النصوص
التى أعتمد عليها أريوس وأتخذها أساساً لبدعته
أولاً: نصوص لبيان وحدانية الله:
1- "أسمع يا اسرائيل أن الرب الهنا رب واحد"(1)
هذا النص يدل على الوحدانية ولا يتعارض مع التثليث والمسيحية الأرثوذكسية تؤمن بالوحدانية وتؤمن أيضاً بالتتثليث ولا يتعارض بين الوحدانية وبين التثليث.. لأن الوحدانية من جهة وأما التثليث من جهة أخرى.. الوحدانية فى الجوهر وفى الذات الالهية لان الجوهر الألهى واحد والذات الالهية واحدة.. وأما التثليث فتثليث فى الأقانيم.. تثليث فى الصفات الالهية وهى الصفات التى تقوم عليها الذات الالهية.. وبدونها تنعدم الذات الالهية الواحدة.. وهذا النص المقدس أورده السيد المسيح فى العهد الجديد كما هو للدلالة على الوحدانية… وهذا النص هو أحد النصوص التى أستند إليها مجمع نيقية المسكونى سنة 325م عندما قرر قانون الايمان.
"نؤمن بإله واحد " وعندما قال أيضاً "نؤمن برب واحد"
وإذا كان أريوس يورد هذا النص ليعارض به عقيدة الكنيسة المسيحية الارثوذكسية فى التثليث وفى أزلية السيد المسيح له المجد فهذا يدل فى نفس الوقت على سوء فهم آريوس للعقيدة المسيحية فى التوحيد والتثليث معا..
(2) "فقال له يسوع لماذا تدعونى صالحا أنه لا صالح إلا الله وحده"(2).
وهذا نص آخر يؤيد الوحدانية ولا يتعارض مع التثليث.. فالسيد المسيح عندما نطق بهذا القول المقدس أراد به أن يستثير ايمان الشباب الحقيقى فى شخصه المبارك بإعتباره الاله المتجسد.. حيث أن الله فى حقيقته وجوهره غير منظور ولكنه أصبح منظوراً منذ التجسد الالهى والمسيح له المجد وهو الله منظوراً فى الجسد أو هو الله له كيان جسدى وصورة منظورة محسوسة أو هو الله محتجباً فى الناسوت الظاهر للناس.
ان الشاب الغنى أبتدء حديثه للسيد له المجد بقوله أيها المعلم الصالح. والسيد المسيح يريد أن يستدرج الشاب إلى الايمان الحقيقى بشخصه المبارك. فقال له "لماذا تدعونى صالحاً، لا صالح إلا الله وحده"..
وكأنه يقول له: هل كان تلقيبك لى بأنى معلم صالح سخاءا فى التعبير أم كان قولك صحيحا دقيقا يعبر عن عقيدة كامنة فى نفسك.. فإذا كان قولك سخاءا فى التعبير.. فهو قول خاطىء لأن الصلاح الكامل صفة يتفرد بها الله وحده.. وإذا كان قولك صحيحا ودقيقا ويعبر عن عقيدة كامنة فى نفسك بأننى صالح فهو اقرار منك بأننى هذا الواحد الصالح…
والقول كله فى تعبير سيدنا وفادينا أشارة من كثير من أشاراته المقدسة التى أشار بها إلى لاهوت، لأن سيددنا وان كان قد جاء محتجبا فى الناسوت وقد أخفى لاهوته عن الشيطان لكنه من وقت لآخر كان يشير بالقول تارة وبالمثل تارة أخرى وبالعمل تارة ثالثة إلى حقيقة لاهوته على أنه كان يعود إلى أخفاء لاهوته من جديد فى تصرف من تصرفات الضعف البشرى كالجوع والعطش والتعب والنوم والصلاة الضارعة واللم الذى يدل على حقيقة ناسوته وكماله...
(3) " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفونك أنت الله الحقيقي وحدك والذي أرسلته يسوع المسيح " (1).
المعنى هنا أن المعرفة بالله هي الحياة الأبدية و لن تكون كذلك إلا إذا كانت معرفة خصبه عميقة غنية حية ممتدة .. ليست أذن مجرد معرفة نظرية سطحية ضحله لأن هذه الأخيرة ليست فى حقيقتها معرفة.. ولعلها أقرب إلى الوهم من الحقيقة والذى يعرف الله معرفة حقيقية باطنية عميقة يكون حياً حياة لا يسودها الموت ولا يقوى عليها وبذلك يكون قد دخل فى الأبدية وهو على الأرض.. أذن هو حى .. لكن لا حياة خارجية تافهة.. وإنما هو حى حياة خصبة غنية نشطة فعالة قوية.
سيدنا يؤكد أن معرفة الله.. هى هذه الحياة الأبدية والله هنا هو الأب الذى يعرفه اليهود لأنه أصل الوجود وهو أب البشر.. وهو الكائن الأول.. واجب الوجود.. والعلة الأولى للوجود.. فهو أذن اله حقيقى..
وأما يسوع المسيح.. فهو الأقنوم الثانى متجسداً... هو الكلمة فى الجسد.. وهو الكائن منذ الأزل مع الأب وهو عقل الله وكلمته… لم تمر لحظة من الزمان كان فيها الأب ولم يكن الابن موجوداً معه.. ولكنه قد ظهر فى الزمان من أجل عمل الفداء.. فالابن والآب هما جوهر واحد ولاهوت واحد وهما مع الروح القدس ذات ألهية واحدة ولا فارق بين الأقانيم إلا من حيث الأختصاص.. والابن هو الذى تجسد وأن كان الآب والروح القدس قد اشتركا معه فى عمل التجسد من حيث هما معه فى الذات الواحدة وان كان فعل التجسد مختصاً بالكلمة.
الواو هنا لا تفيد الانفصال ولا تفيد العطف وإنما تفيد الإيضاح والتفسير.. ونحن حينما نقول باسم الآب والابن والروح القدس، فلا نقصد الأنفصال بين الأقانيم. وإذا كاهن المسيح له المجد يناجى الآب ويقول: أنت الآله الحقيقى وحدك.. فلا يدل هذا على أن العبارة التالية وهى: يسوع المسيح الذى ارسلته غضافية وإنما هى تفسيرية تمشياً مع المعرفة السابقة للإله الواحد كما كان يفهمها اليهود.
وأما الإرسال فليس معناه الإنفصال أو أن الابن رسول على ما يفهمه المسلمون وإنما الإرسال هنا باطنى.. فى داخل الوحدة الثالوثية.. والإشارة إلى فعل التجسد الذى تم بتدبير الثالوث القدوس.. ونظراً لأن الكلمة أصبح له كيان جسدى ظاهر أمام الناس فى ذلك الزمان ولابد أن تفسر العلاقة بين الآب الذى يعرفه اليهود وبين الكلمة المتجسد.
فالكلمة مرسل بالمعنى الخاص للدلالة على فعل التجسد وللدلالة على الكيان الجسدى الذى أصبح له على الأرض.. ولكنه ليس رسولاً بالمعنى الذى يفهمه المسلمون لأنه ليس مجرد إنسان.. ولا هو نبياً أو رئيساً للأنبياء.. ولكنه هو بعينه الكلمة مقيم السماء والأرض الذى له تخر كل ركبة فى السموات وعلى الأرض وهو مع الآب والروح القدس الإله الحقيقى وحده الذى له السجود..
ثانياً: نصوص لبيان طبيعة البنوة…
(4) لذلك مسحك الله إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك أو شركائك(1).
إذا كان هذا المزمور مناجاة وصلاة للمسيح الهنا فهو مناجاة له من حيث هو متجسد لأن صاحب المزمور يشبهه بملك مسموح بالدهن المقدس.. وإذا كان المسيح هو الكلمة المتجسد فقد جمع فى شخصه الإلهى بين الإله والانسان.. ومن حيث لاهوته فهو شريك لآب والروح القدس فى الجوهر الإلهى والذات الإلهية.. ومن حيث ناسوته فهو شريك للإنسان فى اللحم والدم وكل ما يتصل به.. والكلمة المتجسد سمى مسيحاً لأن الروح القدس أنسكب عليه.. فهو مسيح لأنه عين بمسحة الروح القدس ليكون نبياً وملكاً وكاهناً وليكون فادياً للبشر وإذن فمن هذه الجبهة عومل كلمة الله المتجسد معاملة إنسان لأنه أشترك مع الإنسان فى اللحم والدم.. فحق لصاحب المزمور أن يكلمه بهذه الصفة وأن يناجيه كملك ممسوح من الله.. فالمسيح إله من حيث لاهوته.. وكإنسان لاهوته هو إلهه..
(5) ولكن أن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله(1).
يبدو أن أريوس فهم من هذا النص الإلهى أن المسيح شئ آخر غير الروح القدس وأنه لا قدرة له بغير الروح القدس على أن يخرج الشياطين.. ولكن هذا خطأ فى الفهم والمعنى أن المسيح له المجد أراد أن يؤكد سلطانه على أخراج الشياطين واراد فى نفس الوقت أن يؤكد لليهود أنه على الرغم من ذلك ليس هو إلهاً آخراً غير الاله الذى هم يعرفونه.. لذلك لابد أن يبين ت امن الأقانيم الثلاثة معاً لأنها قائمة معاً وكائنة معاً فى جوهر واحد، وهذا النص المقدس يشير بوضوح إلى الأقانيم الثلاثة.. فالابن هو المتكلم.. والروح القدس هو المشار إليه بروح الله.. والأب هو المشار إليه بالله.. فهذا التعبير إذن تعبير للدلالة على أن عمل أخراج الشياطين وأن كان بسلطان المسيح وهو الابن الظاهر فى الجسد لكنه بغير انفصال عن الآب، والروح القدس.
(6) أما المدعوين من اليهود واليونانيين فالمسيح قوة الله وحكمة الله(2).
ما الذى يزعج شهود يهوه والآريوسيين من هذا النص ربما يقولون أنه فى كلامه "قوة الله وحكمة الله" أنه يوجد تفريق بينه وبين الله ولكن عندما يقول أن المسيح "قوة الله وحكمة الله"…
فأولاً: يتكلم عن ربنا يسوع المسيح بعد التجسد لأن لقب (يسوع) لقب من ألقاب الأقنوم الثانى بعد التجسد فهو يقصد الله الذى أخذ صورة الإنسان.. فعند قوله "يسوع المسيح حكمة الله وقوته" لا يقصد أنه أفترق عن اللاهوت.. ولكن يقصد أنه بعد التجسد وهو الله المتجسد.. صار حكمة لله فالحكمة لها شواهدها.. فلو قلنا هذا الرجل حكيم فمن أين عرفنا هذه الحكمة الحكمة شئ روحى وعقلى.. تصرفات الإنسان المنظور هى برهان حكمته غير المنظورة.. أصبحت منظورة بكلامه وتصرفاته.. فالله غير المنظور الذى لم يره أحد ولا يقدر أن يراه صار منظوراً بأن أتخذ لنفسه جسداً ولكن لاهوته غير المنظور (منظور) لأنه مستتر فى الجسد.. فالمسيح لأنه صار منظوراً وهو الله غير المنظور أصبح حكمة الله لأن الحكمة المخفية ترى فى التصرفات... عندما يقول: فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الله الكلمة ".. فكيف كان الكلمة منذ البدء.. وأن الكلمة هى برهان العقل غير المنظور.. أننا نعرف مقدار عقل الرجل من أعماله واقواله.. فلولا أن عرفنا ذلك لما عرفنا أنه عاقل.. فالعقل شئ غير منظور يرى فى الكلام.. فالكلمة هى الفكرة متجسدة على اللسان من العقل وإذا لم تتجسد لا تسمى كلمة هى فكرة فقط.. فالله غير المنظور بطبيعته ولكنه صار منظوراً بكلمته.. من هنا المسيح هو الكلمة لأنه تجسد والله هو العقل الذى لا يرى ولكن عندما صار منظوراً فى المسيح صار مرئياً.. فالمسيح كلمة الله لأن فيه رأينا العقل غير المنظور لأن الكلمة وأن كانت تتجسد فى الزمان إلا أنها هى العقل قبل التجسد.. من هنا فالكلمة وأن ظهرت فى الزمان ألا أن وجودها سابق على الزمان.. فالمسيح وأن كان تجسده تم فى الزمان إلا أن وجوده كان موجود قبل الزمان وبعد التجسد ما زال متصل مع الآب ومع الروح القدس اتصال أزلى.. فهو الكلمة وهو العقل الإلهى..
وأن كان تجسد فى الزمان إلا أنه متصل بالوجود الإلهى منذ الأزل فوجود الكلمة فى العقل الأزلى لا ينفى أزليته بعد التجسد…
فلو قال الكتاب "المسيح حكمة الله" لا نستطيع أن نتصور الله فى لحظة من الزمان كان الله فيها غير حكيم وغير عاقل.. فالحكمة قائمة معه منذ الأزل فليس هنا فصل بين المسيح والله ولكن لبيان أن المسيح هو الذى ظهرت فيه حكمة الله غير المنظورة صارت منظورة فى المسيح لأنه هو الذى أبرز هذه الحكمة لأنه جعلها قريبة من فهم الإنسان..
