احتلَّت الصلاة الربانيَّة مكانة كبيرة وبارزة في الكنيسة منذ العصر الرسولي على اعتبار أنَّها الصلاة التي علَّمها الرب نفسه ونطق كلماتها بفمه الطاهر . وأصبح لها مكانة ليتورجيَّة خاصة في العبادة الكنسيَّة. فلا تبدأ صلاة أو تنتهي بدونها . ولذلك اهتمَّ الآباء كثيرًا بشرح وتفسير الصلاة الربانيَّة سواء لجماعة الموعوظين لكي يقدِّموا لهم حقائق الإيمان المسيحي أو لجماعة المؤمنين لكي يثبِّتوهم في الإيمان السليم. وقد كان ذلك يحدث إمَّا من خلال تقديم شروحات خاصة بالصلاة الربانيَّة أو في سياق شروحاتهم للكتاب المقدَّس . لذلك فقد غاص الكثير من الآباء في أعماقها إذ وجدوا فيها نبع لا ينضب ل لتأمُّل الروحي . كما وجدوا لذَّة كبيرة في شرح كلماتها وتقديمها للجموع .
ومن أشهر الآباء الذين قدَّموا تفسيرات لتلك الصلاة العظيمة : العلامة ترتليان – القدِّيس يوحنا ذهبي الفم – القدِّيس أغسطينوس – القدِّيس كيرلس الكبير، وكذلك القدِّيس كبريانوس أسقف قرطاجنَّة وهو صاحب النص الذي سنقدِّمه على صفحات هذا الكتاب .
ومن يتأمَّل كتابات القدِّيس كبريانوس يرى فيها ملامح الأب الكنسي الذي يربط أولاده بعمق الحياة في شركة الكنيسة التي خارجها لا يوجد خلاص، غير متجاهل العلاقة الشخصيَّة التي يجب أن تربط المسيحي المؤمن بالرب يسوع وبالثالوث الأقدس.
ونرى في كتابات القديس كبريانوس أيضًا الراعي الإنجيلي الذي من خلال دراسته لكلام اللَّه يستخلص الدروس الجميلة من كل أحداث الكتاب المقدَّس، دروس تمس حياة كل أحد وتبني علاقته مع اللَّه بطريقة مباشرة .
وهذا ما نجده بوضوح في كتابه عن الصلاة الربانيَّة .
أغلب الظن أن القدِّيس كتب هذا الكتاب في عام 251 م أو 252 م تقريباً. وقد استعان القديس كبريانوس بكتاب معلِّمه العلامة ترتليان عن الصلاة الربانيَّة وإن كان شرح كبريانوس أعمق وأشمل .
يتكلَّم القدِّيس في كتابه هذا عن أهميَّة الصلاة الربانيَّة كصلاة سلَّمها لنا رب المجد بنفسه، مشيرًا أيضًا إلى شكل ونوع الصلاة المقبولة لدى اللَّه الآب موضِّحًا أهميَّة إظهار الخشوع حتى من مجرَّد مظهر الجسد أو نبرة الصوت، وأيضًا أهميَّة أن تكون الصلاة في الخفاء ومن القلب.
كما أوضح أن صلاتنا لا يجب أن تكون فرديَّة حتى لو كنَّا نصلِّي بمفردنا فصلاتنا عامة ومشتركة بين الجميع وعندما نصلِّي لا نطلب "لأجل الواحد لكن لأجل الكل، لأنَّنا نحن الكل واحدٌ".
ثم يدخل في شرح كلمات الصلاة الربانيَّة جملة بجملة مشيرًا إلى المعنى الروحي للكلام، غير متناس البعد العملي لكلمات الصلاة . وكذلك أيضًا نبَّه على أهميَّة اقتران الصلاة بالعمل قائلاً "فهؤلاء الذين يصلُّون يجب ألاَّ يتقدَّموا إلى اللَّه بصلُّوات غير مثمرة".
ثم يختم كتابه بالحديث عن نظام العبادة في عصره، ويحمل حديثه عنه إشارة مبكِّرة عن صلُّوات السواعي التي هي في صميم تقليد الكنيسة .
هذا النص مترجَّم عن الترجمة الإنجليزيَّة والتي نُشرت في كل من :
Ante- Nicene Fathers Volume V
Cyprian, Treatise IV
Catholic University Press
Patristic Series
St. Cyprian, Treatises
وقد قام المترجِّم بوضع الملاحظات التوضيحية الموجودة بالهامش .
الرب يعطي لنا استنارة القلب بصلوات أبينا قداسة البابا شنودة الثالث حتى نستطيع أن نصلِّي بالروح والحق بنعمة الرب يسوع الذي له المجد والسجود مع أبيه الصالح والروح القدس من الآن وإلى الأبد آمين
أهمية الصلاة الربانية
1. أيُّها الإخوة الأحبَّاء، إن المبادئ الإنجيليَّة ما هي إلاَّ تعاليم إلهيَّة، أساسات يُبنى عليها الرجاء، سند لتقويَّة الإيمان، غذاء لإبهاج القلب، دفات لتوجيه طريقنا، حرَّاس لنوال الخلاص، فهي إذ تُرشد العقول المطيعة للمؤمنين الذين على الأرض، تقودهم إلى ملكوت السموات .
فاللَّه أراد أيضًا أن تُقال وتُسمَع أشياء كثيرة بواسطة خدَّامه الأنبياء، ولكن كم تكون أعظم بكثير، تلك الأشياء التي يقولها الابن، تلك الأشياء التي يشهد لها – بصوته - كلمة اللَّه الذي كان في الأنبياء.
ليس بعد يدعو إلى تهيئة الطريق لمجيئه لكنَّه أتى بنفسه وفتح لنا الطريق وأرانا إيَّاه، حتى نثبت في طريق الحياة، مع الرب قائدنا ومرشدنا، إذ قد استنرنا بنور النعمة، نحن الذين كنَّا قبلاً تائهين في ظلال الموت بدون تدبير وفاقدي البصر .
2. فبجانب نصائحه المفيدة ومبادئه الإلهيَّة التي بها يرشد خاصَّته لأجل خلاصهم، أعطانا بنفسه أيضًا صورة للصلاة، وقام بإرشادنا ونصحنا عمَّا يجب أن نصلِّي لأجله .
فاللَّه الذي جبلنا لنحيا علَّمنا بصلاحه أيضًا أن نصلِّي، ذاك الصلاح الذي به تنازل ليعطي ويهب لنا كل شيء، حتى إذا ما خاطبنا الآب بهذه الصلاة وهذا التضرُّع الذي علَّمنا الابن إيَّاه تُسمَع صلواتنا بسهولة أكثر . وقد قال سابقا "وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَق" (يو 23:4)، وهكذا حقَّق المسيح ما قد وعد به قبلاً، إذ نحن الذين بتقديسه إيَّانا قد قبلنا الروح والحق نستطيع بتعليمه أن نسجد بالروح والحق .
فهل هناك صلاة أكثر روحانيَّة من تلك التي أعطانا إيَّاها المسيح الذي فيه أيضاً (أي المسيح) نلنا الروح القدس؟
هل هناك صلاة للآب صادقة أكثر من تلك التي أعطانا إيَّاها الابن - الذي هو الحق - من فمه؟ هكذا فالصلاة بخلاف ما علَّم لا تكون جهل فحسب بل تكون خطيَّة أيضًا إذ قد أَسَّس المبدأ قائلاً : " رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُم " (مر 9:7).
3. لذلك أيُّها الاخوة الأحبَّاء فلنُصَلِ كما علَّمنا اللَّه معلِّمنا. فالصلاة تكون أكثر قربًا ودالَّةً عند اللَّه عندما نتضرَّع إليه، بنفس كلماته الخاصة ونُصعِد إلى آذانه صلاة المسيح .
وهكذا يقبل الآب كلمات ابنه عندما نصلِّي . ولنجعل الابن الذي يسكن في قلوبنا ينطق أيضًا في أفواهنا . وحيث أنَّه شفيع لنا أمام اللَّه من أجل خطايانا، فلنقدِّم كلمات شفيعنا عندما نطلب كخطاة من أجل خطايانا . لأنَّه قال أن "كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ" (يو 23:16) فما أعظم الفاعليَّة التي بها ننال ما نطلب باسم المسيح إن كنَّا نطلب بصلاته الخاصة؟ !
4. ولكن لتكن صلاتنا وطلباتنا بمهابة وانسحاق متذكِّرين أنَّنا واقفون في حضرة اللَّه فيجب علينا أن نرضيه سواء بمظهر الجسد أو بنبرة الصوت، فكما أنَّه من سمات الإنسان الذي بلا حياء أن يكون مزعجًا بصراخه، فهكذا على الجانب الآخر، يليق بالإنسان المتواضع أن يصلِّي بطلبات هادئة . بالإضافة إلى ذلك، فقد أمرنا الرب في تعاليمه أن نصلِّي في الخفاء في الأماكن المنعزلة والبعيدة عن الأنظار، في مخادعنا، فتلك الأماكن تناسب الإيمان بالأكثر، حتى نعرف أن اللَّه حاضر في كل مكان، وهو يسمع ويرى الكل وفي عظم مجده ينفذ حتى إلى المواضع الخفية والسرية، كما هو مكتوب "أَلَعَلِّي إِلَهٌ مِنْ قَرِيبٍ يَقُولُ الرَّبُّ وَلَسْتُ إِلَهاًمِنْ بَعِيدٍ. إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلَأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ يَقُولُ الرَّبُّ؟" (أر23:23-24). وأيضًا "فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَيْنِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِين" (أم 3:15). وعندما نلتقي بالاخوة في مكانٍ واحد لنقدم الذبائح الإلهيَّة مع كاهن اللَّه، يجب أن نراعي التواضع والانضباط، فلا نتلو صلواتنا بلا تمييز بل بصوتٍ خافت، ولا نطرح طلبتنا أمام الرب في صخب بل نستودعها للَّه بخشوع .
