذا الأسبوع مكرساً كله للعبادة ، يتفرغ فيه الناس من جميع أعمالهم ، و يجتمعون في الكنائس طوال الوقت للصلاة و التأمل ..
كان الملوك و الأباطرة المسيحيون يأمرون أن تتعطل دواوين الحكومة و مصالحها خلال هذا الأسبوع ليتفرغ الناس للعبادة . بل كانوا يسمحون بخروج المحبوسين لكي يذهبوا هم أيضاً إلي الكنيسة و يشتركوا في صلوات هذا الأسبوع العظيم لعل ذلك يكون تهذيباً لهم و إصلاحاً . وممن فعلوا ذلك الإمبراطور ثيئودوسيوس الكبير . وكان السادة يمنحون عبيدهم عطلة طول أسبوع
البصخة ، فلا يشتغلون هم أيضاً بل يعبدون الرب . وهكذا لا تكون روحيات السادة مبنية علي حرمان العبيد ، بل الكل للرب ، يعبدونه معا و يتمتعون معا بعمق هذا الأسبوع و تأثيره ..
والكنيسة المقدسة تركز كل مشاعرها خلال أسبوع الآلام حول آلام المسيح فقط ، وليس أي موضوع آخر . حتي أنها تلغي الصلاة بالمزامير خلال أيام البصخة هذه . لأن المزامير تحوي مواضيع كثيرة ، و إشارتها إلي السيد المسيح ، تشمل ميلاده و خدمته و قيامته و صعوده و جلوسه عن يمين الآب و مجيئه الثاني في المجد ، بينما
نحن نريد أن نركز كل صلواتنا و تأملاتنا حول موضوع واحد هو ألام المسيح .
و بدلا من الصلاة بالأجبية و المزامير ، تصلي الكنيسة تسبحة خاصة بالبصخة ، تقول فيها للرب خلال آلامه عنا . (( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين يا عمانوئيل إلهنا وملكنا )) (( لك القوة والمجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين يا ربي يسوع المسيح )) (( لك القوة و المجد والبركة و العزة إلي الآبد آمين )) . ثم تضيف عبارة (( مخلصي الصالح )) إلي الفقرة الثانية و ذلك من ليلة الأربعاء لأن التشاور علي تسليم المسيح له المجد كان الخطوة العملية التي قادت إلي تنفيذ عمل الخلاص ..هذه التسبحة نصليها في كل ساعات النهار و الليل و هي عشر صلوات ، خمس بالنهار و خمس بالليل . و نعني بها صلوات الساعة الأولي ، و الساعة الثالثة ، و الساعة السادسة ، و الساعة التاسعة ، والساعة الحادية عشرة .
في كل صلاة منها ننظر إلي مخلصنا الصالح في آلامه ، ونقول له : نحن نعلم من أنت .
أنت ( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين )) .
و بهذه التسبحة نتتبع السيد المسيح خطوة خطوة معه ، في كل أحداث الأسبوع الأخير السابق للصلب . فما هي أحداث هذا الأسبوع ، وما هو موقف الكنيسة منها ؟
كيف بدأت هذه الآلام ؟
في يوم الأحد أحد السعف ، أو أحد الشعانين ، ذهب السيد المسيح إلي أورشليم حيث استقبله الشعب استقبالاً رائعاً كملك بالهتاف و بسعف النخل و بالتسابيح فارشين أرديتهم تحت قدميه . و ارتجت المدينة كلها لمقدمة ( متي 21: 10) . فكانت النتيجة أن تضايق من ذلك جداً رؤساء الكهنة و قادة الشعب من الكتبة و الفريسيين و الصدوقيين . وحسدوه علي هذه المحبة العظيمة التي له في قلوب الناس . و فكروا في أن يتخلصوا منه . وزادهم ضيقاً أنه دخل بسلطان إلي الهيكل و طهره مما فيه من بيع و شراء ، حتي . قالوا له بأي سلطان تفعل هذا (( متي 21: 23 )) . ومن ذلك الحين فكروا عملياً في قتله ، قائلين بعضهم لبعض
(( هوذا العالم قد سار وراءه )) ((يو 12: 19 )).
هؤلاء الرؤساء أرادوا قتله حسداً . ولكن ما هو سر تحول الشعب من هذا الاحتفال الكبير به كملك إلي قولهم فيما بعد ((اصلبه ، اصلبه )) ( لو 23: 21))
لعل السر في هذا ، هو أن السيد المسيح رفض الملك العالمي الذي عرضوه عليه ، لأن مملكته روحية ليست من هذا العالم و بهذا خيب آمالهم العالمية التي ظهرت في هتافهم عندما إستقبلوه قائلين (( مبارك الآتي باسم الرب . مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب )) ((مر 11: 9، 10)) . وهكذا استطاع أن يقنعهم الرؤساء بأن آمالهم قد خابت في المملكة المنتظرة . و كرد فعل ينبغي التخلص من هذا الناصري !!
ومن هنا بدأت فكرة قتله تتحين فرصة للتنفيذ . و لذلك تحتفل الكنيسة ببدء أسبوع الآلام بعد قداس أحد الشعانين ..
الكنيسة كلها تجلل بالسواد . القماش الأسود ، يحيط بالأيقونات و بالمنجلية و بأعمدة الكنيسة ، أحياً بالجدران أيضاً . و أي داخل إلي الكنيسة يشعر أنها في حالة حزن و ألم ، مشاركة للمسيح إلهنا في ألمه . كما قال القديس بولس الرسول لأعرفه و قوة قيامته و شركة آلامه ))
(في 3: 10 )
الكنيسة طول أسبوع الآلام منشغلة باآلام المسيح و حده لا تفكر في شئ آخر غيره ، ولا ترفع بخوراً . لذلك إن توفي أحد في هذا الأسبوع لا يرفع عنه بخور كسائر الجنازات ، بل يدخل إلي الكنيسة و يحضر صلوات البصخة ، وتتلي عليه القراءات .
لذلك يقام جناز عام بعد قداس أحد الشعانين من أجل أنفس الذين ينتقلون في البصخة المقدسة .
و يصلي علي الماء لهذه المناسبة . هذا الماء يظنه بعض العوام و غير العارفين إنه من أجل تكريس السعف . و هو من أجل الجناز العام . علينا خلال صلوات هذا الجناز أن نقف معترفين لله بخطايانا ، مقدمين توبة صادقه . نحن لا نضمن حياتنا .. ربما تكون هذه الصلوات من أجلنا أطال الله أعماركم .. بعد هذا الجناز و صرف الشعب ، يبدأ الانتقال إلي خارج المحلة ..
كانت شريعة العهد القديم تقتضي بأن ذبيحة الخطية تحرق خارج المحلة (( لا 4: 12، 21) . أنها تحمل الخطايا ، فلا يصح أن تنجس المحلة ، بل تحرق خارجاً ..و هكذا المسيح أيضاً الذي حمل خطايا العالم كله ، تألم خارج الباب ، خارج المدينة المقدسة . حسبوه خاطئاً ، فأخرجوه خارج و أتبعه بقوله :
فلنخرج إذن إليه خارج المحلة ،حاملين عاره )) .. ( عب 13: 12)
والكنيسة المقدسة التي هي في أسبوع البصخة تتبع الرب في كل خطواته هي أيضاً تخرج معه خارج المحلة . لذلك يغلق الهيكل و يسد الحجاب ، و تترك الكنيسة الخورس الأول خورس القديسين ، و تنقل المنجليه إلي الخورس الثاني و تصل بعيداً عن المذبح ، بعيداً عن الهيكل ، خارج المحلة .. معه ، حاملين عاره
نقول له خارج المحلة (( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد أمين …)
و بهذه التسبحة تتبع السيد المسيح في آلامه خطوة خطوة …وما أجمل ما نتأمل في كلمات هذه التسبحة ، لنعلم ماذا نقوله للرب في آلامه ..
لك القوة والمجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين …
بهذه التسبحة نرتل للمسيح طول أسبوع الآلام . ونحن نتبعه في كل تنقلاته ، و في كل حالاته . نقولها بدلاً من صلوات الأجبية ، في الخمس صلوات النهارية ، و في الخمس صلوات المسائية ، و نرددها 12 مرة في كل صلاة بدلاً من المزامير ال 12 التي تشملها كل صلاة من صلوات الأجبية .. يترك المسيح أورشليم و يذهب إلي بيت عنيا ، فتتبعه إلي هناك قائلين له لك القوة و المجد و البركة و العزة )).. و يتضايق منه الكهنة لتطهير الهيكل ، فيقول له (( بأي سلطان تفعل هذا ؟ )) أما نحن فنقول ((لك القوة و المجد و البركة و العزة … يا عمانوئيل إلهنا و ملكنا )) .. يتآمرون عليه كيف يقتلونه أما نحن فنحتج علي مؤامراتهم قائلين له ( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين )) . ينحني السيد الرب في إتضاعه ليغسل أرجل التلاميذ ، و نهتف له نحن قائلين لك القوة و المجد و البركة و العزة )) . ويصلي في بستان جثسيمان في صراع حتي ينزل عرقة كقطرات الدم . و نصرخ نحن (( لك القوة و المجد )) ..
هكذا نسير معه هاتفين بهذه التسبحة ، عندما يقبض عليه ، و عندما يحاكم أمام أعدائه ، و عندما يكلل بالشوك . وعندما يجلد
و عندما يقع تحت الصليب ، وعندما يسمر بالمسامير ، وعندما يسلم الروح في يد الآب ، و عندما يدخل باللص اليمين إلي الفردوس قائلين في كل وقت لك القوة والمجد والبركة و العزة إلي الآبد أمين .
أول ما نسبح به السيد المسيح في هذا الأسبوع هو أن له القوة . نعم يارب لك القوة .
أنت الذي قال عنك بولس الرسول انك قوة الله (( 1كو 1 : 24)).
هؤلاء يظنونك ضعيفاً علي الصليب . أما نحن فنعلم من أنت . أول شئ نعلمه عن قوتك ، هو أنه لك القوة كخالق ( كل شئ به كان و بغيره لم يكن شئ مما كان ) ( يو1: 3). لك القوة كديان يأتي علي سحاب السماء و يدين الأحياء و الأموات . نعم أن هذا المصلوب الذي يبدو ضعيفاً أمامهم ، لو أنهم تأملوه في كل الأيام التي قضاها بينهم علي الأرض ، لرأوه قويا في كل شئ .
أنت يارب القوي الوحيد الذي انتصر علي الخطية و العالم و الشيطان .
كل البشر كانوا ضعفاء أمام الخطية إذ (( طرحت كثيرين جرحي . وكل قتلاها أقوياء )) ( أم 7: 26)) و لذلك قال الكتاب (( الكل قد زاغوا معاً ، فسدوا ليس من يعلم صلاحاً ، ليس ولا واحد )) ( مز14 : 3)) أما أنت يارب ، فأنت الوحيد الذي تحدي العالم قائلا ( من يبكتني علي خطية )) ( يو 8: 46 ) أنت القوي الوحيد الذي استطعت أن تنتصر علي الشيطان و تقول (( رئيس هذا العالم يأتي . و ليس له في شئ )) (يو 14:3) . ولذلك رتلوا لك في سفر الرؤيا قائلين (لأنك أنت القدوس )) ((رؤ 14:3) . أنت الوحيد القوي في قداسته ، الذي هو (( قدوس بلا شر و لا دنس ، قد انفصل عن الخطاة ، و صار أعلي من السموات )) (( عب 7: 26 )) .
وقد برهنت يا رب في معجزاتك علي قوة عجيبة ، حتي (( عملت أعمالاً لم يعملها أحد غيرك )) ((يو 15: 24) . أظهرت قوتك علي الطبيعة .
فانتهرت الرياح و البحر و الأمواج ، ومشيت فوق أمواج البحر . أنت الذي غني لك داود قائلاً ((أنت متسلط علي كبرياء البحر . عند ارتفاع لججه ، أنت تسكنها (( مز 89: 9) . لك القوة و المجد ..
و أظهرت قوتك علي المرض و الموت :
فكنت تشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب ، و بخاصة الأمراض التي استعصت علي الكل مثل شفاء العميان ، و تطهير البرص ، و إبراء البرص المرأة النازفة ، و المقعد الذي أستمر 38 سنه في مرضه و المفلوج الذي أنزلوه من السقف و صاحب اليد اليابسة . و أنت الذي أقمت الموتى ، حتي الذي بقي له أربعة أيام في القبر و قيل انه قد أنتن ..
و أظهرت قوتك علي الخلق :
كما حدث في معجزة إطعام الآلاف من خمس خبزات و سمكتين ، و في معجزة تحويل الماء إلي خمر إذ خلقت مادة جديدة غير عنصري الماء . وكما حدث ذلك أيضاً في خلق عينين للمولود أعمي .
و أظهرت قوتك علي الشياطين ،
فكانت الشياطين تخرج من كثيرين و هي صارخة تقول أنت هو المسيح ابن الله … و كنت تنتهر الشيطان فيذهب و لا يستطيع أن يرد . لا نستطيع أن نحصي معجزاتك . و تكتفي من جهتها بقول يوحنا الحبيب عنها (( و أشياء كثيرة صنعها يسوع . أن كتبت و احدة فواحدة فلست أظن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة ))(( يو 21: 25) . هذه مظاهر كثيرة لقوة الرب في معجزات . و لكن هناك قوة أخرى عجيبة أظهرها في ألأمه و صلبه تعطينا فكرة عن مفهوم جديد و ضعه الرب لمعني القوة . فما هو ذلك المفهوم الجديد لمعني القوة ؟
أن العالم يفهم القوة بطريقة غير التي قدمها لنا السيد المسيح العالم يري القوة الخارجة . قوة العنف ، قوة الإنسان الذي يستطيع أن يضرب ، وأن يحمي نفسه من الضرب ، قوة الإنسان الذي يستطيع أن يخضع غيره له .
أما السيد الرب ، فأعطانا مثلاً للقوة التي تحب ، و تستطيع أن تبذل ، و تستطيع أن تحتمل ، و أن تعطي ولو علي حساب ذاتها .
ونحن عندما نفكر في القوة ، إنما نفكر فيها علي المستوي الروحي وليس علي المستوى الجسدي وبهذه النظرة ننظر إلي المسيح في آلامه . أن العالم المادي المسكين يظن أن المسيح كان ضعيفاً عندما ضرب و لطم و استهزأوا به و علقوه علي الصليب . و حقاً كان يمكن أن يقال ذلك ، لو أن المسيح احتمل كل تلك الإهانات عن عجز .. و لكنه بالعكس من ذلك كان أقوي من ضاربيه و مهينيه و صالبيه .
كانت له القوة أن يبيدهم جميعاً ، و لكنه لم يفعل لأنه كان يحبهم ، و محبته كانت أقوي من الموت.
كان يمكنه أن يميت كل هؤلاء ، ولكنه لم يفعل . لأنه كان قد جاء ليخلصهم من الموت ، و يعطيهم الحياة بموته . لذلك نحن نمجد المسيح في هذا الاحتمال ، شاعرين أن الذي يحتمل هو الأقوى . و هكذا يقول الرسول (( فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات الضعفاء و لا نرضي أنفسنا )) ((رو 15: 1) . هناك أشخاص ضعفاء لا يستطيعون أن يحتملوا . أقل كلمه تهزهم ، فينهارون بسرعة و ينتقمون ، و في انتقامهم ، أو ردهم للإهانة بمثلها ، نشعر بضعفهم و عدم قدرتهم علي الاحتمال
أما المسيح فكان قوياً في احتماله تدل علي قوه حبه . فالشخص الذي يحب هو الذي يقدر أن يحتمل .
وما عدم احتمالنا نحن ، الا دليل علي نقص محبتنا . و لقد جاء المسيح خصيصاً ليحمل خطايانا (( كلنا كغنم ضللنا . ملنا كل واحد إلي طريقه . و الرب و ضع عليه إثم جميعناً (( أش 53: 6) . و حمل الرب كل هذه الخطايا عنا ، ليدفع ثمنها بنفسه . من أجل كل فرد فينا ، احتمل الرب الإهانات و التعبير و الضرب و اللطم و البصق ، فرحاً في عمق محبته مغنيا في أذن كل واحد منا بقوله (( من أجلك احتملت العار ، غطي الخزي و جهي ) ( مز 69: 7) . ونحن نسمع ذلك و نجيبه في انسحاق من أجلي احتملت ظلم الأشرار . بذلت ظهرك للسياط ، وخديك للطم . لم ترد وجهك عن خزي البصاق ..))
أن قوة المسيح في آلامه و صلبه تظهر في أنه كان يستطيع أن يبيد كل هؤلاء المعتدين و لكنه لم يفعل ، من فرط حبه لنا ..هو أخذ عقوبتنا ، و أعطانا سلامه . أخذ خزينا و أعطانا مجده .
و لكي نفهم قوة المسيح علي حقيقتها علينا أن نسأل . ماذا كان سيحدث لو أن المسيح رفض الإهانة و الصلب ؟! لو أنه أمر أن تنفتح الأرض و تبتلع كل هؤلاء القائمين ، أو أن تنزل نار من السماء و تحرقهم ؟! كان يمكنه ذلك ، و لكن يكون الثمن هو هلاكنا نحن لأن الفادي رفض أن يموت عنا . لذلك قال الرب : أموت أنا ولا تموتون . و أهان أنا ، وتتمجدون أنتم . أنني أنما جئت في الجسد خصيصاً لأجلكم ، لكي أبذل ذاتي عنكم و احتمل الإهانات عنكم ، حب لكم و للمهينين . و لذلك فإنه لم يحتمل فقط ظلم الأشرار ، وأنما أكثر من هذا أحبهم ، و غفر لهم ، و صلي من أجلهم مدافعاً عنهم و متشفعاً فيهم بقوله (( يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون )) .
هذه هي القوة الحقيقية ، قوة القلب المملؤ بالمحبة و الذي يستطيع أن يحتمل المسيء و يحبه و يصلي من أجله ، و يفديه بحياته .
من من الناس يستطيع هذا ، مهما بلغ قوة في الجسد ، أومن رفعة من المنصب أي مدير عمل يستطيع أن يحتمل لطمة من فراش ، و يحبه و يغفر له ، و يدافع عنه ، ويرقيه .. و القياس مع الفارق بالنسبة إلي هذا الذي حدث بين خالق و مخلوق ..
أن بطرس الرسول لم يفهم القوة بمعناها الروحي المسيحي ، عندما استل سيفه دفاعاً عن معلمه و قت القبض عليه ، وقطع آذن العبد .