وعند قوله "المسيح قوة الله" نفس القياس.. الله قوى وقوته ظاهره فى الخلق.. فمن أين نعرف قوته.. فكلما نقول أنه قوى وهو غير منظور فكيف نقول ذلك أن لم نر خليقته وصنعة الخلق هى خاصة بالأقنوم الثانى عمل الخلق عمل خاص به "به أيضاً عمل العالمين" والمسيح ليبين أنه خالق عندما وجد المولود أعمى ليس له عينين صنع من التفل طيناً ووضع مكان عينيه.. فهو شفى الأعمى وعميان كثيرين.. ولكن أحياناً كان يقول لهم (أبصر – أنفتح – بالتدريج) ولكن هنا الحادثة الوحيدة التى تؤكد أن هذا الإنسان لم يكن له عينين.. فالمسيح فى هذه الحادثة عمله كما كان فى الخليقة جبل الرب الإله الإنسان تراباً من الأرض صنع هذه المعجزة بنفس الطريقة.. فالخلق إذن صفة وعمل الأقنوم الثانى.. والله بعد خالق للكون بالأقنوم الثانى. فلو مسكنا الإنسان نجد أنه لا يحب الله أو قريبه بالعقل لأن العقل لا يناسبه الحب بل التفكير والتخطيط والتدبير ولكن الحب بالعاطفة ومركز الحب والعاطفة هو القلب "حب الرب الهك من كل قلبك" فالقلب مركم الحب.. والعقل مركز التفكير.. فعندما خلق الله العالم فالخلق إنما تفكير وتدبير ثم العمل والخلق.. فالصانع يفكر فى صورة الإنسان ذهنياً ثم يعمل المطابقة بين ما فى ذهنه وما يريد صنعه.. فعندما خلق الله لإنسان فكر فى الصورة التى تكون عليها قبل الخلق ولذا "صنع الإنسان على صورته".
فالعقل هو الخلاق والمدبر فهو العقل الإلهى والفكر والكلمة والحكمة وكل ذلك أقرب للأقنوم الثانى وعند قوله "المسيح قوة الله" ليس معناه الله حاجة والقوة حاجة أخرى، ولو حذفت القوة منه فماذا يفضل.. قوة الله هو الله نفسه وهذه القوة تظهر فى الخلق والخلق من صفات الأقنوم الثانى فعندما يقول الكتاب "المسيح هو قوة الله" يقصد بأن الله وهو غير منظور وصارت قوته وقدرته منظورة فى المسيح.. فالمسيح قوة الله لأنه هو الله وقد صار منظوراً.
ثالثاً: نصوص زعم آريوس أنها لبيان خلقة اللوغوس
(7) "الرب أقتنانى فى أول طريقه قبل ما عمله منذ البد".
من الأزل مسحت من الأزل. من الأزل سمحت من الأول. من قبل أن كانت الأرض. ولدت حينما لم تكن الغمار.. والينابيع الغزيرة المياه. قبل أن أقرت الجبال وقبل التلال ولدت إذ كان لم يصنع الأرض بعد ولا ما فى خارجها ولا مبدأ أتربة المسكونة حين هيأ السموات كنت هناك وحين رسم حدا حول وجه الغمر حيث ثبت الغيوم فى العلاء وقرر ينابيع غمر. حين وضع للبحر رسمه. المياه لا تتعدى"(1).
أستعان أريوس بهذا النص الذى رأى فيه أشارة إلى سيدنا يسوع المسيح ورأى فيه ما يدل على خلقه الابن ولكن هذا النص عينه يخيب أمل أريوس فى الاعتماد عليه فإذا كانت الحكمة المشار إليها هنا هى الحكمة الأزلية. فالرب أقتناها لا بمعنى أنه خلقها ولكن بمعنى أنها كانت منذ الأزل ولا تزال قائمة وكائنة عنده ولا يختلف هذا التعبير كثيراً عما يقوله القديس يوحنا فى إنجيله "فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله".
والبدء الذى يشير غليه سفر الأمثال هو البدء بعينه الذى يشير إليه إنجيل يوحنا لأنه هو الأزل والدليل على ذلك أن النص فى سفر الأمثال يقول مباشرة من الأزل سمحت من الأول قبل أن كانت الأرض. والأول هنا هو الأزل والأزل ما لا بداية له فى الزمان… ولا يحيا فى الأزل ألا الله.. لأن الله وحده هو الأزلى الذى لا بداية له.. وهو وحده الألف والياء..
فإذا كانت الحكمة التى يتكلم سفر الأمثال باسمها يشار إلى أنها كائنة عند الله منذ الأزل.. فالمعنى من ذلك أن الابن قائم وكائن مع الآب منذ الأزل وإلى الأبد.
وهذا النص يتكلم عن الحكمة الالهية وفى هذا اشارة الى المسيح باعتبار انه هو المقصود من هذه الحكمة .. هذه الحكمة تتكلم.. يقول شهود يهوه والاريوسيون مادام الرب يقول: الرب اقتنانى أول طريقه فمعنى ذلك أن المسيح لم يكن أزليآ لانه قال "اقتنانى" ولكن كلمة "اقتنانى" لا تعنى أن هذا الاقتناء كان حديثاً أو كان هناك فرق زمانى بين الله وبين حكمته وليست "اقتنانى" بمعنى "أوجدنى" حاشا. لكن اقتنى هنا بمعنى حاز أو ملك أو أحرز.. وذلك لأن الكلمة العبرانية "قينية" وهى مثل العربى بمعنى أحرز. ملك. حاز… هذا اللفظ نجده مثلاً استخدمته حواء عندما ولدت قايين فقالت "قد اقتنيت رجلاً من عند الرب" لا بمعنى أن حواء خلقت قايين.. حاشا.. ولكن بمعنى أنه صار ابنها أى احرزته.. صار اسمه منسوبآ اليها.. صار ولدها.. وبالتالى ليس غريبآ عنها… وهذا اللفظ استخدمه ايضاً ابرآم (ابراهيم) عندما كلمه ملكى صادق "مبارك أبرآم من الله العلى مالك السموات والأرض" فقال أبرآم رفعت يدى إلى الرب الملك العلى "مالك" السموات والأرض وكلمه "مالك هنا هى "قينية بالعبرانية" بمعنى أحرز أو حاز وعلى ذلك فعندما يقول الرب أقتنانى أول طرقه أى أن الحكمة تقول أن الرب أحرزنى من الأول منذ الوقت الذى كان فيه الله نفسه ألهاً أقتنانى من الأول أى منذ البدء بدون أى فرق زمانى…
ويلاحظ أن الترجمة العربية حرفية.. لكن المعنى واضح هنا تعنى أن الله حاز الحكمة منذ الأبتداء.. منذ الأول.. منذ الأزل.. منذ أن كنت أنا الها كانت الحكمة معى.. والحكمة قائمة معى.. يقول الرب أنى أحرزت الحكمة منذ البدء منذ بدء وجودى.. على أن الله ليس له بدء لأنه موجود من الأزل وبمعنى آخر أنه منذ أن كان لله وجود، الحكمة موجودة عنده.. وهذا يشير إلى قيام الحكمة مع الله ووجودها معه منذ البدء أى أنه لم توجد لحظة من الزمان كان الله فيها موجوداً ولم تكن الحكمة موجودة معه.. وهذا حق لأننا لا نستطيع أن نتصور الله كلى الحكمة كان فى لحظة من الزمان خاوياً من الحكمة هذه العبارة إذن لا تزعجنا ولا تشككنا فى أزلية المسيح لأن القرينة نفسها تدل على أن الحكمة (وهى الابن) موجودة منذ البدء مع الله موجوده منذء الأزل.. وهذا يشير إلى أن الله حكيم منذ الأزل.. منذ بدء الوجود وهذا عكس مفهوم الهراطقة لأنهم ظنوا أن كلمة اقتنانى تدل على أن الحكمة جاءت فيما بعد. لكن كلمة "اول طرقه" وضحت المعنى أن الحكمة قائمة مع الله منذ بدء الوجود "منذ كان الله هو البدء، فالحكمة كائنة معه.. وهذا يطابق قول الإنجيلى القديس يوحنا "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" وقوله "والكلمة عند الله" هو كقول سفر الأمثال "الرب أقتنانى أول طرقه" فالكلمة أو العقل الإلهى والحكمة" وقوله "عند الله" أى لم يكن وجود للكلمة فى مكان آخر إنما كان عند الله منذ وجوده تعالى وكلمة "عند" لا تدل على المكانية لأن الله ليس له مكان أى أن المكان خارج عن الوجود الإلهى لأن الله يملأ السموات والأرض وهو غير محدود.
ولتوكيد هذا المعنى يقول "قبل ما عمله منذ البدء" أى قبل الخليقة لأن الخليقة خلقت بالحكمة بالله هو خالقها لأنه هو الأول والخالق وخلق الكون بحكمة.. يقول قبل ما عمله منذ البدء.. أى قبل الخليقة أى الحكمة قائمة مع الله قبل الخليقة، بل هو الخالق الذى به خلق العالمين قبل ما عمله منذ البدء. "من الأزل مسحت" هذه جملة بدل جملة (بدل) أى توكيد لقوله منذ كان الله فى البدء منذ الأزل.. مسحت.. وما هو الأزل؟ الأزل هو ما لا بداية له.. والأزل لا ينسب لغير الله.. لأن الإنسان مخلوق وما دام مخلوقاً فله أبتداء وما دام له أبتداء فليس أزلياً بل الإنسان خالد أى لا يموت.. قلت "خالد" ولم أقل "أبدى" الانسان لا يموت ومع ذلك لا يتصف بالأبدية، لأن الله وحده هو الأبدى لأنه هو وحده الأزلى الذى لا بداية له.. والانسان لم يكن أزلياً إذن لا يكون أبدياً.. فالصفتان "أبدى، أزلى" متلازمان وهذه ترجمة لمعنى كلمة يهوه وبالعبرانى تعنى الأزلى الأبدى، أى السرمدى.. والانسان لا يوصف بالسرمدية.
يقول هنا "منذ الأزل سمحت" وهذا الوصف الذى تتصف به الحكمة لا يمكن أن يتصف به إلا الله وحده.. فمن هذا النص نفسه يتضح أن المسيح أى الحكمة قائم مع الله منذ الأزل، منذ البدء، وإذن فهو يهدم مذهب الأريوسيين وشهود يهوه الذين زعموا وظنوا أنه يؤيدهم إذن لم تكن لحظة من الزمان كان فيها الله ولم تكن معه الحكمة.. لأن الحكمة لم تكن دخيلة على الله وجاءت عليه من خارج.. حاشا..
وقوله "سمحت" يعنى أن شخصاً مسحنى.. والمسحة دائماً تعنى التعيين، والمسيح معناه "المعين لمهمة معينة".. لما كان الملك أو النبى أو الكاهن يسمح أى عين من الله لكى يؤدى وظيفة.. فالحكمة هنا تقول "مسحت من الله" أى "عينت" لا بمعنى أن أحداً عينها ولكن بمعنى أن عمل الفداء، عمل الخلاص عمل الخلق هو من تخصص الأقنوم الثانى.. وليس فى هذا التمايز بين اختصاصات الاقانيم غرابة، فالإنسان مثلاً يفكر بالعقل ويتأمل روحياً بالعقل.. لكنه يعطف ويحب ويتحنن أو يكره بالقلب.. والإنسان هو هو بعينه لا ينقسم لكن للعقل تخصص التفكير والمعرفة والعلم وأما القلب فتخصص العاطفة والحب والحنو والرحمة والكراهية وما إلى ذلك.. والأقانيم خواص فى الذات الإلهية.. والأقنوم الثانى هو المختص بالخلق لذلك طلى المسيح عينى المولود أعمى بالطين ليبين أنه الخالق ويؤكد الرسول بولس أن الابن هو الذى عمل العالمين، فالمسيح إذن هو الخالق.. لأن الخلق عمل العقل.. والصانع عندما يصنع شيئاً فإنه يصنعه وفقاً لصورة فى الذهن وطبقاً للصورة يعمل الصنعة.. والله خلق الإنسان طبقاً للصورة الموجودة فى العقل الإلهى والعقل الإلهى هو المسيح لذلك فإن عمل الخلق هو من اختصاص الاقنوم الثانى..
"عينه" أى منذ الأزل أنا معين لهذه المهمة.. لا بمعنى أن شخص عيننى.. الحكمة أو الابن قائم مع الاب منذ الأزل أى أنه شريك الآب فى الأزلية ولأن الأب لم يكن أعلى منه حتى يعطيه الأزلية.. والخلق والعمل ولكن هو شريك مع الأب.. "من الأول".. أى يؤكد ما قاله سابقاً يعنى منذ الأزل.