فاللَّه هو سامع للقلب لا للكلام ولا يحتاج إلى التنبيه الصاخب لأنَّه يرى أفكار الإنسان، كما يُثبِت لنا الرب هذا بقوله "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟" (مت 4:9). وفي موضع آخر "فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ الْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبَِ" (رؤ 23:2).
5. هذا هو ما فعلته حنَّة أم صموئيل، كما ورد في سفر صموئيل الأول، مُجسِّدةً لنا صورة من صور الكنيسة الملتزمة والمتيقظة، التي تصلِّي إلى اللَّه لا بصخب، ولكن في هدوء وتواضع، في أعماق قلبها . تكلَّمت حنّة بصلاة خفيَّة ولكن بإيمان ظاهر، تكلَّمت بقلبها لا بصوتها، لأنَّها طلبت بإيمان .
والكتاب الإلهي يؤكِّد ذلك عندما يقول "فَإِنَّ حَنَّةَ كَانَتْ تَتَكَلَّمُ فِي قَلْبِهَا, وَشَفَتَاهَا فَقَطْ تَتَحَرَّكَانِ, وَصَوْتُهَا لَمْ يُسْمَعْ" (1صم 13:1).
ونقرأ أيضًا في المزامير "تَكَلَّمُوا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَضَاجِعِكُمْ وَاسْكُتُوا" (مز 4:4) كما يشير الروح القدس إلى تلك الأمور عينها من خلال إرميا ويعلِّم قائلاً: "قولوا في قلوبكم لك يا رب ينبغي السجود" (باروخ 5:6).
6. أيُّها الإخوة الأحبَّاء، يجب ألاَّ يجهل الإنسان العابد الأسلوب الذي صلَّى به العشَّار مع الفرِّيسي في الهيكل، لا بعيون مرتفعة باجتراء نحو السماء ولا بأيادي مرفوعة بافتخار، بل لقد طلب عون المراحم الإلهيَّة قارعًا صدره، معترفًا بالخطايا الدفينة . وبينما كان الفرِّيسي فخورًا بنفسه، استحقَّ العشَّار أن ينال التقديس أكثر من ذلك الفرِّيسي، لأنَّه لم يضع رجاء خلاصه على ثقته في برِّه، إذ لا يوجد من هو بلا خطيَّة، ولكنَّه صلَّى بتواضع معترفًا بخطيَّته، فسُمِعَت صلاته
من الذي يغفر للمتَّضعين، وهذه الأمور يسجِّلها الرب في إنجيله قائلاً: "إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراًدُونَ ذَاكَ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِع" (لو 10:18-14)
7. أيُّها الإخوة الأحبَّاء، بعدما تعلِّمنا هذه الأشياء من القراءات المقدَّسة، وفهمنا الطريقة التي يجب أن نتقدَّم بها إلى الصلاة، فلنعرف أيضًا من تعليم الرب ما يجب أن نصلِّي به .
8. بدايةً، فإن معلِّم السلام ورب الوحدانيَّة لا يريد أن تكون الصلاة فرديَّة أو بمعزل عن الآخرين، أي أن يصلِّي أحدٍ ما لأجل نفسه فقط . فنحن لا نقول" أبي الذي في السموات "أو "خبزي الذي يكفيني أعطيني اليوم" ولا يطلب كل شخص أن تُغفَر له ذنوبه الشخصيَّة فقط ولا يطلب لأجل نفسه وحده ألاَّ يُدْخَل في تجربة ويُنَجَى من الشرِّير، فصلاتنا عامة ومشتركة بين الجميع، وعندما نصلِّي لا نطلب لأجل واحد ولكن لأجل الكل، لأنَّنا نحن الكل واحد . فإله السلام ومعلِّم المصالحة، الذي علَّم بالوحدانيَّة، أراد أن يصلِّي الواحد هكذا لأجل الكل، كما حملنا هو كّلنا في واحد .
وقانون الصلاة هذا اتَّبعه الثلاث فتية عندما طُرحوا في الآتون الملتهب، متَّحدين معًا في الصلاة وفي اتِّفاق الروح . وهذا ما يؤكِّده لنا إيمان الكتاب المقدَّس، وفي شرحه لنا عن كيفيَّة صلاة هؤلاء الفتية، أعطانا مثالاً يجب أن نتبعه في صلواتنا نحن أيضًا، حتى نكون كما كانوا هم إذ يقول: "حينئذ سبح الثلاثة بفم واحد و مجدوا و باركوا الله" [ تسبحة الثلاث فتية القدِّيسين في تتمة دانيال (دا 51:3)]. تكلَّموا كما من فم واحد، رغم أن المسيح لم يكن قد علَّمهم كيف يصلُّون .
وهكذا كانت صلواتهم نافعة ومقتدرة، لأن الصلاة البسيطة والروحيَّة المملوءة سلامًا تستحق الاستجابة من الرب .
هكذا أيضًا كان يصلِّي الرسل مع التلاميذ بعد صعود الرب فيقول الكتاب هؤلاء "هَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ مَعَ النِّسَاءِ وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ وَمَعَ إِخْوَتِه" (أع 14:1). فكانوا يواظبون على الصلاة بنفس واحدة معلنين من خلال لجاجتهم ووحدانيتهم في الصلاة. إن اللَّه الذي يُقال عنه في المزمور "اَللهُ مُسْكِنُ الْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ" [انظــرمز 6:68] . لا يقبل في مسكنه الإلهي الأبدي - أي ملكوت السموات - إلاَّ أولئك الذين لهم الفكر الواحد في الصلاة .
أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ
9. علاوة على ذلك، أيُّها الإخوة الأحبَّاء، إنَّنا حقاً نتعجَّب من كثرة وعظم الأمور العميقة الموجودة في الصلاة الربانيَّة والمجتمعة باختصار في هذه كلمات، لكنها تفيض روحيًا بالفضيلة، حتى أنَّه لا يوجد شيء في صلواتنا وطلباتنا غير مُحوى في كلمات الصلاة الربانيَّة، كما لو كانت خلاصة وافية للعقيدة السماويَّة .
ويقول الرب "صَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"
فالإنسان الجديد، المولود ثانيةً بالإيمان والمعموديَّة، والذي رجع إلى اللَّه مرَّة أخرى بنعمته يقول في المقام الأول "أبانا" لأنَّه قد بدأ من الآن أن يكون ابنًا. فيقول: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يو 11:1-12). هكذا فالذي آمن باسمه وأصبح ابن اللَّه، يجب عليه من الآن أن يعطي الشكر ويعلن بنوَّته للَّه من خلال إعلانه أن اللَّه هو أباه الذي في السموات، وعليه أيضًا أن يشهد من بين كلماته
الأولى التي لميلاده الجديد، أنَّه قد رفض الأب الأرضي والجسدي، وبدأ أيضًا ألاَّ يعرف أبًا إلاَّ ذاك الذي في السماء، كما هو مكتوب "الذِي قَال عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ: لمْ أَرَهُمَا وَبِإِخْوَتِهِ لمْ يَعْتَرِفْ وَأَوْلادَهُ لمْ يَعْرِفْ بَل حَفِظُوا كَلامَكَ وَصَانُوا عَهْدَكَ" (تث 9:33). وقد أمرنا الـرب أيضًا في إنجيله "وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 9:23). وأجاب على التلميذ الذي ذكر أبيه المُنتقِل قائلاً "دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُم" (مت 22:8)، لأنَّه قال أن أباه قد مات بينما أبو المؤمنين حيّ .
10. أيُّها الإخوة الأحبَّاء، ليس علينا فقط أن ندرك ونفهم أنَّنا يجب أن ندعوه كأب سماوي، ولكن يجب أن ندعوه "أبانا" أي أب الذين يؤمنون، أب الذين بدءوا أن يكونوا أبناء اللَّه بعد أن قدَّسهم اللَّه وردَّهم إلى ما كانوا عليه من قَبْل بالميلاد بالنعمة الروحيَّة . هذه كلمة توبيخ وإدانة لليهود لأنَّهم بعدم إيمان لم يكتفوا فقط برفض المسيح، ذاك الذي أُعلِن لهم عنه من خلال الأنبياء وأُرسِل هو إليهم أولاً، بل إنَّهم بقساوة قضوا عليه بالموت . فهؤلاء لا يستطيعون الآن القول بأن اللَّه أبوهم لأن الرب يخزيهم بقوله: " أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ" (يو 44:8). ويعلن اللَّه بغضب من خلال إشعياء النبي قائلاً: "«رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ أَمَّا هُمْ فَعَصُوا عَلَيَّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيهِ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ» وَيْلٌ لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ! تَرَكُوا الرَّبَّ اسْتَهَانُوا بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ" (إش 2:1-4). وفي رفضنا نحن المسيحيُّين لعصيان اليهود نصلِّي قائلين "أبانا"، لأن اللَّه قد صار أبًا لنا ولم يعد أبًا لليهود الذين رفضوه . فلا يستطيع شعب خاطئ أن يكون ابنًا ولكن لقَب أبناء يُنسب لأولئك الذين نالوا غفران الخطايا والوعد بعدم الموت من جديد كما يقول الرب نفسه: "إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أَمَّا الاِبْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ" (يو 34:8-35)
11. ولكن ما أعظم مراحم الرب ! وما أعظم لطفه وجوده نحونا ! إذ نرى أنَّه أراد لنا أن نصلِّي في حضرته داعين إيَّاه "أبانا" وداعين أنفسنا أبناء اللَّه، كما أن المسيح هو ابن اللَّه، وهو لقب ما كنّا نجرؤ أن ننطق به في الصلاة، لولا أنَّه هو نفسه قد سمح لنا أن نصلِّي به هكذا ! فيجب إذن أيُّها الإخوة الأحبَّاء أن نتذكَّر ونعرف أنَّنا عندما ندعو اللَّه "أبانا" يجب أن نسلك كأبناء الله، حتى كما أنَّنا نجد المسرة في اعتبار اللَّه أب، يجد هو أيضًا مسرَّته فينا. فلنسلك إذن كهيكل لله، حتى يظهر جليًا أن اللَّه ساكن فينا . فليت أفعالنا لا تحيد عن الطريق الروحي لأنَّنا نحن الذين صرنا روحيِّين ومنتمين للسماء، علينا ألاَّ نفكِّر ولا نفعل إلاَّ ما هو روحي وسماوي لأن الرب الإله نفسه قد قال: "فَإِنِّي أُكْرِمُ الَّذِينَ يُكْرِمُونَنِي, وَالَّذِينَ يَحْتَقِرُونَنِي يَصْغُرُونَ" (1صم 30:2). والرسول المبارك قد قال رسالته "أَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ" (1 كو 19:6-20).