لذلك أمره الرب أن يرد سيفه إلي غمده . حسن أن تكون لك غيرة مقدسة ، و لكن العنف ليس هو طريقنا . فنحن لنا أسلوب آخر هو الحب . و هكذا لمس الرب أذن العبد فشفاها . و سلم نفسه للخطاة الذين جاء ليفديهم أيضاً … كذلك أن يوحنا و يعقوب الرسولين لم يفهما معني القوة ، عندما قالا له (( أتشاء يا رب أن تنزل نار من السماء و تحرق هذه المدينة )) دفاعاً عنه إذ رفضته تلك المدينة . و لكن الرب أجابهم لستما تعلمان من أي روح أنتما . فأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك العالم بل ليخلص العالم (( لو 9: 54-56) . أن هذا ليس هو أسلوبي . لقد جئت لأخلص ما قد هلك . بنفس هذا الأسلوب تقدم الرب بإرادته نحو الصليب ، ليبذل نفسه فدية عن كثيرين . لذلك نحن يا أخوتي عندما نقف إلي جوار الصليب ، لا نقف لكي نبكي علي المسيح مثلما فعلت المجدلية و مثلما بكت . بنات أورشليم .. ولسنا نقف إلي جوار الصليب ، لكي نرثي المسيح و نؤبنه ، إنما
نحن نقف إلي جوار الصليب ، لكي نمجده و نمجد المصلوب عليه و لكي نقوله تلك الجميلة :
لذلك فنحن نفتخر بالصليب ، ونقول مع بولس الرسول (( وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح به قد صلب العالم لي و أنا للعالم )) . ( غل 6: 14 )) .
(( إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة و أما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله ))
( 1كو1: 18)
لو كان الصليب علامة ضعف ، ما افتخرنا به ، وما كنا نتخذه شعاراً لنا …
لو كان الصليب علامة ضعف ، ما كنا نعلقه فوق كنائسنا و فوق مناراتنا ، وما كنا نضعه علي صدورنا ، و نرشمه علي أيدينا ، و نرسمه في كتاباتنا .. بل أن الصليب عندنا هو رمز للقوة . فيه تظهر قوة المحبة ، وقوة البذل و قوة إنكار الذات ، وقوة الاحتمال . هي القوة في حقيقتها
كثيرون كانوا يقولون للسيد المسيح : لو كنت ابن الله ، انزل من علي الصليب ، فنؤمن بك .. و لو استسلم لإثارتهم و نزل من علي الصليب لهلكنا نحن ، و ضاعت البشرية و ضاع الخلاص .. و لكنه كان أقوي من إثارتهم ، فبقي علي الصليب و لم ينزل ..
أن المسيح لم تغلبه إثارات هذا المجد الباطل : لو نزلت من علي الصليب تكون حقاً ابن الله . و تثبت قوتك ، وتذهل الناس بالمعجزات …؟!! إنه لم يغلب من الملق الباطل ، و لم يغلبه هذا المفهوم الخاطئ لمعني القوة .. كان يقدر أن ينزل من علي الصليب . ولكنه لم يفعل ، لكي نخلص نحن .
ان السيد المسيح لم يفكر في ذاته ، إنما كان تفكيره فينا نحن . لم يهتم بتخليص نفسه من الموت ، إنما فكر في تخليصنا نحن بأن يفدينا بذاته . لم يستسلم للصليب عن ضعف ، و إنما عن حب .
لم يفكر في ذاته (( فالمحبة لا تطلب ما لنفسها ) (( 1كو 13: 5)) . لو كان يفكر في ذاته و كيف تتمجد بأسلوب العالم ، ما أخلي ذاته و أخذ شكل العبد . إنه لم يفكر في ذاته ، لأنه جاء ليبذل ذاته عنا وعندئذ يعرف الناس قوة محبته وقوة بذله (( ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع نفسه لأجل أحبائه (( يو 15: 13)) . و بذلك أعطانا المسيح علي الصليب مثالا للقوة في الانتصار علي الذات من أجل هذا رأينا شيئا عجيباً جداً ، و هو
أن السيد الرب قابل كل تعدياتهم باستسلام عجيب (( كشاه تساق إلي الذبح و كنعجة صامتة أمام جازيها ، فلم يفتح فاه )) ( أش 53: 7) .
كان يعلم بكل الإجراءات التي تعمل ضده و مع ذلك لم يقاوم الشر .. بل قال ليهوذا الاسخريوطي في هدوء ( ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة )( يو 13: 27) . ولسنا نجد تبريرا لكل هذا، سوي أن الرب كان يريد أن يموت عنا . كانت له القوة أن يحطم الصليب و الصالبين. ولكنه رضي به قوة أعظم هي قوة الحب و البذل .
هذه القوة التي كانت له طول رحلة الصليب هي التي سنشرحها الآن بالتفصيل نقطة نقطة متأملين قوته …
كان المسيح قوياً في تقدمه نحو الموت . لم يهجم عليه الناس خفية ، و يأخذوه عنوة ، إنما كان يعلم أنهم سيقبضون عليه . وكان يعرف الموعد الذي يقبضون عليه فيه .
و لذلك قال قبلها لتلاميذه تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح . وابن الإنسان يسلم ليصلب ))
( مت 26: 2)) . بل لا نخطئ إذا قلنا انه كان يعلم الساعة و ذات اللحظة بالضبط . و كان يعرف المكان الذي سيأتؤن إليه فيه . ومع ذلك ذهب بنفسه إلي المكان الذي سيقبض عليه فيه وهو يعلم ، و ذهب في نفس الوقت المحدد . لذلك عندما حل الوقت الذي يعرفه ، أيقظ تلاميذه النائمين في بستان جثسيماني قائلين لهم ( هوذا الساعة قد اقتربت … هوذا الذي يسلمني قد اقترب ((مت 26: 45، 46)) . ولما اقترب عدوه لم يبتعد هو ، بل قام تلاميذه و تقدم لملاقاة العدو … فعل ذلك كله لأنه كان يريد أن يسلم ذاته عنا . من أجل ذلك قال :
(( ..أضع نفسي لآخذها أيضاً . ليس أحد يأخذها مني ، بل أضعها أنا من ذاتي . لي سلطان أن أضعها ، و لي سلطان أن آخذها أيضاً ) ( يو 10: 17، 18) .
إن السيد المسيح يقول أن عدوي قد اقترب ، و يتقدم في قوة و شجاعة لملاقاة العدو . و نحن نسير إلي جوار الرب ، قائلين له (( لك القوة و المجد والبركة و العزة إلي الآبد آمين )) . كان الرب يستطيع أن يبعد الموت عنه ، و لكنه قبل ذلك في رضي و تقدم نحو الموت في قوة و شجاعة ، لأنه من أجل ذلك جاء ( جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين )) .( مز 10: 45).
كان المسيح قوياً عندما قبض عليه ، أن الجنود الذين خرجوا عليه بالسيوف و العصي كانوا خائفين منه و هذا الأمر يشرحه معلمنا يوحنا الإنجيلي الحبيب الذي تبع المسيح حتي الصليب . فيقول (( خرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه . و قال لهم من تطلبون . أجابوه : يسوع الناصري . فأجبهم قائلا أني أنا هو . فلما قال أني أنا هو ، رجعوا إلي الوراء و سقطوا علي الأرض )) (( يو 18: 5، 6) .
وقعوا علي الأرض من هيبته ومن قوته ومن عدم استطاعتهم أن يواجهوه . كانت قوته العزلاء أقوي من هجومه المسلح .
ولو أراد أن يذهب وقتذاك لأمكنه ذلك . ولكنه بقي في مكانه في شجاعة ورصانة . و انتظر عليهم حتي قاموا من سقطتهم و قال لهم للمرة الثانية من تطلبون فقالوا يسوع الناصري . فأجابهم (( قد قلت لكم أني أنا هو . فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون )) (( يو 18: 7-9) وهكذا كان المسيح قوياً وقت القبض عليه . هناك أشخاص عندما يقبض عليهم يرتعشون
و يخافون . أما وقت القبض علي المسيح ، فقط ظهر العكس ، . كان القابضون عليه خائفين منه, واقعين علي الأرض أمامه . لا يستطيعون أن يتقدموا إلي هيبته ، حتي أذن لهم وهو يقول أنا هو )) ..
مثال آخر عن قوة المسيح وقت القبض عليه و هو شفاؤه لأذن ملخس عبد رئيس الكهنة .
و ذلك أن بطرس الرسول تحمس و قت القبض علي المسيح ، و استل سيفه و ضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمني ( يو 18: 10) . أما ربنا الوديع فلم يكن العنف طريقته . لذلك أمر بطرس أن يضع سيفه في غمده . ورفض أن يدافع عن نفسه . أو يدافع أحد عنه . وقال لبطرس موبخاً (( رد سيفك إلي مكانه .. أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلي أبي فيقدم لي أكثر من أثني عشر جيشاً من الملائكة؟! )) (( متي 26: 53)) . نعم كان يستطيع ، و لكنه رفض أن يفعل . لأنه بشجاعة إلي الموت ليخلصنا نحن .. أما عن العبد الذي قطعت أذنه ، فيقول الكتاب أن هذا القوي الذي اتوا للقبض عليه (( لمس أذنه و أبرأها )) (( لو 22: 51))، صانعا الرحمة مع أعدائه ، حتي في أحرج الأوقات .
و نحن نقف جوار المسيح المقبوض عليه و هو يشفي أذن العبد ، ونقول له في أذنه الطاهرة
(( ثوك تاتي جوم, ))
كان عمله هذا إخجالا للجنود ، و ليهوذا ، و لرؤساء الكهنة ، و شهادة عليهم جميعاً ، أو دعوة لهم جميعاً أن يؤمنوا ، فيما بعد … و لقد سار المسيح بينهم و هو مقبوض عليه ، كما يسير الملك وسط عبيده ، أو الخالق وسط مخلوقاته .. كان يقدر أن يفنيهم جميعها لو أراد . ولكنه لم يرد ليخلصنا ..
كان يستطيع أن يفعل مثل إيليا النبي مع رئيس الخمسين الذي جاء يطلب إليه النزول لمقابلة الملك .
فأجاب إيليا و قال لرئيس الخمسين : أن كنت رجل الله ، فلينزل نار من السماء و تأكلك أنت و الخمسين الذين لك . فنزلت نار و آكلته هو و الخمسين الذين له )) (( 2مل 1 :10)) كما أمره فنزلت نار للمرة الثانية و أكلت الخمسين الأخرى مع رئيسها .. أما المسيا الذي جاء ليموت عن البشر ، فلم يفعل هكذا . ما كان أسهل عليه أن يفعل مثلما فعل إيليا ، و لكنه لم يفعل . أن قوته في إمساك نفسه عن أبادتهم ، هي القوة التي خلصنا بها . و هكذا أسلم الرب ذاته عنا بكل شجاعة دون خوف من الموت ..
رؤساء الكهنة كانوا خائفين منه فحاكموه ليلا . و ارتبكوا أثناء محاكمته (( وكانوا يطلبون شهادة زور عليه لكي يقتلوه ، فلم يجدوا ، ومع أنه جاء شهود زور لم يجدوا (( متي 26: 59، 60)) و تعجبوا من هدوئه و صمته . فقام رئيس الكهنة و قال له (( أما تجيب بشيء ؟ ماذا يشهد به هذان عليك وأما يسوع فكان ساكتا )) (( متي 26: 62، 63)) .
لم يكن من النوع الذي يثيره الاتهام ، أو تثيره شهادات الزور .. كان صمته أقوى من الكلام . فشعروا بتفاهة تلك الاتهامات الزور .
و بحثوا عن تهمة أخرى . و استحلفوه أن يخبرهم هل هو المسيح ابن الله . و كان يستطيع أن يصمت أيضاً و يربكهم . و لكنه بكل قوة أجابهم إلي طلبهم و أضاف (( و أيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة و آتياً علي سحاب السماء ))
وكما كان قوياً أمام قيافة ، كان قوياً أيضاً أمام بيلاطس .
هيبته ملكت ذلك الوالي ، فاعترف اكثر من مرة قائلا (( أني لا أجد فيه علة )) (( لو 23: 4، 14، 21) . لم يقنعه بالكلام ، بل بصمته ، بالقوة التي تشع من شخصه . فاحتال ذلك الوالي بأكثر من حيلة لكيما يطلقه علي قدر ما استطاع جبنه أن يفعل . و أخيراً غسل يديه متبرئا من دمه ..أننا نقف إلي جوار المسيح و نقول له في محاكمته :
*و هو علي الصليب . أظلمت الشمس (( وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلي أثنين من فوق إلي أسفل ، و الأرض تزلزلت ، و الصخور تشققت ، والقبور تفتحت و قام كثيرين من أجساد القديسين الراقدين )) (( متي 27: 5، 52) .
وكان لهذه الزلزلة تأثيرها علي قائد المائة و جنوده الحارسين للصليب (( فخافوا جدا و قالوا حقاً كان هذا هو ابن الله (( متي 27: 54))
وصار قائد المائة هذا قديساً عظيماً ، و استشهد علي اسم المسيح ، ويدعي القديس لونجينوس ، و تعيد له الكنيسة يومين في السنة في السنكسار .
و إظلام الشمس كان له تأثير آخر بعيداً في المدينة أثينا ببلاد اليونان .
و بسبب ذلك آمن فيما بعد ديونسيوس الاريوباغوس ، العالم الفلكي ، وعضو مجلس الاريوباغوس أي البرلمان ، فآمن بكرازة بولس الذي شرح له كيف أظلمت الشمس وقت صلب المسيح و قد صار ديونسيوس هذا أول أسقف لأثينا . وقد كان المسيح قوياً وقت الصليب ، عندما غفر لصاليبه و عندما وعد اللص اليمين بدخول الفردوس معه في نفس اليوم .
وكان المسيح قوياً في موته :
*ذلك انه عند موته (( نادي بصوت عظيم و قال يا أبتاه في يديك استودع روحي )) (( لو 23: 46)) . و قد وقف القديس يوحنا ذهبي الفم متأملا في قوة المسيح وقت موته التي ظهرت في عبارة ( نادي بصوت عظيم )) ..
كيف استطاع أن يكون له هذا الصوت العظيم وقت الموت ، وقد كان في حالة من الإعياء الجسدي لا يمكن أن يعبر عنها ؟!
لقد جاهدا جهاداً عنيفاً في بستان جثسمانى حتي (( صار عرقه كقطرات دم نازلة علي الأرض ) (( لو 22: 45)) و بعد ذلك قبض عليه و سار مسافات طويلة علي قدميه إذ حوكم 5 مرات أمام بيلاطس مرة أخري . يضاف إلي هذا الإنهاك الألم المرير الذي كابده عندما جلد 39 جلدة بكل و حشية ، و كم من أناس كانوا يموتون من مجرد الجلد أو يصلون إلي قرب الموت . كذلك سفك منه دم من إكليل الشوك . و كابد آلاما أخري من كثرة اللطم . ثم تحمل آلاما أخري بحمله للصليب ،
حتي و صل إلي غاية الإعياء فوقع تحت الصليب من شدة التعب . مما دعا إلي أن يمسكوا سمعان القيراونى ليحمل الصليب خلفه (( يو 23: 26)) .
بعد كل هذا تحمل آلاما أخري عندما سمر علي الصليب و آلام الصلب لا تطاق … وزالت كل قوته الجسدية مما نزف منه من دماء ، حتي لصق جلده بعظمه ، و انطبق عليه القول :
(( أحصوا كل عظامي )) (( مز 22: 17))
و لما و صل إلي لحظة الموت ، لم تكن فيه أدني قوة بعد ، ولا حتي مقدرة علي الهمس ! فكيف أذن بصوت عظيم ؟
أننا نقف إلي جواره منذهلين ، في تلك اللحظة المقدسة و تقول :
*وكان المسيح قوياً في موته ، لأنه بموته أبطل الموت . و بموته سحق رأس الحية ، و نفذ الوعد الذي أعطي للبشرية منذ أيام حواء (( تك 3: 15)) . وهكذا في موته ظهر كمخلص للعالم .
إن أقوي لحظات المسيح هي لحظة موته . لأنه في تلك الساعة استلم ملكه و ملك علي البشرية كلها ،
و استعاد الملك من رئيس هذا العالم . ولذلك يقول المزمور (( الرب ملك علي خشبة )))
(( مز 95)) الرب ملك و لبس الجلال ، لبس القوة و تمنطق بها ((مز 92))
و لذلك نجد أن صلاة الساعة التاسعة التي نتذكر فيها موت الرب ، هي صلاة مملوءة بمزامير التسابيح و التمجيد و عبارات السجود
ونحن نقف أمام الرب القوي في موته ، لنرتل قائلين :
أول شئ عمله الرب عندما أسلم الروح ، هو أنه قبض علي الشيطان و قيده ألف سنة . ثم بعد ذلك نزل إلي الجحيم ((اف4: 9)) ، و بشر الراقدين هناك علي الرجاء و اقتاد هؤلاء جميعاً ، و دخل بهم مع اللص اليمين إلي الفردوس . بعد موت الرب استطاع آن يفتح باب الفردوس الذي ظل مغلقاً من آلاف السنين منذ سقطة آدم و حواء .
هذا الذي ظنوه ميتاً في القبر ، و ختموا علي قبره بالأختام ، استطاع أن يفتح باب الفردوس و يدخل فيه كل الراقدين علي رجاء قائدا إياهم في موكب نصرته .
ومن القصص الجميلة التي تروي عن الرب بعد موته . أن نيقوديموس وقال قدوس الله ، قدوس القوي ، قدوس الحي الذي لا يموت )) ومن هذه أخذت تسبحة الثلاثة تقديسات المعروفة . و نحن نقف إلي جوار القبر المقدس ، و نقول للرب في موته :
وكان الرب قوياً في قيامته :
وكان قوياً عندما خرج من القبر المغلق ، منتصرا علي الموت .
في الواقع ، أنه من أبرز الأسباب التي تجعل البعض يظن أن السيد المسيح كان ضعيفاً، هو أن الرب باستمرار يخفي قوته .. كان يخفيها من باب الإتضاع . و كان أيضاً يخفيها عن الشيطان
لدرجة أن الشيطان كان يقف متحيراً أمام حقيقة المسيح ، يسأل نفسه : أهو حقاً المسيح أم أنه ليس هو (( يا تري هوا و لا مش هوا )) .. !
لم يكن من الصالح أن يعرف الشيطان حقيقة المسيح ، لئلا يبذل جهده لعرقلة عمل الفداء ، لأن الشيطان لا يحب خلاص العالم ، و كان يتمني أن ذلك لا يتم . و سأحاول هنا أن أعرض عليكم بعض أمثلة لهذا الشك الذي وقع فيه الشيطان نتيجة لاخفاء الرب قوته عنه . أرجو أن تتبعوا معي هذه الأمثلة لنأخذ صورة واضحة عن هذا الأمر .
* كان الشيطان يعلم أن المسيح سيولد من عذراء . فهكذا تنبأ أشعياء النبي قائلا بوضوح
((ها العذراء تحبل وتلد أبناً و تدعو اسمه عمانوئيل)) (( أش 7: 14)) و شرح صفات هذا الابن فقال (( لأنه يولد لنا ولد ، ونعطي ابنا ، وتكون الرئاسة علي كتفه . و يدعي اسمه عجيباً مشيراً آلها قديراً أباً أبدياً رئيس السلام )) (( أش 9: 6)) و سمع الشيطان تأكيد تحقيق هذه النبوة في بشارة الملاك ليوسف النجار (( متي 1: 22، 23)) . كما تأكد بهذا أيضاً من بشارة الملاك للعذراْ بأن القدوس المولود منها يدعي ابن الله (( لو 1: 35 )) . و فعلاً حبلت العذراء مريم . والأكثر من هذا الشيطان رأي أن هذه العذراء عندما زارت اليصابات امتلأت اليصابات من الروح القدس ، وارتكض الجنين بابتهاج في بطنها . وقال لمريم :
(( من أين لي هذا أن تأتى أم ربي إلي )) (( لو 1: 41-44 ))
و قال الشيطان في قلبه لابد أن يكون هذا هو ابن الله و لكنه ارتبك عندما رأي الإله المتجسد يولد في مذود بقر !