(8) "فليعلم يقينا جميع آل اسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذى صلبتموه رباً ومسيحاً(1).
لقد ضل أريوس لأنه فهم من هذا النص أن يسوع المسيح مخلصنا لم يكن رباً ومسيحاً من قبل وأن الله هو الذى جعله رباً ومسيحاً ولكن الرسول الذى خطب فى جماهير اليهود قصد أن يخجل اليهود وبيّن لهم مدى الجريمة التى أرتكبوها فى أنكارهم للمسيح وفى ثورتهم عليه وفى صلبه وفى قتله.
فيسوع هذا الذى هم يعرفونه أنه هو الذى صلب ومات وقبر هو الذى يكرز به الرسل فأنه قام من بين الأموات وصعد إلى السموات وأرسل الروح المعزى كما وعد.. فيسوع هذا لم تنته قصته بما فعل به اليهود وإنما المصلوب هو بعينه المكروز به أنه قام من بين الأموات وأنه هو الذى أرسل الروح القدس على التلاميذ الأطهار وجعلهم قادرين على أن يتكلموا بلغات متنوعة بصورة معجزية دهشت لها الجماهير.
فيسوع المسيح إذن ليس ضعيفاً وإنما هو قوى وعظيم وجليل هو كذلك فى ذاته من حيث لاهوته وأن كان قد ظهر فى الضعف من حيث ناسوته فيسوع الذى هم يعرفونه فى صورة الجسد ينبغى أن لا يبقى فى الصورة التى يعرفونها هم عنه. وإنما فى الصورة المجيدة التى ظهرت بقيامته وصعوده إلى السموات وأرساله الروح المعزى وصنعه الآيات والعجائب على أيدى الرسل الأطهار فالعبارة التى نطق بها الرسول هى تعبير يشرح التطور الذهنى فى الصورة المفهومة عن المسيح له المجد وهى صورة خفيرة تبعاً للمفهوم الذى صاحبها بالنسبة لليهود بصفة خاصة.. وإلى الناس جميعاً بصفة عامة…
ولفظ جعل لا يفيد أن يسوع المسيح له المجد.. قد تغّير فى ذاته.. وإنما هو تعبير للدلالة على التطور الذهنى فى الصورة التى كانت للمسيح بالنسبة لأذهان اليهود الى أن أنتقلت إلى الصورة التى أصبحت له فى أذهان اليهود الذين آمنوا بالمسيح بمعجزة التكلم بالألسن.
(9) "الذى هو صورة الله غير المنظورة وبكر كل خلق"(2)
والظاهر أن أريوس أستعان بهذا النص لا سيما الجزء الأخير منه، لتأييد بدعته فى أن الابن مخلوق.. أما النص نفسه فلا يحتمل شيئاً من هذا بل واضح من النص الدلالة على علاقة الابن بالآب أو العلاقة بين الله غير المنظور وبين الله وقد صار منظوراً.. وهو ما يؤكده أنجيل يوحنا "الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذى فى حضن الآب هو خبر"… وأما أن الابن هو بكر كل خلق فالمعنى أن الابن هو رأس الخليقة وسيدها ومبدئها لأن به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما كان ولأن به عمل العالمين. وكلمة البكر تفيد الأول.. لأن الله هو الأول وهذا ورد كثيراً فى كتب الأقدمين من الفلاسفة وكبار المفكرين.
وقد استخدم هذا التعبير أكثر من مرة فى معنى الأول على الأطلاق.. من ذلك:
.. أن السيد المسيح له المجد وصف بأنه بكر الراقدين بمعنى أنه أول الراقدين.. كما وصف بأنه البكر بين أخوة كثيرين ولا شك أن البكر هنا تفيد الأول.. والأولية هنا هى أولية كرامة لا أولية زمنية.. فالمسيح بكر كل خلق.. بمعنى أول كل خلق.. بمعنى أنه هو الأول الذى أنشأ الخلق..
(10) "الذى هو أمين لمن أقامه كما كان موسى فى جميع بيته"(1)
هذه الإقامة لا تتعارض بتاتاً مع أزلية المسيح له المجد من حيث لاهوته.. لأن الاقامة هنا فى التعيين بالمسحة المقدسة مسحة الروح القدس التى أخذها المسيح له المجد فى نهاية الأردن وبهذا صار فى مهمته الرسمية كمعّين فى وظيفة الكهنوت التى صارت له بطريقة رسمية علنية فى نهر الأردن .. ففى نهر الأردن كان حلول الروح القدس بالنسبة للمسيح معمودية، وميرون وكهنوت.. أما المسيح من حيث لاهوته فهو قائم وكائن مع الأب والروح القدس منذ الأزل وإلى الأبد..
(11) "وكان يسوع يتقدم فى الحكمة والقامة (السن) عند الله والناس"(2)
فى هذا النص ينحصر الكلام عن مخلصنا على صفاته الناسوتية، دون اللاهوتية.. فما دام سيدنا وربنا قد أتخذ لاهوته ناسوتاً كاملاً.. وأتحد به أتحاداً كاملاً بغير افتراق.. فهذا الناسوت ما دام حقيقياً فلابد أن ينمو ويكبر ويصير إلى قامة ملء الانسان.. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى، فما دام سيدنا قد أتخذ لاهوته ناسوتاً كاملاً من جسد ونفس ناطقة، فالنفس الناطقة بصفتها نفساً إنسانية تنمو هى أيضاً فى المعرفة الطبيعية كما تنمو نفس كل إنسان وتزداد فى المعرفة وفى الحكمة الانسانية ينمو القوى العاقلة وبإزدياد الخبرات والمدركات الحسية التى تنتقل إلى داخل النفس عن طريق الحواس حيث أن الحواس أبواب المعرفة الإنسانية.
ؤلاشك ان سيدنا يسوع لة كمال المعرفة من حيث لاهوته وهى معرفته الزلية الأبدية وعلمه الذى لا يحد ولا يستقصى ولكنه من حيث ناسوته له أيضاً معرفة انسانية قابلة للنمو
والازدياد بحسب القوة العاقلة الانسانية فى النفس الانسانية وينمو المعرفة الحسية .. والخبرات البشرية .. والمسيح له المجد له ان يستغل معرفته اللاهوتية الازلية الابدية حينما
يشاء وله ايضا ان يستغل معرفته اللاهوتية الازلية الابدية حينما يشاء وله ايضا ان يظهر هذه المعرفة تدبيرا وقصدا ...وفى هذه الحالة الاخيرة يستغل معرفتة الانسانية ..فلا تبدو امام الناس الا معرفة انسانية عادية قابلة للنمو والتطور بحسب القوة العاقلة وبحسب نمو المعرفة
الحسية والخبرات البشرية
(12) "ثم تباعد قليلا وخر على وجهة وهو يصلى قائلا ان كان يستطاع فلتعبر عنى هذه
الكاس ليس كمشيئتك..ثم مضى ثانية وصلى قائلا: ان كان لا يستطاع ان تعبر عنى هذه
الكاس الا ان اشربها فلتكن مشيئتك"(1).
فان كان يبدو من هذا النص ان هناك مشيئتين مشيئة للمسيح له المجد ومشيئة للاب..لكن
الحق ان للمسيح مخلصنا مشيئة واحدة وهى بعينها مشيئة الاب..ولكن كان لابد ان يظهر فى عمل الغداء كمال
ناسوت المسيح ’وانه لم ياخذ جسدا خياليا كما زعم اوطاخى وبعض الهراطقة بل ان كلمة اللها اتخذ له جسدا حقيقيا ذا نفس ناطقة..ولابد ذهنيا ان نتصور ان تكون للناسوت مشيئة’وامام هول الصليب وعظمة الامة لابد للناسوت ان يرفض الالم اذا كان ناسوت حقيقيا فسيدنا فى صلاته فى بستان جسيمانى يعبر عن شدة آلامه الحقيقية وكأنه يتمنى أن تعبر عنه كأس الألم أو كأس الصليب ولكنه فى نفس الوقت هو يشاء أن يصلب من أجل البشر ليفديهم ويموت بديلاً عنهم لأنه كما قال: "… من أجل هذه الساعة قد أتيت"… فليس هناك فى الواقع مشيئة للمسيح تتعارض مع مشيئة للآب ولكنه تعبير عن الآلام وأنها حقيقية لدرجة أن الناسوت لو كان خلوا من اللاهوت لكان يتمنى أن تعبر عنه كأس الصليب ويمكن أن نشبه هذه الحالة بموقف من المواقف يشعر فيه الانسان برغبتين هما حسب المنطق الشكلى والذهنى متعارضتان ولكنهما من جهة الواقع لابد أن تخضع أحداهما للأخرى… واذا قال الانسان أحياناَ كنت أريد هذا الامر.. ولكنى لا أستطيع لأنه يتعارض مع رغبة أخرى أخرى أحترمها وأقدرها تقديراً يسمو عن تقديرى للرغبة الأولى.. فهذا التعبير تعبير فصيح لاظهار حقيقة وجود هاتين الرغبتين.. فى وقت واحد.. وأنه يمكن للانسان أن يميز تمييزاً ذهنياً فى نفسه ولكنه مع ذلك.. أخضع أحداهما للأخرى فى واقع الأمر…
هذا الاخضاع هو أيضاً برغبته لأن تقديره للرغبة الأعلى يسمو على تقديره للرغبة الأدنى .. وبالأجمال فان كان يبدو التعارض شكلآ بين الرغبتين فى المجال الذهنى البحت .. لكن ليس بين الرغبتين تعارض فى مجال الواقع العملى .
وتطبيقاً لهذا نقول ان المسيح له المجد راغب فى خلاص البشرية … وبالتالى فى احتمال الألام وكأس الصليب ولكنه فى نفس الوقت ولأنه أتخذ ناسوتاً حقيقياً ..والناسوت لابد إذا كان ناموساً حقيقياً أن لا يرضى بالصليب والألم ..ولابد ان يعبر عن رغبته فى الهرب من الألم ولكن مع ذلك فالناسوت أيضاً يحتمل الألم برغبته فى سبيل الرغبة الأعلى وهى خلاص البشرية … وهى فى نفس الوقت رغبة اللاهوت والناسوت معاً وليس بين الأثنين فى الواقع تعارض .. لأن الناسوت ناسوت الكلمة متحداً به بغير افتراق او أنفصال ..
(13) "الذى فى ايام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر ان يخلصه من الموت وسمح له من اجل تقواه ..مع كونه إبناً تعلم الطاعة مما تألم به . وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص ابدى(1) "
والإشارة فى هذا النص المقدس إلى معركة بستان جثيمانى حيث جثى مخلصنا على ركبتيه وصار يصلى وكان عرقه يتصبب مثل قطرات الدم مما يدل على علم الألام وشدة الحزن وقسوة الألام النفسية وعنفها … قدم المسيح صلاة إلى الرب .. قدم كلمة الله بالجسد صلاة إلى الله الأب وفى لاهوته كمال القدرة على ان يجنبه الألم ولكنه فى نفس الوقت لا يمكنه ان يتعارض مع ارادته ومشيئته فى قبول موت الصليب لانه من اجل هذه الساعة قد أتى من السماء ولا معنى لاجتياز ولا معنى لتجنب الصليب وهو قد جاء خصيصاً لهذا الغرض على ان هذه الصلاة لم تكن محصورة فى تجنب الام الصليب لكنها كانت تتجه إلى قوة الأحتمال ..لأن الألام كانت شديدة وكان يمكن ان تجهز هذه الألام على ناسوت المسيح قبل ان يصلب ..ومعنى هذا ان الألام النفسية التى عاناها المسيح له المجد فى بستان جثيمانى خاصة وانه كان يعلم بكل ما سيأتى عليه..نقول ان هذه الألام كانت شديدة لدرجة إنها كانت كافية لأن تضع حداً لحياة المسيح فى الجسد قبل ان يتم عمل الفداء … ولو كان هذا قد حصل لما كان عمل الفداء قد تم ولا خلاص البشرية قد تحقق بل تكون خطة الله وتدبيره فى خلاص الأنسان قد فشل ويكون الشيطان قد نجح ويكون الله قد فشل .