12. بعد ذلك يقول "لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ". ليس أنَّنا نطلب أن يتقدَّس اللَّه من خلال صلواتنا، ولكنَّنا نطلب منه أن يتقدَّس اسمه فينا.
ولكن من هو الذي يُقدِّس اللَّه بينما اللَّه نفسه هو الذي يُقدِّس؟
والإجابة على هذا السؤال هي أنَّه إذا كان اللَّه يقول "تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ" (لا 44:11), إذن فعلينا أن نسأل ونتضرَّع، نحن الذين تقدَّسنا في المعموديَّة، نُكَمِّل فيما ابتدأناه من حياة القداسة، ونحن نطلب من أجل هذا يوميًا، لأنَّنا في حاجة لتقديس يومي، حتى نغتسل من خطايانا بالتقديس المستمر نحن الذين نخطئ يوميًا. والرسول يخبرنا بماهيَّة ذلك التقديس الذي نناله بلطف اللَّه عندما يقول: "لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَهَكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا" (1 كو 9:6-11). فهو يقول أنَّنا ن ُقدَّس باسم الرب يسوع وبروح إلهنا . نحن نصلِّي أن يثبت هذا التقديس فينا، فإذ حذَّر الرب الديَّان الرجل الذي شفاه وأقامه من مرضه ألاَّ يخطئ أيضاً لئلاَّ يكون له أشرّ ، فنحن أيضًا نُقدِّم هذا التضرَّع في صلواتنا المستمرة، ونطلب نهارًا وليلاً أن ذلك التقديس أيضًا الذي نلناه بنعمة اللَّه يُحفَظ فينا بحمايته .
لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ
13. ويتبع ذلك في الصلاة "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ". فنحن نطلب أن يُستعلَن لنا ملكوت الله، كما نطلب أن يتقدَّس اسمه فينا. فمتى كان الوقت الذي لم يملك فيه اللَّه؟! أو متى كانت بداية مُلكه الذي كان على الدوام ولا نهاية له؟! نحن نصلِّي أن يأتي ملكوتنا الذي وعدنا به اللَّه، الذي نلناه بدم المسيح وآلامه، حتى أنَّنا نحن الذين كنَّا خاصَّته في العالم نملك معه في ملكوته، كما يعدنا هو نفسه ويقول: "تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (مت 34:25).
أيُّها الإخوة الأحبَّاء، نستطيع أن نعتبر المسيح نفسه هو "ملكوت الله" الذي نريده كل يوم أن يأتي، الذي نشتهي أن يُستعلَن لنا سريعًا. حيث أنَّه هو نفسه القيامة ، إذ فيه سنقوم من جديد، فهكذا أيضًا نستطيع أن نفهم أن ملكوت اللَّه هو المسيح نفسه حيث أنَّنا سنملك فيه .
ولكنَّنا نفعل حسنًا إذ نطلب ملكوت اللَّه أي الملكوت السماوي، لأنَّه يوجد أيضًا ملكوت أرضي ولكن ذاك الذي جحد العالم يكون أعظم بكثير من كرامات هذا العالم ومملكته .
لذلك فمن يكرِّس نفسه لله وللمسيح لا يطلب الملكوت الأرضي بل السماوي . ولكن توجد الحاجة دائمًا إلى الصلاة والتضرَّع حتى لا نسقط من الملكوت السماوي كما سقط اليهود الذين كان لهم هذا الوعد أولاً كما يقول الرب ويُثبِت: "سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ" )مت 11:8-12). يُرينا الرب أن اليهود كانوا سابقًا بني الملكوت لمَّا تمسَّكوا ببنوَّتهم لله، ولكن بعد أن زال اسم الآب من وسطهم، فقد زال الملكوت أيضًا. لذلك فنحن المسيحيُّون الذين في صلواتنا ابتدأنا بأن ندعو اللَّه "أبانا"، نصلِّي أيضًا أن يأتينا ملكوت اللَّه.
لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ
14. نضيف أيضًا ونقول: "لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ". فالمقصود هنا ليس أن يفعل اللَّه كما يشاء لكن لنستطيع نحن أن نفعل مشيئة اللَّه. فمن يستطيع أن يقاوم اللَّه حتى لا يستطيع الله أن يفعل ما يشاء؟ ولكن حيث أنَّنا نُقاوَم بواسطة الشيطان عن إطاعة مشيئة اللَّه بالفكر والفعل في كل الأمور، فإننا نصلِّي ونسأل أن تَكْمُل مشيئة اللَّه فينا. ولكي ما تَكمُل فينا، نحتاج إلى مشيئة اللَّه الصالحة، أي إلى معونته وحمايته. لأنَّه لا يوجد إنسان قوي بقوَّته الخاصة، ولكنَّه يكون في أمان بسبب نعمة ورحمة اللَّه. وبالإضافة إلى ذلك، فالرب نفسه قال: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْس" (لو 42:22) مبينًا ضعف البشريَّة التي حملها في نفسه، ثم لكي ما يعطي مثالاً لتلاميذه حتى لا يفعلوا إرادتهم بل إرادة اللَّه أكمل قائلاً: "وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ" )مت 39:26). وفي موضع آخر يقول: "لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يو 38:6) فإذا كان الابن مطيعًا فاعلاً لمشيئة أبيه، فكم بالأكثر يجب أن يكون العبد مطيعًا لمشيئة سيِّده ! كما يحث ويعلِّم يوحنا في رسالته لنفعل مشيئة اللَّه قائلاً: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ" (1 يو 15:2-17). فنحن الذين نريد أن نثبت إلى الأبد يجب أن نفعل مشيئة اللَّه الأبدي .
15. فهذه هي مشيئة اللَّه التي عَمِلها المسيح وعلَّم بها: التواضع في الحديث، الثبات في الإيمان، البساطة في الكلام، الحق في الأفعال، الرحمة في الأعمال، الانضباط في الأخلاق، الامتناع عن الخطأ (الإيذاء) مع تحمله إذا وقع علينا من آخرين، حفظ السلام مع الاخوة، محبَّة اللَّه من كل القلب، محبَّته لكونه أبًا مع مخافته لكونه إلهًا، عدم تفضيل أي شيء على المسيح لأنَّه لم يُفَضِّل شيء علينا، الالتصاق الوثيق بمحبَّته، التمسُّك بصليبه بشجاعة وأمانة، إظهار ثبات اعترافنا به في ساعة الجهاد من أجل اسمه وكرامته، إظهار الثقة التي بها نحارِب أثناء العذابات، إظهار الصبر الذي به نكلَّل أمام الموت. في كل هذه سَعينا كي نكون وارثين مع المسيح، نُتَمِّم وصايا اللَّه، ونُكمِّل مشيئة الآب .
16. نحن نسأل أن تَك ْمُل مشيئة اللَّه في السماء والأرض، فكلاهما يتعلِّق بتحقيق سلامنا وخلاصنا. وحيث أنَّنا أخذنا الجسد من الأرض والروح من السماء. فنحن إذن أرض وسماء. لذلك نصلِّي أن تكون مشيئة اللَّه في الاثنين أي في الجسد والروح معًا. فبين الجسد والروح نزاع، ويوجد صراع يومي إذ يقاوم الواحد الآخر حتى لا نقدر أن نفعل ما نريد .
فالروح يطلب الأمور السماويَّة والإلهيَّة بينما الجسد يشتهي الأمور الأرضيَّة والوقتيَّة ولذلك نسأل أن يتَّفقا معًا بمساعدة ومعونة اللَّه، فعندما تكون مشيئة اللَّه في الروح والجسد معًا تُحفَظ النفس التي وُلِدَت من جديد من خلاله . هذا ما يعلنه بولس الرسول بصراحة ووضوح بكلماته: "لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُون. وَلَكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: الَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ" (غل 17:5-23). لذلك نقدِّم صلواتنا في تضرَّعات يوميَّة مستمرَّة حتى تَكْمُل مشيئة اللَّه من نحونا في السماء والأرض معًا . لأن هذه هي مشيئة اللَّه أن تَحِلّ الأمور السماويَّة مكان الأمور الأرضيَّة وأن تكون الأمور الروحيَّة والإلهيَّة هي الغالبة .
17. وهكذا علينا نحن، أيُّها الإخوة الأحبَّاء، أن نفهم أنَّه حيث أن الرب يأمرنا ويحثُّنا أن نحب حتى أعداؤنا وأن نصلِّي حتى من أجل مضطهدينا، فيجب أن نسأل أيضًا من أجل هؤلاء الذين ما زالوا أرضيِّين ولم يبدءوا بعد أن يكونوا سمائيِّين، لكي تَكْمُل مشيئة اللَّه حتى في أولئك، تلك المشيئة التي أكملها المسيح في حفظ وتجديد البشريَّة .