كيف يكون هذا !! من غير المعقول أن يكون ابن الله ذلك الفقير المسكين الذي ليس له موضع في البيت ، المحاط بالبهائم !! لابد أنه ليس هو ، إذ كيف يجئ الله إلي العالم بدون استقبال مجيد ، بدون احتفالات ، بدون ملائكة تحيط به ، وبدون أنوار سمائية ، و بدون أن ترتج السماء و الأرض لمجيئه !!
فكر الشيطان في هذا لأنه لا يفهم مطلقاً معني التواضع و إخلاء الذات . ولو كان يعرف ذلك ما صار شيطانا…
ثم سمع الشيطان الملاك يبشر الرعاة قائلاً (( ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم فى مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم علامة : تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود )) (( لو 2: 10- 12)) . فقال الشيطان في قلبه : لابد أن يكون هو و أيد ذلك تسبيح الملائكة (( المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام و بالناس المسرة )) الأمر أذن واضح . لا يمكن أن يرجع السلام إلي الأرض أن لم يكن هذا هو المخلص الذي هو المسيح الرب . و أكد هذا الأمر أيضاً شهادة المجوس ، وانطباق النبوة علي مولود بيت لحم ، و اضطراب ، هيرودس الملك لولادته و سجود المجوس لهذا الطفل المولود (( متي 3: 1-11)) .
و لكن رجع الشيطان فشك في الأمر عندما نظر إلي هذا المخلص الذي سبح له الملائكة ، و سجد له المجوس و اضطراب من هيرودس فإذا به يهرب به يهرب إلي مصر .
كيف يحدث هذا ؟! هل من المعقول أن يهرب الله أمام إنسان ؟! أين قوته و ملكوته و هيبته . لابد أنه ليس هو …
ثم ينظر الشيطان فيجد أن هذا الطفل عندما دخل إلي مصر ، سقطت الكثير من أصنامها و تحطمت . فعرف أن هذا هو تحقيق لنبوة أشعياء النبي القائل (( هوذا الرب راكب علي سحابه سريعة و قادم إلي مصر ، فترتجف أوثان مصر من و جهه ، و يذوب قلب مصر داخلها (( أش 19: 1)) . وقال الشيطان في قلبه. إنه هو بلا شك ، هو المخلص ابن الله .
ولكنه رجع فشك ، عندما رأي هذا الطفل لم يرجع إلا بعد موت الذين كانوا يطلبون نفسه ،
كما رأي أن يوسف النجار خاف علي الطفل من ارخيلاوس الذي ملك علي اليهودية فسكن معه في الناصرة (( متي 3: 20-23)). في الناصرة التي يتعجب الناس أن يكون منها شئ صالح !! (( يو 1: 46)) . فقال الشيطان . كلا إنه ليس هو ..
*و بقي الشيطان في شكه حتي رأي هذا الطفل في الثانية عشرة من عمره جالسا وسط شيوخ المعلمين و هم مبهوتون من علمه . و سمعه و هو يجيب أمه مريم قائلاً (( ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبى )) ( لو 2: 45: 49) فقال الشيطان في نفسه((لابد أن يكون هو )). من أين له هذه الحكمة ، وما معني أكون في ما لأبي ؟!
ثم رجع الشيطان فشك عندما رأي الصبي الذي أذهل المعلمين و الذي قال (( ينبغي أن أكون في ما لأبى )) . وإذ به يعيش خاضعاً لمريم و يوسف (( لو 2: 51))
كيف يخضع لهما . وهو الذي ينبغي أن تخضع له السماء و الأرض . لابد أنه ليس هو . وزاد هذا الشك عنده أنه و جده بعد ذلك يعيش 18 سنة (( حتي الثلاثين من عمره )) نكرة غير مشهور ، يعمل كنجار بسيط . وهذه زهرة العمر . فكيف يكون هو الله و يحتمل أن يعيش هكذا طوال هذه السنين الذهبية من العمر . لابد أنه ليس هو . ثم عاد الشيطان فسمع يوحنا المعمدان يشهد للمسيح قائلاً (( في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه . هو الذي يأتي بعدي ، الذي صار قدامي ، الذي لست أهلاً أن أحل حذائه ، و أشار إلي المسيح قائلا (( هواذ حمل الله الذي يرفع خطية العالم )) (( يو 1: 26-29)) (( لست أهلا أن أنحني و أحل سيور حذائه . أنا عمدتكم بالماء ، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدوس )) (( مز 1: 7،8)) . فقال الشيطان:لابد أنه هو …
ثم عاد الشيطان فانذهل إنذهالاً لامثيل له ، عندما نظر إلي هذا العظيم الذي لا يستحق المعمدان أن ينحني و يحل سيور حذائه ، هو المخلص الذي يرفع خطية العالم كله و يعمد الناس بالروح القدوس ، وإذ به آتياً ليعتمد من يوحنا مثل باقي الناس.
كان ينتظر أن يوحنا هو الذي يعتمد منه. أن يسلمه الأمانة حالماً يأتي . فيتولي عمله مباشرة ، و يعمد يوحنا الذي يعمد الناس . فهكذا تكون الكرامة . و لكنه علي العكس سمعه يقول ليوحنا
(( اسمح الآن )) . و يسمح يوحنا و يعمد المسيح . فانذهل الشيطان الذي لا يفهم الإتضاع ، وقال في قلبه . كلا. أنه ليس هو ..
و لكن حدث في العماد شئ عجيب أثبت أنه هو . ذلك أن السماء انشقت و الروح نزل مثل حمامة علي المسيح . وكان صوت من السماء (( أنت إبني الحبيب الذي به سررت ))
(( مز 1: 10-11)) . فقال الشيطان . بلا شك أنه هو. هوذا شهادة الآب و اضحة .
ثم عاد الشيطان فشك في الأمر . إذ تأمل هذا الذي شهد له الآب و الروح القدوس وقت العماد ، فوجده ملقي علي الجبل ، صائماً و قد جاع أخيرا .
إذ كيف يجوع و هو القادر أن يحول الحجارة إلي خبز و يأكل . وتأكل . و تأكد له أنه ليس هو ، إذ استطاع هذا الشيطان أن يأخذه و يوقفه علي جناح الهيكل ، وأن يأخذه إلي جبل عال (( متي 4: 5،8)) . ووصل تأكد الشيطان من أنه ليس ابن الله علي الأطلاق ، إلي حد أنه تجرأ عليه و قال له أعطيتك هذه جميعها إن خررت و سجدت لي )) . (( متي 4: 9)) و لكن عاد فخاف و شك بقوة هذا الجائع الصائم عندما انتهره قائلا (( اذهب يا شيطان ، فتركه )) وإذا ملائكة جاءت فصارت تخدمه
(( متي 4: 11))
وزاد خوف الشيطان . و رجع يقول أنه هو عندما رآه يعمل معجزات لم يعملها أحد من قبل . ولكنه و جده يخفي بعض هذه المعجزات وراء صلوات يصليها ،
و البعض من المعجزات الخارقة يعملها في يوم السبت فيشتمه الكتبة والفريسيون كناقض للسبت . ثم رآه يعيش بلا لقب ، و بلا وظيفة ، و بلا مسكن ، يحيط به ضعفاء الناس . فقال في نفسه . كلا، إنه ليس هو …
ثم سمعه الشيطان يقول لنيقوديموس (( ليس أحد صعد إلي السماء ، إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء (( يو 3: 13)) . فقال . ألعله هو ؟! كيف يكون في السماء ، وهو قائم علي الأرض مع نيقوديموس . ألعله أذن موجود في كل مكان ؟! إذن هو الله . أليست عبارة (( نزل من السماء تؤكد هذا ))؟ ثم سمعه يقول (( هكذا أحب الله العالم حتي بذل أبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية ..
فقال الشيطان لابد أنه هو : الابن الوحيد ، الذي في السماء ، الذي نزل من السماء ، الذي يؤمن به تكون له الحياة الأبدية ، ولكنه عاد فشك بسبب عبارة (( ابن الإنسان ))
التي يستخدمها المسيح كثيراً . لماذا يقول في نفس الوقت (( ينبغي أن يرفع ابن الإنسان ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية )) (( يو 3: 14- 17)) .
و لكن أمام المعجزات الكثيرة الدالة علي لاهوته ، و أمام قوته الجبارة علي إخراج الشياطين ، يضطرب هؤلاء أن يعترفوا له صارخين (( أنت هو المسيح ابن الله )) (( لو 4: 41))- فكان ينتهرهم .. ثم يعود الشيطان فيشك ، عندما يجد الرب متعباً من السير أو جالساً عند البئر ، أو قائلا للمرأة أعطيني لأشرب !! ..
* ينتهر المسيح البحر و الموج فيقول الشيطان ، أنه هو . و لكنه يشك إذ يراه نائماً في السفينة فيقول في نفسه كيف ينام وهو الذي يقول عنه المزمور (( أنه لا ينعس و لا ينام )) !!
و كما يرتبك الشيطان في من يكون يسوع الناصري هذا ، يري باقي الناس مرتبكين : فيقول انه يوحنا المعمدان ،، و آخرون أنه ارميا ، و آخرون أنه واحد من الأنبياء )) (( متي 16: 14)) . و يسأل المسيح تلاميذه : و أنتم من تقولون إني أنا . فيجب سمعان بطرس (( أنت هو المسيح ابن الله الحي )) . و يقول المسيح هذه الشهادة و يطوب سمعان عليها و يقول له (( أن لحما و دما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات )) . (( متي 16: 17)) .
و يري الشيطان أن هذا اعتراف صريح و اضح لا يقبل التأويل . فيقول في نفسه لا بد أنه هو حقاً بلا شك ..
ولكنه يسمع الرب بعد ذلك مباشرة يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلي أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ و رؤساء الكهنة و الكتبة ، و يقتل وفي اليوم الثالث يقوم ))
فيتعجب كيف يكون ابن الله و يتألم و يقتل . ألعل هذه هي الوسيلة التي خلص بها الناس . أذن لابد من منعه عنها .
وهكذا يضع علي فم بطرس كلمة فيقول لمعلمه (( حاشاك يا رب . لا يكون لك هذا )) و يعرف الرب أنها كلمة من الشيطان فيلتفت و يقول لبطرس (( أذهب عني يا شيطان . أنت معثرة لي ، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس )) .. (( متي 16: 21- 23)) .
ثم يذهب المسيح إلي أورشليم ، و يستقل كملك عظيم ، علي اعتبار أنه المسيا المنتظر . و يسبحه الأطفال تحقيقاً لنبوة المزمور(( من أفواه الأطفال و الرضعان هيأت سبحاً )) ((مز 8: 2)) و يقوم الرب في هيبة عظيمة و يطهر الهيكل بسلطان . فيقول الشيطان : ألعله هو ، ولكنه يجده قد أنسحب إلي بيت عنيا ، فشك ..
* ثم يأخذ الرب في عنف في تحطيم دولة الشيطان فيكشف للناس في صراحة تامة رياء الكتبة و الفريسيين قائلاً و يل لكم أيها الكتبة و الفرسيون المراؤون .. )) (( متي 23)) . كما يحطم هيبة الكهنوت اللاوي بمثاله عن الكرامين الأردياء (( لو 20: 9- 19)) ثم يلقي في الخزي طوائف الفريسيين و الهيرودسيين و الصدوقيين حتى ما يستطيعون أن يجيبوه بكلمة (( مر12)) . و عند ذلك يتخذ الشيطان عدته لتسليم المسيح ، و يحدث التشاور في اليوم الأربعاء …
* و يرى الشيطان أنه يغسل أرجل تلاميذه في يوم الخميس فيتشجع قائلا في قلبه أنه ليس هو . إذ كيف يكون الرب و يغسل أرجل البشر ؟! وهكذا يأخذ يهوذا اللقمة يدخله الشيطان و يذهب للتنفيذ …
* ثم يسمع الشيطان حديث المسيح الأخير مع التلاميذ ، وكيف أنه سيرسل لهم الروح القدس ، فيقول ألعله هو ؟! من يستطيع أن يرسل روح الله إلا الله وحده !
* ثم يسمع صلاته الطويلة الموجهة إلي الآب (( يو17)) التي يقول له فيها عن التلاميذ … ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد )) (( كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك )) (( احفظهم في أسمك ليكونوا واحد كما نحن )) . فيرتعب الشيطان و يقول : لابد أنه هو . ويتذكر قوله من قبل (( أنا والآب واحد )) (( يو 10: 30)) ، وقوله أيضاً لفيلبس ((من رآني فقد رأي الآب . فكيف تقول أنت أرنا الآب . ألست تؤمن أني أنا في الآب و الآب في )) (( يو 14: 8- 10)) . ويخاف الشيطان قائلاً لابد أنه هو ..
ثم يعود وينظر إلي هذا الذي يقول (( أنا والآب واحد . من راني فقد رأي الآب )) فإذا به يراه يجاهد في البستان طالباً أن تعبر عنه تلك الكأس . وقد (( صار عرقه كقطرات دم نازلة علي الأرض )) (( لو22: 44)) .
فيطمئن الشيطان ويقول : كلا ، أنه ليس هو . ويأتي الجند للقبض عليه .
* وينظر الشيطان فيري أن الجند الذين أتوا بسيوف و سلاح وعصي للقبض علي المسيح ، قد وقعوا علي الأرض من فرط هيبته و هو أعزل ، فينذهل . ويراه وهو يشفي أذن العبد التي قطعها بطرس بسيفه . فيقول : لابد أن يكون هو . من غيره بهذه الجرأة ، وبهذه الهيبة ، وبهذه المحبة نحو أعدائه ، وبهذه القدرة المعجزيه . ولكنه يراه يسير معهم كشاة تساق إلي الذبح ، لا يفتح فاه . فيطمئن و يقول كلا . أنه ليس هو ..
* ويحاكم الرب أمام رؤساء الكهنة . ويقف الشيطان ينصت بكل اهتمام ليري ماذا يكون الموقف
ويتردد نفس السؤال الشيطان الذي يسأله منذ التجربة علي الجبل . ولكنه في هذه المرة سؤال يصدر من رئيس الكهنة قائلاً (( هل أنت المسيح ابن الله )). ويجيبه الرب قائلاً (( أنت قلت . وأيضاً أقول لكم : من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وأتياً علي سحاب السماء))..(( متي 26: 64)) .
ويسمع الشيطان هذا الاعتراف الصريح من السيد المسيح ، فيقول في نفسه العله هو ، وهو الذي قال كثيراً من قبل أنه سيأتي علي سحاب السماء؟! ولكنه يعود فيشك إذ يراه محتقراً ومخذولاً أمام الناس ، يشتمونه ويلطمونه ويهزأون به ، وهو لا يفتح فاه .
بذل ظهره للضاربين وخديه للناتفين ، ولم يرد وجهه عن خزي البصاق … كما يراه واقعاً تحت الصليب من التعب ، حتي حمله عنه سمعان القيرواني . فيقول كلا . من المستحيل أن يكون هو . أن الشيطان يفهم الكرامة والقوة بطريقة العظمة الباطلة . لذلك قال في نفسه لا يمكن أن يكون هو . وصرخ في أفواه العامة (( اصلبه اصلبه )) .. أما الرب تزال ترن كلمته (( نفسي أنا أضعها من ذاتي … لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً )) ..
ويرفع المسيح علي الصليب ، و الشيطان ما يزال معذباً في شكوكه . وأذا أخفي الرب عنه قوته ، ما يزال يسأل سؤاله القديم (( إن كنت ابن الله ، فأنزل من علي الصليب )) ((متي 27: 40)) .
وأول عبارة يقولها الرب علي الصليب يبدأها بقوله (( يا أبتاه )) (( يا أبتاه اغفر لهم …)) وكلمة
(( أبتاه )) هذه تزعج الشيطان . فيقول في نفسه (( ألعله هو المسيح )) ؟ ويسأل علي فم اللص اليسار قائلاً (( إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا )) (( لو 23: 39))
ويقول السيد الرب للص اليمين (( الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس )) (( لو 23: 42)) . وهذه العبارة تزلزل الشيطان فيخاف . ما هذا الذي يقوله ؟! ألا يعلم أن الفردوس مغلق منذ أكثر من خمسة آلاف سنه . وعلي بابه يوجد ملائكة من طائفتي الأولي (( الكار وبيم )) بلهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة (( تك 3: 24)) . فكيف يفتح الفردوس ؟ وكيف يدخله هذا المصلوب واللص معه ؟! ألعله المسيح الذي بصلبه يخلص العالم كله ؟! لو حدث هذا لكانت كارثة لدولة الشياطين جميعاً ولكل عملهم منذ آدم …
*ومن الساعة السادسة تحدث ظلمة علي الأرض . ويري الشيطان أن حجاب الهيكل قد أنشق ، وأن الصخور قد تفتت ، و الأرض قد تزلزلت ، و القبور تفتحت . فيزداد رعبه ويقول لا يشك أنه هو ، هو المسيح المخلص .
*ولكنه علي الرغم من الزلزلة و الظلام يسمع صوت المسيح يقول إلهي إلهي لماذا تركتني )) ثم يقول (( أنا عطشان )) . فيطمئن الشيطان ويقول (( أنه ليس هو ))
وينتظر الشيطان حتي يموت المسيح فيقبض علي روحه كباقي البشر السابقين و يحدرها معه إلي الجحيم ، ولكنه يفاجأ بأن المسيح يصرخ بصوت عظيم (( يا أبتاه في يديك استودع روحي )) . و يدهش الشيطان . أما يزال هذا المصلوب يقول يا أبتاه . ألعله حقاً ابن الله . وما معني هذا الصوت العظيم ؟ من أين أتته هذه القوة ؟ ويقول في نفسه كيف يودع روحه في يدي الآب . الحق أنه القوة ؟ ويقول في نفسه كيف يودع روحه في يدي الآب . الحق أنه يودعها في يدي أنا ويتقدم ليأخذ تلك الروح وهو مرتعب في شكه ، فيمسكه الرب بقوة لاهوته ، ويقيده ألف سنه …
في أسبوع الآلام نري السيد المسيح كما وصفه النبي (( محتقراً ومخذولا من الناس .. فلم يعتد به )) (( أش 53: 3)) . ونحن إذ نراه محتقراً من أجلنا ، نتابعه بتلك التسبحة الخالدة (( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد أمين )) . يا عمانوئيل إلهنا وملكنا )) …
وفي الحقيقة انه لم يدخل ذاته من المجد في أسبوع الآلام فقط ، بل بذل كرامته من أجلنا في كل حين .