كان إذاً لابد ان يحتمل المسيح آلامه ألام الصليب حتى النهاية وكان لابد لحياة المسيح ان تطول واحتماله إذ يمتد إلى ان يتمم عمل الخلاص، وهذا ما حدث فعلاً ..فأن المسيح احتمل الألام الشديدة جسديه كانت ونفسية بل وروحية إلى إن تم صلبه ونكس الرأس وقال قد أكمل ومع ذلك .. فلم تطل حياة المسيح فى الجسد كثيراً بل مات بعد الصلب بثلاث ساعات فقط مع ان اى مصلوب يموت بين 18 إلى 24 ساعة نتيجة هبوط تدريجى فى القلب وتمزق بسيط فى شرايين الجسم والقلب …
أما المسيح فصلب فى الثالثة ومات فى السادسة وكأنه مات فى ثلاث ساعات فقط حتى ان الصالبين عندما أرادوا ان ينزلوا الأجساد من على الصليب نظراً لأستعدادات عيد الفصح .. رأوا ان يكسروا ساقى كل مصلوب من المصلوبين الثلاث حتى يموت فينزلوه من على الصليب ويعودون إلى إجراءات عيد الفصح وفعلاً كسروا ساقى الأول والثانى اللذين صابا مع مخلصنا وهما لص اليمين ولص الشمال ولما جاءوا لفادينا وأرادوا ان يكسروا ساقية كما كسروا ساقى اللص اليمين والشمال وجدوه قد مات سريعاً ولابد ان يكون الموت قد حدث نتيجة انفجار فى القلب وفى هذا تمت نبوة النبى الأنجيلى فى المزمور الثانى والعشرون القائلة "العار قد كسر قلبى "وكسر القلب هنا هو ما نسميه فى الطب الحديث انفجارات القلب أو انفجارات شرايين القلب … واذا كان الرسول فى رسالته إلى العبرانيين يشير إلى صراخ ودموع من جانب سيدنا فالإشارة هنا إليه من حيث هو بديل عن الإنسان وفادى البشر وقد حمل صورة الإنسان . فالإشارة إليه من حيث ناسوته ولانه اخذ ناسوتاً حقيقياً كاملاً ولا يعيب سيدنا أن يصلى طالما أنه فى الجسد بل هو دليل ناسوته الكامل وليس صراخه ودموعه معناه ان لاهوته قد فارق ناسوته وانما معناه أنه لم يدع للاهوته ان يوقف عمل الناسوت وخصائصه ..وصفات الناسوت كاملة ولكنه أحياناً مع وجود صفات اللاهوت يخفيها أو بتدبيره يمنع تدخلها لوقف عمل الناسوت ..بتدبيره أحياناً يدع عمل اللاهوت ظاهراً بحيث لا يكاد يظهر للناسوت من أثر وذلك بمحض إرادته ومشيئته الواحدة ،حيث ان لسيدنا مشيئة واحدة وطبيعة واحدة هى طبيعة اللاهوت والناسوت متحدان بغير إختلاط ولا امتزاج ولا تغير وكذلك جاز للكتاب ان يصفوا المسيح بالتقوى وهذه التقوى من صفات الناموس كما جاز له ان يصف المسيح بالطاعة وهذه الطاعة من صفات المسيح الناسوتية ولكنه فى طاعته لا يطيع لاهوتاً أخر غير لاهوته هو ذاته لأن الاهوت الذى فيه هو الاهوت الذى يملأ السماء والأرض ،هو لاهوت الاله وحده الحقيقى ..الله محب البشر الذى فيه هو لاهوت واحد الذى فى الأب والروح القدس … مجد واحد وقدرة واحدة وسرمدية واحدة للذات الألهية الواحدة ،اما قول الرسول بأنه سمع له ومعنى ذلك انه استجاب إلى طلبه لئلا تجهز الألام عليه قبل ان يتم عمل الفداء وفعلاً طالت حياته لجسدية على الأرض إلى لن تم عمل الصلب وهذا معناه فى قول الكتاب "واذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدى "..
(14) " الذى اذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله ..لكنه أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس(1) .
واذ وجد فى الهيئة كانسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب ..لذلك رفعه الله ايضاً واعطاه اسماً فوق كل اسم لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ..ويعترف كل لسان ان يسوع المسيح هو رب لمجد الله الأب "
هذه النصوص من رسالة ماربولس إلى كنيسة فيلبى تبين لنا مقام المسيح الألهى ..فهو معادل لله الأب مساو له فى الربوبية والمجد والأزلية والأبدية وكل الكمالات الألهية ..وهو التعبير الذى استند إليه أباء محمع نيقية ورد فى قانون الإيمان عن ربنا يسوع المسيح انه نور من نور إله حق من إله حق .مولود غير مخلوق مساو للأب فى الجوهر 0m00uqosgomooclo ..فمع ان اقنوم الابن متميز عن كل من الأقنوميين الأخرين فى الثالوث القدوس الا ان كل من الأقانيم مساو للأخر فى جميع الكمالات الالهية ..فالاقانيم الثلاثة جوهر واحد وكلها قائمة معاً فى الجوهر الواحد منذ الأزل وإلى الأبد ..وهذا هو التفسير الدقيق لكلمة ouooycldc وقول الرسول لم يحسب خلسة بمعنى ان هذه المساواة بين أقنوم الله الأبن والله الكلمة او اقنوم الله الأب ليست مفتعلة ولا مغتصبة وانما هى مساواة طبيعية بين اقنومين فى جوهر واحد وذات إلهية واحدة ..
ومعنى ان المسيح يسوع كما جاء فى عدد 5 من نفس الأصحاح كان فى صورة الله اننا رأينا فى المسيح يسوع صفات الله الغير المنظور لانه كما يقول الأنجيل الله لم يره أحد قط ..الابن الوحيد فى حضن الأب هو خبر .
فاقنوم الابن هو من نفس جوهر اقنوم الاب وطبيعته ولكنه أتخذ ناسوتاً وصار منظوراً فى الهيئة بين الناس ولكن فيما هو ظاهر فى الجسد أعطانا صورة الله الأب الغير منظور .
فالابن إذاً هو إقنوم الكلمة وهو من حيث لاهوته مساوٍ للأقنوم "الأب فى الكمالات الألهية وهو من ذات طبع الأب والروح القدس ومن ذات الجوهر الالهى ،ولا فرق الا فى ان أقنوم الابن او الكلمة اخذ صورة البشر وظهر بها فى الهيئة كانسان ..فمن رأه فى الجسد رأى فيه الله الغير منظور فى صفاته وكمالاته الالهية وقد اخلى الابن نفسه من مجد الكرامة الالهية حيث انه أخذ صورة الناس وظهر فى الهيئة على الأرض وحل فينا وبيننا لكن لم يخل السماء من وجوده ففى نفس الوقت كان المسيح له المجد بلاهوته على الأرض وبلاهوته فى السماء ..وذلك يتضح من قوله ليس احد صعد إلى السماء الا الذى نزل من السماء ابن الأنسان الذى هو فى السماء فهو اذن لم يخل السماء من وجودة او من لاهوته لكنه اخلى ذاته بمعنى انه تنازل وقبل صورة الناس واتخذ له جسداً من لحم ودم متحداً بنفس ناطقة وصار بذلك متأنساً كالبشر وقد قبل صنوف العذاب والألام والأهانات والصلب وكل ما يقترن بطبيعة البشر فى ذلها وهوانها ..وقد صار فى شبه الناس لانه وهو الله الكلمة اخذ جسداً انسانياً ذا نفس ناطقة وصار له كيان جسدى وصار له كل ما للبشر كأنه واحد منهم مع أنه فى نفس الوقت خالقهم ويملأ بلاهوته السماء والارض .
اذن ..هو فى شبه الناس لا بمعنى أنه أتخذ جسداً خيالياً كلا وحاشا ..لانه أخذ وأتخذ جسداً حقيقياً وانما فى شبه الناس من حيث انه وهو فى الجسد لم يكن فى حقيقته مجرد انسان وانما كان فى جوهره الله الكلمة المتجسد .
فكلمة"شبه "هنا لا تعارض حقيقة الناسوت الذى أتخذه كلمة الله ولا تؤيد ما ذهب اليه اوطاخى الهرطوقى الذى انكر حقيقة الناسوت بادعائه ان الناسوت قد اندمج فى اللاهوت وأختلط به وضاع فيه وأمتص فيه كما تضيع او تمتص نقطة من الخل فى المحيط وانما كلمة شبه هنا تنصرف إلى الدلالة على ان المسيح له المجد لم يكن مجرد انسان وانما كان فى حقيقتة الله متجسداً .. وقد تصرف فى الجسد تصرف انسان وهو الأله فخضع ناسوته لكل ما يخضع له ناسوت البشر من احوال فيما عدا الخطيئة ولم يسمح للاهوته ان يتدخل فيوقف أعمال الناسوت وصفاته..ولذلك سمح لنفسه ان يجوع وان يعطش وان ينام وان يتألم ألماً كاملاً من غير تخفيف أو نقص وقد أطاع وهو فى الجسد الشريعه التى انزلها هو بنفسه على البشر لأنه وهو واضع القانون أول من يحترم القانون الذى هو واضعه ..ولذلك فأنه نظر إلى يوحنا لتعميده ..ولما اعترض يوحنا قائلاً : انا محتاج ان أعتمد منك ،قال له السيد المسيح اسمح الأن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ..وعندما شفى الأبرص قال له اذهب ار نفسك للكاهن وقدم ما أمر به موسى ..وكل ما أمرت به الشريعة اطاعه المسيح له المجد وعمل به وباشر الطقوس كما رسمتها الشريعة وتمم الفصح بحسب ما أمر به موسى ..وقد سار فى طاعة الشريعة حتى الموت ..موت الصليب .. لأن الشريعة نصت على انه بدون سفك دم لاتحصل مغفرة..ولذلك جاء المسيح من السماء لكى يغفر بموت خطيئة الأنسان ولولا الطاعة لأوامر الشريعة لما كان المسيح يجيء ويصلب من اجل البشر وربما يقال انه فى مقدوره ان يغفر بدون عمل الصليب ..ولكن هذا القول مستحيل لأن الحكم الذى أصدره الله على الأنسان الأول وفيه كل جنسه لا يمكن ان يسقط للأنسان أن يموت ولا يمكن ان ينقل الموت للأنسان الا اذا تم الموت بموت بديلاً عن الانسان ..وكان هذا الواحد هو المسيح وهو الله متجسداً ..أما قول الكتاب لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم ليس معناه ان المسيح كان وضيعاً فى تطوره وصعد إلى المجد كما يدعى آريوس ..ويزعم ان فى هذا النص مايدل على تطور فى المسيح من حالة إلى حالة لكن هذا التطور لا وجود له من حيث لاهوت المسيح لأن اللاهوت لا يقبل التغير ولا التطور ولا الارتقاء وانما لان المسيح اتخذ صورة الناس وصار بازاء العدل الالهى بديلاً عن الانسان وقد مات ذبيحاً وكان موته على الصليب ذبيحة "كفارة"عن البشر جميعاً إلى الله الأب وقد قبلت هذه الذبيحة وكان فيها الترضية الكافية لعدالة الله وللحكم الذى أصدره الله على الانسان ..ولما قبلت هذه الذبيحة قام المسيح من بين الأموات وصعد إلى السماوات وجلس فى الأعالى فى أسمى مكان .وبذلك انتقل المسيح له المجد من الأرض التى فيها أهين وصلب ومات نيابة عن الإنسان إلى السماء ..إلى قدس الأقداس الذى صعدت إليه ذبيحة المسيح الكفارية ذبيحة مقبولة من الله الأب ..فالمرفعة المشار اليها هنا ليست رفعة من اللاهوت لأن اللاهوت لا يقبل الرفع كما لا يقبل الخفض وإنما الرفعة هنا بمعنى إرتقاء المسيح من الأرض إلى السماء كما أنها تشير إلى أن المسيح صار بموته على الصليب ذبيحة "كفارية" فدائية لخلاص البشر وقد قبلت هذه الذبيحة ودخل بعدها إلى السماء والمسيح بحق الخلاص الذى قدمه للبشر صار رأس الخليقة الجديدة وتاجها ومخلصها وفاديها وملكاً لملكوت السموات ورئيساً لجيش الخلاص فصار أسمه هو الأسم الذى يطلق على المسيحيين الذين أنضموا تحت لوائه ودخلوا فى سياج مملكته وصاروا من أعضاء جسده السرى وليس عند المسيحيين اسم يفتخرون به أعظم من أسم المسيح ولولا قيامة المسيح وهى دليل إنتصاره على الموت بلاهوته وتحقيق خلاصه للبشر لما كان للمسيح وجود ولا أسم يعرف إلى اليوم بين الناس.. بل كان شأنه شأن أى إنسان عادى عاش ومات ودفن ولم تقم له قائمة.. وبالإجمال فإنه يلزم أن نكون حذرين فى تفسير نصوص الكتب المقدسة بالنسبة للمسيح له المجد فنميز بين النصوص التى تتناول الناسوت والنصوص التى تتناول اللاهوت فكل نص ينسب إلى المسيح "الجوع"، العطش، النمو، التطور والانتقال من حالة إلى حالة كلها نصوص تتناول الناسوت ولا تتعرض للاهوت الذى هو فى نفس الوقت متحد به ومن بينها هذه النصوص التى وردت فى رسالة ماربولس إلى فيلبى الإصحاح الثانى التى أستند إليها آريوس فى تأييد بدعته والتى تناولناها بالشرح منذ قليل…
(15) "صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث أسماً أفضل منهم(1).