فحيث أن الرب لم يدعُ التلاميذ "أرضًا" بل "ملح الأرض"، والرسول يدعو "الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاء" (1 كو 47:15). فإذن يجب علينا، نحن الذين يجب أن نكون متمثِّلين بالله أبينا الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين، أن نطلب ونسأل - كما يحثُّنا المسيح – لأجل خلاص كل الناس . لكي كما تَكْمُل مشيئة اللَّه في السماء – أي فينا نحن بسبب إيماننا – حتى نصير سمائيِّين، كذلك تَكْمُل أيضًا مشيئته على الأرض – أي في غير المؤمنين الذين هم أرضيِّين بحسب ميلادهم الأول - حتى يبدءوا أن يكونوا سمائيِّين بالميلاد من الماء والروح
خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ
18. إذ نُكَمِّل هذه الصلاة نسأل ونقول: "خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ" . ونستطيع أن نفهم هذا روحيًا وحرفيًا لأنَّه أيَّـاً كان التفسير، فهي غنيَّة بالمنفعة الإلهيَّة لخلاصنا . فالمسيح هو خبز الحياة، وهذا الخبز ليس لكل الناس ولكنَّه لنا فقط، فكما نقول "أبانا" لأن اللَّه أب للذين يفهمون ويؤمنون، كذلك أيضًا ندعو الخبز "خبزنا"، لأن المسيح هو الخبز للذين هم متَّحدين بجسده .
ونحن نطلب أن يُعطَى لنا هذا الخبز كل يوم، فنحن الذين في المسيح ونتناول يوميًا من الإفخارستيا كطعام للخلاص، لا نود أبدًا أن نُمنَع من الشركة بسبب خطيَّة قبيحة تحرمنا من الخبز السماوي وتفصلنا عن جسد المسيح، كما يُنبئ المسيح ويحذِّر قائلاً: "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَم" (يو 51:6).
بالتالي عندما يقول الرب أن كل من يأكل من خبزه سيحيا إلى الأبد، وكما أنَّه ظاهر أن هؤلاء الذين يشتركون في جسده ويقبلون الإفخارستيا بحق التناول هم أحياء، فإذن يجب علينا من جانب آخر أن نحترس ونصلِّي حتى لا يبقى أحد بعيدًا عن الخلاص، إذا انفصل عن جسد المسيح بسبب منعه من التناول . كما يحذِّر الرب قائلاً: "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يو 53:6)، لذلك نسأل أن يُعطى لنا خبزنا - الذي هو المسيح - كل يوم .
ونطلب، نحن الذين نثبت ونحيا في المسيح، ألاَّ نُحرَم من تقديسه وجسده
19. ولكن من الممكن أن يُفهم أيضًا أنَّنا نحن الذين قد رفضنا العالم، وطرحنا عنَّا غناه وبذخه في إيمان النعمة الروحيَّة، يجب أن نسأل لأنفسنا القوت والسند فقط، حيث أن الرب يرشدنا قائلاً: "كَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً" (لو 33:14). ولكن مَنْ ابتدأ أن يكون تلميذًا للمسيح، رافضًا كل الأشياء حسب كلمة سيِّده، يجب أن يطلب لأجل طعامه اليومي ولا تمتد طلبته لا تهتمُّوا لأبعد من هذا . كما يأمر الرب مرة أخرى قائلاً: "لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ" (مت 34:6).
إذن يمكن أن يطلب تلميذ المسيح من أجل قوته اليومي، بينما غير مسموح له أن يفكِّر في الغد، لأنَّه يكون هناك تناقض وتعارض بين طلبتنا أمام اللَّه أن نحيا طويلاً في هذا العالم وبين طلبتنا السابقة أن يأتي ملكوته سريعًا . لذلك أيضًا فالرسول المبارك ينصحنا معطيًا أساسًا وقوَّة لثبات رجائنا وإيماننا فيقول: "لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ انَّنَا لاَ نَقْدِرُ انْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا. وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ انْ يَكُونُوا أغْنِيَاءَ فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ، لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ اصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي اذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا انْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ" (1 تي 7:6-10).
20. ويعلِّمنا الرسول أيضًا أنَّه ليس فقط يجب أن نحتقر الغِنى، بل أن هذا الغِنى محفوف بالخطر، وفيه الأصل لكل الشرور المغرية التي تخدع خفيةً فكر الإنسان الأعمى. حيث أن اللَّه أيضًا ينتهر الغني الغبي الذي يفكِّر في غناه الأرضي، ويتباهى بنفسه لأجل كثرة فيض محاصيله ويقول: "يَا غَبِيُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟" (لو 20:12). فالغبي الذي كان سيموت في تلك الليلة عينها كان مبتهجًا وهو في داخل مخازنه، ذاك الذي كانت حياته
على وشك الانتهاء كان يفكِّر في كثرة طعامه.
من ناحية أخرى، يقول لنا الرب أن الذي يبيع كل ممتلكاته ويوزِّعها لعوز الفقراء يكون كاملاً وغير ناقص في شيء، وهكذا يجعل لنفسه كنزًا في السماء . ويقول أيضًا أن هذا الرجل يستطيع أن يتبعه ويستطيع أن يتمثَّل بمجد آلام الرب، فحقويه ممنطقة وهو متحرِّر من العوائق إذ هو غير مقيَّد برباطات الممتلكات الأرضيَّة، بل هو حر طليق يصحب ممتلكاته المتقدِّمة أمامه إلى اللَّه.
ولكي يتأهَّل كل واحد منَّا لهذا، عليه أن يتعلَّم الصلاة ومن الصلاة يعرف ما يجب أن يكون هو عليه .
21. فالصدِّيق لا يمكن أن يكون في عوَز إلى الخبز اليومي لأنَّه مكتوب: "الرَّبُّ لاَ يُجِيعُ نَفْسَ الصِّدِّيقِ" (أم 3:10)، ومرَّة أخرى: "كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِخْتُ وَلَمْ أَرَ صِدِّيقاً تُخُلِّيَ عَنْهُ وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزاً" (مز 25:37). بالإضافة إلى هذا، يعد الرب ويقول: "فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاًمَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (مت 31:6-33) فهؤلاء الذين يطلبون ملكوت اللَّه وبرُّه، يعدْهم الرب أن كل الأشياء ستُزاد لهم . فحيث أن كل الأشياء هي للَّه، فالذين لهم اللَّه لا يعوزهم شيء إن كان لا يعوزهم اللَّه نفسه . هكذا أُعِدَّت وليمة لدانيال بطريقة إلهيَّة عندما أُلقي في جب الأسود بأمر الملك، ففي وسط الوحوش الجائعة التي لم تمسُّه بأذى، أُطعِمَ رجل َّالله .
وهكذا إيليا في هروبه أُطعِمَ بواسطة غربان كانت تخدمه في وحدته، وعن طريق الطيور أُحضِر له الطعام في وقت اضطهاده . وياللحقد المكروه الذي للإنسان ! فالوحوش ترحم، والطيور تُطعِم، ولكن الإنسان يضع الفخاخ ويغتاظ !
12. بعد ذلك يقول "لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ". ليس أنَّنا نطلب أن يتقدَّس اللَّه من خلال صلواتنا، ولكنَّنا نطلب منه أن يتقدَّس اسمه فينا.
ولكن من هو الذي يُقدِّس اللَّه بينما اللَّه نفسه هو الذي يُقدِّس؟
والإجابة على هذا السؤال هي أنَّه إذا كان اللَّه يقول "تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ" (لا 44:11), إذن فعلينا أن نسأل ونتضرَّع، نحن الذين تقدَّسنا في المعموديَّة، نُكَمِّل فيما ابتدأناه من حياة القداسة، ونحن نطلب من أجل هذا يوميًا، لأنَّنا في حاجة لتقديس يومي، حتى نغتسل من خطايانا بالتقديس المستمر نحن الذين نخطئ يوميًا. والرسول يخبرنا بماهيَّة ذلك التقديس الذي نناله بلطف اللَّه عندما يقول: "لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَهَكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا" (1 كو 9:6-11). فهو يقول أنَّنا ن ُقدَّس باسم الرب يسوع وبروح إلهنا . نحن نصلِّي أن يثبت هذا التقديس فينا، فإذ حذَّر الرب الديَّان الرجل الذي شفاه وأقامه من مرضه ألاَّ يخطئ أيضاً لئلاَّ يكون له أشرّ ، فنحن أيضًا نُقدِّم هذا التضرَّع في صلواتنا المستمرة، ونطلب نهارًا وليلاً أن ذلك التقديس أيضًا الذي نلناه بنعمة اللَّه يُحفَظ فينا بحمايته .
لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ
13. ويتبع ذلك في الصلاة "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ". فنحن نطلب أن يُستعلَن لنا ملكوت الله، كما نطلب أن يتقدَّس اسمه فينا. فمتى كان الوقت الذي لم يملك فيه اللَّه؟! أو متى كانت بداية مُلكه الذي كان على الدوام ولا نهاية له؟! نحن نصلِّي أن يأتي ملكوتنا الذي وعدنا به اللَّه، الذي نلناه بدم المسيح وآلامه، حتى أنَّنا نحن الذين كنَّا خاصَّته في العالم نملك معه في ملكوته، كما يعدنا هو نفسه ويقول: "تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (مت 34:25).