حتي كان (( بلا كرامه في وطنه )) . وكانوا يعيرونه قائلين (( أليس هذا ابن النجار ؟! )) (( متي 13: 55)) . من أجلنا احتمل العار ، وشبع شتائم وتعبيرات … من أجل تواضعه في الجلوس مع العشارين و الخطاة ، قالوا عنه أنه أكول وشريب خمر . ومن أجل محبته في شفائه للمرضي عنه أنه كاسر للسبت … ومن أجل اهتمامه بتعليمنا التعليم البعيد عن الشكليات الذي يترك الحرف ويدخل إلي العمق ، وقالوا عنه أنه ناقض للشريعة .. ونحن إذ نراه مهانا من أجلنا ،نتبعه بنفس التسبحه
(( لك القوة و المجد ))
نحن نعلم يارب لماذا أهانوك . لقد فعلوا لذلك لأنك لست مثلهم ، لأن تواضعك كان يكشفهم .
لم تفعل مثلهم إذ كانوا (( يعرضون عصائبهم ، ويطيلون أهداب ثيابهم . و يحبون المتكأ الأول في الولائم و المجالس الأولي في المجامع ، و التحيات في الأسواق ، وأن يدعوهم الناس سيدي سيدي )) (( متي 3: 5-7)) . أما أنت فعشت متواضعاً و ديعاً ، تعاشر الأدنياْ والصغار والمحتقرين ، و تؤاكل الخطاة و العشارين ، و تلمسك المرأة الخاطئة ، و تناقشك المرأة السامريه ، و يقترب إليك الأطفال . و أنت تسير فقيراً ، بلا منصب و لا مال ، وليس لك أين تسند رأسك
لقد رفضوا أن يمجدوك ، لأنك احتقرت أمجادهم ، وقلت (( مجداً من الناس لست أقبل )) (( يو 5: 41))
وهكذا رفضت الملك و العظمة . أما نحن الذين نعرف حقيقة عظمتك ، فنخاطبك قائلين (( لك القوة والمجد )) .. أن كل تحقيرهم لك لا يمكن أن ينقصك شيئاً من مجدك . لقد باعوك بثمن عبد (( ثلاثين من الفضة )) . وباستهزاء ألبسوك ثوباً أرجوانياً ،، ووضعوا إكليل من الشوك فوق رأسك . أما نحن فنتبعك في كل ذلك قائلين (( لك القوة والمجد والبركة والعزة إلي الآبد آمين ))..
هم يحتقرونك ، لأنك أخذت شكل عبد . أما نحن فنمجدك ، أننا نعرف من أنت ..
أنت المساوي للآب في الجوهر (( وكل ما الآب فهو لك )) (( يو 17: 10)) . وأنت (( الكائن في حضن الآب منذ الأزل (( يو 1: 18)) . (( بهاء مجده ورسم جوهره )) (( عب 1: 3)).
نعم أننا نمجدك من أجل (( المجد الذي كان لك عند الآب قبل كون العالم )) (( 17: 5)) . أنت الذي لك كل سلطان في السماء وعلي الأرض )) (( متي 28: 18)) ..
أنت ممجد قبل أن نكون ، وقبل أن نوجد . أنت الذي (( تجثو باسمك كل ركبة ممن في السماء ومن علي الأرض ومن تحت الأرض)) ((في 2: 10)) . قبل أن نمجدك نحن ، كانت وما تزال تمجدك الملائكة ورؤساء الملائكة ..(( ألوف ألوف وقوف قدامك ، وربوات ربوات يقدمون لك الخدمة .. ويصنعون كلهم كلمتك يا سيدنا )) . وقبل الملائكة وقبل كل خليقة أخري كنت ممجداً أيضاً ، وأنت كائن وحدك . لست محتاجاً إلي مخلوق ليمجدك . فأنت ممجداً بذاتك ، وممجداً بصفاتك . ممجد بلاهوتك ، لست محتاجاً بذاتك ، وممجد بصفاتك . ممجد بلاهوتك ، لست محتاجاً إلي مجد من أحد . أنت (( الأول و الآخر ، الألف و الياء ، البداية و النهاية )) (( رؤ 22: 13)) ..
وعندما نمجدك ، فلسنا نأتي بشيء جديد عليك . فحتى وسط إخلائك لذاتك ظهرت أمثلة كبيرة لتمجيدك …
فقد مجدتك الملائكة في ميلادك عندما بشرت الرعاة ، ومجدك المجوس عندما سجدوا لك مقدمين هداياهم التي تليق بمجدك . وتمجدت عندما سقطت أصنام مصر أمامك في زيارتك لها وأنت طفل ((أش19: 1)) . ومجدك يوحنا المعمدان عندما شهد قائلاً (( يأتي بعدي من هو أقوي مني ، من لست مستحقاً أن أنحني وأحل سيور حذائه )) …
وظهر مجدك وقت العماد ،
عندما نزل الروح القدس بهيئة حمامة ، وكان صوت من السماء قائلاً (( أنت ابني الحبيب الذي به سررت )) (( لو 3: 22)) .
وظهر مجدك أيضاً علي جبل التجلي ، عندما أضاء وجهك كالشمس ،
وصارت ثيابك بيضاء كالنور . وقال الآب من السحابة (( هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت . له اسمعوا )) .. (( متي 17: 2- 5)).
وظهر مجدك في معجزاتك الكثيرة ،
حتي الشياطين نفسها لم تحتمل وكانت تعترف لك . بل ظهر مجدك علي جبل التجربة ذاته ، عندما انتهرت الشيطان فذهب ، وإذا ملائكة جاءت تخدمك (( مر 1: 13)) …
وظهر مجدك ليوحنا الرائي ، عندما رآك وسط المنائر الذهبية .
ووجهك كالشمس وهي تضئ في قوتها ، وعيناك كلهيب نار ، وصوتك كصوت مياه كثيرة . حتي أن يوحنا لم يحتمل هيبة ذلك المنظر العظيم ، فسقط عند رجليك كميت (( رؤ1 : 13- 17)) ..
وستأتي أيضاً في مجدك ، في مجيئك الثاني ، علي سحاب السماء.
إذ يقول الكتاب أنك ستأتي في مجدك وجميع الملائكة القديسين معك(( متي 25: 31)) . (( السحاب و الضباب قدامك ، العدل والقضاء قوام كرسيك …تضئ بروقك المسكونة … رأت الأرض فارتعدت ، وذابت الجبال مثل الشمع )) (( مز 97)) .
أننا عندما نمجدك ، تتقدس أفواهنا بتمجيدك ، وأنت لا تزيد شيئاً .
ونحن في الحقيقة عندما نمجدك ، لسنا نعطيك مجداً ، وإنما نعترف بمجدك . وأنت يارب كالشمس : هي منيرة سواء أعترف الناس بنورها أو لم يعترفوا . اعترافهم بنورها لا يزيدها نوراً هي منيرة بذاتها …
أننا لسنا نمجدك فقط في عظمة مجيئك الثاني حينما يكون مجدك واضحاً ، وأنما نمجدك الآن في عمق آلامك .
نسير وراء آلامك خطوة خطوة ونحن نهتف قائلين (( لك القوة والمجد … يا عمانوئيل ألهنا وملكنا )) . ونمجدك بذلك اللحن الجميل الذي نقول لك فيه
_ في قطعة موسيقية رائعة خالدة ، لا مثيل لها في موسيقي العالم (( كرسيك يا الله إلي دهر الدهور ، قضيب استقامة هو قضيب ملكك )) …
و بتمجيدنا لك إنما نحتج علي ما فعله بك المتآمرون و الصالبون .
نحتج علي ما فعلته البشرية الجاحدة بك . ونري أن مجدك الحقيقي كان في صليبك الذي احتملته لأجلنا . و بتمجيدنا لك في صلبك ، إنما نقبل في شرف مجد الصليب لنا كحياتنا وفي خدمتنا . بل نغني مع بولس الرسول (( مع المسيح صلبت ، لأحيا لا أنا بل المسيح الذي يحيا في (( غل 2: 20)) . بهذا اللحن الجميل نمجد الرب في آخر صلوات يوم الجمعة الكبيرة عندما يكون . فنرتل له قائلين عرشك يا الله إلي دهر الدهور …)) . وهذا اللحن نمجد به الرب أيضاً في يوم الثلاثاء عندما يعلن الرب موعد لبه بقوله لتلاميذه في الإنجيل (( تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح ، وابن الإنسان يسلم ليصلب ))
(( متي 26: 2)) . و بنفس النغم الجميل نمجد الرب بلحن أننا نمجدك يا رب في صليبك ، وليس في معجزاتك …
نحن نتبع سيدنا المسيح في صلبه ، ونقول في أذنه لك البركة . لأن الكتاب يقول (( ملعون كل من علق علي خشبة )) (( غل 3: 13)) .
لذلك كان لابد أن تدفن في نفس اليوم جثة هذا المستوجب الموت و لا يبيت معلقاً ، لئلا ينجس الأرض ، لأن المعلق ملعون من الله (( تث 21: 22، 23)) . وهكذا حمل الرب عنا لعنه الناموس ، و(( صار لعنة لأجلنا )) . ولكننا نعلم أنه قدوس بلا خطية ، و أن اللعنة التي حملها هي التي لعنتنا نحن ، هي اللعنات التي تستوجبها خطايانا حسب الناموس (( تث 28)) . أنه ليس خاطئا ، حاشا . بل هو حامل خطية ، خطية غيرة ، خطية العالم كله . لذلك نحن نتبعه آسفين علي ما حملناه إياه ، قائلين له من عمق قلوبنا (( لك القوة والمجد و البركة … يا عمانوئيل إلهنا وملكنا )) …
بسبب هذه اللعنه صلبوه خارج المجلة ، لكي لا ينجسها ، ونحن في أسبوع آلامه نخرج وراءه أيضاً كما معلمنا بولس الرسول
(( فلنخرج إذن إليه خارج المحلة حاملين عاره (( عب 13: 13)) . نعم نحمل عاره (( حاسبين عار المسيح غني أعظم )) كما قيل عن موسى النبي (( عب 11: 26)) . وهكذا تجلس الكنيسة طوال أسبوع الآلام خارج المحلة ، بعيدا عن المذبح ، بعيدا عن الهيكل ، بعيدا عن الخورس الأول ، خورس القديسين ، متذكرين خطيتنا التي أخرجتنا خارج المحلة مثل آدم عندما طرد من الفردوس . وإذا نتبع الرب خارج المحلة ، نقول له : أنت البار ، ونحن الأشرار . نحن نستحق اللعنة و الطرد ، أما أنت فلك البركة إلي الآبد آمين ياربي يسوع المسيح المخلص الصالح .
بينما ينظر اليهود إلي صليب المسيح كرمز للذل و العار ، نقول له نحن : لك البركة و لصليبك ننال البركة في كل شئ
الكهنة يرشمون به الشعب فيتباركون و برشم الصليب يتم التكريس و التقديس . به نرشم المعمودية ، فننال بركة الميلاد الجديد . وبه نرشم كل عضو من أعضائنا في سر الميرون ، فتتبارك أعضاؤنا جميعاً وتتقدس . وبه تتم الرشومات المقدسة في الأفخارستيا وفي سر الكهنوت وفي جميع أسرار الكنيسة ، ننال به النعمة و البركة و المواهب ، و نصرخ من أعماقنا (( لك البركة )) …
به نرشم طعامنا قبل أن نأكل ، وبه نرشم ذواتنا قبل أن ننام و به ننال البركة في كل شئ . وإذ ننظر إلي بركات الصليب ، نقول للرب في آلامه (( لك البركة إلي الآبد آمين يا عمانوئيل إلهنا و ملكنا )) …
لك يا رب البركة التي فقدناها منذ سقطة آدم ، ظللنا نحلم به حتي هذا اليوم ، منتظرين أن ننالها منك ، أنت يا من بك تتبارك جميع قبائل الأرض …
عندما خلق الإنسان باركه الله ، ولكنه عندما سقط ، دخلت بسقوطه اللعنه إلي الأرض ، إذ قال الرب لآدم (( ملعونة الأرض بسببك )) ((تك 3: 17)) . ثم بدأت اللعنه تدخل إلي البشر أنفسهم ، فلعن الرب قايين (( تك 4: 11)) . ثم لعن كنعان ونسله (( تك 98: 25)) . ثم امتدت اللعنه حتي وصلت إلي خاطئ . إذ تقول الشريعة للإنسان (( إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل جميع وصاياه و فرائضه … تأتي عليك جميع هذه اللعنات و تدركه … يرسل الرب عليك جميع هذه اللعنات و تدركك … يرسل الرب عليك اللعن و الاضطرابات في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله حتي تهلك و تفني سريع …(( تث 28: 15- 20))
ووسط لعنات الناموس ، كانت البشرية تحلم بتحقيق وعد الله لإبراهيم عندما قال له بنسلك نتبارك جميع أمم الأرض )) (( تك 22: 18)) .
و ظلت البشرية تترقب هذا النسل الذي تتبارك به جميع أمم الأرض … ومرت أجيال طويلة و البشرية مدنسة في سقطاتها (( الجميع زاغوا و فسدوا و أعوزهم مجد الرب ، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد )) .. وظلت البشرية تنتظر مجيئك حتي مجيئك حتي أتيت ، أيها المحب الحنون ، الذي ترتفع عنا جميعاً لعنه الناموس ، وبك تتبارك جميع قبائل الأرض . ونحن نقف إلي جوارك علي الصليب ، واثقين من وعدك لأبينا إبراهيم . وننظر إليك وأنت تغمس زوفاك في دمك الكريم ، وتنضح علينا فنطهر . و نرتل لك بكل تمجيد و تقديس : (( لك البركة إلي الآبد آمين )) ..
لك البركة التي منحتها للعالم ، فتتبارك في كل أجناسه و أجياله ولو لم تكن لك هذه البركة لهلك العالم كله في خطاياه .
لك البركة التي نقول لك عنها في القداس (( وباركت طبيعتي فيك)) . لك البركة غير المحدودة التي باركت بها العالم كله …
لك البركة التي باركتنا بها نحن الأمم المدعوين غرلة ، الذين كنا بدون مسيح ، أجنييبن و غرباء عن عهود الموعد ، لا رجاء لنا … فصرنا ببركتك قريبين ، ولم نعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القديسين و أهل بيت الله . (( أف 2: 11- 19)) .
لك البركة ، لأنك قدوس . لذلك نرتل لك اللحن يوم صلبك قائلين
(( قدوس الله ، قدوس الحي الذي لا يموت الذي صلب عنا ارحمنا )) … وإذ نرتل لحن قداستك أنما ننزهك عن كل ما اتهموك به . وأذ نقول لحن (( آجيوس )) هذا بالنغم الحزايني ، فلسنا نحزن عليك ، إنما نأسف في قلوبنا لأن البشرية قدمتك كخاطئ إلي الصليب ونسبت إليك ما لا يليق . أما أنت آيها القدوس ، المولود من الروح القدس، الذي أنت وحدك قدوس ، فلك البركة إلي الآبد آمين .
هذه البركة منحتها أولاً للص اليمين ، عندما أدخلته معك في الفردوس . وبهذه البركة باركت جهال العالم الذين أخزيت بهم الحكماء ، وباركت بها تلك الأوان الخزفية الضعيفة التي حملت اسمك القدوس …
من كان يظن أن هؤلاء الصيادين الضعفاء يصيرون في يديك كالخمس الخبزات ، فتشبع بها العالم كله )) في كل الأرض خرج منطقهم ، وإلي أقطار المسكونة كلماتهم )) (( مز 19: 4)) . من كان يظن أن هذه الجماعة الخائفة المختبئة في العلية ، يمكن أن تخرج لتقف أمام أباطرة و أمام فلسفات و أمام أديان ، وتملاْ الأرض كلها … أنها البركة التي قيلت لآمنا رفقة (( صيري ألف ربوات ، وليرث نسلك باب مبغضيه )) (( تك 25: 60)) . نعم يا رب لك البركة …
كانت الخطية قد حجبت البركة . فلما نزعت هذه الخطية عنا . أرجعت إلينا البركة أيضاً .
ورددت الإنسان إلي رتبته الأولي . و قلت له في حنو (( أباركك ، وتكون بركة )) (( تك 12: 2)) . نطلب إليك أن تديم بركتك علينا ، في كل ما تحمل من نعمة ومن كثرة … و لترجع إلينا تلك البركة التي سمعنها منذ اليوم السادس حينما قلت لنا (( اثمروا و اكثروا ، واملاْوا الأرض ، و أخضعوها )) . (( تك 1: 28)) .
لك العزة ، لانك (( ملك الملوك ورب الأرباب )) (( رؤ 17: 14)) .
وأن كنت قد رفضت الملك العالمي . فأنت تملك علي القلوب وملكوتك في داخلنا . وحتى الذين لم يملكوك في قلوبهم ، كانوا يخافونك
لك العزة ، لأن لك الهيبة . ولك الوقار ، ولك المخافة..
يمكننا أن تخفض ذاتك متي تشاء ، أو ذاتك في أتضاع . ولكن ذلك لا ينقص شيئاً من عظمتك ووقارك . كم من مرة كان إخلاؤك لذاتك ، يسمح لأعدائك أن يمسكوا حجارة ليرجموك ، أو يقدرون أن يفعلوا بك شئ . بل كنت تجتاز في وسطهم تمضي ، ولا يستطيع أحد أن يمد إليك يدا . (( لو 4: 40)
ولم يستطيعوا أن يقبضوا عليك إلا عندما أتت الساعة ،
الساعة التي حددتها أنت لتسليم ذاتك بإرادتك وحدك . كان الكل أمامك يخافون منك. حتي عندما كانوا يسألونك ما كانوا يصمدون في جدالهم معك . كنت عزيزا في كلامك معهم ، حتي وأنت فتي صغير كانوا يسمعونك و يبهتون و يعجبون …
حتي الشيطان كان يشعر في أعماقه أنك عزيز الجانب لا يقوي عليك .
سمح إتضاعك له أن يقترب منك . ولكن هيبتك ملكته عندما انتهرته ، فهرب من أمامك ، ولم يستطيع أن يكمل حديثه معك . انتهت تجاربه لك عند هذا الحد .
كنت عزيزا طول حياتك . مهابا ومخافاً . وما قصة الصليب كلها الا رد فعل لخوف أعدائك منك .
كانوا يشعرون أنك أقوي منهم في كل شئ أقرب منهم إلي القلوب ، وأكثر منهم إقناعا للناس . فخافوا علي سلطانهم منك . ونحن نقف يارب إلي جوار صليبك ، نقول لك علي الرغم من هذه الإهانات و الآلام (( لك العزة إلي الآبد آمين يا عمانوئيل إلهنا وملكنا))
وقد كان آباؤنا القديسون في عصور الكنيسة الأولي يلاقون هذا الأسبوع بكل هيبة و توقير ، و يسلكون فيه بنسك شديد للغاية :
كانوا يمتنعون فيه عن أي طعام حلو المذاق (( من الأطعمة الصيامية )) كالحلوى و العسل والمربي مثلاً ، لأنه لا يليق بهم أن يأكلوا وهم يتذكرون آلام الرب من أجلهم . والبعض ما كانوا يطبخون في هذا الأسبوع شيئاً علي الإطلاق ، بسبب النسك من جهة ، ولكي لا يشغلهم أعداد الطعام عن العبادة من جهة أخري . و غالبية الناس ما كانوا يأكلون فيه سوي الخبز و الملح . و القادرون منهم كانوا يطوون الأيام صوماً ، وكانوا يمتنعون عن الطعام من عشية الجمعة إلي ساعة الإفطار في العيد . و النسك في هذا الأسبوع كان يشمل الزينة أيضاً . و لذلك كان النساء فيه يمتنعن عن التزين ، بل يمتنعن أيضاً عن لبس الحلي ..