التى أعتمد عليها أريوس وأتخذها أساساً لبدعته
أولاً: نصوص لبيان وحدانية الله:
1- "أسمع يا اسرائيل أن الرب الهنا رب واحد"(1)
هذا النص يدل على الوحدانية ولا يتعارض مع التثليث والمسيحية الأرثوذكسية تؤمن بالوحدانية وتؤمن أيضاً بالتتثليث ولا يتعارض بين الوحدانية وبين التثليث.. لأن الوحدانية من جهة وأما التثليث من جهة أخرى.. الوحدانية فى الجوهر وفى الذات الالهية لان الجوهر الألهى واحد والذات الالهية واحدة.. وأما التثليث فتثليث فى الأقانيم.. تثليث فى الصفات الالهية وهى الصفات التى تقوم عليها الذات الالهية.. وبدونها تنعدم الذات الالهية الواحدة.. وهذا النص المقدس أورده السيد المسيح فى العهد الجديد كما هو للدلالة على الوحدانية… وهذا النص هو أحد النصوص التى أستند إليها مجمع نيقية المسكونى سنة 325م عندما قرر قانون الايمان.
"نؤمن بإله واحد " وعندما قال أيضاً "نؤمن برب واحد"
وإذا كان أريوس يورد هذا النص ليعارض به عقيدة الكنيسة المسيحية الارثوذكسية فى التثليث وفى أزلية السيد المسيح له المجد فهذا يدل فى نفس الوقت على سوء فهم آريوس للعقيدة المسيحية فى التوحيد والتثليث معا..
(2) "فقال له يسوع لماذا تدعونى صالحا أنه لا صالح إلا الله وحده"(2).
وهذا نص آخر يؤيد الوحدانية ولا يتعارض مع التثليث.. فالسيد المسيح عندما نطق بهذا القول المقدس أراد به أن يستثير ايمان الشباب الحقيقى فى شخصه المبارك بإعتباره الاله المتجسد.. حيث أن الله فى حقيقته وجوهره غير منظور ولكنه أصبح منظوراً منذ التجسد الالهى والمسيح له المجد وهو الله منظوراً فى الجسد أو هو الله له كيان جسدى وصورة منظورة محسوسة أو هو الله محتجباً فى الناسوت الظاهر للناس.
ان الشاب الغنى أبتدء حديثه للسيد له المجد بقوله أيها المعلم الصالح. والسيد المسيح يريد أن يستدرج الشاب إلى الايمان الحقيقى بشخصه المبارك. فقال له "لماذا تدعونى صالحاً، لا صالح إلا الله وحده"..
وكأنه يقول له: هل كان تلقيبك لى بأنى معلم صالح سخاءا فى التعبير أم كان قولك صحيحا دقيقا يعبر عن عقيدة كامنة فى نفسك.. فإذا كان قولك سخاءا فى التعبير.. فهو قول خاطىء لأن الصلاح الكامل صفة يتفرد بها الله وحده.. وإذا كان قولك صحيحا ودقيقا ويعبر عن عقيدة كامنة فى نفسك بأننى صالح فهو اقرار منك بأننى هذا الواحد الصالح…
والقول كله فى تعبير سيدنا وفادينا أشارة من كثير من أشاراته المقدسة التى أشار بها إلى لاهوت، لأن سيددنا وان كان قد جاء محتجبا فى الناسوت وقد أخفى لاهوته عن الشيطان لكنه من وقت لآخر كان يشير بالقول تارة وبالمثل تارة أخرى وبالعمل تارة ثالثة إلى حقيقة لاهوته على أنه كان يعود إلى أخفاء لاهوته من جديد فى تصرف من تصرفات الضعف البشرى كالجوع والعطش والتعب والنوم والصلاة الضارعة واللم الذى يدل على حقيقة ناسوته وكماله...
(3) " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفونك أنت الله الحقيقي وحدك والذي أرسلته يسوع المسيح " (1).
المعنى هنا أن المعرفة بالله هي الحياة الأبدية و لن تكون كذلك إلا إذا كانت معرفة خصبه عميقة غنية حية ممتدة .. ليست أذن مجرد معرفة نظرية سطحية ضحله لأن هذه الأخيرة ليست فى حقيقتها معرفة.. ولعلها أقرب إلى الوهم من الحقيقة والذى يعرف الله معرفة حقيقية باطنية عميقة يكون حياً حياة لا يسودها الموت ولا يقوى عليها وبذلك يكون قد دخل فى الأبدية وهو على الأرض.. أذن هو حى .. لكن لا حياة خارجية تافهة.. وإنما هو حى حياة خصبة غنية نشطة فعالة قوية.
سيدنا يؤكد أن معرفة الله.. هى هذه الحياة الأبدية والله هنا هو الأب الذى يعرفه اليهود لأنه أصل الوجود وهو أب البشر.. وهو الكائن الأول.. واجب الوجود.. والعلة الأولى للوجود.. فهو أذن اله حقيقى..
وأما يسوع المسيح.. فهو الأقنوم الثانى متجسداً... هو الكلمة فى الجسد.. وهو الكائن منذ الأزل مع الأب وهو عقل الله وكلمته… لم تمر لحظة من الزمان كان فيها الأب ولم يكن الابن موجوداً معه.. ولكنه قد ظهر فى الزمان من أجل عمل الفداء.. فالابن والآب هما جوهر واحد ولاهوت واحد وهما مع الروح القدس ذات ألهية واحدة ولا فارق بين الأقانيم إلا من حيث الأختصاص.. والابن هو الذى تجسد وأن كان الآب والروح القدس قد اشتركا معه فى عمل التجسد من حيث هما معه فى الذات الواحدة وان كان فعل التجسد مختصاً بالكلمة.
الواو هنا لا تفيد الانفصال ولا تفيد العطف وإنما تفيد الإيضاح والتفسير.. ونحن حينما نقول باسم الآب والابن والروح القدس، فلا نقصد الأنفصال بين الأقانيم. وإذا كاهن المسيح له المجد يناجى الآب ويقول: أنت الآله الحقيقى وحدك.. فلا يدل هذا على أن العبارة التالية وهى: يسوع المسيح الذى ارسلته غضافية وإنما هى تفسيرية تمشياً مع المعرفة السابقة للإله الواحد كما كان يفهمها اليهود.
وأما الإرسال فليس معناه الإنفصال أو أن الابن رسول على ما يفهمه المسلمون وإنما الإرسال هنا باطنى.. فى داخل الوحدة الثالوثية.. والإشارة إلى فعل التجسد الذى تم بتدبير الثالوث القدوس.. ونظراً لأن الكلمة أصبح له كيان جسدى ظاهر أمام الناس فى ذلك الزمان ولابد أن تفسر العلاقة بين الآب الذى يعرفه اليهود وبين الكلمة المتجسد.
فالكلمة مرسل بالمعنى الخاص للدلالة على فعل التجسد وللدلالة على الكيان الجسدى الذى أصبح له على الأرض.. ولكنه ليس رسولاً بالمعنى الذى يفهمه المسلمون لأنه ليس مجرد إنسان.. ولا هو نبياً أو رئيساً للأنبياء.. ولكنه هو بعينه الكلمة مقيم السماء والأرض الذى له تخر كل ركبة فى السموات وعلى الأرض وهو مع الآب والروح القدس الإله الحقيقى وحده الذى له السجود..
ثانياً: نصوص لبيان طبيعة البنوة…
(4) لذلك مسحك الله إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك أو شركائك(1).
إذا كان هذا المزمور مناجاة وصلاة للمسيح الهنا فهو مناجاة له من حيث هو متجسد لأن صاحب المزمور يشبهه بملك مسموح بالدهن المقدس.. وإذا كان المسيح هو الكلمة المتجسد فقد جمع فى شخصه الإلهى بين الإله والانسان.. ومن حيث لاهوته فهو شريك لآب والروح القدس فى الجوهر الإلهى والذات الإلهية.. ومن حيث ناسوته فهو شريك للإنسان فى اللحم والدم وكل ما يتصل به.. والكلمة المتجسد سمى مسيحاً لأن الروح القدس أنسكب عليه.. فهو مسيح لأنه عين بمسحة الروح القدس ليكون نبياً وملكاً وكاهناً وليكون فادياً للبشر وإذن فمن هذه الجبهة عومل كلمة الله المتجسد معاملة إنسان لأنه أشترك مع الإنسان فى اللحم والدم.. فحق لصاحب المزمور أن يكلمه بهذه الصفة وأن يناجيه كملك ممسوح من الله.. فالمسيح إله من حيث لاهوته.. وكإنسان لاهوته هو إلهه..
(5) ولكن أن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله(1).
يبدو أن أريوس فهم من هذا النص الإلهى أن المسيح شئ آخر غير الروح القدس وأنه لا قدرة له بغير الروح القدس على أن يخرج الشياطين.. ولكن هذا خطأ فى الفهم والمعنى أن المسيح له المجد أراد أن يؤكد سلطانه على أخراج الشياطين واراد فى نفس الوقت أن يؤكد لليهود أنه على الرغم من ذلك ليس هو إلهاً آخراً غير الاله الذى هم يعرفونه.. لذلك لابد أن يبين ت امن الأقانيم الثلاثة معاً لأنها قائمة معاً وكائنة معاً فى جوهر واحد، وهذا النص المقدس يشير بوضوح إلى الأقانيم الثلاثة.. فالابن هو المتكلم.. والروح القدس هو المشار إليه بروح الله.. والأب هو المشار إليه بالله.. فهذا التعبير إذن تعبير للدلالة على أن عمل أخراج الشياطين وأن كان بسلطان المسيح وهو الابن الظاهر فى الجسد لكنه بغير انفصال عن الآب، والروح القدس.
(6) أما المدعوين من اليهود واليونانيين فالمسيح قوة الله وحكمة الله(2).
ما الذى يزعج شهود يهوه والآريوسيين من هذا النص ربما يقولون أنه فى كلامه "قوة الله وحكمة الله" أنه يوجد تفريق بينه وبين الله ولكن عندما يقول أن المسيح "قوة الله وحكمة الله"…
فأولاً: يتكلم عن ربنا يسوع المسيح بعد التجسد لأن لقب (يسوع) لقب من ألقاب الأقنوم الثانى بعد التجسد فهو يقصد الله الذى أخذ صورة الإنسان.. فعند قوله "يسوع المسيح حكمة الله وقوته" لا يقصد أنه أفترق عن اللاهوت.. ولكن يقصد أنه بعد التجسد وهو الله المتجسد.. صار حكمة لله فالحكمة لها شواهدها.. فلو قلنا هذا الرجل حكيم فمن أين عرفنا هذه الحكمة الحكمة شئ روحى وعقلى.. تصرفات الإنسان المنظور هى برهان حكمته غير المنظورة.. أصبحت منظورة بكلامه وتصرفاته.. فالله غير المنظور الذى لم يره أحد ولا يقدر أن يراه صار منظوراً بأن أتخذ لنفسه جسداً ولكن لاهوته غير المنظور (منظور) لأنه مستتر فى الجسد.. فالمسيح لأنه صار منظوراً وهو الله غير المنظور أصبح حكمة الله لأن الحكمة المخفية ترى فى التصرفات... عندما يقول: فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الله الكلمة ".. فكيف كان الكلمة منذ البدء.. وأن الكلمة هى برهان العقل غير المنظور.. أننا نعرف مقدار عقل الرجل من أعماله واقواله.. فلولا أن عرفنا ذلك لما عرفنا أنه عاقل.. فالعقل شئ غير منظور يرى فى الكلام.. فالكلمة هى الفكرة متجسدة على اللسان من العقل وإذا لم تتجسد لا تسمى كلمة هى فكرة فقط.. فالله غير المنظور بطبيعته ولكنه صار منظوراً بكلمته.. من هنا المسيح هو الكلمة لأنه تجسد والله هو العقل الذى لا يرى ولكن عندما صار منظوراً فى المسيح صار مرئياً.. فالمسيح كلمة الله لأن فيه رأينا العقل غير المنظور لأن الكلمة وأن كانت تتجسد فى الزمان إلا أنها هى العقل قبل التجسد.. من هنا فالكلمة وأن ظهرت فى الزمان ألا أن وجودها سابق على الزمان.. فالمسيح وأن كان تجسده تم فى الزمان إلا أن وجوده كان موجود قبل الزمان وبعد التجسد ما زال متصل مع الآب ومع الروح القدس اتصال أزلى.. فهو الكلمة وهو العقل الإلهى..
وأن كان تجسد فى الزمان إلا أنه متصل بالوجود الإلهى منذ الأزل فوجود الكلمة فى العقل الأزلى لا ينفى أزليته بعد التجسد…
فلو قال الكتاب "المسيح حكمة الله" لا نستطيع أن نتصور الله فى لحظة من الزمان كان الله فيها غير حكيم وغير عاقل.. فالحكمة قائمة معه منذ الأزل فليس هنا فصل بين المسيح والله ولكن لبيان أن المسيح هو الذى ظهرت فيه حكمة الله غير المنظورة صارت منظورة فى المسيح لأنه هو الذى أبرز هذه الحكمة لأنه جعلها قريبة من فهم الإنسان..