أيُّها الإخوة الأحبَّاء، نستطيع أن نعتبر المسيح نفسه هو "ملكوت الله" الذي نريده كل يوم أن يأتي، الذي نشتهي أن يُستعلَن لنا سريعًا. حيث أنَّه هو نفسه القيامة ، إذ فيه سنقوم من جديد، فهكذا أيضًا نستطيع أن نفهم أن ملكوت اللَّه هو المسيح نفسه حيث أنَّنا سنملك فيه .
ولكنَّنا نفعل حسنًا إذ نطلب ملكوت اللَّه أي الملكوت السماوي، لأنَّه يوجد أيضًا ملكوت أرضي ولكن ذاك الذي جحد العالم يكون أعظم بكثير من كرامات هذا العالم ومملكته .
لذلك فمن يكرِّس نفسه لله وللمسيح لا يطلب الملكوت الأرضي بل السماوي . ولكن توجد الحاجة دائمًا إلى الصلاة والتضرَّع حتى لا نسقط من الملكوت السماوي كما سقط اليهود الذين كان لهم هذا الوعد أولاً كما يقول الرب ويُثبِت: "سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ" )مت 11:8-12). يُرينا الرب أن اليهود كانوا سابقًا بني الملكوت لمَّا تمسَّكوا ببنوَّتهم لله، ولكن بعد أن زال اسم الآب من وسطهم، فقد زال الملكوت أيضًا. لذلك فنحن المسيحيُّون الذين في صلواتنا ابتدأنا بأن ندعو اللَّه "أبانا"، نصلِّي أيضًا أن يأتينا ملكوت اللَّه.
لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ
14. نضيف أيضًا ونقول: "لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ". فالمقصود هنا ليس أن يفعل اللَّه كما يشاء لكن لنستطيع نحن أن نفعل مشيئة اللَّه. فمن يستطيع أن يقاوم اللَّه حتى لا يستطيع الله أن يفعل ما يشاء؟ ولكن حيث أنَّنا نُقاوَم بواسطة الشيطان عن إطاعة مشيئة اللَّه بالفكر والفعل في كل الأمور، فإننا نصلِّي ونسأل أن تَكْمُل مشيئة اللَّه فينا. ولكي ما تَكمُل فينا، نحتاج إلى مشيئة اللَّه الصالحة، أي إلى معونته وحمايته. لأنَّه لا يوجد إنسان قوي بقوَّته الخاصة، ولكنَّه يكون في أمان بسبب نعمة ورحمة اللَّه. وبالإضافة إلى ذلك، فالرب نفسه قال: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْس" (لو 42:22) مبينًا ضعف البشريَّة التي حملها في نفسه، ثم لكي ما يعطي مثالاً لتلاميذه حتى لا يفعلوا إرادتهم بل إرادة اللَّه أكمل قائلاً: "وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ" )مت 39:26). وفي موضع آخر يقول: "لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يو 38:6) فإذا كان الابن مطيعًا فاعلاً لمشيئة أبيه، فكم بالأكثر يجب أن يكون العبد مطيعًا لمشيئة سيِّده ! كما يحث ويعلِّم يوحنا في رسالته لنفعل مشيئة اللَّه قائلاً: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ" (1 يو 15:2-17). فنحن الذين نريد أن نثبت إلى الأبد يجب أن نفعل مشيئة اللَّه الأبدي .
15. فهذه هي مشيئة اللَّه التي عَمِلها المسيح وعلَّم بها: التواضع في الحديث، الثبات في الإيمان، البساطة في الكلام، الحق في الأفعال، الرحمة في الأعمال، الانضباط في الأخلاق، الامتناع عن الخطأ (الإيذاء) مع تحمله إذا وقع علينا من آخرين، حفظ السلام مع الاخوة، محبَّة اللَّه من كل القلب، محبَّته لكونه أبًا مع مخافته لكونه إلهًا، عدم تفضيل أي شيء على المسيح لأنَّه لم يُفَضِّل شيء علينا، الالتصاق الوثيق بمحبَّته، التمسُّك بصليبه بشجاعة وأمانة، إظهار ثبات اعترافنا به في ساعة الجهاد من أجل اسمه وكرامته، إظهار الثقة التي بها نحارِب أثناء العذابات، إظهار الصبر الذي به نكلَّل أمام الموت. في كل هذه سَعينا كي نكون وارثين مع المسيح، نُتَمِّم وصايا اللَّه، ونُكمِّل مشيئة الآب .
16. نحن نسأل أن تَك ْمُل مشيئة اللَّه في السماء والأرض، فكلاهما يتعلِّق بتحقيق سلامنا وخلاصنا. وحيث أنَّنا أخذنا الجسد من الأرض والروح من السماء. فنحن إذن أرض وسماء. لذلك نصلِّي أن تكون مشيئة اللَّه في الاثنين أي في الجسد والروح معًا. فبين الجسد والروح نزاع، ويوجد صراع يومي إذ يقاوم الواحد الآخر حتى لا نقدر أن نفعل ما نريد .
فالروح يطلب الأمور السماويَّة والإلهيَّة بينما الجسد يشتهي الأمور الأرضيَّة والوقتيَّة ولذلك نسأل أن يتَّفقا معًا بمساعدة ومعونة اللَّه، فعندما تكون مشيئة اللَّه في الروح والجسد معًا تُحفَظ النفس التي وُلِدَت من جديد من خلاله . هذا ما يعلنه بولس الرسول بصراحة ووضوح بكلماته: "لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُون. وَلَكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: الَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ" (غل 17:5-23). لذلك نقدِّم صلواتنا في تضرَّعات يوميَّة مستمرَّة حتى تَكْمُل مشيئة اللَّه من نحونا في السماء والأرض معًا . لأن هذه هي مشيئة اللَّه أن تَحِلّ الأمور السماويَّة مكان الأمور الأرضيَّة وأن تكون الأمور الروحيَّة والإلهيَّة هي الغالبة .
17. وهكذا علينا نحن، أيُّها الإخوة الأحبَّاء، أن نفهم أنَّه حيث أن الرب يأمرنا ويحثُّنا أن نحب حتى أعداؤنا وأن نصلِّي حتى من أجل مضطهدينا، فيجب أن نسأل أيضًا من أجل هؤلاء الذين ما زالوا أرضيِّين ولم يبدءوا بعد أن يكونوا سمائيِّين، لكي تَكْمُل مشيئة اللَّه حتى في أولئك، تلك المشيئة التي أكملها المسيح في حفظ وتجديد البشريَّة .
فحيث أن الرب لم يدعُ التلاميذ "أرضًا" بل "ملح الأرض"، والرسول يدعو "الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاء" (1 كو 47:15). فإذن يجب علينا، نحن الذين يجب أن نكون متمثِّلين بالله أبينا الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين، أن نطلب ونسأل - كما يحثُّنا المسيح – لأجل خلاص كل الناس . لكي كما تَكْمُل مشيئة اللَّه في السماء – أي فينا نحن بسبب إيماننا – حتى نصير سمائيِّين، كذلك تَكْمُل أيضًا مشيئته على الأرض – أي في غير المؤمنين الذين هم أرضيِّين بحسب ميلادهم الأول - حتى يبدءوا أن يكونوا سمائيِّين بالميلاد من الماء والروح
خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ
18. إذ نُكَمِّل هذه الصلاة نسأل ونقول: "خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ" . ونستطيع أن نفهم هذا روحيًا وحرفيًا لأنَّه أيَّـاً كان التفسير، فهي غنيَّة بالمنفعة الإلهيَّة لخلاصنا . فالمسيح هو خبز الحياة، وهذا الخبز ليس لكل الناس ولكنَّه لنا فقط، فكما نقول "أبانا" لأن اللَّه أب للذين يفهمون ويؤمنون، كذلك أيضًا ندعو الخبز "خبزنا"، لأن المسيح هو الخبز للذين هم متَّحدين بجسده .
ونحن نطلب أن يُعطَى لنا هذا الخبز كل يوم، فنحن الذين في المسيح ونتناول يوميًا من الإفخارستيا كطعام للخلاص، لا نود أبدًا أن نُمنَع من الشركة بسبب خطيَّة قبيحة تحرمنا من الخبز السماوي وتفصلنا عن جسد المسيح، كما يُنبئ المسيح ويحذِّر قائلاً: "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَم" (يو 51:6).
بالتالي عندما يقول الرب أن كل من يأكل من خبزه سيحيا إلى الأبد، وكما أنَّه ظاهر أن هؤلاء الذين يشتركون في جسده ويقبلون الإفخارستيا بحق التناول هم أحياء، فإذن يجب علينا من جانب آخر أن نحترس ونصلِّي حتى لا يبقى أحد بعيدًا عن الخلاص، إذا انفصل عن جسد المسيح بسبب منعه من التناول . كما يحذِّر الرب قائلاً: "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يو 53:6)، لذلك نسأل أن يُعطى لنا خبزنا - الذي هو المسيح - كل يوم .
ونطلب، نحن الذين نثبت ونحيا في المسيح، ألاَّ نُحرَم من تقديسه وجسده
19. ولكن من الممكن أن يُفهم أيضًا أنَّنا نحن الذين قد رفضنا العالم، وطرحنا عنَّا غناه وبذخه في إيمان النعمة الروحيَّة، يجب أن نسأل لأنفسنا القوت والسند فقط، حيث أن الرب يرشدنا قائلاً: "كَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً" (لو 33:14). ولكن مَنْ ابتدأ أن يكون تلميذًا للمسيح، رافضًا كل الأشياء حسب كلمة سيِّده، يجب أن يطلب لأجل طعامه اليومي ولا تمتد طلبته لا تهتمُّوا لأبعد من هذا . كما يأمر الرب مرة أخرى قائلاً: "لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ" (مت 34:6).