و كان هذا الأسبوع مكرساً كله للعبادة ، يتفرغ فيه الناس من جميع أعمالهم ، و يجتمعون في الكنائس طوال الوقت للصلاة و التأمل ..
كان الملوك و الأباطرة المسيحيون يأمرون أن تتعطل دواوين الحكومة و مصالحها خلال هذا الأسبوع ليتفرغ الناس للعبادة . بل كانوا يسمحون بخروج المحبوسين لكي يذهبوا هم أيضاً إلي الكنيسة و يشتركوا في صلوات هذا الأسبوع العظيم لعل ذلك يكون تهذيباً لهم و إصلاحاً . وممن فعلوا ذلك الإمبراطور ثيئودوسيوس الكبير . وكان السادة يمنحون عبيدهم عطلة طول أسبوع
البصخة ، فلا يشتغلون هم أيضاً بل يعبدون الرب . وهكذا لا تكون روحيات السادة مبنية علي حرمان العبيد ، بل الكل للرب ، يعبدونه معا و يتمتعون معا بعمق هذا الأسبوع و تأثيره ..
والكنيسة المقدسة تركز كل مشاعرها خلال أسبوع الآلام حول آلام المسيح فقط ، وليس أي موضوع آخر . حتي أنها تلغي الصلاة بالمزامير خلال أيام البصخة هذه . لأن المزامير تحوي مواضيع كثيرة ، و إشارتها إلي السيد المسيح ، تشمل ميلاده و خدمته و قيامته و صعوده و جلوسه عن يمين الآب و مجيئه الثاني في المجد ، بينما
نحن نريد أن نركز كل صلواتنا و تأملاتنا حول موضوع واحد هو ألام المسيح .
و بدلا من الصلاة بالأجبية و المزامير ، تصلي الكنيسة تسبحة خاصة بالبصخة ، تقول فيها للرب خلال آلامه عنا . (( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين يا عمانوئيل إلهنا وملكنا )) (( لك القوة والمجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين يا ربي يسوع المسيح )) (( لك القوة و المجد والبركة و العزة إلي الآبد آمين )) . ثم تضيف عبارة (( مخلصي الصالح )) إلي الفقرة الثانية و ذلك من ليلة الأربعاء لأن التشاور علي تسليم المسيح له المجد كان الخطوة العملية التي قادت إلي تنفيذ عمل الخلاص ..هذه التسبحة نصليها في كل ساعات النهار و الليل و هي عشر صلوات ، خمس بالنهار و خمس بالليل . و نعني بها صلوات الساعة الأولي ، و الساعة الثالثة ، و الساعة السادسة ، و الساعة التاسعة ، والساعة الحادية عشرة .
في كل صلاة منها ننظر إلي مخلصنا الصالح في آلامه ، ونقول له : نحن نعلم من أنت .
أنت ( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين )) .
و بهذه التسبحة نتتبع السيد المسيح خطوة خطوة معه ، في كل أحداث الأسبوع الأخير السابق للصلب . فما هي أحداث هذا الأسبوع ، وما هو موقف الكنيسة منها ؟
كيف بدأت هذه الآلام ؟
في يوم الأحد أحد السعف ، أو أحد الشعانين ، ذهب السيد المسيح إلي أورشليم حيث استقبله الشعب استقبالاً رائعاً كملك بالهتاف و بسعف النخل و بالتسابيح فارشين أرديتهم تحت قدميه . و ارتجت المدينة كلها لمقدمة ( متي 21: 10) . فكانت النتيجة أن تضايق من ذلك جداً رؤساء الكهنة و قادة الشعب من الكتبة و الفريسيين و الصدوقيين . وحسدوه علي هذه المحبة العظيمة التي له في قلوب الناس . و فكروا في أن يتخلصوا منه . وزادهم ضيقاً أنه دخل بسلطان إلي الهيكل و طهره مما فيه من بيع و شراء ، حتي . قالوا له بأي سلطان تفعل هذا (( متي 21: 23 )) . ومن ذلك الحين فكروا عملياً في قتله ، قائلين بعضهم لبعض
(( هوذا العالم قد سار وراءه )) ((يو 12: 19 )).
هؤلاء الرؤساء أرادوا قتله حسداً . ولكن ما هو سر تحول الشعب من هذا الاحتفال الكبير به كملك إلي قولهم فيما بعد ((اصلبه ، اصلبه )) ( لو 23: 21))
لعل السر في هذا ، هو أن السيد المسيح رفض الملك العالمي الذي عرضوه عليه ، لأن مملكته روحية ليست من هذا العالم و بهذا خيب آمالهم العالمية التي ظهرت في هتافهم عندما إستقبلوه قائلين (( مبارك الآتي باسم الرب . مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب )) ((مر 11: 9، 10)) . وهكذا استطاع أن يقنعهم الرؤساء بأن آمالهم قد خابت في المملكة المنتظرة . و كرد فعل ينبغي التخلص من هذا الناصري !!
ومن هنا بدأت فكرة قتله تتحين فرصة للتنفيذ . و لذلك تحتفل الكنيسة ببدء أسبوع الآلام بعد قداس أحد الشعانين ..
الكنيسة كلها تجلل بالسواد . القماش الأسود ، يحيط بالأيقونات و بالمنجلية و بأعمدة الكنيسة ، أحياً بالجدران أيضاً . و أي داخل إلي الكنيسة يشعر أنها في حالة حزن و ألم ، مشاركة للمسيح إلهنا في ألمه . كما قال القديس بولس الرسول لأعرفه و قوة قيامته و شركة آلامه ))
(في 3: 10 )
الكنيسة طول أسبوع الآلام منشغلة باآلام المسيح و حده لا تفكر في شئ آخر غيره ، ولا ترفع بخوراً . لذلك إن توفي أحد في هذا الأسبوع لا يرفع عنه بخور كسائر الجنازات ، بل يدخل إلي الكنيسة و يحضر صلوات البصخة ، وتتلي عليه القراءات .
لذلك يقام جناز عام بعد قداس أحد الشعانين من أجل أنفس الذين ينتقلون في البصخة المقدسة .
و يصلي علي الماء لهذه المناسبة . هذا الماء يظنه بعض العوام و غير العارفين إنه من أجل تكريس السعف . و هو من أجل الجناز العام . علينا خلال صلوات هذا الجناز أن نقف معترفين لله بخطايانا ، مقدمين توبة صادقه . نحن لا نضمن حياتنا .. ربما تكون هذه الصلوات من أجلنا أطال الله أعماركم .. بعد هذا الجناز و صرف الشعب ، يبدأ الانتقال إلي خارج المحلة ..
كانت شريعة العهد القديم تقتضي بأن ذبيحة الخطية تحرق خارج المحلة (( لا 4: 12، 21) . أنها تحمل الخطايا ، فلا يصح أن تنجس المحلة ، بل تحرق خارجاً ..و هكذا المسيح أيضاً الذي حمل خطايا العالم كله ، تألم خارج الباب ، خارج المدينة المقدسة . حسبوه خاطئاً ، فأخرجوه خارج و أتبعه بقوله :
فلنخرج إذن إليه خارج المحلة ،حاملين عاره )) .. ( عب 13: 12)
والكنيسة المقدسة التي هي في أسبوع البصخة تتبع الرب في كل خطواته هي أيضاً تخرج معه خارج المحلة . لذلك يغلق الهيكل و يسد الحجاب ، و تترك الكنيسة الخورس الأول خورس القديسين ، و تنقل المنجليه إلي الخورس الثاني و تصل بعيداً عن المذبح ، بعيداً عن الهيكل ، خارج المحلة .. معه ، حاملين عاره
نقول له خارج المحلة (( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد أمين …)
و بهذه التسبحة تتبع السيد المسيح في آلامه خطوة خطوة …وما أجمل ما نتأمل في كلمات هذه التسبحة ، لنعلم ماذا نقوله للرب في آلامه ..
لك القوة والمجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين …
بهذه التسبحة نرتل للمسيح طول أسبوع الآلام . ونحن نتبعه في كل تنقلاته ، و في كل حالاته . نقولها بدلاً من صلوات الأجبية ، في الخمس صلوات النهارية ، و في الخمس صلوات المسائية ، و نرددها 12 مرة في كل صلاة بدلاً من المزامير ال 12 التي تشملها كل صلاة من صلوات الأجبية .. يترك المسيح أورشليم و يذهب إلي بيت عنيا ، فتتبعه إلي هناك قائلين له لك القوة و المجد و البركة و العزة )).. و يتضايق منه الكهنة لتطهير الهيكل ، فيقول له (( بأي سلطان تفعل هذا ؟ )) أما نحن فنقول ((لك القوة و المجد و البركة و العزة … يا عمانوئيل إلهنا و ملكنا )) .. يتآمرون عليه كيف يقتلونه أما نحن فنحتج علي مؤامراتهم قائلين له ( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد آمين )) . ينحني السيد الرب في إتضاعه ليغسل أرجل التلاميذ ، و نهتف له نحن قائلين لك القوة و المجد و البركة و العزة )) . ويصلي في بستان جثسيمان في صراع حتي ينزل عرقة كقطرات الدم . و نصرخ نحن (( لك القوة و المجد )) ..
هكذا نسير معه هاتفين بهذه التسبحة ، عندما يقبض عليه ، و عندما يحاكم أمام أعدائه ، و عندما يكلل بالشوك . وعندما يجلد
و عندما يقع تحت الصليب ، وعندما يسمر بالمسامير ، وعندما يسلم الروح في يد الآب ، و عندما يدخل باللص اليمين إلي الفردوس قائلين في كل وقت لك القوة والمجد والبركة و العزة إلي الآبد أمين .
أول ما نسبح به السيد المسيح في هذا الأسبوع هو أن له القوة . نعم يارب لك القوة .
أنت الذي قال عنك بولس الرسول انك قوة الله (( 1كو 1 : 24)).
هؤلاء يظنونك ضعيفاً علي الصليب . أما نحن فنعلم من أنت . أول شئ نعلمه عن قوتك ، هو أنه لك القوة كخالق ( كل شئ به كان و بغيره لم يكن شئ مما كان ) ( يو1: 3). لك القوة كديان يأتي علي سحاب السماء و يدين الأحياء و الأموات . نعم أن هذا المصلوب الذي يبدو ضعيفاً أمامهم ، لو أنهم تأملوه في كل الأيام التي قضاها بينهم علي الأرض ، لرأوه قويا في كل شئ .
أنت يارب القوي الوحيد الذي انتصر علي الخطية و العالم و الشيطان .
كل البشر كانوا ضعفاء أمام الخطية إذ (( طرحت كثيرين جرحي . وكل قتلاها أقوياء )) ( أم 7: 26)) و لذلك قال الكتاب (( الكل قد زاغوا معاً ، فسدوا ليس من يعلم صلاحاً ، ليس ولا واحد )) ( مز14 : 3)) أما أنت يارب ، فأنت الوحيد الذي تحدي العالم قائلا ( من يبكتني علي خطية )) ( يو 8: 46 ) أنت القوي الوحيد الذي استطعت أن تنتصر علي الشيطان و تقول (( رئيس هذا العالم يأتي . و ليس له في شئ )) (يو 14:3) . ولذلك رتلوا لك في سفر الرؤيا قائلين (لأنك أنت القدوس )) ((رؤ 14:3) . أنت الوحيد القوي في قداسته ، الذي هو (( قدوس بلا شر و لا دنس ، قد انفصل عن الخطاة ، و صار أعلي من السموات )) (( عب 7: 26 )) .
وقد برهنت يا رب في معجزاتك علي قوة عجيبة ، حتي (( عملت أعمالاً لم يعملها أحد غيرك )) ((يو 15: 24) . أظهرت قوتك علي الطبيعة .
فانتهرت الرياح و البحر و الأمواج ، ومشيت فوق أمواج البحر . أنت الذي غني لك داود قائلاً ((أنت متسلط علي كبرياء البحر . عند ارتفاع لججه ، أنت تسكنها (( مز 89: 9) . لك القوة و المجد ..
و أظهرت قوتك علي المرض و الموت :
فكنت تشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب ، و بخاصة الأمراض التي استعصت علي الكل مثل شفاء العميان ، و تطهير البرص ، و إبراء البرص المرأة النازفة ، و المقعد الذي أستمر 38 سنه في مرضه و المفلوج الذي أنزلوه من السقف و صاحب اليد اليابسة . و أنت الذي أقمت الموتى ، حتي الذي بقي له أربعة أيام في القبر و قيل انه قد أنتن ..
و أظهرت قوتك علي الخلق :
كما حدث في معجزة إطعام الآلاف من خمس خبزات و سمكتين ، و في معجزة تحويل الماء إلي خمر إذ خلقت مادة جديدة غير عنصري الماء . وكما حدث ذلك أيضاً في خلق عينين للمولود أعمي .
و أظهرت قوتك علي الشياطين ،
فكانت الشياطين تخرج من كثيرين و هي صارخة تقول أنت هو المسيح ابن الله … و كنت تنتهر الشيطان فيذهب و لا يستطيع أن يرد . لا نستطيع أن نحصي معجزاتك . و تكتفي من جهتها بقول يوحنا الحبيب عنها (( و أشياء كثيرة صنعها يسوع . أن كتبت و احدة فواحدة فلست أظن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة ))(( يو 21: 25) . هذه مظاهر كثيرة لقوة الرب في معجزات . و لكن هناك قوة أخرى عجيبة أظهرها في ألأمه و صلبه تعطينا فكرة عن مفهوم جديد و ضعه الرب لمعني القوة . فما هو ذلك المفهوم الجديد لمعني القوة ؟
أن العالم يفهم القوة بطريقة غير التي قدمها لنا السيد المسيح العالم يري القوة الخارجة . قوة العنف ، قوة الإنسان الذي يستطيع أن يضرب ، وأن يحمي نفسه من الضرب ، قوة الإنسان الذي يستطيع أن يخضع غيره له .
أما السيد الرب ، فأعطانا مثلاً للقوة التي تحب ، و تستطيع أن تبذل ، و تستطيع أن تحتمل ، و أن تعطي ولو علي حساب ذاتها .
ونحن عندما نفكر في القوة ، إنما نفكر فيها علي المستوي الروحي وليس علي المستوى الجسدي وبهذه النظرة ننظر إلي المسيح في آلامه . أن العالم المادي المسكين يظن أن المسيح كان ضعيفاً عندما ضرب و لطم و استهزأوا به و علقوه علي الصليب . و حقاً كان يمكن أن يقال ذلك ، لو أن المسيح احتمل كل تلك الإهانات عن عجز .. و لكنه بالعكس من ذلك كان أقوي من ضاربيه و مهينيه و صالبيه .
كانت له القوة أن يبيدهم جميعاً ، و لكنه لم يفعل لأنه كان يحبهم ، و محبته كانت أقوي من الموت.
كان يمكنه أن يميت كل هؤلاء ، ولكنه لم يفعل . لأنه كان قد جاء ليخلصهم من الموت ، و يعطيهم الحياة بموته . لذلك نحن نمجد المسيح في هذا الاحتمال ، شاعرين أن الذي يحتمل هو الأقوى . و هكذا يقول الرسول (( فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات الضعفاء و لا نرضي أنفسنا )) ((رو 15: 1) . هناك أشخاص ضعفاء لا يستطيعون أن يحتملوا . أقل كلمه تهزهم ، فينهارون بسرعة و ينتقمون ، و في انتقامهم ، أو ردهم للإهانة بمثلها ، نشعر بضعفهم و عدم قدرتهم علي الاحتمال
أما المسيح فكان قوياً في احتماله تدل علي قوه حبه . فالشخص الذي يحب هو الذي يقدر أن يحتمل .
وما عدم احتمالنا نحن ، الا دليل علي نقص محبتنا . و لقد جاء المسيح خصيصاً ليحمل خطايانا (( كلنا كغنم ضللنا . ملنا كل واحد إلي طريقه . و الرب و ضع عليه إثم جميعناً (( أش 53: 6) . و حمل الرب كل هذه الخطايا عنا ، ليدفع ثمنها بنفسه . من أجل كل فرد فينا ، احتمل الرب الإهانات و التعبير و الضرب و اللطم و البصق ، فرحاً في عمق محبته مغنيا في أذن كل واحد منا بقوله (( من أجلك احتملت العار ، غطي الخزي و جهي ) ( مز 69: 7) . ونحن نسمع ذلك و نجيبه في انسحاق من أجلي احتملت ظلم الأشرار . بذلت ظهرك للسياط ، وخديك للطم . لم ترد وجهك عن خزي البصاق ..))
أن قوة المسيح في آلامه و صلبه تظهر في أنه كان يستطيع أن يبيد كل هؤلاء المعتدين و لكنه لم يفعل ، من فرط حبه لنا ..هو أخذ عقوبتنا ، و أعطانا سلامه . أخذ خزينا و أعطانا مجده .
و لكي نفهم قوة المسيح علي حقيقتها علينا أن نسأل . ماذا كان سيحدث لو أن المسيح رفض الإهانة و الصلب ؟! لو أنه أمر أن تنفتح الأرض و تبتلع كل هؤلاء القائمين ، أو أن تنزل نار من السماء و تحرقهم ؟! كان يمكنه ذلك ، و لكن يكون الثمن هو هلاكنا نحن لأن الفادي رفض أن يموت عنا . لذلك قال الرب : أموت أنا ولا تموتون . و أهان أنا ، وتتمجدون أنتم . أنني أنما جئت في الجسد خصيصاً لأجلكم ، لكي أبذل ذاتي عنكم و احتمل الإهانات عنكم ، حب لكم و للمهينين . و لذلك فإنه لم يحتمل فقط ظلم الأشرار ، وأنما أكثر من هذا أحبهم ، و غفر لهم ، و صلي من أجلهم مدافعاً عنهم و متشفعاً فيهم بقوله (( يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون )) .
هذه هي القوة الحقيقية ، قوة القلب المملؤ بالمحبة و الذي يستطيع أن يحتمل المسيء و يحبه و يصلي من أجله ، و يفديه بحياته .
من من الناس يستطيع هذا ، مهما بلغ قوة في الجسد ، أومن رفعة من المنصب أي مدير عمل يستطيع أن يحتمل لطمة من فراش ، و يحبه و يغفر له ، و يدافع عنه ، ويرقيه .. و القياس مع الفارق بالنسبة إلي هذا الذي حدث بين خالق و مخلوق ..
أن بطرس الرسول لم يفهم القوة بمعناها الروحي المسيحي ، عندما استل سيفه دفاعاً عن معلمه و قت القبض عليه ، وقطع آذن العبد .