وعند قوله "المسيح قوة الله" نفس القياس.. الله قوى وقوته ظاهره فى الخلق.. فمن أين نعرف قوته.. فكلما نقول أنه قوى وهو غير منظور فكيف نقول ذلك أن لم نر خليقته وصنعة الخلق هى خاصة بالأقنوم الثانى عمل الخلق عمل خاص به "به أيضاً عمل العالمين" والمسيح ليبين أنه خالق عندما وجد المولود أعمى ليس له عينين صنع من التفل طيناً ووضع مكان عينيه.. فهو شفى الأعمى وعميان كثيرين.. ولكن أحياناً كان يقول لهم (أبصر – أنفتح – بالتدريج) ولكن هنا الحادثة الوحيدة التى تؤكد أن هذا الإنسان لم يكن له عينين.. فالمسيح فى هذه الحادثة عمله كما كان فى الخليقة جبل الرب الإله الإنسان تراباً من الأرض صنع هذه المعجزة بنفس الطريقة.. فالخلق إذن صفة وعمل الأقنوم الثانى.. والله بعد خالق للكون بالأقنوم الثانى. فلو مسكنا الإنسان نجد أنه لا يحب الله أو قريبه بالعقل لأن العقل لا يناسبه الحب بل التفكير والتخطيط والتدبير ولكن الحب بالعاطفة ومركز الحب والعاطفة هو القلب "حب الرب الهك من كل قلبك" فالقلب مركم الحب.. والعقل مركز التفكير.. فعندما خلق الله العالم فالخلق إنما تفكير وتدبير ثم العمل والخلق.. فالصانع يفكر فى صورة الإنسان ذهنياً ثم يعمل المطابقة بين ما فى ذهنه وما يريد صنعه.. فعندما خلق الله لإنسان فكر فى الصورة التى تكون عليها قبل الخلق ولذا "صنع الإنسان على صورته".
فالعقل هو الخلاق والمدبر فهو العقل الإلهى والفكر والكلمة والحكمة وكل ذلك أقرب للأقنوم الثانى وعند قوله "المسيح قوة الله" ليس معناه الله حاجة والقوة حاجة أخرى، ولو حذفت القوة منه فماذا يفضل.. قوة الله هو الله نفسه وهذه القوة تظهر فى الخلق والخلق من صفات الأقنوم الثانى فعندما يقول الكتاب "المسيح هو قوة الله" يقصد بأن الله وهو غير منظور وصارت قوته وقدرته منظورة فى المسيح.. فالمسيح قوة الله لأنه هو الله وقد صار منظوراً.
ثالثاً: نصوص زعم آريوس أنها لبيان خلقة اللوغوس
(7) "الرب أقتنانى فى أول طريقه قبل ما عمله منذ البد".
من الأزل مسحت من الأزل. من الأزل سمحت من الأول. من قبل أن كانت الأرض. ولدت حينما لم تكن الغمار.. والينابيع الغزيرة المياه. قبل أن أقرت الجبال وقبل التلال ولدت إذ كان لم يصنع الأرض بعد ولا ما فى خارجها ولا مبدأ أتربة المسكونة حين هيأ السموات كنت هناك وحين رسم حدا حول وجه الغمر حيث ثبت الغيوم فى العلاء وقرر ينابيع غمر. حين وضع للبحر رسمه. المياه لا تتعدى"(1).
أستعان أريوس بهذا النص الذى رأى فيه أشارة إلى سيدنا يسوع المسيح ورأى فيه ما يدل على خلقه الابن ولكن هذا النص عينه يخيب أمل أريوس فى الاعتماد عليه فإذا كانت الحكمة المشار إليها هنا هى الحكمة الأزلية. فالرب أقتناها لا بمعنى أنه خلقها ولكن بمعنى أنها كانت منذ الأزل ولا تزال قائمة وكائنة عنده ولا يختلف هذا التعبير كثيراً عما يقوله القديس يوحنا فى إنجيله "فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله".
والبدء الذى يشير غليه سفر الأمثال هو البدء بعينه الذى يشير إليه إنجيل يوحنا لأنه هو الأزل والدليل على ذلك أن النص فى سفر الأمثال يقول مباشرة من الأزل سمحت من الأول قبل أن كانت الأرض. والأول هنا هو الأزل والأزل ما لا بداية له فى الزمان… ولا يحيا فى الأزل ألا الله.. لأن الله وحده هو الأزلى الذى لا بداية له.. وهو وحده الألف والياء..
فإذا كانت الحكمة التى يتكلم سفر الأمثال باسمها يشار إلى أنها كائنة عند الله منذ الأزل.. فالمعنى من ذلك أن الابن قائم وكائن مع الآب منذ الأزل وإلى الأبد.
وهذا النص يتكلم عن الحكمة الالهية وفى هذا اشارة الى المسيح باعتبار انه هو المقصود من هذه الحكمة .. هذه الحكمة تتكلم.. يقول شهود يهوه والاريوسيون مادام الرب يقول: الرب اقتنانى أول طريقه فمعنى ذلك أن المسيح لم يكن أزليآ لانه قال "اقتنانى" ولكن كلمة "اقتنانى" لا تعنى أن هذا الاقتناء كان حديثاً أو كان هناك فرق زمانى بين الله وبين حكمته وليست "اقتنانى" بمعنى "أوجدنى" حاشا. لكن اقتنى هنا بمعنى حاز أو ملك أو أحرز.. وذلك لأن الكلمة العبرانية "قينية" وهى مثل العربى بمعنى أحرز. ملك. حاز… هذا اللفظ نجده مثلاً استخدمته حواء عندما ولدت قايين فقالت "قد اقتنيت رجلاً من عند الرب" لا بمعنى أن حواء خلقت قايين.. حاشا.. ولكن بمعنى أنه صار ابنها أى احرزته.. صار اسمه منسوبآ اليها.. صار ولدها.. وبالتالى ليس غريبآ عنها… وهذا اللفظ استخدمه ايضاً ابرآم (ابراهيم) عندما كلمه ملكى صادق "مبارك أبرآم من الله العلى مالك السموات والأرض" فقال أبرآم رفعت يدى إلى الرب الملك العلى "مالك" السموات والأرض وكلمه "مالك هنا هى "قينية بالعبرانية" بمعنى أحرز أو حاز وعلى ذلك فعندما يقول الرب أقتنانى أول طرقه أى أن الحكمة تقول أن الرب أحرزنى من الأول منذ الوقت الذى كان فيه الله نفسه ألهاً أقتنانى من الأول أى منذ البدء بدون أى فرق زمانى…
ويلاحظ أن الترجمة العربية حرفية.. لكن المعنى واضح هنا تعنى أن الله حاز الحكمة منذ الأبتداء.. منذ الأول.. منذ الأزل.. منذ أن كنت أنا الها كانت الحكمة معى.. والحكمة قائمة معى.. يقول الرب أنى أحرزت الحكمة منذ البدء منذ بدء وجودى.. على أن الله ليس له بدء لأنه موجود من الأزل وبمعنى آخر أنه منذ أن كان لله وجود، الحكمة موجودة عنده.. وهذا يشير إلى قيام الحكمة مع الله ووجودها معه منذ البدء أى أنه لم توجد لحظة من الزمان كان الله فيها موجوداً ولم تكن الحكمة موجودة معه.. وهذا حق لأننا لا نستطيع أن نتصور الله كلى الحكمة كان فى لحظة من الزمان خاوياً من الحكمة هذه العبارة إذن لا تزعجنا ولا تشككنا فى أزلية المسيح لأن القرينة نفسها تدل على أن الحكمة (وهى الابن) موجودة منذ البدء مع الله موجوده منذء الأزل.. وهذا يشير إلى أن الله حكيم منذ الأزل.. منذ بدء الوجود وهذا عكس مفهوم الهراطقة لأنهم ظنوا أن كلمة اقتنانى تدل على أن الحكمة جاءت فيما بعد. لكن كلمة "اول طرقه" وضحت المعنى أن الحكمة قائمة مع الله منذ بدء الوجود "منذ كان الله هو البدء، فالحكمة كائنة معه.. وهذا يطابق قول الإنجيلى القديس يوحنا "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" وقوله "والكلمة عند الله" هو كقول سفر الأمثال "الرب أقتنانى أول طرقه" فالكلمة أو العقل الإلهى والحكمة" وقوله "عند الله" أى لم يكن وجود للكلمة فى مكان آخر إنما كان عند الله منذ وجوده تعالى وكلمة "عند" لا تدل على المكانية لأن الله ليس له مكان أى أن المكان خارج عن الوجود الإلهى لأن الله يملأ السموات والأرض وهو غير محدود.
ولتوكيد هذا المعنى يقول "قبل ما عمله منذ البدء" أى قبل الخليقة لأن الخليقة خلقت بالحكمة بالله هو خالقها لأنه هو الأول والخالق وخلق الكون بحكمة.. يقول قبل ما عمله منذ البدء.. أى قبل الخليقة أى الحكمة قائمة مع الله قبل الخليقة، بل هو الخالق الذى به خلق العالمين قبل ما عمله منذ البدء. "من الأزل مسحت" هذه جملة بدل جملة (بدل) أى توكيد لقوله منذ كان الله فى البدء منذ الأزل.. مسحت.. وما هو الأزل؟ الأزل هو ما لا بداية له.. والأزل لا ينسب لغير الله.. لأن الإنسان مخلوق وما دام مخلوقاً فله أبتداء وما دام له أبتداء فليس أزلياً بل الإنسان خالد أى لا يموت.. قلت "خالد" ولم أقل "أبدى" الانسان لا يموت ومع ذلك لا يتصف بالأبدية، لأن الله وحده هو الأبدى لأنه هو وحده الأزلى الذى لا بداية له.. والانسان لم يكن أزلياً إذن لا يكون أبدياً.. فالصفتان "أبدى، أزلى" متلازمان وهذه ترجمة لمعنى كلمة يهوه وبالعبرانى تعنى الأزلى الأبدى، أى السرمدى.. والانسان لا يوصف بالسرمدية.
يقول هنا "منذ الأزل سمحت" وهذا الوصف الذى تتصف به الحكمة لا يمكن أن يتصف به إلا الله وحده.. فمن هذا النص نفسه يتضح أن المسيح أى الحكمة قائم مع الله منذ الأزل، منذ البدء، وإذن فهو يهدم مذهب الأريوسيين وشهود يهوه الذين زعموا وظنوا أنه يؤيدهم إذن لم تكن لحظة من الزمان كان فيها الله ولم تكن معه الحكمة.. لأن الحكمة لم تكن دخيلة على الله وجاءت عليه من خارج.. حاشا..
وقوله "سمحت" يعنى أن شخصاً مسحنى.. والمسحة دائماً تعنى التعيين، والمسيح معناه "المعين لمهمة معينة".. لما كان الملك أو النبى أو الكاهن يسمح أى عين من الله لكى يؤدى وظيفة.. فالحكمة هنا تقول "مسحت من الله" أى "عينت" لا بمعنى أن أحداً عينها ولكن بمعنى أن عمل الفداء، عمل الخلاص عمل الخلق هو من تخصص الأقنوم الثانى.. وليس فى هذا التمايز بين اختصاصات الاقانيم غرابة، فالإنسان مثلاً يفكر بالعقل ويتأمل روحياً بالعقل.. لكنه يعطف ويحب ويتحنن أو يكره بالقلب.. والإنسان هو هو بعينه لا ينقسم لكن للعقل تخصص التفكير والمعرفة والعلم وأما القلب فتخصص العاطفة والحب والحنو والرحمة والكراهية وما إلى ذلك.. والأقانيم خواص فى الذات الإلهية.. والأقنوم الثانى هو المختص بالخلق لذلك طلى المسيح عينى المولود أعمى بالطين ليبين أنه الخالق ويؤكد الرسول بولس أن الابن هو الذى عمل العالمين، فالمسيح إذن هو الخالق.. لأن الخلق عمل العقل.. والصانع عندما يصنع شيئاً فإنه يصنعه وفقاً لصورة فى الذهن وطبقاً للصورة يعمل الصنعة.. والله خلق الإنسان طبقاً للصورة الموجودة فى العقل الإلهى والعقل الإلهى هو المسيح لذلك فإن عمل الخلق هو من اختصاص الاقنوم الثانى..
"عينه" أى منذ الأزل أنا معين لهذه المهمة.. لا بمعنى أن شخص عيننى.. الحكمة أو الابن قائم مع الاب منذ الأزل أى أنه شريك الآب فى الأزلية ولأن الأب لم يكن أعلى منه حتى يعطيه الأزلية.. والخلق والعمل ولكن هو شريك مع الأب.. "من الأول".. أى يؤكد ما قاله سابقاً يعنى منذ الأزل.