إذن يمكن أن يطلب تلميذ المسيح من أجل قوته اليومي، بينما غير مسموح له أن يفكِّر في الغد، لأنَّه يكون هناك تناقض وتعارض بين طلبتنا أمام اللَّه أن نحيا طويلاً في هذا العالم وبين طلبتنا السابقة أن يأتي ملكوته سريعًا . لذلك أيضًا فالرسول المبارك ينصحنا معطيًا أساسًا وقوَّة لثبات رجائنا وإيماننا فيقول: "لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ انَّنَا لاَ نَقْدِرُ انْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا. وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ انْ يَكُونُوا أغْنِيَاءَ فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ، لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ اصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي اذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا انْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ" (1 تي 7:6-10).
20. ويعلِّمنا الرسول أيضًا أنَّه ليس فقط يجب أن نحتقر الغِنى، بل أن هذا الغِنى محفوف بالخطر، وفيه الأصل لكل الشرور المغرية التي تخدع خفيةً فكر الإنسان الأعمى. حيث أن اللَّه أيضًا ينتهر الغني الغبي الذي يفكِّر في غناه الأرضي، ويتباهى بنفسه لأجل كثرة فيض محاصيله ويقول: "يَا غَبِيُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟" (لو 20:12). فالغبي الذي كان سيموت في تلك الليلة عينها كان مبتهجًا وهو في داخل مخازنه، ذاك الذي كانت حياته
على وشك الانتهاء كان يفكِّر في كثرة طعامه.
من ناحية أخرى، يقول لنا الرب أن الذي يبيع كل ممتلكاته ويوزِّعها لعوز الفقراء يكون كاملاً وغير ناقص في شيء، وهكذا يجعل لنفسه كنزًا في السماء . ويقول أيضًا أن هذا الرجل يستطيع أن يتبعه ويستطيع أن يتمثَّل بمجد آلام الرب، فحقويه ممنطقة وهو متحرِّر من العوائق إذ هو غير مقيَّد برباطات الممتلكات الأرضيَّة، بل هو حر طليق يصحب ممتلكاته المتقدِّمة أمامه إلى اللَّه.
ولكي يتأهَّل كل واحد منَّا لهذا، عليه أن يتعلَّم الصلاة ومن الصلاة يعرف ما يجب أن يكون هو عليه .
21. فالصدِّيق لا يمكن أن يكون في عوَز إلى الخبز اليومي لأنَّه مكتوب: "الرَّبُّ لاَ يُجِيعُ نَفْسَ الصِّدِّيقِ" (أم 3:10)، ومرَّة أخرى: "كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِخْتُ وَلَمْ أَرَ صِدِّيقاً تُخُلِّيَ عَنْهُ وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزاً" (مز 25:37). بالإضافة إلى هذا، يعد الرب ويقول: "فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاًمَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (مت 31:6-33) فهؤلاء الذين يطلبون ملكوت اللَّه وبرُّه، يعدْهم الرب أن كل الأشياء ستُزاد لهم . فحيث أن كل الأشياء هي للَّه، فالذين لهم اللَّه لا يعوزهم شيء إن كان لا يعوزهم اللَّه نفسه . هكذا أُعِدَّت وليمة لدانيال بطريقة إلهيَّة عندما أُلقي في جب الأسود بأمر الملك، ففي وسط الوحوش الجائعة التي لم تمسُّه بأذى، أُطعِمَ رجل َّالله .
وهكذا إيليا في هروبه أُطعِمَ بواسطة غربان كانت تخدمه في وحدته، وعن طريق الطيور أُحضِر له الطعام في وقت اضطهاده . وياللحقد المكروه الذي للإنسان ! فالوحوش ترحم، والطيور تُطعِم، ولكن الإنسان يضع الفخاخ ويغتاظ !
22. بعد ذلك نتضرَّع أيضًا لأجل خطايانا قائلين: "وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا". فبعد سند الطعام، نطلب أيضًا لأجل مغفرة الخطايا، لكي يحيا في اللَّه ذاك الذي يُطعِمَه اللَّه، ولا يعولنا الرب في حياتنا الحاضرة الزمنيَّة فقط، بل أيضًا في الحياة الأبديَّة التي ننالها إن كانت تُغْفَر لنا خطايانا، وتلك الخطايا يسمِّيها اللَّه "ديون" كما يقول في إنجيله: "كُلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ" (مت 32:18). وكم بالضرورة وبحكمة وللمنفعة يحذِّرنا الرب أنَّنا خطاة حيث أنَّنا يجب أن نتضرَّع لأجل خطايانا. وبينما يُطْلَب الغفران من اللَّه، تستعيد النفس وعيها بمرارة الخطيَّة ! فحتى لا يمدح أحد نفسه بأنَّه بلا خطيَّة، فيتعظَّم هلاكه بسبب ارتفاع نفسه ، لذلك يجب أن يعرف ويتعلَّم أنَّه يخطئ كل يوم حيث أنه أُمِر أن يصلي كل يوم من أجل غفران خطاياه. هكذا أيضًا يحذِّرنا يوحنا الرسول في رسالته الأولى ويقول: "إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا. إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1 يو 8:1-9). في رسالته قد أدمج الاثنين: أنَّنا لابد أن نتضرَّع لأجل خطايانا، وإنَّنا لابد أن ننال الغفران عندما نطلب . فلأجل هذا قال أن الرب أمين ليغفر الخطايا، إذ هو أمين لوعده، لأن الذي علَّمنا أن نطلب لأجل ديوننا وخطايانا، قد وعدنا أنَّه سوف يُتبِع ذلك برحمته الأبويَّة وغفرانه .
23. فواضح أنَّه أضاف وأزاد على الناموس، معطيًا إيَّانا شرطًا وقيدًا، أن نسأل أن تُغفَر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا، عالمين أنَّنا لا يمكن أن ننال ما نطلبه إزاء خطايانا إلاَّ إذا كنَّا نحن نعامل المذنبين إلينا بالمثل . لذلك يقول في موضع آخر: "بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُم" (مت 2:7). والعبد الذي لم يغفر للعبد رفيقه بعد أن غفر له سيِّده كل دينه، طُرِح في السجن، لأنَّه لم يغفر للعبد رفيقه، ومن ثمَّ فَقَدَ المغفرة التي قدَّمها له سيِّده . وهذه الأمور هي مبادئ المسيح التي يقدِّمها بقوَّة مع المزيد من التشديد، إذ يقول الرب: "وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ فَاغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ زَلاَّتِكُمْ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أَنْتُمْ لاَ يَغْفِرْ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ" (مر 25:11-26). إذن، أنت بلا عذر في يوم الدينونة عندما تُدان تبعًا لأقوالك، وكما فعلت سيُفعل أيضًا بك. فاللَّه يأمرنا أن نكون صانعي سلام وفي اتِّفاقٍ وبفكرٍ واحدٍ .
وكما خَلقَنَا اللَّه بالميلاد الثاني هكذا يريدنا أن نُكمِّل بحسب هذا الميلاد الثاني، لكيما نثبت في سلام اللَّه نحن الذين صرنا أبناء اللَّه، وأن يكون لنا قلب واحد وفكر واحد إذ لنا روح واحد .
لذلك لا يقبل اللَّه ذبيحة مَنْ هو في خصومة، بل يأمره أن يرجع عن المذبح ويتصالح أولاً مع أخيه لكي يكون الإنسان صانعًا للسلام فيقبل اللَّه صلواته . فالذبيحة العظمى للَّه هي سلام واتِّفاق الإخوة، وشعبًا متَّحدًا في وحدانية الآب والابن والروح القدس .
24. فحتى في الذبائح التي قدَّمها هابيل وقايين، لم ينظر اللَّه إلى تقدماتهما بل إلى قلبيهما، وهكذا قُبِلَت تقدمة الذي كان قلبه مقبولاً أمام اللَّه . وإذ كان هابيل مسالمًا وبارًا في تقديم ذبيحته بطهارة إلى اللَّه، علَّم آخرين أنَّهم عندما يتقدَّمون بتقدمتهم إلى المذبح، أن يكونوا في مخافة اللَّه، وبساطة القلب، وبناموس البرّ وسلام الوفاق . أصبح حقًا هابيل الذي قدَّم ذبيحته للَّه هكذا، هو نفسه ذبيحة للَّه فيما بعد. إذ أنَّه كان أول مَنْ رأينا فيه الاستشهاد، وابتدأ آلام الرب بدمه (دم هابيل) ، وكان متَّصفًا ببرّ اللَّه وسلامه . أخيرًا، فالذين هم مثله سيكلِّلهم الرب، الذين مثله سينتقم لهم الرب في يوم الدينونة . ولكن محب الخصام والانشقاق، والذي ليس له سلام مع أخوته، فبحسب شهادة الرسول المبارك والكتاب المقدَّس، فحتى إن مات على اسم المسيح، فلن يستطيع أن يفلت من جريمة الشقاق الأخوي، لأنَّه كما هو مكتوب "كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ قَاتِلِ نَفْسٍ لَيْسَ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ" (1 يو 15:3)، وكل قاتل نفس لا ينال ملكوت السموات ولا يحيا مع اللَّه . فلا يستطيع أن يكون مع المسيح مَنْ فضَّل أن يكون على مثال يهوذا وليس على مثال المسيح .
فيا لهول الخطيَّة التي لا تُمحى حتى بمعموديَّة الدم، وما أبشع الجريمة التي لا يُكَفَّّر عنها حتى بالاستشهاد !
وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ
25. لذلك كان من الضروري أن ينصحنا الرب أن نقول في الصلاة "وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ"، وفي تلك الكلمات نرى أن العدو لا يستطيع أن يفعل أى شيء ضدَّنا إلاَّ إذا كان اللَّه قد سبق وسمح له بذلك، حتى يكون كل خوفنا وإخلاصنا وطاعتنا نحو اللَّه، فحتى في التجارب لا يستطيع الشرِّير شيئًا لا يسمح به اللَّه. هذا ثابت في الكتابات الإلهيَّة التي تقول: "ذَهَبَ نَبُوخَذْنَصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَحَاصَرَهَا وَسَلَّمَ الرَّبُّ بِيَدِهِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا" (راجع 2مل 11:24، دا 1:1-2) ولكن يُعطي للشرّ سلطان علينا بحسب خطايانا كما هو مكتوب "مَنْ دَفَعَ يَعْقُوبَ إِلَى السَّلْبِ وَإِسْرَائِيلَ إِلَى النَّاهِبِينَ؟ أَلَيْسَ الرَّبُّ الَّذِي أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَشَاءُوا أَنْ يَسْلُكُوا فِي طُرُقِهِ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِشَرِيعَتِهِ. فَسَكَبَ عَلَيْهِ حُمُوَّ غَضَبِهِ" (إش 24:42-25) ومرَّة أخرى عندما أخطأ سليمان وفارق وصايا الرب وطرقه، قد سُجِّل: "وَأَقَامَ الرَّبُّ خَصْماً لِسُلَيْمَانَ: هَدَدَ الأَدُومِيَّ كَانَ مِنْ نَسْلِ الْمَلِكِ فِي أَدُومَ" (1 مل 14:11).
26. والآن يُمنح السلطان علينا في حالتين : إمَّا للعقاب عندما يخطئ أو للمجد عندما نتزكَّى، كما نرى الذي حدث لأيوب، إذ أوضح الرب نفسه قائلاً: "هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ" (أي 12:1). والرب في إنجيله يقول وقت آلامه "لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ" (يو 11:19).
ولكن عندما نسأل ألاَّ ندخل في تجربة نتذكَّر عجزنا وضعفنا فيما نطلب من أجله، لئلاَّ يمجِّد أحد نفسه بتصلُّف، أو يظن أحد في نفسه شيئا َ بتعالٍ وكبرياء، أو أن ينسب أحد لنفسه المجد سواء مجد المجاهرة بالإيمان أو مجد احتمال الآلام . فالرب نفسه قال: "اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ" (مر 38:14)، لكي يعلِّمنا التواضع. فعندما تأتي المجاهرة بالإيمان بتواضع وخضوع أولاً، ويُنسَب كل شيء للَّه، فكل ما يُطلَب بتضرَّع في مخافة وإكرام للَّه، فهو يمنحه بحسب صلاحه.
لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ
27. بعد كل هذه، كختام للصلاة تأتي عبارة قصيرة تجمع باختصار وشمول كل طلباتنا وصلواتنا . فنحن نختم بقولنا "لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ"، مدركين كل العثرات التي يحاول الشرِّير أن يُسقِطنا فيها في هذا العالم، التي لنا منها حماية حقيقيَّة ومؤكَّدة إذا كان اللَّه ينجِّينا، أي إذا كان يمنحنا معونته نحن الذين نصلِّي ونتوسَّل من أجل نوال هذه المعونة ونطلبها. وعندما نقول "لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ"، فإنَّه لا يوجد ما نطلبه أكثر من هذا. إذا كنَّا قد طلبنا حماية اللَّه ضدّ الشرّ، وقد نلناها فنحن إذن في حماية وفي أمان ضدّ كل ما يحاول أن يفعله فينا الشيطان والعالم. فما الذي يخشاه الإنسان في هذه الحياة، إذا كان اللَّه نفسه هو الذي يحميه؟
صلاة عجيبة
28. أيُّها الإخوة المحبوبين، ما أعجب هذه الصلاة التي علَّمها لنا اللَّه، إذ نرى أنَّه أوجز في تعاليمه كل صلاتنا في جملة واحدة مختصرة؟ وقد سبق وتكلَّم عن هذا إشعياء النبي عندما تكلم ممتلئًا من الروح القدس عن عظمة اللَّه وجود محبَّته وقال: "السَّيِّدَ رَبَّ الْجُنُودِ يَصْنَعُ فَنَاءً وَقَضَاءًفِي كُلِّ الأَرْضِ" (إش 23:10). فعندما أتى كلمة اللَّه ربنا يسوع المسيح إلى الجميع وجمع سويًا المتعلِّم والجاهل، أعطى تعاليم الخلاص لكل الأجناس ولجميع الأعمار. فلقد عَمِل موجزًا وافيًا لتعاليمه لكي يسهِّل تذكُّرها على الذين يتعلَّمون التعاليم السماويَّة، بل وليتعلَّموا بسهولة ما هو ضروري للإيمان البسيط . هكذا عندما علَّمنا السيِّد المسيح ما هي الحياة الأبديَّة تضمن بإيجاز سر الحياة بقوله عبارة إلهيَّة عظيمة: "هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يو 3:17).
29. ولم يعلِّمنا الرب الصلاة بالكلام فقط بل بالفعل أيضًا، إذ كان دائمًا يصلِّي ويتضرَّع شاهدًا لنا عما يجب أن نفعله على مثاله الشخصي، كما هو مكتوب: "وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي الْبَرَارِي وَيُصَلِّي" (لو 16:5)، وأيضًا "خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ لِلَّهِ" (لو12:6). ولكن إذا كان الذي بلا خطيَّة يصلِّي، فكم بالأكثر يجب علينا نحن الخطاة أن نصلِّي! وإذا كان هو يصلِّي دائمًا ويسهر طوال الليل بطلبات لا تنقطع، فكم بالأكثر يجب أن نسهر نحن في الليل في صلاة دائمة مستمرَّة !
30. ولكن الرب صلَّى وطلب لا لأجل نفسه – فلماذا يصلِّي من أجل نفسه مَنْ كان هو بلا خطيَّة؟ - بل لأجل خطايانا نحن، كما أعلن هو نفسه عندما قال لبطرس: "هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَك" (لو 31:22-32). وبعد ذلك يطلب من الآب لأجل الجميع قائلاً: "لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاَءِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلاَمِهِمْ لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً" (يو 21:17-22). فكم هو عظيم غنى محبَّة اللَّه ورحمته من أجل خلاصنا، فإنَّه لم يكتف فقط بأن يفدينا بدمه بل صلَّى أيضًا من أجلنا . لننظر الآن ما هي طلبته في الصلاة، هي أنَّه كما أن الآب والابن واحد، كذلك نثبت نحن أيضًا في وحدانيَّة كاملة . هكذا يُفهَم كم هي عظيمة خطيَّة مَنْ يصنع انقسام في الوحدة والسلام . لأنَّه لأجل هذه الوحدة قد طلب الرب، راغبًا بالتأكيد أن يخلِّص شعبه لكي يحيا في سلام، إذ عرف أن الانشقاق لا يؤدي إلى ملكوت اللَّه .
31. فعندما نقف للصلاة، أيُّها الإخوة الأحبَّاء، يجب أن نكون ساهرين وجادّين بكل القلب، ومنكبِّين على صلواتنا. لتذهب عنَّا كل الأفكار الجسديَّة والعالميَّة، ولا ندع نفوسنا في هذا الوقت تفكِّر في أي شيء إلاَّ في موضوع الصلاة فقط .
لأجل هذا فالكاهن أيضًا قبل أن يصلِّي يهيِّئ أذهان الإخوة بمقدِّمة قائلاً: "ارفعوا قلوبكم"، حتى عندما يرد الشعب بـ "هي عند الرب" يتذكَّر هو أنَّه لا ينبغي أن يفكِّر في أي شيء إلاَّ الرب وحده . ليكن القلب مغلقًا أمام العدو، ومفتوحًا للَّه وحده ولا ندع عدو اللَّه يقترب منه في وقت الصلاة . فهو مرارًا يدخل إلينا خلسة ويخترق إلى الداخل وباحتيال ماكر يشتِّت صلواتنا إلى اللَّه، حتى يكون في قلبنا شيء وفي كلامنا شيء آخر، بينما يجب ألاَّ تكون الصلاة إلى الرب باللسان فقط بل بالروح والذهن أيضًا، بنيَّة صادقة وخالصة. لكن كم يكون إهمالك، أن يتشتَّت انتباهك وتنساق بفكرك بعيدًا بسبب أفكار غبية ودنسة، بينما أنت تصلِّي إلى الرب كما لو كان يوجد شيء آخر يجب أن تفكر فيه ممَّا هو أهم من حديثك مع اللَّه !
كيف تسأل أن يسمعك اللَّه بينما لا تسمع أنت نفسك؟ هل تريد أن ينتبه إليك اللَّه عند سؤالك بينما أنت غير منتبه لنفسك؟ فهذا بالتأكيد عدم احتياط ضدّ العدوّ، أي أن تهين مجد اللَّه عندما تصلِّي باستهتار، وأن تكون يقظًا بعينيك ولكن نائم بقلبك، بينما يجب أن يكون المسيحي مستيقظًا بقلبه مع كونه نائمًا بعينيه، كما هو مكتوب على لسان شخص الكنيسة في نشيد الأناشيد :"أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظ" (نش 2:5).
لذلك يحذِّر الرسول باهتمام وبحرص قائلاً: "وَاظِبُوا عَلَى الصَّلاَةِ سَاهِرِينَ فِيهَا بِالشُّكْر" (كو 2:4) معلِّمًا ومظهرًا أن الذين يستطيعون نوال طلبتهم من اللَّه هم الذين يراهم اللَّه يقظين في صلاتهم .