لذلك أمره الرب أن يرد سيفه إلي غمده . حسن أن تكون لك غيرة مقدسة ، و لكن العنف ليس هو طريقنا . فنحن لنا أسلوب آخر هو الحب . و هكذا لمس الرب أذن العبد فشفاها . و سلم نفسه للخطاة الذين جاء ليفديهم أيضاً … كذلك أن يوحنا و يعقوب الرسولين لم يفهما معني القوة ، عندما قالا له (( أتشاء يا رب أن تنزل نار من السماء و تحرق هذه المدينة )) دفاعاً عنه إذ رفضته تلك المدينة . و لكن الرب أجابهم لستما تعلمان من أي روح أنتما . فأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك العالم بل ليخلص العالم (( لو 9: 54-56) . أن هذا ليس هو أسلوبي . لقد جئت لأخلص ما قد هلك . بنفس هذا الأسلوب تقدم الرب بإرادته نحو الصليب ، ليبذل نفسه فدية عن كثيرين . لذلك نحن يا أخوتي عندما نقف إلي جوار الصليب ، لا نقف لكي نبكي علي المسيح مثلما فعلت المجدلية و مثلما بكت . بنات أورشليم .. ولسنا نقف إلي جوار الصليب ، لكي نرثي المسيح و نؤبنه ، إنما
نحن نقف إلي جوار الصليب ، لكي نمجده و نمجد المصلوب عليه و لكي نقوله تلك الجميلة :
لذلك فنحن نفتخر بالصليب ، ونقول مع بولس الرسول (( وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح به قد صلب العالم لي و أنا للعالم )) . ( غل 6: 14 )) .
(( إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة و أما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله ))
( 1كو1: 18)
لو كان الصليب علامة ضعف ، ما افتخرنا به ، وما كنا نتخذه شعاراً لنا …
لو كان الصليب علامة ضعف ، ما كنا نعلقه فوق كنائسنا و فوق مناراتنا ، وما كنا نضعه علي صدورنا ، و نرشمه علي أيدينا ، و نرسمه في كتاباتنا .. بل أن الصليب عندنا هو رمز للقوة . فيه تظهر قوة المحبة ، وقوة البذل و قوة إنكار الذات ، وقوة الاحتمال . هي القوة في حقيقتها
كثيرون كانوا يقولون للسيد المسيح : لو كنت ابن الله ، انزل من علي الصليب ، فنؤمن بك .. و لو استسلم لإثارتهم و نزل من علي الصليب لهلكنا نحن ، و ضاعت البشرية و ضاع الخلاص .. و لكنه كان أقوي من إثارتهم ، فبقي علي الصليب و لم ينزل ..
أن المسيح لم تغلبه إثارات هذا المجد الباطل : لو نزلت من علي الصليب تكون حقاً ابن الله . و تثبت قوتك ، وتذهل الناس بالمعجزات …؟!! إنه لم يغلب من الملق الباطل ، و لم يغلبه هذا المفهوم الخاطئ لمعني القوة .. كان يقدر أن ينزل من علي الصليب . ولكنه لم يفعل ، لكي نخلص نحن .
ان السيد المسيح لم يفكر في ذاته ، إنما كان تفكيره فينا نحن . لم يهتم بتخليص نفسه من الموت ، إنما فكر في تخليصنا نحن بأن يفدينا بذاته . لم يستسلم للصليب عن ضعف ، و إنما عن حب .
لم يفكر في ذاته (( فالمحبة لا تطلب ما لنفسها ) (( 1كو 13: 5)) . لو كان يفكر في ذاته و كيف تتمجد بأسلوب العالم ، ما أخلي ذاته و أخذ شكل العبد . إنه لم يفكر في ذاته ، لأنه جاء ليبذل ذاته عنا وعندئذ يعرف الناس قوة محبته وقوة بذله (( ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع نفسه لأجل أحبائه (( يو 15: 13)) . و بذلك أعطانا المسيح علي الصليب مثالا للقوة في الانتصار علي الذات من أجل هذا رأينا شيئا عجيباً جداً ، و هو
أن السيد الرب قابل كل تعدياتهم باستسلام عجيب (( كشاه تساق إلي الذبح و كنعجة صامتة أمام جازيها ، فلم يفتح فاه )) ( أش 53: 7) .
كان يعلم بكل الإجراءات التي تعمل ضده و مع ذلك لم يقاوم الشر .. بل قال ليهوذا الاسخريوطي في هدوء ( ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة )( يو 13: 27) . ولسنا نجد تبريرا لكل هذا، سوي أن الرب كان يريد أن يموت عنا . كانت له القوة أن يحطم الصليب و الصالبين. ولكنه رضي به قوة أعظم هي قوة الحب و البذل .
هذه القوة التي كانت له طول رحلة الصليب هي التي سنشرحها الآن بالتفصيل نقطة نقطة متأملين قوته …
كان المسيح قوياً في تقدمه نحو الموت . لم يهجم عليه الناس خفية ، و يأخذوه عنوة ، إنما كان يعلم أنهم سيقبضون عليه . وكان يعرف الموعد الذي يقبضون عليه فيه .
و لذلك قال قبلها لتلاميذه تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح . وابن الإنسان يسلم ليصلب ))
( مت 26: 2)) . بل لا نخطئ إذا قلنا انه كان يعلم الساعة و ذات اللحظة بالضبط . و كان يعرف المكان الذي سيأتؤن إليه فيه . ومع ذلك ذهب بنفسه إلي المكان الذي سيقبض عليه فيه وهو يعلم ، و ذهب في نفس الوقت المحدد . لذلك عندما حل الوقت الذي يعرفه ، أيقظ تلاميذه النائمين في بستان جثسيماني قائلين لهم ( هوذا الساعة قد اقتربت … هوذا الذي يسلمني قد اقترب ((مت 26: 45، 46)) . ولما اقترب عدوه لم يبتعد هو ، بل قام تلاميذه و تقدم لملاقاة العدو … فعل ذلك كله لأنه كان يريد أن يسلم ذاته عنا . من أجل ذلك قال :
(( ..أضع نفسي لآخذها أيضاً . ليس أحد يأخذها مني ، بل أضعها أنا من ذاتي . لي سلطان أن أضعها ، و لي سلطان أن آخذها أيضاً ) ( يو 10: 17، 18) .
إن السيد المسيح يقول أن عدوي قد اقترب ، و يتقدم في قوة و شجاعة لملاقاة العدو . و نحن نسير إلي جوار الرب ، قائلين له (( لك القوة و المجد والبركة و العزة إلي الآبد آمين )) . كان الرب يستطيع أن يبعد الموت عنه ، و لكنه قبل ذلك في رضي و تقدم نحو الموت في قوة و شجاعة ، لأنه من أجل ذلك جاء ( جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين )) .( مز 10: 45).
كان المسيح قوياً عندما قبض عليه ، أن الجنود الذين خرجوا عليه بالسيوف و العصي كانوا خائفين منه و هذا الأمر يشرحه معلمنا يوحنا الإنجيلي الحبيب الذي تبع المسيح حتي الصليب . فيقول (( خرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه . و قال لهم من تطلبون . أجابوه : يسوع الناصري . فأجبهم قائلا أني أنا هو . فلما قال أني أنا هو ، رجعوا إلي الوراء و سقطوا علي الأرض )) (( يو 18: 5، 6) .
وقعوا علي الأرض من هيبته ومن قوته ومن عدم استطاعتهم أن يواجهوه . كانت قوته العزلاء أقوي من هجومه المسلح .
ولو أراد أن يذهب وقتذاك لأمكنه ذلك . ولكنه بقي في مكانه في شجاعة ورصانة . و انتظر عليهم حتي قاموا من سقطتهم و قال لهم للمرة الثانية من تطلبون فقالوا يسوع الناصري . فأجابهم (( قد قلت لكم أني أنا هو . فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون )) (( يو 18: 7-9) وهكذا كان المسيح قوياً وقت القبض عليه . هناك أشخاص عندما يقبض عليهم يرتعشون
و يخافون . أما وقت القبض علي المسيح ، فقط ظهر العكس ، . كان القابضون عليه خائفين منه, واقعين علي الأرض أمامه . لا يستطيعون أن يتقدموا إلي هيبته ، حتي أذن لهم وهو يقول أنا هو )) ..
مثال آخر عن قوة المسيح وقت القبض عليه و هو شفاؤه لأذن ملخس عبد رئيس الكهنة .
و ذلك أن بطرس الرسول تحمس و قت القبض علي المسيح ، و استل سيفه و ضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمني ( يو 18: 10) . أما ربنا الوديع فلم يكن العنف طريقته . لذلك أمر بطرس أن يضع سيفه في غمده . ورفض أن يدافع عن نفسه . أو يدافع أحد عنه . وقال لبطرس موبخاً (( رد سيفك إلي مكانه .. أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلي أبي فيقدم لي أكثر من أثني عشر جيشاً من الملائكة؟! )) (( متي 26: 53)) . نعم كان يستطيع ، و لكنه رفض أن يفعل . لأنه بشجاعة إلي الموت ليخلصنا نحن .. أما عن العبد الذي قطعت أذنه ، فيقول الكتاب أن هذا القوي الذي اتوا للقبض عليه (( لمس أذنه و أبرأها )) (( لو 22: 51))، صانعا الرحمة مع أعدائه ، حتي في أحرج الأوقات .
و نحن نقف جوار المسيح المقبوض عليه و هو يشفي أذن العبد ، ونقول له في أذنه الطاهرة
(( ثوك تاتي جوم, ))
كان عمله هذا إخجالا للجنود ، و ليهوذا ، و لرؤساء الكهنة ، و شهادة عليهم جميعاً ، أو دعوة لهم جميعاً أن يؤمنوا ، فيما بعد … و لقد سار المسيح بينهم و هو مقبوض عليه ، كما يسير الملك وسط عبيده ، أو الخالق وسط مخلوقاته .. كان يقدر أن يفنيهم جميعها لو أراد . ولكنه لم يرد ليخلصنا ..
كان يستطيع أن يفعل مثل إيليا النبي مع رئيس الخمسين الذي جاء يطلب إليه النزول لمقابلة الملك .
فأجاب إيليا و قال لرئيس الخمسين : أن كنت رجل الله ، فلينزل نار من السماء و تأكلك أنت و الخمسين الذين لك . فنزلت نار و آكلته هو و الخمسين الذين له )) (( 2مل 1 :10)) كما أمره فنزلت نار للمرة الثانية و أكلت الخمسين الأخرى مع رئيسها .. أما المسيا الذي جاء ليموت عن البشر ، فلم يفعل هكذا . ما كان أسهل عليه أن يفعل مثلما فعل إيليا ، و لكنه لم يفعل . أن قوته في إمساك نفسه عن أبادتهم ، هي القوة التي خلصنا بها . و هكذا أسلم الرب ذاته عنا بكل شجاعة دون خوف من الموت ..
رؤساء الكهنة كانوا خائفين منه فحاكموه ليلا . و ارتبكوا أثناء محاكمته (( وكانوا يطلبون شهادة زور عليه لكي يقتلوه ، فلم يجدوا ، ومع أنه جاء شهود زور لم يجدوا (( متي 26: 59، 60)) و تعجبوا من هدوئه و صمته . فقام رئيس الكهنة و قال له (( أما تجيب بشيء ؟ ماذا يشهد به هذان عليك وأما يسوع فكان ساكتا )) (( متي 26: 62، 63)) .
لم يكن من النوع الذي يثيره الاتهام ، أو تثيره شهادات الزور .. كان صمته أقوى من الكلام . فشعروا بتفاهة تلك الاتهامات الزور .
و بحثوا عن تهمة أخرى . و استحلفوه أن يخبرهم هل هو المسيح ابن الله . و كان يستطيع أن يصمت أيضاً و يربكهم . و لكنه بكل قوة أجابهم إلي طلبهم و أضاف (( و أيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة و آتياً علي سحاب السماء ))
وكما كان قوياً أمام قيافة ، كان قوياً أيضاً أمام بيلاطس .
هيبته ملكت ذلك الوالي ، فاعترف اكثر من مرة قائلا (( أني لا أجد فيه علة )) (( لو 23: 4، 14، 21) . لم يقنعه بالكلام ، بل بصمته ، بالقوة التي تشع من شخصه . فاحتال ذلك الوالي بأكثر من حيلة لكيما يطلقه علي قدر ما استطاع جبنه أن يفعل . و أخيراً غسل يديه متبرئا من دمه ..أننا نقف إلي جوار المسيح و نقول له في محاكمته :
*و هو علي الصليب . أظلمت الشمس (( وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلي أثنين من فوق إلي أسفل ، و الأرض تزلزلت ، و الصخور تشققت ، والقبور تفتحت و قام كثيرين من أجساد القديسين الراقدين )) (( متي 27: 5، 52) .
وكان لهذه الزلزلة تأثيرها علي قائد المائة و جنوده الحارسين للصليب (( فخافوا جدا و قالوا حقاً كان هذا هو ابن الله (( متي 27: 54))
وصار قائد المائة هذا قديساً عظيماً ، و استشهد علي اسم المسيح ، ويدعي القديس لونجينوس ، و تعيد له الكنيسة يومين في السنة في السنكسار .
و إظلام الشمس كان له تأثير آخر بعيداً في المدينة أثينا ببلاد اليونان .
و بسبب ذلك آمن فيما بعد ديونسيوس الاريوباغوس ، العالم الفلكي ، وعضو مجلس الاريوباغوس أي البرلمان ، فآمن بكرازة بولس الذي شرح له كيف أظلمت الشمس وقت صلب المسيح و قد صار ديونسيوس هذا أول أسقف لأثينا . وقد كان المسيح قوياً وقت الصليب ، عندما غفر لصاليبه و عندما وعد اللص اليمين بدخول الفردوس معه في نفس اليوم .
وكان المسيح قوياً في موته :
*ذلك انه عند موته (( نادي بصوت عظيم و قال يا أبتاه في يديك استودع روحي )) (( لو 23: 46)) . و قد وقف القديس يوحنا ذهبي الفم متأملا في قوة المسيح وقت موته التي ظهرت في عبارة ( نادي بصوت عظيم )) ..
كيف استطاع أن يكون له هذا الصوت العظيم وقت الموت ، وقد كان في حالة من الإعياء الجسدي لا يمكن أن يعبر عنها ؟!
لقد جاهدا جهاداً عنيفاً في بستان جثسمانى حتي (( صار عرقه كقطرات دم نازلة علي الأرض ) (( لو 22: 45)) و بعد ذلك قبض عليه و سار مسافات طويلة علي قدميه إذ حوكم 5 مرات أمام بيلاطس مرة أخري . يضاف إلي هذا الإنهاك الألم المرير الذي كابده عندما جلد 39 جلدة بكل و حشية ، و كم من أناس كانوا يموتون من مجرد الجلد أو يصلون إلي قرب الموت . كذلك سفك منه دم من إكليل الشوك . و كابد آلاما أخري من كثرة اللطم . ثم تحمل آلاما أخري بحمله للصليب ،
حتي و صل إلي غاية الإعياء فوقع تحت الصليب من شدة التعب . مما دعا إلي أن يمسكوا سمعان القيراونى ليحمل الصليب خلفه (( يو 23: 26)) .
بعد كل هذا تحمل آلاما أخري عندما سمر علي الصليب و آلام الصلب لا تطاق … وزالت كل قوته الجسدية مما نزف منه من دماء ، حتي لصق جلده بعظمه ، و انطبق عليه القول :
(( أحصوا كل عظامي )) (( مز 22: 17))
و لما و صل إلي لحظة الموت ، لم تكن فيه أدني قوة بعد ، ولا حتي مقدرة علي الهمس ! فكيف أذن بصوت عظيم ؟
أننا نقف إلي جواره منذهلين ، في تلك اللحظة المقدسة و تقول :
*وكان المسيح قوياً في موته ، لأنه بموته أبطل الموت . و بموته سحق رأس الحية ، و نفذ الوعد الذي أعطي للبشرية منذ أيام حواء (( تك 3: 15)) . وهكذا في موته ظهر كمخلص للعالم .
إن أقوي لحظات المسيح هي لحظة موته . لأنه في تلك الساعة استلم ملكه و ملك علي البشرية كلها ،
و استعاد الملك من رئيس هذا العالم . ولذلك يقول المزمور (( الرب ملك علي خشبة )))
(( مز 95)) الرب ملك و لبس الجلال ، لبس القوة و تمنطق بها ((مز 92))
و لذلك نجد أن صلاة الساعة التاسعة التي نتذكر فيها موت الرب ، هي صلاة مملوءة بمزامير التسابيح و التمجيد و عبارات السجود
ونحن نقف أمام الرب القوي في موته ، لنرتل قائلين :
أول شئ عمله الرب عندما أسلم الروح ، هو أنه قبض علي الشيطان و قيده ألف سنة . ثم بعد ذلك نزل إلي الجحيم ((اف4: 9)) ، و بشر الراقدين هناك علي الرجاء و اقتاد هؤلاء جميعاً ، و دخل بهم مع اللص اليمين إلي الفردوس . بعد موت الرب استطاع آن يفتح باب الفردوس الذي ظل مغلقاً من آلاف السنين منذ سقطة آدم و حواء .
هذا الذي ظنوه ميتاً في القبر ، و ختموا علي قبره بالأختام ، استطاع أن يفتح باب الفردوس و يدخل فيه كل الراقدين علي رجاء قائدا إياهم في موكب نصرته .
ومن القصص الجميلة التي تروي عن الرب بعد موته . أن نيقوديموس وقال قدوس الله ، قدوس القوي ، قدوس الحي الذي لا يموت )) ومن هذه أخذت تسبحة الثلاثة تقديسات المعروفة . و نحن نقف إلي جوار القبر المقدس ، و نقول للرب في موته :
وكان الرب قوياً في قيامته :
وكان قوياً عندما خرج من القبر المغلق ، منتصرا علي الموت .
في الواقع ، أنه من أبرز الأسباب التي تجعل البعض يظن أن السيد المسيح كان ضعيفاً، هو أن الرب باستمرار يخفي قوته .. كان يخفيها من باب الإتضاع . و كان أيضاً يخفيها عن الشيطان
لدرجة أن الشيطان كان يقف متحيراً أمام حقيقة المسيح ، يسأل نفسه : أهو حقاً المسيح أم أنه ليس هو (( يا تري هوا و لا مش هوا )) .. !
لم يكن من الصالح أن يعرف الشيطان حقيقة المسيح ، لئلا يبذل جهده لعرقلة عمل الفداء ، لأن الشيطان لا يحب خلاص العالم ، و كان يتمني أن ذلك لا يتم . و سأحاول هنا أن أعرض عليكم بعض أمثلة لهذا الشك الذي وقع فيه الشيطان نتيجة لاخفاء الرب قوته عنه . أرجو أن تتبعوا معي هذه الأمثلة لنأخذ صورة واضحة عن هذا الأمر .