(8) "فليعلم يقينا جميع آل اسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذى صلبتموه رباً ومسيحاً(1).
لقد ضل أريوس لأنه فهم من هذا النص أن يسوع المسيح مخلصنا لم يكن رباً ومسيحاً من قبل وأن الله هو الذى جعله رباً ومسيحاً ولكن الرسول الذى خطب فى جماهير اليهود قصد أن يخجل اليهود وبيّن لهم مدى الجريمة التى أرتكبوها فى أنكارهم للمسيح وفى ثورتهم عليه وفى صلبه وفى قتله.
فيسوع هذا الذى هم يعرفونه أنه هو الذى صلب ومات وقبر هو الذى يكرز به الرسل فأنه قام من بين الأموات وصعد إلى السموات وأرسل الروح المعزى كما وعد.. فيسوع هذا لم تنته قصته بما فعل به اليهود وإنما المصلوب هو بعينه المكروز به أنه قام من بين الأموات وأنه هو الذى أرسل الروح القدس على التلاميذ الأطهار وجعلهم قادرين على أن يتكلموا بلغات متنوعة بصورة معجزية دهشت لها الجماهير.
فيسوع المسيح إذن ليس ضعيفاً وإنما هو قوى وعظيم وجليل هو كذلك فى ذاته من حيث لاهوته وأن كان قد ظهر فى الضعف من حيث ناسوته فيسوع الذى هم يعرفونه فى صورة الجسد ينبغى أن لا يبقى فى الصورة التى يعرفونها هم عنه. وإنما فى الصورة المجيدة التى ظهرت بقيامته وصعوده إلى السموات وأرساله الروح المعزى وصنعه الآيات والعجائب على أيدى الرسل الأطهار فالعبارة التى نطق بها الرسول هى تعبير يشرح التطور الذهنى فى الصورة المفهومة عن المسيح له المجد وهى صورة خفيرة تبعاً للمفهوم الذى صاحبها بالنسبة لليهود بصفة خاصة.. وإلى الناس جميعاً بصفة عامة…
ولفظ جعل لا يفيد أن يسوع المسيح له المجد.. قد تغّير فى ذاته.. وإنما هو تعبير للدلالة على التطور الذهنى فى الصورة التى كانت للمسيح بالنسبة لأذهان اليهود الى أن أنتقلت إلى الصورة التى أصبحت له فى أذهان اليهود الذين آمنوا بالمسيح بمعجزة التكلم بالألسن.
(9) "الذى هو صورة الله غير المنظورة وبكر كل خلق"(2)
والظاهر أن أريوس أستعان بهذا النص لا سيما الجزء الأخير منه، لتأييد بدعته فى أن الابن مخلوق.. أما النص نفسه فلا يحتمل شيئاً من هذا بل واضح من النص الدلالة على علاقة الابن بالآب أو العلاقة بين الله غير المنظور وبين الله وقد صار منظوراً.. وهو ما يؤكده أنجيل يوحنا "الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذى فى حضن الآب هو خبر"… وأما أن الابن هو بكر كل خلق فالمعنى أن الابن هو رأس الخليقة وسيدها ومبدئها لأن به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما كان ولأن به عمل العالمين. وكلمة البكر تفيد الأول.. لأن الله هو الأول وهذا ورد كثيراً فى كتب الأقدمين من الفلاسفة وكبار المفكرين.
وقد استخدم هذا التعبير أكثر من مرة فى معنى الأول على الأطلاق.. من ذلك:
.. أن السيد المسيح له المجد وصف بأنه بكر الراقدين بمعنى أنه أول الراقدين.. كما وصف بأنه البكر بين أخوة كثيرين ولا شك أن البكر هنا تفيد الأول.. والأولية هنا هى أولية كرامة لا أولية زمنية.. فالمسيح بكر كل خلق.. بمعنى أول كل خلق.. بمعنى أنه هو الأول الذى أنشأ الخلق..
(10) "الذى هو أمين لمن أقامه كما كان موسى فى جميع بيته"(1)
هذه الإقامة لا تتعارض بتاتاً مع أزلية المسيح له المجد من حيث لاهوته.. لأن الاقامة هنا فى التعيين بالمسحة المقدسة مسحة الروح القدس التى أخذها المسيح له المجد فى نهاية الأردن وبهذا صار فى مهمته الرسمية كمعّين فى وظيفة الكهنوت التى صارت له بطريقة رسمية علنية فى نهر الأردن .. ففى نهر الأردن كان حلول الروح القدس بالنسبة للمسيح معمودية، وميرون وكهنوت.. أما المسيح من حيث لاهوته فهو قائم وكائن مع الأب والروح القدس منذ الأزل وإلى الأبد..
(11) "وكان يسوع يتقدم فى الحكمة والقامة (السن) عند الله والناس"(2)
فى هذا النص ينحصر الكلام عن مخلصنا على صفاته الناسوتية، دون اللاهوتية.. فما دام سيدنا وربنا قد أتخذ لاهوته ناسوتاً كاملاً.. وأتحد به أتحاداً كاملاً بغير افتراق.. فهذا الناسوت ما دام حقيقياً فلابد أن ينمو ويكبر ويصير إلى قامة ملء الانسان.. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى، فما دام سيدنا قد أتخذ لاهوته ناسوتاً كاملاً من جسد ونفس ناطقة، فالنفس الناطقة بصفتها نفساً إنسانية تنمو هى أيضاً فى المعرفة الطبيعية كما تنمو نفس كل إنسان وتزداد فى المعرفة وفى الحكمة الانسانية ينمو القوى العاقلة وبإزدياد الخبرات والمدركات الحسية التى تنتقل إلى داخل النفس عن طريق الحواس حيث أن الحواس أبواب المعرفة الإنسانية.
ؤلاشك ان سيدنا يسوع لة كمال المعرفة من حيث لاهوته وهى معرفته الزلية الأبدية وعلمه الذى لا يحد ولا يستقصى ولكنه من حيث ناسوته له أيضاً معرفة انسانية قابلة للنمو
والازدياد بحسب القوة العاقلة الانسانية فى النفس الانسانية وينمو المعرفة الحسية .. والخبرات البشرية .. والمسيح له المجد له ان يستغل معرفته اللاهوتية الازلية الابدية حينما
يشاء وله ايضا ان يستغل معرفته اللاهوتية الازلية الابدية حينما يشاء وله ايضا ان يظهر هذه المعرفة تدبيرا وقصدا ...وفى هذه الحالة الاخيرة يستغل معرفتة الانسانية ..فلا تبدو امام الناس الا معرفة انسانية عادية قابلة للنمو والتطور بحسب القوة العاقلة وبحسب نمو المعرفة
الحسية والخبرات البشرية
(12) "ثم تباعد قليلا وخر على وجهة وهو يصلى قائلا ان كان يستطاع فلتعبر عنى هذه
الكاس ليس كمشيئتك..ثم مضى ثانية وصلى قائلا: ان كان لا يستطاع ان تعبر عنى هذه
الكاس الا ان اشربها فلتكن مشيئتك"(1).
فان كان يبدو من هذا النص ان هناك مشيئتين مشيئة للمسيح له المجد ومشيئة للاب..لكن
الحق ان للمسيح مخلصنا مشيئة واحدة وهى بعينها مشيئة الاب..ولكن كان لابد ان يظهر فى عمل الغداء كمال
ناسوت المسيح ’وانه لم ياخذ جسدا خياليا كما زعم اوطاخى وبعض الهراطقة بل ان كلمة اللها اتخذ له جسدا حقيقيا ذا نفس ناطقة..ولابد ذهنيا ان نتصور ان تكون للناسوت مشيئة’وامام هول الصليب وعظمة الامة لابد للناسوت ان يرفض الالم اذا كان ناسوت حقيقيا فسيدنا فى صلاته فى بستان جسيمانى يعبر عن شدة آلامه الحقيقية وكأنه يتمنى أن تعبر عنه كأس الألم أو كأس الصليب ولكنه فى نفس الوقت هو يشاء أن يصلب من أجل البشر ليفديهم ويموت بديلاً عنهم لأنه كما قال: "… من أجل هذه الساعة قد أتيت"… فليس هناك فى الواقع مشيئة للمسيح تتعارض مع مشيئة للآب ولكنه تعبير عن الآلام وأنها حقيقية لدرجة أن الناسوت لو كان خلوا من اللاهوت لكان يتمنى أن تعبر عنه كأس الصليب ويمكن أن نشبه هذه الحالة بموقف من المواقف يشعر فيه الانسان برغبتين هما حسب المنطق الشكلى والذهنى متعارضتان ولكنهما من جهة الواقع لابد أن تخضع أحداهما للأخرى… واذا قال الانسان أحياناَ كنت أريد هذا الامر.. ولكنى لا أستطيع لأنه يتعارض مع رغبة أخرى أخرى أحترمها وأقدرها تقديراً يسمو عن تقديرى للرغبة الأولى.. فهذا التعبير تعبير فصيح لاظهار حقيقة وجود هاتين الرغبتين.. فى وقت واحد.. وأنه يمكن للانسان أن يميز تمييزاً ذهنياً فى نفسه ولكنه مع ذلك.. أخضع أحداهما للأخرى فى واقع الأمر…
هذا الاخضاع هو أيضاً برغبته لأن تقديره للرغبة الأعلى يسمو على تقديره للرغبة الأدنى .. وبالأجمال فان كان يبدو التعارض شكلآ بين الرغبتين فى المجال الذهنى البحت .. لكن ليس بين الرغبتين تعارض فى مجال الواقع العملى .
وتطبيقاً لهذا نقول ان المسيح له المجد راغب فى خلاص البشرية … وبالتالى فى احتمال الألام وكأس الصليب ولكنه فى نفس الوقت ولأنه أتخذ ناسوتاً حقيقياً ..والناسوت لابد إذا كان ناموساً حقيقياً أن لا يرضى بالصليب والألم ..ولابد ان يعبر عن رغبته فى الهرب من الألم ولكن مع ذلك فالناسوت أيضاً يحتمل الألم برغبته فى سبيل الرغبة الأعلى وهى خلاص البشرية … وهى فى نفس الوقت رغبة اللاهوت والناسوت معاً وليس بين الأثنين فى الواقع تعارض .. لأن الناسوت ناسوت الكلمة متحداً به بغير افتراق او أنفصال ..
(13) "الذى فى ايام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر ان يخلصه من الموت وسمح له من اجل تقواه ..مع كونه إبناً تعلم الطاعة مما تألم به . وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص ابدى(1) "
والإشارة فى هذا النص المقدس إلى معركة بستان جثيمانى حيث جثى مخلصنا على ركبتيه وصار يصلى وكان عرقه يتصبب مثل قطرات الدم مما يدل على علم الألام وشدة الحزن وقسوة الألام النفسية وعنفها … قدم المسيح صلاة إلى الرب .. قدم كلمة الله بالجسد صلاة إلى الله الأب وفى لاهوته كمال القدرة على ان يجنبه الألم ولكنه فى نفس الوقت لا يمكنه ان يتعارض مع ارادته ومشيئته فى قبول موت الصليب لانه من اجل هذه الساعة قد أتى من السماء ولا معنى لاجتياز ولا معنى لتجنب الصليب وهو قد جاء خصيصاً لهذا الغرض على ان هذه الصلاة لم تكن محصورة فى تجنب الام الصليب لكنها كانت تتجه إلى قوة الأحتمال ..لأن الألام كانت شديدة وكان يمكن ان تجهز هذه الألام على ناسوت المسيح قبل ان يصلب ..ومعنى هذا ان الألام النفسية التى عاناها المسيح له المجد فى بستان جثيمانى خاصة وانه كان يعلم بكل ما سيأتى عليه..نقول ان هذه الألام كانت شديدة لدرجة إنها كانت كافية لأن تضع حداً لحياة المسيح فى الجسد قبل ان يتم عمل الفداء … ولو كان هذا قد حصل لما كان عمل الفداء قد تم ولا خلاص البشرية قد تحقق بل تكون خطة الله وتدبيره فى خلاص الأنسان قد فشل ويكون الشيطان قد نجح ويكون الله قد فشل .