32. بالإضافة إلى ذلك، فهؤلاء الذين يصلُّون يجب ألاَّ يتقدَّموا إلى اللَّه بصلوات غير مثمرة. وعندما تُقدَّم صلاة غير مثمرة إلى اللَّه، تكون الطلبة بلا أثر. فكما أن كل شجرة لا تأتي بثمر تقطَع وتُلقَى في النار، فمُؤكَّد أن الكلمات التي بلا ثمر لا يمكن أن تستحق أي شيء من اللَّه لأنَّها خالية من ثمر العمل الصالح. لذلك يرشدنا الكتاب المقدَّس قائلاً: "صالحة الصلاة مع الصوم والصدقة" (طو 8:12). لأن اللَّه الذي سيعطينا المكافأة في يوم الدينونة لأجل أعمالنا وعطائنا، فهو أيضًا الذي، في حياتنا على الأرض، يقبل صلاتنا المقترنة بالأعمال الصالحة بحسب مراحمه. لذلك فعلى سبيل المثال عندما صلَّى كرنيليوس قائد المائة سُمعَت طلبته لأنَّه اعتاد تقديم الصدقات للناس، مع تقديم الصلاة الدائمة للَّه، فظهر له ملاك عندما كان يصلِّي نحو الساعة التاسعة حاملاً شهادة لأجل أعماله قائلاً: " يَا كَرْنِيلِيُوسُ... صَلَوَاتُكَ وَصَدَقَاتُكَ صَعِدَتْ تَذْكَاراًأَمَامَ اللهِ" (أع 3:10-4).
33. الصلوات التي تصعد إلى اللَّه سريعًا هي التي -بتزكية أعمالنا - تتقدَّم بإلحاح إلى اللَّه. هكذا أيضًا كان روفائيل شاهدًا لصلاة طوبيا الدائمة وأعماله الصالحة المستمرَّة إذ قال: "أما أعمال الله فاذاعتها و الاعتراف بها كرامة ... انك حين كنت تصلي بدموع و تدفن الموتى وتترك طعامك و تخبا الموتى في بيتك نهارا و تدفنهم ليلا كنت انا أرفع صلاتك الى الرب وإذ كنت مقبولا امام الله كان لا بد ان تمتحن بتجربة. و الآن فان الرب قد ارسلني لاشفيك وأخلص سارة كنتك من الشيطان. فاني أنا رافائيل الملاك أحد السبعة الواقفين أمام الرب" (طو 7:12 , 12-15). والرب يذكِّرنا أيضًا من خلال إشعياء ويعلِّمنا أموراً مشابهة قائلاً: "حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَاراً وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَاناً أَنْ تَكْسُوهُ وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ حِينَئِذٍ يَنْفَجِرُ مِثْلَ الصُّبْحِ نُورُكَ وَتَنْبُتُ صِحَّتُكَ سَرِيعاً وَيَسِيرُ بِرُّكَ أَمَامَكَ وَمَجْدُ الرَّبِّ يَجْمَعُ سَاقَتَكَ. حِينَئِذٍ تَدْعُو فَيُجِيبُ الرَّبُّ. تَسْتَغِيثُ فَيَقُولُ: «هَئَنَذَا»" (إش 6:58-9). لقد وعد اللَّه بأنه سيكون قريباً وسيسمع ويحفظ أولئك الذين – بحلِّهم قيود الشرّ من قلوبهم، وتقدماتهم لأهل بيت اللَّه كوصاياه، وتنفيذهم لما يأمر اللَّه به، يُزكُّون أنفسهم أن يسمعهم اللَّه. عندما قدَّم الإخوة لبولس الرسول احتياجاته في أتعابه قال أن الأعمال الصالحة التي تُقَدَّم هي الأشياء بمثابة ذبائح للَّه: "قَدِ امْتَلأْتُ إِذْ قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ الأَشْيَاءَ الَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ، نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةًعِنْدَ اللهِ" (في 18:4). فعندما يشفق أحد على الفقراء فهو يُقرِض الرب، وعندما يعطي أقل الناس يعطي اللَّه. وبذلك يقدِّم ذبيحة، رائحة طيِّبة للَّه .
صلوات السواعى
34. وفي تأدية الصلاة، نرى أن الثلاث فتية مع دانيال، إذ كانوا أقوياء في إيمانهم ومنتصرين رغم سبيهم، كانوا يلتزمون بصلوات الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة ، كمثال لسرّ الثالوث الذي أُظهِرَ في الأيَّام الأخيرة . فإذ تتوالى الساعات الأولى إلى الثالثة، يكتمل رقم الثالوث، وأيضًا إذ تتوالى الساعات من الرابعة إلى السادسة يكتمل ثالوثًا ثانيًا، وعندما يكتمل توالي الساعات من السابعة إلى التاسعة، يكتمل عدد الثالوث الكامل كل ثلاث ساعات (أي الثالوث ثلاث مرَّات). وهكذا استخدم المُتعبِّدون للَّه منذ زمن بعيد هذه الفترات الزمنيَّة بأسلوب روحي لأجل الصلاة في أوقات مُقنَّنة ومُحدَّدة . وظهر لاحقًا أن تلك الأسرار كانت هكذا قديمًا، إذ كان الأبرار قديمًا يصلون هكذا . فالروح القدس حلَّ على التلاميذ في الساعة الثالثة متمِّمًا نعمة وعد الرب . وفي الساعة السادسة صعد بطرس على السطح حيث جاءه أمر بالرؤيا وبكلام اللَّه يحثُّه على قبول الجميع إلى نعمة الخلاص، إذ كان سابقًا في شك من قبول الأمم في المعموديَّة . ومن الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة غسل الرب خطايانا بدمه إذ صُلِب، ثم أكمل انتصاره بآلامه حتى يفدينا ويحيينا .
35. ولكن بالنسبة لنا – في العهد الجديد - أيُّها الاخوة الأحبَّاء، فبجانب صلوات السواعي هذه، فإن الأوقات والصلُّوات المقدَّسة قد زادت عددًا الآن . فصار لابد من أن نصلِّي أيضًا في الصباح لنصنع تذكار قيامة الرب بصلاة باكر. وقد أشار الروح القدس إلى هذا مسبَّقًا في المزامير قائلاً: "يَا مَلِكِي وَإِلَهِي لأَنِّي إِلَيْكَ أُصَلِّي. يَا رَبُّ بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِر (بالغداة تسمع صوتي بالغداة أقف أمامك وتراني)" (مز 2:5). ومرة أخرى يتكلَّم الرب على فم هوشع النبي: "يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ. هَلُمَّ نَرْجِعُ إِلَى الرَّبّ" (هو 15:5 , 1:6). وبالضرورة يجب أن نصلِّي أيضًا في الغروب ونهاية النهار، فحيث أن المسيح هو الشمس الحقيقيَّة والنهار الحقيقي، وحيث أن شمس العالم ونهاره يغيبان، فعندما نصلِّي ونطلب أن يأتينا النور ثانية َ . فنحن نصلِّي لأجل مجيء المسيح الذي سيعطينا نعمة النور الأبدي .
وبالإضافة إلى ذلك، فالروح القدس في المزامير يُظهِر أن المسيح يُدعَى "النهار" أو "اليوم" فيقول: "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ" (مز 22:118-24).
وأيضًا يشهد ملاخي النبي بأنَّه يُدعَي "الشمس" عندما يقول: "وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا" (ملا 2:4) ولكن إذا كان في الكتاب المقدَّس أن المسيح هو الشمس الحقيقيَّة واليوم الحقيقي، فلا توجد إذن ساعة لا يجب أن يعبد فيها المسيحيُّون اللَّه دائمًا وباستمرار . فنحن الذين في المسيح – الذي هو الشمس الحقيقيَّة واليوم الحقيقي – يجب أن نداوم على الطلبات خلال اليوم كلُّه ويجب أن نصلِّي. وعندما - بحسب قانون هذا العالم - تأتي الليالي المتعاقبة التي تتكرَّر بدورتها المتناوبة، فإن الذين يصلُّون لا يغشاهم الظلام، لأن بني النور لهم النهار حتى في الليل . فمتى يكون بلا نور، مَنْ له النور في قلبه؟ ومتى يكون بلا شمس ولا نهار مَنْ شمسه ونهاره هما المسيح؟
36. فلا نتوقَّف نحن إذن الذين في المسيح، أي الذين دائمًا في النور، عن الصلاة حتى في أثناء الليل . فهكذا حنَّة النبيَّة الأرملة التي كانت تصلِّي وتسهر دون انقطاع، وكانت تثابر لكي تستحق خيرًا من اللَّه، كما هو مكتوب في الإنجيل: "ًلاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاًوَنَهَاراً" (لو 37:2).
لينظر إلى هذا كل من الأمم الذين لم يستنيروا بعد، واليهود الذين بقوا في الظلمة برفضهم للنور . أيُّها الإخوة الأحبَّاء، نحن الموجودين دائمًا في نور الرب، نحن الذين نتذكَّر ونتمسَّك بما ابتدأنا أن نكونه بالنعمة التي قبلناها ليكن لنا الليل كالنهار . لنؤمن أنَّنا دائمًا نسير في النور ولا نَدَع الظلمة التي قد هربنا منها تعقونا . دعنا ألاَّ نتوقَّف عن الصلاة في أيّ من ساعات الليل، ولا نضيِّع أوقات الصلاة في تكاسل واستهتار .
بل نحن الذين خُلقنا ووُلدنا من جديد بالروح وبرحمة اللَّه، لنتمثَّل بما سنكون عليه في يومٍ ما . حيث أنَّنا في الملكوت سيكون لنا النهار وحده بدون تدخُّل الليل، لنكن يقظين في الليل كما في النهار . وحيث أنَّنا سنصِّي ل ونعطي شكرًا للَّه إلى الأبد فلا نتوقَّف في هذه الحياة أيضًا عن الصلاة والشكر