* كان الشيطان يعلم أن المسيح سيولد من عذراء . فهكذا تنبأ أشعياء النبي قائلا بوضوح
((ها العذراء تحبل وتلد أبناً و تدعو اسمه عمانوئيل)) (( أش 7: 14)) و شرح صفات هذا الابن فقال (( لأنه يولد لنا ولد ، ونعطي ابنا ، وتكون الرئاسة علي كتفه . و يدعي اسمه عجيباً مشيراً آلها قديراً أباً أبدياً رئيس السلام )) (( أش 9: 6)) و سمع الشيطان تأكيد تحقيق هذه النبوة في بشارة الملاك ليوسف النجار (( متي 1: 22، 23)) . كما تأكد بهذا أيضاً من بشارة الملاك للعذراْ بأن القدوس المولود منها يدعي ابن الله (( لو 1: 35 )) . و فعلاً حبلت العذراء مريم . والأكثر من هذا الشيطان رأي أن هذه العذراء عندما زارت اليصابات امتلأت اليصابات من الروح القدس ، وارتكض الجنين بابتهاج في بطنها . وقال لمريم :
(( من أين لي هذا أن تأتى أم ربي إلي )) (( لو 1: 41-44 ))
و قال الشيطان في قلبه لابد أن يكون هذا هو ابن الله و لكنه ارتبك عندما رأي الإله المتجسد يولد في مذود بقر !
كيف يكون هذا !! من غير المعقول أن يكون ابن الله ذلك الفقير المسكين الذي ليس له موضع في البيت ، المحاط بالبهائم !! لابد أنه ليس هو ، إذ كيف يجئ الله إلي العالم بدون استقبال مجيد ، بدون احتفالات ، بدون ملائكة تحيط به ، وبدون أنوار سمائية ، و بدون أن ترتج السماء و الأرض لمجيئه !!
فكر الشيطان في هذا لأنه لا يفهم مطلقاً معني التواضع و إخلاء الذات . ولو كان يعرف ذلك ما صار شيطانا…
ثم سمع الشيطان الملاك يبشر الرعاة قائلاً (( ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم فى مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم علامة : تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود )) (( لو 2: 10- 12)) . فقال الشيطان في قلبه : لابد أن يكون هو و أيد ذلك تسبيح الملائكة (( المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام و بالناس المسرة )) الأمر أذن واضح . لا يمكن أن يرجع السلام إلي الأرض أن لم يكن هذا هو المخلص الذي هو المسيح الرب . و أكد هذا الأمر أيضاً شهادة المجوس ، وانطباق النبوة علي مولود بيت لحم ، و اضطراب ، هيرودس الملك لولادته و سجود المجوس لهذا الطفل المولود (( متي 3: 1-11)) .
و لكن رجع الشيطان فشك في الأمر عندما نظر إلي هذا المخلص الذي سبح له الملائكة ، و سجد له المجوس و اضطراب من هيرودس فإذا به يهرب به يهرب إلي مصر .
كيف يحدث هذا ؟! هل من المعقول أن يهرب الله أمام إنسان ؟! أين قوته و ملكوته و هيبته . لابد أنه ليس هو …
ثم ينظر الشيطان فيجد أن هذا الطفل عندما دخل إلي مصر ، سقطت الكثير من أصنامها و تحطمت . فعرف أن هذا هو تحقيق لنبوة أشعياء النبي القائل (( هوذا الرب راكب علي سحابه سريعة و قادم إلي مصر ، فترتجف أوثان مصر من و جهه ، و يذوب قلب مصر داخلها (( أش 19: 1)) . وقال الشيطان في قلبه. إنه هو بلا شك ، هو المخلص ابن الله .
ولكنه رجع فشك ، عندما رأي هذا الطفل لم يرجع إلا بعد موت الذين كانوا يطلبون نفسه ،
كما رأي أن يوسف النجار خاف علي الطفل من ارخيلاوس الذي ملك علي اليهودية فسكن معه في الناصرة (( متي 3: 20-23)). في الناصرة التي يتعجب الناس أن يكون منها شئ صالح !! (( يو 1: 46)) . فقال الشيطان . كلا إنه ليس هو ..
*و بقي الشيطان في شكه حتي رأي هذا الطفل في الثانية عشرة من عمره جالسا وسط شيوخ المعلمين و هم مبهوتون من علمه . و سمعه و هو يجيب أمه مريم قائلاً (( ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبى )) ( لو 2: 45: 49) فقال الشيطان في نفسه((لابد أن يكون هو )). من أين له هذه الحكمة ، وما معني أكون في ما لأبي ؟!
ثم رجع الشيطان فشك عندما رأي الصبي الذي أذهل المعلمين و الذي قال (( ينبغي أن أكون في ما لأبى )) . وإذ به يعيش خاضعاً لمريم و يوسف (( لو 2: 51))
كيف يخضع لهما . وهو الذي ينبغي أن تخضع له السماء و الأرض . لابد أنه ليس هو . وزاد هذا الشك عنده أنه و جده بعد ذلك يعيش 18 سنة (( حتي الثلاثين من عمره )) نكرة غير مشهور ، يعمل كنجار بسيط . وهذه زهرة العمر . فكيف يكون هو الله و يحتمل أن يعيش هكذا طوال هذه السنين الذهبية من العمر . لابد أنه ليس هو . ثم عاد الشيطان فسمع يوحنا المعمدان يشهد للمسيح قائلاً (( في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه . هو الذي يأتي بعدي ، الذي صار قدامي ، الذي لست أهلاً أن أحل حذائه ، و أشار إلي المسيح قائلا (( هواذ حمل الله الذي يرفع خطية العالم )) (( يو 1: 26-29)) (( لست أهلا أن أنحني و أحل سيور حذائه . أنا عمدتكم بالماء ، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدوس )) (( مز 1: 7،8)) . فقال الشيطان:لابد أنه هو …
ثم عاد الشيطان فانذهل إنذهالاً لامثيل له ، عندما نظر إلي هذا العظيم الذي لا يستحق المعمدان أن ينحني و يحل سيور حذائه ، هو المخلص الذي يرفع خطية العالم كله و يعمد الناس بالروح القدوس ، وإذ به آتياً ليعتمد من يوحنا مثل باقي الناس.
كان ينتظر أن يوحنا هو الذي يعتمد منه. أن يسلمه الأمانة حالماً يأتي . فيتولي عمله مباشرة ، و يعمد يوحنا الذي يعمد الناس . فهكذا تكون الكرامة . و لكنه علي العكس سمعه يقول ليوحنا
(( اسمح الآن )) . و يسمح يوحنا و يعمد المسيح . فانذهل الشيطان الذي لا يفهم الإتضاع ، وقال في قلبه . كلا. أنه ليس هو ..
و لكن حدث في العماد شئ عجيب أثبت أنه هو . ذلك أن السماء انشقت و الروح نزل مثل حمامة علي المسيح . وكان صوت من السماء (( أنت إبني الحبيب الذي به سررت ))
(( مز 1: 10-11)) . فقال الشيطان . بلا شك أنه هو. هوذا شهادة الآب و اضحة .
ثم عاد الشيطان فشك في الأمر . إذ تأمل هذا الذي شهد له الآب و الروح القدوس وقت العماد ، فوجده ملقي علي الجبل ، صائماً و قد جاع أخيرا .
إذ كيف يجوع و هو القادر أن يحول الحجارة إلي خبز و يأكل . وتأكل . و تأكد له أنه ليس هو ، إذ استطاع هذا الشيطان أن يأخذه و يوقفه علي جناح الهيكل ، وأن يأخذه إلي جبل عال (( متي 4: 5،8)) . ووصل تأكد الشيطان من أنه ليس ابن الله علي الأطلاق ، إلي حد أنه تجرأ عليه و قال له أعطيتك هذه جميعها إن خررت و سجدت لي )) . (( متي 4: 9)) و لكن عاد فخاف و شك بقوة هذا الجائع الصائم عندما انتهره قائلا (( اذهب يا شيطان ، فتركه )) وإذا ملائكة جاءت فصارت تخدمه
(( متي 4: 11))
وزاد خوف الشيطان . و رجع يقول أنه هو عندما رآه يعمل معجزات لم يعملها أحد من قبل . ولكنه و جده يخفي بعض هذه المعجزات وراء صلوات يصليها ،
و البعض من المعجزات الخارقة يعملها في يوم السبت فيشتمه الكتبة والفريسيون كناقض للسبت . ثم رآه يعيش بلا لقب ، و بلا وظيفة ، و بلا مسكن ، يحيط به ضعفاء الناس . فقال في نفسه . كلا، إنه ليس هو …
ثم سمعه الشيطان يقول لنيقوديموس (( ليس أحد صعد إلي السماء ، إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء (( يو 3: 13)) . فقال . ألعله هو ؟! كيف يكون في السماء ، وهو قائم علي الأرض مع نيقوديموس . ألعله أذن موجود في كل مكان ؟! إذن هو الله . أليست عبارة (( نزل من السماء تؤكد هذا ))؟ ثم سمعه يقول (( هكذا أحب الله العالم حتي بذل أبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية ..
فقال الشيطان لابد أنه هو : الابن الوحيد ، الذي في السماء ، الذي نزل من السماء ، الذي يؤمن به تكون له الحياة الأبدية ، ولكنه عاد فشك بسبب عبارة (( ابن الإنسان ))
التي يستخدمها المسيح كثيراً . لماذا يقول في نفس الوقت (( ينبغي أن يرفع ابن الإنسان ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية )) (( يو 3: 14- 17)) .
و لكن أمام المعجزات الكثيرة الدالة علي لاهوته ، و أمام قوته الجبارة علي إخراج الشياطين ، يضطرب هؤلاء أن يعترفوا له صارخين (( أنت هو المسيح ابن الله )) (( لو 4: 41))- فكان ينتهرهم .. ثم يعود الشيطان فيشك ، عندما يجد الرب متعباً من السير أو جالساً عند البئر ، أو قائلا للمرأة أعطيني لأشرب !! ..
* ينتهر المسيح البحر و الموج فيقول الشيطان ، أنه هو . و لكنه يشك إذ يراه نائماً في السفينة فيقول في نفسه كيف ينام وهو الذي يقول عنه المزمور (( أنه لا ينعس و لا ينام )) !!
و كما يرتبك الشيطان في من يكون يسوع الناصري هذا ، يري باقي الناس مرتبكين : فيقول انه يوحنا المعمدان ،، و آخرون أنه ارميا ، و آخرون أنه واحد من الأنبياء )) (( متي 16: 14)) . و يسأل المسيح تلاميذه : و أنتم من تقولون إني أنا . فيجب سمعان بطرس (( أنت هو المسيح ابن الله الحي )) . و يقول المسيح هذه الشهادة و يطوب سمعان عليها و يقول له (( أن لحما و دما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات )) . (( متي 16: 17)) .
و يري الشيطان أن هذا اعتراف صريح و اضح لا يقبل التأويل . فيقول في نفسه لا بد أنه هو حقاً بلا شك ..
ولكنه يسمع الرب بعد ذلك مباشرة يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلي أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ و رؤساء الكهنة و الكتبة ، و يقتل وفي اليوم الثالث يقوم ))
فيتعجب كيف يكون ابن الله و يتألم و يقتل . ألعل هذه هي الوسيلة التي خلص بها الناس . أذن لابد من منعه عنها .
وهكذا يضع علي فم بطرس كلمة فيقول لمعلمه (( حاشاك يا رب . لا يكون لك هذا )) و يعرف الرب أنها كلمة من الشيطان فيلتفت و يقول لبطرس (( أذهب عني يا شيطان . أنت معثرة لي ، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس )) .. (( متي 16: 21- 23)) .
ثم يذهب المسيح إلي أورشليم ، و يستقل كملك عظيم ، علي اعتبار أنه المسيا المنتظر . و يسبحه الأطفال تحقيقاً لنبوة المزمور(( من أفواه الأطفال و الرضعان هيأت سبحاً )) ((مز 8: 2)) و يقوم الرب في هيبة عظيمة و يطهر الهيكل بسلطان . فيقول الشيطان : ألعله هو ، ولكنه يجده قد أنسحب إلي بيت عنيا ، فشك ..
* ثم يأخذ الرب في عنف في تحطيم دولة الشيطان فيكشف للناس في صراحة تامة رياء الكتبة و الفريسيين قائلاً و يل لكم أيها الكتبة و الفرسيون المراؤون .. )) (( متي 23)) . كما يحطم هيبة الكهنوت اللاوي بمثاله عن الكرامين الأردياء (( لو 20: 9- 19)) ثم يلقي في الخزي طوائف الفريسيين و الهيرودسيين و الصدوقيين حتى ما يستطيعون أن يجيبوه بكلمة (( مر12)) . و عند ذلك يتخذ الشيطان عدته لتسليم المسيح ، و يحدث التشاور في اليوم الأربعاء …
* و يرى الشيطان أنه يغسل أرجل تلاميذه في يوم الخميس فيتشجع قائلا في قلبه أنه ليس هو . إذ كيف يكون الرب و يغسل أرجل البشر ؟! وهكذا يأخذ يهوذا اللقمة يدخله الشيطان و يذهب للتنفيذ …
* ثم يسمع الشيطان حديث المسيح الأخير مع التلاميذ ، وكيف أنه سيرسل لهم الروح القدس ، فيقول ألعله هو ؟! من يستطيع أن يرسل روح الله إلا الله وحده !
* ثم يسمع صلاته الطويلة الموجهة إلي الآب (( يو17)) التي يقول له فيها عن التلاميذ … ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد )) (( كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك )) (( احفظهم في أسمك ليكونوا واحد كما نحن )) . فيرتعب الشيطان و يقول : لابد أنه هو . ويتذكر قوله من قبل (( أنا والآب واحد )) (( يو 10: 30)) ، وقوله أيضاً لفيلبس ((من رآني فقد رأي الآب . فكيف تقول أنت أرنا الآب . ألست تؤمن أني أنا في الآب و الآب في )) (( يو 14: 8- 10)) . ويخاف الشيطان قائلاً لابد أنه هو ..
ثم يعود وينظر إلي هذا الذي يقول (( أنا والآب واحد . من راني فقد رأي الآب )) فإذا به يراه يجاهد في البستان طالباً أن تعبر عنه تلك الكأس . وقد (( صار عرقه كقطرات دم نازلة علي الأرض )) (( لو22: 44)) .
فيطمئن الشيطان ويقول : كلا ، أنه ليس هو . ويأتي الجند للقبض عليه .
* وينظر الشيطان فيري أن الجند الذين أتوا بسيوف و سلاح وعصي للقبض علي المسيح ، قد وقعوا علي الأرض من فرط هيبته و هو أعزل ، فينذهل . ويراه وهو يشفي أذن العبد التي قطعها بطرس بسيفه . فيقول : لابد أن يكون هو . من غيره بهذه الجرأة ، وبهذه الهيبة ، وبهذه المحبة نحو أعدائه ، وبهذه القدرة المعجزيه . ولكنه يراه يسير معهم كشاة تساق إلي الذبح ، لا يفتح فاه . فيطمئن و يقول كلا . أنه ليس هو ..
* ويحاكم الرب أمام رؤساء الكهنة . ويقف الشيطان ينصت بكل اهتمام ليري ماذا يكون الموقف
ويتردد نفس السؤال الشيطان الذي يسأله منذ التجربة علي الجبل . ولكنه في هذه المرة سؤال يصدر من رئيس الكهنة قائلاً (( هل أنت المسيح ابن الله )). ويجيبه الرب قائلاً (( أنت قلت . وأيضاً أقول لكم : من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وأتياً علي سحاب السماء))..(( متي 26: 64)) .
ويسمع الشيطان هذا الاعتراف الصريح من السيد المسيح ، فيقول في نفسه العله هو ، وهو الذي قال كثيراً من قبل أنه سيأتي علي سحاب السماء؟! ولكنه يعود فيشك إذ يراه محتقراً ومخذولاً أمام الناس ، يشتمونه ويلطمونه ويهزأون به ، وهو لا يفتح فاه .
بذل ظهره للضاربين وخديه للناتفين ، ولم يرد وجهه عن خزي البصاق … كما يراه واقعاً تحت الصليب من التعب ، حتي حمله عنه سمعان القيرواني . فيقول كلا . من المستحيل أن يكون هو . أن الشيطان يفهم الكرامة والقوة بطريقة العظمة الباطلة . لذلك قال في نفسه لا يمكن أن يكون هو . وصرخ في أفواه العامة (( اصلبه اصلبه )) .. أما الرب تزال ترن كلمته (( نفسي أنا أضعها من ذاتي … لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً )) ..
ويرفع المسيح علي الصليب ، و الشيطان ما يزال معذباً في شكوكه . وأذا أخفي الرب عنه قوته ، ما يزال يسأل سؤاله القديم (( إن كنت ابن الله ، فأنزل من علي الصليب )) ((متي 27: 40)) .
وأول عبارة يقولها الرب علي الصليب يبدأها بقوله (( يا أبتاه )) (( يا أبتاه اغفر لهم …)) وكلمة
(( أبتاه )) هذه تزعج الشيطان . فيقول في نفسه (( ألعله هو المسيح )) ؟ ويسأل علي فم اللص اليسار قائلاً (( إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا )) (( لو 23: 39))
ويقول السيد الرب للص اليمين (( الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس )) (( لو 23: 42)) . وهذه العبارة تزلزل الشيطان فيخاف . ما هذا الذي يقوله ؟! ألا يعلم أن الفردوس مغلق منذ أكثر من خمسة آلاف سنه . وعلي بابه يوجد ملائكة من طائفتي الأولي (( الكار وبيم )) بلهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة (( تك 3: 24)) . فكيف يفتح الفردوس ؟ وكيف يدخله هذا المصلوب واللص معه ؟! ألعله المسيح الذي بصلبه يخلص العالم كله ؟! لو حدث هذا لكانت كارثة لدولة الشياطين جميعاً ولكل عملهم منذ آدم …
*ومن الساعة السادسة تحدث ظلمة علي الأرض . ويري الشيطان أن حجاب الهيكل قد أنشق ، وأن الصخور قد تفتت ، و الأرض قد تزلزلت ، و القبور تفتحت . فيزداد رعبه ويقول لا يشك أنه هو ، هو المسيح المخلص .
*ولكنه علي الرغم من الزلزلة و الظلام يسمع صوت المسيح يقول إلهي إلهي لماذا تركتني )) ثم يقول (( أنا عطشان )) . فيطمئن الشيطان ويقول (( أنه ليس هو ))
وينتظر الشيطان حتي يموت المسيح فيقبض علي روحه كباقي البشر السابقين و يحدرها معه إلي الجحيم ، ولكنه يفاجأ بأن المسيح يصرخ بصوت عظيم (( يا أبتاه في يديك استودع روحي )) . و يدهش الشيطان . أما يزال هذا المصلوب يقول يا أبتاه . ألعله حقاً ابن الله . وما معني هذا الصوت العظيم ؟ من أين أتته هذه القوة ؟ ويقول في نفسه كيف يودع روحه في يدي الآب . الحق أنه القوة ؟ ويقول في نفسه كيف يودع روحه في يدي الآب . الحق أنه يودعها في يدي أنا ويتقدم ليأخذ تلك الروح وهو مرتعب في شكه ، فيمسكه الرب بقوة لاهوته ، ويقيده ألف سنه …
في أسبوع الآلام نري السيد المسيح كما وصفه النبي (( محتقراً ومخذولا من الناس .. فلم يعتد به )) (( أش 53: 3)) . ونحن إذ نراه محتقراً من أجلنا ، نتابعه بتلك التسبحة الخالدة (( لك القوة و المجد و البركة و العزة إلي الآبد أمين )) . يا عمانوئيل إلهنا وملكنا )) …
وفي الحقيقة انه لم يدخل ذاته من المجد في أسبوع الآلام فقط ، بل بذل كرامته من أجلنا في كل حين .