كان إذاً لابد ان يحتمل المسيح آلامه ألام الصليب حتى النهاية وكان لابد لحياة المسيح ان تطول واحتماله إذ يمتد إلى ان يتمم عمل الخلاص، وهذا ما حدث فعلاً ..فأن المسيح احتمل الألام الشديدة جسديه كانت ونفسية بل وروحية إلى إن تم صلبه ونكس الرأس وقال قد أكمل ومع ذلك .. فلم تطل حياة المسيح فى الجسد كثيراً بل مات بعد الصلب بثلاث ساعات فقط مع ان اى مصلوب يموت بين 18 إلى 24 ساعة نتيجة هبوط تدريجى فى القلب وتمزق بسيط فى شرايين الجسم والقلب …
أما المسيح فصلب فى الثالثة ومات فى السادسة وكأنه مات فى ثلاث ساعات فقط حتى ان الصالبين عندما أرادوا ان ينزلوا الأجساد من على الصليب نظراً لأستعدادات عيد الفصح .. رأوا ان يكسروا ساقى كل مصلوب من المصلوبين الثلاث حتى يموت فينزلوه من على الصليب ويعودون إلى إجراءات عيد الفصح وفعلاً كسروا ساقى الأول والثانى اللذين صابا مع مخلصنا وهما لص اليمين ولص الشمال ولما جاءوا لفادينا وأرادوا ان يكسروا ساقية كما كسروا ساقى اللص اليمين والشمال وجدوه قد مات سريعاً ولابد ان يكون الموت قد حدث نتيجة انفجار فى القلب وفى هذا تمت نبوة النبى الأنجيلى فى المزمور الثانى والعشرون القائلة "العار قد كسر قلبى "وكسر القلب هنا هو ما نسميه فى الطب الحديث انفجارات القلب أو انفجارات شرايين القلب … واذا كان الرسول فى رسالته إلى العبرانيين يشير إلى صراخ ودموع من جانب سيدنا فالإشارة هنا إليه من حيث هو بديل عن الإنسان وفادى البشر وقد حمل صورة الإنسان . فالإشارة إليه من حيث ناسوته ولانه اخذ ناسوتاً حقيقياً كاملاً ولا يعيب سيدنا أن يصلى طالما أنه فى الجسد بل هو دليل ناسوته الكامل وليس صراخه ودموعه معناه ان لاهوته قد فارق ناسوته وانما معناه أنه لم يدع للاهوته ان يوقف عمل الناسوت وخصائصه ..وصفات الناسوت كاملة ولكنه أحياناً مع وجود صفات اللاهوت يخفيها أو بتدبيره يمنع تدخلها لوقف عمل الناسوت ..بتدبيره أحياناً يدع عمل اللاهوت ظاهراً بحيث لا يكاد يظهر للناسوت من أثر وذلك بمحض إرادته ومشيئته الواحدة ،حيث ان لسيدنا مشيئة واحدة وطبيعة واحدة هى طبيعة اللاهوت والناسوت متحدان بغير إختلاط ولا امتزاج ولا تغير وكذلك جاز للكتاب ان يصفوا المسيح بالتقوى وهذه التقوى من صفات الناموس كما جاز له ان يصف المسيح بالطاعة وهذه الطاعة من صفات المسيح الناسوتية ولكنه فى طاعته لا يطيع لاهوتاً أخر غير لاهوته هو ذاته لأن الاهوت الذى فيه هو الاهوت الذى يملأ السماء والأرض ،هو لاهوت الاله وحده الحقيقى ..الله محب البشر الذى فيه هو لاهوت واحد الذى فى الأب والروح القدس … مجد واحد وقدرة واحدة وسرمدية واحدة للذات الألهية الواحدة ،اما قول الرسول بأنه سمع له ومعنى ذلك انه استجاب إلى طلبه لئلا تجهز الألام عليه قبل ان يتم عمل الفداء وفعلاً طالت حياته لجسدية على الأرض إلى لن تم عمل الصلب وهذا معناه فى قول الكتاب "واذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدى "..
(14) " الذى اذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله ..لكنه أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس(1) .
واذ وجد فى الهيئة كانسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب ..لذلك رفعه الله ايضاً واعطاه اسماً فوق كل اسم لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ..ويعترف كل لسان ان يسوع المسيح هو رب لمجد الله الأب "
هذه النصوص من رسالة ماربولس إلى كنيسة فيلبى تبين لنا مقام المسيح الألهى ..فهو معادل لله الأب مساو له فى الربوبية والمجد والأزلية والأبدية وكل الكمالات الألهية ..وهو التعبير الذى استند إليه أباء محمع نيقية ورد فى قانون الإيمان عن ربنا يسوع المسيح انه نور من نور إله حق من إله حق .مولود غير مخلوق مساو للأب فى الجوهر 0m00uqosgomooclo ..فمع ان اقنوم الابن متميز عن كل من الأقنوميين الأخرين فى الثالوث القدوس الا ان كل من الأقانيم مساو للأخر فى جميع الكمالات الالهية ..فالاقانيم الثلاثة جوهر واحد وكلها قائمة معاً فى الجوهر الواحد منذ الأزل وإلى الأبد ..وهذا هو التفسير الدقيق لكلمة ouooycldc وقول الرسول لم يحسب خلسة بمعنى ان هذه المساواة بين أقنوم الله الأبن والله الكلمة او اقنوم الله الأب ليست مفتعلة ولا مغتصبة وانما هى مساواة طبيعية بين اقنومين فى جوهر واحد وذات إلهية واحدة ..
ومعنى ان المسيح يسوع كما جاء فى عدد 5 من نفس الأصحاح كان فى صورة الله اننا رأينا فى المسيح يسوع صفات الله الغير المنظور لانه كما يقول الأنجيل الله لم يره أحد قط ..الابن الوحيد فى حضن الأب هو خبر .
فاقنوم الابن هو من نفس جوهر اقنوم الاب وطبيعته ولكنه أتخذ ناسوتاً وصار منظوراً فى الهيئة بين الناس ولكن فيما هو ظاهر فى الجسد أعطانا صورة الله الأب الغير منظور .
فالابن إذاً هو إقنوم الكلمة وهو من حيث لاهوته مساوٍ للأقنوم "الأب فى الكمالات الألهية وهو من ذات طبع الأب والروح القدس ومن ذات الجوهر الالهى ،ولا فرق الا فى ان أقنوم الابن او الكلمة اخذ صورة البشر وظهر بها فى الهيئة كانسان ..فمن رأه فى الجسد رأى فيه الله الغير منظور فى صفاته وكمالاته الالهية وقد اخلى الابن نفسه من مجد الكرامة الالهية حيث انه أخذ صورة الناس وظهر فى الهيئة على الأرض وحل فينا وبيننا لكن لم يخل السماء من وجوده ففى نفس الوقت كان المسيح له المجد بلاهوته على الأرض وبلاهوته فى السماء ..وذلك يتضح من قوله ليس احد صعد إلى السماء الا الذى نزل من السماء ابن الأنسان الذى هو فى السماء فهو اذن لم يخل السماء من وجودة او من لاهوته لكنه اخلى ذاته بمعنى انه تنازل وقبل صورة الناس واتخذ له جسداً من لحم ودم متحداً بنفس ناطقة وصار بذلك متأنساً كالبشر وقد قبل صنوف العذاب والألام والأهانات والصلب وكل ما يقترن بطبيعة البشر فى ذلها وهوانها ..وقد صار فى شبه الناس لانه وهو الله الكلمة اخذ جسداً انسانياً ذا نفس ناطقة وصار له كيان جسدى وصار له كل ما للبشر كأنه واحد منهم مع أنه فى نفس الوقت خالقهم ويملأ بلاهوته السماء والارض .
اذن ..هو فى شبه الناس لا بمعنى أنه أتخذ جسداً خيالياً كلا وحاشا ..لانه أخذ وأتخذ جسداً حقيقياً وانما فى شبه الناس من حيث انه وهو فى الجسد لم يكن فى حقيقته مجرد انسان وانما كان فى جوهره الله الكلمة المتجسد .
فكلمة"شبه "هنا لا تعارض حقيقة الناسوت الذى أتخذه كلمة الله ولا تؤيد ما ذهب اليه اوطاخى الهرطوقى الذى انكر حقيقة الناسوت بادعائه ان الناسوت قد اندمج فى اللاهوت وأختلط به وضاع فيه وأمتص فيه كما تضيع او تمتص نقطة من الخل فى المحيط وانما كلمة شبه هنا تنصرف إلى الدلالة على ان المسيح له المجد لم يكن مجرد انسان وانما كان فى حقيقتة الله متجسداً .. وقد تصرف فى الجسد تصرف انسان وهو الأله فخضع ناسوته لكل ما يخضع له ناسوت البشر من احوال فيما عدا الخطيئة ولم يسمح للاهوته ان يتدخل فيوقف أعمال الناسوت وصفاته..ولذلك سمح لنفسه ان يجوع وان يعطش وان ينام وان يتألم ألماً كاملاً من غير تخفيف أو نقص وقد أطاع وهو فى الجسد الشريعه التى انزلها هو بنفسه على البشر لأنه وهو واضع القانون أول من يحترم القانون الذى هو واضعه ..ولذلك فأنه نظر إلى يوحنا لتعميده ..ولما اعترض يوحنا قائلاً : انا محتاج ان أعتمد منك ،قال له السيد المسيح اسمح الأن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ..وعندما شفى الأبرص قال له اذهب ار نفسك للكاهن وقدم ما أمر به موسى ..وكل ما أمرت به الشريعة اطاعه المسيح له المجد وعمل به وباشر الطقوس كما رسمتها الشريعة وتمم الفصح بحسب ما أمر به موسى ..وقد سار فى طاعة الشريعة حتى الموت ..موت الصليب .. لأن الشريعة نصت على انه بدون سفك دم لاتحصل مغفرة..ولذلك جاء المسيح من السماء لكى يغفر بموت خطيئة الأنسان ولولا الطاعة لأوامر الشريعة لما كان المسيح يجيء ويصلب من اجل البشر وربما يقال انه فى مقدوره ان يغفر بدون عمل الصليب ..ولكن هذا القول مستحيل لأن الحكم الذى أصدره الله على الأنسان الأول وفيه كل جنسه لا يمكن ان يسقط للأنسان أن يموت ولا يمكن ان ينقل الموت للأنسان الا اذا تم الموت بموت بديلاً عن الانسان ..وكان هذا الواحد هو المسيح وهو الله متجسداً ..أما قول الكتاب لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم ليس معناه ان المسيح كان وضيعاً فى تطوره وصعد إلى المجد كما يدعى آريوس ..ويزعم ان فى هذا النص مايدل على تطور فى المسيح من حالة إلى حالة لكن هذا التطور لا وجود له من حيث لاهوت المسيح لأن اللاهوت لا يقبل التغير ولا التطور ولا الارتقاء وانما لان المسيح اتخذ صورة الناس وصار بازاء العدل الالهى بديلاً عن الانسان وقد مات ذبيحاً وكان موته على الصليب ذبيحة "كفارة"عن البشر جميعاً إلى الله الأب وقد قبلت هذه الذبيحة وكان فيها الترضية الكافية لعدالة الله وللحكم الذى أصدره الله على الانسان ..ولما قبلت هذه الذبيحة قام المسيح من بين الأموات وصعد إلى السماوات وجلس فى الأعالى فى أسمى مكان .وبذلك انتقل المسيح له المجد من الأرض التى فيها أهين وصلب ومات نيابة عن الإنسان إلى السماء ..إلى قدس الأقداس الذى صعدت إليه ذبيحة المسيح الكفارية ذبيحة مقبولة من الله الأب ..فالمرفعة المشار اليها هنا ليست رفعة من اللاهوت لأن اللاهوت لا يقبل الرفع كما لا يقبل الخفض وإنما الرفعة هنا بمعنى إرتقاء المسيح من الأرض إلى السماء كما أنها تشير إلى أن المسيح صار بموته على الصليب ذبيحة "كفارية" فدائية لخلاص البشر وقد قبلت هذه الذبيحة ودخل بعدها إلى السماء والمسيح بحق الخلاص الذى قدمه للبشر صار رأس الخليقة الجديدة وتاجها ومخلصها وفاديها وملكاً لملكوت السموات ورئيساً لجيش الخلاص فصار أسمه هو الأسم الذى يطلق على المسيحيين الذين أنضموا تحت لوائه ودخلوا فى سياج مملكته وصاروا من أعضاء جسده السرى وليس عند المسيحيين اسم يفتخرون به أعظم من أسم المسيح ولولا قيامة المسيح وهى دليل إنتصاره على الموت بلاهوته وتحقيق خلاصه للبشر لما كان للمسيح وجود ولا أسم يعرف إلى اليوم بين الناس.. بل كان شأنه شأن أى إنسان عادى عاش ومات ودفن ولم تقم له قائمة.. وبالإجمال فإنه يلزم أن نكون حذرين فى تفسير نصوص الكتب المقدسة بالنسبة للمسيح له المجد فنميز بين النصوص التى تتناول الناسوت والنصوص التى تتناول اللاهوت فكل نص ينسب إلى المسيح "الجوع"، العطش، النمو، التطور والانتقال من حالة إلى حالة كلها نصوص تتناول الناسوت ولا تتعرض للاهوت الذى هو فى نفس الوقت متحد به ومن بينها هذه النصوص التى وردت فى رسالة ماربولس إلى فيلبى الإصحاح الثانى التى أستند إليها آريوس فى تأييد بدعته والتى تناولناها بالشرح منذ قليل…
(15) "صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث أسماً أفضل منهم(1).