حتي كان (( بلا كرامه في وطنه )) . وكانوا يعيرونه قائلين (( أليس هذا ابن النجار ؟! )) (( متي 13: 55)) . من أجلنا احتمل العار ، وشبع شتائم وتعبيرات … من أجل تواضعه في الجلوس مع العشارين و الخطاة ، قالوا عنه أنه أكول وشريب خمر . ومن أجل محبته في شفائه للمرضي عنه أنه كاسر للسبت … ومن أجل اهتمامه بتعليمنا التعليم البعيد عن الشكليات الذي يترك الحرف ويدخل إلي العمق ، وقالوا عنه أنه ناقض للشريعة .. ونحن إذ نراه مهانا من أجلنا ،نتبعه بنفس التسبحه
(( لك القوة و المجد ))
نحن نعلم يارب لماذا أهانوك . لقد فعلوا لذلك لأنك لست مثلهم ، لأن تواضعك كان يكشفهم .
لم تفعل مثلهم إذ كانوا (( يعرضون عصائبهم ، ويطيلون أهداب ثيابهم . و يحبون المتكأ الأول في الولائم و المجالس الأولي في المجامع ، و التحيات في الأسواق ، وأن يدعوهم الناس سيدي سيدي )) (( متي 3: 5-7)) . أما أنت فعشت متواضعاً و ديعاً ، تعاشر الأدنياْ والصغار والمحتقرين ، و تؤاكل الخطاة و العشارين ، و تلمسك المرأة الخاطئة ، و تناقشك المرأة السامريه ، و يقترب إليك الأطفال . و أنت تسير فقيراً ، بلا منصب و لا مال ، وليس لك أين تسند رأسك
لقد رفضوا أن يمجدوك ، لأنك احتقرت أمجادهم ، وقلت (( مجداً من الناس لست أقبل )) (( يو 5: 41))
وهكذا رفضت الملك و العظمة . أما نحن الذين نعرف حقيقة عظمتك ، فنخاطبك قائلين (( لك القوة والمجد )) .. أن كل تحقيرهم لك لا يمكن أن ينقصك شيئاً من مجدك . لقد باعوك بثمن عبد (( ثلاثين من الفضة )) . وباستهزاء ألبسوك ثوباً أرجوانياً ،، ووضعوا إكليل من الشوك فوق رأسك . أما نحن فنتبعك في كل ذلك قائلين (( لك القوة والمجد والبركة والعزة إلي الآبد آمين ))..
هم يحتقرونك ، لأنك أخذت شكل عبد . أما نحن فنمجدك ، أننا نعرف من أنت ..
أنت المساوي للآب في الجوهر (( وكل ما الآب فهو لك )) (( يو 17: 10)) . وأنت (( الكائن في حضن الآب منذ الأزل (( يو 1: 18)) . (( بهاء مجده ورسم جوهره )) (( عب 1: 3)).
نعم أننا نمجدك من أجل (( المجد الذي كان لك عند الآب قبل كون العالم )) (( 17: 5)) . أنت الذي لك كل سلطان في السماء وعلي الأرض )) (( متي 28: 18)) ..
أنت ممجد قبل أن نكون ، وقبل أن نوجد . أنت الذي (( تجثو باسمك كل ركبة ممن في السماء ومن علي الأرض ومن تحت الأرض)) ((في 2: 10)) . قبل أن نمجدك نحن ، كانت وما تزال تمجدك الملائكة ورؤساء الملائكة ..(( ألوف ألوف وقوف قدامك ، وربوات ربوات يقدمون لك الخدمة .. ويصنعون كلهم كلمتك يا سيدنا )) . وقبل الملائكة وقبل كل خليقة أخري كنت ممجداً أيضاً ، وأنت كائن وحدك . لست محتاجاً إلي مخلوق ليمجدك . فأنت ممجداً بذاتك ، وممجداً بصفاتك . ممجد بلاهوتك ، لست محتاجاً بذاتك ، وممجد بصفاتك . ممجد بلاهوتك ، لست محتاجاً إلي مجد من أحد . أنت (( الأول و الآخر ، الألف و الياء ، البداية و النهاية )) (( رؤ 22: 13)) ..
وعندما نمجدك ، فلسنا نأتي بشيء جديد عليك . فحتى وسط إخلائك لذاتك ظهرت أمثلة كبيرة لتمجيدك …
فقد مجدتك الملائكة في ميلادك عندما بشرت الرعاة ، ومجدك المجوس عندما سجدوا لك مقدمين هداياهم التي تليق بمجدك . وتمجدت عندما سقطت أصنام مصر أمامك في زيارتك لها وأنت طفل ((أش19: 1)) . ومجدك يوحنا المعمدان عندما شهد قائلاً (( يأتي بعدي من هو أقوي مني ، من لست مستحقاً أن أنحني وأحل سيور حذائه )) …
وظهر مجدك وقت العماد ،
عندما نزل الروح القدس بهيئة حمامة ، وكان صوت من السماء قائلاً (( أنت ابني الحبيب الذي به سررت )) (( لو 3: 22)) .
وظهر مجدك أيضاً علي جبل التجلي ، عندما أضاء وجهك كالشمس ،
وصارت ثيابك بيضاء كالنور . وقال الآب من السحابة (( هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت . له اسمعوا )) .. (( متي 17: 2- 5)).
وظهر مجدك في معجزاتك الكثيرة ،
حتي الشياطين نفسها لم تحتمل وكانت تعترف لك . بل ظهر مجدك علي جبل التجربة ذاته ، عندما انتهرت الشيطان فذهب ، وإذا ملائكة جاءت تخدمك (( مر 1: 13)) …
وظهر مجدك ليوحنا الرائي ، عندما رآك وسط المنائر الذهبية .
ووجهك كالشمس وهي تضئ في قوتها ، وعيناك كلهيب نار ، وصوتك كصوت مياه كثيرة . حتي أن يوحنا لم يحتمل هيبة ذلك المنظر العظيم ، فسقط عند رجليك كميت (( رؤ1 : 13- 17)) ..
وستأتي أيضاً في مجدك ، في مجيئك الثاني ، علي سحاب السماء.
إذ يقول الكتاب أنك ستأتي في مجدك وجميع الملائكة القديسين معك(( متي 25: 31)) . (( السحاب و الضباب قدامك ، العدل والقضاء قوام كرسيك …تضئ بروقك المسكونة … رأت الأرض فارتعدت ، وذابت الجبال مثل الشمع )) (( مز 97)) .
أننا عندما نمجدك ، تتقدس أفواهنا بتمجيدك ، وأنت لا تزيد شيئاً .
ونحن في الحقيقة عندما نمجدك ، لسنا نعطيك مجداً ، وإنما نعترف بمجدك . وأنت يارب كالشمس : هي منيرة سواء أعترف الناس بنورها أو لم يعترفوا . اعترافهم بنورها لا يزيدها نوراً هي منيرة بذاتها …
أننا لسنا نمجدك فقط في عظمة مجيئك الثاني حينما يكون مجدك واضحاً ، وأنما نمجدك الآن في عمق آلامك .
نسير وراء آلامك خطوة خطوة ونحن نهتف قائلين (( لك القوة والمجد … يا عمانوئيل ألهنا وملكنا )) . ونمجدك بذلك اللحن الجميل الذي نقول لك فيه
_ في قطعة موسيقية رائعة خالدة ، لا مثيل لها في موسيقي العالم (( كرسيك يا الله إلي دهر الدهور ، قضيب استقامة هو قضيب ملكك )) …
و بتمجيدنا لك إنما نحتج علي ما فعله بك المتآمرون و الصالبون .
نحتج علي ما فعلته البشرية الجاحدة بك . ونري أن مجدك الحقيقي كان في صليبك الذي احتملته لأجلنا . و بتمجيدنا لك في صلبك ، إنما نقبل في شرف مجد الصليب لنا كحياتنا وفي خدمتنا . بل نغني مع بولس الرسول (( مع المسيح صلبت ، لأحيا لا أنا بل المسيح الذي يحيا في (( غل 2: 20)) . بهذا اللحن الجميل نمجد الرب في آخر صلوات يوم الجمعة الكبيرة عندما يكون . فنرتل له قائلين عرشك يا الله إلي دهر الدهور …)) . وهذا اللحن نمجد به الرب أيضاً في يوم الثلاثاء عندما يعلن الرب موعد لبه بقوله لتلاميذه في الإنجيل (( تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح ، وابن الإنسان يسلم ليصلب ))
(( متي 26: 2)) . و بنفس النغم الجميل نمجد الرب بلحن أننا نمجدك يا رب في صليبك ، وليس في معجزاتك …
نحن نتبع سيدنا المسيح في صلبه ، ونقول في أذنه لك البركة . لأن الكتاب يقول (( ملعون كل من علق علي خشبة )) (( غل 3: 13)) .
لذلك كان لابد أن تدفن في نفس اليوم جثة هذا المستوجب الموت و لا يبيت معلقاً ، لئلا ينجس الأرض ، لأن المعلق ملعون من الله (( تث 21: 22، 23)) . وهكذا حمل الرب عنا لعنه الناموس ، و(( صار لعنة لأجلنا )) . ولكننا نعلم أنه قدوس بلا خطية ، و أن اللعنة التي حملها هي التي لعنتنا نحن ، هي اللعنات التي تستوجبها خطايانا حسب الناموس (( تث 28)) . أنه ليس خاطئا ، حاشا . بل هو حامل خطية ، خطية غيرة ، خطية العالم كله . لذلك نحن نتبعه آسفين علي ما حملناه إياه ، قائلين له من عمق قلوبنا (( لك القوة والمجد و البركة … يا عمانوئيل إلهنا وملكنا )) …
بسبب هذه اللعنه صلبوه خارج المجلة ، لكي لا ينجسها ، ونحن في أسبوع آلامه نخرج وراءه أيضاً كما معلمنا بولس الرسول
(( فلنخرج إذن إليه خارج المحلة حاملين عاره (( عب 13: 13)) . نعم نحمل عاره (( حاسبين عار المسيح غني أعظم )) كما قيل عن موسى النبي (( عب 11: 26)) . وهكذا تجلس الكنيسة طوال أسبوع الآلام خارج المحلة ، بعيدا عن المذبح ، بعيدا عن الهيكل ، بعيدا عن الخورس الأول ، خورس القديسين ، متذكرين خطيتنا التي أخرجتنا خارج المحلة مثل آدم عندما طرد من الفردوس . وإذا نتبع الرب خارج المحلة ، نقول له : أنت البار ، ونحن الأشرار . نحن نستحق اللعنة و الطرد ، أما أنت فلك البركة إلي الآبد آمين ياربي يسوع المسيح المخلص الصالح .
بينما ينظر اليهود إلي صليب المسيح كرمز للذل و العار ، نقول له نحن : لك البركة و لصليبك ننال البركة في كل شئ
الكهنة يرشمون به الشعب فيتباركون و برشم الصليب يتم التكريس و التقديس . به نرشم المعمودية ، فننال بركة الميلاد الجديد . وبه نرشم كل عضو من أعضائنا في سر الميرون ، فتتبارك أعضاؤنا جميعاً وتتقدس . وبه تتم الرشومات المقدسة في الأفخارستيا وفي سر الكهنوت وفي جميع أسرار الكنيسة ، ننال به النعمة و البركة و المواهب ، و نصرخ من أعماقنا (( لك البركة )) …
به نرشم طعامنا قبل أن نأكل ، وبه نرشم ذواتنا قبل أن ننام و به ننال البركة في كل شئ . وإذ ننظر إلي بركات الصليب ، نقول للرب في آلامه (( لك البركة إلي الآبد آمين يا عمانوئيل إلهنا و ملكنا )) …
لك يا رب البركة التي فقدناها منذ سقطة آدم ، ظللنا نحلم به حتي هذا اليوم ، منتظرين أن ننالها منك ، أنت يا من بك تتبارك جميع قبائل الأرض …
عندما خلق الإنسان باركه الله ، ولكنه عندما سقط ، دخلت بسقوطه اللعنه إلي الأرض ، إذ قال الرب لآدم (( ملعونة الأرض بسببك )) ((تك 3: 17)) . ثم بدأت اللعنه تدخل إلي البشر أنفسهم ، فلعن الرب قايين (( تك 4: 11)) . ثم لعن كنعان ونسله (( تك 98: 25)) . ثم امتدت اللعنه حتي وصلت إلي خاطئ . إذ تقول الشريعة للإنسان (( إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل جميع وصاياه و فرائضه … تأتي عليك جميع هذه اللعنات و تدركه … يرسل الرب عليك جميع هذه اللعنات و تدركك … يرسل الرب عليك اللعن و الاضطرابات في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله حتي تهلك و تفني سريع …(( تث 28: 15- 20))
ووسط لعنات الناموس ، كانت البشرية تحلم بتحقيق وعد الله لإبراهيم عندما قال له بنسلك نتبارك جميع أمم الأرض )) (( تك 22: 18)) .
و ظلت البشرية تترقب هذا النسل الذي تتبارك به جميع أمم الأرض … ومرت أجيال طويلة و البشرية مدنسة في سقطاتها (( الجميع زاغوا و فسدوا و أعوزهم مجد الرب ، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد )) .. وظلت البشرية تنتظر مجيئك حتي مجيئك حتي أتيت ، أيها المحب الحنون ، الذي ترتفع عنا جميعاً لعنه الناموس ، وبك تتبارك جميع قبائل الأرض . ونحن نقف إلي جوارك علي الصليب ، واثقين من وعدك لأبينا إبراهيم . وننظر إليك وأنت تغمس زوفاك في دمك الكريم ، وتنضح علينا فنطهر . و نرتل لك بكل تمجيد و تقديس : (( لك البركة إلي الآبد آمين )) ..
لك البركة التي منحتها للعالم ، فتتبارك في كل أجناسه و أجياله ولو لم تكن لك هذه البركة لهلك العالم كله في خطاياه .
لك البركة التي نقول لك عنها في القداس (( وباركت طبيعتي فيك)) . لك البركة غير المحدودة التي باركت بها العالم كله …
لك البركة التي باركتنا بها نحن الأمم المدعوين غرلة ، الذين كنا بدون مسيح ، أجنييبن و غرباء عن عهود الموعد ، لا رجاء لنا … فصرنا ببركتك قريبين ، ولم نعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القديسين و أهل بيت الله . (( أف 2: 11- 19)) .
لك البركة ، لأنك قدوس . لذلك نرتل لك اللحن يوم صلبك قائلين
(( قدوس الله ، قدوس الحي الذي لا يموت الذي صلب عنا ارحمنا )) … وإذ نرتل لحن قداستك أنما ننزهك عن كل ما اتهموك به . وأذ نقول لحن (( آجيوس )) هذا بالنغم الحزايني ، فلسنا نحزن عليك ، إنما نأسف في قلوبنا لأن البشرية قدمتك كخاطئ إلي الصليب ونسبت إليك ما لا يليق . أما أنت آيها القدوس ، المولود من الروح القدس، الذي أنت وحدك قدوس ، فلك البركة إلي الآبد آمين .
هذه البركة منحتها أولاً للص اليمين ، عندما أدخلته معك في الفردوس . وبهذه البركة باركت جهال العالم الذين أخزيت بهم الحكماء ، وباركت بها تلك الأوان الخزفية الضعيفة التي حملت اسمك القدوس …
من كان يظن أن هؤلاء الصيادين الضعفاء يصيرون في يديك كالخمس الخبزات ، فتشبع بها العالم كله )) في كل الأرض خرج منطقهم ، وإلي أقطار المسكونة كلماتهم )) (( مز 19: 4)) . من كان يظن أن هذه الجماعة الخائفة المختبئة في العلية ، يمكن أن تخرج لتقف أمام أباطرة و أمام فلسفات و أمام أديان ، وتملاْ الأرض كلها … أنها البركة التي قيلت لآمنا رفقة (( صيري ألف ربوات ، وليرث نسلك باب مبغضيه )) (( تك 25: 60)) . نعم يا رب لك البركة …
كانت الخطية قد حجبت البركة . فلما نزعت هذه الخطية عنا . أرجعت إلينا البركة أيضاً .
ورددت الإنسان إلي رتبته الأولي . و قلت له في حنو (( أباركك ، وتكون بركة )) (( تك 12: 2)) . نطلب إليك أن تديم بركتك علينا ، في كل ما تحمل من نعمة ومن كثرة … و لترجع إلينا تلك البركة التي سمعنها منذ اليوم السادس حينما قلت لنا (( اثمروا و اكثروا ، واملاْوا الأرض ، و أخضعوها )) . (( تك 1: 28)) .
لك العزة ، لانك (( ملك الملوك ورب الأرباب )) (( رؤ 17: 14)) .
وأن كنت قد رفضت الملك العالمي . فأنت تملك علي القلوب وملكوتك في داخلنا . وحتى الذين لم يملكوك في قلوبهم ، كانوا يخافونك
لك العزة ، لأن لك الهيبة . ولك الوقار ، ولك المخافة..
يمكننا أن تخفض ذاتك متي تشاء ، أو ذاتك في أتضاع . ولكن ذلك لا ينقص شيئاً من عظمتك ووقارك . كم من مرة كان إخلاؤك لذاتك ، يسمح لأعدائك أن يمسكوا حجارة ليرجموك ، أو يقدرون أن يفعلوا بك شئ . بل كنت تجتاز في وسطهم تمضي ، ولا يستطيع أحد أن يمد إليك يدا . (( لو 4: 40)
ولم يستطيعوا أن يقبضوا عليك إلا عندما أتت الساعة ،
الساعة التي حددتها أنت لتسليم ذاتك بإرادتك وحدك . كان الكل أمامك يخافون منك. حتي عندما كانوا يسألونك ما كانوا يصمدون في جدالهم معك . كنت عزيزا في كلامك معهم ، حتي وأنت فتي صغير كانوا يسمعونك و يبهتون و يعجبون …
حتي الشيطان كان يشعر في أعماقه أنك عزيز الجانب لا يقوي عليك .
سمح إتضاعك له أن يقترب منك . ولكن هيبتك ملكته عندما انتهرته ، فهرب من أمامك ، ولم يستطيع أن يكمل حديثه معك . انتهت تجاربه لك عند هذا الحد .
كنت عزيزا طول حياتك . مهابا ومخافاً . وما قصة الصليب كلها الا رد فعل لخوف أعدائك منك .
كانوا يشعرون أنك أقوي منهم في كل شئ أقرب منهم إلي القلوب ، وأكثر منهم إقناعا للناس . فخافوا علي سلطانهم منك . ونحن نقف يارب إلي جوار صليبك ، نقول لك علي الرغم من هذه الإهانات و الآلام (( لك العزة إلي الآبد آمين يا عمانوئيل إلهنا وملكنا))